الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ، وَأَغْنَتْ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ عَنْ ذِكْرِ فَاءِ التَّعْقِيبِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ إِذَا جَاءَتْ (إنّ) للاهتمام بالْخبر دون التَّأْكِيد.
و (نعمّا) أَصْلُهُ (نِعْمَ مَا) رُكِّبَتْ (نِعْمَ) مَعَ (مَا) بَعْدَ طَرْحِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الْأَوْلَى وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأُدْغِمَ الْمِيمَانِ وَحُرِّكَتِ الْعَيْنُ السَّاكِنَةُ بِالْكَسْرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَ (مَا) جَوَّزَ النُّحَاةُ أَن تكون اسْم مَوْصُول، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَوْ نَكِرَةً تَامَّةً وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ (مَا) تَجْرِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى (مَا)، وَقيل: إنّ (مَا) زَائِدَةٌ كَافَّةٌ (نِعْمَ) عَنِ الْعَمَلِ.
وَالْوَعْظُ: التَّذْكِيرُ وَالنُّصْحُ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ زَجْرٌ وَتَخْوِيفٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ عَلِيمًا بِمَا تَفْعَلُونَ وَمَا تَقُولُونَ، وَهَذِهِ بِشَارَة ونذارة.
[59]
[سُورَة النِّسَاء (4) : آيَة 59]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِخِطَابِهِمْ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الْحُكَّامِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَهُمْ هِيَ مَظْهَرُ نُفُوذِ الْعَدْلِ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُهُمْ، فَطَاعَةُ الرَّسُولِ تَشْتَمِلُ عَلَى احترام الْعدْل المشرّع لَهُمْ وَعَلَى تَنْفِيذِهِ، وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَنْفِيذٌ لِلْعَدْلِ، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّعْقِيبِ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هِيَ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلِهَذَا
. أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى طَاعَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُنَزِّلُ
الشَّرِيعَةِ وَرَسُولَهُ مُبَلِّغُهَا وَالْحَاكِمُ بِهَا فِي حَضْرَتِهِ.
وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَكُونَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِقَرَائِنِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ الْمَأْمُورَ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ دُونَ مَا يَأْمُرُ بِهِ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ كُلِّهِ خَيْرٌ، أَلَا تَرَى
أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ:«مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي» فَقَالَ:
«كُنْتُ أُصَلِّي» فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
[الْأَنْفَال: 24] وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِهِ رُبَّمَا سَأَلُوهُ: أَهُوَ أَمْرُ تَشْرِيعٍ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالنَّظَرُ، كَمَا
قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْتَازَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:
بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ
…
»
الْحَدِيثَ.
وَلَمَّا كَلَّمَ بَرِيرَةَ فِي أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا مُغِيثًا بَعْدَ أَنْ عَتَقَتْ، قَالَتْ لَهُ: أَتَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ تَشْفَعُ، قَالَ: بَلْ أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا أَبْقَى مَعَهُ
. وَلِهَذَا لَمْ يُعَدْ فِعْلُ (فَرُدُّوهُ) فِي قَوْلِهِ: (وَالرَّسُولِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحَاكُمِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّحَاكُمُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ تَكْرِيرًا لِفِعْلِ الطَّاعَةِ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَفْ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: 20] وَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: 46] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النُّور: 52] ، إِذْ طَاعَةُ الرَّسُولِ مُسَاوِيَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُتَلَقَّى أَمْرُ اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ، وَهُوَ منقّذ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ، فَطَاعَتُهُ طَاعَةُ تَلَقٍّ وَطَاعَةُ امْتِثَالٍ، لِأَنَّهُ مبلّغ ومنقّذ، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمر فإنّهم منقّذون لِمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ امْتِثَالٍ خَاصَّةً. وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّشْرِيعِ، يَسْأَلُونَهُ أَهَذَا أَمْرٌ أَمْ رَأْيٌ وَإِشَارَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلَّذِينَ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ» .
وَقَوْلُهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ يَعْنِي ذَوِيهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَالْمُتَوَلُّونَ لَهُ. وَالْأَمْرُ هُوَ الشَّأْنُ، أَيْ مَا يُهْتَمُّ بِهِ من الْأَحْوَال والشؤون، فَأُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ
يُسْنِدُ النَّاسُ إِلَيْهِم تَدْبِير شؤونهم وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: ذَوُوُ الْأَمْرِ وَأُولُو الْأَمْرِ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: لَيْسَ لَهُ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهُمْ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَأُمَنَاؤُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ تَثْبُتُ لَهُمْ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ إِذْ أُمُورُ الْإِسْلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُمْ إِمَّا الْوَلَايَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ، وَإِمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ مَحَلَّ اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْعَدَالَةُ. فَأَهْلُ الْعِلْمِ الْعُدُولُ: مِنْ أُولِي الْأَمْرِ بِذَاتِهِمْ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وِلَايَةٍ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِأَرْبَابِهَا الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ بِهَا، لِمَا جُرِّبَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ.
قَالَ مَالِكٌ: «أُولُو الْأَمْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ» يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالِاجْتِهَادِ، فَأُولُو الْأَمْرِ هُنَا هُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولِ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى وَالِي الْحِسْبَةِ، وَمِنْ قُوَّادِ الْجُيُوشِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِوَامُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَهُوَ تَنَاصُحُ الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ وَانْبِثَاثُ الثِّقَةِ بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْحَوَادِثُ لَا تَخْلُو مِنْ حُدُوثِ الْخِلَافِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْخِلَافِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: 104] .
وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ إِنْهَاءُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَحَضْرَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: 83] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالِاحْتِذَاءُ بِسُنَّتِهِ.
روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ متّكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» .
وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ ابْن سَارِيَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَيَحْسَبُ أحدكُم وَهُوَ متّكىء عَلَى أَرِيكَتِهِ وَقَدْ
يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ» ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ
. وَعَرْضُ الْحَوَادِثِ عَلَى مِقْيَاسِ تَصَرُّفَاتِهِ والصريح من سنّته.
وَالتَّنَازُعُ: شِدَّةُ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّزْعِ، أَيِ الْأَخْذِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَازَعْتُهُمْ قُضْبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا
…
وَقَهْوَةً مُزَّةً رَاوُوقُهَا خَضِلُ
فَأَطْلَقَ التَّنَازُعَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الشَّدِيدَ يُشْبِهُ التَّجَاذُبَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: 46] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى [طه: 62] .
وَضَمِيرُ تَنازَعْتُمْ رَاجِعٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولَ، إِذْ لَا يُنَازِعُهُ الْمُؤْمِنُونَ، فَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُمُومِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، كَتَنَازُعِ الْوُزَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ أَوْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الرَّعِيَّةِ مَعَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَشَمَلَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بعض فِي شؤون عِلْمِ الدِّينِ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ نَجِدُ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً هُوَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ فَسَّرُوهُ بِبَعْضِ صُوَرٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ، فَلَيْسَ مَقْصِدُهُمْ قَصْرَ الْآيَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ، وَأَحْسَنُ عِبَارَاتِهِمْ فِي هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ:«يَعْنِي فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ أَنْتُمْ وَأُولُو أَمْرِكُمْ فِيهِ» . وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَإِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ رَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ» .
وَلَفْظُ (شَيْءٍ) نَكِرَةٌ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَيَصْدُقُ بِالتَّنَازُعِ فِي اخْتِلَافِ الْآرَاءِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ أَوْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ عَمَلٍ مَا، كَتَنَازُعِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي إِجْرَاءِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ. وَلَقَدْ حَسَّنَ مَوْقِعَ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) هُنَا تَعْمِيمُ الْحَوَادِثِ وَأَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، فَكَانَ مِنَ الْمَوَاقِعِ الرَّشِيقَةِ فِي تَقْسِيمِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَوَاقِعِ لَفْظِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَالرَّدُّ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى الْحَاكِمِ وَفِي تَحْكِيمِ ذِي الرَّأْيِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ.
وَحَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ الْعَارِيَةِ وَالْمَغْصُوبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى التَّخَلِّي عَنِ الِانْتِصَافِ بِتَفْوِيضِ الْحُكْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَعَنْ عَدَمِ تَصْوِيبِ الرَّأْيِ بِتَفْوِيضِ تَصْوِيبِهِ إِلَى الْغَيْرِ، إِطْلَاقًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.
وَعُمُومُ لَفْظِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَعُمُومُ أَحْوَالِ التَّنَازُعِ، تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُصُومَاتُ وَالدَّعَاوَى فِي الْحُقُوقِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ من الْآيَة بادىء بَدْءٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فَإِنَّ هَذَا
كَالْمُقَدِّمَةِ لِذَلِكَ فَأَشْبَهَ سَبَبَ نُزُولٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ الْعَامِّ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّنَازُعِ فِي طُرُقِ تَنْفِيذِ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْجُيُوشِ وَبَيْنَ بَعْضِ قُوَّادِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نِزَاعٍ حَدَثَ بَيْنَ أَمِيرِ سَرِيَّةِ الْأَنْصَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعقد فِي شؤون مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَرُومُونَ حَمْلَ النَّاسَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي طَرِيقُهَا الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.
فَكُلُّ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مَأْمُورٌ أَصْحَابُهُ بِرَدِّ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَرَدُّ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُرْجَى مَعَهُ زَوَالُ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ بِبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْجَلِيِّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ. فَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ فِي تَفْسِيرِ التَّنَازُعِ بِتَنَازُعِ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْفَرْدِ الْأَخْفَى مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ.
وَذِكْرُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ انْجِلَاءِ الْحَقِّ فِي مَوَاقِعِ النِّزَاعِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الرَّدَّ إِلَى الرَّسُولِ يَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ إِلَى اللَّهِ، إِذِ الرَّسُولُ هُوَ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: 41] الْآيَةَ.
ثُمَّ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَحُضُورِهِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبِالتَّحَاكُمِ إِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ أَقَامَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَهُمْ بِالتَّعْيِينِ، وَإِلَى الْحُكَّامِ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرِيعَةِ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُوهِ الشَّرِيعَةِ وَتَصَارِيفِهَا، فَإِنَّ تَعْيِينَ صِفَاتِ الْحُكَّامِ وَشُرُوطِهِمْ وَطُرُقِ تَوْلِيَتِهِمْ، فِيمَا وَرَدَ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ أَدِلَّةِ صِفَاتِ الْحُكَّامِ، يَقُومُ مَقَامَ تَعْيِينِ أَشْخَاصِهِمْ، وَبِالتَّأَمُّلِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَسُنَّتِهِ ثُمَّ الصَّدَرِ عَلَى مَا يتبيّن للمتأمّل مِنْ حَالٍ يَظُنُّهَا هِيَ مُرَادُ الرَّسُولِ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ النِّزَاعِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهَا الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَجْهُولِ قَوْلُهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَحْرِيضٌ وَتَحْذِيرٌ مَعًا، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ووازعان يزعان عَن مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِلتَّلَاشِي، وَعَنِ الْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تُرْضِي اللَّهَ وَتَضُرُّ الْأُمَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ دَأْبُ
الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ الْإِقْدَامَ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّأَمُّلَ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ وَالصَّدْرَ بَعْدَ عَرْضِ الْمُشْكِلَاتِ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ مَعَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَتُلَازِمُونَ وَاجِبَاتِ الْمُؤْمِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْوِيهِ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَرُدُّوهُ. وَ (خَيْرٌ) اسْمٌ لِمَا فِيهِ نَفْعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ الْخَيْرِ وَقُوَّةُ الْحُسْنِ.
وَالتَّأْوِيلُ: مَصْدَرُ أَوَّلَ الشَّيْءَ إِذَا أَرْجَعَهُ، مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَؤُولُ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى أَحْسَنُ رَدًّا وَصَرْفًا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيءُ فِي سَرِيَّةٍ.
وَأَخْرَجَ فِي «كِتَابِ الْمَغَازِي» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيءُ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيءُ أَنْ تُطِيعُونِي» قَالُوا:
«بَلَى» قَالَ: «فَأَجْمِعُوا حَطَبًا» فَجَمَعُوا، قَالَ:«أَوْقِدُوا نَارًا» ، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ «ادْخُلُوهَا» ، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: «فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيءِ مِنَ