المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(تحصيل السعادة في تزكية النفوس: - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - جـ ٤

[محمد نصر الدين محمد عويضة]

الفصل: ‌(تحصيل السعادة في تزكية النفوس:

إنَّ الدارس المُدَقِّق والباحث المُحقق يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك مدى حاجتنا العظيمة والماسَّة إلى تزكية النفس وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت ـ وهي دوما ـ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. وذلك لعدة أسباب منها ما يلي:

أولاً: كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.

ثانيًا: لكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.

ثالثًا: لأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية والإنسان يُحَاسَبُ عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد، قال تعالى:(يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا)[النحل: 111]

رابعًا: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.

خامسًا: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز.

‌(تحصيل السعادة في تزكية النفوس:

إن من أعظم فوائد التزكية وعواقبها على أصحابها أنها تهبهم سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة،

[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال: قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)[الجن:16]

وكان بعض الشيوخ يدور على المجالس يقول: من سره أن تدوم له العافية فليتق الله".

وصدق الله تعالى إذ يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا)[الشمس 9،10] أهـ.

ثم إنك لن تصل إلى تحقيق المقامات الراقية إلا ببذل جهد، ومجاهدة لنفسك الأمارة بالسوء وحرصك على تزكيتها،

أما مجرد الأماني الجميلة، فلن توصلك إلا إلى الندامة ولو بعد حين .. !

(قل لنفسك موبخاً:

تريدينَ إحرازَ المعالي رخيصةً ** ولابدَ دون الشهدِ من إبرِ النحلِ!

(واهمس في أذنها أيضا:

بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها ** تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ.

بل خير من ذلك ذكّرها وأعد عليها التذكير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

" والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله. كما في الحديث الآتي: (

ص: 12

(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه و يده و أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا و أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز و جل.

(فأفضل ألوان الجهاد:

أن تلزم نفسك لتسير على الجادة، كأنما تسير على حد السيف!

ومن هنا ينبغي عليك أن تمارس على نفسك عمليات متتابعة من الضبط والربط، والتوجيه، والإرشاد، فتكون أنت القائد لها فعلاً ..

وبذلك تخرج من أسر قيادتها لك، وتسخيرها إياك فيما تهوى،

ولا تملك أنت إلا مسايرتها.

وَطِّن نفسك على أن تملأ فراغها بما يشغلها بخير، ولا تزل تنقلها من دائرة خير إلى دائرة خير، علت أو قلت، المهم أن تبقيها دائرة في دوائر الطاعة ..

فإن من عجيب أمر هذه النفس:

أنها إذا لم تشغلها (أنت) بالحق، شغلتك (هي) بالباطل ولابد .. !

وإن لم تملأ عليها زواياها بالخير، ملأتها هي بألوان من الشر لا محالة!

ولا تكن في عجلة من أمرك!!

لا تحاول القفز فوق السلم، لتصل إلى القمة بقفزة أو قفزتين،

فقد تنكسر رقبتك! واعلم أن من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه فإن التأني من الله والعجلة من الشيطان بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(التأني) أي التثبت في الأمور

(من اللّه والعجلة من الشيطان) قال ابن القيم: إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب وضع الشيء في غير محله وتجلب الشرور وتمنع الخيور وهي متولدة بين خلقين مذمومين التفريط والاستعجال قبل الوقت. قال الحرالي: والعجلة فعل الشيء قبيل وقته [ص 278] الأليق به وهذا الحديث من شواهده ما رواه البيهقي أيضاً في سننه عن ابن عباس مرفوعاً إذا تأنيت أصبت أو كدت وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطئ. أهـ

(وبناءاً على ذلك يجب عليك ابتداءً أن تنوي نية حسنة يعلمها الله صادقة من قلبك ..

ثم أن تُوَطِّنَ نفسك، على مجاهدة نفسك في عمليات الضبط والربط والتوجيه شيئا فشيئا، وخطوة في إثر خطوة، وابدأ بالأهم ثم المهم، وثق أنك إذا خرجت مهاجراً إلى الله بنية صادقة صافية، وشرعت في هذه الرحلة، ثم مت في الطريق،

ص: 13