الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (الطَّاغُوتُ) : الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [5]، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النِّسَاء: 60] .
وَالْمُرَادُ بِكَيْدِ الشَّيْطَانِ تَدْبِيرُهُ. وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَنْصَارِهِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالتَّدْبِيرِ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِمُؤَكِّدَيْنِ (إِنَّ)(وَكَانَ) الزَّائِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَرُّرِ وَوصف الضَّعْفِ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ.
[77- 79]
[سُورَة النِّسَاء (4) : الْآيَات 77 الى 79]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ أَوَّلُ حَالِهِ وَآخِرُهُ، فَاسْتَطْرَدَ هُنَا
التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ يَوَدُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي إِبَّانِهِ جَبُنُوا. وَقَدْ عُلِمَ مَعْنَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، لِأَنَّ كَفَّ الْيَدِ مُرَادٌ، مِنْهُ تَرْكُ الْقِتَالَ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: 24] .
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 75] وَالْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: 74] الْآيَةَ اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الْعِبْرَةِ بِحَالِ هَذَا
الْفَرِيقِ وَتَقَلُّبِهَا، فَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبَبُ الْقَوْلِ لَهُمْ هُوَ سُؤَالُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَمَحَلُّ التَّعْجِيبِ إِنَّمَا هُوَ حَالُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ فِي عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ. وَقَدْ دَلَّتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ لَمْ يَكُنْ تُتَرَقَّبُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْحَالَةُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظْهَرُونَ مِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَقُوا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذًى شَدِيدًا،
فَقَالُوا لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً» وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أمرت بِالْعَفو
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفُرِضَ الْجِهَادُ جَبُنَ فَرِيقٌ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقِتَالِ، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ عبد الرحمان بْنَ عَوْفٍ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَقُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَصْحَابَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ حَيْثُ رَغِبُوا تَأْخِيرَ الْعَمَلِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ، فَالتَّشْبِيهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِخْبَارِ لَا يُلَائِمُ حَالَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: «الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» قَوْمٌ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ وَسَأَلُوا أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فَلَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ يَخْشَوْنَ النَّاسَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْفَرِيقِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فَقِيلَ: هُمْ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا فِي مَكَّةَ فِي أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْكَلْبِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَلَعَلَّ الَّذِي حَوَّلَ عَزْمَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَمْنٍ وَسَلَامَةٍ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالْأَذَى، فَزَالَ عَنْهُمُ الِاضْطِرَارُ لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
اسْتَأْذَنُوا فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَرَّرُوا الرَّغْبَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعَادَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم تَهْدِئَتَهُمْ زَمَانًا، وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ تَظَاهَرُوا بِالرَّغْبَةِ فِي ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِلنِّفَاقِ، فَلَمَّا كُتِبَ الْقِتَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَبُنَ الْمُنَافِقُونَ،
وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ. وَتَأْوِيلُ وَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَهَذَا عَلَى غُمُوضِهِ هُوَ الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ أُسْلُوبِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِلتَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَالْمُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ لَيْسُوا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، بَلْ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّعْجِيبُ بِجَمِيعِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ حَالُهُمْ كَمَا وُصِفَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ قَوْلِهِ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [200] .
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِحِكْمَةِ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى. (وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ) مُدَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ رَيْثَمَا يَتِمُّ اسْتِعْدَادُهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: 10] .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ (الْأَجَلِ) الْعُمْرُ،. بِمَعْنَى لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالَنَا دُونَ قِتَالٍ، فَيَصِيرُ تَمَنِّيًا لِانْتِفَاءِ فَرْضِ الْقِتَالِ، وَهَذَا بعيد لعدم ملائمته لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ فِي الْقِتَالِ غَيْرَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ، وَلِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِوَصْفِهِ بِقَرِيبٍ، لِأَنَّ أَجَلَ الْمَرْءِ لَا يُعْرَفُ أَقَرِيبٌ هُوَ أَمْ بَعِيدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْلِيلُ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ أَوَّلُ قِتَالٍ أُمِرُوا بِهِ، وَالْآيَةُ ذَكَّرَتْهُمْ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا حِينَ التَّهَيُّؤِ لِلْأَمْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُرِيدَ بِالْفَرِيقِ بَعْضٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ جَبُنُوا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَيكون الْقِتَال الَّذين خَافُوهُ هُوَ غَزْوُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَشُوا بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَبْدُو هُوَ الْمُتَعَيِّنُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَنًا لِيُوقِعُوا الْوَهْنَ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ
وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مِثَالًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، تَحْذِيرًا لَهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [246] .
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ بَصَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى بَعْضِهَا بَصَرِيَّةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اشْتِهَارِ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ خَشْيَةً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ أَشَدَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [200] .
وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُمْ لِسَانِيًّا وَهُوَ بَيِّنٌ، أَمْ كَانَ نَفْسِيًّا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُهُمْ، أَيْ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يُفِيدُ وَالتَّعَلُّقَ بِالتَّأْخِيرِ لِاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لَا يُوَازِي حَظَّ الْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ مَا أَرَادُوا مِنَ الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مَوْقِعُ زِيَادَةِ التَّوْبِيخِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَارِكُمُ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا وَجْهَ لِلْخَوْفِ وَطَلَبِ تَأْخِيرِ فَرْضِ الْقِتَالِ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْأَجَلِ فِي: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بِأَجَلِ الْعُمْرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُسْتَبْعَدُ، يَكُونُ مَعْنَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا تَغْلِيطَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقَتْلَ يُعَجِّلُ الْأَجَلَ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِيدَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلَ رُسُوخِ تَفَاصِيلِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَقِيدَةَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقِيلَ مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ هُنَا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابِ جِهَادِهِمْ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ مَوْقِعَ التَّشْجِيعِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ آجَالِهِمْ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُجْعَلَ تُظْلَمُونَ بِمَعْنَى تُنْقَصُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: 33] ، أَيْ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ مِنْ أُكُلِهَا، وَيَكُونُ فَتِيلًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ سَاعَةً، فَلَا مُوجِبَ لِلْجُبْنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُظْلَمُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ
الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لِيُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ.
وَالْفَتِيلُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاء:
49] .
وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَغْلِيطٌ لَهُمْ فِي طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا إِلَخْ مَسُوقَةٌ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ الْجُبْنَ هُوَ الَّذِي جملهم عَلَى طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَمَدٍ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَوَاقِعَ الْقِتَالِ تُدْنِي الْمَوْتَ مِنَ النَّاسِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَدْ تَمَّ، وَأَنَّ جُمْلَةَ أَيْنَما تَكُونُوا تَوَجُّهٌ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَوَجُّهٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ، فَتَكُونُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ. وَ (أَيْنَمَا) شَرْطٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَمْكِنَةَ (وَلَوْ) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ وَصْلِيَّةٌ- وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:- فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [91] : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْقَوِيُّ وَالْحِصْنُ: وَالْمُشَيَّدَةُ: الْمَبْنِيَّةُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعَةِ الْعَالِيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَالُوا الْبِنَاءَ بَنَوْهُ بِالْجِصِّ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُرُوجُ عَلَى مَنَازِلِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفرْقَان: 61] وَقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] .
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبُرُوجُ هُنَا بُرُوجُ الْكَوَاكِبِ، أَيْ وَلَوْ بَلَغْتُمُ السَّمَاءَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَصْفُ مُشَيَّدَةٍ مَجَازًا فِي الِارْتفَاع، وَهُوَ بَصِير مجَازًا فِي الِارْتِفَاعِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) .
يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِمَّا رُوِيَ فِي تَعْيِينِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ مِنْ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ عَائِدًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنَ الْمَقَامِ، وَلِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاء: 72] وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَطْفَ
قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ إِلَى وَصْفِ الَّذِينَ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا يُبَلِّغُهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السُّدِّيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى شَفَا الشَّكِّ فَإِذَا حَلَّ بِهِمْ سُوءٌ أَوْ بُؤْسٌ تَطَيَّرُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْحَالَةُ السُّوأَى مِنْ شُؤْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ كَانَ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَمَتْ أَنْعَامُهُ وَرَفُهَتْ حَالُهُ حَمِدَ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ مَوَتَانٌ فِي أَنْعَامِهِ تَطَيَّرَ بِالْإِسْلَامِ فَارْتَدَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَقَالَ مِنَ النَّبِيءِ بَيْعَتَهُ
وَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِهِ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»
. وَالْقَوْلُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ هُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ. أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَقُولُونَهُ بَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِكَافِ الْخِطَابِ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيِّ لَهُ، وَهُوَ وَجْهٌ مَطْرُوقٌ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْغَائِبِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِذَا حَكَى كَلَامَهُ لِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: 117] . وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَوَرَدَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدِيمًا قِيلَ لِأَسْلَافِهِمْ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] . وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا مَا تَعَارَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ قِبَلِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَعْنِي الْكَائِنَةِ الْمُلَائِمَةِ والكائنة المنافرة، كَقَوْلِهِم: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: 131] وَقَوْلُهُ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [الْبَقَرَة: 201] ، وَتَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِصَابَةِ بِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُثَابَ عَلَيْهِ وَالْفِعْلَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ، فَلَا مَحْمَلَ لَهُمَا هُنَا إِذْ لَا يَكُونَانِ إِصَابَتَيْنِ، وَلَا تُعْرَفُ إِصَابَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ شَرْعِيَّانِ.
وَقيل: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: «لَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ» . فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُدُوثِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَتِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يُلَائِمُهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَلِمَةُ (عِنْدَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ إِذِ
الْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التَّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُسَاوِيهِ وَهُوَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ: يَقُولُونَهُ إِذَا أَرَادُوا الِارْتِدَادَ وَهُمْ أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ شَافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ الَّذِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ وَأَتْحَفَهُمْ بِهَا لِمَا هُوَ مُعْتَادُهُ مِنَ الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا بِالْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَخَوَّلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الْإِسَاءَةُ الْيَهُودَ مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَدِّ وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
25] الْآيَةَ.
وَقَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَكَوْنِ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ وَهَيَّأَ أَسْبَابَهُ، إِذْ لَا يَدْفَعُهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ مُبَاشَرَةً. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ عِنْدِهِ، فَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا أَرَادَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَقْلٍ غَيْرِ مُنْضَبِطِ التَّفْكِيرِ، لأنّهم جعلُوا بعض الْحَوَادِثَ مِنَ اللَّهِ وَبَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلذَلِك قَالَ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أَيْ يَكَادُونَ أَنْ لَا يَفْقَهُوا حَدِيثًا، أَيْ أَنْ لَا يَفْقَهُوا كَلَامَ مَنْ يُكَلِّمُهُمْ، وَهَذَا مَدْلُولُ فِعْلِ (كَادَ) إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] .
وَالْإِصَابَةُ: حُصُولُ حَالٍ أَوْ ذَاتٍ، فِي ذَاتٍ يُقَالُ: أَصَابَهُ مَرَضٌ، وَأَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ، وَأَصَابَهُ سهم، وَهِي، مشقّة مِنَ اسْمِ الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنَ الْإِصَابَةِ مشعرا بِحُصُول مفاجىء أَوْ قَاهِرٍ.
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ عَلَّمَهُ حَقِيقَةَ التَّفْصِيلِ فِي إِصَابَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ جِهَةِ تَمَحُّضِ النِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوِ اخْتِلَاطِهَا بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْعَبْدِ، فَقَالَ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَوُجِّهَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لِإِبْطَالِ مَا نَسَبَهُ الضَّالُّونَ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَوَادِثِ كُلِّهَا مُؤَثِّرًا. وَسَبَبًا مُقَارنًا، وأدلّة تنبىء عَنْهَا وَعَنْ عَوَاقِبِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا تَخْلُو عَنْهَا الْحَوَادِثُ كُلُّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ غَيْرَ اخْتِيَارِيَّةٍ، أَمِ اخْتِيَارِيَّةً كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ. فَاللَّهُ قَدَّرَ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ بِعِلْمِهِ وَقَدَرِهِ وَخَلَقَ مُؤَثِّرَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا، فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَاللَّهُ أَقَامَ بِالْأَلْطَافِ الْمَوْجُودَاتِ، فَأَوْجَدَهَا وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَابَ الْبَقَاءِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْعُقُولِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَحَفَّهَا كُلَّهَا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهَا بِأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ، لَوْلَاهَا لَمَا بَقِيَتِ الْأَنْوَاعُ، وَسَاقَ إِلَيْهَا أُصُولَ الْمُلَاءَمَةِ، وَدَفَعَ عَنْهَا أَسْبَابَ الْآلَامِ فِي الْغَالِبِ، فَاللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ. فَهَذَا الْجُزْءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ لِلنَّاسِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَادِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَّمَ طَرَائِقَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَطَرَائِقَ الْحَيْدَةِ عَنْهَا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَوَانِعِ التَّأْثِيرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُمَانِعَهَا، وَبَعَثَ الرُّسُلَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ فَعَلَّمَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحْوَالَ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَعَوَاقِبَ ذَلِكَ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَكْمَلَ الْمِنَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَدَى بِذَلِكَ وَحَذَّرَ إِذْ خَلَقَ الْعُقُولَ وَوَسَائِلَ الْمَعَارِفِ، وَنَمَّاهَا بِالتَّفْكِيرَاتِ والْإِلْهَامَاتِ، وَخَلَقَ الْبَوَاعِثَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَهَذَا الْجُزْءُ أَيْضًا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُقَارِنَةُ لِلْحَوَادِثِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَالْجَانِيَةِ لِجَنَاهَا حِينَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَسَائِلِ مُصَادَفَةِ الْمَنَافِعِ، وَالْجَهْلِ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَوَانِعَ الْوُقُوعِ فِيهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَذَلِكَ بِمِقْدَارِ مَا يُحَصِّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَسَائِلِ الرَّشَادِ، وَبِاخْتِيَارِهِ الصَّالِحَ لاجتناء الْخَيْر، ومقدارا ضِدِّ ذَلِكَ: مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، أَوْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَمِنَ الِارْتِمَاءِ فِي الْمَهَالِكِ بِدُونِ تَبَصُّرٍ، وَذَلِكَ جُزْءٌ صَغِيرٌ فِي جَانِبِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَهَذَا الْجُزْءُ جَعَلَ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ حَظًّا فِيهِ، مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحَسَنَةُ أَحَدًا فَإِنَّ مَجِيئَهَا إِيَّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ مِمَّا لَا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أَوْ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ حَتَّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِنَاءِ الْحَسَنَةِ، أَيِ الشَّيْءِ الْمُلَائِمِ وَخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ لِاخْتِيَارِ الصَّالِحِ فِيمَا لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ حَسْبَمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَتِ الْمِنَّةُ فِيهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِرْشَادُهُ وَهَدْيُهُ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ كُلَّهَا مِنْهُ.
أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ إِصَابَةَ مُعْظَمِهَا الْإِنْسَانَ يَأْتِي مِنْ جَهْلِهِ، أَوْ تَفْرِيطِهِ، أَوْ سُوءِ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ، أَوْ تَغْلِيبِ هَوَاهُ عَلَى رُشْدِهِ، وَهُنَالِكَ
سَيِّئَاتُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنْ خَسْفٍ وَأَوْبِئَةٍ، وَذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ السَّيِّئَاتِ، عَلَى أَنَّ بَعْضًا مِنْهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى سُوءِ فِعْلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ فِي إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ الْإِنْسَانَ لِتَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَصَحَّ أَنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ مِنْهَا هُوَ الْأَقَلُّ. وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْمَعْنَى مَا
وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» ، فَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ»
.
وَشَمَلَتِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ، كَالْمَطَرِ وَالصَّوَاعِقِ، وَالثَّمَرَةِ وَالْجَرَادِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالصِّحَّةِ، وَهُبُوبِ الصَّبَا، وَالرِّبْحِ فِي التِّجَارَةِ. وَأَضْدَادِهَا كَالْمَرَضِ، وَالسَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْخَسَارَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالطَّاعَاتِ النَّافِعَةِ لِلطَّائِعِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ بِهِ وَبِالنَّاسِ، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50] وَهُوَ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَازِلَةً فِيهِ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ دَقِيقَةَ الْفَهْمِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، فَقَوْلُهُ: لَا يَكادُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَلْبِ، أَيْ يَكَادُونَ لَا يَفْقَهُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَة: 71] فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمَذَمَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ التَّرْكِيبِ، أَيْ لَا يُقَارِبُونَ فَهْمَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ إِلَّا الْفُطَنَاءُ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْمَذَمَّةِ.
وَالْفِقْهُ فَهْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: «هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ» . وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ «إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ» .
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِتَنَاسُقِ الضمائر، ثمَّ يعلم أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ شَاعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا شَاعَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّرَّ لِقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَبِيبُ بْنُ حَيْدَرَةَ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِ «حَزِّ الْغَلَاصِمِ» : إِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَهْلٌ لِابْتِنَائِهِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَلَيْسَتَا كَذَلِكَ.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهَا إِلَّا قَوْلًا بِمُوجَبِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ مَعْنَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ- كَمَا بَيَّنْتُهُ
آنِفًا- يَجْعَلُ الْآيَةَ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِأَنَّ أُصُولَ الدِّينِ لَا يُسْتَدَلُّ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ كَالْعُمُومِ.
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بِكَلِمَةٍ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ نِسْبَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى اللَّهِ وَنِسْبَةِ السَّيِّئَةِ لِلنَّبِيءِ عليه الصلاة والسلام أَيْ قَالُوا مَا يُفِيدُ جَزْمَهُمْ بِذَلِكَ الِانْتِسَابِ.
وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ قَالَ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِمْ، وَإِعْرَابًا عَنِ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فَلَمْ يُؤْتَ فِيهِ بِكَلِمَةِ (عِنْدَ) ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ مِنَ اللَّهِ وَمَجِيءِ السَّيِّئَةِ مِنْ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، ابْتِدَاءُ الْمُتَسَبِّبِ لِسَبَبِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ ابْتِدَاءَ الْمُؤَثِّرِ فِي الْأَثَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: السَّيِّئَةُ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، أَيْ أَنَّكَ بُعِثْتَ مُبَلِّغًا شَرِيعَةً وَهَادِيًا، وَلَسْتَ مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ وَلَا تَدُلُّ مُقَارَنَةُ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ. فَمَعْنَى أَرْسَلْناكَ بَعَثْنَاكَ كَقَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ [الْحجر:
22] وَنَحْوِهِ. ولِلنَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلْناكَ. وَقَوْلُهُ رَسُولًا حَالٌ مِنْ أَرْسَلْناكَ، وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ هُنَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ: وَهُوَ النَّبِيءُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لفظ لقيي دَالٌّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ حَالًا مُقَيِّدَةً لِ «أَرْسَلْنَاكَ» ، لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَيْ بَعَثْنَاكَ مُبَلِّغًا لَا مُؤَثِّرًا فِي الْحَوَادِثِ، وَلَا أَمَارَةً عَلَى وُقُوعِ الْحَوَادِثِ السَّيِّئَةِ. وَبِهَذَا يَزُولُ إِشْكَالُ مَجِيءِ هَذِهِ الْحَالِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ إِلَّا التَّأْكِيدَ، حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى جَعْلِ الْمَجْرُورِ مُتَعَلِّقًا بِ رَسُولًا، وَأَنَّهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَلَى الْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْرِيفِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمَقَامُ هَذَا الْحصْر.