الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَفْعَلِ: كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ وَيَوْمٌ أَيْوَمُ، وَيَأْتُونَ بِوَزْنِ فَاعِلٍ: كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وَنصب ناصب.
[58]
[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ مِنْهُ الْإِفَاضَةُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْعَدْلِ وَالْحُكْمِ، وَنِظَامِ الطَّاعَةِ،
وَذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّشْرِيعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ تَطَلُّبُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ إِلَى أَحْكَامٍ أُخْرَى فِي أَغْرَاضٍ أُخْرَى. وَهُنَا مُنَاسَبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مَا اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَيِّهِمْ أَلْسِنَتَهُمْ بِكَلِمَاتٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ مِنَ السَّبِّ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَحَسَدِهِمْ بِإِنْكَارِ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ آتَاهُ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ أَمَانَةِ الدِّينِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحَقِّ، وَالنِّعْمَةِ، وَهِيَ أَمَانَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَى أَهْلِهَا وَيَتَخَلَّصَ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ صَرِيحَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ، مِثْلَ صَرَاحَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»
. (وَإِنَّ) فِيهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِظُهُورِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ حَتَّى يُؤَكَّدَ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِيجَادِ شَيْءٍ لَا عَنْ وُجُودِهِ، فَهُوَ وَالْإِنْشَاءُ سَوَاءٌ.
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي هَذَا الْخِطَابَ وَالْعَمَلِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوق.
وَالْأَدَاء حَقِيقَة فِي تَسْلِيمِ ذَاتٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، يُقَالُ: أَدَّى إِلَيْهِ كَذَا، أَيْ دَفَعَهُ وَسَلَّمَهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ الدَّيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ آلِ
عِمْرَانَ [75] . وَأَصْلُ أَدَّى أَنْ يَكُونَ مُضَاعَفَ أَدَى- بِالتَّخْفِيفِ- بِمَعْنَى أَوْصَلَ، لَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوا أَدَى الْمُخَفَّفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالْمُضَاعَفِ.
وَيُطْلَقُ الْأَدَاءُ مَجَازًا عَلَى الِاعْتِرَافِ وَالْوَفَاءِ بِشَيْءٍ. وَعَلَى هَذَا فَيُطْلَقُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ عَلَى حَقِّهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ قِيَاسَ الْأَدْوَنِ.
وَالْأَمَانَةُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ عِنْدَ شَخْصٍ لِيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [283] .
وَتُطْلَقُ الْأَمَانَةُ مَجَازًا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِبْلَاغُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ وَمُسْتَحِقِّيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْعُهُودِ وَالْجِوَارِ وَالنَّصِيحَةِ وَنَحْوِهَا، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ.
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَالْأَمَانَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنِ ائْتَمَنَهُ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ
وَكَانَ لِلْأَمِينِ حَقٌّ عِنْدَ الْمُؤْتَمَنِ جَحَدَهُ إِيَّاهُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَمَانَةِ عِوَضَ حَقِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَانَةٌ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَلَيْهِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُخَاطَبَ وُلَاةُ الْأُمُورِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.
وَأَهْلُ الْأَمَانَةِ هُمْ مُسْتَحِقُّوهَا، يُقَالُ: أَهْلُ الدَّارِ، أَيْ أَصْحَابُهَا. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِذْ سَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ابْن أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَتِ السِّدَانَةُ فِيهِمْ، فَسَأَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ يَضُمُّهَا مَعَ السِّقَايَةِ وَكَانَتِ السِّقَايَةُ بِيَدِهِ، وَهِيَ فِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ وَابْنَ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَدَفَعَ لَهُمَا مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَمَا كُنْتُ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ»
، وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَخْذَ انْتِزَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمِفْتَاحِ بِيَدِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ مُسْتَصْحَبٌ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْإِسْلَامُ حَوْزَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ تَقَرَّرَ حَقُّ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَبَقِيَتْ سِدَانَةُ الْكَعْبَةِ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْهَا لِابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، وَكَانَتِ السِّدَانَةُ مِنْ مَنَاصِبِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) فَأَبْطَلَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بَعْضَهَا فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَا عَدَا السِّقَايَةَ وَالسِّدَانَةَ.
فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ عُثْمَانَ سَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَة للنبيء عليه الصلاة والسلام دُونَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ.
وَالْأَدَاءُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا ذَاتٌ يُمْكِنُ إيصالها بِالْفِعْلِ لمستحقّها، فَتَكُونُ الْآيَةُ آمِرَةً بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِيصَالِ وَالْوَفَاءَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ دَفْعُ الْأَمَانَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا مَجَازَ فِي لَفْظِ (تُؤَدُّوا) .
وَقَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ عَطَفَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا وَفَصَلَ بَيْنَ الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ الظَّرْفُ، وَهُوَ جَائِزٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] وَكَذَلِكَ فِي عَطْفِ الْأَفْعَالِ عَلَى الصَّحِيحِ: مِثْلُ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: 129، 130] .
وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ حَكَمَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، أَيِ اعْتَنَى بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنَ الْمُبْطِلِ، أَوْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَكْمِ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ
(1) مناصب قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، وَتسَمى مآثر قُرَيْش، هِيَ: السِّقَايَة وَهِي سقِِي الحجيج من مَاء زَمْزَم وَكَانَت لبني هَاشم، والسدانة بِكَسْر السِّين وَهِي حجابة الْكَعْبَة وَهِي لبني عبد البدار، والسفارة لبني عدي، والرفادة بِكَسْر الرَّاء وَهِي أَمْوَال تجمعها قُرَيْش لإعانة الْحجَّاج المعوزين وَهِي لبني نَوْفَل، والديات والحمالات وَهِي لبني تيم، والراية تسمى الْعقَاب وَهِي لبني أُميَّة، والمشورة لبني أَسد بن عبد الْعزي، والأعنة والقبة وَهِي شؤون الْحَرْب كَانُوا يضْربُونَ قبَّة ويجتمعون إِلَيْهَا عِنْد تجهيز الجيوش وَهِي لبني مَخْزُوم، والحكومة وأموال الْآلهَة لبني سهم، والإيسار والإزلام لبني جمح.
الرَّدْعُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ حَكَمَةُ اللِّجَامِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي فَمِ الْفَرَسِ، وَيُقَالُ: أَحْكِمْ فُلَانًا، أَيْ أَمْسِكْهُ.
وَالْعَدْلُ: ضِدُّ الْجَوْرِ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ، يُقَالُ: عَدَلَ كَذَا بِكَذَا، أَيْ سَوَّاهُ بِهِ وَوَازَنَهُ عَدْلًا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: 1] ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِيصَالِ الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَدَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إِطْلَاقًا نَاشِئًا عَمَّا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَنَّ الْجَوْرَ يَصْدُرُ مِنَ الطُّغَاةِ الَّذِينَ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَهُمْ إِنْ شَاءُوا عَدَلُوا وَأَنْصَفُوا، وَإِنْ شَاءُوا جَارُوا وَظَلَمُوا، قَالَ لَبِيدٌ:
وَمُقَسِّمٌ يُعْطِي الْعَشِيرَةَ حَقَّهَا
…
وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِهَا هَضَّامُهَا (1)
فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْعَدْلِ- الَّذِي هُوَ التَّسْوِيَةُ- عَلَى تَسْوِيَةٍ نَافِعَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الصَّلَاحُ وَالْأَمْنُ، وَذَلِكَ فَكُّ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ الْمُعْتَدِي، لِأَنَّهُ تَظْهَرُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَهُوَ كِنَايَةٌ غَالِبَةٌ. وَمَظْهَرُ ذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى إِبْلَاغِ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اعْتِدَاءٌ وَلَا نِزَاعٌ.
وَالْعَدْلُ: مُسَاوَاةٌ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ أَفْرَادِ أُمَّةٍ: فِي تَعْيِينِ الْأَشْيَاءِ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَفِي تَمْكِينِ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ حَقِّهِ، بِدُونِ تَأْخِيرٍ، فَهُوَ مُسَاوَاةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَشْيَاءِ وَفِي وَسَائِلِ تَمْكِينِهَا بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعَدْلُ فِي تَعْيِينِ الْحُقُوقِ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَدْلُ فِي التَّنْفِيذِ،
وَلَيْسَ الْعَدْلُ فِي تَوْزِيعِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٍ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ.
فَالْعَدْلُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، هُمَا: الْإِفْرَاطُ فِي تَخْوِيلِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ، أَيْ بِإِعْطَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَالتَّفْرِيطُ فِي ذَلِكَ، أَيْ بِالْإِجْحَافِ لَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ يُسَمَّى جَوْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي تَنْفِيذِ الْإِعْطَاءِ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِهِ، كَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِيَدِ السَّفِيهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ كَإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِ الْوَصِيِّ بَعْدَ الرُّشْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
- إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: 5، 6] فَالْعَدْلُ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْفِطْرَةِ لِأَنَّهُ كَمَا يَصُدُّ الْمُعْتَدِيَ عَنِ اعْتِدَائِهِ،
(1) المغذمر ذُو الغذمرة وَهِي ظُهُور الْغَضَب فِي القَوْل، والهضام صَاحب الهضم وَهُوَ الْكسر وَالظُّلم. [.....]
كَذَلِكَ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 279] . وَإِذْ قَدْ كَانَ الْعَدْلُ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ تَجُولُ فِي تَحْدِيدِهِ أَفْهَامٌ مُخْطِئَةٌ تَعَيَّنَ أَنْ تُسَنَّ الشَّرَائِعُ لِضَبْطِهِ عَلَى حَسَبِ مَدَارِكِ الْمُشَرِّعِينَ وَمُصْطَلَحَاتِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهَا مُعْظَمَهَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ تَحْرِيفٍ لِحَقِيقَةِ الْعَدْلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْقَوَانِينِ أُسِّسَتْ بِدَافِعَةِ الْغَضَبِ وَالْأَنَانِيَّةِ، فَتَضَمَّنَتْ أَخْطَاءً فَاحِشَةً مِثْلَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يُمْلِيهَا الثُّوَّارُ بِدَافِعِ الْغَضَبِ عَلَى مَنْ كَانُوا مُتَوَلِّينَ الْأُمُورَ قَبْلَهُمْ، وَبَعْضُ الْقَوَانِينِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْ تَخَيُّلَاتٍ وَأَوْهَامٍ، كَقَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأُمَمِ الْعَرِيقَةِ فِي الْوَثَنِيَّةِ.
وَنَجِدُ الْقَوَانِينَ الَّتِي سَنَّهَا الْحُكَمَاءُ أَمْكَنَ فِي تَحْقِيقِ مَنَافِعِ الْعَدْلِ مِثْلَ قَوَانِينِ أَثِينَةَ وَإِسْبَرْطَةَ، وَأَعْلَى الْقَوَانِينِ هِيَ الشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ لِمُنَاسَبَتِهَا لِحَالِ مَنْ شُرِّعَتْ لِأَجْلِهِمْ، وَأَعْظَمُهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى أَسَاسِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ، وَإِعْرَاضِهَا عَنْ أَهْوَاءِ الْأُمَمِ وَالْعَوَائِدِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَعْبَأُ بِالْأَنَانِيَّةِ وَالْهَوَى، وَلَا بِعَوَائِدِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّهَا لَا تُبْنَى عَلَى مَصَالِحِ قَبِيلَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ بَلَدٍ خَاصٍّ، بَلْ تُبْتَنَى عَلَى مَصَالِحِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَتَقْوِيمِهِ وَهَدْيِهِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يَزَلِ الصَّالِحُونَ مِنَ الْقَادَةِ يُدَوِّنُونَ بَيَانَ الْحُقُوقِ حِفْظًا لِلْعَدْلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَخَاصَّةً الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيد: 25] أَيِ الْعَدْلِ. فَمِنْهَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ الْبَشَرِيَّةِ وَمِنْهَا مَا اسْتَنْبَطَهُ عُلَمَاءُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ مُدْرَجٌ فِيهَا وَمُلْحَقٌ بِهَا.
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ بِحَالَةِ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَ الْأَمْرُ بِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا عَنِ التَّقْيِيدِ: لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَقَعَ بِيَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى اعْتِبَارِ تَعْمِيمِ الْمُرَادِ بِالْأَمَانَاتِ الشَّامِلِ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ إِبْلَاغُهُ لِمُسْتَحِقِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ،
بِخِلَافِ الْعَدْلِ فَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ وُلَاةُ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا لِتَوَلِّي ذَلِكَ.
فَتِلْكَ نُكْتَةُ قَوْلِهِ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ الْفَخْرُ: قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ هُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، فَالْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْ إِمَامٍ وَأَنَّهُ يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ صَارَت تِلْكَ الدَّلَائِل كالبيان لِهَذِهِ الْآيَةِ.