المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٤

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

الفصل: إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم

إن تلك المعاني العظيمة التي فجرها كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله ينبغي كتطبيق عملي لها أن يراجع كل منا نفسه ـ خاصة من تميز في علمه أو فكره ـ مراجعة قوية صريحة، كيف هو في قوته العملية؟ أين قلبه؟ أين عبادته؟ أين سلوكه واستقامة لسانه وجوارحه؟ أين ورعه؟ أين بذله وعطاؤه وتضحيته من أجل هذه الدعوة؟ وليجعل كلٌّ منَّا هَمَّ الليل والنهار بالنسبة له أن ينهض بقوته العملية لتوافق ما يَعْلَمُهُ وما يفكر فيه وما يدعو إليه، فإن أبينا ذلك وقعد بنا الضعف، وعجزت عن ذلك نفوسنا المكبلة بقيود الدنيا وشهواتها، وقلوبنا الضعيفة المشتتة في أوديتها فلا ينبغي أن نستعلي على غيرنا أو نتمسح بالدعوة أو نظن أنفسنا أننا أصحاب إرادة قوية أو منهج جاد للتغيير، ويظل الناس في انتظار الخير مِنْ قِبَلِنَا فلا يجدونه، بل الأولى أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس، ونفسح الطريق لأصحاب قلوب جديدة قوية حية، وأصحاب صدق وبذل وتضحية وعطاء، أصحاب قوة عملية فعالة، ليتقدموا إلى الراية ويسيروا بالقافلة ونكون تبعًا لهم، فربما كانوا خيرًا منا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

‌(منازل التزكية:

(للتزكية منازل عظيمة، منازل التزكية هي منازل السائرين إلى رب العالمين، «منازلٌ ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله» هي منازلٌ كالمناراتِ الراسيةِ القواعد المُشَيَّدةِ الأركان الثابتةِ الوطائد، منازلٌ مشرقةٌ مضيئة أضوائها لامعة ونجومها ساطعة، «يستمد السائر إلى الله تعالى» من نورها نوراً ومن ضيائها لمعاناً ليضيء له الطريق أثناء سيره إلى الله تعالى، فيكون في سيره إلى الله تعالى متحلياً باليقظة والبصيرة والمعرفة والمحبة والخوف والرجاء والتقوى والاستقامة والتوبة والإنابة والخشوع والخضوع والإخبات والصبر والشكر والرضا واليقين والتوكل والصدق والمراقبة والرغبة والرهبة وغيرها، واعلم أن لِكُلِ منزلة مفهوماً وَحَدَاً، وَلِكُلِ منزلة ثلاث درجات واحدة تليق بعامة المسلمين وأخرى لخاصة المؤمنين وثالثة للمحسنين للمقربين، كما بينه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين.

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (

ص: 41

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق.

والصوى: جمع صوه و هي الحجرة الكبيرة العظيمة التي توضع على الطريق لتوضحه.

والمنار: هو الدليل الشاهد الذي يدل الناس على أن الطريق من هنا.

هذه الصوى و المنارات دلالة على الطريق، فإذا جاء أحدهم إلى مكان ما و لم ير معالمه إذن إنه لا يزال المتخلف المسكين مزرياً على نفسه ذامّاً لها.

[*](قال الشيخ العزي عنها: ((هي مثل محطات التزود في أي طريق طويل، أو هي منازل طبقية و درجات صعود و مدارج إنطلاق تتوازى و تتابع)).

{تنبيه} : (ويحتاج «السائر إلى الله تعالى» إلى قوتين يكونان عوناً بعد الله تعالى في السير إلى الله تعالى وهما القوة العلمية والقوة العملية.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين:

قال أنه لابد لكل سائر من قوتين قوة علمية وقوة عملية.

أما العلمية: فهي التي تكشف له علامات الطريق وآفاته.

والقوة العملية: هي السير نفسه.

مسألة: ما هو عدد منازل التزكية؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

قد أكثر الناس في صفة المنازل وعددها من جعلها ألفا ومنهم من جعلها مائة ومنهم من زاد ونقص فكل وصفها بحسب سيره وسلوكه، وسأذكر فيها أمرا مختصرا جامعا نافعا إن شاء الله تعالى.

مسألة: ما هي عدد المقامات، وما الفرق بينها وبين الأحوال؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ولأرباب السلوك اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها كل يصف منازل سيره وحال سلوكه ولهم اختلاف في بعض منازل السير هل هي من قسم الأحوال؟ والفرق بينهما: أن «المقامات كسبية والأحوال وهيبة» ومنهم من يقول الأحوال من نتائج المقامات والمقامات نتائح الأعمال فكل من كان أصلح عملا كان أعلى مقاما وكل من كان أعلى مقاما كان أعظم حالا.

فمما اختلفوا فيه (الرضا) هل هو حال أو مقام؟ فيه خلاف بين الخراسانيين والعراقيين.

وحكم بينهم بعض الشيوخ فقال: إن حصل بكسب فهو مقام وإلا فهو حال.

والصحيح في هذا: أن الواردات والمنازلات لها أسماء باعتبار أحوالها فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدوها كما يلمع البارق ويلوح عن بعد فإذا نازلته وباشرها فهي أحوال فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهي مقامات وهي لوامع ولوائح في أولها وأحوال في أوسطها ومقامات في

ص: 42

نهاياتها فالذي كان بارقا هو بعينه الحال والذي كان حالا هو بعينه المقام وهذه الأسماء له باعتبار تعلقه بالقلب وظهوره له وثباته فيه.

«وقد ينسلخ السالك من مقامه كما ينسلخ من الثوب وينزل إلى ما دونه ثم قد يعود إليه وقد لا يعود»

«ومن المقامات: ما يكون جامعا لمقامين»

ومنها ما يكون جامعا لأكثر من ذلك.

ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات فلا يستحق صاحبه اسمه إلا عند استجماع جميع المقامات فيه.

فالتوبة جامعة لمقام المحاسبة ومقام الخوف لا يتصور وجودها بدونهما.

و (التوكل) جامع لمقام التفويض والإستعانة والرضى لا يتصور وجوده بدونها.

و (الرجاء) جامع لمقام الخوف والإرادة.

و (الخوف) جامع لمقام الرجاء والإرادة.

و (الإنابة) جامعة لمقام المحبة والخشية لا يكون العبد منيبا إلا باجتماعهما.

و (الإخبات) له جامع لمقام المحبة والذل والخضوع لا يكمل أحدها بدون الآخر إخباتا.

و (الزهد) جامع لمقام الرغبة والرهبة لا يكون زاهدا من لم يرغب فيما يرجو نفعه ويرهب مما يخاف ضرره.

ومقام (المحبة) جامع لمقام المعرفة والخوف والرجاء والإرادة فالمحبة معنى يلتئم من هذه الأربعة وبها تحققها.

ومقام (الخشية) جامع لمقام المعرفة بالله والمعرفة بحق عبوديته فمتى عرف الله وعرف حقه اشتدت خشيته له كما قال تعالى (ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ

عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28]

فالعلماء به وبأمره هم أهل خشيته قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".

ومقام (الهيبة) جامع لمقام المحبة والإجلال والتعظيم.

ومقام (الشكر) جامع لجميع مقامات الإيمان ولذلك كان أرفعها وأعلاها وهو فوق (الرضا) وهو يتضمن (الصبر) من غير عكس ويتضمن (التوكل) و (الإنابة) و (الحب) و (الإخبات) و (الخشوع) و (الرجاء) فجميع المقامات مندرجة فيه لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له ولهذا كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر والصبر داخل في الشكر فرجع الإيمان كله شكرا والشاكرون هم أقل العباد كما قال تعالى: 34:13 {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} .

ومقام (الحياء) جامع لمقام المعرفة والمراقبة.

ومقام (الأنس) جامع لمقام الحب مع القرب فلو كان المحب بعيدا من محبوبة لم يأنس به ولو كان قريبا من رجل ولم يحبه لم يأنس به حتى يجتمع له حبه مع القرب منه.

ومقام (الصدق) جامع للإخلاص والعزم فباجتماعهما يصح له مقام الصدق.

ص: 43

ومقام (المراقبة) جامع للمعرفة مع الخشية فبحسبهما يصح مقام المراقبة.

ومقام (الطمأنينة) جامع للإنابة والتوكل والتفويض والرضى والتسليم فهو معنى ملتئم من هذه الأمور إذا اجتمعت صار صاحبها صاحب طمأنينة وما نقص منها نقص من الطمأنينة.

وكذلك (الرغبة) و (الرهبة) كل منهما ملتئم من (الرجاء) و (الخوف) والرجاء على الرغبة أغلب والخوف على الرهبة أغلب.

وكل مقام من هذه المقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان: «أبرار ومقربون» «فالأبرار في أذياله والمقربون في ذروة سنامه» وهكذا مراتب الإيمان جميعها وكل من النوعين لا يحصى تفاوتهم وتفاضل درجاتهم إلا الله.

مسألة: هل ترتيب منازل التزكية باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

واعلم أن ترتيب هذه المقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع المقام ويفارقه وينتقل إلى الثاني كمنازل السير الحسي، هذا محال، ألا ترى أن (اليقظة) معه في كل مقام لا تفارقه وكذلك (البصيرة) و (الإرادة) و (العزم)، وكذلك (التوبة) فإنها كما أنها من أول المقامات فهي آخرها أيضا بل هي في كل مقام مستصحبة ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصته فقال تعالى في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنهايات:(لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ)[التوبة: 117] فجعل التوبة أول أمرهم وآخره وقال في سورة (أجل رسول الله) التي هي آخر سورة أنزلت (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا)[سورة النصر]

ص: 44

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته وما ينبغي له قال تعالى: (إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً)[الأحزاب 72، 73] فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة، وكذلك (الصبر) فإنه لا ينفك عنه في مقام من المقامات، وإنما هذا الترتيب «ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له» ،ومثال ذلك أن (الرضا) مترتب على (الصبر) لتوقف الرضا عليه واستحالة ثبوته بدونه فإذا قيل إن مقام (الرضا) أو حاله على الخلاف بينهم هل هو مقام أو حال بعد مقام (الصبر) لا يعني به أنه يفارق الصبر وينتقل إلى الرضا وإنما يعني أنه لا يحصل له مقام الرضا حتى يتقدم له قبله مقام الصبر فافهم هذا الترتيب في مقامات العبودية.

مسألة: ما هو فصل الخطاب في الكلام على منازل التزكية؟

فصل الخطاب في الكلام على منازل التزكية أن نتكلم على كل منزلة بما يعود علينا بالفائدة المنشودة منها فنقوم ببيان حقيقتها وكيفية الوصول إليها وذكر الآفات المانعة من حصولها والقاطعة عنها «ومعرفة حدودها دراية والقيام بها رعاية» .

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

الأولى الكلام في هذه المقامات على طريقة المتقدمين من أئمة القوم كلاما مطلقا في كل مقام مقام «ببيان حقيقته وموجبه وآفته المانعة من حصوله والقاطع عنه وذكر عامه وخاصه»

ص: 45