الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ لَدَخَلَتْ فِي الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمُ الثَّابِتِ لَهُ الْخَيْرُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ مِنْ نَجْوَاهُمُ ابْتِدَاءً بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُرِيدُ الِاهْتِمَامُ بِبَعْضِ هَذَا الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ كَثِيرِ نَجْوَاهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ نَجْوَاهُمْ، وَهُوَ
الْكَثِيرُ، مَوْصُوفًا بِأَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَنَاجَى فِيهَا مَنْ غَالِبُ أَمْرِهِ قَصْدُ الشَّرِّ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَخْ وَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا كَانَ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا خَيْرًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَنْ فِعْلِهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُؤْتِيهِ) - بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله: مَرْضاتِ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.
[115]
[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 115]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
عَطْفٌ عَلَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النِّسَاء: 114] بِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ.
وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُخَالَفَةُ الْمَقْصُودَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ كَأَنَّهُ يَخْتَارُ شِقًّا يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شِقِّ الْآخَرِ.
فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَعِيدًا لِلْمُرْتَدِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا هُنَا أَنَّ بَشِيرَ بْنَ أُبَيْرِقٍ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
لَمَّا افْتَضَحَ أَمْرُهُ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَكِنَّهُ شَاقَّهُ عِنَادًا وَنِوَاءً لِلْإِسْلَامِ.
وَسَبِيلُ كُلِّ قَوْمٍ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي وَصْفِهِمُ الْخَاصِّ، فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْعَادَاتِ، الَّتِي يُلَازِمُهَا أَحَدٌ وَلَا يَبْتَغِي التَّحَوُّلَ عَنْهَا، كَمَا يُلَازِمُ قَاصِدُ الْمَكَانِ طَرِيقًا يُبَلِّغُهُ إِلَى قَصْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: 108] وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: 32] ، فَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ سَبِيلَ غَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِثْلَ اتِّبَاعِ سَبِيل يهود خَبِير فِي غِرَاسَةِ النَّخِيلِ، أَوْ بِنَاءِ الْحُصُونِ، لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ عَطْفِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ الْحَيْطَةُ لِحِفْظِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ
الرَّسُولِ، فَقَدِ ارْتَدَّ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ فِي ذَلِكَ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْنَنَا
…
فَيَا لِعِبَادِ اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ
فَكَانُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُشَاقُّوا الرَّسُولَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»
. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِكَوْنِ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ حُجَّةً، وَأَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْفَخْرُ:«رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا» . وَقَدْ قَرَّرَ