المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة التوبة:

ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه «فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الاستغفار» كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".

(الأسباب المعينة على محاسبة النفس:

هناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:

(1)

معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.

(2)

معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.

(3)

النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.

(4)

صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.

(5)

النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.

(6)

زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.

(7)

حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.

(8)

قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.

(9)

البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.

(10)

ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.

(11)

سوء الظن بالنفس ومقتها في جنب الله تعالى، فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.

‌(فصلٌ في منزلة التوبة:

[*] (عناصر الفصل:

(تعريف التوبة:

(الفرق بين التوبة والاستغفار:

(العلاقة بين المحاسبة والتوبة:

(ذم تسويف التوبة:

(كلنا ذوو خطأ:

(أين طريق النجاة؟

(الترغيب في التوبة:

(حاجتنا إلى التوبة على الدوام:

(باب التوبة مفتوح:

(أجناس الذنوب التي يُتَابُ منها:

(تقسيم الذنوب:

(كيف ينظر الإنسان إلى الذنب:

(ماهية الصغائر والكبائر:

(خطر الاستهانة بالصغائر:

(الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب:

(كيفية التوبة؟

(كيفية التوبة من بعض الكبائر الشائعة:

(شروط التوبة الصادقة:

ص: 91

(توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله سابقة ولاحقة:

(مبدأ التوبة ومنتهاها:

(علامات قبول التوبة:

(فضل الله تعالى على التائب العائد:

(منزلة التوبة في الدين:

(التوبة النصوح:

(فضائل التوبة:

(أسرار التوبة ولطائفها:

(أمور تعين على التوبة:

(أخطاء في باب التوبة:

(مسائلٌ هامة في التوبة:

(التوبة طريق السعادة:

(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه:

(أروع القصص للتائبين:

(توبةُ الأمة:

(نظرة في حال المجتمعات البعيدة:

وهاك تفصيلَ ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(تعريف التوبة:

[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:

أصل التوبة في اللغة الرجوع، يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب. أهـ

والتوبة هي: رجوعُ العبد إلى ربه تعالى ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، هي الرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً الى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً .. وهي اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان .. هي الهداية الواقية من اليأس والقنوط، هي الينبوع الفياض لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة

هي ملاك الأمر، ومبعث الحياة، ومناط الفلاح

هي أول المنازل وأوسطها وآخرها

هي بداية العبد ونهايته

هي ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، والندم على فعله، والعزيمة على عدم العودة إليه إذا قدر عليه

هي شعور بالندم على ما وقع، وتوجه الى الله فيما بقي، وكف عن الذنب.

[*](وقال ابن القيم في تعريف التوبة: فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل (1).

(وقال أيضاً: حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر (2).

(وقال أيضاً: التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً (3).

{تنبيه} : (التوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.

(1) مدارج السالكين لابن القيم 1/ 199.

(2)

مدارج السالكين 1/ 313.

(3)

مرجع سابق.

ص: 92

قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)[النساء: 17].

وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31]

وقال تعالى: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً)[الفرقان: 71]

(الفرق بين التوبة والاستغفار:

مسألة: ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟.

(التوبة: تتضمن أمراً ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فالندم على الماضي والإقلاع عن الذنب في الحاضر والعزم على عدم العودة في المستقبل.

(والاستغفار: طلب المغفرة، وأصله: ستر العبد فلا ينفضح، ووقايته من شر الذنب فلا يُعاقب عليه، فمغفرة الله لعبده تتضمن أمرين: ستره فلا يفضحه، ووقايته أثر معصيته فلا يؤاخذ عليها، وبهذا يعلم أن بين الاستغفار والتوبة فرقاً، فقد يستغفر العبد ولم يتب كما هو حال كثير من الناس، لكن التوبة تتضمن الاستغفار.

(العلاقة بين المحاسبة والتوبة:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فإنه إذا عرف ما له وما عليه أخذ في أداء ما عليه والخروج منه وهو (التوبة).

وصاحب المنازل قدم التوبة على المحاسبة ووجه هذا: أنه رأى (التوبة) أول منازل السائر بعد يقظته ولا تتم التوبة إلا بالمحاسبة فالمحاسبة تكميل مقام التوبة فالمراد بالمحاسبة الاستمرار على حفظ التوبة حتى لا يخرج عنها وكأنه وفاء بعقد التوبة.

مسألة: ما مدى حسن الترتيب في جعل منزلة التوبة بعد منزلة المحاسبة؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فإذا صح هذا المقام ونزل العبد في هذه المنزلة أشرف منها على (مقام التوبة) لأنه بالمحاسبة قد تميز عنده ماله مما عليه فليجمع همته وعزمه على النزول فيه والتشمير إليه إلى الممات.

(ذم تسويف التوبة:

(إلى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتاب مدّخر ليوم الحساب.

(يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وأضعت فيه التكليف، وكم من أذنٍ لا يردعها التخويف؟. أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر.

ص: 93

(يا بطال، إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور؟ أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركب النجب غدًا أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور. فاز والله المخفون، وخسر هنالك المبطلون، ألا إلى الله تصير الأمور.

(يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودًا بذنوبه عن الباب، إذا كنت في الشباب غافلًا، في المشيب مسوّفًا، متى تقف بالباب؟ كم عوملت على الوفاء؟ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء ، كم حجاب؟ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود إلى الصواب؟.

ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب؟ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب. كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب؟ إذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب.

(ولله درُ من قال:

ولو أننا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كل حيّ

ولكنّـ إذا متنا بعثنا

ونُسأل بعدها عن كل شيء

(يا من نسي العهد القديم وخان، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان، من الذي بصنعته سمعت الأذنان، من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان، ولو علم الناس منك ما يعلم: ما جالسوك في مكان، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.

(مجلس التوبة مأتم الأحزان: هذا يبكي لذنوبه وهذا يندب لعيوبه وهذا على فوت مطلوبه وهذا لإعراض محبوبه، ما أحسنَ الخشوع والخضوع والبكاء وجريان الدموع في التوبة والرجوع.

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:

إذا خرجت القلوب بالتوبة من حصر الهوى إلى بيداء التفكر جرت خيول الدموع في حلبات الوجد كالمرسلات عرفا.

ص: 94

إذا استقام زرع الفكر قامت العبرات تسقي ونهضت الزفرات تحصد ودارت رحى التحير تطحن واضطرمت نيران القلق فحصلت للقلوب ملة تتقوتها في سفر الحب.

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلًا، وللإخوان مفارقًا، ولكأس المنيّة شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو من الذنب ولم تزل

تجود وتعفو منّة وتكرّما

فلولاك لم ينجو من إبليس عابد

وكيف وقد أغوى صفيّك آدما

إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظُلَمِ الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوسٍ خائفة، وقلوبٍ واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يَرَى ولا يُرَى:

(ولله درُ من قال:

أتيتك راجيًا يا ذا الجلال

ففرّج ما ترى من سوء حالي

عصيتك سيّدي ويلي بجهلي

وعيب الذنب لم يخطر ببالي

إلى من يشتكي المملوك إلا

إلى مولاه يا مولى الموالي

فويلي ليت أمي لم تلدني

ولا أعصيك في ظلم الليالي

وها أنا ذا عبيدك عبد سوء

ببابك واقف يا ذا الجلال

فإن عاقبت يا ربي فإني

محق بالعذاب وبالنكال

وإن تعفو فعفوك أرتجيه

ويحسن إن عفوت قبيح حالي

(معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان.

هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان.

يا تائهًا في تيه التخلف، يا حائرًا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. إن لم يشاهدك رفيق التوفيق، وإلا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد 39].

(ولله درُ من قال:

أيا نفس توبي قبل أن ينكشف الغطا

وأدعى إلى يوم النشور وأجزع

ص: 95

فلله عبد خائف من ذنوبه

تكاد حشاه من أسى تتقطع

إذا جنّه الليل البهيم رأيته

وقد قام في محرابه يتضرّع

ينادي بذل يا إلهي وسيدي

ومن يهرب العاصي إليه ويفزع

قصدتك يا سؤلي ومالي مشفع

سوى حسن ظني حين أرجو وأطمع

فجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني

من النار يا مولى يضرّ وينفع

بهذا ينال الملك والفوز في غد

ويجزى نعيمًا دائمًا ليس يقطع

(كلنا ذوو خطأ:

سبحان الرحيم التوَّاب الفاتح للمستغفرين الأبواب، والميسر للتائبين الأسباب، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

أخي الحبيب: أكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً. وإذا عرفوا قدرها فهم لا يعرفون الطريق إليها، وإذا عرفوا الطريق فهم لا يعرفون كيف يبدءون؟

فتعال معي أخي الحبيب لنقف على حقيقة التوبة، والطريق إليها عسى أن نصل إليها.

كلنا ذوو خطأ

أخي الحبيب:

كلنا مذنبون

كلنا مخطئون .. نقبل على الله تارة وندبر أخرى، نراقب الله مرة، وتسيطر علينا الغفلة أخرى، لا نخلو من المعصية، ولا بد أن يقع منا الخطأ، فلست أنا و أنت بمعصومين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ.

[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:

(كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ) أَيْ كَثِيرُ الْخَطَأِ أَفْرَدَ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ خَطَّاءُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْكُلِّ، قِيلَ أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ الجزء السابع مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ قَالَهُ الْقَارِي

ص: 96

(وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) أَيِ الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. أهـ

والسهو والتقصير من طبع الإنسان، ومن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف أن يفتح له باب التوبة، وأمره بالإنابة إليه، والإقبال عليه، كلما غلبته الذنوب ولوثته المعاصي .. ولولا ذلك لوقع الإنسان في حرج شديد، وقصرت همته عن طلب التقرب من ربه، وانقطع رجاؤه من عفوه ومغفرته.

(أين طريق النجاة؟

قد تقول لي: إني أطلب السعادة لنفسي، وأروم النجاة، وأرجو المغفرة، ولكني أجهل الطريق إليها، ولا أعرف كيف ابدأ؟ فأنا كالغريق يريد من يأخذ بيده، وكالتائه يتلمس الطريق وينتظر العون، وأريد بصيصاً من أمل، وشعاعاً من نور. ولكن أين الطريق؟

والجواب: أن الطريق أخي الحبيب واضح كالشمس، ظاهر كالقمر، واحد لا ثاني له

إنه طريق التوبة .. طريق النجاة، طريق الفلاح، سُلَّمُ الوصول ومنهاج القاصدين .. طريق سهل ميسور، مفتوح أمامك في كل لحظة، ما عليك إلا أن تطرقه، وستجد الجواب: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]. بل إن الله تعالى دعا عباده جميعاً مؤمنهم وكافرهم الى التوبة، وأخبر أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، وإن كانت مثل زبد البحر، فقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]

(الترغيب في التوبة:

أخي الكريم .. أختي الكريمة .. قوافل التائبين تسير .. وجموعُ المنيبين تُقبل وبابُ التوبة مفتوح .. ودعوة تتلى .. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] .. دموع التائبين صادقة .. وقلوبهم منخلعة، يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ ..

[*] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجلسوا إلى التوابين فأنهم أرقُ أفئدةً .. .

ص: 97

أخي الكريم .. أختي الكريمة .. لقد كان الفضيل بن عياض قاطعاً للطريق .. وكان يتعشقُ جاريةً .. فبينما هو ذات ليلة يتسور ُعليها الجدار إذ سمع قارئاً يقرأ قول الله جلَّ وعزَّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] .. فأطرق ملياً .. ثم تذكر غدراته وذنوبه .. تذكر إسرافه .. فما كان منه إلا أن ذرف دموع التوبةِ من عينٍ ملؤها اليقينُ برحمة الله .. ، فتاب واقلع عما كان عليه حتى أصبح من أهل الخير والصلاح في زمنه.

[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن موسى قال كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو " (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا) [الحديد: 16] " فلما سمعها قال بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة فقال بعضهم نرحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.

قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة:

وبكل حال: فالشرك أعظم من قطع الطريق، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة، فنواصي العباد بيد الله، وهو يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب.

واتق الله فتقوى الله ما

جاورت قلبَ امرئٍ إلا وصل

ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً

إنما من يتقِ الله البطل

وبعد هذا .. أخي .. أختي هل من مشمِّر؟! .. هل من مشمر للتوبة؟!

شمر عسى أن ينفعَ التشميرُ

وانظر بفكرك ماإليه تصيرُ

نعم .. هناك مشمرون .. ولكن إلى أين؟!

مسارعةٌ للخطى وتقويةٌ للعزائم وحثٌ للنفوس .. إنها خطوات في الطريق .. إلى هناك .. حيث الموقف العظيم .. ثم - برحمة الله - إلى روح وريحان ورب غير غضبان ..

نستدرك بالتشمير إلى الخير تقصيرنا .. ونعوض بالسير القويم تكاسلنا وتأخرنا .. فهل من مشمر؟!

كل يوم في طريق .. وكل حين في سبيل .. خطوات متسارعة .. وقفزاتٌ متتابعة نسُدُّ الفُرَج ونُغلق الثُلَم .. نحصنُ ديارنا .. ديار التوحيد .. فهل من مشمر؟!

ص: 98

نداءٌ لمن تأخر عن الركب .. ولا يزال يرى القافلةَ تسيرُ إلى الخير .. هل من مشمر قبل الندم والبكاء؟! الله جلَّ وعزَّ يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور:31] فهل من مشمر؟! ويقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] فهل من مشمر؟!

شمر مادام البابُ مفتوحاً .. وعجل .. فَرُبَّ متمهل فاتتهُ حاجتهُ ..

أخي .. أختي .. إن أمامكم أفقاً وآسعاً .. أفقاً جميلاً .. نعم إنه أفق رحمة الله .. أفق .. التوبة .. إن التائب حبيبُ الله .. يقول جلَّ وعزَّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] فهل من مشمر؟!

(ندموا على الذنوب فندبوا، وسافروا إلى المطلوب فاغتربوا، وسقوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا، وإذا هب عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا، فتأمل أرباحهم وتلمح ما كسبوا،

(نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار فعلموا أنها لا تصلح للقرار، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جرف هار، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار، ولزموا الاستغفار بالأسحار.

(هجروا المنازل الأنيقة وفصموا عرى الهوى الوثيقة، وباعوا الفاني بالباقي وكتبوا وثيقة، وحملوا نجائب الصبر فوق ما هي له مطيقة، وطلبوا الآخرة والله على الحقيقة.

(أبدانهم قلقي من الجوع والضرر، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر، ودموعهم تجري كما يجري دائمة المطر، والقوم قد تأهبوا فهم على أقدام السفر، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر.

(لو تأملت دعواهم: يا رب سر بنا في سرب النجابة ووفقنا للتوبة والإنابة وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة يا من إذا سأله المضطر أجابه.

(رحم الله عبداً اقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وعمر فاعتبر وأجاب فأناب، وراجع فتاب، وتزود لرحيله وتأهب لسبيله.

(أين المعترف بما جناه، أين المعتذر إلى مولاه، أين التائب من خطاياه، أين الآيب من سفر هواه، نيران الاعتراف تأكل خطايا الاقتراف، مجانيق الزفرات تهدم حصون السيئات، مياه الحسرات تغسل أنجاس الخطيئات، يا طالب النجاة دم على قرع الباب، وزاحم أهل التقى أولي الألباب.

(إذا تبت من ذنوبك، فاندم على عيوبك، وامح بدموعك قبيح مكتوبك، والبس جلباب الفرق وتضرع على باب القلق وقل بلسان المحترق.

ص: 99

(أوَمَا علمت أن مرض القلوب من الذنوب، وأصل العافية أن تتوب، وتقلع عن الإثم والحوب، وترجع إلى علام الغيوب.

(حاجتنا إلى التوبة على الدوام:

إن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل العبودية، وأوسطها، وآخرها، وحاجتنا إلى التوبة حاجةً ماسَّة، بل إن ضرورتنا إليها مُلِحَّة؛ فنحن نذنب كثيراً، ونفرط في جنب الله ليلاً ونهاراً؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب، ثم إن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.

وإن من أعظم نعم الله عز وجل أن فتح باب التوبة، وجعله فجراً تبدأ معه رحلة العودة بقلوب منكسرة، ودموع منسكبة، وجباه خاضعة.

يقول الله جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ويقول الله عز وجل: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ويقول تعالى حاثاً على التوبة والرجوع والأوبة: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]

فباب التوبة مفتوح للكفار، والمشركين، والمرتدين، والمنافقين، والظالمين، والعصاة، والمقصرين.

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.

[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:

هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه

(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة

ص: 100

(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك

(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.

(وهذا نبي الرحمة وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يتوب في اليوم مائة مرة.

(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.

[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:

قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة" هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: (وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31] وقوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً)[التحريم: 8] وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم ونحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه، والتوبة أهم قواعد الإسلام وهي أول مقامات سالكي طريق الَاخرة.

(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنّهُ لَيُغَانُ عَلَىَ قَلْبِي. وَإِنّي لأَسْتَغْفِرُ اللّهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرّةٍ".

[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:

ص: 101

قوله صلى الله عليه وسلم: "أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" قال أهل اللغة: الغين بالغين المعجمة والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشى القلب، قال القاضي: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنبا واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته وما أطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم، وقيل سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال فهي نزول عن عالي درجته ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك، وقيل: يحتمل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه لقوله تعالى: {فأنزل السكينة عليهم} ويكون استغفاره إظهارا للعبودية وإِلافتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه، وقد قال المحاشي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى. وقيل: يحتمل أن هذا الغين حال خشية وإعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما سبق، وقيل هو شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس فهو شها والله أعلم.

(باب التوبة مفتوح:

لقد فتح الله بجوده وكرمه باب التوبة؛ حيث أمر بها، وحض عليها، ووعد بقبولها، سواء كانت من الكفار أو المشركين، أو المنافقين أو المرتدين، أو الطغاة، أو الملاحدة، أو الظالمين، أو العصاة المقصرين.

ومن خلال ما يلي يتبين لنا شيء من فضل الله عز وجل في فتح باب التوبة.

(1)

أن الله تعالى أمر بالتوبة: قال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)[الزمر: 54]

[*](قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي ارجعوا إلى الله، واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة (1).

(2)

أن الله وعد بقبول التوبة مهما عظمت الذنوب: قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ)[الشورى: 25]

وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً)[النساء: 110]

(1) تفسير ابن كثير 4/ 61_62.

ص: 102

وقال تعالى في حق المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا) [النساء: 145،146]

وقال في شأن النصارى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة: 73]

ثم قال تعالى محرضاً لهم على التوبة: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 74]

وقال تعالى في حق أصحاب الأخدود الذين خدوا الأخاديد لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[البروج: 10]

[*](قال الحسن البصري رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود؛ قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة (1).

(3)

أن الله حذر من القنوط من رحمته: قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]

[*](قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: قال: قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيراً ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله عالى لهؤلاء: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة:74]

ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء؛ من قال: (فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ)[النازعات: 24]، وقال:(مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38]

[*](قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله تعالى (2).

(1)(2) تفسير ابن كثير4/ 60.

ص: 103

[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الآية السابقة، آية الزمر: المقصود بها النهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت الذنوب وكثرت، فلا يحل لأحد أن يَقْنَط من رحمة الله، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمته؛ لذا قال بعض السلف: وإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيّس الناس من رحمة الله، ولا يجرؤهم على معاصي الله.

والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له إما لكونه إذا تاب لا يقبل توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه؛ فهو ييأس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يغري كثيراً من الناس (1).

(4)

أن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.

[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:

هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه

(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة

(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك

(1) التوبة والاستغفار لابن تيمية تحقيق محمد الحجاجي وعبد الله بدران ص 27_28 وانظر الاستقامة لابن تيمية 2/ 190.

ص: 104

(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.

(5)

أن الله رتب الثواب الجزيل على التوبة: ووعد من تاب بالخير الكثير:

قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)[التحريم: 8]

وقال تعالى: (إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[الفرقان: 70]

[*] (قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.

(أجناس الذنوب التي يُتَابُ منها:

التوبة تكون من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولا بد للتائب من معرفة ما يتاب منه ولو على سبيل الإجمال.

[*] (قال الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أن التوبة ترك الذنب، ولا يمكن ترك شيء إلا بعد معرفته.

وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً؛ فمعرفة الذنوب إذاً واجبة، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل.

وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها، وليس ذلك من غرضنا، ولكننا نشير إلى مجامعها، وروابط أقسامها، والله الموفق للصواب برحمته (1).

ثم شرع في بيان أقسام الذنوب (2).

وعقد ابن القيم في مدارج السالكين فصلاً قال فيه: فصل في أجناس ما يتاب منه.

(ثم قال رحمه الله تعالى:

أجناس ما يتاب منه ولا يستحق العبد اسم (التائب) حتى يتخلص منها.

(1) إحياء علوم الدين 4/ 16.

(2)

انظر إحياء علوم الدين 4/ 16_22.

ص: 105

وهى اثنا عشر جنسا مذكورة في كتاب الله عز وجل هي أجناس المحرمات: «الكفر» و «الشرك» و «النفاق» و «الفسوق» و «العصيان» و «الإثم» و «العدوان» و «الفحشاء» و «المنكر» و «البغي» و «القول على الله بلا علم» و «اتباع غير سبيل المؤمنين» .

فهذه الاثنا عشر جنسا عليها مدار كل ما حرم الله وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها أو واحدة منها وقد يعلم ذلك وقد لا يعلم.

فالتوبة النصوح: هي بالتخلص منها والتحصن والتحرز من مواقعتها وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها.

مسألة: ما هو الكفر؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فأما (الكفر) فنوعان: كفر أكبر وكفر أصغر.

فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.

والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود كما في قوله تعالى وكان مما يتلى فنسخ لفظه: {لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم}

(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أُنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}

(ثم قال رحمه الله تعالى:

قال ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر" وكذلك قال طاووس وقال عطاء: "هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق".

مسألة: ما هي أنواع الكفر الأكبر؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع:

«كفر تكذيب وكفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق»

ص: 106

مسألة: ما هو كفر التكذيب؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة قال الله تعالى عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا} [النمل:14]

وقال لرسوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].

وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح إذ هو تكذيب باللسان.

مسألة: ما هو كفر الإباء والاستكبار؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]

وقول الأمم لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]

وقوله {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] وهو كفر اليهود كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} [البقرة:89]

وقال {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 142]

وهو كفر أبي طالب أيضا فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر.

مسألة: ما هو كفر الإعراض؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما كفر الإعراض: فأن يُعْرِضُ بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك".

مسألة: ما هو كفر الشك؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ص: 107

وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة فلا يسمعها ولا يلتفت إليها وأما مع التفاته إليها ونطره فيها: فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.

مسألة: ما أنواع الشرك؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]

مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت «وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة» كما هو حال أكثر مشركي العالم بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرةً وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه.

وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاًَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:3]

ص: 108

ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر: أنه لا يهديهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]

فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!.

والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه يأذن لمن شاء في الشفاعة لهم حيث لم يتخذهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن الله له: صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله ربه ومولاه.

و (الشفاعة) التي أثبتها الله ورسوله: هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله: هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض قصدهم من شفعائهم ويفوز بها الموحدون.

وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ " قال: "أسعد الناس بشفاعتي: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة: هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.

ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا: أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من ولاهم والهم ولم يعلموا أن الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وفي الفصل الثاني {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]

وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين كما قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".

ص: 109

«فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها» : لا شفاعة إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله فالله تعالى: لا يغفر شرك العادلين به غيره كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وأصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]

وكما في آية البقرة قال تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ)[البقرة: 165]

وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا نسويهم بالله ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم: من إغاثة اللهفات وكشف الكربات وقضاء الحاجات وأنهم الباب بين الله وبين عباده فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحن قلبه وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة وضيق وحرج ورماك بنقص الإلهية التي له وربما عاداك.

مسألة: ما هو الشرك الأصغر؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت" و "هذا من الله ومنك" و "أنا بالله وبك" و "مالي إلا الله وأنت" و "أنا متوكل على الله وعليك" و "لولا أنت لم يكن كذا وكذا" وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت": "أجعلتنى لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ. انتهى.

وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.

ص: 110

(حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء.

(حديث حذيفة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا: ما شاء الله و شاء فلان و لكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان.

(حديث ابن عباس في السلسلة الصحيحة) أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده.

مسألة: ما أنواع كفر الجحود؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص.

فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله وإرساله الرسول.

والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرا أخبر الله به عمدا أو تقديما لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض.

وأما جحد ذلك جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا.

مسألة: ما هو كفر النفاق؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر.

مسألة: ما هو خطر النفاق، وما هي أنواعه؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما النفاق: فالداء العضال الباطن الذي يكون الرجل ممتلئا منه وهو لا يشعر فإنه أمر خفي على الناس وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد.

وهو نوعان: أكبر وأصغر.

فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا للناس يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه.

ص: 111

وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين «فذكر في المؤمنين أربع آيات» «وفي الكفار آيتين» «وفي المنافقين ثلاث عشرة آية» لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد.

(فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه! وكم من علم له قد طمسوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه! وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها!.

(فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]

وقال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف: 8]

اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون قال تعالى: (فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[المؤمنون: 53]

قال تعالى: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)[الأنعام: 112]

ولأجل ذلك {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].

ص: 112

(دَرَسَت معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا (خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في الصدور منها والأعجاز وقالوا: "ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز أعدوا لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين" وقالوا لما حلت بساحتهم: "ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين" وعوامهم قالوا: "حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين: أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين: أجهل لكنها أسلم.

أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع.

(لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].

(رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].

«قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها» «وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها» ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].

ص: 113

من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11، 12].

(المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون 2:13 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} .

(لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].

(قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي

طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]

(خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]

(أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفيء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]

ص: 114

(أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]

صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا في الهرب والطلب في آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين فقيل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19]

ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]

لهم علامات يُعْرَفُون بها مبينة في السنة والقرآن بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً} [النساء:143].

أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء:143].

ص: 115

(يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد ايمانهم وان كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وان النسب بيننا قريب؟ فيا من يريد معرفتهم! خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].

يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه فتراه عند الحق نائما وفي الباطل على الأقدام فخذ وصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].

(أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ..

فهم جنس بعضه يشبه بعضا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه

فاسمعوا أيها المؤمنون {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]

ص: 116

(إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله رأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء: 61].

(فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم وأنى لهم التخلص من الضلال والردى! وقد اشترا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 62].

نشب زقوم الشبه والشكوك في قلوبهم فلا يجدون له مسيغا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 63].

(تباًّ لهم ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان فالقوم في شأن وأتباع الرسول في شأن لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].

تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2].

ص: 117

(تباًّ لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عن موائد أطعمتهم والقوم جياع ما شبعوا فكيف حالهم عند اللقاء وقد عرفوا ثم أنكروا وعموا بعد ما عاينوا الحق وأبصروا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].

(أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا وألطفهم بيانا وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].

(يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر (والسماء والطارق) فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] فما أكثرهم! وهم الأقلون وما أجبرهم! وهم الأذلون وما أجهلهم! وهم المتعالمون وما أغرهم بالله! إذ هم بعظمته جاهلون {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]

ص: 118

(إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة /51،50]

وقال تعالى في شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} آل عمران: 120].

(كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]

ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].

(ثقلت عليهم النصوص فكرهوها وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها ولقد هتك الله أستارهم وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال 47:9 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].

ص: 119

هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها بالفصوص فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد /26: 28].

(أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم 47:29، 30 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .

(فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43].

ص: 120

(أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام فقسمت بين الناس الأنوار وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور {قَالُوا بَلَى} ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:14، 15].

(لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك والله أكثر من المذكور كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين فقال: "يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".

(خوف السلف من النفاق:

ص: 121

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجملهً ساءت ظنونُهم بنفوسِهم حتى خشوْا أن يكونوا من جملة المنافقين.

قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: "يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحدا"

وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل" ذكره البخاري وذكر عن الحسن البصري: "ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن"

ولقد ذكر عن بعض الصحابة: أنه كان يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع".

تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل.

(زرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة وعين ضعف العزيمة فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هارٍ فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر وكشف المستور وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب قال تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].

(قلوبهم عن الخيرات لاهية وأجسادهم إليها ساعية والفاحشة في فجاجهم فاشية وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم وكانت آذانهم واعية.

(فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل قبل أن تنزل بك القاضية.

ص: 122

(إذا عاهدوا لم يفوا، وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا، فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران، فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم، فإنهم فيها كاذبون وهم لما سواها مخالفون قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة/77:75].

مسألة: ما هي كيفية التوبة من النفاق؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وشرط في توبة المنافق: الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ثم قال {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 45، 46]

ولذلك كان الصحيح من القولين: أن توبة القاذف: إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة.

وأما من قال: إن توبته أن يقول (أستغفر الله) من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حَقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه: باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه: بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين.

(الفسوق وأنواعه:

مسألة: ما هي أنواع الفسوق؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما الفسوق: فهو في كتاب الله نوعان مفرد مطلق ومقرون بالعصيان.

ص: 123

والمفرد نوعان أيضا: فسوق كفر يخرج عن الإسلام وفسوق لا يخرج عن الإسلام، فالمقرون كقوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} الحجرات: 7].

والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية وقوله عز وجل 2:99 {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَاّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 26، 27]

وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]

فهذا كله فسوق كفر.

(وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة:82]

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات:6]

ص: 124

الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.

و (النبأ) هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن و (التبين) طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما.

وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملةً وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الاعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته.

(وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله.

والمقصود: ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر.

ص: 125

والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة.

وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الاعتقاد.

(ففسق العمل نوعان: مقرون بالعصيان ومفرد.

فالمقرون بالعصيان: هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان: هو عصيان أمره كما قال الله تعالى {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92، 93]

وقال الشاعر:

أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

(فالفسق أخص بارتكاب النهي ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]

(والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم، ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى:{إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي.

(و (التقوى) اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله.

(وفسق الاعتقاد: كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك.

وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.

وأما غالية الجهمية: فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب.

ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة.

وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود: تحقيق (التوبة) من هذه الأجناس العشرة.

مسألة: ما هي كيفية التوبة من فسوق الاعتقاد؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ص: 126

فالتوبة من هذا الفسوق: بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الوحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة.

فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة: بمحض اتباع السنة ولا يُكْتَفَى منهم بذلك أيضا «حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة» إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى: البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ، إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160،159]

(وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس.

مسألة: ما هو الإثم والعدوان؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

(الإثم والعدوان) فهما قرينان قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو «فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به» فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما.

(ف (الإثم) ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك.

(و (العدوان) ما كان محرم القدر والزيادة.

فالعدوان: تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل.

ص: 127

وهذا العدوان نوعان: عدوان في حق الله وعدوان في حق، فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون /7:5]

وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك.

ص: 128

وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا «هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان» وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز وجل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] وتيقن أنه كان مغرورا بِلَامِعِ السراب، تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور، والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور قال تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

(البغي:

مسألة: ما الفرق بين البغي والعدوان؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ص: 129

و (الإثم) و (العدوان) هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف قال تعالى: (قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]

مع أن (البغي) غالب استعماله في حقوق العباد والاستطالة وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان (البغي) ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى و (العدوان) تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله.

فهاهنا أربعة أمور: «حق لله وله حَد وحق لعباده وله حَد» فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما.

(الفحشاء والمنكر:

مسألة: ما المقصود بالفحشاء والمنكر؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وأما (الفحشاء والمنكر) فالفحشاء صفة لموصوف قد حذف تجريدا لقصد الصفة وهي الفعلة الفحشاء والخصلة الفحشاء وهي ما ظهر قبحها لكل أحد واستفحشه كل ذي عقل سليم ولهذا فسرت بالزنا واللواط وسماها الله (فاحشة) لتناهي قبحهما وكذلك القبيح من القول يسمى فحشا وهو ما ظهر قبحه جدا من السب القبيح والقذف ونحوه.

وأما (المنكر) فصفة لموصوف محذوف أيضا أي الفعل المنكر وهو الذي تستنكره العقول والفطر ونسبته إليها كنسبة الرائحة القبيحة إلى حاسة الشم والمنظر القبيح إلى العين والطعم المستكره إلى الذوق والصوت المستنكر إلى الأذن فما اشتد إنكار العقول والفطر له فهو فاحشة كما فحش إنكار الحواس له من هذه المدركات.

فالمنكر لها: ما لم تعرفه ولم تألفه والقبيح المستكره لها: الذي تشتد نفرتها عنه هو الفاحشة ولذلك قال ابن عباس: "الفاحشة الزنا والمنكر ما لم يعرف في شريعة ولا سنة".

فتأمل تفريقه بين ما لم يعرف حسنه ولم يؤلف وبين ما استقر قبحه في الفطر والعقول.

(القول على الله بلا علم:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ص: 130

وأما (القول على الله بلا علم) فهو أشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال.

فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت (قال الله تعالى في المحرم لذاته:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} فقال ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]

فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.

فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثما وهو أصل الشرك والكفر ووعليه أُسِسَت البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.

(ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد وقد أنكر تعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان من الله فقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

فكيف بمن نسب إلى أوصافه سبحانه وتعالى ما لم يصف به نفسه؟ أو نفى عنه منها ما وصف به نفسه؟.

قال بعض السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم الله كذا فيقول الله: كذبت لم أحل هذا ولم أحرم هذا.

يعني التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله.

ص: 131

وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودا من دون الله يقر به إلى الله ويشفع له عنده ويقضى حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والإبتداع في دين الله فهو أعم من الشرك والشرك فرد من أفراده.

(تقسيم الذنوب:

لما كانت التوبة الصادقة لا تكون إلا بالإقلاع عن المعاصي كلها صغيرها وكبيرها كان لزاماً علينا أن نتعرف على تقسيمات الذنوب، فإن هناك تقسيمات نافعة، تُعرف من خلالها أصول الذنوب، وما يمكن أن يدخل تحتها من آحاد الذنوب وأفرادها، ومن أفضل من تكلم في ذلك الإمام العلامة البحر الفهَّامة ابن القيم رحمه الله تعالى:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.

ونحن نذكر فيها بعون الله وحسن توفيقه فصلاً وجيزاً جامعاً فنقول:

(أصلها نوعان: ترك مأمور، وفعل محظور.

وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجن والإنس.

وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب.

وباعتبار مُتعلَّقه إلى حق الله، وحق خلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقاً للخلق لأنه يجب بمطالبتهم، ويسقط بإسقاطهم (1).

(ثم شرع بتقسيم هذه الذنوب إلى قسمة أخرى فقال:

ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية، وشيطانية، وسَبُعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك (2).

هذا وقد سبق ابن القيم في هذا التقسيم أبو حامد الغزالي، حيث قال: اعلم أن للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، لكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: صفات ربوبية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية (3).

وفيما يلي تفصيل يسير لتلك الأصول التي ترجع إليها الذنوب (4).

(1)

الذنوب الملكية أو الربوبية: وهي أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية، كالعظمة، والكبرياء، والفخر، والجبروت، والعلو في الأرض، ومحبة استعباد الخلق، ونحو ذلك.

(1)(2) الجواب الكافي لابن القيم تحقيق وتعليق الشيخ عامر بن علي ياسين ص 303.

(3)

إحياء علوم الدين 4/ 16.

(4)

انظر إحياء علوم الدين 4/ 16 ومنهاج القاصدين لابن قدامه ص 276_280 والجواب الكافي ص 304_305.

ص: 132

ومن هذه الذنوب يتشعب جملة من الكبائر غفل عنها أكثر الخلق، ولم يعدوها ذنوباً، وهي المهلكات، العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي.

ويدخل في هذه الذنوب، الشرك بالله، والقول على الله بغير علم.

(2)

الذنوب الشيطانية: وهي ما كان في صاحبها شَبهٌ من الشيطان، ويدخل تحت ذلك الحسدُ، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بالفساد، وتحسين المعاصي، والنهي عن الطاعات وتهجينها، والابتداع في الدين، والدعوة إلى البدع والضلال.

وهذا النوع يلي الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه.

(3)

الذنوب السبعية: ومنها يتشعب الغضب، وسفك الدماء، والحقد، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، والقتل.

(4)

الذنوب البهيمية: ومنها يتشعب الشَّرَهُ، والكَلَبُ، والحرص على قضاء شهوة الفرج والبطن، ومنها يتولد الزنى واللواط، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشح، والجبن، والهلع، والجزع، وجمع الحطام لأجل الشهوات، وغير ذلك.

وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية.

ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام؛ فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية، والشرك في الوحدانية.

(تقسيم آخر للذنوب:

ويمكن أن تقسم الذنوب إلى قسمة أخرى، وهي أن يقال: إن الذنوب تنقسم إلى كبائر، وصغائر.

[*] (قال الغزالي رحمه الله: اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها؛ فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة.

وهذا ضعيف؛ إذ قال تعالى: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً] النساء: 31، وقال تعالى:[الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ][النجم: 32]

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلواتُ الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر.

(عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).

ص: 133

[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائرَ وصغائر (1).

(وقال أيضاً: والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره كبائر؛ فالنظر إلى من عُصي أمرُه، وانتُهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة (2).

وقال بعد أن ساق بعض ما أورده مَنْ قال إن الذنوب كلها كبائر: فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشدَّ موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوتَ مراتب الطاعات والمعاصي (3).

(كيف ينظر الإنسان إلى الذنب:

مسألة: كيف ينظر الإنسان إلى الذنب؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

قال في المنازل: "وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاثة أشياء:

(إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانه.

(وفرحك عند الظفر به.

(وقعودك على الإصرار عن تداركه مع تيقنك نظر الحق إليك".

يحتمل أن يريد بالانخلاع عن العصمة: انخلاعه عن اعتصامه بالله فإنه لو اعتصم بالله لما خرج عن هداية الطاعة قال الله تعالى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] فلو كملت عصمته بالله لم يخذله أبدا قال الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]

أي متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج فالنصر على هذا العدو أهم والعبد إليه أحوج وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله.

(1) الجواب الكافي ص306.

(2)

الجواب الكافي ص 309.

(3)

الجواب الكافي 312.

ص: 134

ويحتمل أن يريد الانخلاع من عصمة الله له وأنك إنما ارتكبت الذنب بعد انخلاعك من توبة عصمته لك فمتى عرف هذا الانخلاع وعظم خطره عنده واشتدت عليه مفارقته وعلم أن الهلك كل الهلك بعده وهو حقيقة الخذلان «فما خلى الله بينك وبين الذنب إلا بعد أن خذلك وخلى بينك وبين نفسك» ولو عصمك ووفقك لما وجد الذنب إليك سبيلا.

فقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان: أن يكلك الله إلى نفسك ويخلى بينك وبينها والتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك وله سبحانه في هذه التخلية بينك وبين الذنب وخذلانك حتى واقعته حكم وأسرار سنذكر بعضها.

وعلى الاحتمالين فترجع (التوبة) إلى اعتصامك به وعصمته لك.

قوله: "وفرحك عند الظفر به".

الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها والجهل بقدر من عصاه والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها ففرحه بها غطى عليه ذلك كله وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا ولا يكمل بها فرحه بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به ومتى خلي قلبه من هذا الحزن واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه وليبك على موت قلبه فإنه لو كان حيا لأحزنه ارتكابه للذنب وغاظه وصعب عليه ولا يحس القلب بذلك فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام.

وهذه النكتة في الذنب قل من يهتدي إليها أو ينتبه لها وهي موضع مخوف جدا مترام إلى هلاك إن لم يتدارك بثلاثة أشياء خوف من الموافاة عليه قبل التوبة وندم على ما فاته من الله بمخالفة أمره وتشمير للجد في استدراكه.

قوله: "وقعودك على الإصرار عن تداركه".

الإصرار: هو الاستقرار على المخالفة والعزم على المعاودة وذلك ذنب آخر لعله أعظم من الذنب الأول بكثير وهذا من عقوبة الذنب: أنه يوجب ذنبا أكبر منه ثم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك حتى يستحكم الهلاك.

ص: 135

فالإصرار على المعصية معصية أخرى والقعود عن تدراك الفارط من المعصية إصرار ورضا بها وطمأنينة إليها وذلك علامة الهلاك وأشد من هذا كله: المجاهرة بالذنب مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه فإن آمن بنظره إليه وأقدم على المجاهرة فعظيم وإن لم يؤمن بنظره إليه واطلاعه عليه فكفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية فهو دائر بين الأمرين: «بين قلة الحياء ومجاهرة نظر الله إليه وبين الكفر والانسلاخ من الدين» فلذلك يشترط في صحة التوبة تيقنه أن الله كان ناظرا ولا يزال إليه مطلعا عليه يراه جهرة عند مواقعة الذنب لأن التوبة لا تصح إلا من سلم إلا أن يكون كافرا بنظر الله إليه جاحدا له فتوبته دخوله في الإسلام وإقراره بصفات الرب جل جلاله.

(ماهية الصغائر والكبائر:

وبعد أن تبين أن الذنوب منها كبائر وصغائر يحسن الوقوف عند ماهية الصغائر والكبائر؛ حيث اخْتُلِفَ في تحديد الكبائر وحصرها؛ فقيل في ذلك أقوال منها (1):

(1)

قال عبد الله بن مسعود: هي أربع.

(2)

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هي سبع.

(3)

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: هي تسع.

(4)

وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع.

(5)

وقال آخر: هي إحدى عشرة.

(6)

وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها

أربعة في القلب وهي: الإشراك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.

وأربعة في اللسان وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر (2).

وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.

واثنين في الفرج: الزنا، واللواط.

واثنين في اليدين وهما: القتل والسرقة.

وواحداً في الرجلين: وهو الفرار من الزحف.

وواحداً يتعلق بجميع الجسد: وهو عقوق الوالدين.

هذه أقوال الذين حصروها بعدد، وأما الذين لم يحصروها بعدد فمنهم من قال:

(1)

ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء فهو صغيرة.

(1) انظر إحياء علوم الدين 4/ 17_18، والجواب الكافي 308_309.

(2)

السحر لا يقتصر على اللسان، بل تشترك الجوارح في عمله.

ص: 136

(2)

وقيل: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة_فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة (1).

(3)

وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.

(4)

وقيل: كل ما لعن الله ورسوله فاعله فهو كبيرة.

(5)

وقيل: هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)[النساء: 31]

والمقصود من خلال ما مضى من ذكر أصول الذنوب، وتقسيماتها هو الوقوف على معرفة الذنوب ولو على سبيل الإجمال؛ كي يجتنبها الإنسان، ويتوب منها إن كان واقعاً فيها.

(خطر الاستهانة بالصغائر:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن (الكبيرة) قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى رتبها.

وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره.

وأيضا فإنه يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره.

(وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها وجر بلحية نبي مثله وهو هارون ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدلله لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له وصدع بأمره وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر".

وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت ولم يحتمل له ما احتمل لموسى وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل:

(1) وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 11/ 650، وقال في 11/ 650: =إنه أمثل الأقوال في هذه المسألة+، وقال في 11/ 654: =وإنما قلنا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه. . .+ ثم ذكر خمسة وجوه.

ص: 137

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع «فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد» قال تعالى عن ذي النون {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات /143، 144] وفرعون لما لم تكن له سابقةُ خيرٍ تشفع له وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل} قال له جبريل {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ] يونس:90].

ثم ذكر رحمه الله تعالى الحديث الآتي:

(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل تذكر بصاحبها أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به؟.

(ثم قال رحمه الله تعالى:

ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته ولأجل هذا يُغْفَرُ لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك وكما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم فمن لقيه لا يشرك به شيئا البتة غفر له ذنوبه كلها كائنة ما كانت ولم يعذب بها.

ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه.

(الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب:

مسألة: ما الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

قد جاء في كتاب الله تعالى ذكرهما مقترنين وذكر كلا منهما منفردا عن الآخر فالمقترنان كقوله تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] والمنفرد كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]

ص: 138

وقوله في المغفرة: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15] وكقوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران:147] ونظائره.

فههنا أربعة أمور: ذنوب وسيئات ومغفرة وتكفير.

(فالذنوب: المراد بها الكبائر.

(والمراد بالسيئات: الصغائر وهي ما تعمل فيه الكفارة من الخطأ وما جرى مجراه ولهذا جعل لها التكفير ومنه أخذت الكفارة ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصح القولين فلا تعمل في قتل العمد ولا في اليمين الغموس في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة.

والدليل على أن السيئات هي الصغائر والتكفير لها: قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".

ولفظ (المغفرة) أكمل من لفظ (التكفير) ولهذا كان مع الكبائر والتكفير مع الصغائر فإن لفظ (المغفرة) يتضمن الوقاية والحفظ ولفظ (التكفير) يتضمن الستر والإزالة وعند الإفراد: يدخل كل منهما في الآخر كما تقدم فقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يتناول صغائرها وكبائرها ومحوها ووقاية شرها بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35].

وإذا فُهِمَ هذا فُهِمَ السر في الوعد على المصائب والهموم والغموم والنصب والوصب بالتكفير دون المغفرة كقوله: في الحديث الصحيح: "ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" فإن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب فهي كالبحر لا يتغير بالجيف وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. انتهى.

فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا فإن لم تف بطهرهم.

طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: «نهر التوبة النصوح ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ونهر المصائب العظيمة المكفرة» فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فورد القيامة طيبا طاهرا فلم يحتج إلى التطهير الرابع.

(كيفية التوبة؟

ص: 139

أخي الحبيب:

كأني بك تقول: إن نفسي تريد الرجوع الى خالقها، تريد الأوبة الى فاطرها، لقد أيقنت أن السعادة ليست في اتباع الشهوات والسير وراء الملذات، واقتراف صنوف المحرمات

ولكنها مع هذا لا تعرف كيف تتوب؟ ولا من أين تبدأ؟

(وفصل الخطاب في هذه المسألة أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً يسر له الأسباب التي تأخذ بيده إليه وتعينه عليه، فإن الله تعالى إذا قَدَّر شيئاً هيأ له الأسباب، وها أنا أذكر لك بعض الأمور التي تعينك على التوبة وتساعدك عليها:

أولاً: أصدق النية وأخلص التوبة:

فإن العبد إذا أخلص لربه وصدق في طلب التوبة أعانه الله وأمده بالقوة، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصده عن التوبة .. ومن لم يكن مخلصاً لله استولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]

(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن تصدق الله يصدقك.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إن تصدق اللّه يصدقك) قاله لأعرابي غزا معه فدفع إليه قسمه فقال: ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك أن أرمي إلى هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال له ذلك فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم صدق اللّه فصدقه ثم كفنه في جبته ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته اللّهم هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك هكذا رواه النسائي مطولاً فاختصره المؤلف.

ثانياً: حاسب نفسك:

ص: 140

فإن محاسبة النفس تدفع الى المبادرة الى الخير، وتعين على البعد عن الشر، وتساعد على تدارك ما فات، وهي منزلة تجعل العبد يميز بين ما له وما عليه، وتعين العبد على التوبة، وتحافظ عليها بعد وقوعها، ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره، تطلعاتها غريبة، وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى:(فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ)[النازعات 37: 41]

(فوائد محاسبة النفس:

ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي:

(1)

الاطلاع على عيوب نفسه: ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها، والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله.

[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".

[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)

[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.

مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.

[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".

[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).

ص: 141

[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال:(أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال:(اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!

[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل:(يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.

(2)

مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم.

(3)

ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.

(4)

أن يخاف الله عز وجل.

(5)

ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16]

وقال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[البقرة: 235]

وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]

(6)

ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى:(لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً)[الأحزاب: 8]

وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6] وحتى الرسل يُسألون .. !!!

ص: 142

(7)

ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر.

ثالثاً: ذكّر نفسك وعظها وعاتبها وخوّفها:

قل لها: يا نفس توبي قبل أن تموتي؛ فإن الموت يأتي بغتة، وذكّرها بموت فلان وفلان .. أما تعلمين أن الموت موعدك؟! والقبر بيتك؟ والتراب فراشك؟ والدود أنيسك؟

أما تخافين أن يأتيك ملك الموت وأنت على المعصية قائمة؟ هل ينفعك ساعتها الندم؟ وهل يُقبل منك البكاء والحزن؟ ويحك يا نفس تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك .. وهكذا تظل توبخ نفسك وتعاتبها وتذكرها حتى تخاف من الله فتئوب إليه وتتوب.

رابعاً: اعزل نفسك عن مواطن المعصية:

فترك المكان الذي كنت تعصي الله فيه مما يعينك على التوبة، فإن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين إنسانا قال له العالم: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء

(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال لا، فقتله فَكَمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم مَلَك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة.

خامساً: ابتعد عن رفقة السوء:

فإن طبعك يسرق منهم، واعلم أنهم لن يتركوك وخصوصاً أن من ورائهم الشياطين تؤزهم الى المعاصي أزاً، وتدفعهم دفعاً، وتسوقهم سوقاً ..

ص: 143

وتذكر قوله تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً)[النساء: 27]

[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:

وقوله: {َاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (4) وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا}

أي: يُريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة {أَنْ تَمِيلُوا} يعني: عن الحق إلى الباطل {مَيْلا عَظِيمًا. أهـ

فغيّر رقم هاتفك، وغيّر عنوان منزلك إن استطعت، وغيّر الطريق الذي كنت تمر منه .. لأن الطباع سَرَّاقة والمرء على دين خليله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.

(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.

سادساً: تدبّر عواقب الذنوب:

فإن العبد إذا علم أن المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى، وأن الجزاء بالمرصاد دعاه ذلك الى ترك الذنوب بداية، والتوبة الى الله إن كان اقترف شيئاً منها.

سابعاً: تذكير النفس بالجنة والنار:

ذكّرها بعظمة الجنة، وما أعد الله فيها لمن أطاعه واتقاه، وخوّفها بالنار وما أعد الله فيها لمن عصاه.

ثامناً: أَشْغِلْ نفسك بما ينفعها وجنّبها الوحدة والفراغ:

فإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والفراغ يؤدي الى الانحراف والشذوذ والإدمان، ويقود الى رفقة السوء، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ.

(نعمتان) تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، أو النفع المفعول على وجه الإحسان للغير. وزاد في رواية " من نعم اللّه "

(مغبون فيهما) بالسكون والتحريك قال الجوهري: في البيع بالسكون وفي الراوي بالتحريك، فيصح كل في الخبر. إذ من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن ولم يحمد رأيه

ص: 144

(كثير من الناس: الصحة والفراغ) من الشواغل الدنيوية المانعة للعبد عن الاشتغال بالأمور الآخروية، فلا ينافي الحديث المار: إن اللّه يحب العبد المحترف، لأنه في حرفة لا تمنع القيام بالطاعات. شبه المكلف بالتاجر، والصحة والفراغ برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح فمن عامل اللّه بامتثال أوامره ربح، ومن عامل الشيطان باتباعه ضيع رأس ماله. والفراغ نعمة غبن فيها كثير من الناس. ونبه بكثير على أن الموفق لذلك قليل. وقال حكيم: الدنيا بحذافيرها في الأمن والسلامة. وفي منشور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة، ومن أمضى يومه في حق قضاه، أو فرض أدَّاه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عتق يومه وظلم نفسه. قال: لقد هاج الفراغ عليك شغلا * وأسباب البلاء من الفراغ. أهـ

وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى وحذرنا من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها: ومن ذلك ما يلي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك.

[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب:

ص: 145

يا بن آدم تفرغ لعبادتي: أي فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. أي: سأملأ القلب واليدين.

وإلا تفعل ملأت يديك شغلا: فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل .. أريد أن آكل .. أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته.

ولم أسد فقرك: أي ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة،

سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى.

تاسعاً: خالف هواك:

فليس أخطر على العبد من هواه، ولهذا قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]. فلا بد لمن أراد توبة نصوحاً أن يحطم في نفسه كل ما يربطه بالماضي الأثيم، ولا ينساق وراء هواه، والهوى شر إلةٍ عُبِدَ في الأرض.

عاشراً: وهناك أسباب أخرى تعينك على التوبة غير ما ذُكر منها: الدعاء الى الله أن يرزقك توبة نصوحاً، وذكر الله واستغفاره، وقصر الأمل وتذكر الآخرة، وتدبر القرآن، والصبر خاصة في البداية، الى غير ذلك من الأمور التي تعينك على التوبة.

(كيفية التوبة من بعض الكبائر الشائعة:

ص: 146

لقد تقدم معنا في الصفحات الماضية ذكر لكيفية التوبة من الذنوب على وجه العموم، ومر ذكر لكيفية التوبة من بعض الذنوب بعينها.

والحديث في هذا البند سيكون إن شاء الله تعالى عن كيفية التوبة من بعض الذنوب الكبيرة الشائعة التي تحتاج إلى شيء من التفصيل في ذكر أضرارها، وكيفية التوبة منها؛ ذلك أن البلية تعظم بها، والحاجة تمس إليها.

والذنوب التي سيتم الحديث عنها، وذكر كيفية التوبة منها هي: ترك الصلاة، والربا، والزنا، واللواط، والعشق، وذلك كما يلي:

أولاً: التوبة من ترك الصلاة والعياذ بالله:

ثانياً: التوبة من الربا والعياذ بالله:

ثالثاً: التوبة من الزنا والعياذ بالله:

رابعاً: التوبة من اللواط والعياذ بالله:

خامساً: التوبة من العشق والعياذ بالله:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

أولاً: التوبة من ترك الصلاة والعياذ بالله:

للصلاة في دين الإسلام أهمية عظمى؛ فهي عمود الدين، وأعظم أركانه العملية، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة؛ فإن قُبلت قُبل سائر العمل، وإن رُدَّت رُدَّ.

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة) أي المفروضة وهي الخمس لأنها أول ما فرض عليه بعد الإيمان وهي علم الإيمان وراية الإسلام

(فإن صلحت) بأن كان قد صلاها متوفرة الشروط والأركان وشملها القبول

(صلح له سائر عمله) يعني سومح له في جميع أعماله ولم يضايق في شيء منها في جنب ما واظب من إدامة الصلاة التي هي علم الدين

(وإن فسدت) أن لم تكن كذلك

(فسد سائر عمله) أي ضُيِّقَ فيه واستقصى فحكم بفساده وأخذ منه الأئمة أن حكمة مشروعية الرواتب قبل الفرائض وبعدها تكميلها بها إن عرض نقص قال الطيبي: الصلاح كون الشيء على حالة استقامته وكماله والفساد ضد ذلك وذلك لأن الصلاة بمنزلة القلب من الإنسان فإذا صلحت صلحت الأعمال كلها وإذا فسدت فسدت.

والصلاة علامة على الإيمان، وسلامة من النفاق، ومن حفظها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع.

ص: 147

ثم إن قدر الإسلام في قلب الإنسان كقدر الصلاة في قلبه، وحظه في الإسلام على قدر حظه من الصلاة.

ومما يدل على أهميتها أن الله_عز وجل_أمر بالمحافظة عليها في السفر، والحضر، والسلم، والحرب، وفي حال الصحة، وفي حال المرض.

ثم إن ترك الصلاة من أكبر الكبائر؛ فهو أكبر من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر.

وتارك الصلاة متعرض للوعيد الشديد، بل إن تركها كفر بالله عز وجل إن تركها جاحداً لوجوبها.

فقد أجمع علماء الإسلام على أن من تركها جاحداً لوجوبها فإنه كافر بالله كفراً أكبر مخرجاً من الملة.

أما من تركها تكاسلاً وتهاوناً فقد اختلف العلماء في حكمه، فمنهم من قال: إنه كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة.

ومنهم من قال: إنه كافر كفراً لا يخرج من الملة.

[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع (1).

(وقال أيضاً: ومن يمتنع عن الصلاة المفروضة فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق المسلمين.

بل يجب عند جمهور الأمة كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

بل تارك الصلاة شر من السارق، والزاني، وشارب الخمر، وآكل الحشيشة (2).

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يأمره الناس بالصلاة، ولم يصلِّ؛ فما الذي يجب عليه؟

فأجاب: إذا لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، والله أعلم (3).

(وقال أيضاً: ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله:

(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة.

(حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.

وقول عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة.

فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها (4).

(1) مجموعة الفتاوى 22/ 40.

(2)

مجموع الفتاوى 22/ 50.

(3)

مجموع الفتاوى 22/ 53.

(4)

مجموع الفتاوى 22/ 48.

ص: 148

فترك الصلاة من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، والتوبة منه واجبة؛ فواجب على من ترك الصلاة أن يتوب من ذلك الذنب العظيم قبل أن يفجأه الموت؛ فواجب عليه أن يتوب إلى الله على الفور، وأن يندم على ما مضى من تركه للصلاة، وأن يعزم على عدم تركها.

أما ما مضى من الصلوات المتروكة فقد اختلف العلماء في قضائه لها؛ فمنهم من قال: يقضي ما مضى من الفرائض المتروكة، ومنهم من قال: لا يؤمر بقضائها، وإنما توبته تكون بأداء الفرائض المستأنفة (1).

والقول الثاني هو الصواب إن شاء الله لدلالة النصوص على ذلك، ولأن فيه تيسيراً لأمر التوبة.

[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع.

لكن إذا أسلم، ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو وجوبَ بعض أركانها مثل أن يصلي بلا وضوء؛ فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة_فهذا ليس بكافر إذا لم يعلم.

لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، ومالك، وغيرهما، قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد.

وقيل: لا يجب عليه القضاء، وهو الظاهر (2).

(وقال أيضاً: ومن كان أيضاً يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشايخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشايخ والمعرفة فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب وإلا قوتلوا.

وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا كانوا من المرتدين.

ومن تاب منهم، وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء؛ فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب.

(1) انظر تفاصيل تلك الأقوال في مدارج السالكين 1/ 380_390، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 532_569.

(2)

مجموع الفتاوى 22/ 40_41.

ص: 149

فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخرى يقضي كقول الشافعي، والأول أظهر؛ فالذين ارتدوا على عهد رسول الله"كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)[آل عمران: 86]، والتي بعدها.

وكعبد الله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل الله فيهم:(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[النحل: 110]

فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي".

ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا.

وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمروا بالإعادة.

وتنبأ مسيلمة الكذاب، واتبعه خلق كثير قاتلهم الصديق، والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته.

وكان أكثر البوادي قد ارتدوا، ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بقضاء ما ترك من الصلاة.

وقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)[الأنفال:38] يتناول كل كافر.

وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم؛ فهذا حكم من تركها غير معتقدٍ لوجوبها (1).

[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض حديث له عن مسألة قضاء الفرائض المتروكة، قال: ومن أحكام التوبة أن من تعذر عليه أداء الحق الذي فرط فيه، ولم يمكنه تداركه، ثم تاب؛ فكيف حكم توبته؟ وهذا يتصور في حق الله سبحانه وحقوق عباده.

(1) مجموع الفتاوى 22/ 45_47.

ص: 150

فأما في حق الله فَكَمَنْ ترك الصلاة عمداً من غير عذر مع علمه بوجوبها، وفرضها، ثم تاب، وندم فاختلف السلف في هذه المسألة، فقالت طائفة: توبته بالندم، والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة، وقضاء الفرائض المتروكة، وهذا قول الأئمة الأربعة وغيرهم.

وقالت طائفة: توبته باستئناف العمل في المستقبل، ولا ينفعه تدارك ما مضى بالقضاء، ولا يقبل منه، فلا يجب عليه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو مروي عن جماعة من السلف (1).

ثم شرع رحمه الله تعالى في ذكر حجج كلتا الطائفتين (2).

وقال في آخر حديثه: قالوا: وأما قولكم: هذا تائب نادم، فكيف تسد عليه طريق التوبة؟ ويجعل إثم التضييع لازماً له، وطائراً في عنقه؟ فمعاذ الله أن نسد عليه باباً فتحه الله لعباده المذنبين كلهم، ولم يغلقه عن أحد إلى حين موته، أو إلى وقت طلوع الشمس من مغربها.

وإنما الشأن في طريق توبته، وتحقيقها هل يتعين لها القضاء؟ أم يستأنف العمل، وقبول التوبة؟

فإنَّ تركَ فريضة من فرائض الإسلام لا يزيد على ترك الإسلام بجملته، وفرائضه، فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادةُ ما فاته في حال إسلامه_أصلياً كان أم مرتداً_كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء_فقبول توبة تارك الصلاة، وعدم توقفها على القضاء أولى، والله أعلم (3).

فتوبة تارك الصلاة إذاً تكون بالندم، وبأداء الصلوات المستأنفة، ولا يؤمر بالقضاء.

ومما يعين الإنسان على المحافظة على الصلاة أن يستعين بالله عز وجل وأن يعزم على أدائها عزيمة جازمة، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك من استعمال المنبه حال النوم، وترك فضول الطعام والشراب.

ومن ذلك أن يستحضر الآثار المتربتة على ترك الصلاة من تكدر النفس، وانقباضها، وضيق الصدر، وتعسير الأمور.

ومن ذلك أن يستحضر الثمرات المترتبة على أداء الصلاة، وهي كثيرة لا تحصى.

ثانياً: التوبة من الربا والعياذ بالله:

(حكم الربا:

(1) مدارج السالكين 1/ 380.

(2)

انظر مدارج السالكين 1/ 380_390.

(3)

مدارج السالكين 1/ 390.

ص: 151

الربا محرم بالقرآن والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال:{{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} } [البقرة: 275]، وقال تعالى:{{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} } [البقرة: 278، 279]، ولأن الرسول:«لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء»

وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال: لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء.

والربا من السبع الموبقات بنص السنة الثابتة الصحيحة

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال:(الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).

(اجتنبوا) أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي

(السبع الموبقات) بضم الميم وكسر الموحدة التحتية المهلكات جمع موبقة وهي الخصلة المهلكة أو المراد الكبيرة أجملها وسماها مهلكات ثم فصلها ليكون أوقع في النفس.

الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم (أكل الربا) أي تناوله بأي وجه كان

، فهو من أعظم الكبائر.

[*] (وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتابه «إبطال التحليل» ، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه.

(الربا سبعون حوباً) حوباً: أي إثما

(حديث عبد الله بن حنظلةالثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: درهم ربا يأكله الرجل و هو يعلم أشد عند الله من ستة و ثلاثين زنية.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

ص: 152

(درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم) أي والحال أنه يعلم أنه رباً أو يعلم الحكم فمن نشأ بعيداً عن العلماء ولم يقصر فهو معذور

(أشد عند اللّه من) ذنب (ستة وثلاثين زنية)

قال الطيبي: إنما كان أشد من الزنا لأن من أكله فقد حاول مخالفة اللّه ورسوله ومحاربتهما بعقله الزائغ. قال تعالى: {فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله} أي بحرب عظيم فتحريمه محض تعبد ولذلك رد قولهم {إنما البيع مثل الربا} وأما قبح الزنا فظاهر شرعا وعقلاً وله روادع وزواجر سوى الشرع فأكل الربا يهتك حرمة اللّه والزاني يخرق جلباب الحياء اهـ. وهذا وعيد شديد لم يقع مثله على كبيرة إلا قليلاً. قال الحرالي: وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية لنفسه حق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه من جهة غيره فيتورع عن أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما خبيء له في الآجل. قال سبحانه وتعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً} فهو آكل نار وإن لم يحس به. وكما عرّف اللّه تعالى أن أكل مال الغير نار في البطن عرف أن أكل الربا جنون في العقل وخبال في النفس {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان} وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته عند مخرجه أحمد في الحطيم هكذا ذكره وكأنه سقط من قلم المصنف.

وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.

{تنبيه} : (وللربا آثار نفسية وخلقية مدمرة؛ ذلك أن المرابي يستعبده المال، فيسعى للوصول إليه بكل سبيل دونما مبالاة باعتداء على المحرمات، أو تجاوز للحدود.

والربا ينبت في النفس الجشعَ، والظلمَ، وقسوة القلب. بل إن الربا يحدث آثاراً خبيثة في نفس متعاطيه وتصرفاته، وأعماله، وهيئته.

ويرى بعض الأطباء أن الاضطراب الاقتصادي الذي يولد الجشع الذي لا تتوافر أسبابه الممكنة_يسبب كثيراً من الأمراض التي تصيب القلب، فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر، أو الذبحة الصدرية، أو الجلطة الدموية، أو النزيف في المخ، أو الموت المفاجىء.

ولقد قرر عميد الطب الباطني في مصر الدكتور عبد العزيز إسماعيل في كتابه (الإسلام والطب) أن الربا هو السبب في كثرة أمراض القلب (1).

(1) انظر الربا وأثره على المجتمع الإنساني د. عمر الأشقر ص101_133.

ص: 153

ثم إنه مزيل للترابط والتآخي والتكافل بين الناس، فأضراره على الأفراد والمجتمعات كثيرة جداً (1).

(وبناءاً على ما تقدم فالتوبة من الربا واجبة على الفور، وتكون بترك الربا، والندم على ما مضى من التعامل به، والعزم على عدم العود إليه.

مسألة: الأموال التي اكتسبها التائب من الربا والتي هي تحت يده كيف يتصرف فيها؟

الجواب:

الأموال التي اكتسبها التائب من الربا فقد اختلف أهل العلم في حكمها على قولين:

(القول الأول: أنه يجب عليه أن يخرجها ولا يبقيها في ماله:

[*] (قال القرطبي رحمه الله تعالى في الجامع لأحكام القرآن 2/ 366_367: قال علماؤنا: إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من رباً فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضراً، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه.

إلى أن قال: فإن التبس عليه الأمر، ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده؛ حتى لا يشك أن ما بقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه، وأربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً؛ لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه.

(القول الثاني: إن على المرابي أن يخرج ما بيده من الربا إن كان قد قبضه وهو يعلم حكم الله في ذلك، وأما إن كان قد قبضه وهو جاهل فهو له، ولا يجب عليه إخراجه.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

من أسلم على شيء فهو له.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(من أسلم على شيء فهو له) استدل به على أن من أسلم أحرز نفسه وماله.

ورد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية سؤال يقول: إذا كان رجل يتعامل بالربا، وأراد التوبة، فأين يذهب بالمال الناتج من الربا، هل يتصدق به إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ما مدى تأثير هذا القول على مال الربا؟

(1) مرجع سابق.

ص: 154

وأجابت اللجنة في الفتوى رقم (6375) في 20/ 11/ 1403هـ بما نصه: يتوب إلى الله، ويستغفره، ويندم على ما مضى، ويتخلص من الفوائد الربوية بإنفاقها في وجوه البر وليس هذا من صدقة التطوع، بل هو من باب التخلص مما حرم الله.

وجاء في الفتوى رقم (18057) وتاريخ 17/ 7 / 1416هـ من فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: لا يجوز أخذ الفوائد الربوية من البنوك أو غيرها بحجة أنه سينفقها على الفقراء؛ لأن الله حرم الربا مطلقاً، وشدد الوعيد فيه، ولا تجوز الصدقة منه، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لكن إذا كان قد قبض الفوائد الربوية فعليه أن يصرفها على الفقراء؛ تخلصاً منها، وليس له أن يستفيد منها.

وجاء كلام قريب من هذا في الفتوى رقم (6770) في 12/ 3/ 1404هـ، والفتوى رقم (16576) في 7/ 2/ 1414هـ من فتاوى اللجنة.

() جاء في إجابة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن سؤال حول التعامل بالربا مع البنوك ما نصه:

يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالاً لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إن كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك.

أما إذا كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقوله عز وجل: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[البقرة 278: 279] أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:] 275

وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم؛ فإنها من جملة ماله؛ للآية المذكورة، والله ولي التوفيق. فتاوى مهمة تتعلق بالزكاة من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أشرف على طبعه محمد بن شايع العبد العزيز ص25_26.

مسألة: ما حكم المال المختلط؟

الجواب:

ص: 155

[*] (قال فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله: وذكر بعض أهل العلم وبعض محققيهم أن من بيده أموال محرمة بوصفها لا بأصلها، كالأموال الربوية مما ليس له أفراد معينون وهي مختلطة بماله الحلال، وبثمن مجهوده في الاكتساب بها؛ فإذا تاب من بيده هذه الأموال توبة نصوحاً مستكملة شروط التوبة إلى الله تعالى فإنه يُقَرُّ على ما بيده، وتوبته النصوح تجب ما قبلها ويعتبر ما بيده ملكا له، يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ)[البقرة: 275] وذكروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الموعظة أعم من أن تحصر في انشراح صدر الكافر إلى الإسلام، (وقالوا في توجيه هذا القول: إن الأخذ بهذا يدعو أهل الفسوق إلى التوبة إلى الله، وأن القول بغير هذا_ أي بحرمانه مما بيده _ قد يسد عليه باب التوبة إلى الله، ويعين الشيطان عليه في الاستمرار على أخذ المال الحرام، والتعاون على الإثم والعدوان، وأجابوا عن الآية الكريمة (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) بأن هذه الآية خاصة بالأموال الذميمة المشتملة على الفوائد الربوية، فمن كان له ذمة أحد من الناس مبلغ من المال بعضه ربا فالتوبة تقتضي أن يتقاضى رأس ماله فقط، ويسقط ما زاد عنه من فائدة ربوية [بحوث في الاقتصاد الإسلامي للشيخ عبد الله بن منيع ص34_35]

[*] (وممن قال بهذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى قال: واختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون، وأنه يصح التصرف فيه؛ لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما رد الربا الذي لم يقبض، ولأنه قبض برضا مالكه؛ فلا يشبه المغصوب، ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت، والله أعلم

[الفتاوى السعدية ص218]

ص: 156

(وقال أيضاً: في قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) قال: يعني من المعاملات الربوية؛ فلكم رؤوس أموالكم: لا تظلمون الناس بأخذ الربا، ولا تُظلمون: ببخسكم رؤوس أموالكم؛ فكل من تاب من الربا فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 340]

[*] (وممن قال بهذا القول، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول رحمه الله تعالى في معرض كلام له عن المقبوض بعقد فاسد يعتقد صاحبه صحته ثم ظهر له عدم الصحة ما نصه: وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض واستفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد والأول أمضي، وإذا كان بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربوية أسقطت الزيادة، ورجع إلى رأس المال، ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول [مجموع الفتاوى 29/ 413]

(وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر في تفسير آيات الربا من سورة البقرة: قوله: (فله ما سلف) أي مما كان قبضه من الربا جعله له، (وأمره إلى الله) قد قيل: الضمير يعود إلى الشخص، وقيل: إلى (ما) وبكل حال فالآية تقتضي أن أمره إلى الله لا إلى الغريم الذي عليه الدين، بخلاف الباقي فإن للغريم أن يطلب إسقاطه.

(وقال رحمه الله تعالى في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا): أي ذروا ما بقي من الزيادة في ذمم الغرماء، وإن تبتم فلكم رأس المال من غير زيادة، فقد أمرهم بترك الزياة وهي الربا، فيسقط عن ذمة الغريم، ولا يطالب بها، وهذا للغريم فيها حق الامتناع من أدائها، والمخاصمة على ذلك، وإبطال الحجة المكتتبة بها.

وأما ما كان قبضه فقد قال: فله ما سلف وأمره إلى الله، فاقتضى أن السالف له للقابض، وأن أمره إلى الله وحده لا شريك له، ليس للغريم فيه أمر، وذلك أنه لما جاءه موعظة من ربه فانتهى كان مغفرة ذلك الذنب، والعقوبة عليه إلى الله، وهذا قد انتهى في الظاهر، فله ما سلف وأمره إلى الله إن علم من قلبه صحة التوبة غفر له، وإلا عاقبة، ثم قال: اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فأمر بترك الباقي، ولم يأمر برد المقبوض.

وقال: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا يشترط منها ما قبض.

ص: 157

وهذا الحكم ثابت في حق الكافر إذا عامل كافراً بالربا، وأسلما بعد القبض، وتحاكما إلينا، فإن ما قبضه يحكم له كسائر ما قبضه الكفار بالعقود التي يعتقدون حلها كما لو باع خمراً، وقبض ثمنها، ثم أسلم فإن ذلك يحل له كما قال النبي": من أسلم على شيء فهو له.

وأما المسلم فله ثلاثة أحوال: تارة يعتقد حل بعض الأنواع باجتهاد أو تقليد، وتارة يعامل بجهل، ولا يعلم أن ذلك ربا محرم، وتارة يقبض مع علمه بأن ذلك محرم.

أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبين له فيما بعد أن ذلك ربا محرم، قيل: يرد ما قبض كالغاصب، وقيل: لا يرده، وهو أصح؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك حلال.

والكلام فيما إذا كان مختلفا فيه مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه_فالمسلم المتأول إذا تاب يغفر له ما استحله، ويباح له ما قبضه؛ لأن المسلم إذا تاب أولى أن يغفر له إذا كان قد أخذ بأحد قولي العلماء في حل ذلك؛ فهو في تأويله أعذر من الكافر في تأويله.

وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شراً من الكافر.

[تفسير آيات أشكلت 2/ 574_578]

(وقال رحمه الله تعالى: والشريعة أمر ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي ـ فمن فعل شيئاً لم يعلم أنه محرم ثم علم لم يعاقب، وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة، وقبض منها ما قبض ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى ـ فله ما سلف. [تفسير آيات أشكلت 2/ 582]

(وقال رحمه الله تعالى: والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر، ولا خلاف أنه لو عامله برباً يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئاً ثم تاب أن له رأس ماله؛ فالآية تناولته، وقد قال فيها: اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا، ولم يأمر برد المقبوض، بل قال قبل ذلك: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف.

وهذاـ وإن كان ملعوناً على ما أكله وأوكله ـ فإذا تاب غفر له، ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه، وتقلب، وقد يكون أكله، ولم يبق منه شيء، وقد يكون باقياً، فإن كان قد ذهب، وجعل ديناً عليه كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفراً عن التوبة. وهذا الغريم يكفيه إحساناً إليه إسقاطه ما بقي في ذمته، وهو برضاه أعطاه، وكلاهما ملعون.

ص: 158

ولو فرض أن رجلاً أمر رجلاً بإتلاف ماله وأتلفه لم يضمنه وإن كانا ظالمين، وكذلك إذا قال: اقتل عبدي، هذا هو الصحيح، وهو المنصوص عن أحمد وغيره؛ فكذلك هذا هو سلَّط ذاك على أكل هذا المال برضاه؛ فلا وجه لتضمينه ـ وإن كانا آثمين ـ كما لو أتلفه بفعله، إذ لا فرق بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه، بل أكله خير من إحراقه، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى.

وأيضاً فكثير من العلماء يقولون: إن السارق لا يغرم؛ لئلا يجتمع عليه عقوبتان؛ من أن الحد حق لله، والمال حق لآدمي.

وهذا أولى؛ لئلا يجتمع على المربي عقوبتان: إسقاط ما بقي، والمطالبة بما أكل.

وإذا كان عين المال باقياً فهو لم يقبضه بغير اختيار صاحبه كالسارق، والغاصب، بل قبضه باتفاقهما، ورضاهما بعقد من العقود، وهو لو كان كافراً ثم أسلم لم يرده، وقد قال تعالى: =فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله.

[تفسير آيات أشكلت 2/ 588_590]

(وقال رحمه الله تعالى: وأما الذي لا ريب فيه عندنا فهو ما قبضه بتأويل، أو جهل _ فهنا له ما سلف بلا ريب، كما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.

وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر؛ فإنه قد يقال: طرد هذا أن من اكتسب مالاً من ثمن خمر مع علمه بالتحريم فله ما سلف، وكذلك كل من كسب مالاً محرماً ثم تاب إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغي، وحلوان الكاهن.

ثالثاً: التوبة من الزنا والعياذ بالله:

(مفاسد الزنا والعياذ بالله:

الزنا فسادٌ كبير، أمره خطير وشره مستطير، له آثار كبيرة، وتنجم عنه أضرار كثيرة، سواء على مرتكبيه، أو على الأمة بعامة، وبما أن الزنا يكثر وقوعه ويجب تحذير الناس من شره لأنه أشر من البرص وأضر من الجرب، وجب علينا أن نبين مفاسد الزنا والعياذ بالله تعالى منه حتى يجتنبه المسلمون ولا يقتربوا من أي طريق يُقَرِّبُ منه امتثالاً لقوله تعالى:(وَلَا تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً)[الإسراء: 32]

ص: 159

فالزنا حرامٌ، وهو من كبائر الذُّنوب، حتى إن الله عز وجل قد قَرَنَهُ مع الشرك بالله والقتل في قوله تعالى:(والذينَ لا يَدْعونَ معَ اللهِ إِلهاً آخرَ ولا يَقتُلونَ النَّفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا يَزْنونَ، ومَنْ يفعلْ ذلكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لهُ العذابُ يومَ القيامةِ ويَخْلُدْ فيهِ مُهاناً * إلا مَنْ تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاُ صالحاً فأُولئكَ يبدَّلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكانَ اللهُ غفوراً رحيماً)[الفرقان 68 – 70]

والزنا فعلٌ يُسيء للمجتمع أشدَّ الإساءة فهو يؤدي لاختلاط الأنساب، وينتهي إلى خراب البيوت وهو من أكثر العوامل التي تدفع إلى الجريمة، فكم من جنين أُجهض لأنه كان ثمرةً للزنى! وكم من بنت قُتلت دفاعاً عن شرف العائلة وسُمعتها! وكم من زوج قَتَلَ زوجتَهُ أو عشيقها أو قتلهما معاً، وكم من زوجة قتلت زوجها وعشيقته أو قتلتهما معاً انتقاماً للخيانة الزوجية.

[*] وقد تحدث الإمام ابن القيم عن مفاسد الزنا فقال رحمه الله تعالى:

والزنا يجمع خلال الشرِّ كلها، من قلة الدين وذهاب الوَرَع، وفساد المروءة وقلة الغَيرة، فلا تجد زانياً معه ورع ولا وفاء ولا صدق في حديث ولا محافظة على صديق ولا غَيْرَة تامة على أهله! ومن موجباته غضب الربِّ بإفساد حرمة عياله، ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره .. ومنها أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أن يسلبه أحسن الأسماء ويعطيه أضدادها، ومنها ضيق الصدر وحرجه، فإن الزناة يعامَلون بضدِّ قصدهم، فإنَّ من طلب لذة العيش وطيبه بما حرَّمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قطّ.

[*] والزنا يجمع خلال الشر كلها منها ما يلي:

(1)

الزنا يجمع خلال الشر كلها من: قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة.

(2)

يقتل الحياء ويلبس وجه صاحبه رقعة من الصفاقة والوقاحة

(3)

سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين

(4)

ظلمة القلب، وطمس نوره.

(5)

الفقر اللازم لمرتكبيه، وفي أثر يقول الله تعالى:((أما مهلك الطغاة، ومفقر الزناة)

(6)

أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه وأعين عباده، ويسلب صاحبه اسم البر، والعفيف، والعدل، ويعطيه اسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن

ص: 160

(7)

الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماماً.

(8)

أن الناس ينظرون إلى الزاني بعين الريبة والخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته وأولاده.

(9)

ومن أضراره الرائحة التي تفوح من الزاني، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه، ومن جسده.

(10)

ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط.

(11)

الزاني يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.

(12)

الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة الأهل والعيال وربما قاد إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر والشرك وهو يدري أو لا يدري؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخرى من المعاصي بعدها؛ فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند من المعاصي بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.

(13)

الزنا يذهب بكرامة الفتاة ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكس به رؤوسهم بين الخلائق

(14)

أن العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ إلا إن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعاً، وتغسل عاره عادة، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته ـ وإن طهرت صاحبها تطهيراً، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة ـ يبقى لها أثر في النفوس، ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها وإن ظهرت توبتها؛ مراعاة للوصمة التي أُلصقت بعرضها سالفاً، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام 0

(15)

إذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها

ص: 161

(16)

أن الزنا جناية على الولد؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به فعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه،، كذلك فيه جناية عليه، وتعريض به؛ لأنه يعيش وضيعاً في الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتباراً؛ فما ذنب هذا المسكين؟ وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟!

(17)

زنا الرجل فيه إفساد المرأة المصونة وتعريضها للفساد والتلف

(18)

الزنا يهيج العداوات، ويزكي نار الانتقام بين أهل المرأة وبين الزاني، ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته، فيكون ذلك مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار والفضيحة الكبرى، ولو بلغ الرجل أن امرأته أو إحدى محارمه قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت، وكان لسان حاله يقول: ليتها ماتت قبل ذلك قبل أن تورد نفسها المهالك وتكون مطمعاً لكلِ هالك.

(حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين) أنه قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال:(أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني).

(سعد بن عبادة) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم

(غَيْرَ مُصْفَّحٍ): صفح السيف أي عرضه، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه.

(19)

للزنا أثر على محارم الزاني، فشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يسقط جانباً من مهابتهن ـ كما مر ـ ويسهل عليهن بذل أعراضهن ـ إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه، ولا يرضاه لغيره؛ فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه، وتساعده على أن يكون بيته طاهراً عفيفاً.

(20)

للزنا أضرار جسيمة على الصحة يصعب علاجها والسيطرة عليها، بل ربما أودت بحياة الزاني، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان، ونحوها

(21)

الزنا سبب لدمار الأمة؛ فقد جرت سنة الله في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله عز وجل ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة

ص: 162

[*] قال ابن مسعود: ((ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها)

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم.

(22)

وَهُوَ فاحشة مهلكة وجريمة موبقة وفساد لا تقف جرائمه عَنْدَ حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية وَهُوَ ضلال في الدين وفساد في الأَخْلاق وانتهاك للحرمَاتَ والأعراض واستهتار بالشرف والمروءة، وداعية للبغضاء والعداوة.

(23)

عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطأطئ الرؤس العالية ويسود الوجوه البيض ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضًا ويخرس الألسنة البليغة ويبدل أشجع النَّاس من شجاعتهم جبنًا لا يدانيه جبن ويهوي بأطول النَّاس أعناقًا وأسماهم مقامًا وأعرقهم عزًّا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة لَيْسَ لها من قرارٍ.

وَهُوَ أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما تسع ونباهة الذكر مهما بعدت وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كَانَ في بيوتهم لفتة احترامٍ وَهُوَ أي الزنا لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كُلّ صحائفه البيض وتركت العيون لا تَرَى منها إِلا سوادًا حالكًا.

(24)

وَهُوَ الذنب الظلوم الَّذِي إن كَانَ في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم بل يمتد شينه إلى من سواها مِنْهُمْ فيشينهن جميعًا شينًا يترك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي وَهُوَ العار الَّذِي يطول عمره طولاً فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعَلَيْهِ.

[*] ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب المؤدية إلى الزنا، وجميع الدوافع الدافعة إليه

(حديث أبي موسى في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية و كل عين زانية.

ص: 163

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(أيما امرأة استعطرت) أي استعملت العطر أي الطيب يعني ما يظهر ريحه منه (ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها) أي بقصد ذلك

(فهي زانية) أي كالزانية في حصول الإثم وإن تفاوت لأن فاعل السبب كفاعل المسبب قال الطيبي: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنا بالزنا مبالغة وتهديداً وتشديداً عليها (وكل عين زانية) أي كل عين نظرت إلى محرم من امرأة أو رجل فقد حصل لها حظها من الزنا إذ هو حظها منه وأخذ بعض المالكية من الحديث حرمة التلذذ بشم طيب أجنبية لأن اللّه إذا حرم شيئاً زجرت الشريعة عما يضارعه مضارعة قريبة وقد بالغ بعض السلف في ذلك حتى كان ابن عمر رضي الله عنه ينهى عن القعود بمحل امرأة قامت عنه حتى يبرد.

(وحذر نبي الأمة والرحمة من الدخول على النساء أو الاختلاط لأن ذلك مما قد يدفع ضعاف النفوس إلى ممارسة هذه الفاحشة العظيمة المشينة المحرمة

(حديث عقبة بن عامر في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم و الدخول على النساء قالوا: يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال: الحمو الموت أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إياكم والدخول على النساء) بالنصب على التحذير وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز منه أي اتقوا الدخول النساء، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بأجنبية بالأولى والنهي ظاهر العلة والقصد به غير ذوات المحارم، ذكر الغزالي أن راهباً من بني إسرائيل أتاه أناس بجارية بها علة ليداويها فأبى قبولها فما زالوا به حتى قبلها يعالجها فأتاه الشيطان فوسوس له مقاربتها فوقع عليها فحملت فوسوس له الآن تفتضح فاقتلها وقل لأهلها ماتت فقتلها وألقى الشيطان في قلب أهلها أنه قتلها فأخذوه وحصروه فقال له الشيطان: اسجد لي تنج فسجد له، فانظر إلى حيله كيف اضطره إلى الكفر بطاعته له في قبوله للجارية وجعلها عنده

(قالوا: يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال: الحمو الموت) والحمو أخو الزوج وقريبه، الحمو الموت: أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في

الاستقباح والمفسدة فهو محرم

ص: 164

شديد التحريم وإنما بالغ في الزجر بتشبيهه الموت لتسامح الناس في ذلك حتى كأنه غير أجنبي من المرأة وخرج هذا مخرج قولهم الأسد الموت أي لقاؤه يقضي إليه وكذا دخول الحمو عليها يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم كخلوة امرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة لأن موقع امتناع الرجل من النظر بشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية وذاك أنست به النفس الشهوانية.

{تنبيه} :فإذا كان هذا مع أخ الزوج، فما بالنا بمن يتركون الرجال الأجانب يدخلون على نساءهم ومحارمهم دون أن يحرك ذلك ساكناً فيهم من شعور بالغيرة على أعراضهم ومحارمهم، مدعين بذلك العفة لدى الجنسين، وأقول: والله إنه ضعف في الدين، وقلة حيلة لدى أولئك المساكين.

ولهذا قال تعالى محذراً من الدخول على النساء: (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب) ثم ذكر المولى جل وعلا الحكمة البالغة من ذلك فقال: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)[الأحزاب 53]، وحرَّم الإسلام على المرأة أن تخرج أمام الرجال الأجانب وهي متخذة زينتها لما في ذلك من جنوح إلى الذنب والمعصية، وإقبال على الفاحشة والرذيلة، واستمالة ضعاف النفوس والإيمان والتقوى للانجراف في بحر الفاحشة، والوقوع في براثن الزانيات العاهرات الداعيات إلى البعد عن عالم الخفيات فاطر الأرض والسموات، قال تعالى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ)[سورة: النور - الآية: 31]

ص: 165

ثم أمر المولى جلت قدرته عباده الذين لا يستطيعون النكاح ولا يجدون له طريقاً ومسلكاً، أمرهم بالعفة إلى أن يكتب الله لهم ذلك، قال تعالى:(وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)[سورة: النور - الآية: 33]

(وحذر الله تعالى عباده من كل ما من شأنه أن يكون ذريعة إلى فعل فاحشة الزنا، من الستر وعدم الاختلاط بين الرجال والنساء، وعدم التكسر في كلام النساء مع الرجال، وعدم خروج المرأة من بيتها بغير محرم لأن ذلك يفضي إلى عواقب وخيمة، فيه فساد هذه الأمة، وجاء الخطاب صريحاً لأمهات المؤمنين، وقصد به نساء الأمة أجمعين،

قال تعالى: (يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ وَأَقِمْنَ الصّلَاةَ وَآتِينَ الزّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)[الأحزاب 32/ 33]

[*] والزنا من أكبر الكبائر بعد الكفر والشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وهو محرم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة الذي نقله كثير من أهل العلم،

قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً)[الإسراء / 32]

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن.

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا زَنَى العَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الاْيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلّةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ الإيمان» .

ص: 166

(فجاء التحريم مواكباً لما تقتضيه الطبيعة البشرية، ولما يسببه الزنا من أضرار وأمراض بالغة، سواءً العضوية أو النفسية أو الاجتماعية، فالزنا يسبب أمراضاً خطيرة وفتاكة بالجسم، ويؤدي إلى اضطراب المجتمعات، وتفكك الأسر، ولا أدل على ذلك من التفكك والضياع الذي تعيشه معظم الأسر الغربية وانحلال الحياء بسبب اقتراف فاحشة الزنا، فمجتمع لا هم له إلا إشباع شهواته الغريزية، ولذاته الجنسية، ذاك مجتمع فاشل هابط ساقط، ولا يأمن بعضه بعضاً لاستفحال هذه الفاحشة فيهم. فهم معرضون لشديد عقاب الله وأليم عذابه.

فعند إقدام الزاني على الزنا وعند قيامه به في هذه الحالة قد ارتفع الإيمان فوق رأسه فهو بلا إيمان، ففي هذه الحالة انتفى الإيمان من قلبه وجوارحه حتى يترك هذه المعصية ـ عياذا بالله من ذلك ـ فكيف إذا جاء ملك الموت لتنفيذ أمر الله وقبض الأرواح، والزناة والزواني في هذه الحالة التي تغضب جبار السموات والأرض، كيف سيكون المصير؟ كيف وقد خرج الإيمان وجاء الموت؟ على أي حال كان هذا الزاني وهذه الزانية؟ إنهما كانا على حال تُغضب الله العزيز الجبار شديد العقاب، فالله يمهل للظالم ولا يهمله، وإذا أخذه لم يُفلته، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر

(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

(إن اللّه تعالى لَيملي) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر (للظالم) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} فإمهاله عين عقابه

(حتى إذا أخذه) أي أنزل به نقمته (لم يُفلته) أي لم يفلت منه.

(فهل هناك أقبح من أن يأتي رجل امرأة لا تحل له؟ وهل هناك أفظع من أن يضع رجل نطفته في فرج حرام لا يحل له؟ فكيف إذا داهم ملك الموت هؤلاء الزناة؟ كيف سيكون الخلاص؟ وأين المهرب والملتجأ؟ وأين الناصرون؟ وأين المنقذون؟ وأين الآمرون بالزنا؟ وأين شيطانهم الذي دفعهم لارتكاب تلك الفاحشة الشنيعة؟ إن الشيطان الذي زين لهم القيام بالزنا وهون أمره في قلوبهم سيتخلى عنهم في ذلك الموقف العصيب الرهيب، ومن ينفع إذا جاء الموت، وغرغرت الروح وبلغت الحلقوم، والله لن ينفع العاصي في تلك اللحظة أحد من الخلق أجمعين ـ فنسأل الله أن يحسن خاتمتنا ـ

ص: 167

ماذا سيقول الزناة لهادم اللذات؟ ومفرق الجماعات؟ ماذا سيقولون لملك الموت؟ أيقولون أمهلنا حتى نتوب إلى الله، أم يقولون انظرنا حتى نعاهد الله ألا نعود لمثل ذلك؟ يقول الله جل شأنه في أمثال أولئك:

(حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * قال تعالى: (لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون 100،99]

(أتدري ما البرزخ؟ إنه حياة القبر وما أعده الله للزناة والزواني فيه من ألوان العذاب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه،

قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرّطُونَ * ثُمّ رُدّوَاْ إِلَىَ اللّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)[الأنعام 61/ 62]،

قال تعالى: (قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ)[سورة: المؤمنون - الأية: 106] * رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ) (المؤمنون 106/ 107/108).

إن هناك من العذاب مالا تطيقة الجبال الراسيات، فضلاً عن أن يطيقه إنسان اكتسى لحماً وعظماً،

أما كان لهؤلاء أن يصبروا على طاعة الله، ويصبروا عن معاص الله، ويعلموا أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وقد أمروا بترك الزنا والابتعاد عنه وأوجد لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام طريقاً ومسلكاً يتبعه من لا يستطيع الباءة والقدرة على الزواج من البنين والبنات، فبين نبي الرحمة والهدى معالم الدين الحنيف لكافة الأمة، كيف لا؟ وقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى:(لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ)[سورة: التوبة - الآية: 128]

، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين الطريق الأمثل لمن لم يستطع الزواج والقدرة عليه في الحديث الآتي:

ص: 168

(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجدُ شيئاً فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغضُ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)

(ثم ماذا بعد الموت؟ أين مصير الزناة والزواني؟

قال تعالى: (وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[سورة: المؤمنون - الآية: 100]

البرزخ كما قلنا هو حياة القبر، فماذا سيكون مصيرهم هناك، إنه تنور (فرن) أسفله واسع وأعلاه ضيق يوضع فيه الزناة والزواني ويأتيهم العذاب والنار من تحتهم وهم يصرخون ويصيحون، فمن ينصرهم في ذلك الموقف العسير؟ فلا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم أجِرْنَا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة

ثم كيف بالزناة والزواني يخشون الناس ولايخشون الله، ويستحيون من الناس ولايستحيون من الله، ويستخفون من الناس ولايستخفون من الله. فتراهم يهربون إلى أماكن بعيدة حتى لا يراهم أحد من الناس، ونسوا بل تناسوا أن الله يراهم وينظر إليهم في تلك اللحظات المشينة،

قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَا يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)[سورة: النساء - الآية: 108]

قال تعالى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مّؤُمِنِينَ)[سورة: التوبة - الآية: 13] ولكنه اتباع الهوى والشهوات، والبعد عن خالق الأرض والسموات،

قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلَاةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً)[مريم / 59]

مسألة: ما هو الغي في قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً)؟

الغي في قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً): هو وادٍ في جهنم بعيد قعره، فيه من ألوان العذاب مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، نسي أولئك أنهم سيعودون إلى الله سبحانه وتعالى فيجازيهم بأعمالهم،

قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)

[المؤمنون / 115]

وأنه سبحانه سيُذَكِّرْهُم ويُقَرِّرْهُم بما عملوا، فإن نسوا هم فإن الله لا ينسى

ص: 169

قال تعالى: (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلَا يَنسَى)[طه: 52]، نسوا أن الله سيسجل عليهم ذلك ويجدونه في صحائف أعمالهم، قال تعالى:(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً)[سورة: الكهف - الآية: 49]،

وقال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوَاْ أَحْصَاهُ اللّهُ وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المجادلة: 6]

والآيات الدالة على البعث والحساب كثيرة وأن هؤلاء العصاة والبغاة سيعودون إلى الله ويحاسبون على أعمالهم الشنيعة التي أغضبت المولى جل وعلا، وسيحاسبون على أفعالهم القبيحة التي لا يرضى عنها حتى من لا يؤمن بالله، فالطباع السليمة لا ترضى مثل هذه الفاحشة التي توجب غضب الله وعقابه وسخطه ومقته، وعندما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على ألا يشركن بالله شيئاً ولايسرقن ولا يزنين، قالت هند بنت عتبة: أوَ تزني الحُرة؟ تقول وبكل تعجب أو تزني الحرة يا رسول الله؟!، أي أن المرأة الحرة لا تزني أبدا، ما كان نساء الصحابة رضوان الله عليهن يصدقن أن الحرة تزني، ما كن يعرفن الزنا، لأنه لم يكن موجوداً عند أهل الإيمان والتقوى، فصاحب الزنا يشعر بأنه من أفسق الناس ومن أفجرهم ومن أجرم الناس على الإطلاق، فهو أيضاً يُحس بوحشة وضيق في صدره من شناعة الجُرم والفاحشة التي قام بها فيتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه من قُبح ما فعل، فإذا فعل فعلته التي فعل، وانتهى من جرمه الذي عمل، ضاق صدره وتألم قلبه لسوء فعلته، وَخَسَاسَةِ عمله فيُحس بقذارة ما فعل من فاحشة (الزنا) ويتمنى لو أنه لم يفعلها فيريد التوبة والعودة والإنابة إلى الله سبحانه، والإقلاع عن تلك المعصية، ولكن يأتيه الشيطان فيهون عليه تلك المعاصي والآثام، ويُطمئِنُ قلبه بفعل تلك الذنوب العظام، والكبائر الجسام، والموبقات المهلكات، فيهلكه بفعلها ويغرقه في لجج المعاصي والآثام فيقع فريسة سهلة للشيطان، فتضيق عليه معيشته ويصبح كثير الشكوك وافر الظنون، لأنه يخاف أن يفعل الناس بأهله الفاحشة كما يفعلها هو بمحارم الناس (فكما تدين تدان)،

ص: 170

(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.

(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.

فصاحب الزنا يعيش بصير العين أعمى القلب، ومن عمي قلبه فحياته فيها من التعاسة الشيء الكثير، فهو خائف وقلق وفزع من هول تلك المعصية فيخاف من العقوبة في الدنيا، أما الآخرة فقد نسيها ونسي الخالق سبحانه فالله سوف ينساه لأنه ما عرف لله حقاً، وما ترك لله حداً، فالجزاء من جنس العمل.

قال تعالى: (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ)[سورة: التوبة - الآية: 67]

قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُوْلََئِكَ حِزْبُ الشّيْطَانِ أَلَا إِنّ حِزْبَ الشّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ)[سورة: المجادلة - الآية: 19]

(تفاوت فاحشة الزنا والعياذ بالله:

(تتفاوت فاحشة الزنا والعياذ بالله بحسب مفاسدها؛ والزنا بذات الزوج أشد من الزنا بالتي لا زوج لها؛ لما فيه من الظلم، والعدوان عليه، وإفساد فراشه، وقد يكون هذا أشد من مجرد الزنا أو دونه، والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار، لما يقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله ورسوله وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة:

(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت النبي: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك). قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} .

(حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره.

ص: 171

وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها، ولهذا يقال للغازي: خذ من حسنات الزاني ما شئت، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:

(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم؟

وكذلك الزنا بذوات المحارم أعظم جرماً، وأشنع، وأفظع؛ فهو الهلك بعينه

وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان، والأحوال؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم منه فيما سواها.

(وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من المحصن أقبح من البكر، ومن الشيخ أقبح من الشاب، ومن العالم أقبح من الجاهل، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز

وقد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتأليهه، وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله، ومعاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه، ما قد يكون أعظم ضرراً من مجرد

تنبيه: ونظراً للمفاسد العظيمة التي تنتج عن الزنا والعياذ بالله فقد حذَّر الشارع من مقاربة الزنا أو من الظروف والدواعي التي يمكن أن تقود إليه، فقال تعالى:(ولا تَقربوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحشةً وساءَ سبيلاً)) الإسراء 32، وجعل حواجز تحول دون الوقوع في الفواحش، فدعا إلى الزواج للمستطيع، وحذَّر من العقوبة الدينية والدنيوية، وحض على العفة، وجعل هناك عدداً من الأمراض الجنسية الخطيرة التي تصيب بصورة خاصة أولئك الذين يرتكبون الفواحش ..

(قصص وعبر لسوء عاقبة الزناة والعياذ بالله:

ص: 172

[*] قيل أن راهباً يُسمى برصيصاً كان يعبد الله ستين سنة، وأن الشيطان أراد أن يغويه فما استطاع، فعمد الشيطان إلى امرأة فأجنها وكان لها أخوة فقال الشيطان: لإخوتها عليكم بهذا القُس، فيداويها، فجاءوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فطلبوها، فقال الشيطان للراهب أنا من عمل بك هذا لأنك أتعبتني، فأطعني أنقذك منهم، فاسجد لي سجدة، فلما سجد له، قال: إني برئ منك، إني أخاف الله. (رواها بن جرير في تفسيره

[*] وفي واقعنا وفي زماننا هذا كثيرٌ من مآسي الزناة والزواني (الجبلة النَكِدَة الذين فيهم عِوجٌ لا يُرجى اعتداله والذين لا يهناؤون، ولا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم حال إذا لم يرتكبوا الفاحشة)، يُحكى أن شاباً سافر إلى بلاد الكفر والفجور والفسق والسفور، من أجل الزنا وشرب الخمور، سافر هذا الشاب إلى تلك البلاد، وفي يوم من الأيام وبينما هو في غرفته ينتظر تلك العاهرة أن تأتيه، إذا بها قد تأخرت عن موعدها، وعندما أتت ودخلت عليه غرفته، شهق شهقة عالية وسجد لها، فكانت هذه السجدة هي السجدة الأولى والأخيرة في حياته، لكن لمن كانت هذه السجدة؟ وما سببها؟ وما نتائجها؟

أخي الحبيب: إنه سوء الخاتمة، أعاذنا الله من ذلك.

أين أولئك من أولئك الرجال الذين ملأ الإيمان بالله والخوف منه سبحانه ملأ قلوبهم وجوارحهم، وأين أولئك النساء عن تلكم اللاتي منعهن تقوى الله والحياء منه، وخوفهن من عذاب القبر وشدة الحساب وعظمة الوقوف بين يديه الله سبحانه، كل ذلك، فأين الخائفون من عذاب الله وسخطه ومقته وعقابه، إذ كيف يُنعم الله على هؤلاء بشتى النعم، من مأكل ومشرب وملبس، وغير ذلك من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، ثم يستغلون هذه النعم في معصية الخالق المنعم تعالى وتقدس، فبدل أن يقابلوا هذه النعم وهذا الإحسان بالشكر والعرفان لله جل وعلا، قابلوا ذلك كله بالكفر والعصيان وارتكاب المعاصي والآثام، بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا أنفسهم دار البوار. أهكذا يكون جزاء هذا الإحسان، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مسألة: هل يجوز لعن بعض عصاة المسلمين؟

الجواب:

أن لعن بعض عصاة المسلمين على سبيل العموم جاءت النصوص الشرعية بلعن أصحاب بعض المعاصي على سبيل العموم والإطلاق، بذكر وصف المعصية.

ومما ورد في ذلك ما يلي:

ص: 173

قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

و قول الله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].

ومن السنة الصحيحة ما يلي:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).

(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة).

(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض).

(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء.

(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه).

فهذه النصوص ونحوها تدل على جواز لعن فاعل تلك المعاصي لا على جهة التعيين للأشخاص، بل يلعن العاصي بوصفه لا بشخصه، فيقال مثلاً: لعن الله آكل الربا، ولعن الله السارق، أو أكلة الربا ملعونون، والسارقون ملعونون، ولعنة الله على الظلمة، وعلى الكاذبين ونحو ذلك.

{تنبيه} : وهذا اللعن على سبيل العموم لأصحاب المعاصي التي جاءت النصوص بلعن فاعليها لا خلاف في جواز

قال الإمام النووي في شرحه لحديث: "لعن الله السارق" " هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله}

اللعن العام يدل على أن من فعل تلك المعصية فهو مستحق للعنه، ومعرض للعقوبة، فيحصل من هذا الإطلاق الزجر والردع عن ارتكاب تلك المعصية، وهذه اللعنة العامة المذكورة في النص قد تلحق بعض الأشخاص فتكون سبباً في عذابه ويكون معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

[*] قال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد"(1/ 226)

ص: 174

"الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز، فإذا رأيت محدثا، فلا تقل لعنك الله، بل قل: لعنة الله على من آوى محدثا، على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم! العن فلانا وفلانا وفلانا) نهي عن ذلك بقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) رواه البخاري" اهـ.

(التفسير الشرعي لوقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله:

مسألة: ما هو التفسير الشرعي لوقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله؟

فصل الخطاب في هذه المسألة:

[*] أن ما يحصل من وقوع العصاة في جريمة الزنا الشنعاء والعياذ بالله ما هو إلا من سقامة الضمائر ولؤمِ السرائر وفسادِ النية وسوءِ الطوية، بل هو من دناءة نفوسهم وخِسةِ طبعهم وسواد قلوبهم ورداءةِ معدنهم وهوانهم على ربهم

، إذ لو علم الله في قلوبهم خيراً لعصمهم من الزلل، ووفقهم لصالح العمل والله تعالى يقول:(إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً)[الأنفال / 70]

فإنه من يتحرَّ الخيرَ يُعطَه ومن يتقِ الشرَ يُوَقَّه مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:

(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه.

ص: 175

ولو أحبهم الله تعالى لصانَهم بصيانتِه وحفَظَهم بحفظه وكان سبحانه سمعهم الذي يسمعون به ويدهم التي يبطشون بها ورجلهم التي يمشون بها مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي: (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.

ولكنه سبحانه لما اطَّلع على قلبك ووجده خربٌ وبور وما فيه من نور، ورأى فيه المَيلُ إلى الحرامِ سَقَطتِ من عين الملكِ العلاّم، وتركَكِ فريسةً للرزايا والآثام، ثم يُحَاسبكِ لا مَحالةَ على هذا الإجرام، فسلب حفظه عنك وَوَكَلكِ إلى نفسك لأنك صِرْتِ بسواد قلبك أهون على الله من الجِعلان (الخُنْفِساء) التي تدفع بأنفها النَتَن والتي لا تجد بُغْيَتَها إلا في مواطن القذر والنَتَن،

ولو علم الله تعالى من قلبهم الصدق في النجاة من الزلل لنجَّاهم من الزلل، ووفقهم لصالح العمل، وعصَمهم

الملكُ العلاّم من الرزايا والآثام على مدى انصرامِ العمرِ ومرورِ الأيام فإن الصدق منجاة وإن العبد إذا صدق مع الله تعالى صدقه الله مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:

(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن تصدق الله يصدقك.

[*] كان الحسن البصري إذا ذكر أهل المعاصي يقول: هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.

(فإذا اطَّلع الله تعالى على قلوبهم ووجد فيه صدق النية في عدم الوقوع في الفاحشة كتب الله تعالى لهم

ص: 176

النجاة لا محالة، وما يعلمُ جنود ربك إلا هو، فلا يتوهم إنسان أن الله تعالى يعلمُ من عبده ِصدق النية في عدم الوقوع في الرذيلة ثم يتركه يقع فيها، هذا أمرٌ مُحال عند ربنا الكبير المُتعال، بل هو فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، والله ما وقع إنسانٌ في الحرام إلا كان عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، ولا يظلمُ ربُك أحدا، لكنَّ الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته تراه يقيم العذر لنفسه و يلتمس لها الدليل وَيُلَفِق لها بزعمِهِ التأويل، ويريد أن يُحَمِلَّ الناس جميعاً السبب في خطأهِ ويقول: هم السبب في زَلتي وهم الذين دفعوني إلى شِقْوَتي، وأحياناً يلقي اللوم على القدر فيقول هو السبب في ذلك كما حصل في عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حينما أتوْا بسارق فسأله عمر رضي الله تعالى عنه: ما حَمَلَك على ذلك؟ فقال له: قَدَرُ الله يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ونحن نقطع يدك بِقَدِرِ الله، وهكذا تجد الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته يُعَلِقُ أخطاءه على شماعاتٍ وهمية ليُخْفي الحقيقة المُرَّة الكامنة بداخله المستقرة بين جَنْبَيْه والتي دفعته إلى الفجور وهي أنَّ عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، فلَيْتَه أحْسَنَ الظن بربه تعالى كما أحسن الظن بنفسه اللئيمة الخائنة الأثيمة التي أهلكته ورَمَتْ به في مستنقع الرذائل والآثام، لكن هيهات فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً بل هو يزيد الأمرُ سوءاً ويزيدُ الطينُ بِلَة، ويُضِيفُ إليه ذنباً إلى ذنوبه وَعَيْبَاً إلى عيوبه}.

* وهآنذا أسوق لك أروع القصص في رجالٍ ونساء صدقوا مع الله في العفاف فصدقهم ونجاهم من الزلل ووفقهم لصالح العمل:

{قصة يوسف عليه السلام}

ص: 177

وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عليه السلام حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، فانظر إلى طهارة قلبه عليه السلام وصدقه مع الله في عدم الوقوع في الفاحشة: عندما دعته امرأة العزيز إلى نفسها، وهيأت له جميع الوسائل المعينة على هذا الفعل، وكانت على قدر من المال والجمال، ولكن عندما وقر الخوف من الله سكنات القلب والجوارح فسيكون الجواب: معاذ الله)، كان هذا هو جواب يوسف عليه السلام، جاء كالصاعقة، لتلك المرأة، لم تتوقع أن يكون الرفض هو الجواب، لكنه الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن الإنسان لابد وأن يعود إلى خالقه ليجازيه على ما قدم في دنياه، والخوف من عذاب الله، ومن النار وعذابها وحميمها وزقومها.

وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللهُ»

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لَا ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)

ص: 178

[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (4/ 268): «وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه ، المتعوِّضة بغيره عنه ، فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه ، دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ، ولهذا قال تعالى في يوسف: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته» ا. هـ (1).

(وقفة مع امرأةِ العزيز:

إنها المرأةُ المتكلمة التي هي أكفأ الناس على الخروج من الموقف كالشعرة من العجين في أحلكِ المواقف فتجد الجواب حاضراً على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب، ليس هذا فحسب بل تخلع جُرْمَهَا وَتُلْبِسْه إنساناً بريئاً لتصرف التهمةَ عن نفسها.

قال تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[يوسف / 25]

وهنا يجب أن نحذر المسلمين من هذا السلاح الفتَّاك ومن هذا الداء العِضال الذي يفتك بصاحبه ويُدَمِر دينه ودنياه، مرض (الخروج من الموقف) لأنه سلاحُ يضرُ صاحبه ويدمره من ثلاثة أوجه هي:

(أولاً) يجعل صاحبه من أجرئ الناس على المعاصي اعتماداً منه على كفاءته في الخروج من الموقف حتى في أحلك المواقف، حتى في مواطن الريبة كما فعلت امرأة العزيز التي كانت أُمَّةً في هذا المجال، ويجعل صاحبه يُقْدِمُ على معصية الله تعالى في الخلوات ـ كما أقدمت امرأة العزيز على ذلك ـ الأمر الذي يُدمر نفسه ودينه ويجعل حسناته هباءاً منثوراً ولو كانت مثل جبال تهامة بيضاً بنص السنة الصحيحة، وتأمل الحديث الآتي:

(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.

(1) ينظر لزاماً: المفاسد العاجلة والآجلة من عشق الصور. في الجواب الكافي للإمام ابن القيم (ص319).

ص: 179

[*] قال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها. انتهى.

(ثانياً) أن مستخدم هذا السلاح (الخروج من الموقف) يصير الكذب طبعاً له لا تكلفاً لأن غالب الخروج من الموقف يكون عن طريق الكذب، ولا تنسى أن الكذب يهدي إلى الفجور بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)

(ثالثاً): أن مستخدم هذا السلاح (الخروج من الموقف) يكون قد أوتيَ جَدَلا بالباطل ليخرج من الموقف، ولا تنسى أن الجدال بالباطل يفسد القلب والدين ويسبب الضلال كما في الحديث الآتي:

(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قوله تعالى (بل هم قومٌ خَصِمون)

{تنبيه} : (قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً خطر العشق على الدين: ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد.

وكلما كان أكثر إخلاصاً، وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور.

ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق؛ لشركها، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه.

قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف: 24](1).

(1) إغاثة اللهفان ص 513.

ص: 180

فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا؛ فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلَّصه الله من فتنة عشق الصور، والمشرك قلبه متعلق بغير الله، فلم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل.

{هند بنت عتبة رضي الله عنها}

لمعرفة معدنها النفيس والذي هو أنفس من الذهب الخالص يكفينا ردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سمعت منه صلى الله عليه وسلم، بنهي المرأة عن الزنا في مبايعتهن للنساء، فردَّت هند بنت عتبة بروح المرأة (التقيةٍ النقية، العفيفةً الحييِّة، الحرةً الأبيَّة)

قالت رضي الله عنها: وهل تزني الحرة يا رسول الله

؟!

قالتها متعجبة! استفهام استنكاري يفيد الاستنكار، تقول وبكل تعجب أو تزني الحرة يا رسول الله؟! أي أن المرأة الحرة لا تزني أبدا، تأنف باستنكارٍ واضحٍ رذيلةً تَعَافها المرأة في جاهليتها وحتى يوم أباحت مضغ أكباد الرجال وأباحت لنفسها السجود للأصنام!! لنقف هنا وقفة مع المرأة الحرة حين تعاف الرذيلة وتبغضها قبل أن تعتنق الإسلام، وتصفها بالقبح والإسلام بعدُ حديث عهد في قلبها لم يبلغ بها مبلغ السابقين .. تقوله وهي حديثة عهد بكفر وجاهلية!! لكنها الفطرة التي لم تتلوث بالعهر والدناسة! لكنها العفة التي لم يخدشها نزوة أو طيش! أو مَيلٌ إلى الحرام كقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (مائلاتٍ مميلات) بالله عليكم كيف حال هذه العفة بعد الإسلام وقد سقاها بماء الإيمان والحياء فزادها جمالا وأسبغ عليها رونقا وإجلالا.

هذه من ضُرِب بعفتها الأمثال وتغنى بشرفها الأبطال، تصبر ولا تدنس ذيلها وتموت ولا تأكل بثدييها.

(والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؟

فهل يعني هذا أن العفة تسكن قلب المرأة الحرة بغض النظر عن دينها؟ وأن دماثة الخلق يُمْكِن أن تأنس لقلوب لم يسكنها الإيمان بالله بعد؟

الجواب: نعم .. وهند بنت عتبة أصدق دليل!!!

ص: 181

فكيف بنا نحن المجتمع المسلم وهذه الرذيلة تنهش في أعراضنا وتستشري نارها في ديارنا .. حين تغرق بعض النساء من مجتمعاتنا في خصلةِ هي قبيحة في الجاهلية فكيف بها في الإسلام. قاتلها الله من امرأةٍ ذات نفسٍ خسيسة دنيئةٍ رديئةِ المعدن فلقد انغمست في رذيلةٍ نهانا الله تعالى عن مجرد الاقتراب منها فضلاً عن الانغماس فيها، ويعلق البعض السقوط بها على شماعة الفقر والظروف أو الانتقام من الزوج في محاولةٍ منهن في إخفاء الحقيقة المُرَّة الكامنة بداخلها والمستقرة بين جنبيها وهي أنها خسيسة دنيئةٍ رديئةِ المعدن فيها ميلٌ إلى الحرام كقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (مائلاتٍ مميلات)!!!

وما ظنك بامرأةٍ انغمست في هذه الخصلة الدنيئة التي تأنف منها الأحرار النساء الجاهليات، وصدق لسان العرب حين قال:(تموت الحرة ولا تأكل بثدييها)، فكيف بنا ونحن نعيش في ظل مجتمعاتنا المسلمة التي ولدنا وتربينا في أحضانها.

{تنبيه} : هل يُعْقَل من تَرَبتْ تربيةً جادةً وان لم تكن صالحة أن تمكن غيرها من نفسها وهو لا يحل لها؟

هل تقبل أن تكون محلا للاستمتاع لمن لا يجوز لها؟

هل يمكن لامرأة أن تذبح حياءها وتهتك عفتها وتمزق دينها

(قديما قالوا .. تموت الحرة ولا تأكل بثديها: أي لا تبيع جسدها وان ماتت من الجوع

فأين أولئك المفسدين من ذلك، ألم يسمعوا ما قالته هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية وأم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم (أم حبيبة) حينما بايعهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشترط شروطا ألا يفعلن كذا، وكذا ومنها قوله ولا تزنين فقالت هند وهل تزني الحرة؟؟

نعم

رضي عنها تلك الشريفة التي أنكرت الزنا لمن هي حرة

لأن الحرة ترى الزنا _ والعياذ بالله _ إهانة لعفتها بل ولآدميتها المَحْضَة قبل النظر عن كونه من الخبائث وإن المرأة الحرة تعافُه ويَقْشَعِرُّ بدنُها من ذِكْره فضلاً عن الاقتراب منه أو الانغماس فيه وان لم تكن صالحة.

{قصة الربيع بن خيثم وامرأة بارعة الجمال}

أمرَ قومٌ امرأةً ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع ابن خيثم لعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم!

فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده. فنظر إليها، فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة.

ص: 182

فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك، فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت، فقطع منك حبل الوتين؟

أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟

فصرخت المرأة صرخة، فخرت مغشيا عليها، فوالله لقد أفاقت، وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.

(تفسير موقف المجرمين الذين أرادوا افتتان الربيع ابن خيثم:

{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} (سورة النساء/27)

{تنبيه} : (للافتتان بالمرأة شرطان متلازمان:

(1)

أن تخضع بالقول

(2)

أن يكون الرجل في قلبه مرض مصداقاً لقوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (سورة الأحزاب/32)

فالمرأةُ خضعت بالقول لكن الربيع ابن خيثم لم يكن في قلبه مرض كحال الذين يسيل لعابهم وراء الشهوات والعياذ بالله فحصل له النجاة لذلك.

{قصة أبي زرعة} :

قال أبو زرعة الخيني مكرت بي امرأة فقالت يا أبا زرعة ألا ترغب في عيادة مبتلي تتفط برؤيته فقلت بلى فقالت أدخل إلى الدار فلما دخلت الدار أغلقت الباب ولم أر أحدا فعَرَفْتُ قصدها فقلت اللهم سودها فاسودت فحارت وفتحت الباب فخرجت وقلت اللهم ردها إلى حالتها فردها إلى ما كانت عليه.

{قصة عطاء بن يسار}

خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجين من المدينة، ومعهم أصحاب لهم، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلا لهم. فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقي عطاء قائما يصلي. فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة! فلما شعر بها عطاء ظن أن لها حاجة، فخفف صلاته، فلما قض صلاته. قال لها: ألك حاجة؟

قالت: نعم.

فقال: ماهي؟

قالت: قم. فأصب مني، فإني قد ودقت (أي رغبت في الرجال) ولا بعل لي.

فقال: إليك عني. لا تحرقيني ونفسك بالنار.

ونظر إلى امرأة جميلة، فجعلت تراوده عن نفسه، وتأبى إلا ما تريد، فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك! إليك عني. إليك عني.

واشتد بكاؤه، فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه!!

فبينما هو كذلك إذ رجع سليمان بن يسار من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي، والمرأة بين يديه تبكي في ناحية البيت، بكى لبكائهما، لا يدري ما أبكاهما.

ص: 183

وجعل أصحابهما يأتون رجلا رجلا، كلما أتاهم رجل فرآهم يبكون جلس يبكي لبكائهم، لا يسألهم عن أمرهم حتى كثر البكاء، وعلا الصوت.

فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت، وقام القوم فدخلوا، فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالا له وهيبة.

ثم إنهما قدما مصر لبعض حاجتهما، فلبثا بها ما شاء الله، فبينما عطاء ذات ليلة نائما استيقظ وهو يبكي: فقال سليمان: ما يبكيك يا أخي؟

قال عطاء: رؤيا رأيتها الليلة.

قال سليمان: ما هي؟

قال عطاء: بشرط أن لا تخبر بها أحدا مادمت حيا.

قال سليمان: لك ما شرطت.

قال عطاء: رأيت يوسف النبي عليه السلام في النوم، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر، فلما رأيت حسنه، بكيت، فنظر إلي في الناس.

فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟

قلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة الشيخ يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه.

فقال يوسف عليه السلام: فهلا تعجب من صاحب المرأة البدوية بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكيا.

فقال سليمان: أي أخي وما كان حال تلك المرأة؟ فقص عليه عطاء القصة، فما أخبر بها سليمان أحدا حتى مات عطاء، فحدث بها امرأة من أهله.

{تنبيه} : انظر رحمك الله كيف كان موقف عطاء بن يسار رحمه الله لم يجترئ على معصية الله في الخلوات لأنه رحمه الله لم يكن ممن (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) لعلمه بشناعة معصية الله في الخلوات،

(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.

ص: 184

[*] قال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها. انتهى.

{قصة المرأة المُتَعَبِدة البصرية}

كانت بعض المتعبدات البصريات جميلة وكانت تُخْطَبُ فتأبى، وأنها وقعت في نفس رجل مهلبي فبلغ المهلبي أنها تريد الحج فاشترى ثلاثمائة بعير ونادى من أراد الحج فليكتر من فلان المهلبي فاكترت منه فلما كان في بعض الطريق جاءها ليلا فقال إما أن تزوجيني نفسك وإما غير ذلك فقالت ويحك اتق الله فقال ما هو إلا ما تسمعين والله ما أنا بِجَمَّال ولا خرجت في هذا إلا من أجلك فلما خافت على نفسها قالت ويحك انظر أبقي في الرجال أحد لم ينم؟ قال: لا

قالت: عد فانظر،

فمضى وجاء فقال ما بقي أحد إلا وقد نام فقالت ويحك أنام رب العالمين ثم شهقت شهقة وخرت ميتة، وخر المهلبي مغشيا عليه ثم قال ويحي قتلت نفسا ولم أبلغ شهوتي فخرج هاربا.

{فانظر رحمك الله كيف يفعل الصدق بأهله وكيف يكون سبباً في النجاة من الزلل والتوفيق لصالح العمل، وانظر إلى حال الصادقين في حصول العفاف وأن الموت أحبُ إليهم من أن يقعوا في الرذيلة، فلما اطَّلع الله تعالى على قلوبهم ووجد فيها النور نجاها بفضلهِ تعالى من كلِ خرابٍ وبور ومن كل فعلٍ محظور، ونجاهم من دواهي الأمور}

{قصة المرأة الصالحة التي تسأل عن حمام منجاب}

ص: 185

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي "أن رجلا كان واقفًا بإزاء داره (باتجاهها)، وكان بابه يشبه باب حمّام منجاب (حمام كان مخصصًا للنساء) فمرت جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فأشار إلى بيته وقال لها: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار وهي لم تعرف أنه خدعها ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقرُّ به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثر.

فهام الرجل بها وذهبت بلبه فأكثر الذكر لها والحزن والجزع عليها وجعل يمضي في الطرق ويقول:

يا رُبَّ قائلةٍ يوْمًا وقد تَعِبَتْ

أيْنَ الطَّرِيقُ إلى حمام مَنْجَابِ

ومر من عند بيتها وهو ينشد هذا البيت وإذا بها تجاوبه من داخل دارها وتقول بصوت سمعه:

هَلا جَعَلْتَ سَرِيْعًا إذْ ظَفِرْتَ بِهَا

حِرْزًا عَلَى الدارِ أَوْ قُفْلاً عَلى البابِ

إنْ يَنْفَذَ الرِّزْقُ فالرَّزَاقُ يَخْلِفُهُ

والعِرْضُ مِنْ أيْنَ يَا مَغْرُوْرُ يُنْجَابُ

{تنبيه} : {انظر رحمك الله إلى هذه المرأة التي وقعت في ورطة وخداع من إنسانٍ ماجن أراد أن يقع بها، ولكن لما اطَّلع الله تعالى على قلب هذه المرأة التقيَّة النقيَّة العَفيفة الحييَّة الحُرةُ الأبيّةَ ووجد فيه صدق النية في عدم الوقوع في الفاحشة كتب الله تعالى لها النجاة لا محالة وأنْجَاهَا من هذا المأزق المهين كما تخرج الشَّعْرةُ من العجين، والسؤال الذي يطرح نفسه: من الذي أنْسَى هذا الشَقِي أن يضع قُفلاً على الباب؟ إنه الله العلي الكبير، وما يعلمُ جنود ربك إلا هو، فلا يتوهم إنسان أن الله تعالى يعلمُ من عبده ِصدق النية في عدم الوقوع في الرذيلة ثم يتركه يقع فيها، فمن توهم ذلك فقد كذَّب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(إن تصدق الله يصدقك).

ص: 186

ثم إنَّ هذا أمرٌ مُحال عند ربنا الكبير المُتعال، بل هو فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، ومن توهم ذلك كان في عقله خَبَال، والله ما وقع إنسانٌ في الحرام إلا كان عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، ولا يظلمُ ربُك أحدا، لكنَّ الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته تراه يقيم العذر لنفسه و يلتمس لها الدليل وَيُلَفِق لها بزعمِهِ التأويل، ويريد أن يُحَمِلَّ الناس جميعاً السبب في خطأهِ ويقول: هم السبب في زَلتي وهم الذين دفعوني إلى شِقْوَتي فيُعَلِق ذنبه ومعاصيه على شماعاتٍ وهمية، وأحياناً يلقي اللوم على القدر فيقول هو السبب في ذلك كما حصل في عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حينما أتوْا بسارق فسأله عمر رضي الله تعالى عنه: ما حَمَلَك على ذلك؟ فقال له: قَدَرُ الله يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ونحن نقطع يدك بِقَدِرِ الله، وهكذا تجد الإنسان إذا اتبع هواه وسار أسيراً ذليلاً وراء شهواته يُخْفي الحقيقة المُرَّة الكامنة في نفسه المستقرة بين جنبية والتي دفعته إلى الفجور، وهي أنه عنده مَيلٌ إلى الحرام والعياذ بالله، فلَيْتَه أحْسَنَ الظن بربه تعالى كما أحسن الظن بنفسه اللئيمة الخائنة الأثيمة التي أهلكته ورَمَتْ به في مستنقع الرذائل والآثام، لكن هيهات فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً بل هو يزيد الأمرُ سوءاً ويزيدُ الطينُ بِلَة، ويُضِيفُ إليه ذنباً إلى ذنوبه وَعَيْبَاً إلى عيوبه}.

(كيفية التوبة من الزنا:

وبعد أن تبين عظم جرم الزنا، وآثاره المدمرة على الأفراد والأمة، فإنه يحسن التنبيه على وجوب التوبة من الزنا؛ فيجب على من وقع في الزنا والعياذ بالله، أو تسبب في ذلك، أو أعان عليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يندم على ما مضى، وألا يرجع إليه.

ولا يلزم من وقع في الزنا رجلاً كان أو امرأة أن يسلَّم نفسه، ويعترف بجرمه، بل يكفي في ذلك أن يتوب إلى ربه، وأن يستتر بستره عز وجل.

وإن كان عند الزاني صور لمن كان يفجر بها، أو تسجيل لصوتها أو لصورتها فليبادر إلى التخلص من ذلك، وإن كان قد أعطى تلك الصور أو ذلك التسجيل أحداً من الناس فليسترده منه، وليتخلص منه بأي طريقة.

وإن كانت المرأة قد وقع لها تسجيل أو تصوير، وخافت أن ينتشر أمرها فعليها أن تبادر إلى التوبة، وألا يكون ذلك معوقاً لها عن الإقبال على ربها.

ص: 187

بل يجب عليها أن تتوب، وألا تستسلم للتهديد والترهيب؛ فإن الله كافيها، ومتوليها، ولتعلم أن من يهددها جبان رعديد، وأنه سوف يفضح نفسه إن هو أقدم على نشر ما بيده.

ثم ماذا يكون إذا هو نفذ ما يهدد به؟ أيهما أسهل؟ فضيحة يسيرة في الدنيا، ويعقبها توبة نصوح؟ أو فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ثم يعقبها دخول النار وبئس القرار؟

ومما ينفع في هذا الصدد إن هي خافت من نشر أمرها أن تستعين برجل رشيد من محارمها؛ ليعينها على التخلص مما وقعت فيه؛ فربما كان ذلك الحل ناجعاً مفيداً.

وبالجملة فإن على من وقع في ذلك الجرم أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يقبل على ربه بكُلِّيته، وأن يقطع علاقته بكل ما يذكره بتلك الفعلة، وأن ينكسر بين يدي ربِّه مخبتاً منيباً، عسى أن يقبله، ويغفر سيئاته، ويبدلها حسنات.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ آَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلََئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً)[الفرقان: 70:68]

رابعاً: التوبة من اللواط والعياذ بالله:

(مفاسد اللواط والعياذ بالله:

اللواط والعياذ بالله أعظم الفواحش على الإطلاق، وأضرها على الدين والعقل والمروءة والأخلاق؛ فهو داء عضال، وسمٌّ قَتَّال، متناهٍ في القبح والبشاعة، غاية في الخسة والشناعة؛ فهو شذوذ منحرف، وارتكاس في الطباع، يمجه الذوق السليم، وتأباه الفطرة السوية، وترفضه وتمقته الشرائع السماوية؛ لما له من عظيم الأضرار، ولما يترتب عليه من جسيم الأخطار، فآثاره السيئة يقصر دونها العد، وأضراره المدمرة لا تقف عند حد، ففيه أكثر أضرار الزنا وزيادة؛ بل إن حد الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة؛ لاشتراك الزنا واللواط في الفحش (1).

(1) الجواب الكافي ص396.

ص: 188

[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى متحدثاً عن مفاسد اللواط: فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والعد، ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتى؛ فإنه يفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاح أبداً، ويذهب خيره كله، وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه؛ فلا يستحيي بعد ذلك من الله، ولا من خلقه، وتعمل في قلبه، وروحه نطفةُ الفاعلِ ما يعمل السم في البدن (1).

(وقال أيضاً: ولم يَبْتَلِ الله سبحانه بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين، وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها غيرهم، وجمع عليهم من أنواع العقوبات بين الإهلاك، وقلب ديارهم عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، فنكَّل بهم نكالاً لم ينكله أمة سواهم؛ وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد تميد من جوانبها الأرض إذا عُمِلت فيها، وتهرب الملائكة من أقطار السماوات والأرض إذا شاهدوها؛ خشية نزول العذاب على أهلها؛ فيصيبهم معهم، وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى وتكاد الجبال تزول عن أماكنها وقتل المفعول به خير له من وطئه؛ فإنه إذا وطئه قتله قتلاً لا ترجى الحياة معه بخلاف قتله، فإنه مظلوم شهيد وربما ينتفع به في آخرته (2).

(وقال أيضاً: متحدثاً عن فاحشتي الزنا واللواط: فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله؛ فإنهما من أعظم الخبائث؛ فإذا انصبغ القلب بهما بَعُد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بعداً (3).

(وقال متحدثاً عما حل بقوم لوط عليه السلام: فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلا ما بين السَّحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها، ورفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب، ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الذي لا يرد عن الرب الجليل إلى عبده ورسوله جبرائيل، بأن يقلبها عليهم كما أخبر به محكم التنزيل، فقال عز من قائل: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)[هود:82]

فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، وجعل ديارهم بطريق السالكين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر:[75_77]

(1) مرجع سابق.

(2)

الجواب الكافي ص 407_408.

(3)

إغاثة اللهفان ص 71.

ص: 189

أخذهم على غرَّة وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فقلبت تلك اللذات آلاماً فأصبحوا بها يعذبون.

مآرب كانت في الحياة لأهلها

عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً

ذهبت اللذات، وأعقبت الحسرات، وأنقضت الشهوات، وأورثت الشقوات، تمتعوا قليلاً، وعذبوا طويلاً، رتعوا مرتعاً وخيماً، فأعقبهم عذاباً أليماً، أسكرتهم خمرةُ تلك الشهوة فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين، وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا منها إلا وهم في منازل الهالكين؛ فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوا بدل الدموع بالدم؛ فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويقال لهم وهو على وجوههم يسحبون:(ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)[الزمر: 24]

(اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الطور: 16]

وقد قرَّب الله مسافة العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل، فقال مخوفاً لهم أن يقع الوعيد:(وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)[هود: 83](1).

(وقال مبيناً أضرار الوطء في الدبر: فإنه يحدث الهم، والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.

وأيضاً فإنه يسود الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.

وأيضاً فإنه يوجب النفرة، والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.

وأيضاً فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.

وأيضاً فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدهما كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً.

وأيضاً فإنه من أكبر زوال النعم، وحلول النقم؛ فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه؛ فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد حلَّت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه؟

وأيضاً فإنه يَذْهَب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب؛ فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.

(1) الجواب الكافي ص 413_415.

ص: 190

وأيضاً فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب، والعمل، والهدى؛ فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله، وعمله، وكلامه بغير اختياره.

وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة، والجرأة ما لا يورثه سواه.

وأيضاً فإنه يورث من المهانة، والسِّفال، والحقارة ما لا يورثه غيره.

وأيضاً فإنه يكسو العبد من حلة المقت، والبغضاء، وازدراء الناس، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس (1).

ولقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن لهذه الفعلة القبيحة أضراراً كثيرة على نفوس مرتكبيها، وعقولهم، وأبدانهم؛ فمما تسببه هذه الفعلة القبيحة كثرة الوساوس والأوهام؛ فهذا الداء إذا تمكن من القلب، واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهن، وأحدث الوساوس.

وربما أصيب صاحبه بمرض الهوس الجنسي الذي يجعل صاحبه الشهواني مشغولاً بتخيلات شهوانية غريزية.

ومن أضرارها التأثير على الأعصاب والمخ، وأعضاء التناسل، والدوسنتاريا، والتهاب الشرج والمستقيم، والتهاب الكبد الفيروسي.

بل كثيراً ما يؤدي إلى أمراض الشذوذ الخطيرة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز، وفيروس الحب، بل هو السبب الأول، وله النسبة الكبرى في حدوث هذه الأمراض.

هذا ولعظم هذه الجريمة أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتل مرتكبها، ولكنهم اختلفوا في كيفية قتله؛ فمنهم من قال: يقتل بالسيف، ومنهم من قال: يحرق بالنار، ومنهم من قال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى اللوطي منها منكساً ثم يتبع بالحجارة (2).

[*](قال الشيخ العلامة د. بكر أبو زيد: وأما صفة القتل فإن الذي يظهر لي أيضاً والله أعلم هو أن هذا عائد إلى رأي الإمام من القتل بالسيف، أو رجماً بالحجارة، ونحو ذلك حسب مصلحة الردع والزجر، والله أعلم (3).

وهذا الحكم يشمل الفاعل والمفعول به سواء كانا بكرين، أو ثيبين عند جمهور العلماء (4).

ودليل هذا القول الحديث الآتي:

(1) زاد المعاد لابن القيم 4/ 240_242.

(2)

انظر الجواب الكافي ص 408_410، وروضة المحبين ص 370_376.

(3)

الحدود والتعزيرات عند ابن القيم د. بكر أبو زيد ص 189.

(4)

انظر الاستقامة لابن تيمية 2/ 187، وتفسير القرآن العظيم 2/ 211، وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 3/ 40_45.

ص: 191

(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به.

[*](قال الشيخ بكر أبو زيد تعليقاً على هذا الحديث: ووجه الدلالة من هذا الحديث نَصيةٌ على قتل الفاعل والمفعول به، وليس فيه تفصيل لمن أحصن أو لم يحصن؛ فدل بعمومه على قتله مطلقاً (1).

(كيفية التوبة من اللواط:

لعظم هذه الجريمة المنكرة قال بعض العلماء: لا توبة للوطي، ولا يدخل الجنة؛ فهو جدير ألا يوفق، وأن يحال بينه وبينه، وكلما عمل خيراً قيض الله له ما يفسده عقوبة له؛ فلا يوفق لعلم نافع، ولا عمل صالح، ولا توبة نصوح (2).

والصحيح في هذه المسألة أن للوطي توبة إذا تاب؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في توبة اللوطي: =والتحقيق في المسألة أن يقال: إذا تاب المبتلى بهذا البلاء، وأناب، ورزق توبة نصوحاً، وعملاً صالحاً، وكان في كبره خيراً منه في صغره، وبدل سيئاته حسنات، وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات، وغض بصره، وحفظ فرجه عن المحرمات، وصدق الله في معاملته فهذا مغفور له، وهو من أهل الجنة؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعاً.

وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب حتى الشرك بالله، وقتل أنبيائه، وأوليائه، والسحر، والكفر، وغير ذلك فلا تَقْصُر عن محو هذا الذنب.

وقد استقرت حكمة الله تعالى به عدلاً وفضلاً أن التائب من الذنب كم لا ذنب له، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك، وقتل النفس، والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات.

وهذا حكم عام لكل تائب من كل ذنب، وقد قال تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]

فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد، ولكن هذا في حق التائب خاصة.

(1) الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 179.

(2)

انظر الجواب الكافي ص 396_398 ففيه تفصيل هذا القول ومأخذه.

ص: 192

وأما المفعول به إن كان في كبره شراً مما كان في صغره لم يوفق لتوبة نصوح، ولا لعمل صالح، ولا استدرك ما فات، وأحيا ما أمات، ولا بدل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة؛ عقوبة له على عمله؛ فإن الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى، وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى (1).

وبناء على ما مضى فإنه يجب على من وقع في اللواط أن يتوب إلى الله عز وجل سواء كان فاعلاً، أو مفعولاً به، أو معيناً على ذلك، أو داعياً إليه.

ويقال لمن وقع في ذلك الجرم ما يقال لمن وقع في الزنا، من جهة الاستتار، وأنه لا يلزمه أن يسلم نفسه.

بل عليه أن يعزم ويجزم، وأن يُقْبل على ربه، وأن يفكر في عاقبة أمره، وأن يعلم أنه على خطر عظيم إن هو استمر على فعلته، وأنه كالشارب من ماء البحر لا يروى، وكالمصاب بداء الجرب لا يزيده الحكُّ إلا ضراوة واستمراراً.

وليعلم أنه معان من الله إن هو صدق في التوبة.

ومما يعينه على ذلك أن يقطع علاقته بكل ما يذكره بالفاحشة من صور، أو رسائل، أو نحو ذلك، وأن يصبر خصوصاً في بداية أمره.

وإن كان مبتلى بأن تفعل به الفاحشة وخشي إن تاب أن يفضحه رفقة السوء بنشر صوره أو نحو ذلك فعليه أن يتوكل على ربه، وأن يستعين بمن يهمه أمره من قريب أو داعية أو غيرهما، وليعلم أن هؤلاء السفلة جبناء رعاديد؛ فإذا رأوا منه حزماً وعزماً نفروا منه، وابتعدوا عنه ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

خامساً: التوبة من العشق والعياذ بالله:

(تعريف العشق:

مسألة: ما هو العشق:

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن ابن عائشة قال: قلت لطبيب كان موصوفا بالحذق ما العشق؟

قال: شغل قلب فارغ.

قلت: وقد ذهب بعضهم إلى أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا.

(مراتب العشق:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

(1) الجواب الكافي ص 398_400.

ص: 193

أول ما يتجدد الاستحسان للشخص ثم يجلب إرادة القرب منه ثم المودة وهو أن يود أن لو ملكه ثم يقوى الود فيصير محبة ثم يصير خلة ثم يصير هوى فيهوي بصاحبه في محاب المحبوب من غير تمالك ثم يصير عشقا ثم يصير تتيما والتتيم حالة يصير بها المعشوق مالكا للعاشق لا يوجد في قلبه سواه ومنه تيم الله، ثم يزيد التتيم فيصير ولهاً والوله الخروج عن حد الترتيب والتعطل عن أحوال التمييز.

وقال بعض العلماء أول مراتب العشق الميل إلى المحبوب ثم يستحكم الهوى فيصير مودة ثم تزيد بالمؤانسة وتدرس بالجفاء والأذى ثم الخلة ثم الصبابة وهي رقة الشوق يولدها الألفة ويبعثها الإشفاق ويهيجها الذكر ثم يصير عشقا وهو أعلى ضرب.

فمبتدؤه يصفي الفهم ويهذب العقل كما قال ذو الرياستين لأصحابه اعشقوا ولا تعشقوا حراما فإن عشق الحلال يطلق اللسان العيي ويرفع التبلد ويسخي كف البخيل ويبعث على النظافة ويدعو إلى الذكاء.

فإذا زاد مرض الجسد فإذا زاد جرح القلب وأزال الرأي واستهلك العقل ثم يترقى فيصير ولها ويسمى ذو الوله مدلها ومستهاما ومستهترا وحيران ثم قال ابن دريد الصبابة رقة الهوى واشتقاق الحب من أحب البعير إذا برك من الإعياء.

(المحبة جنس والعشق نوع:

مسألة: ما الفرق بين المحبة والعشق؟

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

واعلم أن المحبة جنس والعشق نوع فإن الرجل يحب أباه وابنه،

ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه بخلاف العاشق.

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن محمد بن يزيد المبرد قال سمعت الجاحظ يقول كل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.

(أسباب العشق:

مسألة: ما هو أسباب العشق؟

وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، لا بد من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له؛ ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته؛ فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجر إليه جراً.

(1)

التثبت في النظر ومعاودته:

ص: 194

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه وأكثر أسباب المصادفة النظر «ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته» ، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه ثم تمنت الاستمتاع به فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا وشغلها كله به فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوى الفكر في ذلك.

(2)

سماع الغزل والغناء:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

ومن أسباب العشق سماع الغزل والغناء فإن ذلك يصور في النفوس نقوش صور فتتخمر خميرة صورة موصوفة ثم يصادف النظر مستحسنا فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. أهـ

(3)

الإعراض عن الله عز وجل: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.

(4)

الجهل بأضرار العشق: وقد مر شيء من أضراره؛ فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.

(5)

الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.

[*](قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة؛ فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ (1).

[*](وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شُغل قلب فارغ (2).

وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة (3).

وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة (4).

وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة (5).

ومن الفراغ أيضاً فراغ القلب من محبة الله عز وجل.

[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه؛ فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور (6).

(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 126.

(2)

بهجة المجالس لابن عبد البر 2/ 817.

(3)

روضة المحبين ص 153.

(4)

روضة المحبين ص 154.

(5)

مرجع سابق.

(6)

زاد المعاد لابن القيم 4/ 246.

ص: 195

(6)

وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة؛ فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلي الهاوية إذا هي انحرفت؛ فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.

وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح، وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية؛ حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منوالة.

وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية؛ فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة (1).

(7)

التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.

وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة؛ فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.

وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه.

ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:

أول العشقِ مزاحٌ وولع

ثم يزداد فيزداد الطمع

كلُّ مَنْ يهوى وإن عالت به

رتبة الملك لمن يهوى تبع (2)

وقيل:

تولع بالعشق حتى عشق

فلما استقل به لم يُطِقْ

رأى لُجَّةً ظنها موجةً

فلما تمكَّن منها غرق

ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ

وأبصر أحشاءه تحترق

تمنى الإفاقة من سكره

فلم يستطعها ولم يستفق (3)

(1) انظر الصحافة المسمومة لأنور الجندي ص 76، وحصوننا مهددة من داخلها ص 31_39، والأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز لمروان كجك ص 191، وأربع مناقشات لإلغاء التلفزيون لجيري ماندرو، ترجمة سهيل منيمنة.

(2)

أدب الدنيا والدين للماوردي ص 138.

(3)

ذم الهوى ص 440.

ص: 196

(8)

الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه؛ حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادراً في غيه، لا يكاد يفيق من سكره.

فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم ونحو ذلك.

ومن لم يعشق ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:

إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى

فكن حجرا من جامد الصخر جلمدا (1)

وكما قال الآخر:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فأنت وعَيْر في الفلاة سواء (2)

وكما قال الآخر:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فمالك في طيب الحياة نصيب (3)

ولا ريب أن المتجرد من عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.

ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زاوية حب الصور المحرمة جهل وانحراف؛ ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل.

وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها؛ فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.

بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل وكل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.

والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها؛ فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.

فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.

و المحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها (4).

(1) الجواب الكافي ص 509.

(2)

الجواب الكافي ص 509.

(3)

الجواب الكافي ص 509.

(4)

إغاثة اللهفان ص 512_513.

ص: 197

(وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله عز وجل: ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه؛ فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.

فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له؛ فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله؛ فلا يحب إلا لله (1).

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مُضعفة لها، وتَصْدُقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.

ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.

وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً.

وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان (2).

(وقال: والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:

أحدها: محبة القرآن؛ بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم سبحانه منه.

(1) روضة الحبين ص 211.

(2)

روضة المحبين ص 212.

ص: 198

وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه؛ فمن أحب محبوباً أحب كلامه (1).

(وقال: وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه؛ فيحتاج إلى من يذكِّره.

وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه؛ فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.

وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.

ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.

ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.

فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة (2).

وصدق من قال:

ونفاسة الأشياء في غاياتها

فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا (3)

(9)

الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر (4).

ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.

والجواب على ما مضى أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة؛ فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول؛ لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام، أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.

والثاني: نُقولٌ كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.

الثالث: نُقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه (5).

ثم شرع رحمه الله في تفصيل ذلك.

وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني مسألة عن العشق، وحكم مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعراً مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:

(1) روضة المحبين ص 213.

(2)

روضة المحبين ص 213.

(3)

خواطر الحياة ص 139.

(4)

انظر الجواب الكافي 705.

(5)

روضة المحبين ص 139.

ص: 199

يا أيها الشيخ الأديب الذي

قد فاق أهل العصر في شعره

ثم قال:

من قارف الفتنة ثم ادعى الـ

ـعصمة قد نافق في أمره

ولايجيز الشرعُ أسباب ما

يورِّط المسلمَ في حظره

فانج ودع عنك صداع الهوى

عساك أن تسلم من شره

هذا جواب الكلوذانيِّ قد

جاءك يرجو الله في أجره (1)

وسئل ابن الجوزي بأبيات عن جواز العشق مطلعها:

يا أيها العالم ماذا ترى

في عاشق ذاب من الوجد

فأجابه ابن الجوزي قائلاً:

يا ذا الذي ذاب من الوجد

وظلَّ في ضر وفي جهد

اسمع فدتك النفسُ من ناصحٍ

بنصحه يهدي إلى الرشد

إلى أن قال:

وكل ما تذكر مستفتياً

حرَّمه الله على العبد

إلا لما حلَّله ربنا

في الشرع بالإبرام والعقد

فَعَدِّ من طُرْق الهوى معرضاً

وقف بباب الواحد الفرد

وسَلْهُ يشفيك ولا يبتلي

قلبك بالتعذيب والصد

وعف في العشق ولا تبده

واصبر وكاتم غاية الجهد

فإن تمت محتسباً صابراً

تَفُزْ غداً في جنة الخلد (2)

وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارىء على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.

بل إن ابن حزم رحمه الله تعالى لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلَاّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله.

ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو (3).

وقال رحمه الله تعالى على سبيل الوعظ:

رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَها

وعقباه مر الطعم ضنك المسالك

ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه

ولو أنه يعطي جميع الممالك (4)

وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.

وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه؛ إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به (5).

(1) روضة المحبين ص 151.

(2)

روضة المحبين ص 151_152.

(3)

طوق الحمامة ص 141.

(4)

طوق الحمامة ص 152.

(5)

انظر روضة المحبين ص 147.

ص: 200

وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به.

وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة.

ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أَرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.

وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً.

وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء (1).

(1) الحديث أخرجه ابن حبان في المجروحين 1/ 349، والخطيب البغدادي في تاريخه 5/ 156، 262، و 6/ 50_51.

قال ابن القيم في الجواب الكافي ص 559: =وأما حديث من عشق فعف. .+

فهذا يرويه سويد بن سعيد، وقد أنكره حفاظ الإسلام عليه+.

وقال في ص 562: =وكلام حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجع في هذا الشأن، وما صححه، بل ولا حسنه أحد يعول في علم الحديث عليه، ويرجع في التصحيح إليه، ولا من عادته التساهل والتسامح+.

وقال في زاد المعاد 4/ 252_256: =ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله"الذي رواه سويد بن سعيد، فذكر حديث =من عشق فعف فمات فهو شهيد+.

وقال: =فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله"ولا يجوز أن يكون من كلامه؛ فإن الشهادة درجة عالية عند الله، مقرونة بدرجة الصديقية، ولها أعمال وأحوال هي من شرط حصولها، وهي نوعان: عامة، وخاصة؛ فالخاصة الشهادة في سبيل الله، والعامة مذكورة في الصحيح ليس العشق واحداً منها.

وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة، وفراغ القلب عن الله، وتمليك القلب والروح، والحب لغيره تنال به درجة الشهادة؟ هذا من المحال؛ فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد، بل هو خمر الروح الذي يسكرها، ويصدها عن ذكر الله وحبه، والتلذذ بمناجاته، والأنس به، ويوجب عبودية القلب لغيره؛ فإن قلب العاشق متعبد لقلب معشوقه، بل العشق لب العبودية؛ فإنها كمال الذل، والحب، والخضوع، والتعظيم؛ فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وسادتهم وخواص الأولياء؛ فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما، ولا يحفظ عن رسول الله"لفظ العشق في حديث البتة+.

إلى أن قال: =فكيف يظن بالنبي"أنه يحكم على كل عاشق يكتم، ويعف بأنه شهيد، فترى من يعشق امرأة غيره، أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء؟ وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه"بالضرورة؟ والتداوي منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً، وإما مستحب+.

ص: 201

(10)

التهتك والتبرج والسفور: فذلك من أعظم محركات العشق؛ فهو سبب للنظرات الغادرة، التي تعمل عملها في القلب.

(11)

المعاكسات الهاتفية: فهي من أعظم ما يجر إلى العشق؛ فقد تكون الفتاة حَصَاناً رزاناً لا تُزْنُّ بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأُسْدل عليه الستر.

فما هي إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه؛ فربما وافقت صفيقاً يغْتَرُّها بمعسول الكلام، فَتَعْلَقُه، وتقع في أشراكه؛ ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.

وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها.

وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات؛ حيث تمسك بسماعة الهاتف وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصوداً بعينه، وإما أن يكون الاتصال خبط عشواء؛ فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها.

والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة لله_تعالى_.

والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجره من فساد يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه.

والمقصود من ذلك الإشارةُ إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى العشق والتعلق؛ فَسَدُّ هذا الباب واجب متعين.

هذه على سبيل الإجمال هي الأسباب الحاملة على العشق.

(ذم العشق:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم.

فقال قوم هو ممدوح لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع ولا يقع عند جامد الطبع حبيسه ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه.

فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط.

فإذا أفرط عاد سما قاتلا.

وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأمر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.

قلت: وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم ولا يعدم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.

فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة فيملك العقل ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء.

(أما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبا في حقهم.

ص: 202

قال الشعبي: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

فأنت وعير بالفلاة سواء.

(وأما القسم الثاني من العشق: فمذموم لا شك فيه وبيان ذمه أن

الشيء إنما يعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه وذات العشق لهج بصورة وهذا ليس فيه فضيلة فيمدح ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها ألا ترى أن الصبيان يحبون التماثيل واللعب أكثر من محبتهم للناس لضعف نفوسهم وكونها مماثلة للصور لخلوها عن رياضة فإذا ارتاضت نفوسهم ارتفعت هممهم إلى ما هو أعلى وهو حب الصور الناطقة فإذا ارتاضت نفوسهم بالعلوم والمعارف ارتفعت عن حب الذوات ذوات اللحم والدم إلى ما هو أشرف منها.

وأتم أحوال النفس الشهوانية وجودها مع شهواتها من غير منغص وأتم أحوال النفس الحيوانية وجود غرضها من القهر والرياسة وأتم أحوال النفس الناطقة وجودها مدركة لحقائق الأشياء بالعلم والمعرفة ويتمكن الأنس فيصير بالإدمان شغفا وما عشق قط إلا فارغ فهو من علل البطالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق المستدل بها على عظم الخالق ولهذا قل ما تراه إلا في الرعن البطرى وأرباب الخلاعة النوكى «وما عشق حكيم قط» لأن قلوب الحكماء أشد تمنعا عن أن تقفها صورة من صور الكون مع شدة تطلبها فهي أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف وَقَلَ أن يحصل عشق من لمحة وَقَلَ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة فإنه مار في طلب المعاني ومن كان طالبا لمعرفة الله لا تقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن المصور، وحوشيت قلوب الحكماء الطالبين فضلا عن الواصلين العارفين من أن تحبسهم الصور أو تفتنهم الأشكال عن الترقي في معارج مقاصدهم أو تحطهم عن مراكزهم إلى محل الأثقال الراسية بل هم أبدا في الترقي هاتكون للحجب والأستار بقوة النظر.

العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

واعلم أن العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهي أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أي موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضموا شهوة إلى شهوة وذلوا للهوى ذلا على ذل، والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها فحسب وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم.

ص: 203

و العشق مسلك خطر، وموطىء زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها.

وأهل العشق من أشقى الناس، وأذلِّهم، وأشغلهم، وأبعدهم عن ربهم.

[*] (قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود.

وأصدقُ شاهدٍ على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك؛ فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته، ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية؛ فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته (1).

(وقال أيضاً: وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه.

وهؤلاء يُشَبَّهون بالسكارى والمجانين كما قيل:

سُكْران: سكر هوى وسكر مدامة

ومتى إفاقةُ من به سكرانِ

وقيل:

قالو: جننت بمن تهوى فقلت لهم:

العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه

وإنما يُصْرَعُ المجنونُ في حين (2)

(وقال أيضاً متحدثاً عن حقيقة العشق: قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق.

ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة (3).

(وقال أيضاً: وقيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب؛ فإذا أفرط فيه كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم (4).

ولقد تظاهرت أقوال أهل العلم، والشعراء، والأدباء، ومن وقعوا في العشق في بيان خطورته، وعظيم ضرره.

قالوا: وإذا اقتحم العبد بحر العشق، ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة (5).

[*](وقال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق من فنونه (6).

وقالوا: وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله، وعرضه، ونفسه، وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه (7).

(1) الاستقامة 1/ 459.

(2)

العبودية ص97_98.

(3)

جامع الرسائل 2/ 243_244.

(4)

جامع الرسائل 2/ 242.

(5)

روضة المحبين ص 196.

(6)

روضة المحبين ص 197.

(7)

روضة المحبين ص 197.

ص: 204

(وقالوا: والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح، ولا يقع معه الارتياح، بل هو بحر من ركبه غرق؛ فإنه لا ساحل له، ولا نجاة منه (1).

قال أحدهم:

العشق مشغلة عن كل صالحة

وسكرة العشق تنفي لذة الوسن (2)

وقال أبو تمام:

أما الهوى فهو العذاب فإن جرت

فيه النوى فأليم كل عذاب (3)

وقال ابن أبي حصينة مبيناً ضرر العشق، غابطاً من لم يقع في أشراكه:

والعشق يجتذب النفوس إلى الردى

بالطبع واحسدي لمن لم يَعْشَق (4)

وقال عبد المحسن الصوري:

ما الحب إلا مسلكٌ خَطرٌ

عسر النجاة وموطىء زلق (5)

قالوا: والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً (6).

قالوا: ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص، ولات حين مناص، قال الخرائطي: أنشدني أبو جعفر العبدي:

إنِ اللهُ نجاني من الحب لم أعد

إليه ولم أقبل مقالة عاذلي

ومن لي بمنجاة من الحب بعد ما

رمتني دواعي الحب بين الحبائل (7)

وقال منصور النمري:

وإنَّ امرءاً أودى الغرامُ بُلُبِّه

لعريان من ثوب الفلاح سليب (8)

[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:

ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور:

وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا. فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها.

ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذي ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيباً يستحيل عدواً عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين.

(1) روضة المحبين ص 197_198.

(2)

روضة المحبين ص 198.

(3)

روضة المحبين ص 198.

(4)

روضة المحبين ص 199.

(5)

روضة المحبين ص 199.

(6)

روضة المحبين ص 199.

(7)

روضة المحبين ص 201.

(8)

بهجة المجالس لابن عبد البر 3/ 816.

ص: 205

فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لِصَبٍّ جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم. فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته: كعُصْفُورَةٍ في يد طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ، ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت: وَمَا في الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ، تَرَاهُ بَاكِياً في كُلِّ حِينٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ

فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت: سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد

قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ في الْحَشَا مَاءٌ وَنَارٌ في مَحَلٍّ واحِدِ

ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها.

فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيقٌ به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب. أهـ

(إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من «فساد تصوره ومعرفته» ، أو من «فساد قصده وإرادته» .

فالأول: جهل، والثاني ظلم: والإنسان خلق في الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن

ص: 206

الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ".

فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم، فقال:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23].

(فأصل كل خير: هو العلم والعدل.

(وأصل كل شر: هو الجهل والظلم.

وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذي خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه:

{فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها «فساد العلم أو فساد القصد» ، أو فسادهما جميعا.

(إذا تبين هذا، «فالعبد أحوج شيء إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله» ، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك.

ص: 207

فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى:{هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.

(ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها:"حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات".

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة.

فلا عيب على الرجل في محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.

فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله.

[*] (فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:

(محبة الله:

(ومحبة في الله:

ص: 208

(ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.

[*] (والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:

(المحبة مع الله:

(ومحبة ما يبغضه الله تعالى:

(ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.

فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق:

فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان

والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.

والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.

ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، «ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه» ، قال تعالى:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل.

(وقال في موضع آخر: وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه، وعزَّ عليهم شفاؤه، وهو ـ لعمر الله ـ الداء العضال، والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره.

وهو أقسام؛ تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه ندَّاً يحبه كما يحب الله؛ فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه؛ فإنه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك.

وعلامة العشق الشركي الكفري أن يقدم رضا معشوقه على رضى ربه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه وحظُّه، وحق ربه وطاعته قدَّم حق معشوقه على حق ربه، وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه_ إن بذل _ أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه، وجعل لربه_ إن أطاعه_ الفَضْلَة التي تَفْضُل عن معشوقه من ساعاته؛ فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله ورسوله ويطابق العدل (1).

(1) الجواب الكافي ص 490_491.

ص: 209

(وقال أيضاً متحدثاً عن أضرار العشق: قالوا: وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء؛ فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية؛ فلو سألت النِّعَم ما الذي أزالك؟ والنِّقم ما الذي أدالك؟ والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك؟ والستر ما الذي كشفك؟ والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك؟ وعزة النفس ما الذي أذلَّك؟ وبالهوان بعد الأكرام بدَّلك _ لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً.

هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (1).

(ومن الأضرار الناجمة عن العشق الظلم؛ فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضرراً على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله؛ فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه، وانقسامهم إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة، وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو فلانة كذَّبه واحد، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون (2).

ومن أنواع الظلم في هذا الباب أيضاً: أن في إظهار المبتلى عشقَ من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه.

(1) روضة المحبين ص 202.

(2)

الجواب الكافي ص 500.

ص: 210

فإن استعان عليه بمن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم، وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديوثاً ظالماً، وكفى بالدياثة إثماً، فيتساعد العاشق والديوث على ظلم المعشوق، وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضه على ظلمه في نفس، أو مال، أو عرض؛ فكثيراً ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفس تكون حياتها مانعة من غرضه، وكم من قتيل أُهْدِرَ دمه بهذا السبب من زوج، وسيد، وقريب، وكم أُفْسِدَت امرأة على بعلها؛ فإذا كان للمعشوق زوج تضاعف الأذى وازداد؛ فظلم الزوج بإفساد حبيبه، والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله؛ ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله، ولا يعدل ذلك عنده حتى سفك دمه.

فإن كان ذلك حقاً لغازٍ في سبيل الله وُقِفَ له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: خذ من حسناته.

كما أخبر بذلك رسول الله"ثم قال رسول الله": =فما ظنكم؟.

(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم؟

أي فما تظنون يبقي له من حسناته؟

فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جاراً، أو ذا رحم مُحرَّم_تعدد الظلم، فصار ظلماً مؤكداً لقطيعة الرحم، وأذى الجار.

فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين من الجن إما بسحر، أو استخدام، أو نحو ذلك ضَمَّ إلى الشرك والظلم كفر السحر.

فإن لم يفعله هو، ورضي به كان راضياً بالكفر، غير كاره لحصول مقصده به، وهذا ليس ببعيد عن الكفر.

والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.

وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه بمعاونته على الفاحشة، وظلمه لنفسه ما فيه، وكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه، وظلمهما متعد إلى غيرهما كما تقدم.

ثم إن المعشوق قد يُعَرِّض العاشق للتلف؛ حيث يطمعه في نفسه، ويتزين له، ويستميله بكل طريق؛ حتى يستخرج منه ماله، ونفعه.

والعاشق ربما قتل معشوقه؛ ليشفي نفسه منه، ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره.

فكم للعشق من قتيل من الجانبين، وكم أزال من نعمة، وأفقر من غنى، وأسقط من مرتبة، وشتت من شمل.

ص: 211

وكم أفسد من أهل للرجل وولده؛ فإن المرأة إذا رأت زوجها عاشقاً لغيرها ربما قادها ذلك إلى اتخاذ معشوق لها؛ فيصير الرجل متردداً بين خراب بيته بالطلاق وبين أن يرضى بالدياثة والخنا في أهله (1).

[*](يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: وكم مصونِ الستر، مسبل القناع، مسدول الغطاء، قد كشف الحبُّ ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه، فصار بعد الصيانة عَلَماً، وبعد السكون مثلاً (2).

فكل هذه الآفات، وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، وتحمل على الكفر الصريح؛ فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها.

(العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا.

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا.

أما في الدين فإن العشق أولا يشغل القلب عن الفكر فيما خلق له من معرفة الإله والخوف منه والقرب إليه ثم بقدر ما ينال من موافقة غرضه المحرم يكون خسران آخرته وتعرضه لعقوبة خالقه فكلما قرب من هواه بعد من مولاه ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فإن وقع فيا سرعان زواله قال الحكماء كل مملوك مملول وقال الشاعر.

وزادني شغفا بالحب أن منعت

وحب شيء إلى الإنسان ما منعا.

فإذا كان المعشوق لا يباح اشتد القلق والطلب له فإن نيل منه غرض فالعذاب الشديد في مقابلته على أن بلوغ الغرض يزيده ألما فتربي مرارة الفراق على لذة الوصال كما قال قائلهم.

كل شيء ربحته في التلاقي

والتداني خسرته في الفراق وإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض فالامتناع عذاب شديد فهو معذب في كل حال.

(ضرر العشق في الدنيا:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

وأما ضرر العشق في الدنيا فإنه يورث الهم الدائم والفكر اللازم والوسواس والأرق وقلة المطعم وكثرة السهر ثم يتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن والرعدة في الأطراف واللجلجة في اللسان والنحول في الجسد فالرأي عاطل والقلب غائب عن تدبير مصلحته والدموع هواطل والحسرات تتابع والزفرت تتوالى والأنفاس لا تمتد والأحشاء تضطرم فإذا غشى على القلب إغشاء تاما أخرجت إلى الجنون وما أقربه حينئذ من التلف هذا وكم يجني من جناية على العرض ووهن الجاه بين الخلق وربما أوقع في عقوبات البدن وإقامة الحد وقد أنشدوا.

(1) الجواب الكافي بتصرف ص 500_506.

(2)

طوق الحمامة ص 39.

ص: 212

وما عاقل في الناس يحمد أمره

ويذكر إلا وهو في الحب أحمق.

وما من فتى ذاق بؤس معيشة

من الناس إلا ذاقها حين يعشق.

قال جالينوس: العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن مسكن للتخيل وهو في مقدم الرأس ومسكن للفكر وهو في وسطه ومسكن للذكر وهو في مؤخره ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقة لم يخل من تخيله فيمتنع عن الطعام والشراب عن باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به.

ولقد وصف الحكماء قبح ما فيه العشاق فأبلغوا وكانت تأتي على عقلاء العشاق أحيانا إفاقة فيصفون قبح ما هم فيه.

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن الجاحظ قال ذكر لي عن بعض حكماء الهند أنه قال إذا ظهر العشق عندنا في رجل أو أمرأة غدونا على أهله بالتعزية قال الجاحظ وبلغني أن عاشقا مات بالهند عشقا فبعث ملك الهند إلى المعشوق يقتله به.

(وقال أبو الفضل الربعي: قال رجل من الهند إذا ظهر العشق عندنا في أحد غدونا عليه بالتعزية.

وهاك أشعار قيلت في ذم العشق ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:

(قال الأصمعي: سئل أعرابي عن الحب فقال وما الحب وما عسى أن يكون هل هو إلا سحر أو جنون ثم أنشأ يقول.

هل الحب إلا زفرة بعد زفرة

وحر على الأحشاء ليس له برد

وفيض دموع من جفوني كلما

بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو

(وقال الصيدلاني:

قالت جننت على رأسي فقلت لها

العشق أعظم مما بالمجانين

العشق ليس يفيق الدهر صاحبه

وإنما يصرع المجنون في الحين

أهـ

(قد يكون العشق أعظم إثماً من الزنا بالفرج والعياذ بالله:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:

والزنا بالفرج ـ وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس ـ لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به: أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير. فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوى إثمه إثم الكبيرة، أو يربى عليها.

وأيضاً، فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية.

وأيضاً، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه، كما قال القائل:

ص: 213

تَاللهِ مَا أ سَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً إلا وَعَزّ عَلَى الوَرَى استنقَاذُهُ

بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه.

وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].

وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغي اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات.

وأصل الغي من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه:{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14 - 15].

فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله ـ إن جعل له ـ كل رذيلة وخسيس، فَلِمَعْشُوقِه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.

ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله.

ص: 214

وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة، والباطنة، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر الأصغر، ومن قتل النفوس، تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم مالا خفاء به.

وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ".

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

(ذكر من ألقى به العشق في الهاوية:

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام وكانت من أجمل النساء ترى رأى الخوارج قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت له يا هذا قد فرغت فافرغ فخرج متلبسا سلاحه وخرجت قطام فضربت له قبة في المسجد وخرج علي يقول الصلاة الصلاة فأتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر.

لم أر مهرا ساقه ذو سماحة

كمهر قطام بيننا غير معجم

ثلاثة آلاف وعبدٍ وقينة

وقتل علي بالحسام المصمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا

ولافتك إلا دون فتك ابن ملجم

ص: 215

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن رجل من العرب كان تحته ابنة عم له وكان لها عاشقا وكانت امرأة جميلة وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها ثم يرجع إلى أصحابه عشقا لها فطبن لها ابن عم لها فاكترى دارا إلى جنبه ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد فاحتالت وتدلت إليه ودخل الزوج كعادته لينظر إليها فلم يرها فقال لأمها أين فلانة فقالت تقضي حاجة فطلبها في الموضع فلم يجدها فإذا هي قد تدلت وهو ينظر إليها فقال لها ما وراءك والله لتصدقني قالت والله لأصدقنك من الأمر كيت وكيت فأقرت له فسل السيف فضرب عنقها ثم قتل أمها وهرب وأنشأ يقول.

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنت لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولربما

روى الهوى شفتي من شفتيها

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن عكرمة قال إنا لَمَعَ عبد الله بن عباس عشية عرفة إذ أقبل فتية يحملون فتى من بني عذرة قد بلى بدنه وكانت له حلاوة وجمال حتى وقفوه بين يديه ثم قالوا استشف لهذا يا بن عم رسول الله.

فقال وما به فترنم الفتى بصوت ضعيف لا يتبين وهو يقول.

بنا من جوى الأحزان والحب لوعة

تكاد لها نفس الشفيق تذوب

ولكنما أبقى حشاشة معول

على ما به عود هناك صليب

وما عجب موت المحبين في الهوى

ولكن بقاء العاشقين عجيب

ثم شهق شهقة فمات.

قال عكرمة فما زال ابن عباس بقية يومه يتعوذ بالله من الحب.

(كيفية التوبة من العشق:

وبعد أن تبين فيما مضى خطورة العشق وعظيم جنايته نصل إلى بيت القصيد في هذه المسألة، ألا وهي التوبة من العشق، وكيفية ذلك.

فعلى من وقع في العشق أن يتوب إلى الله عز وجل سواء كان عاشقاً، أو معشوقاً، أو معيناً على ذلك.

فتوبة العاشق تكون بترك العشق، والعزم والمجاهدة على ذلك، وبألا يُظْهر أمرَه، ولا من ابتلي بعشقه؛ فلا يذكره، ولا يشبب به، ولا يسير إليه، ولا يمد طرفه إليه، وأن يقطع الصلاتِ المُذَكِّرةَ به، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك، وأن يصبر على ما يلاقيه خصوصاً في بداية أمره.

وعلى المعشوق أن يتوب إلى الله إن كان مشاركاً، أو متسبباً في غواية العاشق، فيتوب إلى الله من استمالة المعشوق والتزين له، والتحبب إليه، واللقاء به، ومحادثته، ومراسلته.

ص: 216

وعلى من أعان على العشق بالتقريب بين العاشقين بالباطل أن يتوب إلى الله، وأن يَدَعَ ما كان يقوم به، وأن يعلم أن ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وأنه بذلك يذكي أوار العشق، ويسعر نيرانه؛ فهو يفسد أكثر مما يصلح، وسعيه مأزور غير مشكور؛ فعمله ليس من عمل الخير، ولا من ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما.

بل إن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب، وفساد الدين، وأي مفسدة أعظم من هذه؟

وغاية ما يقدَّر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت؛ تفادياً عن التعرض للمحرم (1).

وإلا فالغالب أن العاقبة تكون نجاة وسلامة.

(الأسباب المعينة على ترك العشق:

فمع عظم شأن العشق، وصعوبة الخلاص منه إلا أن ذلك ليس متعذراً ولا مستحيلاً؛ فلكل داء دواء، ولكن الدواء لا ينفع إلا إذا صادف محلاً قابلاً؛ فإذا رام المبتلى بهذا الداءِ الشفاءَ، وسعى إليه سعيه وفق لما يريد، وأعين على بلوغ المقصود.

وإلا استمر على بلائه، بل ربما زاد شقاؤه.

[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إنما يوصف الدواء لمن يقبل؛ فأما المخلِّط فإن الدواء يضيع عنده (2).

وفيما يلي ذكر لبعض الأسباب المعينة على ترك العشق على سبيل الإجمال، أما التفصيل في ذلك فستجده في الباب الثاني من هذا الكتاب ضمن الأمور المعينة على التوبة عموماً.

فمن تلك الأسباب ما يلي: (3)

(أ) الدعاء: والتضرع إلى الله عز وجل وصدق اللجأ إليه، والإخلاص له، وسؤاله السلوَّ؛ فإن المبتلى بهذا الداء مضطر، والله يجيب المضطر إذا دعاه.

(ب) غض البصر:

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والواجب على من وقع بصره على مستحسن، فوجد لذةَ تلك النظرة في قلبه أن يصرف بصره؛ فمتى ما تَثَبَّت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.

فإن قيل: فإن وقع العشق بأول نظرة فأي لوم على الناظر؟

فالجواب: أنه إذا كانت النظرة لمحة لم تكد توجب عشقاً، إنما يوجبه جمود العين على المنظور بقدر ما تثبت فيه، وذلك ممنوع منه، ولو قدَّرنا وجوده باللمحة؛ فأثَّر محبةً سَهُلَ قمعُ ما حصل (4).

إلى أن قال: فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟

(1) روضة المحبين ص 148_150.

(2)

ذم الهوى ص 443.

(3)

الكلام في هذا أكثره مستفاد من ذم الهوى ص 440_497، والجواب الكافي ص 493_499 و 506_507.

(4)

ذم الهوى ص 439.

ص: 217

قيل: علاجه الإعراض عن النظر؛ فإن النظر مثل الحبة تلقى في الأرض؛ فإذا لم يلتفت إليها يبست، وإن سقيت نبتت؛ فكذلك النظرة إذا ألحقت بمثلها (1).

وقال: فإن جرى تفريط بإتْباع نظرة لنظرة فإن الثانية هي التي تخاف وتحذر؛ فلا ينبغي أن تحقر هذه النظرة؛ فربما أورثت صبابة صبَّت دم الصبِّ (2).

[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فعلى العاقل ألا يحكِّم على نفسه عشق الصور؛ لئلا يؤدِّيه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرها، أو بعضها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه، المغرور بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه، وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقُه من قلبه (3).

فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغض طرفه عما تشتهيه نفسه من الحرام، وليكن له في ذلك الغضِّ نيةٌ يحتسب بها الأجر، ويكتسب بها الفضل، ويدخل في جملة من نهى النفس عن الهوى.

(ج) التفكر والتذكر: وذلك باب واسع جداً، والمقام لا يتسع إلا لأقل القليل؛ فليتفكر العاشق في خطواته إلى لقاء محبوبه، وأنها مع ما فيها من ضم جراح إلى جراح مكتوبة عليه، وهو مطالب بها.

وليتفكر في مكالمته محبوبَه؛ فإنه مسؤول عنها، مع ما فيها من إلهاب نار الحب.

وليتذكرْ هاذم اللذات، وشدة النزع، وليتفكر في حال الموتى الذين حبسوا على أعمال تجاوزوا فيها؛ فليس منهم من يقدر على محو خطيئة؛ ولا على زيادة حسنة؛ فلا تَعْث يا مطلق!.

وليتصور عَرْضَه على ربه، وتخجيله له بمضيض العتاب.

وليتخيل شهادة المكان الذي وقعت فيه المعصية.

وليمثل في نفسه عند بعض زلله كيف يؤمر به إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.

وليتصور نفاد اللذة، وبقاء العار والعذاب.

وليتذكر أنه لا يرضى لأحد من محارمه أن يكون معشوقاً؛ إذا كان ذا غيرة، فكيف يرضى ذلك المصير لغيره؟

(د) البُعد عن المحبوب: فكل بعيد عن البدن يُؤَثِّر بعده في القلب؛ فليصبر على البعد في بداية الأمر صبر المصاب في بداية مصيبته، ثم إن مَرَّ الأيام يهون الأمر.

فليبتعد عن المحبوب، فلا يراه، ولا يسمع كلامه، ولا يرى ما يذكره به.

(1) ذم الهوى ص 440.

(2)

ذم الهوى ص 440.

(3)

الجواب الكافي 506.

ص: 218

(هـ) الاشتغال بما ينفع: فقد مر، قبل قليل أن من أسباب العشق الفراغَ؛ لذلك فكل ما يشغل القلب من المعاش، والصناعات، والقيام على خدمة الأهل، ونحو ذلك فإنه يسلي العاشق؛ لأن العشق شغل الفارغ كما مر فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته؛ لشوقه إليها؛ فيكون تمثيله لها إلقاء في باطنه؛ فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب درس الحبُّ، ودثر العشق، وحصل التناسي.

(و) الزواج: ولو بغير من عشقها؛ فإن في الزواج كفاية وبركة وسلوة، وإن كان متزوجاً فليكثر من الجماع؛ فإنه دواء ووجه كونه دواء أنه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق.

وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور، وبرد القلب؛ فخمد لهب العشق (1).

فإن كان المعشوق امرأة يمكن الزواج بها فليفعل؛ فذلك من أنفع الدواء؛ لأن النكاح يزيل العشق، وإن تعسر فليلجأ إلى الله في تسهيله، وليعامله بالصبر على ما نهى عنه، فربما عجل مراده.

وإن عجز عن ذلك، أو كان المعشوق لا سبيل إلى تحصيله كذات الزوج فليلازم الصبر؛ وليسأل الله السلو.

(ز) عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى، والتفكر في الموت وما بعده؛ فإن ذلك يطفىء نيران الهوى كما أن سماع الغناء واللهو يقويه؛ فما هو كالضد يضعفه.

(ح) مواصلة مجالس الذكر: ومجالسةُ الزهاد، وسماع أخبار الصالحين.

ط_قطع الطمع باليأس، وقوةُ العزم على قهر الهوى: فإن أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولَّد عن نظر، أو سماع، فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك_لم يحدث له العشق.

فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره، ولم يشتغل قلبه به لم يحدث له ذلك.

فإن أطال مع ذلك الفكرَ في محاسن المعشوق، وقارنه خوفُ ما هو أكبر عنده من لذة وصاله، إما خوف من دخول النار، وغضب الجبار، وادخار الأوزار، وغلب هذا الخوف على هذا الطمع_لم يحدث له العشق.

فإن فاته هذا الخوفُ، فقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه، أو ماله، أو ذهاب جاهه، وسقوط مرتبته عند الناس، وسقوطه من عين من يعز عليه، وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه.

وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه، وأنفع من ذلك المعشوق، وقدم محبته على محبة ذلك المعشوق اندفع عنه العشق.

(ي) المحافظة على الصلاة: وإعطاؤها حقها من الخشوع، والتكميل لها ظاهراً وباطناً.

قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت: 45]

(1) ذم الهوى ص 476.

ص: 219

[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب وهو ذكر الله (1).

(ك) زجر الهمة الأبية: عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل؛ فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية؛ فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقَّه شيء، وما زال الهوى يذل أهل العز.

وهذا الذل لا يحتمله ذو أنفة؛ فإن أهل الأنفة حملهم طلب علو القدر على قتل النفوس، وإجهاد الأبدان في طلب المعالي، ونحن نرى طالب العلم يسهر ويهجر اللذات؛ أنفة من أن يقال له: جاهل، والمسافر يركب الأخطار؛ لينال ما يرفع قدره من المال؛ حتى إن رُذالة الخَلْق ربما حملوا كثيراً من المشاق؛ ليصير لهم قدر؛ وهذا القائل يقول:

وكل امرىء قاتلٌ نفسَه

على أن يقال له: إنه (2)

فأما من لا يأنف الذل، وينقاد لموافقة هواه_فذاك خارج عن نطاق المتميزين.

(ل) التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك؛ فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ.

[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً (3).

(وقال أيضاً: وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.

وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.

والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.

ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له (4).

(وقال أيضاً: فاستعمال الفكر في بدن الآدمي، وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح يهون العشق؛ ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.

وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق (5).

قال أبو نصر بن نباتة:

ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه

حتى سلوت فصرت لا أشتاق

وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى

رأت القلوب ولم تر الأحداق (6)

(1) العبودية ص 100.

(2)

ذم الهوى 479.

(3)

ذم الهوى ص 486.

(4)

ذم الهوى ص 486.

(5)

ذم الهوى ص 486.

(6)

ذم الهوى ص 486_487.

ص: 220

ولهذا تجد العاشق يغالي في المعشوق، ويُصَوِّر له في قلبه ما يصور؛ لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به لا يرون له ذلك الشأن؛ بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.

(م) تَصَوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب المحن الزائدة على الحد التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.

(ن) النظر في العاقبة: أفترى يوسف_عليه السلام_لو زلَّ من كان يكون؟.

فالعاقل إذاً هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة؛ فنُغَصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة؛ فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.

وأفضل الناس من لم يرتكب سبباً

حتى يفكر ما تجني عواقبه (1)

(س) أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.

(ف) النظر فيما يُفَوتُه التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس؛ لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُؤْثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.

هذه بعض الأسباب المعينة على علاج العشق، الواقية_بإذن الله_لمن لم يقع فيه.

فحري بمن أخذ بها أن يُعان، ويوفَّق؛ فإن جاهد، وصابر، ثم بقي بعد ذلك في قلبه ما بقي فإنه لا يلام عليه.

[*](يقول الجنيد رحمه الله تعالى: الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه (2).

[*] (قال ابن حزم رحمه الله تعالى: =لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل.

بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعان طبعه على الفضائل.

ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل (3).

(1) ذم الهوى ص 493.

(2)

ذم الهوى ص 497.

(3)

الأخلاق والسير ص 78_79.

ص: 221

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى بعد إيراده عدداً من الأدوية النافعة لداء العشق: فإن قال قائل: فما تقول فيمن صبر عن حبيبه، وبالغ في استعمال الصبر، غير أن خيال الحبيب في القلب لا يزول، ووسواس النفس به لا ينقطع؟.

فالجواب: أنه إذا كففت جوارحك فقد قطعت موادَّ الماء الجاري، وسنيضب ما حصل في الوادي مع الزمان، خصوصاً إذا طلعت عليه شمسُ صيف الخوف، ومرت به سَمُومُ المراقبة لمن يرى الباطن فما أعجل ذهابه.

ثم استغث بمن صَبَرْتَ لأجله، وقل: إلهي! فعلتُ ما أطقتُ؛ فاحفظ لي ما لا طاقة لي بحفظه (1).

[*] (وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض حديث له عن العشق، وعلاجه: وميلُ النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن بفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس.

وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه؛ فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله_تعالى_وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرَّمه على نفسه؛ فيكون في طاعة نفسه وهواه.

بل هو أمر حرَّمه الله ورسوله، ولا حيلة فيه؛ فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله (2).

وقال في موضع آخر: وليتخذ ورداً من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف؛ فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه.

وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس، باطنة وظاهرة؛ فإنها عمود الدين.

وليكن هِجِّيراه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال (3).

وقال: فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقوى الله.

وقد روي في الحديث أن =من عشق فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً (4).

وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه نظر، ولا يحتج بهذا.

لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظراً، وقولاً، وعملاً، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق.

(1) ذم الهوى ص 496.

(2)

مجموع الفتاوى 14/ 207.

(3)

مجموع الفتاوى 10/ 137.

(4)

مضى تخريج الحديث، ص 170.

ص: 222