الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم (1) المصيبة فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر (2).
وقال في موضع آخر: فإن الله أمر بالتقوى والصبر؛ فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله، من نظر بعين، ومن لَفْظ بلسان، ومن حركة برجل.
والصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله؛ فإن هذا هو الصبر الجميل.
(وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير الله؛ فمتى شكى إلى غير الله نقص صبره.
وهذا أعلى الكتمانين، ولكن هذا لا يصبر عليه كلُّ أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين: فإن شكى إلى طبيب يعرف طبَّ النفوس؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهو بمنزلة المستفتي، وهذا حسن.
وإن شكى إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام، وإن شكى إلى غيره؛ لما في الشكوى من الراحة_كما أن المصاب يشكو مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلُّم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصيته فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفحشاء؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتشهَّت، وتمنت، وتتيمت.
والإنسان متى رأى، أو سمع، أو تخيَّل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً إلى الفعل (3).
هذا وسيأتي مزيد حديث عن العشق في الباب الثاني_إن شاء الله_.
(شروط التوبة الصادقة:
فصل الخطاب في هذه شروط التوبة الصادقة أن للتوبة الصادقة شروط لا بد منها حتى تكون صحيحة مقبولة وإليك شروط التوبة الصادقة جملةً وتفصيلا:
(أولاً: شروط التوبة الصادقة جملةً:
(1)
الإخلاص لله تعالى:
(2)
الإقلاع عن المعصية:
(3)
الاعتراف بالذنب:
(4)
الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي:
(5)
العزم على عدم العودة:
(6)
ردّ المظالم الى أهلها:
(7)
أن تصدر في زمن قبولها:
(ثانيا: شروط التوبة الصادقة تفصيلا:
(1)
الإخلاص لله تعالى:
(1) هكذا وردت في الأصل ولعلها: على.
(2)
مجموع الفتاوى 10/ 133.
(3)
مجموع الفتاوى 14/ 207_209.
فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه: إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]
(2)
الإقلاع عن المعصية:
فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة، أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبته جديدة وهكذا.
(أيها العاصي ما أغدرك!
تسأل الله فيعطيك، فتستعين بما أعطاك على معصيته، أو أمنت أن يهتك سترك أو يغضب عليك غضبةً لا يرضى بعدها أبدا، كيف أمنت هذه الحالة ويمكن وقوعها لا محالة، أراك ضعيف اليقين يا مؤثر الدنيا على الدين.
(إلى متى تستمر على عصيانه، وقد غذاك برزقه وإحسانه، أما خلقك بيده؟ أما نفخ فيك من روحه؟ أما علمت فعله بمن أطاعه، وأخذي لمن عصاه؟ أما تستحي تذكره في الشدائد وفي الرخاء تنساه؟ عين بصيرتك أعماها الهوى.
هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني؟ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني.
اترك دارًا صفوها كدر، وآمالها أماني
(يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، إبك على معصيتك فلعلك مطرود. يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من أرشادها نصحًا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق 6].
[*] (قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يُغمى عليه مرة، ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكًا في دنياه، متخلفًا عن طاعة مولاه، فقلت له: يا أخي، تب إلى الله، وارجع عن غيّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك، ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك. فقال: هيهات هيهات! قد دنا ما هو آت، وأنا ميّت لا محالة، فيا أسفي على عمر أفنيته في البطالة. أردت أن أتوب مما جنيت، فسمعت هاتفًا يهتف من زاوية البيت: عاهدناك مرارًا فوجدناك غدارًا.
نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونستغفره من الذنوب المتقادمة.
(يا أسير دنياه، يا عابداً لهواه، يا مَوْطِن الخطايا، ويا مِسْتَودِعَ الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك:
إليك عنا فما تحظى بنجوانا
…
يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا
…
وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا
…
وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع
…
إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا
(أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق.
يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك، لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيًا موجودًا، كأنك لا تعود نسيًا مفقودًا.
فاز، والله، المُخِفُّون من الأوزار، وَسَلَمَ المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار.
(أخي الحبيب:
أقبل مولاك، وأعرض عن غيّك وهواك وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار.
(ولله درُ من قال:
أمولاي إني عبد ضعيف
…
أتيتك أرغب بما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب
…
وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمنّ بعفوك يا سيّدي
…
فليس اعتمادي إلا عليك
[*] (قال بعض الأخيار لولده لما حضرته الوفاة: يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به. قال نعم يا أبت.
قال يا بنيّ: اجعل في عنقي حبلًا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل: هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه.
قال: فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذِلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.
قال: فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول: تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرّبه وأدناه وجعل الجنة مأواه.
(يا من نسي العهد القديم وخان، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان، من الذي بصنعته سمعت الأذنان، من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان، ولو علم الناس منك ما يعلم: ما جالسوك في مكان، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.
(كم عاهدته مرارًا فوجدك غدارًا، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أقلع عن المعاصي قبل أن تندم، هذا هو الدواء إن كنت تفهم.
(3)
الاعتراف بالذنب:
إذ لا يمكن أن يتوب المرء من شئ لا يعده ذنباً.
(4)
الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي:
ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
فأما الندم: فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الندم توبة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الندم توبة) أي هو معظم أركانها لأن الندم وحده كاف فيها من قبيل الحج عرفة وإنما كان أعظم أركانها لأن الندم شيء متعلق بالقلب، والجوارح تبع له فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح.
(تتمة) قال في الحكم: من علامة موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من المرافقات وترك الندم على ما فعلته من الزلات. (فائدة) من ألفاظهم البليغة مخلب المعصية يقص بالندامة وجناح الطاعة يوصل بالإدامة.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) قال الغزالي: إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها.
(أخي الحبيب:
أذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا
…
وصدته الأماني أن يتوبَ
أنا العبد الذي أضحى حزيناً
…
على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه
…
صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً
…
فما لي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري
…
فلم أرع الشبيبة و المشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر
…
أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا
…
وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناس
…
حووا من كل معروف نصيبا
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي
…
وقد وافيت بابكم منيبا
أنا العبد الفقير مددت كفي
…
إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدَّار كم عاهدت عهداً
…
وكنت على الوفاء به كذوبا
أنا المقطوع فارحمني و صلني
…
و يسر منك لي فرجاً قريبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً
…
و من يرجو رضاك فلن يخيبا
(5)
العزم على عدم العودة:
فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتم الأصم قال: التوبة أن تتنبه من الغفلة وتذكر الذنب وتذكر لطف الله وحكم الله وستر الله، إذا أذنبت لم تأمن الأرض والسماء أن يأخذاك، فإذا رأيت حكمه رأيت أن ترجع من الذنوب مثل اللبن إذا خرج من الضرع لا يعود إليه، فلا تعد إلى الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، وفعل التائب في أربعة أشياء، أن تحفظ اللسان من الغيبة والكذب والحسد واللغو، والثاني أن تفارق أصحاب السوء، والثالث إذا ذكر الذنب تستحي من الله، والرابع تستعد للموت. وعلامة الاستعداد أن لا تكون في حال من الأحوال غير راض من الله، فإذا كان التائب هكذا يعطيه الله أربعة أشياء أولها يحبه كما قال تعالى:(إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ)[البقرة: 222]. ثم يخرج من الذنب كأنه لم يذنب قط، كما قال صلى الله عليه وسلم: التائب في الذنب كمن لا ذنب له. والثالث يحفظه من الشيطان لا يكون له عليه سبيل والرابع يؤمنه من النار قبل الموت، كما قال تعالى:(أَلاّ تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]. ويجب على الخلق أربعة أشياء: ينبغي لهم أن يحبوا هذا التائب كما يحبه الله تعالى ويدعوا له بالحفظ ويستغفروا له كما تستغفر له الملائكة، قال الله تعالى: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم.-غافر:7 - .إلخ، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم. والرابع: أن ينصحوا للتائب كما ينصحون لأنفسهم.
(6)
التحلل من المظالم:
التوبة تكون من حق الله وحق العباد؛ فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك، بل أضاف إليه القضاء والكفارة.
أما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه).
ولكن من لم يقْدر على الإيصال بعد بذله الوسعَ في ذلك فعفو الله مأمول؛ فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات (1).
ومما يدخل في الحقوق والمظالم التي يجب التحلل منها مايلي:
(أ) الحقوق المالية: فإن كان لدى التائب مظلمة مالية لأحد من الناس فليردها عليه، سواء كانت تلك المظلمة غصباً، أو سرقة، أو جحداً لأمانة مالية، أو نحو ذلك.
وبعض الناس قد يستحيي من رد تلك المظلمة، وخصوصاً إذا كانت سرقة.
والحل في مثل هذه الحال يسير بحمد الله، فإما أن يذهب لصاحب الحق بنفسه، ويخبره بما كان من أمره، ويرد عليه ما أخذ منه، وإما أن يهاتفه عبر الهاتف ويتفق معه على حل معين، وإما أن يرسل له المبلغ المالي عبر البريد، وإما أن يوسط أحداً من الناس في إرسال المال، والتحلل من صاحبه.
وإن كان لا يعرف صاحب تلك المظلمة، أو أن يكون قد بحث عنه فلم يجده، ولم يعرف أحداً من أقاربه، أو أن يكون قد نسي مقدار ما أخذ منه، أو أن يكون نسي صاحب المظلمة فَلْيُقَدّرْ ما أخذ منه، وليتصدق به عنه؛ فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لأهل الأموال الخيار، بين أن يجيزوا ما فعل، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم، ويكون ثواب تلك الصدقة له؛ إذ لا يبطل الله عز وجل ثوابها، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمُعَوَّض، فيغرمه إياها، ويجعل أجرها لهم، وقد غرم من حسناته بقدرها.
بل إن صاحب المال قد يَسُرُّه وصول ثواب ماله إليه أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا (2).
(ب) الحقوق في الأبدان: فإن كانت المظلمة من نوع الجراحات في الأبدان فالتوبة منها أن يُمَكِّن التائبُ صاحبَ الحقّ من استيفاء حقه، إما بالمال، وإما بالقصاص.
فإن لم يعرفه، أو لم يتمكن من لقائه فليتصدق عنه، وليدْعُ له.
(جـ) المظالم في الأعراض: وإذا كانت المظلمة في الأعراض، كأن تكون بقدح في أحد بغيبة، أو قذف، أو نميمة، أو أن تكون بإفساد لذات البين فليتحلل ممن أساء إليه، وليصلح ما أفسد قدر الإمكان.
(1) انظر فتح الباري11/ 106.
(2)
انظر مدارج السالكين1/ 391_393.
فإن كان إذا أخبر من أساء في حقهم لا يغضبون منه، ولا يزيدون حنقاً عليه، ولا يورثهم ذلك غماً صارحهم، وطلب منهم المسامحة بعبارات عامة كأن يقول: إني أخطأت في حقك في الماضي، وأسأت فهمك فظلمتك بكلام تبين فيما بعد خطؤه، وإنني تبت الآن فسامحني فلا بأس في ذلك؛ فقد يكون المُخْبَرُ رجلاً كريماً يقيل العثرة، ويتجاوز عن الزلة.
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم، أو قذفهم به حنقوا عليه، وازدادوا غماً وغيظاً، أو أنه إذا أخبرهم بالعبارات العامة لم يقنعوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية لهذا الشخص فإنه حينئذ لا يخبرهم، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المُساء إليه بخير كما ذكره بشر، فيبدل غيبته بمدحه، والثناء عليه بما هو أهله، ويستغفر له بقدر ما اغتابه؛ فهذا هو المتعين في مثل هذه الحالة؛ ذلك أن الإعلام والحالة هذه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يزيده إلا أذىً وحنقاً، وغماً، وكان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما أورثه ضرراً في نفسه أو بدنه.
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه، ويأمر به.
وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل؛ فلا يصفو له أبداً، بل يورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم، والتعاطف، والتحابب.
وإذا كانت مظلمة الأعراض متعلقة بالمحارم ثم تاب منها فشأنها شأن الغيبة، والنميمة، والقذف من جهة الاستتار، وترك الإعلام؛ فتكون توبة الإنسان فيما بينه وبين ربه.
بل إن مصلحة الإخفاء ههنا أكبر؛ لأن مصلحة الإعلام لا تكاد تذكر.
فإذا تاب الإنسان من معاكسة إحدى محارم المسلمين، أو حصل بينهما ما لا يرضي الله عز وجل فليستتر بستر الله، لأنه إذا أخبر وَلِيَّها؛ ليتحلل منه حصل مفسدة كبرى؛ فقد يسعى الولي للتشفي، والانتقام، وقد يتأذى كثيراً بمجرد علمه، وقد يحصل طلاق، وقتل، وفساد عريض.
أما إذا كان في الإخبار مصلحة، كأن تكون المرأة التي حصل منها ما حصل مستمرة على غيها، ثم تاب من يعاكسها، أو يجتمع بها فلا بأس من إشعار وليها أو أحد معارفها العقلاء عبر الهاتف أو الرسالة؛ حتى يقف الفساد عند حد.
هذا هو المتعين في مظالم الأعراض، والفرق بينها وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين: (
أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه؛ فلا يجوز إخفاؤها عنه؛ فإنه محض حقه؛ فيجب عليه أداؤه إليه.
بخلاف جنايات الأعراض من غيبة أو نميمة أو ما تعلق بالمحارم؛ فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره، وتهييجه فقط؛ فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس.
والثاني: أنه إذا أعلمه بجنايات الأموال أو الأبدان لم تؤذه، ولم تُهجْ منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سره ذلك وفرح به.
بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلاً ونهاراً من أنواع القذف، والغيبة، والهجو؛ فاعتبار أحدهما على الآخر اعتبار فاسد (1).
(د) المظالم العامة: فإذا كانت المظلمة عامة، يتضرر منها عموم الناس فالتوبة في حق من يقوم بذلك أوجب؛ لأن ضررها متعدٍّ.
وذلك كحال من كان صحفياً يبث سمومه عبر الصحافة، أو كان ممثلاًِ يغري بالرذيلة من خلال تمثيله، أو كان مطرباً يؤدي الأغاني الخليعة الماجنة، أو كان أديباً أو كاتباً ينشر الخنا وما ينافي الفضيلة، أو كان مبتدعاً في دين الله ناشراً لبدعته، أو أياً كان ممن يستخدم مواهبه وإمكاناته لمحاربة الخير، ونشر الشر على عامة الناس؛ فالواجب على هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وتوبتهم تكون بالندم على ما فات، وإظهار الندم، وإعلان الخطأ، والرجوعِ عنه، والقيام بنشر الخير قدر المستطاع، والإكثار من فعل الطاعات، والحرص على هداية من تسببوا في إغوائهم، وتسخير الموهبة لخدمة الدين.
ومما يلحق بالمظالم العامة التي يجب أن يتاب منها بيع الخمور، والمخدرات، والدخان، وبيع الأفلام الهابطة، والمجلات الخليعة.
ولا يلزم من توبة هؤلاء أن يعلنوا بها، فقد لا يترتب على ذلك مصلحة، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب أن يقتدي بهم غيرهم.
فالتوبة في حقهم أن يَدَعُوا ما قاموا به، وأن يحرصوا كل الحرص على إصلاح ما أفسدوه، وأن يقبلوا على الله، ويكثروا من الاستغفار وسائر الطاعات.
وبالجملة فكل مظلمة يستطيع الإنسان أن يتحلل منها فليفعل، وما لم يستطع فلا حرج عليه؛ فعفو الله مأمول، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
(1) انظر مدارج السالكين1/ 300_301، والوابل الصيب لابن القيم ص219، وانظر الأذكار للنووي ص308_309، وأريد أن أتوب ولكن، للشيخ محمد المنجد ص42_44.
(هـ) توبة القاتل المتعمد: هناك خلاف بين السلف في توبة القاتل، فهناك منهم من قال: لا توبة للقاتل، والجمهور يقولون: إن التوبة تأتي على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه، وتقبل (1).
والصواب إن شاء الله تعالى رأي الجمهور، وأن القاتل المتعمد له توبة؛ ذلك أنه عليه ـ والحالة هذه ـ ثلاثة حقوق:
1_
حق الله. 2_ حق القتيل. 3_ حق الورثة.
فحق الله يُقضى بالتوبة، وحق الورثة أن يُسَلِّم القاتل نفسه لهم؛ ليأخذوا حقهم إما بالقصاص، أو الدية، أو العفو.
وحق المقتول لا يمكن الوفاء به في الدنيا؛ فإن حسنت توبة القاتل، وقدم نفسه لأهل المقتول فإن الله يرفع عنه ذلك الحق، ويعوض المقتول يوم القيامة خيراً من عنده سبحانه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه المسألة: فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث؛ ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله.
والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته، ولا يعاقب هذا؛ لكمال توبته.
وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف، ثم أسلم، وحسن إسلامه؛ فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه، ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً؛ فإنَّ هَدْمَ التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله.
وعلى هذا إذا أسلم نفسه، وانقاد، فعفا عنه الولي، وتاب القاتل توبة نصوحاً فالله تعالى يقبل توبته، ويعوض المقتول.
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده، والحكم بعد ذلك لله (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل: 78] (2).
مسألة: إذا كانت المظلمة بقدح في الآدمي بغيبة، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟
العلماء في ذلك على قولين كما يلي:
القول الأول: اشترطوا الإعلام، واحتجوا بالحديث الآتي:
(1) انظر تفصيل تلك الأقوال في معالم التنزيل للبغوي1/ 465، وصحيح مسلم بشرح النووي 16/ 236، وتفسير آيات أشكلت لابن تيمية 1/ 313_318، ومدارج السالكين1/ 395_402، وتفسير القرآن العظيم 1/ 506_510.
(2)
مدارج السالكين1/ 402.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف في مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به، ويستغفر له، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه أو يأمر به.
(7)
أن تصدر في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه
(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.
[*] (قال الشيخ حافظ الحكمي:
وتقبل التوبة قبل الغرغره: كما أتى في الشرعة المطهرة
(توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله سابقة ولاحقة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة قال الله سبحانه وتعالى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة /117، 118]
فأخبر سبحانه أن «توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين» فكانت سببا ومقتضياً لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله تعالى عليهم والحكم ينتف لانتفاء علته.
ونظير هذا: هدايته لعبده قبل الاهتداء فيهتدي بهدايته فتوجب له تلك الهداية هداية أخرى يثيبه الله بها هداية على هدايته فإن من ثواب الهُدى: الهُدى بعده كما أن من عقوبة الضلالة: الضلالة بعدها قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد: 17] فهداهم أولا فاهتدوا فزادهم هدى ثانيا وعكسه في أهل الزيغ كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} [الصف:5] فهذه الإزاغة الثانية عقوبة لهم على زيغهم.
وهذا القدر من سر اسميه (الأول والآخر) فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: "وأعوذ بك منك" والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق وقبول وإمداد.
(مبدأ التوبة ومنتهاها:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
و (التوبة) لها مبدأ ومنتهى فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلا إلى رضوانه وأمرهم بسلوكه بقوله: تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} [الأنعام: 153]
وبقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض} [الشورى /53،52]
وبقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].
ونهايتها: الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذي نصبه موصلا إلى جنته فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة: رجع إليه في المعاد بالثواب وهذا هو أحد التأويلات في قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:71]
قال البغوي وغيره: "يتوب إلى الله متابا: يعود إليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره" فالتوبة الأولى وهي قوله: "ومن تاب" رجوع عن الشرك والثانية: رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
والتأويل الثاني: أن الجزاء متضمن معنى الأوامر والمعنى: ومن عزم على التوبة وأرادها فليجعل توبته إلى الله وحده ولوجهه خالصا لا لغيره.
التأويل الثالث: أن المراد لازم هذا المعنى وهو إشعار التائب وإعلامه بمن تاب إليه ورجع إليه والمعنى: فليعلم توبته إلى من؟ ورجوعه إلى من؟ فإنها إلى الله لا إلى غيره.
ونظير هذا على أحد التأويلين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] أي: اعلم ما يترتب على من عصى أوامره ولم يبلغ رسالته.
والتأويل الرابع: أن التوبة تكون أولا بالقصد والعزم على فعلها ثم إذا قوي العزم وصار جازما: وجد به فعل التوبة فالتوبة الأولى: بالعزم والقصد لفعلها والثانية: بنفس إيقاع التوبة وإيجادها والمعنى: فمن تاب إلى الله قصدا ونية وعزما فتوبته إلى الله عملا وفعلا وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
(علامات قبول التوبة:
للتوبة علامات تدل على صحتها وقبولها، ومن هذه العلامات:
(1)
أن يكون العبد بعد التوبة خيراً مما كان قبلها:
وكل إنسان يستشعر ذلك من نفسه، فمن كان بعد التوبة مقبلاً على الله، عالي الهمة قوي العزيمة دلّ ذلك على صدق توبته وصحتها وقبولها.
(2)
ألا يزال الخوف من العودة الى الذنب مصاحباً له:
فإن العاقل لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر حتى يسمع الملائكة الموكلين بقبض روحه: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فعند ذلك يزول خوفه ويذهب قلقه.
(3)
أن يستعظم الجناية التي تصدر منه وإن كان قد تاب منها:
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا.
[*] وقال بعض السلف: لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت.
(4)
أن تحدث التوبة للعبد انكساراً في قلبه وذلاً وتواضعاً بين يدي ربه:
وليس هناك شئ أحب الى الله من أن يأتيه عبده منكسراً ذليلاً خاضعاً مخبتاً منيباً، رطب القلب بذكر الله، لا غرور، ولا عجب، ولا حب للمدح، ولا معايرة ولا احتقار للآخرين بذنوبهم. فمن لم يجد ذلك فليتهم توبته، وليرجع الى تصحيحها.
(5)
أن يحذر من أمر جوارحه:
فليحذر من أمر لسانه فيحفظه من الكذب والغيبة والنميمة وفضول الكلام، ويشغله بذكر الله تعالى وتلاوة كتابه. ويحذر من أمر بطنه، فلا يأكل إلا حلالاً. ويحذر من أمر بصره، فلا ينظر الى الحرام، ويحذر من أمر سمعه، فلا يستمع الى غناء أو كذب أو غيبة، ويحذر من أمر يديه، فلا يمدهما في الحرام، ويحذر من أمر رجليه فلا يمشي بهما الى مواطن المعصية، ويحذر من أمر قلبه، فيطهره من البغض والحسد والكره، ويحذر من أمر طاعته، فيجعلها خالصة لوجه الله، ويبتعد عن الرياء والسمعة.
(احذر التسويف:
أخي الحبيب:
إن العبد لا يدري متى أجله، ولا كم بقي من عمره، ومما يؤسف أن نجد من يسوّفون بالتوبة ويقولون: ليس هذا وقت التوبة، دعونا نتمتع بالحياة، وعندما نبلغ سن الكبر نتوب. إنها أهواء الشيطان، وإغراءات الدنيا الفانية، والشيطان يمني الإنسان ويعده بالخلد وهو لا يملك ذلك. فالبدار البدار
…
والحذر الحذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً.
فسارع أخي الحبيب الى التوبة، واحذر التسويف فإنه ذنب آخر يحتاج الى توبة، والتوبة واجبة على الفور، فتب قبل أن يحضر أجلك وينقطع أملك، فتندم ولات ساعة مندم، فإنك لا تدري متى تنقضي أيامك، وتنقطع أنفاسك، وتنصرم لياليك.
تب قبل أن تتراكم الظلمة على قلبك حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو، تب قبل أن يعاجلك المرض أو الموت فلا تجد مهلة للتوبة.
(لا تغتر بستر الله وتوالي نعمه:
بعض الناس يسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، فإذا نُصح وحذّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً يبارزون الله بالمعاصي ليلاً ونهاراً، وامتلأت الأرض من خطاياهم، ومع ذلك يعيشون في رغد من العيش وسعة من الرزق. ونسي هؤلاء أن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، وأن هذا استدراج وإمهال من الله حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا رأيت الله تعالى) أي علمت أنه
(يعطي العبد) عبر بالمضارع إشارة إلى تجدد الإعطاء وتكرره
(من الدنيا) أي من زهرتها وزينتها
(ما يحب) أي العبد من نحو مال وولد وجاه
(وهو مقيم) أي والحال أنه مقيم
(على معاصيه) أي عاكف عليها ملازم لها
(فإنما ذلك) أي فاعلموا أنما إعطاؤه ما يحب من الدنيا
(منه) أي من الله
(استدراج) أي أخذ بتدريج واستنزال من درجة إلى أخرى، فكلما فعل معصية قابلها بنعمة وأنساه الاستغفار فيدنيه من العذاب قليلاً قليلاً ثم يصبه عليه صباً. قال إمام الحرمين: إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على خطر، فلا تدري ماذا يكون وما سبق لك في الغيب، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. وقال علي كرم الله وجهه: كم من مستدرج بالإحسان وكم من مفتون بحسن القول فيه. وكم من مغرور بالستر عليه، وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} وفي الحكم: خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً. والاستدراج الأخذ بالتدريج لا مباغتة. والمراد هنا تقريب الله العبد إلى العقوبة شيئاً فشيئاً، واستدراجه تعالى للعبد أنه كلما جدد ذنباً جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيزداد أشراً وبطراً فيندرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظاناً أن تواترها تقريب من الله، وإنما هو خذلان وتبعيد. أهـ
(فضل الله تعالى على التائب العائد:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(التائب من الذنب) توبة مخلصة صحيحة
(كمن لا ذنب له) لأن العبد إذا استقام ضعفت نفسه وانكسر هواه وتغيرت أحواله وساوى الذي قبله ممن لا صبوة له قال الطيبي: هذا من قبيل إلحاق الناقص بالكامل مبالغة كما نقول زيد كالأسد ولا يكون المشرك التائب معادلاً بالنبي المعصوم.
أخي الحبيب: لا يأخذك الهوى وملهيات النفس وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول اللّه؟ من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى.
وهذا الحديث بشارة لجميع المسلمين بالجنة، إلا صنفاً منهم لا يريدون دخولها، لا زهداً فيها، ولكن جهلاً بالطريق الموصلة اليها، وتراخياً وتكاسلاً عن دخولها، وتفضيلاً لهذه المتع الدنيوية الزائلة على تلك النعم الخالدة في الجنة.
فَجِدَّ في التوبة وسارع إليها فليس للعبد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد فسارع إلى التوبة، وهب من الغفلة، واعلم أن خير أيامك يوم العودة إلى الله عز وجل، فاصدق في ذلك السير واعلم أن الله تعالى أفرح بتوبتك من مَفْروحٍ به، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ".
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه، قال الخطابي معنى الحديث ان الله ارضى بالتوبة واقبل لها والفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله وهو كقوله تعالى كل حزب بما لديهم فرحون أي رضون وقال بن فورك الفرح في اللغة السرور ويطلق على البطر ومنه ان الله لا يحب الفرحين وعلى الرضا فان كل من يسر بشيء ويرضى به يقال في حقه فرح به قال بن العربي كل صفة تقتضي التغير لا يجوز ان يوصف الله بحقيقتها فان ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به وقد يعبر عن الشيء بسببه أو ثمرته الحاصلة عنه فان من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح وقال بن أبي جمرة كنى عن إحسان الله التائب وتجاوزه عنه بالفرح لان عادة الملك إذا فرح بفعل أحد ان يبالغ في الإحسان اليه وقال القرطبي في المفهم هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وانه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله ووجه هذا المثل ان العاصي حصل بسبب معصية في قبضة الشيطان وأسره وقد اشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من اسر الشيطان ومن المهلكة التي اشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه ويسد به خلته أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا وكل ذلك محال على الله تعالى فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور لكن هذا الفرح له عندنا ثمرة وفائدة وهو الإقبال على الشيء المفروح به واحلاله المحل الأعلى وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب وهذا القانون جار في جميع ما اطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
"لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة" قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه، وقال المازري: الفرح ينقسم على وجوه منها السرور والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به، قال: فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره.
(أخي الحبيب:
[*] قال يحي بن معاذ رحمه الله: من أعظم الاغترار عندي: التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط. ومن أحب الجنة إنقطع عن الشهوات، ومن خاف النار إنصرف عن السيئات.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل.
وقال رحمه الله: (إن المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يَفجَؤ الشيء بعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات، هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا! والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه.
(أخي الحبيب:
جهاد النفس جهاد طويل وطريق محفوف بالمكاره، مذاقه مر وملمسه خشن، فعليك بالسير في ركاب التائبين حتى تحط رحالك في جنات عدن.
[*] قال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر لا يأمن الشقاء:
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم أي الفريقين كان.
الثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟
الثالث: ذكر هول المطالع، فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه؟
الرابع: يوم يصدر الناس أشتاتاً، فلا يدري أي الطريقين يسلك به؟.
[*] وقال الحسن رحمه الله: (ابن آدم .. إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك) فينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي، فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل، وإن كان حلمه يسع الذنوب، وإن شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
(أخي الحبيب:
كلنا أصحاب ذنوب وخطايا وليس منا من هو معصوم عن الزلل والخطأ، ولكن خيرنا من يسارع إلى التوبة ويبادر إلى العودة: تحثه الخُطى، وتُسرع به الدمعة، ويُعينه أهل الخير رفقاء الدنيا والآخرة، فإن من واجب الأخوة في الله عدم ترك العاصي يستمر في معصيته بل يُحاط بإخوانه ويُذكر ويُنبه، ولا يهمل ويترك فيضل ويشقى. أرأيت إن نزل به مرض أو شأن من أمور الدنيا كيف نقف معه ونعينه؟ فالآخرة أولى وأبقى.
[*] قال شيخ الاسلام ابن تيمية:
(الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة). ولا تظن أيها المسلم الصائم أن التوبة في ترك المنكرات والمعاصي فحسب، بل احرص على التوبة من ترك النوافل والمداومة على الخير، فتب عن تفريطك في السنن الرواتب، وتب عن إضاعتك للتراويح والقيام، وتب من بخلك وشحك، وتب إلى الله من غفلتك وإضاعة وقتك الثمين.
(منزلة التوبة في الدين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومنزل (التوبة) أول المنازل وأوسطها وآخرها فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31]
وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة (لعلّ) المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم.
قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجر: 11] قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثم قسم ثالث البتة وأوقع اسم (الظالم) على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله.
(ولما كانت (التوبة) هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده فقد انتظمتها سورة الفاتحة أحسن انتظام وتضمنتها أبلغ تضمن فمن أعطى الفاتحة حقها علماً وشهوداً وحالاً معرفة علم أنه لا تصح له قراءتها على العبودية إلا بالتوبة النصوح فإن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب ولا مع الإصرار عليها فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى والثاني غي ينافي قصده وإرادته فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرا. أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ): أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
(وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى:(اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
(وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ.
(وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ.
(وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ.
(رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ
(لَكَ ذَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ.
(لَكَ رَهَّابًا) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ
(لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ
(لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ
(إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ
(مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ.
(وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي.
(وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي.
(وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
(وَسَدِّدْ لِسَانِي) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ.
(وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
(وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ
(سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.
(ومن هنا يتضح أن التوبة، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وأول إقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الاصطفاء، والاجتباء للمقربين.
(ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه، ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى:
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: من الآية 31)
وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة وأتى بكلمة " لعل" إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم، وقال تعالى:{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: من الآية 11)
فقسم العباد إلى: " تائب " و " ظالم " وليس ثَمَّ قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة إلى الله تعالى كما في الحديث الآتي:
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: والمراد هنا ما يتغشى القلب. قال القاضي: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فَتَرَ عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
(التوبة النصوح:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [التحريم: من الآية 8]
والنصحُ في التوبة: هو تخليصها من كل غش ونقص وفساد،
[*] قال الحسن البصري: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه "
[*] وقال الكلبي: " أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن " وقال سعيد بن المسيب: " توبة نصوحاً تنصحون بها أنفسكم "
[*] قال ابنُ القيّم: " النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء ":
الأول: تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد لا تلّوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته عزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه ورياسته أو لحفظ وقته وماله أو استدعاء حمد الناس أوالهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.
فالأول: يتعلق بما يتوب منه، والأوسط: يتعلق بذات التائب، والثالث: يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة: الصدقُ فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهي أكمل ما يكون من التوبة.
وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه:
أولاً: إذناً وتوفيقاً وإلهاماً، فتاب العبد، تاب الله عليه.
ثانياً: قبولاً وإثابة لقوله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: الآية 118)
فأخبر سبحانه: أو توبته عليهم سبقت توبتهم ،أنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم وهذا القدر من سر أسميه " الأول والآخرُ" فهو المعد والممد ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الأباق،
وتوبة الله نوعان:
إذن وتوفيق، وقبول وإمداد.
والتوبة لها مبدأ ومنتهي، فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي أمرهم بسلوكه بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: من الآية 153)
ونهايتها: الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً إلى جنته، فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب، قال الله عز وجل:{وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (الفرقان: الآية 71)
(فضائل التوبة:
التوبة شأنها عظيم، ونفعها عميم، لها فضائل لا تحصى، وثمراتٌ لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهي طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات، سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وهاك بعض فضائلها جملةً وتفصيلاً:
(أولاً: فضائل التوبة جملةً:
(1)
التوبة سبب نيل محبة الله تعالى:
(2)
التوبة سبب نور القلب ومحو أثر الذنب:
(3)
التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
(4)
التوبة تجعل المذنب كمن لا ذنب له:
(5)
التوبة أول صفات المؤمنين:
(6)
التوبة سبب في فرح الرب سبحانه وتعالى فرحاً يليق بجلاله وعظمته سبحانه:
(7)
التوبة سبب لفلاحك في الدنيا و الآخرة:
(8)
التوبة طاعة لأمر ربك سبحانه وتعالى.
(9)
التوبة سبب لدخولك الجنة ونجاتك من النار:
(10)
التوبة سبب لتكفير سيئاتك وتبدلها إلى حسنات:
(11)
التوبة سبب للمتاع الحسن:
(ثانياً: فضائل التوبة تفصيلا:
(1)
التوبة سبب نيل محبة الله تعالى: وكفى بهذه الفضيلة شرفا للتوبة، قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222] وهل هناك سعادة يمكن أن يشعر بها إنسان بعد معرفته أن خالقه ومولاه يحبه إذا تاب إليه؟!
[*](قال ابن القيم رحمه الله: ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه؛ فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده؛ فإن للتائبين عنده محبة خاصة (1).
(2)
التوبة سبب نور القلب ومحو أثر الذنب:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(نُكِتَت) بنون مضمومة وكاف مكسورة ومثناة فوقية مفتوحة
(في قلبه) لأن القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يطبع عليه
(نكتة) أي أثر قليل كنقطة
(سوداء) في صقيل كمرآة وسيف وأصل النكتة نقطة بياض في سواد وعكسه قال الحرالي: وفي إشعاره إعلام بأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر
(فإن هو نزع) أي قلع عنه وتركه
(واستغفر اللّه وتاب) إليه توبة صحيحة ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة إذ هما من أركانهما اهتماماً بشأنهما
(صقل قلبه) أي رفع اللّه تلك النكتة فينجلي بنوره كشمس خرجت عن كسوفها فتجلت (وإن عاد) إلى ذلك الذنب أو غيره
(1) مدارج السالكين 1/ 306.
(زيد) بالبناء للمفعول
(فيها) نكتة أخرى وهكذا
(حتى تعلو على قلبه) أي تغطيه وتغمره وتستر سائره كمرآة علاها الصدأ فستر سائرها وتصير كمنخل وغربال لا يعي خيراً ولا يثبت فيه خير ومن ثم قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر أي رسوله باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته يصير لا يقبل خيراً قط فيقسو ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف فيرتكب ما شاء ويفعل ما أراد ويتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فيضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يقنع منه بدون الكفر ما وجد إليه سبيلاً {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً}
(رهو الران) أي الطبع
(الذي ذكره اللّه) تعالى في كتابه بقوله عز قائلاً
(كلا بل ران) أي غلب واستولى
(على قلوبهم) الصدأ والدنس
(ما كانوا يكسبون) من الذنوب قال القاضي: المعنى بالقصد الأول في التكليف بالعمل الظاهر والأمر بتحسينه والنهي عن قبيحه هو ما تكتسب النفس منه من الأخلاق الفاضلة والهيئات الذميمة فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس صقيلة صافية وإن انهمك وأصر زاد الأثر وفشي في النفس واستعلى عليها فصار طبعاً وهو الران، وأدخل التعريف على الفعل لما قصد به حكاية اللفظ فأجرى مجرى النفس وشبه ثائر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث كونهما يضادان الجلاء والصفاء وأنث الضمير الذي في كانت العائد لما دل عليه أذنب لتأنيثها على تأول السيئة. إلى هنا كلامه، قال الطيبي: وروي نكتة بالرفع على أن كان تامة فلا بد من الراجع أي حدث نكتة منه أي من الذنب قال المظهري: وهذه الآية نازلة في حق الكفار لكن ذكرها في الحديث تخويفاً للمؤمنين ليحترزوا عن كثرة الذنوب لأن المؤمن لا يكفر بكثرتها لكن يسود قلبه بها فيشبه الكفار في اسوداده فقط وقال الحكيم: الجوارح مع القلب كالسواقي تصب في بركة وهي توصل إلى القلب ما يجري فيها فإن أجري فيها ماء الطاعة وصل إلى القلب فصفا، [ص 372] أو ماء المعصية كدر وأسود فلا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم وقال الغزالي: القلب كالمرآة ومنه الآثار المذمومة كدخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب فلا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى حتى يسود ويظلم ويصير محجوباً عن اللّه تعالى وهو الطبع والرين ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويهتم بها وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وأخطارها دخل من أذن وخرج من أخرى ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة {أولئك يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} (تنبيه) قيل لحكيم: لم لا تعظ فلاناً قال ذاك على قلبه قفل ضاع مفتاحه فلا سبيل لمعالجة فتحه
(فائدة) قال حجة الإسلام: لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان من السعداء ظهر السواد على ظاهره لينزجر وإلا أخفى عنه لينهمك ويستوجب النار. أهـ
(3)
التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود:52]
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)[نوح 10:12]
(4)
التوبة تجعل المذنب كمن لا ذنب له:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) قال الغزالي: إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها.
(وأما " الإقلاع" فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
(والشرط الثالث: هو: " العزم على عدم العودة " ويعتمد أساساً على إخلاص هذا العزم والصدق فيه، وشرط بعض العلماء عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينّا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على أن ذلك ليس شرطاً،
(أما إذا كان الشرط متضمناً لحق آدمى فعلى التائب أن يصلح ما أفسد، أو يسترضي من أخطأ في حقه للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
فهذا الذنب يتضمن حقين: حق الله وحق الآدمي، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
(5)
التوبة أول صفات المؤمنين:
قال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]
(6)
التوبة سبب في فرح الرب سبحانه وتعالى فرحاً يليق بجلاله وعظمته سبحانه:
الله يفرح بتوبة التائبين: فللتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يُقَدَّر كما مَثَّله النبي"بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدَّويَّة المهلكة بعدما فقدها وأيس من أسباب الحياة.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ".
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه.
وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيباً لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد المفتن التواب (1).
(وقال أيضاً: هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق بعز جلاله. انتهى كلامه من [مدارج السالكين1210]
(7)
التوبة سبب لفلاحك في الدنيا و الآخرة:
قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
(1) مدارج السالكين 1/ 306، وانظر كلامًا جميلا ًفي المدارج 1/ 226_230حول معنى فرح الله_عز وجل_بتوبة التائب ..
[*](قال أبو السعود رحمه الله: تفوزون بذلك بسعادة الدارين (1).
[*](وقال ابن كثير رحمه الله: أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه (2).
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه.
وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة (3).
(8)
التوبة طاعة لأمر ربك سبحانه وتعالى، فهو الذي أمرك بها فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]. وأمر الله ينبغي أن يقابل بالامتثال والطاعة.
(9)
التوبة سبب لدخولك الجنة ونجاتك من النار:
قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم:60،59]. وهل هناك مطلب للإنسان يسعى من أجله إلا الجنة؟!
(10)
التوبة سبب لتكفير سيئاتك وتبدلها إلى حسنات:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم:8]،
وقال سبحانه: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
[*] (قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
(1) تفسير أبي السعود 6/ 171.
(2)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 276.
(3)
الفتاوى الكبرى 5/ 188_189.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله: واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة (1).
(ثم قال ابن القيم رحمه الله بعد أن تكلم على القولين السابقين: إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول.
(وقال: التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها (2).
(11)
التوبة سبب للمتاع الحسن:
قال تعالى: (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: 3]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
(1) مدارج السالكين 1/ 310.
(2)
مدارج السالكين 1/ 311.
وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: وآمركم (7) بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا (8) على ذلك، {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} أي: في الدنيا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]
(أخي الحبيب:
ألا تستحق تلك الفضائل – وغيرها كثير – أن تتوب من أجلها؟ لماذا تبخل على نفسك بما فيه سعادتك؟ .. لماذا تظلم نفسك بمعصية الله وتحرمها من الفوز برضاه؟
…
جدير بك أن تبادر الى ما هذا فضله وتلك ثمرته.
قدّم لنفسك توبة مرجوة
…
قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غُلق النفوس فإنها
…
ذخر وغنم للمنيب المحسن
(أسرار التوبة ولطائفها:
اعلم أن العبد العقال إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى أمور:
أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب.
الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفاً وخشية تحمله على التوبة.
الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث لك ذلك أنواعاً من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكته ورحمته وحلمه وكرمه، وتوجب له عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر الوعيد بأسمائه وصفاته وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وهذا المشهد يطلعه على رياض موفقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم.
(من هذه الأسرار: أن يعرف العبد عزته في قضائه، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته عل ما يشاء وحال بين العبد وقلبه.
ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والعزة كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة، ـ وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوداً لعزة الله وكماله –وحده –غناه.
(ومن أسرار التوبة: أن التوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدون التوبة: فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فَرُتِّب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
(ومن أسرار التوبة: أن يعلم بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء لفضحه بين خلقه، ومنها مشاهد حلم الله عز وجل في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة فيحدث له معرفة ربه سبحانه باسمه " الحليم ".
(ومن أسرار التوبة: أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله ومعونته وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونَه، ويعينه فهو هالك ولا بد.
(ومن أسرار التوبة: أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه، فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فَرُتّب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.
(ومن أسرار التوبة: تعريف العبد بكرم الله وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد؛ فلم يطب له عيش معهم أبداً، ولكنه الله تعالى جلَّله بستره، وغشَّاه بحلمه، وقيض له من يحفظه_وهو في حالته هذه_بل كان شاهداً عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام.
(ومن أسرار التوبة: تعريف العبد بكرم الله في قبول التوبة: فلا سبيل إلى النجاة إلا بعفو الله، وكرمه، ومغفرته؛ فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها ثم قبلها منه، فتاب عليه أولاً وآخراً.
(ومن أسرار التوبة: أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به: فيعامل بني جنسه في زلاتهم، وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفى عفى الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه وهكذا
…
(ومن أسرار التوبة: إقامة المعاذير للخلق: فإذا أذنب العبد أقام المعاذير للخلق، واتسعت رحمته لهم، واستراح من الضيق والحصر وأكْل بعضه بعضاً، واستراح العصاة من دعائه عليهم، وقنوطه من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسه واحداً منهم؛ فهو يسأل الله لهم المغفرة، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
ومع هذا فيقيم أمر الله فيهم؛ طاعة لله، ورحمة بهم، وإحساناً إليهم؛ إذ هو عين مصلحتهم لا غلظة، ولا فظاظة.
(ومن أسرار التوبة: معرفة نعمة معافاة الله: فإن من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية؛ فلو عرف أهل الطاعة أنهم هم المنعم عليهم في الحقيقة لعلموا أن لله عليهم من الشكر أضعافَ ما على غيرهم وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى؛ فهم أهل النعمة المطلقة، وأن من خلى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه.
فإذا طالبت العبدَ نفسُه بما تطالبه من الحظوظ والأقسام، وأرَتْه أنه في بلية وضائقة، تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبته نفسه من الحظوظ؛ فحينئذ يكون أكثر أمانيه وآماله العودَ إلى حاله، وأن يمتعه الله بعافيته.
(ومن أسرار التوبة: التحرز والتيقظ من العدو: فإذا تاب العبد، وأدرك ما هو فيه من الخطأ، وندم على ما كان منه من التفريط أوجب له ذلك تمام التحرز، والتيقظ؛ فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص، والقطاع؟ ويعرف مكامنَهم، ومن أين يخرجون عليه؟ ومتى يخرجون؟ فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنه مر عليهم على غرَّة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة.
(ومن أسرار التوبة: التوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته: فالقلب يذهل عن عدوه؛ فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُرَّاً كريماً، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً، والقلب المَهِين كالرجل الضعيف المهين؛ إذا جرح ولى هارباً، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره (1).
والله عز وجل يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظَه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة، والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال ما يوجب جعلَ مكانِ السيئةِ حسنةً، بل حسنات.
(ومن أسرار التوبة: معرفة الشر وحذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه_أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب.
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يُؤْثرْ أسباب زوالها، وفي مثل هذا قال القائل:
عَرِفتُ الشرَ لا للشرِ
…
ولكن لِتَوَقِيه
ومن لا يعرفُ الشرَ
…
من الناسِ يقع فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً، حاذقاً، أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته، وعرفت طويَّته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بلي بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه، ومن لم يستنصحه.
(ومن أسرار التوبة: ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله عز وجل يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت، وسكنت إلى غيره علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به،
(1) مفتاح دار السعادة 1/ 295.
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتَقَلَّق تَقلُّقَ المكروب، ودعاه دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقَّاً، فهو يهتف بربه أن يرد عليه ما لا حياة له بدونه علم أنه موضع لما أُهّل له، فردَّ عليه أحوج ما هو محتاج إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقداره، فعضَّ عليه بالنواجذ، وثنَّى عليه بالخناصر؛ فالعبد إذا بلي بَعْد الأنس بالوحشة، وبعد القرب بنار البعاد اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنَّتْ، وأنَّتْ، وتصدَّعت، وتعرضت لنفحات مَنْ ليس لها عنه عوض أبداً، ولا سيما إذا تذكر بره، ولطفه، وحنانه، وقربه.
(ومن أسرار التوبة: أن الله يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو_عز وجل_أولى بها منهم وأحق.
وهذا سر من أسرار التوبة، وتقدير الذنوب والمعاصي.
هذا ولو شاء ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئته ما هو مقتضى حكمته.
(ومن أسرار التوبة: معرفة فضل الله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلا محموداً وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب له ذلك شكراً ومحبة وإنابة ومعرفة باسمه " الغفار ".
(ومن أسرار التوبة: حصول الذل والانكسار لله: ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة فالذل والانكسار روح العبودية، ولبُّها.
وحصول ذلك للتائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد جاء في الأثر الإسرائيلي: يا رب أين أجدك؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي (1).
(1) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين1/ 306، وأورده في إغاثة اللهفان ص97عن عمران ابن موسى القصير قال: قال موسى_عليه السلام_: =يا رب أين أبغيك؟ قال أبغني عند المنكسرة قلوبهم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك لانهدموا+.
ورواه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن ص56 بإسناده عن عبد الله بن شوذب قال: قال داود النبي: =أي ربِّ! أين ألقاك؟ قال: تلقاني عند المنكسرة قلوبهم+.
ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (1).
لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تُحْدِثُ عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السَّبُعية الحيوانية.
(ومن أسرار التوبة: أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة.
وهذه العبوديات لها أسباب تُهَيّجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنبٍ قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله: وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً؛ فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً، ومِنَّةً، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجباً لتَرَتُّب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه مُنَكِّساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربَّه.
وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراءً للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المانِّ بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك.
ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامناً؛ ولهذا تراه عاتباً على من لم يعظمه، ويعرف له حقه، متطلباً لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له.
(1) أخرجه مسلم (482).
وإذا قام بمن يعظمه، ويحترمه، ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا فتح له باب المعاذير والرجاء، وأغمض عنه عينيه وسمعه، وكف لسانه وقلبه، وقال: باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود، وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تُكفَّر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه.
فإذا أراد الله بهذا العبد خيراً ألقاه في ذنب يكسره به، ويُعَرِّفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج به داء العجب، والكبر، والمنة عليه، وعلى عباده؛ فيكون هذا الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء؛ ليستخرج به الداء العضال (1)، وهذا سر بديع من أسرار التوبة.
(ومن أسرار التوبة: أن اسم " الرزّاق " يقتضى مرزوقاً، و " السميع البصير" يقتضى مسموعاً ومبصرا، كذلك أسماء " الغفور، العفو، التواب" يقتضى من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات.
وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
(ومن أسرارها: أن الله تعالى يفرح بتوبة العبد كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط عليه بعيره قد أضله بأرض فلاة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته أرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ".
(1) مدارج السالكين 1/ 307_308.
فما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً وأسره عدوك وحال بينك وبينه وأن تتعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويمرغ خديه على تراب أعتابك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك وآثرته على ما سواه، هذا ولست الذي أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمك والله عز وجل هو الذي أوجد عبده وخلقه وأسبغ عليه نعمته وهو يحب أن يتمها عليه.
(أمور تعين على التوبة:
أخي الحبيب .. لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأً حصيناً، يلجه المذنب معترفاً بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، غير مصر على خطيئته، يحمي بحمى الاستغفار، ويرجو رحمة العزيز الغفار، إلا أنه توجد بعض العوائق في طريق سير العبد على التوبة وهاك الأمور التي تعين على التوبة جملةً وتفصيلا:
(أولاً الأمور التي تعين على التوبة جملةً:
(1)
الإخلاص لله أنفع الأدوية:
(2)
امتلاء القلب بمحبة الله عز وجل:
(3)
المجاهدة:
(4)
قصر الأمل وتذكر الآخرة:
(5)
الدعاء:
(6)
العلم:
(7)
الاشتغال بما ينفع وتجنب الوحدة والفراغ:
(8)
البعد عن المثيرات، وما يذكر بالمعصية:
(9)
غض البصر:
(10)
مصاحبة الأخيار:
(11)
مجانبة الأشرار:
(12)
النظر في العواقب:
(13)
هجر العوائد:
(14)
هجر العلائق:
(15)
إصلاح الخواطر والأفكار:
(16)
استحضار أن الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة:
(17)
استحضار أضرار الذنوب والمعاصي:
(18)
الحياء:
(19)
النفس وزكاؤها وأنفتها وحميتها:
(20)
عرض الحال على من يعين:
(ثانياً الأمور التي تعين على التوبة تفصيلا:
(1)
الإخلاص لله أنفع الأدوية:
فإذا أخلص الإنسان لله، وصدق في طلب التوبة أعانه الله عليها، ويسره لها، وأمده بألطاف لا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه، وتصده عن توبته،
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قَطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذّ، ولا أمتع، ولا أطيب.
والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إليه، أو خوفاً من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال تعالى في حق يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها؛ فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر بلا علاج (1).
وقال عن يوسف عليه السلام: فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق، والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ فإن القلب إذا أُخْلِص وأَخْلَص عمله لله_لم يتمكن منه عشق الصور؛ فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ (2).
(وقال أيضاً: وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]
فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته ما يمنعه من محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له.
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله، خائفاً منه، راغباً، راهباً (3).
(وقال أيضاً: وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه،؛ فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من ضد ذلك.
بخلاف القلب الذي لم يخلص لله؛ فإن فيه طلباً، وإرادة، وحباً مطلقاً، فيهوي كل ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مرَّ به عطفه، وأمالَهُ؛ فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.
وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوبَ، والقلوبُ تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع بغير هدى من الله.
(1) العبودية لابن تيمية ص 99.
(2)
العبودية ص 100.
(3)
العبودية ص 139_140.
ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبداً لربه وحده لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه (1).
[*](وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرهم قلباً، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة (2).
(2)
امتلاء القلب بمحبة الله عز وجل:
فالمحبة أعظم محركات القلوب فهي الباعث الأول للأفعال والتروك، وما أُتي من اسْتُذِل واستعبد لغير الله بمثل ما أُتي من باب المحبة، فالقلب إذا خلا من محبة الله تعالى تناوشته الأخطار، وتسلطت عليه سائر النوائب والمحبوبات، فشتته، وفرقته وذهبت به كل مذهب، فإذا امتلأ القلب من محبة الله بسبب العلوم النافعة والأعمال الصالحة كَمُلَ أنسه، وطاب نعيمه، وسلم من التعلق بسائر الشهوات، وهان عليه فعل سائر القربات؛ فمن المتقرر أن في القلب فقراً ذاتياً، وجوعة وشعثاً وتفرقاً، ولا يغني هذا القلب، ولا يلم شعثه، ولا يسد خلته إلا عبادة الله عز وجل ومحبته.
فأجدر بمن يريد الإقبال على الله، والإنابة إليه أن يملأ قلبه من محبة الله؛ ففي ذلك سروره، ونعيمه، وأنسه، وفلاحه.
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة، وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة.
والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء (3).
(وقال أيضاً: ففي قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وذلك هو قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم.
كما أن فيهم محبةً لما يطعمونه وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم ويدوم شملهم.
وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ فإن الغذاء إذا فُقد يفسد الجسم، وبفقد التأله تفسد النفس (4).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها.
وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورَها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمه، واللسان إذا فقد نطقه؟!
(1) العبودية ص 140_142.
(2)
الجواب الكافي ص 465.
(3)
جامع الرسائل 2/ 202.
(4)
جامع الرسائل 2/ 230.
بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحقِّ أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح.
وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة، وما لجرح بميت إيلام (1).
(وقال أيضاً عن محبة الله عز وجل: وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده (2).
(وقال أيضاً: فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه؛ فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة.
وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق؛ ولهذا يتخلف عنها أثرها ومُوجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم؛ فما عَمَرَ القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلاله وتعظيمه، وتلك من أفضل المواهب أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (3).
(2)
المجاهدة:
فالمجاهدة عظيمة النفع، كثيرة الجدوى؛ معينة على الإقصار عن الشر، دافعة إلى المبادرة إلى الخير؛ ذلك أن النفوس طلعة إلى الشرور، مُؤْثِرَةً للكسل والبطالة؛ فإذا راضها الإنسان، وجاهدها في ذات الله فليبشر بالخير، والإعانة والهداية.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]
[*] قال ابن المبارك رحمه الله:
ومن البلايا للبلاء علامةٌ
…
ألا يرى لك من هواك نزوع
العبدُ عبدُ النفس في شهواتها
…
والحر يشبع تارة ويجوع (4)
والمقصود بالمجاهدة مجاهدة النفس حتى الممات والسير بها إلى رضوان الله تعالى.
وقال الآخر:
النفس إن أعطيتها مناها
…
فاغرة نحو هواها فاها
وقال الآخر:
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
…
ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
وقال أبو العباس الناشىء:
(1) الجواب الكافي ص 541_542.
(2)
طريق الهجرتين ص 449.
(3)
طريق الهجرتين ص 449_450.
(4)
روضة المحبين لابن القيم ص 481.
إذا المرء يحمي نفسه حِلَّ شهوةٍ
…
لصحة أيام تبيد وتنفد
فما باله لا يحتمي من حرامها
…
لصحة ما يبقى له ويخلَّدُ (1)
وقيل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينشد هذين البيتين:
اقدع النفس بالكفاف وإلا
…
طلبت منك فوق ما يكفيها
إنما أنت طول عُمْرك ما عُمَّرت في الساعة التي أنت فيها (2)
وقال الآخر:
ومن يطعم النفس ما تشتهي
…
كمن يطعم النارَ جَزْل الحطب (3)
=ويقولون: إن سليمان بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى
…
إلى بعض ما فيه عليك مقال (4)
ولا تعني المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرات، وإنما يجاهدها في ذات الله حتى الممات.
فإذا وطن نفسه على المجاهدة أقبلت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات.
[*] (قال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: ولو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله إلا أنه يعطف عليك، فيسخّرها لك، ويطوّعها لأمرك، حتى تنقاد لك، ويسقط عنك مؤونة النزاع لها، حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثاً، وتُؤْثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهاً، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلاً، حتى تصير رقَّاً لك بعد أن كانت تَسْتَرقُّك.
وكذا كل من حقق العبودية لسيده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه (5).
(إلى أن قال رحمه الله تعالى: ما أبرك طاعة الله على المطيع؛ قوم سخر لهم الرياح، والمياه، والحيوانات، وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم (6).
ولو لم يأت الإنسان من مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى إلا أن يتحرر من رق الهوى، وسلطان الشهوة.
رب مستور سبته شهوة
…
فتعرى ستره فانهتكا
صاحب الشهوة عبد فإذا
…
غلب الشهوة أضحى ملكا (7)
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهَر (8).
(1) روضة المحبين ص 399.
(2)
روضة المحبين ص 399.
(3)
إيوان الألمعي شرح ديوان الرافعي ص 22.
(4)
الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 131.
(5)
كتاب الفنون 2/ 496.
(6)
كتاب الفنون 2/ 496.
(7)
روضة المحبين ص 481، وانظر روضة المحبين ص 468_482 ففيه كلام جميل في فضل المجاهدة حيث ذكر أموراً تبلغ الخمسين في فضل المجاهدة.
(8)
صيد الخاطر ص 115.
(وقال أيضاً: بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى! لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمَضَّ وأرمض (1)(2).
(وقال أيضاً: بالله عليك تذوَّق حلاوة الكفِّ عن المنهي؛ فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة.
ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الرِّيُّ الكامل، وقل: قَدْ عِيل صبر (3) الطبع في سِنِيِّه العجاف؛ فعَجِّلْ لي العام الذي فيه أُغاث، وأعصر (4).
(وقال أيضاً: إخواني! احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى؛ فالعقوبة مرة، واعلموا أن في ملازمة التقوى مراراتٍ من فقد الأغراض والمُشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة (5).
(4)
قصر الأمل وتذكر الآخرة:
فإذا تذكر المرء قِصَرَ الدنيا، وسرعة زوالها، وأدرك أنها مزرعة للآخرة، وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وما في النار من النكال والعذاب الأليم وعلم أن من زرع الشوك لا يجني عنباً، وعلم أن الجنة لا تنال بالكلام وإنما تنال بالجد والاهتمام والتطلع لرحمة الملك العلام أقصر عن الاسترسال في الشهوات، وانبعث إلى التوبة النصوح وتدارك ما فات بالأعمال الصالحات.
قَصِّر الآمالَ في الدنيا تَفُزْ
…
فدليل العقل تقصير الأمل (6)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
[*] (قال ابن رجب رحمه الله تعالى تعليقاً على هذا الحديث: وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها.
(1) أمض و أرمض: آلم وأحرق.
(2)
صيد الخاطر ص 252.
(3)
عيل الصبر: فقد وغلب.
(4)
صيد الخاطر ص 253.
(5)
صيد الخاطر ص 315.
(6)
لامية ابن الوردي ص 15.
ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيىء جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم (1).
[*] قال ابن عقيل رحمه الله: ما تصفو الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال، فإن كل من عدّ ساعته التي هو فيها كمرض الموت، حسنت أعماله، فصار عمره كله صافيا.
[*](وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من تَفَكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر (2).
(وقال أيضاً: أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد.
وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حَدٌّ؛ فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل (3).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته؛ فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا، وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله، وعلى محبته، وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى، وعلوماً أخر، ووُلِد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه، فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة.
وكما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة؛ فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار (4).
(إلى أن قال: والمقصود أن صدق التأهب هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه، من اليقظة، والتوبة، والإنابة، والمحبة، والرجاء، أو الخشية، والتفويض، والتسليم، وسائر أعمال القلوب والجوارح؛ فمفتاح ذلك كله صدقُ التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه (5).
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 377.
(2)
صيد الخاطر ص 40.
(3)
صيد الخاطر ص 532.
(4)
طريق الهجرتين لابن القيم ص 297.
(5)
طريق الهجرتين ص 297.
(وقال متحدثاً عن الأسباب التي تعين الإنسان على الصبر على المعصية: =السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مُزْمعٌ على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها؛ فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته؛ فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضر من التسويف وطول الأمل (1).
(5)
الدعاء:
ما ضاق بالمرء أمر فاستعد له
…
عبادة الله إلا جاءه الفرج
ولا أناخ بباب الله ذو ألم
…
إلا تزحزح عنه الهم والفرج
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: أيها المذنب قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار، ونكس الرأس، وامدد بعد السؤال ولا بأس، وقل ليس عندي سوى الفقر والإفلاس (2).
وكان من دعاء عباد الله المؤمنين: (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 16]
إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة الواردة على هذا النحو.
فحري بمن أراد التوبة أن يسأل ربه أن يرزقه إياها، وأن يلح عليه بذلك، وأن يتحين الأوقات، والأحوال، والأوضاع، التي هي مظان الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي آخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي حال إقبال القلب، واشتداد الإخلاص، والاضطرار إلى غير ذلك.
وعليه أيضاً أن يتجنب موانع الإجابة، وألا يستعجل الإجابة، فيدع الدعاء.
ومن كانت هذه حاله كان حريَّاً بأن يجاب دعاؤه (3).
فهو من أعظم الأسباب، وأنفع الأدوية، ومن أعظم ما يسأل ويدعى به سؤال الله التوبة النصوح، ولذا كان من دعاء نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
ومن أعظم ما يُسأل، ويدعى به سؤال الله التوبة؛ وذلك بأن يدعو الإنسان ربه أن يمن عليه بالتوبة النصوح، مهما كانت حاله.
(1) طريق الهجرتين ص 454.
(2)
رؤوس القوارير ص 151.
(3)
انظر الدعاء مفهومه_أحكامه_أخطاء تقع فيه للكاتب.
ولهذا كان من دعاء نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل_عليهما السلام_: [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] البقرة: 128.
وكان من دعاء نبينا محمد": =رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب
(6)
العلم:
فالعلم نور يُسْتَضَاءُ به، ويُنظر من خلاله إلى الأمور على حقيقتها.
والعلم يَشْغَل صاحبه بكل خير، ويُشْغله عن كل شر؛ فإذا فُقِد العلم فقدت البصيرة، وحل الجهل، وانطمست المعالم أمام الإنسان، واختل ميزان الفضيلة والرذيلة عنده؛ فلم يعد يفرق بين ما يضره وما ينفعه، فيصبح بذلك عبداً للشهوة، أسيراً للهوى؛ فما أتي الإنسان من باب كما يؤتى من باب الجهل؛ فحري بالعاقل الناصح لنفسه ألا يبخس حظه من العلم، وأن ينال ولو قدراً يسيراً منه.
ومن العلم في هذا السياق العلم بعاقبة المعاصي، وقبحها، ورذالتها، ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضره.
وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يُُعَلَّقْ عليها وعيدٌ بالعذاب (1).
ومن العلم أيضاً أن يعلم بفضل التوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
ثم إن في العلم سلوة، وراحة، ولذة، وأنساً لا يوجد في غيره، فهو أعلى اللذات العقلية، واللذاتُ العقلية أكمل، وأروع، وأنفع من اللذات الجسدية.
ولهذا يجد أهل العلم من اللذة في العلم ما لا يحاط به، أو يقدر على وصفه، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مبيناً عظم اغتباطه بالعلم، ولذته وفرحه به:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي
…
من وصل غانية وطيب عناق
صرير أقلامي على صفحاتها
…
أحلى من الدوكاء والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدُفِّها
…
نقري لألقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طرباً لحل عويصةٍ
…
في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وأبيت سهران الدجى وتبيته
…
نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي (2)
(7)
الاشتغال بما ينفع وتجنب الوحدة والفراغ:
(1) طريق الهجرتين ص 448.
(2)
ديوان الشافعي تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي ص 113_114.
ذلك أن الفراغ يأتي على رأس الأسباب المباشرة للانحراف؛ فالقطاع الكبير من الشباب يعاني من فراغ قاتل يؤدي إلى الانحراف والشذوذ، وإدمان المخدرات، ويقود إلى رفقة السوء، وعصابات الإجرام، ويتسبب في تدهور الأخلاق، وضيعة الآداب.
فإذا اشتغل الإنسان بما ينفعه في دينه ودنياه قلَّت بطالته، ولم يجد فرصة للفساد والإفساد.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولابد (1).
(8)
البعد عن المثيرات، وما يذكر بالمعصية:
فيبتعد عن كل ما يثير فيه دواعي المعصية، ونوازع الشر، ويبتعد عن كل ما يثير شهوته، ويحرك غريزته من مشاهدة للأفلام الخليعة، وسماع للأغاني الماجنة، وقراءة للكتب السيئة، والمجلات الداعرة.
كما عليه أن يقطع صلته بكل ما يذكره بالمعصية من أماكن الخنا، ومنتديات الرذيلة التي تذكره بالمعصية، وتدعوه إليها؛ فالشيء إذا قطعت أسبابه التي تمده زال واضمحل؛ فالقرب من المثيرات بلاء وشقاء، والبعد عنها جفاء وعزاء؛ فكل بعيد عن البدن يؤثر بعده في القلب؛ فليصبر على مضض الفراق صبر المصاب في بداية المصيبة، ثم إن مر الأيام يهون الأمر، خصوصاً إذا كان ذلك مما يثير العشق والغرام، قال زهير بن الحباب الكلبي:
إذا ما شئت أن تسلو حبيباً
…
فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلى حبيبك غيرُ نأي
…
ولا أبلى جديدك كابتذال (2)
وقال امرؤ القيس:
وإنك لم تقطع لبانة عاشق
…
بمثل رواح أو غدوٍّ مأوِّبِ (3)
ومن البعد عن المثيرات أن يبتعد الإنسان عن الفتن؛ لأن البعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه، وربَّ نظرةٍ لم تناظِر (4).
وأحق الأشياء بالضبط والقهر اللسان والعين؛ فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مكايد، وكم من شجاع في الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب.
(1) انظر طريق الهجرتين ص 488.
(2)
انظر ذم الهوى لابن الجوزي ص473.
(3)
ديوان امرىء القيس ص39
(4)
لم تناظر: أي لم تمهل، فأصابت بسهم، أو أوقعت في الفتنة.
فَتَبَصَّرْ ولا تَشَمْ كلَّ برقٍ
…
رب برق فيه صواعق حَيْنِ (1)
واغضضِ الطرفَ تَسْتَرح من غرام
…
تكتسي فيه ثواب ذلٍّ وشين
فبلاء الفتى موافقة النفـ
…
ـس وبدءُ الهوى طموح العين (2)
(وقال أيضاً: ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه (3).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع بالدجال فلينأ عنه، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات.
[*] قال العلامة شمس الحق أبادي في عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
(من سمع بالدجال) أي بخروجه وظهوره
(فلينأ) بفتح الياء وسكون النون وفتح الهمزة أمر غائب من نأى ينأى حذف الألف للجزم أي فليبعد (عنه) أي من الدجال (وهو) أي الرجل
(يحسب) بكسر السين وفتحها أي يظن
(أنه): أي الرجل بنفسه
(فيتبعه) بالتخفيف ويشدد أي فيطيع الدجال
(مما يبعث به) بضم أوله ويفتح أي من أجل ما يثيره ويباشره
(من الشبهات) أي المشكلات كالسحر وإحياء الموتى وغير ذلك فيصير تابعه كافرا وهو لا يدري. أهـ
وهذا الحديث أصلٌ في اجتناب الفتن والبعد عنها، والله أعلم.
(ومن المثيرات التي يجدر بالإنسان تجنبها فضول الطعام، والمنام، ومخالطة الأنام؛ فإن قوة المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب مَصْرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام (4).
ومن البعد عن المثيرات البعد عن الكتب التي تحرك نوازع الشر، وتحبب الفساد لقرائها، كما في بعض كتب الأدب التي تحتوي على الكلام البذيء، والأدب المكشوف الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار البارود.
(1) لا تشم: شام البرق: نظر إليه أين يقصد ويمطر. ومعنى حَيْن: أي هلاك، والمعنى تبصر، وتنبَّه، ولا تركن إلى ظواهر الأمور؛ فربما كان فيها هلاكك.
(2)
صيد الخاطر ص41
(3)
صيد الخاطر ص350.
(4)
طريق الهجرتين ص454.
وهل الأدب المكشوف إلا سوءة من سوءات الفكر؟ حتى إن الخمر التي لا ينازع في مفسدتها إلا من غرق بسكرة الجهل والغواية وجَدتْ من يصفها بأبدع الأوصاف؛ فكثير من الشعراء قد طغى به الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديحها صفات الخيال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
وبالجملة فإن مثلَ النفوس بما جبلت عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيثما مال كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يُشْعل فتيلها، ويذكي أوارها بقيت ساكنة لا يخشى خطرها، والعكس بالعكس.
وكذلك النفوس؛ فإنها تظل ساكنة وادعة هادئة، فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مشموم أو منظور ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
لا تلم مَنْ عَرَّض النفس لما
…
ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرِّبْ عرفجاً من لهب
…
ومتى قربته قامت دُخن (1)
وقال:
لا تُتْبِع النفسَ الهوى
…
ودع التعرض للمحن
إبليسُ حيٌّ لم يمت
…
والعين بابٌ للفتن (2)
(9)
غض البصر:
فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وهذا معلومٌ على وجه اليقين لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)[النور: 30]
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس.
وزكاةُ النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك (3).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووقعت مسألةٌ: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه، واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها؛ فهل يجوز تعمُّد النظر ثانياً لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
(1) طوق الحمامة ص128.
(2)
طوق الحمامة ص127.
(3)
العبودية ص100_101.
أحدها: أن الله سبحانه أمر بِغَضِ البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.
الثاني: أن النبي"سئل عن نظر الفجأة، وقد علم أنه يؤثر في القلب، فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومُحالٌ أن يكون داؤه مما له، ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقضه، والتجربة شاهدة به، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة، فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه، فزاد عذابه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فيزين له ما ليس بحسن؛ لتتم البلية.
السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشد سمَّاً؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه؛ فإن لم يكن مَرْضِيَّاً تركه؛ فإذاً يكون تركه لأنه لا يلائم (1) غرضه، لا لله تعالى فأين معاملة الله_سبحانه_بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبين بضرب مَثَلٍ مطابق للحال، وهو أنك إذا ركبت فرساً جديداً فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همَّت بالدخول فيه فاكبحها؛ لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصِحْ بها ورُدَّها إلى وراء عاجلاً قبل أن يتمكن دخولها، فإذا رَدَدْتها إلى ورائها سهل الأمر، وإذا توانيت حتى ولجت، وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذَنبها عسر عليك أو تعذر خروجها؛ فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقُها إلى داخل؟
فكذلك النظرة إذا أثَّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحَسَم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر، ونقَّب عن محاسن الصور، ونقلها إلى قلب فارغ، فنقشها فيه_تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمي حتى يفسد القلب ويُعْرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويُلقي القلب في التلف.
(1) في الأصل: لأنه لا يلائم غرضه الله تعالى، ولعل المثبت أصح.
والسبب في هذا أن الناظر التذت عينُه بأول نظرة، فطلبت المعاودة، كأكل الطعام الذي إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلم.
وتأمل قول النبي": =النظرة سهم مسموم من سهام إبليس (1).
فإن السهم شأنه أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السم الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه، وإلا قتله ولابد (2).
(وقال أيضاً: ولما كان النظر أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وأباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة (3).
(حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ونظر الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر؛ فما لم يعتمدْه (4) القلب لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمداً أثِمَ؛ فأمره النبي"عند نظر الفجأة أن يصرف بصره، ولا يستديم النظر؛ فإن استدامته كتكريره.
وأرشد من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته، وقال: إن معها مثل الذي معها (5).
فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها.
(1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (292) والحاكم في المستدرك 4/ 313_314 من حديث حذيفة مرفوعاً، قال الحاكم: = هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه+ وتعقبه الذهبي فقال: =فيه إسحاق بن عبد الواحد القرشي واه، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه+.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10362) بنحوه من حديث ابن مسعود، وضعفه المنذري في الترغيب (2838).
(2)
روضة المحبين ص110_112، وانظر ذم الهوى ص89.
(3)
روضة المحبين ص112.
(4)
هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب: يَتَعَمَّدْه.
(5)
أخرجه الترمذي (1058) عن جابر وقال: =حديث حسن غريب+، وأصله عند مسلم بلفظ =إذا أحدكم أعجبته المرأةُ، فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإن ذلك يرد مافي نفسه+.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(أَقْبَلَتْ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ) شَبَّهَهَا بِالشَّيْطَانِ فِي صِفَةِ الْوَسْوَسَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الشَّرِّ (فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ) أَيْ: فَلْيُوَاقِعْهَا
(فَإِنَّ مَعَهَا) أَيْ: مَعَ امْرَأَتِهِ
(مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا) أَيْ: فَرْجًا مِثْلَ فَرْجِهَا وَيَسُدُّ مَسَدَّهَا،
والثاني: أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله؛ ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد_رضي الله عنهما_أن النبي"قال: =ما تركت بعدي فتنة هي أضرَّ على الرجال من النساء (1).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً فوائد غض البصر: وفي غض البصر عدة فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة؛ فإن من أطلق نظره دامت حسرتُه؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر؛ فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه، وعذابه.
قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة؛ فَجَعَلْتُ أنظر إليها، وأملأ عيني من محاسنها، فقالت: يا هذا ما شأنك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائداً
…
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعله السهم في الرمِيَّة، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر
…
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبها
…
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلِّبها
…
في أعين الغِيْدِ موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
…
لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غَرَضُها قلبه وهو لا يشعر.
قال الفرزدق:
تَزَوَّدَ منها نظرةً لم تدع له
…
فؤاداً ولم يشعر بما قد تزودا
فلم أرَ مقتولاً ولم أرَ قاتلاً
…
بغير سلاح مثلها حين أقصدا
وقال آخر:
ومن كان يؤتى من عدوٍّ وحاسدٍ
…
فإني من عيني أُتيْتُ ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة
…
فما أبقيا لي من رقاد ولا لُبِّ
وقال المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه
…
فمن المطالبُ والقتيل القاتل
الفائدة الثانية: أنه يورث القلبَ نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
(1) روضة المحبين ص113.
كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه؛ ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[النور: 35] عقيب قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)[النور: 30]
وجاء الحديث مطابقاً لهذا المعنى حتى كأنه مشتق منه، وهو قوله: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس؛ فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نوراً (1) الحديث.
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة؛ فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوَّة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل:
مرآةُ قلبك لا تريك صلاحه
…
والنفس فيها دائما تتنفس
[*] (وقال شجاع الكرماني رحمه الله تعالى: من عَمَرَ ظاهرَه باتباع السُّنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال_لم تخطىء فراسته.
وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه وتعالى يجازي العبد على عمله بما هو من جنسه؛ فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله إطلاق بصيرته؛ فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسد عليه باب العلم وطرقه.
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، وفي الأثر: إن الذي يخالف هواه يَفْرَقُ الشيطان من ظله.
ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب، وضعفه، ومهانة النفس وحقارتها_ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه.
وقال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سروراً، وفرحة، وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر؛ وذلك لِقَهْرِهِ عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه، وأيضاً فإنه لما كفَّ لذته، وحبس شهوته لله، وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله_سبحانه_مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله لَلذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب.
(1) مضى تخريجه ص204.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه؛ فهو، كما قيل:
طليق برأي العين وهو أسير
ومتى أسرت الشهوةُ والهوى القلبَ تمكن منه عدوُّه، فسامه سوء العذاب، وصار:
كعصفورة في كف طفل يسومها
…
حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
الفائدة الثامنة: أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريمُ الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول؛ فمتى هتك الحجاب ضريَ (1)، ولم تقف نفسه منه عند غاية؛ فإن النفس لا تقنع بغاية تقف عندها؛ وذلك أن لذَّتها في الشيء الجديد؛ فصاحب الطارف لا يقنعه التليد، وإن كان أحسن منظراً، وأطيب مخبراً؛ فغض البصر يسد هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه.
الفائدة التاسعة: أنه يقوي العقل، ويزيده، ويثبته؛ فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب؛ فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب، ومُرْسِل النظر لو علم ما تجني عواقبُ نظره عليه لما أطلق بصره، قال الشاعر:
وأعقلُ الناسِ من لم يرتكب سبباً
…
حتى يفكر ما تجني عواقبه
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدة الغفلة؛ فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق كما قال تعالى عن عشاق الصور:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر: 72]
فالنظرة كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر؛ فإن سَكْرانَ الخمر يُفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات، كما قيل:
سكْران: سُكْرُ هوىً وسُكر مدامةٍ
…
ومتى إفاقةُ مَنْ به سكران
وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً (2).
فحري بالعاقل اللبيب الذي يريد السلامة لنفسه، ويخشى المعاطب عليها_أن يغض بصره، وأن يجاهد نفسه على ذلك غاية المجاهدة؛ فعصرنا هذا عصر الفتن من مجلات، وقنوات فضائية ونحو ذلك مما يصعب الخلاص منه إلا بتوفيق من الله، وصدق توكل عليه، وقوة إرادة وعزيمة.
(1) ضري: أي اعتاد، وأولع، وتجرأ.
(2)
روضة المحبين ص113_121 بتصرف يسير، وانظر كلاماً عظيماً حول هذا المعنى في الجواب الكافي ص424_429.
(10)
مصاحبة الأخيار:
فمصاحبة الأخيار تحيي القلب، وتشرح الصدر، وتنير الفكر، وتعين على الطاعة؛ فجليس الخير ينصح لك، ويُبَصّرك بعيوبك، ويعينك على تلافيها.
كما أنه يَدُلُّك على أهل الخير، ويكفك عن أهل المعاصي؛ فقد تتركها حياء منه، ثم تنبعث بعد ذلك إلى تركها بالكلية.
وجليس الخير يذكرك بالله، ويحفظك في حضرتك ومغيبك، ويرفع من قدرك، ويحافظ على سمعتك.
ومجالس الخير تغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة، وتتنزل عليها السكينة.
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم خيارهم
…
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
(11)
مجانبة الأشرار:
لأن رفقة السوء تحسن القبيح، وتقبح الحسن، وتجر إلى الرذيلة، وتزري بالفضيلة.
ثم إن المرء يتأثر بعادات جليسه؛ فالصاحب ساحب، والطبع استراق.
ولو لم يأت من مجالسة هؤلاء إلا أن الإنسان يقارن أفعاله بأفعالهم، فيتقالّ سيئاته بجانب سيئاتهم؛ فيقوده ذلك إلى الجرأة والإقدام على فعل الموبقات والآثام.
فرفيق السوء يفسد على المرء دينه، ويخفى على صاحبه عيوبه، ويصله بالأشرار، ويقطعه عن الأخيار، ويقوده إلى الفضيحة والخزي والعار.
كما أنه يهون عليه شأن المعاصي، ويجرؤه على ارتكابها.
ثم إن صحبة الأشرار عرضة للزوال في أي لحظة، وعند أدنى خلاف، ولو دامت في هذه الدنيا فسرعان ما تزول في الآخرة.
ثم إن مجانبة الأشرار من أعظم ما يعين على التوبة.
ولهذا جاء في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أنه لما أتى إلى الرجل العالم وسأله: هل له من توبة؟
قال له: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟
انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء الحديث (1).
[*] قال النووي في شرح الحديث: قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائبِ المواضعَ التي أصاب بها الذنوب، والأخدانَ المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح، والعلماء، والمتعبدين الورعين، ومن يقتدى بهم، ويُنتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك (2).
فإذا تبين ذلك فما أحرى بذي اللب أن ينأى عن الأشرار، ويفر منهم فراره من الأسد.
ولا ينفع الجرباء قربُ صحيحة
…
إليها ولكن الصحيحة تجرب
(1) رواه البخاري (3470)، ومسلم (2766)
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 237.
ومما ينبغي التنبه له في مسألةخطر الجليس السوء أن كثيراً من الناس لا يَتَصَور من الجليس السوء إلا من يوقع صاحبه في التدخين، أو الخمر، أو المخدرات، أو نحوها من المعاصي المشهورة المعروفة.
ولا ريب أن هذا جليس سوء تجب مفارقته والبعد عنه.
ولكن هناك جلساء سوء لا يقلون خطراً عن أولئك، بل ربما زادوا عليهم، إنهم المنحرفون في أفكارهم وعقائدهم؛ فهؤلاء يفسدون على المرء عقيدته وفكره.
والانحراف الناشىء عن زيغ العقيدة أشد من الانحراف الناشىء عن طغيان الشهوة وأصعب علاجاً؛ فزائغ العقيدة قد يستهين بشعائر الإسلام، ومحاسن الآداب، فيزعم أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم بدعوى أنها رسمت على غير حكمة.
ثم إن زائغ العقيدة لا يتورع عن المناكر، ولا يؤتمن على المصالح، ولا يأبه أن يلبس الباطل بلبوس الحق؛ فهو ليس عضواً أشلَّ فحسب، بل هو عضو مسموم لا يلبث أن يسري فساده في نفوس جلسائه وسماره؛ لذا كان لزاماً على من يريد السلامة في نفسه ودينه أن يجانب هؤلاء المفسدين.
تعست مقارنةُ اللئيم فإنها
…
شَرَقُ النفوس ومحنة الكرماء
قد أصبحوا للدهر سبة ناقم
…
في كل مصدر محنة وبلاء
وأشد ما يلقى الفتى من دهره
…
فقد الكرام وصحبة اللؤماء (1)
(12)
النظر في العواقب:
فذلك يوقف الإنسان على حقائق الأشياء، ويريه الأمور كما هي، وبذلك يقصر عما يهوى؛ خشية من سوء العاقبة.
وما أتي أكثر الناس إلا من قبل غفلته وجهله بالعواقب، ولو أوتي حظاً من النظر لما آثر اللذة العاجلة الفانية على اللذات الآجلة الباقية.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظةً، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك (2).
(وقال أيضاً: تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي، فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة في طلب اللذات، فنظرت في اللذات فإذا هي خِدعاً ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصاً، فتخرج عن كونها لذاتٍ؛ فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجهنم لأجل هذه الأكدار؟ (3).
(وقال أيضاً: قد جاء في الأثر: اللهم أرنا الأشياء كما هي.
(1) الأبيات للبارودي، انظر ديوانه 1/ 73.
(2)
صيد الخاطر ص 351.
(3)
صيد الخاطر ص 684.
وهذا كلامٌ حسنٌ غايةً، وأكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها؛ فإنهم يرون الفاني كأنه باقٍ، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه وإن علموا ذلك إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر الحاضر؛ ألا ترى زوال اللذة وبقاء إثمها؟ (1).
(وقال أيضاً: إنما فَضُل العقلُ بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها؛ فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطَّال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم، وكسب المال؛ فإذا كبر فسئل عن علم لم يدرِ، وإذا احتاج سأل فذلَّ؛ فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
وكذلك شارب الخمر يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة.
وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر.
فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوِّت خيراً كثيراً، وصابر المشقة تُحصِّل ربحاً وآفراً (2).
قال الحسين بن مطير:
ونفسك أكر م عن أمور كثيرة
…
فما لك نفسٌ بعدها تستعيرها
ولا تقرب الأمر الحرام فإنما
…
حلاوته تفنى ويبقى مريرها (3)
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يتمثل بهذين البيتين:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
…
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
…
لا خير في لذة من بعدها النار (4)
وقال اليزيدي: دخلت على هارون الرشيد، فوجدته مُكبَّاً على ورقة ينظر فيها مكتوبة بالذهب، فلما رآني تبسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين، قال: نعم، وجدتُ هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية، فاستحسنتهما، فأضفت إليهما ثالثاً فقال ثم أنشدني:
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجة
…
فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قُرابَ البطن يكفيك ملأه
…
ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
فلا تك مبذالاً لدينك واجتنب
…
ركوب المعاصي يجتنبك عقابها (5)
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى فيما بعد.
(13)
هجر العوائد:
(1) صيد الخاطر ص 668.
(2)
صيد الخاطر ص 754_755.
(3)
روضة المحبين ص 440.
(4)
المرجع نفسه.
(5)
روضة المحبين ص 399.
فالعوائد هي السكون إلى الدعة والراحة، وما ألِفَهُ الناسُ واعتادوه من الرسوم، والأوضاع، التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع.
والوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد؛ لأنها من أعظم الحجب والموانع بين العبد، وبين النفوذ إلى الله ورسوله" (1).
(14)
هجر العلائق:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما العلائق فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا، وشهواتها، ورياساتها، وصحبة الناس، والتعلق بهم.
ولا سبيل إلى قطع هذه الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى، وإلا فقطعها بدون تعلقه بمطلوبه ممتنع؛ فإن النفس لا تترك مألوفها ومحبوبها إلا لمحبوب هو أحب إليها منه، وآثر عندها منه.
وكلما قوي تعلقه بمطلوبه ضعف تعلقه بغيره وكذا بالعكس.
والتعلق بالمطلوب هو شدة الرغبة فيه، وذلك على قدر معرفته به، وشرفه، وفضله على ما سواه (2).
(15)
إصلاح الخواطر والأفكار:
[*](قال ابن القيم رحمه الله تعالى: مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصوراتُ تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوعَ الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادةَ؛ فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها؛ فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها، صاعدةً إليه، دائرةً على مرضاته ومحابِّه؛ فإنه_سبحانه_به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولِّيه لعبده كل حفظ، ومن تولِّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء (3).
(وقال أيضاً: واعلم أن الخطراتِ والوساوسَ تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكرُ، فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة؛ فَرَدُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يُعْطَ الإنسانُ إماتةَ الخواطر، ولا القوةَ على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النَّفَس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، وأنَفَته منه (4).
(1) انظر الفوائد ص 223_224.
(2)
الفوائد ص 225.
(3)
الفوائد ص 249.
(4)
الفوائد ص 250.
إلى أن قال: وقد خلق الله سبحانه النفسَ شبيهةً بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تطحنه؛ فإن وُضع فيها حبٌّ طَحَنَتْهُ، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى مُعَطَّلةً قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حَبَّاً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك؛ فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه (1).
(وقال أيضاً: فإذا دَفَعْتَ الخاطرَ الواردَ عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قَبلْتَهُ صار فكراً جوَّالاً، فاسْتَخْدم الإرادة، فتساعَدَتْ هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتَوجُّهِهِ إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فَكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه (2).
إلى أن قال: وإياك أن تُمَكّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعَنْتَه على نفسك بتمكينه من قلبك، وخواطرك فَمَلَكَها عليك (3).
(16)
استحضار أن الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة:
(1) الفوائد ص 250_251.
(2)
الفوائد ص 251.
(3)
الفوائد ص 251.
فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعتُه حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيرُه أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذْهِب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذّ وأطيبُ من قضاء الشهوة، وإما أن تُطَرّقَ لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدواً وتحزن وليَّاً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق (1)
(17)
استحضار أضرار الذنوب والمعاصي:
فإن للذنوب والمعاصي أضراراً عظيمةً، وعقوباتٍ متنوعةً، سواء في الدنيا أو في الآخرة، على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.
فمن أضرارها حرمان العلم والرزق، والوحشةُ التي يجدها العاصي في قلبه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ومنها تعسير الأمور، وسواد الوجه، ووهن البدن، وحرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق بركته.
ومنها ظلمة القلب، وضيقه، وحزنه، وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه، واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعَرِّيه من زينته.
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها، وتقوي في القلب إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً إلى أن تنسلخ إرادة التوبة من القلب بالكلية، فيستمرىء صاحبها المعصية، وينسلخ من استقباحها.
ومنها أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وأن شؤمها لا يقتصر على العاصي، بل يعود على غيره من الناس والدواب.
ومنها أن المعصية تورث الذل، وتفسد العقل، وتدخل العبد تحت اللعنة، وتحرمه من دعوة الرسول"ودعوة الملائكة، ودعوة المؤمنين.
كما أنها تطفىء نار الغيرة من القلب، وتذهب الحياء، وتضعف في القلب تعظيم الرب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتَخْليته بينه وبين نفسه وشيطانه.
ومن أضرار المعاصي أنها تنزل الرعب في قلب العاصي، وتزيل أمنه، وتبدله به مخافة؛ فأخوف الناس أشدهم إساءة.
(1) انظر الفوائد ص 204.
كذلك تخرج العبد من دائرة الإحسان، وتمنعه ثواب المحسنين، وتضعف سير قلبه إلى الله والدار الآخرة، وتصغر نفسه، وتُعمي قلبه، وتسقط منزلته، وتسلبه أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذل والصغار، وتجعله من السفلة بعد أن كان مُهيَّأً لأن يكون من العلية، وتجرىء عليه شياطين الجن والإنس، فيصير في أسرهم بعد أن كانوا يخافونه ويرهبونه.
ومنها وقوع العاصي في بئر الحسرات؛ فلا يزال في حسرة دائمة؛ فكلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعُه وعرف عجزَه اشتدت حسرتُه وحزنُه؛ فيا لها ناراً قد عُذِّب بها القلبُ في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
ومنها ضياع أعز الأشياء وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض عنه، ولا يعود إليه أبداً.
وبالجملة فالآثار القبيحة للمعاصي أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً؛ فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصية الله (1).
(18)
الحياء:
فهذا الخلق إذا غَزر في النفس، ونمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاءً، ونفض على ظاهر صاحبها مآثر خَيْراتٍ حِسان، وإذا انتُزع من شخص فقد فقَدَ المروءة، وثكل الديانةَ التي هي الجناح المبلغ لكل كمال؛ ذلك أن الحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح، وهو عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح.
فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس اختلت هيئة الإنسان بالضرورة، وبقي صاحبها سائماً في مراتع البغي والفسوق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
وبالجملة فالحياء شعبةٌ من الإيمان، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء خلق الإسلام.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعْه فإن الحياء من الإيمان.
(1) انظر الجواب الكافي ففه تفصيل لتلك الأضرار، وانظر طريق الهجرتين ص 450_454.
(حديث عمران ابن حصين في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر.
[*](قال ابن حبان رحمه الله تعالى: فالواجب على العاقل لزوم الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبذر الخير، وتركه أصل الجهل، وبذر الشر (1).
(أعظم الحياء:
أعظم الحياء أن يستحي العبد من ربه_جل وعلا_وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه؛ فإن العبد متى علم بنظره إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى ومسمع منه، وكان حيياً استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استحيوا من الله تعالى حق الحياء، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
(ومن الحياء الحياءُ من الناس بترك المجاهرة بالقبيح أمامهم.
ومن الحياء أيضاً حياء الإنسان من نفسه بأن لا يرضى لها بمراتب الدون، وهذا حياء أهل النفوس الأبية.
ولئن كان الحياء جبلياً فإنه يزيد ويتأتى بالأخذ بالأسباب، ومن ذلك مطالعة أخلاق الكمل، واستحضار مراقبة الله؛ فمن ذلك يتولد الحياء؛ إذ كيف يتقلب في نعمه ويستعين بها على معصيته؟ فإذا شعر العاقل بذلك استحيى من الله.
ومن ذلك تذكر الآثار الطيبة للحياء، والآثار القبيحة للقحة والصفاقة.
ومن ذلك مجاهدة النفس، وتدريبها على اكتساب الحياء.
(1) روضة العقلاء لابن حبان ص 56.
فإذا اتصف المرء بالحياء قرب من الكمال، ونأى بنفسه عن النقائص (1).
(19)
النفس وزكاؤها وأنفتها وحميتها:
فذلك يوجب أن تنأى عن الأسباب التي تحطها، وتضع قدرها، وتحفض منزلتها، وتحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة (2).
وإنما تعلو قيمة المرء، وتسمو مكانته بقدر نصيبه من بُعد الهمة، وشرف النفس.
وإذا علمت نفسٌ طاب عنصرها، وشرُف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه.
بل لا تستفيق جهدها، ولا يطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء
ولا ريب أن أعلى المطالب، وأشرف المكاسب ا كان لله، وفي سبيل الله.
فأين هذا الذي يطلق العنان لشهواته، ويرسف في أغلال رغائبه ولذاته من الإمام الشافعي إذ يقول: لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته (3).
فشريف النفس يأبى أن يملك رقَّه شيء، خصوصاً ما كان في أمر العشق والتعلق؛ فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية؛ فإن ذا الهمة يأنف الذل، وما زال الهوى يذل أهل العز (4).
قال الأعشى:
أرى سفهاً للمرء تعليق قلبه
…
بغانية خود متى تدنُ تبعد (5)
وقال أبو فراس الحمداني مفتخراً بشرف نفسه، وعلو همته، عائباً على من سفلت همته، واسترقه هواه:
لقد ضلَّ من تحوي هواه خَريدة
…
وقد ذل من تقضي عليه كعابُ
ولكنني والحمد لله حازم
…
أعز إذا ذلت لهن رقابُ
ولا تملك الحسناء قلبي كلَّه
…
ولو شمَّلَتها رقةٌ وشبابُ (6)
وهذا أبو علي الشبل يقول:
وآنف أن تعتاق قلبي خريدةٌ
…
بلحظ وأن يروى صداي رضاب
وللقلب مني زاجر من مروءة
…
يجنِّبه طُرْق الهوى فيجاب (7)
وهذا منصور الهروي يقول:
خُلِقْتُ أبيَّ النفس لا أتبع الهوى
…
ولا أستقي إلا من المشرب الأصفى
ولا أحمل الأثقال في طلب العلا
…
ولا أبتغي معروف من سامني خسفاًَََ
ولا أتحرى العزَّ فيما يُذلُّني
…
ولا أخطب الأعمال كي لا أرى صرفا
(1) انظر طريق الهجرتين ص 488، والسعادة العظمى لمحمد الخضر حسين ص 49.
(2)
انظر طريق الهجرتين ص 450.
(3)
انظر ذم الهوى لابن الجوزي 479.
(4)
انظر ذم الهوى لابن الجوزي 479.
(5)
ديوان الأعشى ص 47.
(6)
ديوان أبي فراس الحمداني ص 13.
(7)
ذم الهوى ص 480.
ولست على طبع الذباب متى يُذَدْ
…
عن الشيء يسقط فيه وهو يرى الحتفا (1)
فلا يكون إذاً من وراء الشهوة إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل؛ أوليس من الذل أن تكون حياة الإنسان معلقة بغيره، وسعادته بيد سواه، فهو مضطر إليه، وهو لعبة في يديه، إن أقبل سعد، وإن أعرض شقي، وإن مال إلى غيره اسودت الدنيا في عينيه؟
هذا الله الصغار بعينه، وهذا هو الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض.
أليست هذه هي حقيقة الحب والعشق الذي ألهه الشعراء؟ أليست هذه هي حال من غاية طموحه أن تواصله امرأة بكلمة أو إشارة، أو ما هو أعلى من ذلك؟
بلى، ولكن هل سيسعد بهذا؟ وهل يكفيه ذلك الوصال؟ لا، بل كل ما واصل واحدة زاده الوصال نهماً، كشارب الماء المالح لا يزداد إلا عطشاً.
ولو أنه عرف من النساء آلافاً ثم رأى أخرى معرضة عنه لرغب فيها وحدها، وأحس من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط.
ثم هب أن الإنسان وجد منهن كل ما يريد، ووسعه السلطان والمال؛ فهل يسعه الجسد، وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة، ودون ذلك تنهار أقوى الأجساد، وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة، فما هي إلا أن استجابوا لشهواتهم، وانقادوا إلى غرائزهم حتى أصبحوا حطاماً.
وإن من عجائب حكمة الله أن جعل مع الفضيلة ثوابها؛ من الصحة والنشاط، وجعل مع الرذيلة عقابها؛ من الانحطاط والمرض.
ولَرُبَّ رجلٍ ما جاوز الثلاثين يبدو مما جار على نفسه كابن ستين، وابن ستين يبدو من العفاف كشاب دون الثلاثين (2).
[*] (قال ابن المقفع رحمه الله تعالى: اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار الغرامَ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم (3) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولات على معروفات باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن.
وإنما المرتغب عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس.
(1) ذم الهوى ص 480.
(2)
انظر في سبيل الإصلاح للشيخ علي الطنطاوي ص 191، وصور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص 158_159.
(3)
ياجم: يكره، ويمل.
بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء (1).
(وقال أيضاً: ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلُبِّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسُه من غير رؤية، ولا خبر مُخبر، ثم لعله يهجم منها على أدمِّ الدمامة، فلا يَعظُه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يَذُقْ حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه (2).
وبالجملة فشرف النفس وزكاؤها يقود إلى التسامي، والعفة؛ ذلك أن المرء بين عاطفة تخدعه، وشهوة تتغلب عليه؛ فمتى لم يجد من عقله سائساً، ومن دينه وازعاً يقاومان الضعف، ويصارعان الميول والأهواء وقع في الخطايا وانغمس في الشرور والرذائل.
وإن قوي على عصيان الهوى، والشيطان، والنفس، والشهوة، وثبت في مواقف هذا الصراع الهائل كان في عداد المجاهدين، وترتب على انتصاره وفوزه جميع المكارم والفضائل التي تنتهي به إلى خيري الدنيا والآخرة؛ فمن شرف النفس أن يأنف الإنسان لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعفَ عزيمةٍ وهمةٍ، وميلاً إلى هواه طمع فيه، وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد.
ومتى أحس منه بقوة عزم، وشرف نفس، وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاساً وسرقة؛ فأغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه (3).
(20)
عرض الحال على من يعين:
فمن الأدوية الناجحة النافعة أن يعرض المبتلى حاله على أهل العلم، والدعوة، والإصلاح، والتربية؛ فإنه سيجد بإذن الله تعالى منهم إعانة على البر، ودلالة على الخير، وإجابة عن الأسئلة، وسعياً في حل المشكلات.
(أخي الحبيب:
هذه بعض الأمور التي تعين على التوبة فعض عليها بنواجذك، جعلني الله وإياك من التوابين.
مسألة: ماذا لو أحسست بالفتور والضعف؟
الجواب: أن للفتور والضعف أدويةٌ نافعة منها ما يلي:
أولاً: أخي عليك بسرعة طلب الغوث من الله تعالى فتدعوه سبحانه متضرعاً متذللاً أن لا يرفع عنك توفيقه وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين.
(1) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص 149_150.
(2)
الأدب الصغير والأدب الكبير ص 150.
(3)
انظر روضة المحبين ص 474_475، ومواقف الإسلام للشيخ محمد الحبيب بن خواجة ص 20.
ثانياً: تفكر في أهوال يوم القيامة والقبور وتفكر في نعيم الجنة فسرعان ما يفتح الله عليك وتعود إلى ربك.
ثالثاً: واظب أخي على محاسبة النفس.
رابعاً: المحافظة على الأذكار مع حضور القلب وتدبره لمعانيها.
خامساً: مجالسة الصالحين والعلماء العاملين فهو من أعظم أسباب رفع الهمة وإزالة الفتور.
(أخطاء في باب التوبة:
هناك أخطاء في باب التوبة يقع فيها كثير من الناس، وذلك ناتج عن الجهل بمفهوم التوبة، أو التفريط وقلة المبالاة، فمن تلك الأخطاء مايلي:
(1)
تسويف التوبة: فمن الناس من يدرك خطأه، ويعلم حرمة ما يقع فيه، ولكنه يؤجل التوبة، ويسوف فيها؛ فمنهم من يؤخرها إلى ما بعد الزواج، أو التخرج، ومنهم من يؤجلها ريثما تتقدم به السن، إلى غير ذلك من دواعي التأجيل.
وهذا خطأ عظيم؛ لأن التوبة واجبة على الفور؛ فأوامر الله ورسوله"على الفور ما لم يقم دليل على جواز تأخيرها.
بل إن تأخير التوبة ذنب يجب أن يستغفر منه.
[*](قال الغزالي رحمه الله: أما وجوبها على الفور فلا يُسْتراب فيه؛ إذ معرفة كون المعاصي مهلكاتٍ من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور (1).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله: المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها؛ فمتى أخّرها عصى بالتأخر، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة.
وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة (2).
أخرج ابن أبي الدنيا في قصر الأمل عن عكرمة في قوله تعالى: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)[سبأ: 53]
قال: إذا قيل لهم: توبوا، قالوا: سوف (3).
فعلى العبد أن يعجل بالتوبة؛ لوجوب ذلك؛ ولئلا تصير المعاصي راناً على قلبه، وطبعاً لا يقبل المحو، أو أن تعاجله المنية مصراً على ذنبه.
ثم إنَّ تركَ المبادرة للتوبة مدعاة لصعوبتها، وسبب لفعل ذنوب أخرى.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(1) إحياء علوم الدين4/ 7.
(2)
مدارج السالكين1/ 283.
(3)
قصر الأمل لابن أبي الدنيا ص141.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14](1).
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: يا بطَّال إلى كم تُؤخر التوبة وما أنت في التأخير معذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون مغرور؟ يا مسكين! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور، أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركبُ النُّجبَ غداً أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب القصور (2).
(وقال أيضاً: ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون؟ ما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون؟ كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون؟ كم آبَ مَنْ قبلكم ألا تتفكرون؟ أما رأيتم كيف نازَلهم نازل المنون؟ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (3).
(2)
الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه:
فكثير من الناس لا تخطر بباله هذه التوبة؛ فتراه يتوب من الذنوب التي يعلم أنه قد وقع فيها، ولا يظن بعد ذلك أن عليه ذنوباً غيرها.
وهذا من الأخطاء التي تقع في باب التوبة، والتي قلَّ من يتفطن لها؛ فهناك ذنوب خفية، وهناك ذنوب يجهل العبد أنها ذنوب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم؛ فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه.
(1) رواه أحمد 2/ 297، والترمذي (3334)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (4244)، والنسائي في الكبرى (11658)، وابن حبان (930)، والحاكم2/ 562، وصححه، وقال الذهبي على شرط مسلم ا_هـ.، والبيهقي في سننه 10/ 188، كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
وابن عجلان حسن الحديث أخرجه له مسلم في المتابعات، وباقي السند ثقات.
(2)
بحر الدموع لابن الجوزي، تحقيق إبراهيم باجس، ص57.
(3)
رؤوس القوارير لابن الجوزي ص152.
ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم؛ فإنه عاصٍ بترك العلم والعمل؛ فالمعصية في حقه أشد (1).
ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديثُ ابن عباس في صحيحِ الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشركُ في أمتي أخفى من دبيبِ النملِ على الصفا.
(حديث معقل بن يسار رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل".
فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ ". قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".
(فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب، ومما لا يعلمه العبد.
ولذا كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ إنك أنت المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت كما في الحديث الآتي:
(حديث عليٍّ الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "" اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره.
فهذا التعميم، وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه، وما لم يعلمه (2).
(3)
ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب: فمن الناس من يرغب في التوبة، ولكنه لا يبادر إليها؛ مخافة أن يعاود الذنب مرة أخرى.
وهذا خطأ؛ فعلى العبد أن يتوب إلى الله، فلربما أدركه الأجل وهو لم ينقض توبته.
كما عليه أن يحسن ظنه بربه جل وعلا ويعلم أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأنه تعالى عند ظن عبده به.
(1) مدارج السالكين1/ 283.
(2)
انظر مدارج السالكين1/ 283.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
ثم إن على التائب إذا عاد إلى الذنب أن يجدد التوبة مرة أخرى وهكذا
…
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يحكي عن ربه عز وجل: أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك.
[*](قال النووي رحمه الله تعالى في معنى الحديث: قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه: اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك، معناه: ما دمت تذنب، ثم تتوب غفرت لك (1).
(4)
ترك التوبة خوفاً من لمز الناس: فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة، ولزوم الاستقامة، ولكنه يخشى لمز بعض الناس، وعيبهم إياه، ووصمهم له بالتشدد والوسوسة، ونحو ذلك مما يُرمى به بعض من يستقيم على أمر الله، حيث يرميه بعض الجهلة بذلك؛ فَيُقْصُر عن التوبة؛ خوفاً من اللمز والعيب.
وهذا خطأ فادح؛ إذ كيف يُقَدِّم خوف الناس على خوف رب الناس؟ وكيف يؤثر الخلق على الحق؟ فالله أحق أن يخشاه.
ثم إن ما يرمى به إذا هو تاب إنما هو ابتلاء وامتحان، ليمتحن أصادق هو أم كاذب؛ فإذا صبر في بداية الأمر هان عليه ما يقال له، وإن حسنت توبته، واستمر على الاستقامة أجلَّه من يُعَيّره، وربما اقتدى به.
أضف إلى ذلك أن الإنسان سيذهب إلى قبره وحيداً، وسيحشر إلى ربه وحيداً؛ فماذا سينفعه فلان وفلان ممن يثبطونه؟.
(6)
ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة: فقد يكون لشخص ما منزلة، وحظوة، وجاه، فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوب، كما قال أبو نواس لأبي العتاهية، وقد لامه على تَهَتُّكه في المعاصي:
أتراني يا عتاهي
…
تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنـ
…
سك عند القوم جاهي (2)
(1) صحيح مسلم بشرح النووي6/ 230.
(2)
مدارج السالكين1/ 286.
وقد يكون للإنسان شهرة أدبية، أو مكانة اجتماعية، فكلما هَمَّ بالرجوع عن بعض آرائه المخالفة للشريعة أقصر عن ذلك؛ مخافة ذهاب الجاه والشهرة، وحرصاً على أن يبقى احترامه في نفوس أصحابه غير منقوص.
ولا ريب أن ذلك نقص في شجاعة الإنسان ومروءته، بل إن ذلك نقص في عقله، وعلمه، وأمانته.
وإلا فالكريم الشجاع الشهم هو ذلك الذي يرجع عن خطئه، ولا يتمادى في غيه وباطله.
وذلك مما يرفعه عند الله وعند خلقه؛ فلماذا يستوحش من الرجوع إلى الحق؟
فمقتضى الدين، والأمانة، والمروءة أن يصدع بما استبان له من الحق، وألا يمنعه من الجهر بذلك أن ينسب إلى سوء النظر فيما رآه سالفا ً؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يبرأ نفسه من الخطأ، ويدَّعيَ أنه لم يقل ولن يقول في حياته إلا صواباً.
ثم إن الشهرة والجاه عرض زائل، وينتهي بنهاية الإنسان؛ فماذا ينفعه إذا هو قَدِمَ على ربه إلا ما قَدَّمَ من صالح عمله.
ولقد أحسن من قال:
تُساءلني هل في صِحابك شاعرٌ
…
إذا متَّ قال الشعر وهو حزين
فقلت لها: لا هَمَّ لي بعد موتتي
…
سوى أن أرى أُخراي كيف تكون
وماالشعر بالمغني فتيلاً عن امرئ
…
يلاقي جزاءًَ والجزاءُ مهين
وإن أحْظَ بالرُّحْمى فمالي من هوى
…
سواها وأهواء النفوس شجون
فخلِّ فعولن فاعلاتن تقال في
…
أناس لهم فوق التراب شؤون
وإن شئتِ تأبيني فدعوة ساجدٍ
…
لها بين أحناء الضلوع أنين (1)
ومن هنا يتضح غُرَرِ الفوائد ودُرَرِ الفرائد من تحذير المسلم من حرصه على الشرف والمنزلة والجاه فإن ذلك يفسد دينه فساداً بليغاً أفسد من إرسال ذئبان جائعان على غنم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(1) الأبيات للشيخ محمد الخضر حسين انظر ديوانه: خواطر الحياة ص 250.
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
(فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً [ص 446] للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها.
(6)
التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله: فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا زجر، وَلِيْمَ على ذلك قال: إن الله غفور رحيم، كما قال أحدهم:
وكَثِّر ما استطعت من الخطايا
…
إذا كان القدوم على كريم (1)
ولا ريب أن هذا الصنيع سفه، وجهل، وغرور؛ فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين، المفرطين المعاندين، المصرين.
ثم إن الله عز وجل مع عفوه، وسعة رحمته شديد العقاب، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) [الحجر: 49]
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
…
درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً
…
منها إلى الدنيا بذنب واحد (2)
(1) الجواب الكافي ص68.
(2)
الزهر الفاتح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح لمحمد بن محمد بن يوسف الجزيري ص100.
[*] (قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في شأن من يذنب، وينتظر العفو عنه؛ اتكالاً على فضل الله تعالى قال: وهو كمن ينفق جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقراء، منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة؛ فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، وهو مثل من يتوقع النهب من الظَّلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره، وقدر على دفنها فلم يفعل، وقال: انتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب؛ حتى لا يتفرغ إلى داري، أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار؛ فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة! وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع؛ فأنا أنتظر من فضل الله مثله.
فمنتظر هذا أمر ممكن، ولكنه في غاية الحماقة والجهل؛ إذ قد لا يمكن ولا يكون (1).
ثم أين تعظيم الله في قلب هذا المتمادي؟ وأين الحياء منه عز وجل؟
[*] (قال مالك بن دينار: رأيت عتبة الغلام وهو في يوم شديد الحر، وهو يرشح عرقاً، فقلت له: ما الذي أوقفك في هذا الموضع؟
فقال: يا سيدي! هذا موضع عصيت الله فيه، وأنشد يقول:
أتفرح بالذنوب وبالمعاصي
…
وتنسى يوم يؤخذ بالنواصي
وتأتي الذنب عمداً لا تبالي
…
ورب العالمين عليك حاصي (2)
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن المتمادين في الذنوب اتكالاً على رحمة الله: وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها، وتعلق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته، ونصوص الرجاء.
وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب+ (3).
ثم ساق أمثلة عديدة لما جاء عن أولئك.
(ثم قال بعد ذلك: وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حُسن الظن سعة مغفرة الله، ورحمته، وعفوه، وجوده، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو_قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك أجلُّ، وأكرم، وأجود، وأرحم.
(1) إحياء علوم الدين4/ 58 وانظر كلامًا جميلا ًفي هذا المعنى لابن القيم في الجواب الكافي ص66_104.
(2)
الزهر الفاتح ص96.
(3)
الجواب الكافي 67_68.
وإنما يضع ذلك في محله اللائق به؛ فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام، وشدة البطش، وعقوبة من يستحق؛ فلو كان مُعَوَّل حسن الظن على صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه؛ فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للَعْنَته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته؟!
بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حَسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور والله المستعان (1).
(7)
الاغترار بإمهال الله للمسيئين: فمن الناس من يسرف على نفسه بالمعاصي؛ فإذا نصح عنها، وحُذِّر من عاقبتها قال: ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاجُ الأرض بمفاسدهم، ومباذلهم، وظلمهم، وقتلهم الأنفس بغير الحق، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأكلهم الربا وقد نهوا عنه، ومع ذلك نراهم وقد درت عليهم الأرزاق، وأنسئت لهم الآجال، وهم يعيشون في رغد ونعيم بعيد المنال؟.
ولا ريب أن هذا القول لا يصدر إلا من جاهل بالله، وبسننه عز وجل.
ويقال لهذا وأمثاله: رويدك، رويدك؛ فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب، ولمن لا يحب؛ وهؤلاء المذكورون مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون؛ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ فما الذي هم فيه من النعيم إلا استدراج، وإمهال، وإملاء من الله عز وجل حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر (2).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ:{وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج.
(1) الجواب الكافي ص 76_77.
(2)
انظر أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب للصواف ص 45_47.
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: فكل ظالم معاقبٌ في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)[النساء: 123]
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن أن لا عقوبة، وغفلتُه عما عوقب به عقوبة.
وقد قال بعض الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة، وربما كان العقاب العاجل معنويَّاً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك، ولا تعاقبني! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري؟! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟ (1).
[*](قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجلة (2).
(وقال: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة؛ فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النُّهى، فتكون كالمعاندة والمبارزة، فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق، أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تُتلافى، خصوصاً إذا وقعت من عارف بالله؛ فإنه يندر إهماله (3).
وقال: =فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة؛ فإن لها تأثيراتٍ قبيحةً إن أسْرَعَتْ، وإلا اجتمعتْ وجاءتْ (4).
يا من غدا في الغي والتيه
…
وغره طول تماديه
أملى لك الله فبارزته
…
ولم تخف غِبَّ معاصيه (5)
(8)
اليأس من رحمة الله: فمن الناس من إذا أسرف على نفسه بالمعاصي، أو تاب مرة أو أكثر فعاد إلى الذنب مرة أخرى أيس من رحمة الله، وظن أنه ممن كتب عليهم الشقاوة؛ فاستمر في الذنوب، وترك التوبة إلى غير رجعة.
وهذا ذنب عظيم، وقد يكون أعظم من مجرد الذنب الأول الذي ارتكبه؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون؛ فليجدد التوبة، وليجاهد نفسه في ذات الله حتى يأتيه اليقين.
هذا وقد مر قبل قليل أن الله عز وجل حذر من القنوط من رحمته، ومر كلام بعض السلف حول هذا المعنى.
قال تعالى: (إِنّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون.
(1) صيد الخاطرص104.
(2)
صيد الخاطرص339.
(3)
صيد الخاطرص500.
(4)
صيد الخاطرص502.
(5)
بحر الدموع ص36.
(حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكبائر: الشرك بالله و الإياس من روح الله و القنوط من رحمة الله.
(9)
اليأس من توبة العصاة: فمن الناس من يكون فيه خير ونصح وحب للإصلاح، فتراه يحرص على دعوة العصاة أياً كانت معاصيهم، فإذا رأى من أحدهم إعراضاً عن النصح، وصدوداً عن الخير، وتمادياً في الغواية_أيس من هدايته، وأقصر عن نصحه، وربما جزم بأن الله لن يغفر له، ولن يهديه سواء السبيل.
وهذا الصنيع لا يصدر من ذي علم وبصيرة وحكمة؛ فمن ذا الذي أخبر هذا بأن الله لن يغفر لذلك العاصي؟ وما الذي سوغ له أن يحجر رحمة الله عز وجل.
وقد حذر النبي من ذلك بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
(ومعنى يتألى عليَّ: أي يقسم ويحلف.
ثم كم من الناس من يتمادون في الغواية والإجرام، حتى يُظنَّ أنهم يموتون على ذلك، ثم يتداركهم الرحمن الرحيم بنفحة من نفحاته، فإذا هم من الأبرار الأخيار.
(10)
الشماتة بالمُبْتَلَينَ: فمن الناس هداه الله من إذا رأى مبتلى بمعصية من المعاصي، أو رأى أبناء فلان من الناس قد أسرفوا على أنفسهم أخذ يشمت بهم، وينتقصهم، ويذمهم.
وما هذا المسلك برشيد؛ إذ هو من الغيبة المحرمة، ومن تزكية النفس بذم الآخرين.
ويخشى على من كانت هذه حاله أن يبتلى بمثل ما ابتلي به من سخر منهم.
فاللائق بالمسلم أن يكون أرجى الناس للناس، وأخوف الناس على نفسه.
وإذا رأى مبتلى أو سمع به أن يسأل ربه العافية، وأن يحمده حيث عافاه.
[*](قال ابن مسعود رضي الله عنه:لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوَّل كلباً (1).
[*](وقال أبو حازم سلمة بن دينار: أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشد الناس خوفاً على نفسه، وأرجاه لكل مسلم (2).
(11)
الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات: فهناك من يحتج بالقدر على معائبه وذنوبه، فيحتج بالقدر على ترك الطاعات، وفعل المحرمات.
فإذا قيل له على سبيل المثال: لمَ لا تصلي؟ قال: ما أراد الله لي ذلك، وإذا قيل له: متى ستتوب؟ قال: إذا أراد الله ذلك.
(1) الفوائد ص216.
(2)
مواعظ الإمام سلمة بن دينار للشيخ صالح الشامي ص 17.
وهذا خطأ وضلال وانحراف؛ فالإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو ما فعل من المعاصي؛ فإذا كان ذلك القائل يقصد بالإرادةِ الإرادةَ بمعنى المحبة فقد أعظم الفرية على الله؛ لأنه عز وجل أحب الطاعة، ورضيها، وأمر بها، وشرعها.
وإن كان يقصد بها الإرادة بمعنى المشيئة، وأن الله لم يقدّر له كذا وكذا من الطاعات، أو قدر عليه كذا وكذا من المعاصي فقد أخطأ_أيضاً، ذلك أن قدر الله سر مكتوم عنده، ولا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه.
وإرادة العبد سابقة لفعله، فتكون إرادته غير مبنية على علم بقدر الله؛ فادعاؤه مردود، وحجته داحضة، واحتجاجه باطل.
فالاحتجاج بالقدر على هذا النحو مخاصمة لله، واحتجاج من العبد على الرب، وحمل للذنب على الأقدار؛ فلا عذر لأحد البتة في معصية الله، ومخالفة أمره مع علمه بذلك، وتمكنه من الفعل والترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة، واللوم لا في الدنيا، ولا في العقبى.
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده؛ فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول (1).
وبما أن هذا الأمر مما يعم به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية، العقلية، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات:
(أ) قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ)[الأنعام: 148]
فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً ما أذاقهم الله بأسه.
(ب) قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلَا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/ 179.
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي مقبولاً لما كان هناك داع لإرسال الرسل.
(جـ) أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلّفْه ما لا يستطيع، قال تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16]، وقال:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا)[البقرة: 86].
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل؛ ولذلك إذا وقعت المعصية منه بجهل أو إكراه أو نسيان فلا إثم عليه؛ لأنه معذور.
(د) لو سلمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطلنا الشرائع.
(هـ) لو كان الاحتجاج بالقدر على هذا النحو حجة لقبل من إبليس الذي قال كما أخبر الله عنه: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[الأعراف: 16]
(و) المحتج بالقدر على المعاصي يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج بالقدر.
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟.
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد ما، وهذا البلد له طريقان: أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى، واضطراب، وقتل، وسلب؛ فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول؛ فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟!
(ز) ومما يرد به على ذلك المحتج ـ بناء على مذهبه ـ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك وإلا فلن، ولا تأكل، ولا تشرب؛ فإن قدر الله لك شبعاً وريَّاً فسيكون، وإلا فلن، وإن هاجمك سَبُعٌ ضار فلا تَفِرَّ منه؛ فإن كان الله قد قدر لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ؛ فإن قدر الله لك الشفاء شفيت وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أولا؟ إن وافَقنا علمنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوىً ومعاندة؛ فذلك الاحتجاج باطل في الشرع، والعقل، والقدر (1).
(1) انظر مجموع الفتاوى8/ 179 و 262_268، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية2/ 158_259، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 3/ 65_78 ومدارج السالكين1/ 201_211 ورسائل في العقيدة للشيخ محمد ابن عثيمين ص38_39، والإيمان بالقضاء والقدر للكاتب ص75_81.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن المحتجين بالقدر: هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى (1).
وبالجملة فالاحتجاج بالقدر إنما يُسَوِّغُ عند المصائب لا المعائب؛ فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال تعالى:(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)[غافر: 55].
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب+ (2).
[*](قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى: فما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله ربَّاً، وأما الذنوب فليس لأحد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب؛ فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب (3).
وممن يُسَوِّغُ له الاحتجاج بالقدر التائب من الذنب؛ فلو لامه أحد على ذنب تاب منه ثم قال التائب: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت لقبل منه ذلك الاحتجاج (4).
(12)
توبة الكذابين: الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً يتحينون فيه الفرص لمعاودة الذنب؛ حيث يتركون الذنوب التي كانوا يرتكبونها إما لمرض، أو عارض، أو خوف، أو رجاء جاه، أو خوف سقوطه، أو عدم تمكن؛ فإذا واتَتْهُم الفرصة رجعوا إلى ذنوبهم.
فهذه توبة الكذابين، وليست بتوبة في الحقيقة.
ولا يدخل في ذلك من تاب فحدثته نفسه بالمعصية، أو أغواه الشيطان بفعلها ثم فعلها، فندم وتاب؛ فهذه توبة صادقة كما مر قبل قليل عند الحديث عن ترك التوبة مخافة الرجوع إلى الذنب.
كما لا يدخل في التوبة الكاذبة الخطراتُ ما لم تكن فعلاً محققاً.
(13)
قلة العناية بالتائبين: فهناك من الأخيار والصالحين من لا يأبه بشأن التائبين، فقد يتوب قريب لهم، أو جار، أو صاحب قديم، أو مَنْ بينهم وبينه معرفة، أو غير هؤلاء.
ومع ذلك قد لا تجد من الأخيار من يأخذ بيد التائب، ويعينه على نفسه؛ حتى يستديم التوبة، ويلزم طريق الاستقامة.
بل ربما نفروا منه، ونظروا إليه بعين الريبة.
ومن هنا يخذل التائب، فلا يجد من يعينه، ويثبته، ويجيب عن إشكالاته.
وهذا الخذلان قد يتسبب في ضعف التائب، ونكوصه على عقبيه.
(1) مجموع الفتاوى 8/ 107.
(2)
مجموع الفتاوى 8/ 454.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية ص147.
(4)
انظر شفاء العليل لابن القيم ص 35.
فحريٌّ بأهل الخير والدعوة والإصلاح أن يُعْنَوا بالتائبين، وأن يأخذوا بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم ودوام استقامتهم، وزيادة إيمانهم، فيحرصوا على الإجابة عن أسئلتهم، وتيسير سبل التوبة لهم، ويسعوا في حل مشكلاتهم، وسداد ديونهم، والبحث عن أعمال لهم إذا كانوا عاطلين، ويبادروا إلى إبعادهم عن جلساء السوء، وربطهم بالرفقة الطيبة الصالحة، قال تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2] و قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 3]
(14)
غفلة الأمة عن التوبة: فإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من ربا، ومجون، وفسق وشرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)[النور: 55].
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98]
وهؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.
ومعنى الآية_ كما يقول المفسرون _: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس_قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة_أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء_فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال:[وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] يونس: 98 أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم (1).
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها (2).
هذا ومما يجب على الأمة في هذا الباب زيادة على ما مضى ما يلي:
(أ) التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين.
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه_كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصده من جمع المال إنفاقه فيما يلذه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
(1) انظر تفسير البغوي_معالم التنزيل_4/ 151_152، وتفسير ابن كثير2/ 414.
(2)
انظر أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب، ص89_91.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم_يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.
[*](قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها_لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها (1).
(وقال أيضاً: المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل_فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار (2).
(1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي3/ 345.
(2)
المرجع السابق3/ 365_366.
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ)[الأعراف: 32].
وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال تعالى:(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)[الإسراء: 29]
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)[الإسراء: 27]
وعدهم في زمرة من يستحقون بغضه فقال عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]
وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: (والَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[الفرقان: 67]
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها (1).
(ب) التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ويندى له جبين الحق ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
(1) انظر محاضرات إسلامية للشيخ محمد الخضر حسين ص140_147.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.
ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله"وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.
ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.
ويجهلون قيم الإسلام، ومُثُلَه، وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.
ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.
ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهوا الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه_لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة.
وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حطة أمام الغرب.
ولهذا تراهم يهشون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم الفكرية.
وإذا ذكر الله ورسوله_اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
ومن هنا فإن مثقفينا_في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب.
وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية.
ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين.
والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.
أما الحياة بشمولها فإنها_في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان (1).
[*] (يقول الدكتور محسن عبد الحميد أحد علماء العراق: من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:
(في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها منذ أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.
فلما سُئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.
ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.
(وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا بعمق نظرية قانونية كان هو يعتقد أنها نظرية غربية صِرْفة.
(وكنا نتناقش يوماً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛ فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوَّاماً عليها.
فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة حتى نحدد موقفنا منه تلعثم ولم يعرف معناها.
فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا تعرف معنى القوامة؟ (2).
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.
وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.
وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته.
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
(1) انظر أزمة المثقفين تجاه الإسلام د. محسن عبد الحميد ص 49_51 و66_67.
(2)
أزمة المثقفين تجاه الإسلام ص52_53.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم؟ وينس ما فعلوه به؟
وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود، وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبين؟ ألم ينعم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه.
فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ المسلمين، مما كان لها أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ الغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟.
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟
هذه هي حال كثير من مثقفينا، ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة.
ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم_لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتةً وفرحاً.
والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.
فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم (1).
فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبل رقيها وفلاحها.
(1) انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين ص190.
وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية_ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.
أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ما تأخذ، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع.
(ورحم الله الشيخ محمد الخضر حسين إذ يقول:
كنا بدورَ هداية ما من سَنَىً
…
إلا ومن أنوارها يستوقدُ
كنا بحورَ معارف ما من حُلىً
…
إلا ومن أغوارها يُتصيَّدُ
كنا جلاء للصدور من القذى
…
ولواؤنا بيد السعادة يُعْقَدُ
ما صافحت راحاتنا دوحاً ذوى
…
إلا وأينع منه غصنٌ أغيدُ
ومن احتمى بطرافنا السامي الذُّرا
…
آوى إلى الحرم الذي لا يضهد
لا يمْتري أهْلُ التمدن أنهم
…
لو لم يسيروا إثرنا لم يصعدوا
فَسلوا متى شئتم سَراتَهُمُ فما
…
من أمة إلا لنا فيها يدُ
لا فخر في الدنيا بغير مجادة
…
تعنو لها الأمم العظام وتسجد
لكننا لم نرعَ فيها حُرْمةً
…
بذمامها منا الرقاب تُقلَّد
أخذت مطيَّات الهوى تحدو بنا
…
في كل لاغية كساعة نُولد
حتى انزوى من ظلها الممدود ما
…
فيه مقام يستطاب ومقعدُ
أبناءَ هذا العصر هل من نهضة
…
تشفي غليلاً حرُّه يتصعَّدُ (1)
(ورحم الله الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي إذ يقول:
فأين الذي رفعته الرماح
…
وأين الذي شيدته القُضُبْ
وأين شواهقُ عزٍّ لنا
…
تكاد تمس ذراها السحب
لقد أشرق العلم من شرقنا
…
وما زال يَضْؤُلُ حتى غرب
وكنا صعدنا مراقي المعالي
…
فأصبح صاعدُنا في صبب
وكم كان منا ذوو همة
…
سمت بهمُ لمعالي الرتب
وكم من هِزَبْرٍ تهز البرايا
…
بوادره إن ونى أو وثب
وأقْسمُ لولا اغترار العقول
…
لما كفَّ أربابها عن أرب
ولولَا الذي دَبَّ ما بينهم
…
لما استصعبوا في العلا ما صَعُب (2)
(ج) التوبة الإعلامية: فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.
فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.
(1) خواطر الحياة ص105_106.
(2)
إيوان الألمعي شرح ديوان الرافعي حققه أسامة محمد السيد ص 22.
وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.
(د) التوبة من التبرج: تلك السنة الإبليسية الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير.
ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.
وهذا الصنيع نذير شر وشؤم، ومؤذن لعنة وعذاب؛ ذلك أن التبرج موجب لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغيرة، واضمحلال الحياء.
وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.
وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام.
قال تعالى مخاطباً نساء المسلمين: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)[الأحزاب: 33]
وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها.
كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!
وإذا أنكر منكر على أولئك الذين يدعون إلى التبرج والسفور وصموه بالتخلف والرجعية؛ فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أو ليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن؟!
وإذا أردت الدليل على أن التبرج تخلف عن ركب الحضارة فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.
كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة بعد درجة حتى ينتهي الأمر إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته_فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاء تاماً في القريب العاجل.
إننا في حاجة إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة.
ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين، بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.
في الوقت الذي يخضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.
هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من الشرع_وهم يزعمون أنهم مسلمون لووا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر.
أترى فرقاً بين هؤلاء وبين أمم خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذُكِّروا بآيات الله: (قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[الأنفال: 31]؛و قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[النحل: 25]
وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تقول: بأن التبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنه إلى ابتذال المرأة أقرب منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منه إلى راحة بالها (1).
[*](قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت (2).
(وقال أيضاً: وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت_استوى عندها أن تذهب يميناً، أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.
(1) انظر رسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 2/ 223 وحصوننا مهددة من داخلها د. محمد محمد حسين ص69_80.
(2)
وحي القلم1/ 195.
وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال
…
؟ (1).
(وقال أيضاً: فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق_فلا تَعُدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء (2).
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.
وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد وغير ذلك من فضائل الحجاب.
كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأن يكون حجابها مستوعباً جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة.
فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تسعد الأمة بها.
(هـ) التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله: فأمة الإسلام هي الأمة القوامة على الأمم، وهي الشاهدة على الأولين والآخرين.
والبشرية جمعاء بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام. ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله.
والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟.
وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟
وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته على مصلحة الأمة؟
وما بال كثير منهم ينزوي وينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟
إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.
والبغي يضرب على الأمة الذلةَ والمسكنةَ، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة من نحو الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير.
(1) وحي القلم1/ 302.
(2)
وحي القلم1/ 302.
وإذا تفشى وباء الفساد تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلَّت الرغبة في الآداب والعلوم.
وما عاقبة الأمة المصابة بالذل والإحجام، والجهل والتفرق، وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدمار.
ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون.
فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم.
قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال:25]
فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين:
(حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله.
فأين النوعية المصلحة التي تكفل الله بإنجائها إذا حلَّ العذاب بأهل القرى: قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[الأعراف:165].
إن من البلية في سكوت أهل العلم أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله_كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!.
ومن أثر التهاون بالإرشاد أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية؛ فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكروا في سوء عاقبتها.
ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها (1).
وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله، هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكل وجهة هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
هذه بعض الأخطاء التي تقع في باب التوبة، وسيأتي_ضمناً_في الفصل الآتي مزيد بيان لبعض الأخطاء.
(مسائلٌ هامة في التوبة:
مسألة: ما هي التوبة الواجبة والتوبة المستحبة؟
التوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والمستحبة تكون من فعل المكروهات، وترك المستحبات.
فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين: إما الكافرين، وإما الفاسقين (2).
مسألة: ما هي التوبة النصوح؟
التوبة النصوح: هي الخالصة، الصادقة، الناصحة، الخالية من الشوائب، والعلل، وهي التي تكون من جميع الذنوب؛ فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردد، ولا تلوُّمٌ، ولا انتظار، وهي التي تقع؛ لمحض الخوف من الله، وخشيته، والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده؛ فليست لحفظ الجاه، والمنصب، والرياسة، ولا لحفظ الحال، أو القوة، أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدنيا، أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها، وخلوصها لله تعالى، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات (3).
مسألة: إذا تاب العبد من بعض الذنوب مع إصراره على بعضها الآخر، فهل تُقْبل توبته مما تاب منه؟
(1) الكلام في هذه الفقرة أكثره مستفاد من كتاب: الدعوة إلى الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين ص101و115_118.
(2)
انظر جامع الرسائل لابن تيمية1/ 227.
(3)
انظر مدارج السالكين1/ 316_317، وفتح الباري11/ 105.
الجواب: الواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر قبلت توبته مما تاب منه، ما لم يُصرَّ على ذنب آخر من نوعه.
أما إذا تاب من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه.
مثال ذلك أن يتوب من الربا، وهو مصر على السرقة وشرب الخمر، فتقبل توبته من الربا.
أما إذا تاب من نوع من أنواع الربا وهو مصر على نوع آخر منه، أو تاب من نوع منه، وانتقل إلى نوع آخر فلا تقبل توبته كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مصر على ربا النسيئة، أو أن ينتقل من ربا الفضل إلى ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بأخرى؛ فإن توبته لا تصح؛ فهو لم يتب في الحقيقة من الذنب، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر.
وقد يتصور أن يتوب الإنسان من الكثير من الذنوب دون القليل؛ لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة، وصعوبة التوبة (1).
وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة، وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبة الخاصة.
وحكمها أنها تصح فيما تاب منه؛ شريطة أن يكون التائب باقياً على أصل الإيمان.
وسر المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية؛ فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإسلام والإيمان (2).
وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة (3).
ثم إن على العبد إذا وفقه الله لترك ذنب من الذنوب أن يسعى في التخلص من الباقي؛ لأن الإصرار على الذنوب يقود إلى ذنوب أخرى؛ فالحسنة تهتف بأختها، والسيئة كذلك.
مسألة: كيف يتوب من اغتصب مالاً؟
أما توبة من اغتصب مالا فعليه رد هذا المال لأصحابه، فإن تعذر عليه رده لجهله بأصحابه، أو لانقراضهم، أو لغير ذلك فعليه أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان له الخيار بين أن يجيزوا ما فعل، وتكون أجورها لهم، وبين ألا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أحوالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له إذا لا يبطل الله سبحانه ثوابها.
فقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لى وله من حسناتي بقدره.
(1) انظر إحياء علوم الدين4/ 40.
(2)
انظر مدارج السالكين 1/ 285.
(3)
انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي1/ 157.
مسألة: كيف يتوب من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمُغَنَّي وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده؟
الجواب:
وأما توبة من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العِوض كبائع الخمر والمُغَنَّي وشاهد الزور ثم تاب والعوض بيده على قولين لأهل العلم كما يلي:
فقالت طائفة يرده إلي مالكه إذ هو عينُ ماله، ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفعٌ مباح، وقالت طائفة – بل وهو أصوب القولين -:بل توبته بالتصدق به وكيف يرد إلى دافعه مالاً استعان به على معاصي الله؟ وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله والله أعلم.
مسألة: إنسان يعمل في المصانع التابعة لشركات أجنبية والمختلطة من حيث التوقيت في العمل، ومن حيث الجنسين وما يتبع ذلك من محادثات ومزح وما إلى ذلك ومشاهدة أشياء محرمة وفواحش تقع بين بعض الشبان وبعض الفتيات خصوصا عند العمل ليلا، وكان يحصل على أجره كل شهر، والآن وقد ترك العمل منذ سنتين، وبقي لدي أشياء كان قد اشتراها من تلك الرواتب التي كان يتقاضاها، منها آلة خياطة كان يخيط عليها الملابس للفتيات، وكان لا يهتم لاحتشام هذه الملابس، بل كان يخيط كل ما تريده زبوناته، ولكنه الآن تاب إلى الله عز وجل، ولم يعد يفعل ذلك. فما حكم تلك الأموال التي كان يتقاضاها، وما حكم ما بقي من الأشياء التي اشتراها بذلك المال، وكيف يتصرف فيها، ومنها آلة الخياطة، وبعض الذهب، وبعض الأثاث والمفروشات؟
الجواب:
أولا: نحمد الله تعالى أَنْ مَنَّ عليك بالتوبة، ورزقك الإنابة، فوالله إن خير ما يكسبه المرء في دنياه صدق الرجوع إلى الله، ومن أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار والافتقار، وأراه عيوب نفسه وجهلها وظلمها وتعديها حدوده، وألان قلبه إلى التوبة والاستغفار والندم على الذنب والتفريط.
فقد كان عملك في الأماكن المختلطة وفي صنع وإنتاج ما يستعمل على الوجه الحرام من المحرمات التي تمنعها الشريعة الإسلامية، حفظا للدين، وصيانة لمجتمعات المسلمين، والتزاماً بحدود الله، وتعظيماً لشرعه، ومعرفةً لقدره عز وجل.
[*](قال ابن القيم في "الوابل الصيب" (ص/32):
" وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات حشية الوقوع في المكروهات، ومجانبة مَن يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها، فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته " انتهى.
ثانيا: خياطة الملابس النسائية الفاضحة - لمن تلبسها في المعصية وتستعملها في الفتنة – من الأعمال المحرمة؛ لما فيها من الإعانة على المنكر، والواجب على المسلم تعظيم حدود الله فلا يرضى أن يعصى الرب تعالى من طريقه، ولا يقبل أن يكون من أعوان الشيطان وحزبه.
[*](قال ابن تيمية في "شرح العمدة" (4/ 387):
" وكل لباس يغلب على الظن أن يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم، وكذلك كل مباح في الأصل علم أنه يستعان به على معصية " انتهى.
(وقال أيضا – كما في "مجموع الفتاوى" (22/ 141):
" إذا أعان الرجل على معصية الله كان آثما؛ لأنه أعان على الإثم والعدوان، ولهذا لعن النبى صلى الله عليه وسلم الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها.
وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها، ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما: كقتال المسلمين، والقتال فى الفتنة " انتهى.
[*](وقال ابن حزم في "المحلى" (7/ 522):
" ولا يحل بيع شيء ممن يوقن أنه يعصي الله به أو فيه ، وهو مفسوخ أبدا:
كبيع كل شيء يعصر ممن يوقن بها أنه يعمله خمرا، وكبيع المملوك ممن يوقن أنه يسيء ملكته، أو كبيع السلاح أو الخيل: ممن يوقن أنه يعدو بها على المسلمين، أو كبيع الحرير ممن يوقن أنه يلبسه ، وهكذا في كل شيء ; لقول الله تعالى:(وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2]
والبيوع التي ذكرنا تعاون ظاهر على الإثم والعدوان بلا تطويل ، وفسخها تعاون على البر والتقوى.
فإن لم يوقن بشيء من ذلك فالبيع صحيح ; لأنه لم يعن على إثم ، فإن عصى المشتري الله تعالى بعد ذلك فعليه " انتهى باختصار.
[*](وجاء في "الموسوعة الفقهية" (2/ 73):
" لا يجوز احتراف ما يؤدي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه ، كالوشم: لما فيه من تغيير خلق الله، وككتابة الربا: لما فيه من الإعانة على أكل أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك " انتهى.
ثالثا: التوبة من المال الحرام شرطها التخلص منه، وذلك بصرفه في مصالح المسلمين، وفي أوجه البر المختلفة.
[*](قال ابن تيمية رحمه الله – كما في "مجموع الفتاوى" (22/ 142):
" ومن أخذ عِوضًا (أجرة) عن عين محرمة، أو نفع استوفاه، مثل: أجرة حَمَّال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البَغِيّ، ونحو ذلك، فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض (الأجرة) كفارة لما فعله؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث " انتهى.
[*](وجاء في "الفروع" (2/ 666) لابن مفلح:
" والواجب في المال الحرام التوبة وإخراجه على الفور " انتهى.
فالواجب عليكِ تقدير ما حصلته من أجرة خياطة ثياب النساء المتبرجات، ثم إخراجه للفقراء والمساكين رجاء تكفير الإثم والمعصية السابقة.
أما الأموال التي حصلتِها من العمل في المصنع – ومنها آلة الخياطة - فلا يجب عليك إخراجها ولا التخلص منها؛ لأن الحرام لم يتعلق بأصل العمل، بل بالاختلاط الذي صاحبَه، وهو أمر خارجٌ عن أصله، اللهم إلا إذا كان عمل المصنع في الحرام، كمصانع الخمور والدخان والآلات المحرمة، فيجب عليك حينذ إخراج الأجرة التي أخذتها منه.
وإن ضاق عليك الحال، ولم تتمكني من إخراج جميع المال الذي حصلته من خياطة الملابس المحرمة، فلا حرج عليك من إبقاء ما تحتاجين إليه.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (29/ 308):
" فإن تابت هذه البغي وهذا الخَمَّار وكانوا فقراء، جاز أن يُصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل، أعطي ما يكون له رأس مال " انتهى.
(ماذا يفعل التائب إذا اختلطت أمواله الحرام بأمواله الحلال:
مسألة: ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال؟
الجواب: الحمد لله،
من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم.
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام، وأراد أن يتوب فالمسألة على التفصيل الآتي:
(1)
كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا.
(2)
وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب.
مسألة: إذا تاب العبد من الذنب هل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها؟
الجواب:
قالت طائفة: يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأن لم يكن لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقالت أخرى: لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف، وإنما كان في صعود، فبالذنب صار في هبوط، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعداً به للترقي.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح: أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، وهنا مثلٌ مضروب: رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمْن فهو يعدو مرة ويمشى أخرى، ويستريح تارة وينام أخرى فبينما هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل، وماء بارد ومقيل، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن فنزل عليها، فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده ومنعه عن السير، فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به، وأنه رزق الوحوش والسباع، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه، فبينما هو على ذلك تتقاذفه الظنون، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه متيقظاً له لا يقدر عليك فإذا غفلت وثبت عليك، وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر، فإذا كان هذا السائر كيساً فطناً لبيباً حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول، وأتم وأشتد حذره وتأهب لهذا العدو، وأعد له عدته، فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيراً منه ووصوله إلى المنزل أسرع وأن غفل عن عدوه، وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد، عاد كما كان، وهو معرض لما عرض له أولاً، وإن أورثه ذلك توانياً في سيره وفتوراً، وتذكراً لطيب مقيله وحسن ذلك الروض أو عذوبتة مائه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان.
(هل تصح التوبة ممن أصيب بمرض لا يرجى شفاؤه؟
مسألة: رجل له ذنوب كثيرة، أصيب بمرض خطير وحاول العلاج فلم يستفيد وقال له الأطباء إنه لا علاج لديهم لحالته، وهو الآن نادم ويريد التوبة فهل تصح توبته وهو مصاب بهذا المرض القاتل الذي لا يرجى شفاؤه؟
الجواب:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح 53/ 73:
نعم تصح التوبة من إنسان أيس من حياته، إما بمرض لا يرجى شفاؤه كمرض السرطان مثلاً، وإما بتقديمه للقتل كرجل قدم ليقتص منه، حتى ولو كان السياف على رأسه، وإما من إنسان محصن زنى واستحق الرجم، وحتى لو كانت الحجارة قد جمعت لرجمه، فإنه تصح توبته، لأن الله تعالى يقبل توبة الإنسان ما لم يغرغر بروحه، لقوله تعالى:(إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً)[النساء: 17] ومعنى قوله: يتوبون من قريب: أي يتوبون قبل الموت، لقوله تعالى بعد هذه الآية:(وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الَانَ)[النساء: 18]، ولكن التوبة لابد لها من شروط خمسة: الإخلاص، والندم على ما فعل، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعود في المستقبل، وأن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، أي بأن تكون قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها.
(هل تصح توبة العاجز عن المعصية؟
مسألة: هل تصح توبة العاجز عن المعصية؟
الجواب:
توبة العاجز عن المعصية: إذا حيل بين العاصي وبين أسباب المعصية، فعجز عنها، بحيث يتعذر وقوعها منه فهل تصح توبته إذا تاب؟
وذلك كحال السارق إذا قطعت أطرافه الأربعة، وكالزاني إذا جُبَّ، أو عجز عن ممارسة الزنا، وكحال من وصل إلى حد بطلت معه دواعيه إلى معصية كان يرتكبها، كمن يحكم عليه بالسجن المؤبد، أو كمن حكم عليه بالقتل وهو ينتظر موعد التنفيذ، ونحو ذلك مما شاكله وجرى مجراه؛ فهل للواحد من هؤلاء توبة مع أنه قد حيل بينه وبين ما كان يفعله من معاصٍ؟
والجواب: أن له توبة إن شاء الله تعالى فالتوبة ممكنة صحيحة إذا أتى بها على وجهها، ولا يؤاخذ بما يرد على قلبه من وساوس تُزَيّن له المعصية، وتمنيه بالرجوع إليها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلَّم.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأقوال والخلاف في هذه المسألة: =القول الثاني: وهو الصواب أن توبته ممكنة، بل واقعة؛ فإن أركان التوبة مجتمعة فيه، والمقدور له منها الندم، وفي المسند مرفوعاً: الندم توبة.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فإذا تحقق ندمُه على الذنب، ولومُه نفسَه عليه فهذه توبة، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه على الذنب، ولومه نفسَه؟ ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه، وحزنه، وخوفه، وعزمه الجازم، ونيته أنه لو كان صحيحاً والفعل مقدوراً له لما فعله.
وإذا كان الشارع قد نزَّل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله في الحديث الصحيح:
(حديث أبي قتادة في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمله وهو صحيحٌ مقيم.
وفي الصحيح أيضاً عنه:
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
والمراد بالعذر: ما هو أعم من المرض وعدم القدرة على السفر.
(وقال أيضاً: وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل. أهـ
وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية التارك لها قهراً مع نيته تركَها اختياراً لو أمكنه منزلةَ التارك المختار أولى (1).
(ثم قال رحمه الله تعالى: يوضحه: أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة، ومن فعله تارة.
ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلاً وعزماً، والعقوبة تابعة للمفسدة.
وأيضاً فإن هذا تعذر منه الفعل ما تعذر منه التمني والوداد؛ فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب، ومن نيته: أنه لو كان سليماً لباشره فتوبته بالإقلاع عن هذا الوداد، والتمني، والحزن على فوته؛ فإن الإصرار مُتَصَور في حقه قطعاً، فَيُتصَوَّر في حقه ضده، وهو التوبة، بل هي أولى بالإمكان والتصورِ من الإصرار، وهذا واضح (2).
(1) مدارج السالكين 1/ 296.
(2)
مدارج السالكين 1/ 296_297.
(ثم بين رحمه الله تعالى الفرق بين العاجز وبين المعاين فقال: والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة، والتوبة إنما تكون في زمن التكليف، وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف؛ فالأوامر والنواهي لازمة له، والكف متصور منه عن التمني، والوداد، والأسفِ على فوته، وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله، والله أعلم (1).
إذا تقرر هذا فإنه يحسن التنبيه على مسألة وهي أن الشيطان ربما وسوس لهذا العاجز التائب، وألقى في قلبه أنه لم يتب إلا لعجزه، وأن توبته كاذبة غير مقبولة.
وربما قال له ذلك رفقة السوء.
فالواجب على التائب في مثل هذه الحالة أن يحسن ظنه بربه، وأن يستعيذ بالله من وساوس شياطين الجن والإنس، وأن يأتي بالتوبة على نحو ما ذكر في الأسطر الماضية.
(هل يجزم التائب النادم بأنّ توبته قد قُبلت؟
مسألة: إذا استكمل التائب شروط التوبة بينه وبين نفسه، فهل يجزم أن توبته قد قبلت أم يرجو فقط؟
الجواب:
الصحيح أنهلا أحد يجزم بقبول التوبة بل يرجو فقط.
(هل القسم شرط في التوبة؟
مسألة: هل القسم شرط في التوبة؟
الجواب:
إن المولى جلت قدرته، وعظم سلطانه، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره مهما كان هذا الذنب، ما دام أن العبد قد تاب منه ، قال تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]
فباب التوبة مفتوح ما لم يعاين المرء الموت، وما لم تطلع الشمس من مغربها.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا.
(1) مدارج السالكين 1/ 297.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه
(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.
(فعلى المسلم أن يغتنم هذه الفرصة وهذا الفضل العظيم من الله جل جلاله ويعجل بالتوبة ما دام في زمن الإمهال ولا يسوف بالتوبة.
ولكن يجب أن تكون هذه التوبة توبة نصوحا ، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8]
وهآنذا أُبَيِّن لك شروط التوبة الصادقة جملةً وتفصيلا:
(أولاً: شروط التوبة الصادقة جملةً:
(1)
الإخلاص لله تعالى:
(2)
الإقلاع عن المعصية:
(3)
الاعتراف بالذنب:
(4)
الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي:
(5)
العزم على عدم العودة:
(6)
التحلل من المظالم:
(7)
أن تصدر في زمن قبولها:
(ثانيا: شروط التوبة الصادقة تفصيلا:
(1)
الإخلاص لله تعالى:
فيكون الباعث على التوبة حب الله وتعظيمه ورجاؤه والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تقرباً الى مخلوق، ولا قصداً في عرض من أعراض الدنيا الزائلة، ولهذا قال سبحانه: إِلَاّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146]
(2)
الإقلاع عن المعصية:
فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعاصي حال التوبة، أما إن عاود الذنب بعد التوبة الصحيحة، فلا تبطل توبته المتقدمة، ولكنه يحتاج الى توبته جديدة وهكذا.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وأما الإقلاع: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.
(3)
الاعتراف بالذنب:
إذ لا يمكن أن يتوب المرء من شئ لا يعده ذنباً.
(4)
الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي:
ولا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي، لذا لا يعد نادماً من يتحدث بمعاصيه السابقة ويفتخر بذلك ويتباهى بها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الندم توبة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الندم توبة) أي هو معظم أركانها لأن الندم وحده كاف فيها من قبيل الحج عرفة وإنما كان أعظم أركانها لأن الندم شيء متعلق بالقلب، والجوارح تبع له فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي فرجعت برجوعه الجوارح.
(تتمة) قال في الحكم: من علامة موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من المرافقات وترك الندم على ما فعلته من الزلات. (فائدة) من ألفاظهم البليغة مخلب المعصية يقص بالندامة وجناح الطاعة يوصل بالإدامة.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) قال الغزالي: إنما نص على أن الندم توبة ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها لأن الندم غير مقدور للعبد فإنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون والتوبة مقدورة له مأمور بها فعلم أن في هذا الخبر معنى لا يفهم من ظاهره وهو أن الندم لتعظيم اللّه وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح فإذا ذكر مقدمات التوبة الثلاث وهي ذكر غاية قبح الذنوب وذكر شدة عقوبة اللّه وأليم غضبه وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع ويجزم بعدم العود إليه وبذلك تتم شروط التوبة الأربعة فلما كان الندم من أسباب التوبة سماه باسمها.
(5)
العزم على عدم العودة:
فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع الى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل.
(6)
ردّ المظالم الى أهلها:
فإن كانت المعصية متعلقة بحقوق الآدميين وجب عليه أن يرد الحقوق الى أصحابها إذا أراد أن تكون توبته صحيحة مقبولة؛
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
فهذا الذنب يتضمن حقين: حق الله وحق الآدمي، فالتوبة منه بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
مسألة: إذا كانت المظلمة بقدح في الآدمي بغيبة، أو بقذف، فهل يُشترط إعلامه؟
الجواب:
العلماء في ذلك على قولين كما يلي:
القول الأول: اشترطوا الإعلام، واحتجوا بالحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب أو المقذوف في مواضع غيبته، أو قذفه بضد ما ذكره به، ويستغفر له، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، احتج لذلك بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه أو يأمر به.
(7)
أن تصدر في زمن قبولها:
وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه
(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.
(وبهذا يُعْلَمٍ أنه ليس من شرط التوبة عدم العود إلى الذنب ، وإنما شرطه العزم الجازم الصادق على أن لا يعود،
فإن تاب العبد من الذنب الذي هو عليه ثم لعب به الشيطان ونكص على عقبيه ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فلا ييأس من روح الله، وليجدّ في التوبة مرة أخرى فإن الله يقبله، فهو سبحانه واسع الفضل عظيم المغفرة.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
َ (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) مِنَ الْغَرْغَرَةِ أَيْ مَا لَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ إِلَى الْحُلْقُومِ يَعْنِي مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْمَوْتِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن اللّه تعالى يبسط يده بالليل) أي فيه
(ليتوب مسيء النهار) مما اجترح فيه وهو إشارة إلى بسط يد الفضل والإنعام لا إلى الجارحة التي هي من لوازم الأجسام فالبسط في حقه عبارة عن التوسع في الجود والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة
(ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) يعني يقبل التوبة من العصاة ليلاً ونهاراً أي وقت كان فبسط اليد عبارة عن قبول التوبة ومن قبل توبته فداه بأهل الأديان يوم القيامة كما مر ويجيء في خبر وفيه تنبيه على سعة رحمة اللّه وكثرة تجاوزه عن المذنبين ولا يزال كذلك
(حتى تطلع الشمس من مغربها) فإذا طلعت منه غلق باب التوبة قال في المطامح: ومن أنكر طلوعها من مغربها كفر وسمعت عن بعض أهل عصرنا أنه ينكره نعوذ باللّه من الخذلان انتهى وأنت خبير بأن جزمه بالتكفير لا يكاد يكون صحيحاً سيما في حق العامة لأنه لم يبلغ مبلغ المعلوم من الدين بالضرورة ومجرد وروده في أخبار صحاح لا يوجب التكفير فتدبر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يحكي عن ربه عز وجل: أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك.
ولكن ينبغي على المسلم العاقل أن يكون صادق التوبة مع الله، صادق العزم على عدم العودة مرة أخرى، نادمًا على ما قد جناه، ولا تكون توبته بلسانه فقط دون جوارحه، فهذه توبة الكذابين.
وأما القسم أو النذر بأن لا يفعل العبد هذا الذنب مرة أخرى ، فلا حاجة إليه ، فالتوبة النصوح تحصل باجتماع الشروط السابقة.
(من اشترى شقة بالربا فكيف يتوب من فعله؟
مسألة: كنت قد اشتريت شقة قبل عامين عن طريق أحد البنوك الربوية، فدفعت خمسة آلآف دينار أردني والباقي دفعهم البنك، وكان سعر الشقة 27 ألف دينار، وتم الاتفاق على دفع أقساط شهرية لمدة (92) شهراً، وقيمة القسط الواحد (208) دينار أردني، والآن أريد أن أتخلص من البنك وأتوب إلى الله، مع العلم أن الأقساط المدفوعة حتى الآن (13000) دينار أردني. فما هو الحل الأنسب للتخلص من هذا الذنب؟ مع العلم أني لا أملك أن أدفع باقي سعر الشقة، وأن سعر الشقق في الأردن تضاعف هذه الأيام، أي: أني لو عرضت شقتي للبيع ستباع بسعر مضاعف -؟.
الجواب:
أولاً: نسأل الله أن يوفقك للتوبة من التعامل بالربا؛ فإن الربا من كبائر الذنوب، والمتعامل به مستحق للوعيد الشديد.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة278،279]
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه وقال هم فيه سواء.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
لعن الله آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهديه وقال هم فيه سواء: هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وفيه تحريم الإعانة على الباطل والله أعلم
ثانياً:
ومن تمام توبتك أن تتخلص من الفوائد الربوية التي تدفعها للبنك، فإن كانت تلك الفوائد يمكن أن تزول عنك أو يزول بعضها: فينبغي أن تعجل دفع أقساطهم ولو ببيع بيتك، أما إن كانت الفوائد الربوية قد لزمتك ولم يعد بإمكانك الفكاك منها، ولا تقليلها، فلا حرج عليك من الانتفاع بالبيت، إما بالسكن فيه، أو تأجيره، أو غير ذلك من أوجه الانتفاع.
ونسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك ويوفقك لما يجبه ويرضاه.
(كسب أموالا محرمة واشترى بها شقة فهل يتخلص منها:
مسألة: كان رجلٌ يعمل في وظيفة قبل الزواج واكتسب فيها بعض المال غير الحلال، وبعد فترة من الزمان جمع هذه الأموال واشترى شقة سكنية واشترك في نصف سيارة نقل، وهذا كل ما يملكه، وبعد الزواج عاهدت الله أن لا يدخل في بيته مالا حراما، وترك العمل، وتاب إلى الله، فماذا يفعل في الشقة والسيارة؟
الجواب:
أولا: نسأل الله تعالى أن يتقبل توبتك، وأن يرزقك الرزق الحلال الطيب.
واعلم أن من شروط التوبة: رد المظالم إلى أهلها، فإذا كان شيء من هذا المال أخذ بغير رضا، كالسرقة أو الغش والخداع، فيلزم رد المال إلى أصحابه، فإن لم يمكن الوصول إليهم أو إلى ورثتهم بعد البحث والتحري، فإنك تتصدق به على نية أنه لهم، فإن جاء صاحبه يوما من الدهر، فإنك تخيره بين رد المال إليه ويكون ثواب الصدقة لك، أو إمضاء الصدقة ويكون ثوابها له.
ثانيا: أما إذا كانت الأموال المحرمة قد أخذت في معاوضات أو أعمال محرمة، على وجه التراضي، كثمن الخمر، وأجرة الغناء والزمر والكهانة وكتابة الربا وشهادة الزور ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، ففيها تفصيل:
أ – فما كسبه الإنسان من ذلك وهو جاهل بتحريمه، فإنه له، ولا يلزمه التخلص منه؛ لقول الله تعالى في الربا بعد نزول تحريمه:(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/275.
ب- وإن كان يعلم تحريم هذا المال، لكنه أنفقه وذهب، فإذا تاب الإنسان فلا شيء عليه.
ج – إذا كان المال باقيا، فإنه يلزم التخلص منه بإنفاقه في وجه الخير، إلا إذا كان محتاجا فإنه يأخذ منه قدر الحاجة، ويتخلص من الباقي.
(وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
أسأل سماحتكم عن فتوى شاعت بين الناس عن أحد العلماء، بأن الشخص إذا كسب مالا من صنع الخمر أو بيعه أو بيع المخدرات، وتاب إلى الله سبحانه وتعالى فإن هذا المال المكتسب عن طريق صنع الخمر أو بيعه أو بيع المخدرات وترويجها فإنه حلال.
فأجابوا: " إذا كان حين كسب الحرام يعلم تحريمه، فإنه لا يحل له بالتوبة، بل يجب عليه التخلص منه بإنفاقه في وجوه البر وأعمال الخير " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة"(14/ 33).
[*] (قال ابن القيم رحمه الله: " إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض، كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده. فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.
وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أصوب القولين
…
" انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 389).
وقد بسط ابن القيم الكلام على هذه المسألة في "زاد المعاد"(5/ 778) وقرر أن طريق التخلص من هذا المال وتمام التوبة إنما يكون: " بالتصدق به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي " انتهى.
[*](وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإن تابت هذه البَغِيّ وهذا الخَمَّار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم، فإن كان يقدر يتّجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل، أعطي ما يكون له رأس مال " انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 308).
وعليه؛ فإن كنت بحاجة إلى الشقة ونصيبك من سيارة النقل، فنرجو أن يعفو الله عنك، ولا يلزمك التخلص من شيء من ذلك.
وعليك بالاجتهاد في الأعمال الصالحة والإكثار من الصدقة، فإن الله تعالى يقول:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه:82]
والله أعلم.
(الحكم في من سب دين رجل مسلم:
مسألة: هل تجب الكفارة على من سب مسلما. كالقول لمسلم: لعن دين أمك؟
الجواب:
أولا: سب الدين أو الملة أو الإسلام كفر أكبر، بإجماع أهل العلم، يُستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، عياذا بالله من ذلك.
وأما سب دينِ شخصٍ مسلمٍ معين، كقوله: يلعن دينك، أو دين أمك – والحال أن أمّه مسلمة - فظاهره سب الدين أيضا، وهو كفر كما سبق، وأبدى بعض أهل العلم احتمالا، وهو أن يكون مراده حالة الشخص وتدينه، وهذا قد يؤخذ من القرائن المحيطة، فحينئذ يعزر ويؤدب، وبكل حال فإنه يستتاب ويراجع.
جاء في "الموسوعة الفقهية"(24/ 139): " اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافرا ، أما من شتم دين مسلم، فقد قال الحنفية كما جاء في جامع الفصولين: ينبغي أن يكفر من شتم دين مسلم ، ولكن يمكن التأويل بأن المراد أخلاقه الرديئة ومعاملته القبيحة لا حقيقة دين الإسلام فينبغي أن لا يكفر حينئذ " انتهى.
وقال الشيخ عليش المالكي: " وفيه أيضا [أي البرزلي] نزلت مسألة وهي أن رجلا كان يزدري الصلاة وربما ازدرى المصلين وشهد عليه ملأ كثير من الناس منهم من زكي ومنهم من لم يزك، فمن حمله على الازدراء بالمصلين لقلة اعتقاده فيهم فهو من سباب المسلم فيلزمه الأدب على قدر اجتهاد الحاكم، ومن يحمله على ازدراء العبادة فالأصوب أنه ردة لإظهاره إياه وشهرته به كهذه المسألة المذكورة، لا زندقة ويجرى على أحكام المرتد ا هـ.
قلت: يؤخذ من هذا الحكم فيمن سب الدين أو الملة أو المذهب وهو يقع كثيرا من بعض سفلة العوام كالحمّارة والجمّالة والخدامين وربما وقع من غيرهم وذلك أنه إن قصد الشريعة المطهرة والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو كافر قطعا، ثم إن أظهر ذلك فهو مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن لم يظهره فهو زنديق يقتل ولو تاب.
وإن قصد حالة شخص وتديّنه فهو سب المسلم ففيه الأدب باجتهاد الحاكم، ويفرق بين القصدين بالإقرار والقرائن، وبعضهم يجعل القصد الثاني كالأول في الحكم، ففي البدر عن بهرام في مبحث الردة: إذا قال تارك الصلاة لمن قال له صل: إذا دخلت الجنة فأغلق الباب خلفك، فإن أراد أن الصلاة لا تأثير لها في الدين فقد ارتد اتفاقا، وإن أراد أن صلاة القائل لا تأثير لها لكونها لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ففي ردته قولان ا هـ. ومن المعلوم أن من الدين والملة القرآن العزيز، وسبه كفر كما ذكره البرزلي في مواضع " انتهى من "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" (2/ 346).
والاحتمال الذي ذكره، ربما وقع نادرا، وإلا فالأصل أن لعن دين الشخص هو لعن للإسلام، ولا يقدم على هذا إلا متهور مجترئ على حدود الله، مقتحم لهذه المهلكة العظيمة، ولندرة هذا الاحتمال فإن الشيخ عليش رحمه الله لم يذكره في موضع آخر، حيث سئل ما نصه: " (ما قولكم) في رجل لعن دين آخر، وفي آخر لعن مذهبه، وفي آخر قال له: يلعن مذهبك مذهب القطط، هل يرتدون أفيدوا الجواب.
فأجبت بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، نعم قد ارتدوا بذلك، واستحقوا القتل إن لم يتوبوا اتفاقا؛ لأن سب الدين أو المذهب لا يقع إلا من كافر، ولأنه أشد من الاستخفاف به الموجب للكفر، ولأنه داخل في القسم الثاني المتقدم عن ابن عبد السلام والقرافي وابن رشد وغيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ". انتهى من "فتح العلي المالك" (2/ 355).
ثانيا: كفارة السب، سواء كان سبا للدين أو للشخص، هي التوبة النصوح، فمن تاب تاب الله عليه، إلا أن الساب يستحق التعزير والتأديب. سئل النووي رحمه الله: " ماذا يجب على من يقول للمسلم: يا كلب، أو يا خنزير، ونحوه من الألفاظ القبيحة هل يأثم؟.
فأجاب: الحمد لله، يأثم ويعزر، وعليه التوبة. والله أعلم ". انتهى من "فتاوى النووي" ص 224
(من تاب وعليه حقوق مالية ولم يستطع أداءها:
مسألة: من تاب وعليه حقوق مالية ولم يستطع أداءها كيف يكون مصيره في الآخرة؟
الجواب:
فصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
(1)
إن لم يكن صادق النية في السداد أو كان عاصياً بالتزامها فإن ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة.
وعليه تُحمل الأحاديث الآتية: (
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(أدى الله عنه): ولابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث ميمونة ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا وظاهره يحيل المسألة المشهورة فيمن مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يعسر مثلا أو يفجأه الموت وله مال مخبوء وكانت نيته وفاء دينه ولم يوف عنه في الدنيا ويمكن حمل حديث ميمونة على الغالب والظاهر أنه لا تبعة عليه والحالة هذه في الآخرة بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين كما دل عليه حديث الباب وأن خالف في ذلك بن عبد السلام والله أعلم.
(أتلفه الله): ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة قال بن بطال فيه الحض على ترك استشكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نفسُ المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ) قَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ أَيْ: أَمْرُهَا مَوْقُوفٌ لَا حُكْمَ لَهَا بِنَجَاةٍ، وَلَا هَلَاكٍَ حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ يُقْضَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الدَّيْنِ أَمْ لَا. انْتَهَى، وسَوَاءٌ تَرَكَ الْمَيِّتُ وَفَاءً أَمْ لَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ وَفَاءً، كَذَا فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي، وقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ: فِيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، وهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ مَالٌ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ، وأَمَّا مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَمَاتَ عَازِمًا عَلَى الْقَضَاءِ للدين، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِلْقَضَاءِ مُوجِبَةٌ لِتَوَلِّي اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَقْضِ مِنْهُ الْوَرَثَةُ الميت. أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا:{مَنِ ادَّانَ بِدَيْنٍ فِي نَفْسِهِ وَفَاؤُهُ، وَمَاتَ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى غَرِيمَهُ بِمَا شَاءَ، وَمَنِ ادَّانَ بِدَيْنٍ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ وَفَاؤُهُ، وَمَاتَ، اقْتَصَّ اللَّهُ لِغَرِيمِهِ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: {الدَّيْنُ دَيْنَانِ. فَمَنْ مَاتَ، وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ، وَمَنْ مَاتَ، وَلَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَذَلِكَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ، وَلَا دِرْهَمٌ}
(2)
أما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات أو أتلف شيئاً خطأ وعجز عن غرامته حتى مات: فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة إذ لا معصية منه، والمرجو أن الله تعالى يعوِّض صاحب الحق
…
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ميمونة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ادان دينا ينوي قضاءه أداه الله عنه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من ادّان ديناً ينوي) أي وهو ينوي كما جاء مصرحاً به في رواية صحيحة
(قضاءه أداه اللّه عنه يوم القيامة) بأن يرضي خصماءه، وقال الغزالي: الشأن في صحة النية فهي معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال.
(من أخبر عن نفسِه أنَّه كفر، فما الحُكمُ، وكيف يتوب:
مسألة: في خِصامٍ حادٍّ، أخبر عن نفسِه أنَّه كفر، فما الحُكمُ، وكيف يتوب؟
حينَما ازدادَ نقاشِي مع أحدِ أقاربي لفظت بقولِ: "أنا كفرت "، ولطمتُ على وجهي، مع العِلمِ أَنِّي نادمٌ على ما حدث، فأريدُ التوجيهَ والإرشادَ، وما حكمُ الدينِ في ذلك؟ وهل عليَّ كفارة؟.
الجواب:
إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون، ونسألُ الله العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة، ونسألُه حسنَ الختامِ والوفاةَ على الإيمان.
اعلم - أخي السائل - بأنَّك وقعتَ في أعظمِ ذنبٍ وأقبحِ معصيةٍ، وهي معصيةُ الكفرِ والردَّةِ، والعياذ بالله تعالى.
وهذه الكلمةُ التي ذكرتَ عن نفسِك، صريحةٌ في الكفرِ والردةِ، والعلماءُ يقولون:
عندَ ظهورِ لفظِ الكفرِ يُحكَمُ بالردةِ (إن كان يعلم معنى الكلمة)، ولا يُسأل عن نيته، كما قالَ تعالى:
(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) التوبة/65.
فأخبرَ سبحانَه أنهم كفروا بعدَ إيمانهم، مع قولِهم: إنا تكلمنا من غيرِ اعتقاد، بل كنَّا نخوض ونلعب.
قال ابنُ نُجَيم:
" إنَّ من تكلَّمَ بكلمةِ الكفرِ هازلا أو لاعبًا كفرَ عند الكلِّ، ولا اعتبارَ باعتقادِه " انتهى.
"البحر الرائق"(5/ 134)، وانظر:"نواقض الإيمان القولية والعملية"(ص95).
[*] (وقال الشيخُ ابنُ عثيمين:
" وإن أتى بقولٍ يُخرجُه عن الإسلامِ، مثلَ أن يقول: هو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أو مجوسيٌّ أو بريءٌ من الإسلام، أو من القرآنِ أو النبيِّ عليه الصلاة والسلام فهو كافرٌ مرتدٌ، نأخذه بقولِه هذا " انتهى.
"الشرح الممتع"(6/ 279).
والردُّة أمرُها خطيرٌ وشأنُها عظيم، فقد اختلفَ العلماءُ فيمن ارتدَّ ثم تاب، هل يبقى له من ثوابِ أعمالِه السابقةِ شيءٌ، أم تحبط كلُّها بالردة؟
وقد سئلَ الشيخُ الفوزانُ السؤالَ التالي:
ما الحكمُ فيمن ارتدَّ عن الإسلامِ ثم عاد إليه، هل يعيدُ ما فاتُه من أعمالٍ من أركانِ الإسلامِ، كالحجِّ والصومِ والصلاةِ، أم تكفي توبتُه وعودتُه إلى الإسلامِ؟
فأجابَ:
" الصحيحُ من قولي العلماء: أن المرتدَّ إذا عادَ إلى الإسلامِ، ودخلَ في الإسلامِ مرةً أخرى تائبًا منيبًا للهِ تعالى، فإنه لا يعيدُ الأعمالَ التي أدَّاها قبلَ الردةِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى اشترطَ لحبوطِ الأعمالِ بالردَّةِ أن يموتَ الإنسانُ عليها.
قالَ تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:217]
فَشَرَطَ لحبوطِ الأعمالِ استمرارَ الإنسانِ على الردةِ حتى يموتَ الإنسانُ عليها، فدلت الآيةُ بمفهومِها على أنَّ الإنسانَ لو تابَ فإنَّ أعمالَه التي أدَّاها قبلَ الردةِ تكونُ صحيحةً ومُجزيةً إن شاءَ الله تعالى " انتهى.
"المنتقى من فتاوى الفوزان"(5/ 429).
وأما لطم الوجه فهو من أعمال الجاهلية التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
وهذا يدل على أن لطم الخدود كبيرة من كبائر الذنوب.
وحيث قد ندمت على ما فعلت فنرجو من الله تعالى أن يقبل توبتك ، فعليك أن تنطق الشهادتين لتدخل بذلك في الإسلام بعد أن خرجت منه ، ولْتحسن العمل ، وعليك بحفظ اللسان ، فإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوى بها في النار سبعين خريفاً. كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
وأما الكفارة، فليس هناك كفارة لما بدر منك إلا التوبة والندم والعزم على عدم العودة إلى ذلك.
(لا يشترط لصحة التوبة الوضوء ولا الغسل:
مسألة: هل يشترط لصحة التوبة الوضوء ولا الغسل؟
الجواب:
لا يخلو واحد من البشر من الخطأ والذنب، وخير هؤلاء هو من يسارع إلى التوبة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ) أَيْ كَثِيرُ الْخَطَأِ أَفْرَدَ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْكُلِّ، وَفِي رِوَايَةٍ خَطَّاءُونَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْكُلِّ، قِيلَ أَرَادَ الْكُلَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلٌّ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِمَّا مَخْصُوصُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ صَغَائِرَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ يُقَالُ: الزَّلَّاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ الجزء السابع مَحْمُولَةٌ عَلَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَصْدٌ إِلَى الْعِصْيَانِ قَالَهُ الْقَارِي
(وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) أَيِ الرَّجَّاعُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. أهـ
والسهو والتقصير من طبع الإنسان، ومن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف أن يفتح له باب التوبة، وأمره بالإنابة إليه، والإقبال عليه، كلما غلبته الذنوب ولوثته المعاصي .. ولولا ذلك لوقع الإنسان في حرج شديد، وقصرت همته عن طلب التقرب من ربه، وانقطع رجاؤه من عفوه ومغفرته.
وأوجب الله سبحانه وتعالى التوبةَ على عباده فقال:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم:8]
وأخبر الله تعالى أنه يقبل التوبة من عباده، وأنه يعفو عنهم، بل يبدل سيئاتهم حسنات، قال الله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[الشورى:25]، وقال:(إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[الفرقان: 70].
ولم يوجب الله تعالى على التائب وضوءً ولا غسلاً، سواء كان محدِثاً حدثاً أصغر أو أكبر، لا قبل التوبة ولا بعدها، إلا إن تاب من كفر أو ردَّة.
قال علماء اللجنة الدائمة:
لا يلزم الغسل بعد التوبة الصادقة من المعاصي؛ لأن الأصل عدم مشروعية ذلك، ولا نعلم دليلاً يخالف هذا الأصل إلا إذا كانت التوبة من كفر فإنه يشرع لمن أسلم أن يغتسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بذلك قيس بن عاصم لما أسلم "، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن السكن. " فتاوى اللجنة الدائمة "(5/ 317).
(ما معنى التوبة من قريب:
مسألة: ما معنى التوبة من قريب والمقصودة في قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)[النساء: 17]؟
الجواب:
التوبة من قريب هي التوبة في الحياة ما لم يغرغر العبد، أي ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي، فهنا تقبل توبته.
[*] (قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت؛ فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن لم يتب فقد بعد كل البعد كما قيل:
فهم جيرةُ الأحياء أما قرارهم
…
فَدَانٍ وأما الملتقى فبعيد
فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها؛ فإن جسمه في الأرض يبلى، وروحه عند الله تُنَعَّم أو تُعذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا (1).
أما إذا عاين العبد أمور الآخرة، وانكشف له الغطاء، وشاهد الملائكة، فصار الغيب عنده شهادة فإن الإيمان والتوبة لا تنفعه في تلك الحال.
(1) لطائف المعارف ص 380.
قال تعالى: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)[النساء: 18]
فسوَّى الله عز وجل بين من تاب عند الموت، ومن مات من غير توبة.
والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة_كما مرَّ_ (1).
[*] (قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه؛ فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.
وبإسناده عن الثوري قال: قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت.
وعن الحسن قال: التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ ملك الموت بكظمه (2).
(نقض التوبة:
مسألة: كيف تُنْقَصُ التوبة؟
الجواب:
إذا تاب العبد من ذنب ثم عاد إليه مرة أخرى يكون ناقضاً للتوبة؛ فيلزمه حينئذ أن يجدد التوبة.
ولا يرجع إليه في هذه الحالة إثم الذنب الذي تاب منه، والعائد إليه إنما هو إثم الذنب الجديد المستأنف لا الماضي؛ لأن الماضي قد ارتفع بالتوبة، وصار بمنزلة ما لم يعملْه.
قال تعالى: في وصف المتقين في سورة آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135]
وجاء في الحديث المرفوع إلى النبي": =إن الله يحب العبد المفتَن التوَّاب (3).
(1) انظر لطائف المعارف ص 382_383.
(2)
لطائف المعارف ص 383.
(3)
رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند 1/ 80، 103وفي زوائده على فضائل الصحابة 2/ 697، وأبو يعلى الموصلي (483) من طريق أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنيفة عن أبيه به مرفوعاً، وإسناده ضعيف؛ فالثقفي مجهول، وأبو عمرو البجلي متروك، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، كما في تعجيل المنفعة ص 508.
ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده_كما في بغية الباحث2/ 972_من طريق آخر عن محمد ابن الحنفية به، ولكنه من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو متروك.
[*](قال ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: قلت: وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه، فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوباً للرب، ولكان ذلك أدعى إلى مقته (1).
(وقال أيضاً: قالوا: وأما استمرار التوبة فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها (2).
(وقال أيضاً: ونكتة المسألة أن التوبة حسنة، ومعاودة الذنب سيئة؛ فلا تبطل معاودته هذه الحسنة كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات (3).
وعلى هذا فلا يجوز للعبد إذا تاب ثم ابتلي بالذنب أن يدع التوبة، ويستمر على ذنوبه، بحجة أنه نقض توبته.
بل عليه أن يتوب وأن يرجع إلى ربه؛ فمعاودة الذنب مبغوض لله من جهة معاودة الذنب، محبوب من جهة التوبة والحسنات السابقة (4).
(رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة:
مسألة: إذا كان للعبد حسنات ثم عمل بعدها سيئات استغرقت حسناتِه القديمة وأبطلتها، ثم تاب بعد ذلك توبةًً نصوحاً فهل تعود إليه حسناته القديمة؟
إذا كان للعبد حسنات ثم عمل بعدها سيئات استغرقت حسناتِه القديمة وأبطلتها، ثم تاب بعد ذلك توبةًً نصوحاً عادت إليه حسناته القديمة، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها.
بل يقال له: تُبْتَ على ما أسلفت من خير؛ فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره: من عتاق، وصدقة، وصلة (5).
(حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: يا رسول الله، أرأيت أشياء، كنت أتحنث بها في الجاهلية، من صدقة، أو عتاقة، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما سلف من خير.
[*](قال ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر؛ تفضلاً، وإحساناً (6).
[*](وقال ابن القيم مبيناً العلة في ذلك: وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن؛ فتلاقت الطاعتان، واجتمعتا، والله أعلم (7).
(هل التوبة تُرْجِعْ العبدَ إلى حاله قبل معصيته؟
(1)(3)(1) مدارج السالكين 1/ 292.
(4)
انظر مدارج السالكين 1/ 293وطريق الهجرتين لابن القيم ص407_416.
(5)
انظر مدارج السالكين 1/ 293.
(6)
فتح الباري 3/ 354.
(7)
مدارج السالكين 1/ 293، وانظر فتح الباري لابن رجب1/ 160_163.
مسألة: إذا كان للعبد حال أو مقام مع الله، ثم نزل عنه لذنب ارتكبه ثم تاب منه؛ فهل يعود بعد التوبة إلى مثل ما كان أو لا يعود؟ أو يعود إلى أنقصَ من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟
الجواب:
أن هذه المسألة قد اختلف فيها السلف على أقوال شتى، ومن أحسن من أجاب على تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فلقد فَصَلَ الخطاب في هذه المسألة بكلام كافٍ شاف.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض كلامه على المسألة الماضية: وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية فسمعته يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجردة؛ فإما سألته، وإما سئل عن الصواب منها فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان؛ فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً، وأعظم تشميراً، وأعظم ذلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان.
وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه.
وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى منزلته.
هذا معنى كلامه (1).
وعلى هذا فإنه ينبغي التفطن لهذه المسألة خصوصاً من كان له حال مع الله، وكان ذا خشية، وعلم، وتألُّه، وإنابة، ومسارعة إلى الخيرات، ثم طاف به طائف من الشيطان، فَأزَلَّه، وأغواه، وطوَّح به عن قصد السبيل، أو أنزله عن منزلته السابقة؛ ففقد أنسه بربه، ودب إليه الضعف والفتور، وترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة.
وهذه مسألة تعتري كثيراً من الناس، فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس من العودة إلى الحال السابقة، فيظنون أن لا رجعة إلى ما كانوا عليه من الخير والقرب من الله.
فعلى من وقعت له تلك الحال ألا يستسلم للشيطان، وألا ييأس من رجوعه إلى ما كان عليه من منزلة، بل عليه أن يجتهد بالتوبة النصوح، وأن يشمر عن ساعد الجد؛ لتدارك ما فات بالأعمال الصالحات؛ فلربما عاد إلى مقامه السابق، بل ربما عاد أكمل مما كان عليه.
وليس ذلك ببعيد على من كان ذا نفس شريفة، وهمة عالية، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]
ولا بعد من خير وفي الله مطمع
…
ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
(على كل عضو توبة:
(1) طريق الهجرتين ص 407.
مسألة: هل يكون على كل عضو توبة؟
الجواب:
الصحيح أنه على كل عضو توبة فتوبة العين كفها عن النظر إلى الحرام، وتوبة الأذن كفها عن سماع الحرام، وتوبة الرجل كفها عن المشي إلى الحرام، وتوبة اليد كفها عن فعل الحرام، وتوبة القلب تخليصه من كل ما ينافي سلامته من الشرك، والحسد، والغل، والحقد، ونحو ذلك
…
(فعل معصية من المعاصي لا يُسَوِّغُ فعل غيرها:
مسألة: إذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي فهل ذلك لا يسوغ له فعل غيرها؛ بحجة أنه لم يتب بعد، أو لم يستقم استقامة حقة.
الجواب:
إذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي فإن ذلك لا يسوغ له فعل غيرها؛ بحجة أنه لم يتب بعد، أو لم يستقم استقامة حقة.
فسماع الحرام لا يسوغ رؤية الحرام، وأكل الربا لا يسوغ شرب الخمر، وهكذا
…
(فعل المحرمات لا يسوّغ ترك الطاعات:
مسألة: إذا ابتلي العبد ببعض المحرمات كأكل الربا، أو سماع الحرام، أو شرب الخمر ـ والعياذ بالله ـ فهل ذلك يسوغ له ترك الصلاة مثلاً؟
الجواب:
إذا ابتلي العبد ببعض المحرمات كأكل الربا، أو سماع الحرام، أو شرب الخمر ـ والعياذ بالله ـ فإن ذلك لا يسوغ له ترك الصلاة مثلاً لأن الشيطان قد يلقي في قلب ذلك العاصي أنه منافق؛ إذ كيف يصلي وهو مصر على ارتكاب بعض المعاصي؟.
وما يريد عدو الله من ذلك إلا زيادة الإثم على العاصي، أو إخراجه من دائرة المعصية إلى دائرة الكفر.
ثم إن ترك الأوامر أعظم من ارتكاب المناهي.
[*](قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها، فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد، فلم يتب عليه (1).
[*](وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات، وأفضل؛ فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغضُ إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية (2).
[*] (ولقد علق ابن القيم رحمه الله تعالى على كلمة سهل بكلام عظيم.
قال: قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة (3).
(1) مدارج السالكين 2/ 156.
(2)
الفوائد لابن القيم ص173.
(3)
الفوائد لابن القيم ص173.
ثم شرع في ذكر ثلاثة وعشرين وجهاً بين من خلالها صحة القاعدة السابقة (1).
ثم قال بعد أن سرد تلك الوجوه: وسر هذه الوجوه أن المأمور به محبوبه، والمنهي عنه مكروهه، ووقوع محبوبه أحب إليه من فوات مكروهه، وفوات محبوبه أكره إليه من وقوع مكروهه، والله أعلم (2).
(فعل المعاصي لا يسوغ المجاهرة بها أو الدعوة إليها:
لأن ذلك أشنع في الجرم، وأبعد عن المعافاة.
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: أي لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كل أمتي معافى) اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفى اللّه عنه وإما سلمه اللّه وسلم منه
(إلا المجاهرين) أي المعلنين بالمعاصي المشتهرين بإظهارها الذين كشفوا ستر اللّه عنهم وروي المجاهرون بالرفع ووجهه بأن معافى في معنى النفي فيكون استثناء من كلام لغو موجب والتقدير لا ذنب لهم إلا المجاهرون ثم فسر المجاهر بأنه
(وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)
(1) انظر الفوائد ص173_186.
(2)
الفوائد ص186.
فيؤاخذ به في الدنيا بإقامة الحد وهذا لأن من صفات اللّه ونعمه إظهار الجميل وستر القبيح فالإظهار كفران لهذه النعمة وتهاون بستر الله قال النووي: فيكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها بل يقلع ويندم ويعزم أن لا يعود فإن أخبر بها شيخه أو نحوه مما يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها أو يدعو له أو نحو ذلك فهو حسن وإنما يكره لانتفاء المصلحة وقال الغزالي: الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على السؤال والاستفتاء بدليل خبر من واقع امراته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه.
[*] (قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن، يتحدث بالزنى افتخاراً والعياذ بالله، يقول: إنه سافر إلى البلد الفلاني، وإلى البلد الفلاني، وفجر وفعل وزنى بعدة نساء، وما أشبه ذلك، يفتخر بهذا.
هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن الذي يفتخر بالزنى مقتضى حاله أنه استحل الزنى والعياذ بالله، ومن استحل الزنى فهو كافر." شرح رياض الصالحين"(1/ 116)
ولا شك أن المعاصي درجات والإثم يتفاوت فيها بحسب حال العاصي أثناء المعصية وحاله بعدها، فليس المتخفي بمعصيته المستتر بها كالمجاهر، وليس النادم بعدها كالمفتخر بها.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله:
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها، فالمتخذ خدناً من النساء والمتخذة خدناً من الرجال أقل شرّاً من المسافح والمسافحة مع كل أحدٍ، والمستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثماً من المخبِر المحدِّث للناس به، فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين
…
".
" إغاثة اللهفان "(2/ 147).
الخدن والخدنة: العشيق والعشيقة.
والأصل: أن يُعقب المسلمُ ذنبه بتوبة واستغفار وندم وعزم على عدم العوْد لها، لا أن يُعقبها بافتخار ومجاهرة وحديث بها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
(مفاسد المجاهرة بالمعاصي:
(1)
أنها استخفاف بأوامر الله عز وجل ونواهيه.
(2)
أنها تؤدي إلى إلفِ المعصية واعتياد القبائح واستمرائها وكأنها أمور عادية لا شيء فيها.
(3)
أنها بمثابة دعوة للغير إلى ارتكاب المعاصي وإشاعة الفساد ونشر للمنكرات.
(4)
أنها ربما أدت إلى استحلال المعصية فيكفر بذلك والعياذ بالله.
(5)
أنها دليل على سوء الخلق والوقاحة وقلة أدب صاحبها.
(6)
أنها دليل على قسوة القلب واستحكام الغفلة من قلب المجاهر.
(صورٌ من المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله:
إن صور المجاهرة بالمعاصي ـ في هذا العصر ـ كثيرة جداً، لا يمكن استقصاؤها في هذه العجالة، غير أننا نشير إلى أمثلة من ذلك، وهاك بعض صور المجاهرة بالمعاصي:
(هذا رجل يتحدث أمام الملأ عن سفرته وما تخللها من فسق وفجور، فيتفاخر بذلك في المجالس ويحسب أن ذلك من الفتوة وكمال الرجولة، وهو - والله - من الذلة والمهانة وضعة النفس وخبث الباطن وضعف الإيمان جداً وقسوة القلب.
(وهذا شاب يتحدث عن مغازلاته ومغامراته. .
(وهذه فتاة تتحدث عن علاقاتها الآثمة عبر الهاتف. .
(وهذا صاحب عمل يعطي زملائه دروسا مجانية في ظلم العمال وأكل أموالهم. .
(وهذا عامل يكشف ستر الله عليه فيتحدث عن سرقته لصاحب العمل ويعلم أصدقائه بعض الحيل في ذلك.
(ومنها الدعوة إلى وحدة الأديان وتصحيح عقائد الكفر.
(ومنها الاحتفال بأعياد الكفار وإعلان ذلك في الصحف والمجلات والقنوات مثل الاحتفال بالكريسمس وعيد الحب وعيد الأم وغيرها.
(ومنها خروج المرأة أمام الملأ متعطرة ومتزينة.
(ومنها خروج المرأة وهي تلبس العباءة القصيرة أو المزركشة أو الشفافة، أو تلبس البنطال أو الكعب العالي وتجاهر بذلك أمام الملأ.
(ومنها خلوة المرأة بالسائق الأجنبي أمام الملأ، وكذلك خلوتها بالبائعين في الأسواق والمحلات التجارية.
(ومنها ممارسة عادة التدخين أمام الملأ.
(ومنها إسبال الثياب للرجال.
(ومنها حلق اللحى، والمجاهرة تشمل الحالق والمحلوق.
(ومنها قص الشعر على مثال أهل الكفر.
(ومنها تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء.
(ومنها سفر المرأة وحدها بدون محرم.
(ومنها ترك الرجال لصلاة الجماعة بدون عذر.
(ومنها لبس الرجال للذهب والحرير.
(ومنها السباب واللعن عمدا أمام الملأ.
(ومنها تعاطي بعض الشباب - هداهم الله - أنواع المعاكسات في الأسواق والشوارع والحدائق وأماكن الترفيه وغيرها.
(ومنها لبس الشباب للشورت الذي يظهر الفخذين والسير به في الشوارع، وكذلك لبس السلاسل والفانيلات التي عليها صور خليعة.
(ومنها إتلاف السيارات بالتفحيط والتطعيس.
(ومنها الإفطار في رمضان عمدا أمام الملأ بدون عذر.
(ومنها مزاولة أنشطة تجارية محرمة كالبنوك الربوية ومحلات أشرطة الغناء ومحلات الشيشة والجراك وغيرها.
(ومنها قيام بعض الشباب بالضرب على آلات الطرب والموسيقى في البر أو في المنتزهات وغيرها.
(ومنها إزعاج الناس بأصوات المغنين والمغنيات عبر الراديو أو التلفاز.
(ومنها استخدام بعض الكتاب الصحف والمجلات منبرا للطعن في الإسلام والمسلمين.
(ومنها الغيبة والنميمة؛ لأنها لا تكون عادة إلا أمام الملأ.
(ومنها السخرية والاستهزاء بأهل الدين والعفاف من الرجال و النساء، ووسمهم بالتخلف والرجعية.
هذه إرشادات سريعة وعلى مثلها فقس، والحر تكفيه الإشارة، وليس المطلوب هو ترك المجاهرة بالمعاصي فقط، ولكن المطلوب هو ترك المعاصي كلها ولو سراً، لأنها قبيحة العواقب، سيئة المنتهى.
(فِعْلُ المعاصي لا يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها:
مسألة: هل فِعْلُ المعاصي يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها، وحبَّ المعصيةِ وأهلها؟
الجواب:
فِعْلُ المعاصي لا يسوغ للإنسان بغضَ الطاعةِ وأهلِها، وحبَّ المعصيةِ وأهلها: بل يجب عليه أن يجاهد نفسه على حب الطاعة وأهلها وإن كان مقصراً فيها ولم يلحق بأهلها، وأن يبغض المعصية وإن كان واقعاً فيها ومعدوداً من أهلها؛ فالمرء يحشر مع من أحب، ويؤجر على حب الخير وبغض الشر.
[*] (قال الشافعي رحمه الله تعالى متواضعاً:
أحب الصالحين ولست منهم
…
لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره مَنْ تجارته المعاصي
…
ولو كنا سواء في البضاعه (1)
(إساءة فلان من الناس لا تسوغ للإنسان الإساءة:
(1) ديوان الإمام الشافعي تحقيق الزعبي ص56.
مسألة: هل إساءة فلان من الناس تسوغ للإنسان الإساءة؟
الجواب:
إساءة فلان من الناس لا تسوغ للإنسان الإساءة، وإساءة الأمس لا تسوغ إساءة اليوم: فلا يسوغ للإنسان أن يسيء بحجة أن فلاناً من الناس قد أساء؛ فكلٌّ مسؤولٌ عن نفسه، وكلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة.
كذلك إساءة الإنسان في وقت ما لا تسوغ له أن يسيء، أو أن يستسهل الإساءة في وقت آخر.
[*] (قال ابن حزم رحمه الله تعالى: لم أرَ لإبليس أصْيَدَ ولا أقبح من كلمتين ألقاها على ألسنة دعاته، إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله.
والثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم؛ لأنه قد أساء أمس، أو أن يسيء في وجه ما؛ لأنه قد أساء في غيره.
فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مسهلتين للشر، ومدخلتين له في حد ما يعرف، ويحمل (1) ولا ينكر (2).
(فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها:
مسألة: هل فعل المعاصي يسوغ الاستهانة بها؟
الجواب:
فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها: فإذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي لم يسغ له أن يستهين بها، ولو كانت صغيرة في نظره؛ فلا يليق به أن ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عِظَمِ من عصاه؛ فالاستهانة بالذنوب والمعاصي دليل الجهل، وقلة وقار الله في القلب.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفاً) إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا.
[*] وقال بعض السلف: لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت.
[*] (قال ابن حجر رحمه الله تعالى في قوله: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه: قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب المؤمن مُنَوَّر؛ فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عظم الأمر عليه.
والحكمة من التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة.
(1) هكذا في الأصل، ولعلها يَجمُل، أو يَحِلّ.
(2)
الأخلاق والسير لابن حزم ص31.
وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان؛ فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيىء+ (1).
(وقال ابن حجر في قوله: =وإن الفاجر، يرى ذنوبه كذباب .. : أي ذنبه سهل عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه (2).
(وقال في قوله: فقال به هكذا: أي نحَّاه بيده أو دفعه: هو من إطلاق القول على الفعل، قالوا: وهو أبلغ (3).
(وقال في قوله: بيده على أنفه: هو تفسير منه لقوله فقال به.
[*] (قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: إنما كانت هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة.
[*] (وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم؛ فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل.
(وقال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه، وخفته عليه يدل على فجوره.
(وقال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير، وأحقره، وهو مما يعاين ويدفع بأقل الأشياء.
(وقال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده؛ لأن الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالباً العين.
(وقال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضاً لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره (4).
[*](قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من الله تعالى من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً؛ لأن الله_تعالى_قد يعذب على القليل؛ فإنه لا يُسأل عما يفعل_سبحانه وتعالى (5).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
والحاصل أنه لا يجوز للمؤمن أن يستهين بذنب مهما صغُر؛ فإن امرأة دخلت النار في هرة.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
لا تحقرن من الذنوب أقلها
…
إن القليل إلى القليل كثير (6)
(فعل المعاصي لا يسوغ التهاون بالطاعات اليسيرة:
(3)(4)(5) فتح الباري 11/ 108.
(4)
فتح الباري 11/ 108_109.
(5)
فتح الباري 11/ 109.
(6)
الزهر الفاتح ص84.
مسألة: هل فعل المعاصي يسوغ التهاون بالطاعات اليسيرة؟
الجواب:
فقد مر قبل قليل أن فعل المحرمات لا يسوغ ترك الطاعات، ومر في الفقرة الماضية أن فعل المعاصي لا يسوغ الاستهانة بها.
والحديث في هذه الفقرة مكمل للحديث في الفقرتين المذكورتين؛ فكما أنه لا يجوز للإنسان ترك الواجبات، ولا الاستهانة بالمحرمات فكذلك لا يليق به أن يتهاون بالطاعات اليسيرة؛ بحجة أنه واقع في أمور كبيرة؛ فقد يعمل عملاً يسيراً في نظره كإماطة الأذى عن الطريق، وكصلة الأرحام، أو العطف على المساكين فيكون ذلك سبباً لمغفرة ذنوبه، خصوصاً إذا قام بقلبه الإخلاص، وصدق الإقبال؛ فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ فتكون صورتها العملية واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض.
ومما يقرر هذا المعنى، ويشهد له ما جاء في حديث البغي.
غفر لأمرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له). قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما كلب يُطيف (1) برُكيَّة (2) كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها (3) واستقت له به، فسقته إياه، فَغُفر لها به.
(1) يطيف: يدور حولها.
(2)
الركية: البئر.
(3)
الموق: الخف.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تقرير هذا المعنى: وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غَرَّرَت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحَمْلِها خُفَّها بفيها وهو ملآن، حتى أمكنها الرقيُّ من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً؛ فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فَغُفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير (1) الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهباً والله المستعان (2).
(والحاصل أن الذي يبتلى بفعل المعاصي لا يسوغ له ترك الأعمال الصالحة ولو كانت يسيرة في نظره؛ فلربما كان ذلك سبباً في ترجح كفة حسناته.
(انقلاب الكبيرة صغيرة وانقلاب الصغيرة كبيرة:
مسألة: هل من الممكن أن تنقلب الذنوب الصغيرة إلى كبيرة؟
الجواب:
قد تنقلب الذنوب الصغيرة إلى كبيرة وقد تنقلب الذنوب الكبيرة إلى صغيرة، وهذه مسألة ينبغي التفطن لها؛ فقد يقترن بالكبيرة من الحياء، والخوف، والاستعظام لها ما يُلْحِقُها بالصغائر.
وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يُلْحقُها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره (3).
فالصغائر من الذنوب تكبر وتعظم بأسباب منها (4):
(أ) الإصرار والمواظبة: ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.
فالعفو عن كبيرة قد انقضت، ولم يتبعها مثلها أرجى من العفو عن صغيرة يواظب العبد عليها.
ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات؛ فإنها تؤثر فيه.
ولو جمعت تلك القطرات في مرة، وصبت عليه لم تؤثر.
(1) يقصد به الإخلاص، والإكسير مادة يقولون إنها وضعت مع النحاس أو غيره من المعادن حولته إلى ذهب.
(2)
مدارج السالكين1/ 341.
(3)
انظر مدارج السالكين 1/ 337.
(4)
انظر إحياء علوم الدين4/ 32_33، ومنهاج القاصدين ص282_284، ومدارج السالكين 1/ 337_343.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
(ب) استصغار الذنب: فإن الذنب كلما استعظمه العبدُ صَغُر عند الله تعالى وكلما استصغره العبد كَبُر عند الله؛ فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه، وكراهيته له.
وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن؛ لعلمه بجلال الله تعالى فإذا نظر إلى عظمة من عصى رأى الصغيرة كبيرة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
والحاصل أنه لا يجوز للمؤمن أن يستهين بذنب مهما صغُر؛ فإن امرأة دخلت النار في هرة.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
[*](وقال بلال بن سعد رحمه الله تعالى: =لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت (1).
[*](وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: بقدر ما يصغر عندك الذنب يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله (2).
[*](وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: =كان يقال: إن من الكبائر أن يعمل الذنب فيحتقره (3).
(جـ) الفرح بالمعصية: كأن يفرح بفعلها، ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خَجَّلْته، أو أن يقول التاجر: أما رأيت كيف روَّجت عليه الزائف، وكيف خدعته، وغبنته؛ فهذا وأمثاله تكبر به المعاصي؛ فكلما غلبت حلاوة المعصية عند العبد كبرت، وعظم أثرها.
(د) الاغترار بحلم الله: وستره، وإمهاله إياه، وهو لا يدري أن ذلك قد يكون مقتاً؛ ليزداد بالإمهال إثماً.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج.
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي التقوى وإن قلَّ إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة.
(1) منهاج القاصدين ص282.
(2)
ذم الهوى لابن الجوزي ص184.
(3)
التوبة لابن أبي الدنيا ص78.
ومن الاغترار أن تسيء، فترى إحساناً؛ فتظن أنك قد سومحت، وتنسى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123] (1)
(وقال أيضاً: =واعلم أنه من أعظم المحنِ الاغترارُ بالسلامة بعد الذنب؛ فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين، وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض (2).
[*](وقال الغزالي رحمه الله تعالى: واعلم أنه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويَسْوَدُّ وجه قلبه، فإن كان سعيداً أُظهر السواد على ظاهره؛ لينزجر، وإن كان شقياً أخفي عنه؛ حتى ينهمك، ويستوجب النار (3).
(هـ) أن يكون المذنب ممن يُقْتَدى به: فإذا عُلِمَ منه الذنب كبر عند الله، لأنه مُتَّبَعٌ عليه، فيموت، ويبقى شره مستطيراً؛ فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوب؛ فعلى من يُقتدى به وظيفتان: إحداها: ترك الذنب، والثانية: إخفاؤه إذا أتاه.
وكما تتضاعف أوزار هؤلاء إذا اتبعوا على الذنوب كذلك تتضاعف حسناتهم إذا اتبعوا على الخير.
قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيما)[الأحزاب: 30،31]
(ارتكاب الذنوب لا يُسَوِّغُ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله:
كثيرٌ من الناس إذا قصَّر في الطاعة، أو وقع في المعصية ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ بحجة أنه مُقَصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه كما في قوله تعالى:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 44]، وقوله:(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 3]
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره ويتجنبه؛ فترك أحد الواجبين ليس مسوغاً لترك الآخر، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف.
(1) صيد الخاطر ص313.
(2)
صيد الخاطر ص314_315.
(3)
إحياء علوم الدين4/ 54.
قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
[المائدة:77،78]
فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[*](قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي" (1).
[*](وقال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ (2).
[*](قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر (3).
[*](قال الإمام مالك رحمه الله تعالى معلقاً على قول سعيد بن جبير: وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء (4).
[*] (وقال الحسن لمُطَرّف بن عبد الله رحمهما الله تعالى: عظْ أصحابك.
فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!
قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر (5).
[*](وقال الطبري رحمه الله تعالى: وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره (6).
(1) الأخلاق والسيرص92.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 23.
(3)
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/ 367.
(4)
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/ 367.
(5)
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/ 367.
(6)
فتح الباري 13/ 53.
(وعلى هذا فعلى من وقع في معصية، أو قصَّر في طاعة ألا يدع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله حسب قدرته واستطاعته؛ فلربما اهتدى على يده عاص، أو أسلم كافر، أو تسبب في ذلك؛ فكان له من الأجر مثل ما لهم من غير أن ينقص ذلك من أجورهم.
ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس في ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر؛ لأنه يعرض نفسه لغضب الله عند التساهل في هذا.
بل ينبغي له أن يكون أولَ ممتثل لما يأمر به، وأولَ مُنْتَهٍ عما ينهى عنه.
وغاية ما في الأمر أن فعل المعروف، وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يقال لمن أمر بالمعروف، ولم يفعله أو نهى عن المنكر، وفعله: لا تأمر بالمعروف، ولا تنهَ عن المنكر، وإنما يقال له: داوم على أمرك ونهيك، واتق الله فيما تأتي وما تذر (1).
وإذا كان هذا في شأن من هو عاص أو مقصر فكيف إذا كان الشخص ذا علم، وصلاح وهو مقصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فعليه أن يتوب من ذلك، وأن يستدرك ما فات؛ لأن الله سائله عن علمه ماذا عمل به، قال تعالى:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[هود: 7]
(كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم:
قال الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)[النساء: 17]
[*] (قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وعمل السوء إذا انفرد يدخل جميع السيئات صغيرها وكبيرها.
والمراد بالجهالة الإقدام على السوء وإن علم صاحبه أنه سوء؛ فإن كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن من كان عالماً بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه، ويخشاه؛ فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانُه كما قال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه.
وقال آخر: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً.
(1) انظر شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د. فضل إلهي ص20_24.
والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله، وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان؛ فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها، والتوبة في آخر عمره.
وهذا جهل محض؛ فإنه تعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى، وثوابها، ولذة الطاعة.
وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاماً مسموماً لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الدرياق (1) بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل.
وقد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 102،103]
والمراد أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان؛ لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة.
وهذا جهل منهم؛ فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة، ويأمنون عقابها، ويتعجلون عز التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه أو إلى خير منه وأنفع؛ فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاءُ حوائجَ محرمةٍ أو مكروهة عند الله عز وجل.
والمؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيراً مما يطلبه الساحر ويؤثره مع تعجيله عز التقوى وشرفها، وثواب الآخرة وعلو درجاتها؛ فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل؛ ولذلك كان كل من عصى الله جاهلاً، وكل من أطاعه عالماً، وكفى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً (2).
(من أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها:
هذه مسألة عظيمة؛ فمن أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها، ومن أضمر شيئاً أظهره الله عليه، سواء كان ذلك خيراً أو شراً؛ فالجزاء من جنس العمل، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123]
(1) الدرياق لغة في الترياق، والتِّرياق: بكسر التاء دواء السموم، وهو فارسي معرب.
(2)
لطائف المعارف ص380_381.
[*](قال أبو حازم رحمه الله تعالى: لا يُحْسِن عبد فيما بينه وبين الله تعالى إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يُعَوِّر (1) فيما بينه وبين الله تعالى إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانَعَةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك (2) الوجوه كلها (3).
[*](وقال المعتمر بن سليمان رحمه الله تعالى: إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته (4).
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس.
وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك؛ ليعلم الناس أن هنالك من يجازى على الزلل، ولا ينفع من قَدَره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.
وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله_تعالى_فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامَّاً (5).
(وقال أيضاً: إن للخلوة تأثيراتٍ تَبيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالاً له؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هنديَّاً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوتَ العود.
فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.
(1) يعوِّر: يهدم ويفسد.
(2)
شنأتك: أبغضتك.
(3)
سير أعلام النبلاء للذهبي 6/ 100.
(4)
روضة المحبين ص439.
(5)
صيد الخاطر ص 108_109.
وقد تمتد هذه الأراييح (1) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره، وقبره، (2) ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب_يفوح منه ريح الكراهة، فتمقته القلوب.
فإن قلَّ مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه، ولا يذمونه.
وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هُوَّة شِقْوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت؛ فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت، وعَثَّرت.
[*] (قال أبو الدرداء رحمه الله تعالى: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص (3).
[*] (وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كَبِرت سنُّه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم فَعَظَّم اللهُ قدره في القلوب، حتى عَلِقَتْهُ، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام (4)، وإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب، أو تلطف في العقاب (5).
(التوبة طريق السعادة:
لا ريب أن الوقوف على سر السعادة ومعناها الحقيقي من أعظم الدوافع للتوبة النصوح، والإقبال على الله عز وجل، ذلك أن من أعظم الدوافع لفعل المعاصي وترك الطاعات هو البحث عن السعادة والراحة؛ فالعالم بأسره مؤمنه وكافره، وبره وفاجره يبتغي السعادة ويروم طرد الهم والقلق.
ولكن ما أقل من يهتدي إلى ذلك السبيل، وما أكثر من يحيد عنه يمنة ويسرة.
(1) الأراييح: يعني الروائح الزكية.
(2)
لا يضره إذا خفي قبره.
(3)
صيد الخاطرص301_302.
(4)
أي كانت أموره مستقيمة ميسرة عند استقامته مع ربه.
(5)
صيد الخاطر ص336_337.
كل من في الوجود يطلب صيداً
…
غير أن الشباك مختلفات
فأكثر الناس عشيت بصائرهم أو عميت عن حقيقة السعادة وسرها الأعظم، فلا سعادة عندهم إلا سعادة المشاهير من أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة وغير ذلك من الأمور التي تأخذ بالألباب.
ولا يعرفون السعادة إلا بإطلاق الشهوات، والتمتع بسائر الملذات، وإذا فاتهم ذلك قالوا: على الدنيا العفاء.
هذه نظرة هؤلاء للسعادة؛ فهل تلك النظرة صائبة؟ وهل أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة سعداء حقَّاً؟ وهل المجتمعات التي أطلقت لنفسها الشهوات، وتمتعت بسائر الملذات سعيدة حقَّاً؟
والجواب عن ذلك إنما يكون بالنظر إلى أحوال أولئك وأقوالهم؛ لتستبين حقيقة الأمر؛ فإليك نبذة عن أحوال أولئك مع السعادة فيما يلي من أسطر:
أولاً: حال أهل الفن مع السعادة:
إن أهل الفن أنفسهم من مغنين وممثلين يعرفون بأن السعادة في وادٍ وهم في وادٍ، آخر؛ فالشقاء، والتعاسة، والحرمان، والحسد، والعذاب النفسي، والخوف من السقوط، والحذر من فقدان الحظوة عند الجمهور، كل ذلك طابع حياتهم باعترافاتهم أنفسهم.
وإليك هذه النماذج من أحوال أهل الفن:
(1)
أسمهان: هذا هو الاسم الفني الذي اشتهرت به المطربة الفنانة السورية آمال الأطرش، تلك المرأة التي تربت عند أهلها في جبل الدروز، وبدأت حياتها الفنية وهي شابة في الغناء، فذاع صيتها واشتهرت وسط المعجبين والحاسدين.
وكانت مبهورة بالغرب لكنها لم تستطع في بداية أمرها أن تعيش مثل الغربيين؛ لأنها تربت في مجتمع محدود.
ثم انتقلت وهي صغيرة إلى مجتمع أكثر انفتاحاً وهو مجتمع القاهرة في الأربعينات الميلادية، وكانت تملك قدرة نادرة على الإغراء، وكانت طبقات صوتها تُوائِم مختلف الطبقات الموسيقية مما جعلها منافساً قوياً لأم كلثوم.
هذه المرأة عاشت حياة الشقاء، فلقد تزوجت زواجاً تعيساً، ثم انفصلت عن زوجها وابنتها وعملت لحساب الإنجليز، وكانت تطمح بهوليود.
وقصة هذه المرأة يطول ذكرها، فلقد كثر الجدال في شأنها وكتب حولها كتابات عديدة، وآخر أمرها أنها وجدت غريقة داخل سيارتها الرولس رويس في قناة متفرعة عن نهر النيل في الدلتا شمال القاهرة، وكان عمرها آنذاك اثنتين وثلاثين سنة، ولا تزال ملابسات موتها غامضة إلى يومنا هذا (1).
(1) انظر جريدة الرياض عدد 10940.
(2)
أم كلثوم: تلك المرأة التي سموها كوكب الشرق، وقالوا: إنها ظاهرة فنية عجيبة، وقالوا: إن حبَّ العرب لها يوازي حبهم لفلسطين، وقالوا: إنها ريحانة العصر.
تلك المرأة التي طارت شهرتها في الغناء، ونظم لها الكتاب والشعراء القصائد الطوال المليئة بالهيام والغرام؛ ليسهر معها الناس حتى تباشير الصبح.
حتى لقد بلغ الأمر أن قال المذيع أحمد سعيد خلال حرب حزيران يخاطب الشعوب العربية وكأنهم أغنام، والمعركة على أشدها مع إسرائيل: بشرى يا عرب، بشرى يا عرب، فتصور الناس أن نصراً حاسماً قد حققوه.
ولكن الصدمة كانت موجعة حين سمعوا بشارته تقول: أم كلثوم معكم في المعركة.
مسخوا الحق والحقيقة لما
…
صار صوت الإعلام فيهم =سعيد+
يزرع البحر والهواء وعوداً
…
لا يبالي ألا يكون حصيدُ
شرعهُ الزور والضلال =مذيعا ً+
…
إن يوم الهوان والذل عيدُ
وبعد نكبة حزيران غنتنا كوكب شرقنا أغنية بعنوان: ليلتي وحلم حياتي.
وقد سهرت معها شعوب من أمتنا طول الليلة حتى ثملت، وتخدرت، سهرت معها وجرح النكبة راعف ينزف، وذل الهزيمة من فوق رؤوسنا يَنْصَبُّ.
وكوكبنا تغني ولسان حالها يقول: هذه ليلتي التي أرقبها وأتمناها، هذه ليلتي التي ضاع فيها ما كان باقياً من فلسطين، وأسر فيها الأقصى، واحتلت فيها قدس الإسلام.
لقد وقفت كوكب الشرق تغني للمترفين والدمُ البريء يسيل على كل رابية، والعار الأسود يُجلِّلُ جباه المخدرين ممن راحت تصفع وجوههم وهم لا يشعرون: هذه ليلتي وحلم حياتي.
إن مما يؤلم النفس، ويفتت الكبد أن الكثير من شبابنا اتخذوا من هذه الأغاني ملاذاً ومهرباً مما يلاقون من ضنك وشدة في حياتهم مَرَدُّه بعدهم عن الله فظنوا أن ذلك ينسيهم الشقاء؛ فرددوا أغاني الفنانين والفنانات، فازدادوا شقاء فوق شقاء؛ فالسعادة التي توهموها ما هي إلا سعادة قشور، سعادة لذة عابرة مخدرة تخفي وراءها الآلام والهموم.
ثم إن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فها هي كوكب الشرق تعيش التعاسة والشقاء، والحرمان (1).
يقول الكاتب مصطفى أمين: رأيت أم كلثوم بعد أن كونت ثروة ضخمة وهي تقول: إنها مستعدة أن تدفع نصف ما تملك؛ لتأكل بيضة واحدة مرة كل يوم؛ فقد منعها الأطباء سنوات طويلة من أكل البيض الذي كانت تعشقه وتهواه.
(1) انظر قصائد إلى المرأة لحسني أدهم جرار ص 20 22.
وأذكر دائماً أن أم كلثوم كانت تقول لي دائماً: إن أيام فقرها الشديد في قريتها كانت أسعد أيامها عندها (1).
أما موت هذه المرأة فقد كان عبرة للمعتبرين؛ فقد أماتها الله عضواً عضواً ولأيام؛ علَّ أدعياء الفن الخنوعين يعتبرون (2).
ويا ليت هذه المسكينة لما ماتت دفنت معها سيئاتها، وإنما هي تبعث بصورة مستمرة إما عن طريق الإذاعات ووسائل الإعلام، أو عن طريق المعجبين الذين يقتنون أغانيها.
ولقد أحسن الشاعر يوسف العظم حين قال في قصيدة عنوانها: خدريهم يا كوكب الشرق:
كوكب الشرق لا تذوبي غراماً
…
ودلالاً وحرقة وهُياما
لا ولا تنفثي الضياع قصيداً
…
عبقرياً أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباب في كل بيت
…
تتنزى وتبعث الآلآما
وجراح الأقصى جراح الثكالى
…
ودموع الأقصى دموع اليتامى
لم تغَنّي يوم التشرد حزناً
…
لا ولم تدخلي علينا الخياما
أو تغني لشعبنا يرقب الفجر ويغري براحتيه الظلاما
…
لا تغني الخيام يا كوكب الشر
…
ق وتسقي من راحتيه المداما
ففلسطين لا تحب السكارى
…
وربى القدس لا تريد النياما
كوكب الشرق ضاع قومي لما
…
تاه في حبك القطيع وهاما
لو دعوتِ العربيد للزهد لبَّى
…
أو دعوت الزنديق للنسك صاما
منحوك الإعجاب يا ويح قومي
…
وعلى الصدر علقوك الوساما
ناوليهم من راحتيك كؤوساً
…
وامنحيهم من ناظريك ابتساما
واجعلي الفن ردةً وضياعاً
…
لا أحاسيس أمة تتسامى
ودَعيهم في كل واد يهيمو
…
ن سكارى ونكِّسي الأعلاما
خدريهم باللحن يا كوكب الشر
…
ق وصوغي من لحنك استسلاما (3)
(3)
عبد الحليم حافظ: الفنان المصري الذي اشتهر بهذا الاسم، واسمه عبد الحليم شبانة، وإنما سمي بذلك، لأن مكتشفه اسمه حافظ عبد الوهاب.
هذا الفنان الذي بلغ أوج مجده في الستينات والسبعينات الميلادية، حيث حفلت به وسائل الإعلام، ورفعت من شأنه، ولقبته بألقاب كثيرة، ومن أشهرها العندليب الأسمر.
فما حال ذلك الإنسان الذي ترى الجماهير أنه يسعدها، ويزيل همومها؟.
إنه قطعة من التعاسة والشقاء؛ فهو لم يتزوج طيلة حياته، وهو مصاب بمرض البلهارسيا الذي لازمه أغلب فترات حياته حتى مات.
هذا الرجل الذي يراجع المستشفيات والأطباء كثيراً حتى لقد كان يأتي أحياناً لتجارب أغانيه يقاد بالعربة؛ حيث لا يستطيع السير على قدميه.
(1) تجاربهم مع السعادة للأستاذ عبد لله الجعيثن ص 102.
(2)
انظر قصائد المرأة ص 22.
(3)
ديوان في رحاب الأقصى ص 213، وانظر إلى قصائد إلى المرأة ص 23.
هذا الرجل الذي كان يسيطر عليه الحزن، حتى إنه لما سألته صحفية فرنسية عن سبب الحزن في أغانيه قال: إن الحزن عصير حياتنا.
يقول الكاتب مصطفى أمين: ورأيت عبد الحليم حافظ وهو يلعب بالذهب رأيته شقياً تعيساً معذباً محسوراً محروماً؛ لأنه لا يستطيع أن يمد يده إلى طبق الطعمية ويقول لي هامساً: من يعطيني هذه ويأخذ كل أموالي (1).
هذه نبذة عن هذا الرجل الذي تعلق به الملايين من الناس حتى إن منهم من انتحر لما توفي.
والأمثلة من هذه القبيل كثيرة جداً، ولعل هذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر فهل اعتبرت بمن رحل، أما وعظتك العبر، أما كان لك سمعٌ ولا بصر.
ثانياً: حال أهل المال مع السعادة:
هناك وهْمٌ يسيطر على كثير من الناس؛ حيث يظنون أن السعادة قائمة على المال والغنى.
والحقيقة الماثلة للعيان تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المال وحده لا يوجد السعادة وإن كان يعين على تحققها إن كانت موجودة في الأصل؛ فإن لم تكن موجودة نابعة من أعماق النفس بسبب الرضا، والقناعة، والإيمان، وحسن التدبير فإن المال لا يوجدها؛ فالسعادة تنبع من داخل النفس أكثر مما تنبع من الظروف الخارجية من مال ونحوه.
بل إن كثيراً من الأغنياء يشقون مع أنهم غارقون في النعيم إلى الأذقان وبلغ غناهم عنان السماء، وكثيراً من الفقراء يسعدون غاية السعادة مع ما هم فيه من شظف العيش، وقلة ذات اليد.
وذلك كثير مشاهد؛ فماذا يغني المال وحده؟
ثم إن المال عرضة للزوال؛ فكم من الأغنياء من أصبحوا فقراء بين عشية وضحاها، وكم من الفقراء من أصبحوا أغنياء ما بين طرفة عين وانتباهتها؛ فما بُني على ما يتبدل فهو عرضة للزوال.
فلا يدري الفقير متى غناه
…
ولا يدري الغني متى يعيل
أضف إلى ذلك ما يلقاه الغني من الغم والهم في جمع المال، وخوف الخسارة، وكثرة الترحال، ونحو ذلك.
ثالثاً: حال أهل الوجاهة مع السعادة:
إذا كانت الوجاهة داعية لسخاوة الإنسان بجاهه، بحيث يبذل الجاه في سبيل الخير من نحو الشفاعات الحسنة، من إحقاق حق، ونصرة مظلوم، وإعانة الضعيف فتلك وجاهة نافعة جالبة للسعادة.
قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)[النساء: 85]
(1) تجاربهم مع السعادة ص 102.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي موسى الثابت الثابت في الصحيحين) قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالبُ حاجةٍ أقبل على جُلسائه فقال:(اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب)
(أما إذا كانت الوجاهة للرياء والسمعة، ولأجل أن يتردد الذكر على الألسنة وفي المجالس، أو الصحف فإنها شقاء أيما شقاء؛ فأهلها يعانون من تبعاتها، ويلاقون الأمرَّين من ويلاتها؛ فهذه أموال تبذل فيما لا طائل تحته، ولا فائدة من ورائه، وهذه مجاملات تأخذ نصيبها من وقت الوجيه وصحته وسعادته الحقة.
ثم ما حال الوجيه إذا زلت به القدم، ونزلت به المكانة؟
إنها الحسرة والندامة إن لم يكن ذا نفس كريمة وإيمان وصبر.
رابعاً: حال أهل الرياسة مع السعادة:
وإذا أتيت إلى أهل الرياسات، وذوي المناصب العالية، والرتب الرفيعة لم تجد السعادة الحقة عندهم إلا في القليل النادر، وعند القليل منهم؛ ذلك لأنهم رؤوس، والرأس كثير الأذى، ولأن الرياسة هَمٌّ في الدنيا، وحسرة وندامة في الآخرة إن لم يقم صاحبها بحقها.
ثم إن صاحب المنصب والرياسة قلما يفارقه الهم؛ خوفاً على رياسته أن تزول، وإذا زالت بقي محسوراً معذباً يقرع سنه، ويقلب كفيه ما لم يكن ذا مروءة صادقة، وديانة حقة؛ فذلك لا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة.
وكثير من أهل الرياسة يعربون عن مدى ما يعانون، وعن قلة نصيبهم من السعادة الحقة؛ فها هو الملك حسين بن طلال الذي تربع على عرش الأردن مدة تزيد على خمس وأربعين سنة، قضى معظمها في ريعان شبابه؛ حيث تولى الملك وعمره ست عشرة سنة، وتوفي في الثالثة والستين من عمره بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ها هو يقول في الفصل الأخير من كتابه مهنتي كملك الذي روى فيه ذكرياته، والأحداث التي مرت به في حياته حتى مرحلة السبعينات الميلادية:
إنني أعتقد بأن من العسير جداً إدراك السعادة في هذه الدنيا سواء كان المرء ملكاً أم إنساناً عادياً؛ ما هي السعادة بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس؟ إنها الحصول على عمل مغرٍ ممتع، وعلى راتب جيد، وأسرة لطيفة تستعذبها النفس، والقيام بالرحلات من وقت إلى آخر، وأن يكون للمرء بعض الأصدقاء، وأن يساعد الناس، ويساعدوه.
لقد نلت كل ذلك، وما زال كل ذلك في متناول يدي، ولكن هل يعني هذا حقاً أنني سعيد؟
لا أعتقد ذلك، نعم لقد كانت حياتي خصبة مليئة كما قلت ولربما لم يعرف مثلها إلا القليل من الناس، لقد عرفت السراء والضراء، ولعل الضراء رجحت على السراء، وعانيت لحظات في غاية الشدة، ومرت بي فترات في أقصى درجات الضيق، ومرت بي أوقات كنت أشعر فيها بأنني في منتهي العزلة، وعرفت الحداد والأحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة، لقد عرفت كل ما يمكن أن يعرفه كائن بشري: الجوع، والعطش، والإذلال، والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج.
(إلى أن قال: إن حياتي الخاصة والعائلية غير منظمة؛ فأعباء الدولة تحول بيني وبين أن أكون لهذه الكائنات الإنسانية العزيزة الغالية بالقدر الذي أرغب وأتوق إليه، وطالما اضطررت أن أخيب آمالهم في الوقت الذي ينتظرونني فيه؛ لتناول طعام الغداء معي، فأحتبس نفسي مع زائر أجنبي، أو سياسي أردني، ثم في حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر أطلب إحضار بعض الشطائر لآكلها وأنا منهمك في عملي.
أما في المساء فإنني أغادر مائدة العمل في الساعة الثامنة أو التاسعة، ويكون أولادي عندها قد استسلموا إلى الرقاد، وتبقى في انتظاري زوجتي وأولادي ليمنحوني الحرارة التي افتقدتها، والتي أشعر بأنني في مسيس الحاجة إليها (1).
ثم إن المنصب قد يكون سبباً في هلاك صاحبه، أو تشرده، وشماتة الأعداء به؛ فها هو شاه إيران الذي كان يتبختر كالطاووس كبراً وتيهاً، والذي كان يتقلب في الترف والنعيم، والذي أقام حفلاً ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد من ذلك مسخ الإسلام، وبسط سلطانه على الخليج، ومن ثم العالم العربي؛ ليلتقي مع اليهود، كيف كانت نهايته؟
لقد أزيح عن سلطانه، وجُرد من كافة امتيازاته، وبعد ذلك تشرد، وطرد، ولم يجد بلداً يؤيه، وظل على هذه الحال حتى مات شريداً طريداً بعيداً عن وطنه بعد أن أضناه الهم، وفتك به السرطان.
أما أولاده، وأهله، وحاشيته فقد أصبحوا شذر مذر، متفرقين في عدة قارات!!.
وهذا رئيس الفلبين السابق فيرديناند ماركوس الذي بلغ الغاية في الترف، والنعيم، والتجبر؛ ماذا كانت نهايته؟.
(1) الشرق الأوسط عدد (7376) في 21/ 10 / 1419هـ.
لقد أذاقه الله ألواناً من العذاب، والتعاسة، والشقاء؛ حيث انقلبت حاله رأساً على عقب؛ حيث سلب منه منصبه، وتنكر له أسياده، وأصحابه، فصار شريداً طريداً لا يملك الرجوع إلي بلده الذي كان يتربع على عرشه، حتى إذا جاءته الوفاة لم يستطع الحصول على أشبار قليلة في بلده؛ ليوارى فيها بعد موته (1).
وقبل أولئك ماذا كان من أمر زعيم النازية أدولف هتلر؟ ذلك المستبد العاتي المتجبر، الذي كان يهذي ويحلم بإنشاء امبراطورية تضم جميع أنحاء العالم، والذي تسبب في مقتل خمسٍ وثلاثين مليوناً في سبيل الوصول إلى غايته المنشودة، والذي كان يزهو بنفسه ويتلاعب بعواطف الجماهير، ويحركها كيف يشاء، والذي كاد أن يسيطر على العالم في أوائل العقد الخامس من القرن العشرين الميلادي؛ فماذا كانت حياته؟ وكيف كانت نهايته؟
أما حياته فقد كانت مزيجاً من الشقاء، والمرض، والحرمان العاطفي، والألم العقلي.
وتفاصيل حياته غريبة ومثيرة، وليس هذا مجال بسطها (2).
أما نهايته فكانت في 30 نيسان أبريل عام 1945م، عندما أطلق الرصاص على نفسه؛ خوفاً من سقوطه على أيدى الحلفاء، وتوفي وعمره 56 سنة، وقبل أن يقدم على الانتحار وفي أيامه الأخيرة مرت به لحظات حرجة مريرة.
يقول (ألبرت سبير) وزير التسليح في حكومة هتلر النازية عن تلك الأيام: في الأسابيع الأخيرة من حياته بدا هتلر منهاراً، وقد سحقته قسوة الأحداث التي قهرته تدريجياً خلال السنوات السابقة، كذلك أصبح أكثر تقبلاً وتحملاً للمعارضة (3).
ويقول: كان هتلر في هذه اللحظات يعطي الانطباع بأنه رجل تحطمت كافة أهدافه وآماله، رجل أصبح يدور في مداره الراسخ بسبب الطاقة المخزونة في داخله فقط.
بل إنه كان في الواقع قد تخلى عن كل سلطاته، واستسلم لما قد يأتي به القدر.
وكان في ذلك الوقت يذوي ويذبل مثل رجل عجوز، كانت شفتاه ترتجفان، وكان يسير منحنياً، ويجر ساقيه جراً، حتى صوته أصبح متهدجاً، وفقد براعته، واستبداديته القديمة، وقد اختفت قوة صوته، ليحل محلها صوت متلعثم بلا أيَّة نبرة مميزة، وكانت لا تزال تنتابه نوبات من العناد، لكنها نوبات عناد مؤقتة وعابرة.
(1) انظر السعادة بين الوهم والحقيقة للشيخ د. ناصر العمر ص 20_21.
(2)
انظر لماذا انتحر هؤلاء لهاني الخَيِّر ص 45_48.
(3)
لماذا انتحر هؤلاء ص 49.
وقد أصبح مظهره العام شاحباً، ووجهه متورماً، وملابسه التي كانت تبدو أنيقة في الماضي أصبحت عرضة للإهمال في فترة حياته الأخيرة، وقد لُطِّخت ببقايا الطعام الذي كان يتناوله بيد مرتعشة (1).
وبعد هذا كله أقدم على الانتحارـ كما مر قبل قليل ـ فذهب غير مأسوف عليه، بل كلما ذكر ذكر معه الإجرام، والتسلط، والجبروت.
خامساً: حال أهل الرياضة مع السعادة:
الرياضة ـ وخصوصاً كرة القدم ـ معشوقة الجماهير، ومحط أنظارهم.
ونجوم الرياضة لهم القدْحُ المعلى من الشهرة وبُعْد الصيت في هذا العصر.
وكثير من الناس يظن أن نجوم الرياضة أسعد الناس؛ لما ينعمون به من الشهرة، وحب الجماهير، وربما طغيان الغنى.
والحقيقة المُبْصَرَةُ تقول غير هذا؛ فلو كشفت عن سالفة هؤلاء، وتبينت حقيقة أمرهم لعلمت أنهم في واد والسعادة الحقة في واد؛ ولأدركت أن ما هم فيه من إظهار للسرور والبهجة أنها سعادة عابرة مؤقتة تخفي وراءها الآلام، والمتاعب والأتراح؛ ذلك أن اللاعب ينتقل من معسكر إلى معسكر، ومن استعداد لمباراة إلى استعداد لأخرى، ومن سفر إلى بلد إلى سفر آخر.
وهذه إصابة تقض مضجعه وتؤرق جفنه، وتلك صحافة تقذع في نقده، وتبالغ في سبه، أو التعريض به، وهذه اضطرابات تصيبه قبل كل مباراة، وتلك كآبة تخيم عليه عند كل هزيمة، وذلك جمهور لا يرحمه إذا لم يقم بدوره كما ينبغي، وهؤلاء حسدة يكيدون له ويتربصون به الدوائر، وذاك خوف وقلق من فقدان مكانته.
ثم ما حال ذلك النجم اللامع إذا انخفض مستواه، وما حاله إذا اعتزل أو اضطر إلى ذلك؟
إنه يلاقي كل كنود وجحود حتى من أقرب الأقربين إليه.
ثم كم يحرم من الأنس بأهله؟ وكم يحرم أهله منه؟
إذاً فليست السعادة عند هؤلاء، وإن تظاهروا بها، وظن بعض الناس أنهم أحقُّ الناس وأهلُها، وإن كانوا_أيضاً_متفاوتين في الشقاء وقلة السعادة.
ولنأخذ مثالاً واحداً على مدى ما يعانيه نجوم الرياضة؛ ألا وهو اللاعب الأرجنتيني دييجو مارادونا الذي يعد أشهر لاعب في تاريخ كرة القدم العالمية تقريباً؛ فما حال ذلك الإنسان مع السعادة؟
(1) لماذا انتحر هؤلاء ص 50 وانظر ص 51.
إنه مع شهرته وغناه قطعة من التعاسة والضياع، فمنذ أن تسلطت عليه الأضواء وهو ينتقل من شقاء إلى شقاء؛ فلقد كان يلعب في ناديه بوكاجونيورز الأرجنتيني، ثم انتقل إلى نادي برشلونة الأسباني، وهناك أصيب إصابة بالغة نغَّصت عليه حياته، واستمر علاجه مدة طويلة، ثم انتقل بعد ذلك إلى نادي نابولي الإيطالي، وبعد ذلك توالت عليه المشكلات والإصابات، وصار خلاف بينه وبين عشيقته، ثم لجأ إلى المخدرات، وترك الرياضة، ثم رجع إليها مرة أخرى، وفي إحدى مباريات كأس العالم اكتشف أنه قد تعاطى المنشطات فحرم من اللعب، وها هو إلى يومنا هذا من هوة إلى هوة.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، والمجال لا يتسع لأكثر من ذلك.
سادساً: حال المجتمعات البعيدة عن الله مع السعادة:
هناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتباع النفوس هواها، وإرسالها مع كافة رغائبها وشهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.
ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون!
فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟
والجواب ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ فلم يَعُدْ يَرْدَعُها دين، أو يَزُمُّها ورعٌ، أو يحميها حياء؛ فمن كفر وإلحاد إلى مجون، وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً، ولواط، وشذوذ بكافة أنواعه مما يخطر بالبال، ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاء وحسرة؛ فسنة الله عز وجل في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.
ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية تعيسة صعبة معقدة؛ حيث يشيع فيها القلق، والاضطراب، والتفكك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتفقد فيها الطمأنينة، والراحة، والمحبة، والبر، والصلة، والتعاطف، والتكافل إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]
كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كل إنسان منها أسئلة محيرة؟ من خلق الحياة؟ وما بدايتها؟ وما نهايتها؟ وما سر تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى.
وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟
إن الكنيسة بتعاليمها المحرفة لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.
ولقد زاد هذا الأمر ضراوة بعد أن تراجعت الكنيسة أمام ضربات الإلحاد.
فما أغنت الحرية المزعومة والإباحية المطلقة عن تلك المجتمعات فتيلاً أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقة، ولا الحياة الكريمة.
ولهذا يبحث الناس هناك عما يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء (1).
ومنهم من يروي غليله بالشذوذ الجنسي، حتى يفقد إنسانيته وصحته؛ ويكون عرضة للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوعة كالزهري (2)،
(1) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة المخدرات لمصطفى فوزي غزال؛ ففيه ذكر لانتشار المخدرات في بريطانيا، وأمريكا، وألمانيا، وإيطاليا وأسبانيا.
(2)
الزهري: هو أحد ثمار الشذوذ الجنسي، وقد عرف مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وهو عادة يصيب الإنسان دون سائر المخلوقات، وتسببه جرثومة اسمها =تريبوينما باليديم+ وهي جرثومة صغيرة ودقيقة جداً، بحيث لا ترى بالعين المجردة.
أما عن أسباب هذا المرض فإنه لا يوجد له سبب غير العلاقة الجنسية المحرمة، والوطء في نكاح غير صحيح، ولا يمكن أن يحدث نتيجة وطء حلال.
أما أعراضه فمنها ما يظهر على شكل تقرحات على الأعضاء التناسلية، ومنها ما يكون داخلياً فيظهر على الكبد، والأمعاء، والمعدة، والبلعوم، والرئتين، والخصيتين.
أما الآثار التي يتركها على قلب المريض فكبيرة ورهيبة؛ فهو يسبب الشلل، وتصلب الشرايين، والعمى، والذبحة الصدرية، والتشوهات الجسمية، وسرطان اللسان، والسل في بعض الأحيان.
وهذا المرض سريع العدوى وانتشاره يزداد ويتضاعف خصوصاً في أمريكا وأوربا. انظر الأمراض الجنسية عقوبة إلهية د. عبد الحميد القضاة ص 41_50، ولماذا حرم الله هذه الأشياء د. محمد كمال عبد العزيز ص 20_21، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها د. محمد علي البار ص 305_361،
والأمراض الجنسية د. نبيل الطويل ص 38_77، والانحرافات الجنسية وأمراضها د. فايز الحاج ص 143_156، والفاحشة الأضرار الأسباب سبل الوقاية والعلاج للكاتب ص 43_44.
والسيلان (1)، والهربس (2)،
(1) السيلان ويعد أكثر الأمراض الجنسية شيوعاً في العالم؛ إذ يبلغ عدد المصابين به سنوياً حسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 1975م_250مليون شخص، ولقد أوضحت الدراسات الميدانية أن الشاذين جنسياً_وعددهم في الولايات المتحدة الأمريكية حالياً قد جاوز الثمانية عشر مليوناً_هم أكثر الناس إصابة بالأمراض الجنسية.
وقد يصاب بالسيلان 200_500 مليون شخص كل عام معظمهم في ريعان الشباب، وهذا المرض يسمى في بعض البلاد العربية =التعقيبة+ وفي بعضها الآخر =الردة+، وينتقل نتيجة اتصال جنسي مباشر، ونكاح في فرج محرم، ولا يمكن أن ينتقل إلى عفيف أو عفيفة، وهذا المرض يحدث التهابات شديدة في الأعضاء التناسلية، ويصحبه قيح وصديد كريه الرائحة، ويعد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى العقم، ويسبب ضيق مجرى البول، والتهابات في القناة الشرجية، ويمكن لجرثومة هذا المرض أن تصل إلى أي مكان في الجسم عندما تدخل الدورة الدموية، وحينئذ تسبب التهاب الكبد والسحايا، والتهابات أخرى في القلب وصماماته. انظر تفاصيل هذا المرض في: الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 277_292، والأمراض الجنسية عقوبة إلهية ص 51_53، والانحرافات الجنسية وأمراضها ص 136_142، والثقافة الجنسية د. هاني عرموش ص 115_124، والأمراض الجنسية لسيف الدين شاهين ص 51_52، والفاحشة للكاتب ص 44_45.
(2)
الهربس: ذلك المرض الذي فرض نفسه شبحا مرعبا في نفوس المنغمسين في العلاقات المحرمة، فلقد أوضح تقرير لوزارة الصحة الأمريكية أن الهربس لا علاج له حتى الآن، وأنه يفوق في خطورته مرض السرطان، ويبلغ عدد المصابين به في الولايات المتحدة عشرين مليون شخص، وتقدر عدد الإصابة به في بريطانيا بمائة ألف شخص سنوياً.
وهذا المرض حاد جدا، ويتميز بتقرحات شديدة حمراء اللون، تكبر وتتكاثر بسرعة، ويسببه فيروس =هربس هومنس+ وينتقل بالاتصال الجنسي إلى الأعضاء التناسلية أو الفم عند الشاذين، وتبدأ أعراضه عند الرجل بالشعور بالحكة، فتهيج المنطقة، وتظهر البثور والتقرحات على مقدمة القضيب، والقضيب نفسه، وعلى منطقة الشرج عند الذين يلاط بهم، وهذه البثور الصغيرة الحجم الكثيرة العدد يكبر حجمها، ويزداد ألمها، وتتآكل، فتلتهب من البكتريا المحيطة، فيزداد المرض تعقيدا، ويخرج منه سائل يشبه البلازما، ثم صديد، وربما يمتد الالتهاب إلى الفخذ، ومنطقة العانة، فتتضخم الغدد اللمفاوية، وتصبح مؤلة جداً، وأضرار الهربس لا تقف عند حد الأعضاء التناسلية فحسب، بل إنها تتعدى ذلك إلى سائر أعضاء الجسم، وله مضاعفات شديدة، فقد ينتقل إلى الدماغ، وإصابة الدماغ مميتة في أغلب الحالات أكثر من 90%، ومما يؤكد خطورته_أيضاً_أنه لا يقتصر على الأعراض الجسدية؛ إذ المرض يحدث أعراضاً نفسية وعصبية ربما كانت أخطر بكثير من الأعراض الأخرى.
ويذكر د. مورس_أخصائي أمراض الهربس_أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوما بعد يوم، وأن أكثر الإصابات تقع بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15_30 سنة، وأن هذا المرض يتناسب طردياً مع الجنس وطرق ممارسته، وازدياده في المجتمع بطرق غير صحيحة، فيما يقل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه. انظر الأمراض الجنسية عقوبة إلهية ص 90، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 225_260، والفاحشة ص 46_48.
والإيدز (1)،
(1) الإيدز: وما أدراك ما الإيدز، ذلك المرض الخطير الذي أصاب العالم_عموماً، والغربي خصوصا_بسببه موجة من الذعر والخوف، فلقد عرف هذا المرض حديثاً، فأصبح يهدد إنسان الغرب وحضارة الغرب بالفناء.
وخطورة هذا المرض ترجع لسرعة انتشاره، وقلة علاجه أو انعدامه بالكلية، ولكثرة المصابين به، وللغموض المريع الذي يكتنفه، لدرجة أن الأسئلة حوله كثيرة، وإجابات المختصين قليلة.
وكلمة =إيدز+ هي عبارة عن الأحرف الأولى للكلمات التي يكون منها اسم هذا المرض باللغة الإنجليزية، ومعناه في العربية =انهيار أو نقص المناعة المكتسبة+ ذلك أن الله_عز وجل_أودع جسم الإنسان مناعة تضاد وتكافح مختلف الأمراض التي تغزو الجسم، فإذا ما أصيب الإنسان بمرض الإيدز فإنه لا يكاد يحتمل مكافحة أدنى الأمراض، وربما قضى عليه أقلها ضرراً؛ إذ تنهار لدى المصاب بالإيدز وسائل الدفاع، فيصبح فريسة سهلة لشتى الأمراض.
وقد ذكر المختصون أن نسبة 95% من المصابين بهذا المرض أنهم ممن يمارسون الشذوذ الجنسي، وأن نسبة قليلة منهم هم من مرضى المخدرات، كما ذكر المختصون_أيضا_أن تسعة أعشار المصابين بالإيدز يموتون خلال ثلاث سنوات من بداية المرض، أنا عدد المصابين فإنه يزداد بشكل مستمر، ولهذا خيم الرعب على أهل الدعارة في أمريكا وبريطانيا، وإيطاليا، والبرازيل، وكافة أنحاء العالم.
ولقد انتشر الرعب_على وجه الخصوص_في هوليود_مدينة السينما العالمية_خاصة بعدما أصيب بالإيدز الممثل الشهير_روك هدسون_صديق الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، حيث خيم الذعر المميت على أجواء هوليود، وجعل حياة أولئك تعتمد على المهدئات والمسكنات، أو على مزيد من المخدرات التي تشم الكوكايين، أو التي تدخن كالحشيش، وما حالهم هذه إلا كما قال المجنون:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
انظر تفاصيل الحديث عن الإيدز في: الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها ص 131_223، والجنس وأمراضه د. عبد الناصر نور الله ص 23_29، وقصة الإيدز د. نجيب الكيلاني، والفاحشة للكاتب ص 48_51.
وما يسمى بـ =فيروس الحب (1)، وما يصاحب هذه الأمراض من ضيق وتكدر.
ومنهم من يروي غلته بالسطو، والسرقة؛ حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم، وممتلكاتهم؛ بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة والتكنولوجيا الحديثة؛ المجهزة بأحدث الوسائل والأساليب، القائمة على أحدث المبتكرات والتخطيط لكل عملية سطو (2).
ومنهم من يسلك طريق القتل ليتشفى من المجتمع، ويطفىء نار حقده، فتراه يتحين الفرص، وينتهز الغرة؛ ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى، بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعة، ونوعاً من اللذة، وكثيراً ما يكون القتل لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين (3)
(1) فيروس الحب: وقبل أن يفيق العالم من هول الصدمة التي أحدثها الإيدز إذا بمرض جديد يحل في ساحة الشذاذ، وهذا المرض أشد وطأة، وأعظم افتراساً من مرض الإيدز، بل إن الإيدز_كما يؤكد الدكتور كينيث مور مكتشف هذا المرض الجديد_يعد لعبة أطفال مقارنة بهذا المرض الجديد. وقد سماه مكتشفه د. مور بـ: فيروس الحب، أما أعراض هذا المرض فإنه بعد ستة أشهر من استلام الجسم لهذا الفيروس العجيب يمتلئ جسم المريض بأكمله بالبثور، والقروح، والتقيحات، ويستمر نزيف المريض إلى أن يموت، ومما يجعل هذا الفيروس خطيراً أنه يستمر ساكنا إلى لحظة معينة هي لحظة جيشان الهرمونات التي تتوافق مع تهيج الجسم عند ممارسة الجنس، وهذا المرض ليس كغيره من أمراض الجنس التي لا تنتقل إلا عن طريق الدم، أو السوائل، أو الممارسات الجنسية، وإنما ينتقل بشتى الطرق، فربما انتشر بسبب النفس، وينتقل عبر الهواء وعبر الممارسات العاطفية العابرة، كالتقبيل، والاحتضان، وتشبيك الأيدي. انظر الفاحشة للكاتب ص 51_53.
(2)
انظر في تفصيل الحديث عن السرقة إلى كتاب: أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم، لمصطفى فوزي غزال من ص 56_83 ففيه ذكر لأنواع السرقات، وطرقها، وأرقامها.
(3)
من الأخبار الغربية في هذا أن أمريكياً يشتغل بتقطير الخمور ارتكب جريمة بشعة؛ حيث قتل ولديه اللذين تترواح أعمارهما بين الثانية والرابعة، ثم قتل زوجته، وصديقا له، وأصاب واله الذي يبلغ من العمر 84سنة برصاص في رأسه، وقد استخدم في جريمته مسدساً وسكيناً، وألقي القبض عليه واعترف بأنه تعاطى كمية من الخمور التي يقطرها. انظر المرجع السابق ص 8، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
هذا ومعدلات الجريمة في ارتفاع، ففي أمريكا تجاوزت أكثر من عشرة أضعاف في السنوات الأخيرة، وأصبح معدل الجريمة جريمة قتل كل دقيقتين، وجريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة، وجرائم أخرى دون اغتصاب أي بالتفاهم بين المجرمين على حساب الأسرة والمجموع البشري وتتم دون أن يمكن حصرها.
وفي ألمانيا تضاعفت جرائم القتل الناري عشرة أضعاف، وفي سنة 1969م سجلت إحصائيات الجرائم أكثر من ألفي جريمة قتل، وفي عام 1970م وصلت إلى 2500 جريمة، وفي عام 1971م وصلت إلى 3000، والزيادة مطردة.
وفي بريطانيا ارتفع إحصاء الجريمة في السنوات الأخيرة من 15759 إلى 41088 جريمة سنة 1970م، وربما وصلت الآن إلى خمسين ألفاً، وجرائم السطو ارتفعت في عامين لتبلغ نصف مليون جريمة.
ولا مجال للاستطراد في هذا الشأن؛ فالنتيجة سيئة للغاية؛ ولا غرو في ذلك طالما أن الناس بعيدون عن الله، ويحكمون بغير شرع الله. انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 5_55، ففيه تفصيل لذلك وذكر للأسباب.
إليه.
ومنهم من يبلغ به الشقاء والهم غايته؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه وغمومه، ولا يرى ما ينفس به كربته، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار؛ رغبة في التخلص من الحياة بالكلية.
ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق كثرة الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
أما طرق الانتحار فتأخذ أساليب متنوعة؛ فهذا ينتحر بالغرق، وذاك بالحرق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردي من شاهق، وهكذا (1).
أما أسباب الانتحار فمعظمها تافهة حقيرة، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهذا ينتحر بسبب وفاة عشيقته، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بعدما توفي كلبه كما فعل (جاك أشورت) وكان عمره 46 سنة (2).
بل إن هناك من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار وهو الكفر بالله، وما يستتبعه من الضنك، والشدة، وقلة التفكير في المصير.
(1) انظر لماذا انتحر هؤلاء ص 42.
(2)
ويرجع الدكتور مالك بدري معظم أسباب الانتحار إلى الاضطرابات النفسية فيقول: =ارتفعت نسبة الانتحار في أمريكا حتى وصلت حوالي 70000 أمريكي كل عام، وكانت أكبر الزيادات في نسبة الانتحار بين شباب العقد الثالث، ويعزى ذلك إلى ازدياد الاضطرابات النفسية بينهم بشكل عام، وإلى مرض الاكتئاب النفسي والعقلي بشكل خاص، ولم تستطيع الثورة الجنسية، ولا الانغماس في المسكرات والمخدرات التي يصرف عليها الشعب الأمريكي بلايين الدولارات كل عام، ولم تستطع العقاقير المهدئة التي يبتلع منها الأمريكيون مئات الأطنان كل عام لم تستطع كل هذا أن يأتي بالسعادة النفسية المنشودة+ أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 106_107.
والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء؛ حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين (1).
ومما يلفت النظر أن أشد البلاد انحلالاً أكثرها انتحاراً (2).
(1) انظر على سبيل المثال إلى كتاب: لماذا انتحر هؤلاء لهاني الخير، وكتاب كيف سقطوا لمجدي كامل ففيهما ذكر لنماذج كثيرة من هذا النمط، وسيأتي إيراد لبعض تلك النماذج في الفصل الآتي إن شاء الله.
(2)
فالولايات المتحدة_على سبيل المثال_تحظى بنصيب الأسد في عدد المقدمين عل الانتحار؛ فقد بلغ عددهم في عام واحد ما يقارب الربع مليون شخص، أي بمعدل 120 شخصاً يومياً.
أما في بريطانيا وحدها فقد بلغ عدد ضحايا الانتحار 40ألف شخص خلال عام واحد. انظر أفول شمس الحضارة الغربية ص 104.
وأما في فرنسا فالنسبة تزايد، وإليك مثالاً قريباً في هذا الشأن، حيث جاء في صحيفة الشرق الأوسط في العدد 7376، في 21/ 10/1419هـ ما نصه:
=12 ألف منتحر سنوياً في فرنسا+
وتحت هذا العنوان ذكرت الصحيفة ما يلي: =قالت وزارة الصحة الفرنسية: إن الانتحار هو ثالث أهم أسباب الوفاة بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 70 عاماً في فرنسا، وأنه كل 43دقيقة تقع حالة انتحار، وأضافت الوزارة في تقرير لها أن 12ألف شخص يقتلون أنفسهم كل عام، وأن 160ألف شخص آخرين يحاولون الانتحار لكنهم يخفقون، ويأتي الانتحار بعد السرطان وأمراض القلب، وقبل حوادث السيارات كسبب رئيس للوفاة في فرنسا، وقالت الوزارة: إن الانتحار كان أهم أسباب للوفاة بين الأشخاص الذين تراوحت أعمارهم بين 15_24عاماً في عام 1993م.
وبدأت الحكومة الفرنسية في فبراير شباط 1998م حملة قومية تستمر ثلاثة أعوام؛ لخفض معدلات الانتحار الذي تضاعفت على مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية+.
وهكذا تتزايد نسبة الانتحار في الدول الراقية مادياً كالسويد وسويسرا وغيرها.
وهكذا أصبحت الحياة في ديار الغرب لا تطاق؛ فالأسرة في حالة اضطراب ونزاع، وكذا الشارع والمصنع، والملعب والملهى؛ حيث انتشرت الاضطرابات العقلية، والنفسية، وعم القلق وساد الاكتئاب واليأس والملل من الحياة؛ رغم أن تلك الشعوب تعيش حرية كاملة من نساء، وخمور، ومخدرات، ونح ذلك.
ومع هذا فمرض الاكتئاب يدب في أوصالهم، ويأكل قلوبهم. انظر أفول شمس الحضارة الغربية ص 116و 119.
ومن الأشياء التي استحدثوها لمحاربة التخفيف من الانتحارات المتزايدة_إنشاء مركز يتلقى مكالمات المقدمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر.
وهذه الخدمات تقدم ليلاً ونهاراً وبالمجان (1).
والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار، حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كُتَيِّباً وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نَص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم! (2).
فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبد بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب؟
والجواب: أنهم فقدوا السبب الأعظم للسعادة، ألا وهو الإيمان بالله_عز وجل_فلم تغن عنهم حريتهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفىء لفح الحياة وهجيرها وصخبها؛ فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنزل بهم (3).
(1) انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 109و 111.
(2)
انظر أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة الجرائم ص 109و 111.
(3)
قارن أحوال الأمم الكافرة، وما تعيشه من ضيق، وإقدام على الانتحار بأحوال المسلمين في شتى بقاع الأرض؛ حيث يقل عند المسلمين الانتحار، بل لا تكاد تذكر له نسبة في بعض بلدانهم مع ما يلاقي كثير منهم من ظلم، وفقر، ومرض.
ومع ذلك فإن إيمانهم_مهما ضعف_يحميهم_بإذن الله_عن الاسترسال مع الأوهام، أو الإقدام على الانتحار.
هذا عند عوام المسلمين فضلا عن خواصهم من العلماء العاملين، والعباد القانتين.
وهذا ما أدهش كثيراً من كتاب الغرب ومفكريه، وإليك هذه المقالة التي تحمل العنوان التالي:
=عشت في جنة الله+
والتي كتبها الكاتب الغربي المشهور (ر. ن. س. بودلي)، والذي أورد مقالته (ديل كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) ص 291_295، يقول بودلي: =في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية؛ حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى أنني ألفت كتابا عن محمد"عنوانه (الرسول)
وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بما قدر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون، أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي كلا+.
ثم أردف قائلاً: =ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.
ولكن العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة:(قضاء مكتوب).
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.
قال رئيس القبيلة_الشيخ_: لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً له وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ من جديد+.
ثم قال بودلي: =وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق و الهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟
فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، ولكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ.
وهنالك_أيضا_لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام+.
وبعد أن استعرض (بودلي) تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: =أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل أن الملتاثين ومرضى النفوس، والسكرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساسا لها، إنني لم أعان شيئا من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا+.
وأخيراً ختم كلامه بقوله: =وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشرة عاماً على مغادرتي الصحراء ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة.
ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير الطبية+.
فهل اطلع على تلك الحال من يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقحاً، ودعارة، وفساداً؟
وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟
إن كانوا لم يطلعوا فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.
(تنبيه حول معنى السعادة:
وبعد أن تبين من خلال ما مضى حال أكثر الناس مع السعادة فهل يعني ذلك أن يتخلى الناس عن دنياهم، وجميع ملذاتهم، ووجاهاتهم، ورياساتهم؟
وهل يفهم من ذلك أن يعيش الواحد منهم مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق؟
والجواب: لا؛ ليس الأمر كذلك؛ فلا بد للناس من دنياهم؛ فالإسلام أَذِنَ في اكتساب الأموال، وحث على العمل، ونعى البطالة، ولم يَحْرم الناس أن يستمتعوا بحياتهم، وأن يروحوا الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ)[الأعراف: 32]
وقال في الآية التي قبلها: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]
فلا ينافي السعادة أن يستمتع الإنسان بما أباح الله له، وليس من شرط السعادة أن يتخلى الإنسان عن جميع شهواته.
وليس من شرطها كذلك أن يتخلى الإنسان عن دينه، ويطلق العنان لنزواته وشهواته.
بل إن شرط السعادة الأعظم أن يكون الإنسان متمسكاً بدينه، عاضاً عليه بالنواجذ؛ فذلك سر السعادة، وينبوعها الأعظم.
وحينئذ تكون الشهرة، والمال، والجاه، والرياسة أسباباً للسعادة، ومكملات لها؛ لأنها اعتمدت على ركن ثابت لا يتغير، ولا يحول؛ فلا يُلَامُ الإنسان بعد ذلك أن يكون ذا شهرة، أو مال، أو وجاهة أو رياسة.
وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية.
أما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم؛ بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه الحميدة فذلك خير من العزلة، والاختباء في زوايا الخمول.
بل لا يُلَامُ الإنسان إذا سعى للرياسة إذا كان يرى من نفسه الكفاءة والقدرة، ولا يريد أن يتخذ من رياسته حبالة لا يتعدى نفعها إلى الأمة، وإنما يريد نشر الخير، وبسط العدل، ورفع الظلم؛ فذلك موعود بالتسديد والإعانة في الدنيا، وبالإظلال في ظل عرش الرحمن في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله.
ثم إن الآيات الواردةَ في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا لا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يقصد منها حِكَمٌ أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومنْ قَصُرت أيديهم عن تناولها، لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَه والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها أينما كانوا.
ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصْحُ قلبُه عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.
وبالجملة فإن تقوى الله عز وجل والإقبال عليه بالكلية هو أصل السعادة، وسرها، وكل سعادة بدون ذلك فهي مبتورة أو وهمية، وإن اجتمعت حولها أسباب السعادة الأخرى؛ فالسعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، والنفس الكريمة الراضية التقية الطاهرة من أدران الرذائل وأقذارها سعيدة حيثما حلت، وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة الحقة فلا يسأل عنها المال والحسبَ، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين.
بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9_10]
وما هذه الابتسامات التي تُرى متلألأة من أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.
وما هذه الزفرات التي تُسمع متصاعدة من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه؛ لأنهم أشقياء في عيشهم، بل لأنهم أشقياء في أنفسهم.
وما كدَّر صفاء هذه النفوس، وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثلُ البعد عن الله عز وجل.
ولا أنار صفحتها، ولا جلَّى ظلمتها، ولا كشف غَمَّاءها كالإقبال على الله تبارك وتعالى (1).
فمن أراد السعادة العظمى فليقبل على ربه بكلِّيَّته، حبَّاً، وذكراً، وإنابة، وخوفاً، ورجاء، ونحو ذلك من سائر العبوديات.
[*](قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية (2).
(وقال أيضاً: فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه.
ومن عبد غير الله وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم (3).
(وقال أيضاً: فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو؛ فلا تطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، وفي بعض الأحوال، وتارة يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير مُنعم ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به، ووجوده عنده.
أما إلهه الحق فلا بد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه (4).
[*] (وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم.
فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم؛ فمن مخطىء وجْهَ سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره (5).
(1) انظر إلى مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة المقتبسة ص 225، والحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص 32و 38_39، ومناهج الشرف للشيخ محمد الخضر حسين ص 53_54.
(2)
مدارج السالكين 1/ 429.
(3)
مجموع الفتاوى 1/ 24.
(4)
مجموع الفتاوى 1/ 24_25.
(5)
الأخلاق والسير ص 14.
(إلى أن قال: وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم، ولا يريد طرده عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق عليه جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم، والصالح والطالح على السعي له، فلم أجدها (1) التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.
وإلا فإنما طلب المال طلابُه؛ ليطردوا به همَّ الفقر عن أنفسهم، وإنما طلب الصوت (2) من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها؛ ليطرد بها عن نفسه هم فوتها، وإنما طلب العلم من طلبه؛ ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك؛ ليطرد بها عن نفسه همَّ التوحد، ومغيب أحوال العالم منه، وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن (3) من اكتن، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودع؛ ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال، وسائر الهموم.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعَذُّر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدوِّ مع الذم والإثم وغير ذلك.
ووجدت العمل للآخرة سالماً من كل عيب، خالياً من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم، بل يُسَر؛ إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد، ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب، ورأيته إن قُصد بالأذى سُرَّ، وإن نكبته نكبة سُرَّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرَّ؛ فهو في سرور أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداً؛ فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف (4).
(من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه:
(1) هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب: إلا في التوجه.
(2)
الصوت: الذكر الحسن.
(3)
اكتن: سكن واستتر.
(4)
الأخلاق والسير ص 14_16.
لا ريب أن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاءً وتمكناً في القلوب؛ فتركها عزيز، والخلاص منها شاق عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وكلما ازدادت الرغبة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي إلى الوقوع فيه عظم الأجر في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.
وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله.
وأما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، فمن ذاق طعم الاستقامة فلن يبغى بها بدلاً، ولا عنها حولاً.
ألا ترى إلى الصبي الذي اعتاد ثدي أمه كيف سكوتُه بذلك الثدي، وكيف حنينه إليه إذا فقده، وكيف فرحه به إذا هو وجده؟
فكذلك النفس الشهوانية؛ فإذا فطم الصبي انفطم حتى لا يلتفت إلى الثدي بعد ذلك؛ لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة؛ فلا يحن إلى لبن أمه.
وكذلك النفس إذا وجدت لذة العبادة، وذاقت طعم الإيمان، وبرد اليقين، واستشعرت رَوْح قرب الله، وجميل نظره_لم تَحنَّ إلى تلك الشهوات (1).
من ذاق طعم نعيم القوم يدريه
…
ومن دراه غدا بالروح يشريه
وكل هذا محسوس مجرب، وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر، ولم يخبرها (2).
ثم إن من ترك لله شيئاً عوَّضه الله خيراً منه، والعوضُ من الله أنواع مختلفة، وأجل ما يُعَوَّض به الإنسان أن يأنس بالله، وأن يرزق محبته عز وجل وطمأنينة القلب بذكره، ورضاه عن ربه تبارك وتعالى مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، وما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى (3).
وفيما يلي ذكر لنماذج تؤكد هذا المعنى.
أولاً: نماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيراًً منها:
(1) انظر الفوائد ص 160، وأدب النفس للحكيم الترمذي ص 34_35.
(2)
جامع الرسائل لابن تيمية 2/ 363.
(3)
انظر الفوائد ص 159_160.
(1)
من ترك مسألة الناس ورجاءهم، وإراقة ماء الوجه أمامهم، وعلق رجاءه بالله دون من سواه عَوَّضَه خيراً مما ترك، فرزقه حرية القلب، وعزة النفس، والاستغناء عن الخلق ومن يستعفف يعفه الله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال: َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ)
(2)
ومن ترك الاعتراض على قدر الله، فسلَّم لربه في جميع أمره رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطر له ببال.
(3)
ومن ترك الذهاب للعرافين والسحرة رزقه الله الصبر، وصدق التوكل، وتَحَقُّقَ التوحيد.
(4)
ومن ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة.
(5)
ومن ترك الخوف من غير الله، وأفرد الله وحده بالخوف، وسلَّم له نفسه سَلِمَ من الأوهام، وأمَّنه الله من كل شيء، فصارت مخاوفه أمناً وبرداً وسلاماً، ولم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع؛ لأنه سلم نفسه لربه، وأودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يدُ عدوٍّ عاد، ولا بغيُ باغ عات.
(6)
ومن ترك الكذب، ولزم الصدق فيما يأتي، وما يذر_هُدي إلى البر، وكان عند الله صديقاً، ورزق لسان صدق بين الناس، فسوَّدوه، وأكرموه، وأصاخوا السمع لقوله.
(7)
ومن ترك المراء وإن كان مُحقَّاً ضُمن له بيت في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومة، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي صلى الله عليه وسلم أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
(8)
ومن ترك الغش في البيع والشراء زادت ثقة الناس به، وكثر إقبالهم عليه، ونال رضا ربه.
(9)
ومن ترك الربا، وكسب الخبيث بارك الله له في رزقه، وفتح له أبواب الخيرات.
(10)
ومن ترك النظر إلى المحرم عوَّضه الله فراسة صادقة، ونوراً وجلاءً، ولذة يجد حلاوتها في قلبه، وسلم ـ في الوقت نفسه ـ من تبعات إطلاق البصر.
(11)
ومن ترك البخل، وآثر التكرم والسخاء أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، سلم من الهم، والغم، وضيق الصدر، وترقى في مراتب الكمال، ومدارج الفضيلة قال تعالى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]
(12)
ومن ترك الكبر، ولزم التواضع كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)
(ولله درُ من قال:
وأحسن أخلاق الفتى وأتمها
…
تواضعه للناس وهو رفيع (1)
(13)
ومن ترك المنام ودفأه ولذته، وقام للصلاة_عوضه الله فرحاً، ونوراً، ونشاطاً، وأنساً.
(14)
ومن ترك التدخين، وكافة المسكرات، والمخدرات أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوضه صحة وسعادة حقيقية لا تلك السعادة العابرة الوهمية.
(15)
ومن ترك العشق، وقطع أسبابه التي تمده، وتجرع غصص الهجر ونار البعاد في بداية أمره، وأقبل على الله بكُلّيته رُزِق السلوَّ، وعزة النفس، وسلم من اللوعة، والذلة، والأسر، ومُلىء قلبه حرية ومحبة لله عز وجل تلك المحبة التي تلم شعث القلب، وتسد خلته، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يسر ولا يفلح، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
(16)
ومن ترك الانتقام والتشفي مع قدرته على ذلك عوضه الله انشراحاً في الصدر، وفرحاً في القلب؛ ففي العفو من الطمأنينة، والسكينة، والحلاوة، وشرف النفس، وعزها، وترفعها ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(1) غذاء الألباب للسفاريني 2/ 233.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)
(17)
ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغايةَ سروره عوضه الله أصحاباً أبراراً، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جراء مصاحبتهم خيري الدنيا والآخرة.
(18)
ومن ترك كثرة الطعام سلم من البطنة، وسائر الأمراض، وضياع الأوقات؛ لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً.
(19)
ومن ترك المماطلة بالدَّين يسر الله أمره، وسدد عنه، وكان في عونه.
(20)
ومن ترك الغضب حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ونأى بها عن ذل الاعتذار ومغبة الندم، ودخل في زمرة المتقين
قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134] 21
(حديث معاذ ابن أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظا و هو قادر على أن يُنْفِذَه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء.
(21)
ومن ترك الوقيعة في أعراض الناس، والتعرض لعيوبهم ومغامزهم عُوِّض بالسلامة من شرهم، ورزق التبصر في عيوب نفسه.
المرء إن كان مؤمناً ورعاً
…
أشغله عن عيوب الورى ورعه
كما السقيم العليل أشغله
…
عن وجع الناس كلهم وجعه (1)
(22)
ومن ترك مجاراة السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه، قال تعالى:(خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]
(23)
ومن ترك الحسد سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسم قتَّال ومسلك شائن، وخلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.
(24)
ومن ترك سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر، ومعاداة الناس؛ فإساءة الظن تجلب الكدر، وتعكر الصفو، وتفسد المودة.
(25)
ومن اطَّرح الدعة والكسل، وأقبل على الجد والعمل_علت همته، وبورك له في وقته، فنال الخير الكثير في الزمن اليسير.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن
…
أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد (2)
(1) ديوان الإمام الشافعي جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي ص 56.
(2)
غذاء الألباب 2/ 451.
(26)
ومن ترك قطيعة أرحامه، فواصلهم، وتودد إليهم، وقابل إساءتهم بالإحسان إليهم_بسط له الله في رزقه، ونَسَأ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله ما دام على تلك الصلة.
(27)
ومن ترك العقوق، فكان بَرَّاً بوالديه أدخله الجنة، ورزقه الله الأولاد البررة في الدنيا.
(28)
ومن ترك تطلُّب الشهرة، وحبَّ الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تجرر أذيالها.
(29)
ومن ترك العبوس والتقطيب، واتصف بالبشر والطلاقة لانت عريكته، ورقَّت حواشيه، وكثر محبوه، وقلَّ شانؤوه.
(30)
وبالجملة فمن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه؛ فالجزاء من جنس العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه)[الزلزلة: 7]
(ثانياً: نماذج لأناس تركوا أشياء لله فعوضهم الله خيراً منها:
المثال الأول: نبي الله يوسف عليه السلام:
لقد قص علينا القرآن العظيم ما وقع ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز؛ وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي.
بل إن من الناس من يذهب بنفسه إلى مواطن الفتن، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة إن لم يتداركه الله برحمته.
لقد أخبرنا الله عز وجل عن عشق امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وما راودته، وكادته به.
وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، بصبره وعفته، وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله؛ فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ههنا في غاية القوة، وذلك من وجوه:(1)
أحدها ما ركبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس قد يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء.
وهذا لا يذم إذا صادف حِلاً، بل يحمد.
الثاني أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشاب، وحدَّته أقوى.
الثالث أنه كان عزباً، ليس له زوجة ولا سُرِّية تعوضه، وتكسر ثورة الشهوة.
(1) انظر الجواب الكافي 487_490، ومدارج السالكين 2/ 156، وطريق الهجرتين ص 380.
الرابع أنه كان في الظاهر مملوكاً لها في الدار؛ فقد اشتري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك لا يتصرف في أمر نفسه، وليس وازعه كوازع الحر، والمملوك كذلك يدخل، ويخرج، ويحضر معها، ولا يُنكر عليه؛ فكان الأنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي.
الخامس أنه كان غريباً، وفي بلاد غربة، والغريب يتأتَّى له في بلد غربته من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه، وبين أهله ومعارفه.
السادس أن المرأة كانت ذات منصب وجمال؛ بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السابع أنها غير ممتنعة ولا أبيَّة؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها.
الثامن أنها طلبت، وأرادت، وراودت، وبذلت الجهد، فكَفَتْه مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
وكثير من الناس يداخله الزهو إذا أشارت إليه المرأة باليد أو بطرف العين.
التاسع أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعْها أن تؤذيه؛ فاجتمع له داعي الرغبة والرهبة.
العاشر أنه في مأمن من الفضيحة؛ فلا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلّقت الأبواب، وغيبت الرقباء.
الحادي عشر أنها قد أخذت كامل زينتها، وتهيأت غاية ما يمكن، وقالت:(هيت لك) وفي قراءة هئت لك.
الثاني عشر أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، وهن النسوة التي أرته إياهن؛ حيث شكت حالها إليهن، لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن فقال:(وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ)[يوسف:33]
الثالث عشر أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديدُ مَنْ يغلب على الظن وقوع ما هدد به؛ فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
الرابع عشر أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه.
بل غاية ما قابلها به أن قال ليوسف: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)[يوسف: 29] وللمرأة: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ)[يوسف: 29]
وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهذا لم يظهر منه غيرةٌ.
ومع هذه الدواعي كلها صبر يوسف اختياراً وإيثاراً لما عند الله، فآثر مرضاة الله، وخوفه، وحمله حبُّه لله أن اختار السجن على الزنا (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33]
وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربَّه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين.
وهذا من كمال معرفته بربه، وبنفسه.
فماذا كانت العاقبة؟
لقد نال العز والسلطان، ونال الذكر الحسن، والثناء الجميل.
هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للجنة.
المثال الثاني: امرأة فرعون:
لما رفضت أبهة الملك، وآثرت الإيمان بالله_عز وجل_على ما يدعو إليه فرعون_بنى لها الله بيتاً في الجنة، ونجاها من فرعون وعمله، ونجاها من القوم الظالمين.
(المثال الثاني: امرأة فرعون:
لما رفضت أبهة الملك، وآثرت الإيمان بالله عز وجل على ما يدعو إليه فرعون بنى لها الله بيتاً في الجنة، ونجاها من فرعون وعمله، ونجاها من القوم الظالمين.
المثال الثالث: مؤمن آل ياسين:
لما ترك ما عليه قومه من الضلال المبين، وقال لهم:(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ) [يس: 25_27]
{تنبيه} : (وحتى يتضح أن التوبة طريق السعادة وضوحاً جلياً فإنني أعرض لك الصورة العامة لأحوال العصاة وما فيها من التعاسة والشقاء ثم أعرض لك نماذج لبعض أحوال العصاة.
(أولاً: الصورة عامة لأحوال العصاة:
النظر في حال العصاة يُقْصِر عن التمادي في الذنوب، ويقود العاقل إلى المبادرة إلى التوبة النصوح؛ فللعصاة نصيب غير منقوص من الذلة، والهوان، والصغار، والضنك، والشدة، والشقاء، والعذاب؛ فالمعصية تورث ذلك ولا بد؛ فإن العز كل العز، والسعادة كل السعادة إنما تكون بطاعة الله عز وجل.
قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)[فاطر: 10]
أي فليطلبها من الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته (1).
(1) انظر الجواب الكافي ص 165.
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في حال من يتطلع، ويمد طرفه إلى أرباب الدنيا: فإياك إن تنظر إلى صورة نعيمهم؛ فإنك تستطيبه؛ لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف؛ فعليك بالقناعة مهما أمكن ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس: كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه (1).
[*](قال الحسن رحمه الله تعالى في العصاة: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يُذلَّ من عصاه (2).
فأهل المعصية يجدون في أنفسهم الذلة، والشقاء، والخوف، حتى وإن رآهم الناس بخلاف ذلك، ولو تظاهروا بالسعادة والسرور، ولو كانوا من الشهرة وبعد الصيت بمكان عال، ولو كانت الدنيا طوع أيمانهم وشمائلهم؛ فالذل والضنك لا يفارقهم، بل يزيد كلما زادوا بعداً عن ربهم.
[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولهذا تجد القوم الظالمين أعظم الناس فجوراً، وفساداً، وطلباً لما يروِّحون به أنفسهم من مسموع، ومنظور، ومشموم، ومأكول، ومشروب، ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك، هذا فيما ينالونه من اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أعظم الناس خوفاً، ولا عيشة لخائف.
وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم، لا يزال في أسف على ما فاته، وعلى ما أصابه.
أما المؤمن فهو مع مقدرته له من الإرادة الصالحة، والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه، وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه.
وهو مع عجزه أيضاً له من أنواع الإرادات الصالحة، والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه (3).
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى متحدثاً عن أضرار المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، والعذابُ في الآخرة.
قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]
وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات؛ فإن عمومها من حيث المعنى؛ فإنه_سبحانه_رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره.
(1) صيد الخاطر ص 372.
(2)
الجواب الكافي ص 165.
(3)
جامع الرسائل 2/ 363.
فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم؛ ففي قلبه من الوحشة، والذل والحسرات التي تقطِّع القلوب، والأماني الباطلة، والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما يواريه عنه سكراتُ الشهوات والعشق، وحب الدنيا والرياسة، وإن لم يَنْضمَّ إلى ذلك سكر الخمر؛ فسُكْرُ هذه الأمور أعظم من سكر الخمر؛ فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحبِّ الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر الأموات.
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله"في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده (1).
ولقد عبر عن ذلك المعنى فريق كبير من الذين انحرف بهم المسار عن دين الله، ولو ذهبنا نستعرض أقوالهم لطال بنا المقام، وفيما يلي ذكر لبعض أولئك من المُحْدَثين، ممن طارت شهرتهم، وبَعُدَ صيتهم، أو طغى غناهم وتَرَفُهم، سواء من الفلاسفة والمفكرين، أو من الفنانين والمطربين، أو غيرهم.
فأقوال هؤلاء وأحوالهم تنبيك عما في دخائل نفوسهم مع أن الناظر في أحوالهم بادىء الرأي يظن أنهم والسعادة رضيعا لبان.
(ثانياً: نماذج لبعض أحوال العصاة:
(1)
الفيلسوف الألماني المشهور (فريدريك نيتشه):
بعد أن ألغى من فكره عقيدة الإيمان بالله، وحكمة الابتلاء في هذه الحياة، وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى هي دار الخلود، والجزاء والحساب، ها هو يعرب عن دخيلة نفسه، وما يعانيه من شقاء وعذاب، فيقول: إنني أعلم جيداً لماذا كان الإنسان هو الوحيد الذي يضحك؛ لأنه الذي يعاني أشد العناء؛ فاضطره ذلك أن يخترع الضحك (2).
(2)
الفيلسوف الإنجليزي (هربارت سبنسر):
ذلك الرجل الذي تدرس نظرياته التربوية في معظم بلاد العالم.
لما دنا من الموت نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام تنقضي كلها في كسب الشهرة الأدبية دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها؛ فضحك من نفسه، وسخر، وتمنى لو أنه قضى أيامه الدابرة في حياة بسيطة سعيدة.
ولما حضرته الوفاة كان على يقين بأنه لم يعمل في حياته إلا عبثاً (3).
(3)
الفيلسوف (أرثر شوبنهور):
(1) الجواب الكافي ص 296.
(2)
كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة للشيخ عبد الرحمن الميداني ص 560.
(3)
كواشف زيوف ص 560_561.
فيلسوف التشاؤم الألماني الملحد، عندما عزل عن تصوره مسألة الإيمان بالله، واليوم الآخر، ورفض حكمة الابتلاء نظر إلى الحياة نظرة ملؤها التشاؤم، ورأى أن طيبات الحياة كلها عبث، وأن مقاصد الناس تسير إلى الإخفاق، ومن أقواله في ذلك: =إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعاً يشتغلون بما تتطلبه من حاجة وشقاء، ويستنفذون كل قواهم؛ لكي يرضوا حاجات الدنيا التي لا تنتهي، ولكي يمحوا أحزانها الكثيرة (1).
(4)
جان بول سارتر:
الفيلسوف الفرنسي الملحد الوجودي، عندما كفر بالله، واليوم الآخر أصبح ينظر إلى الحياة من منظوره الوجودي المادي، فلا يرى الوجود كله إلا من دوائر القلق، والمتاعب، والغثيان، والآلام.
وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضَمَّنها آراءه الفلسفية الوجودية التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافهة حقيرة مخيفة مملوءة بالشقاء، مشحونة بالآلام، مع أنه دعا إلى التحلل والإباحة والانطلاق من جميع القيود.
وحين حضره الموت سأله من كان عنده: ترى إلى أين قادك مذهبك؟ فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: إلى هزيمة كاملة (2).
(5)
بريجيت باردو:
الممثلة الفرنسية المشهورة، قال لها صحفي: لقد كنتِ في يوم من الأيام رمزاً للتحرر والفساد.
فأجابته قائلة: هذا صحيح كنت كذلك، كنت غارقة في الفساد الذي أصبحت في يوم ما رمزاً له.
لكن المفارقة أن الناس أحبوني عارية، ورجموني عندما تبت (3)، عندما أشاهد الآن أحد أفلامي السابقة فإنني أبصق على نفسي، وأقفل الجهاز فوراً، كم كنت سافلة، ثم تواصل قائلة: قمة السعادة للإنسان الزواج، وإذا رأيتُ امرأة مع رجل، ومعهما أولاد أتساءل في سري: لماذا أنا محرومة من مثل هذه النعمة؟ (4).
(7)
مارلين مونرو:
ممثلة الإغراء الأمريكية التي تعد أشهر ممثلة في تاريخ هوليود، والتي يقولون عنها: إنها أسطورة هوليود التي لا يخبو نورها، ولا ينطفىء وهجها، ولا ينقطع الحديث عنها (5).
(1) كواشف زيوف ص 561.
(2)
كواشف زيوف ص 359و 562، وانظر الوجودية للكاتب ص 15_16.
(3)
تعني: اعتزلت، وإلا فهي لم تتب إلى الله.
(4)
انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع، إعداد لجنة المؤتمر النسائي الأول ص 47_48.
(5)
كيف سقطوا ص 115.
هذه المرأة تركت الدنيا منذ سبعة وثلاثين عاماً، حيث توفيت في الخامس من أغسطس عام 1962م في ظروف غامضة؛ فماذا كانت حياة تلك المشهورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في حياتها وبعد وفاتها، والتي تركت الدنيا في أوج شهرتها، وعزِّ بريقها، وشرخ شبابها، والتي لا يزال الحديث مستمر اً عنها؟
هل هي سعيدة في حياتها؟ وهل أغنت عنها شهرتها؟
لعل حديثها عن نفسها يكون أبلغ وأوقع، تقول عن نفسها: إنها نشأت في جو يخيم عليه الحزن، وتحاصره الكآبة، فلم تعرف لها أباً، ولم تجد لها أمَّاً حنوناً، ولم يُرَبِّتْ أحد على كتفها ليقول لها كما يقال للصغار: أنت طفلة جميلة.
وتعترف بأن الرجل الذي كتب اسمه في شهادة ميلادها على أنه أبوها هو أحد عشاق أمِّها الذي ربما اختارته بطريقة عشوائية كأب للمولودة الجديدة (1).
وتقول مارلين: إن الملجأ كان مأواها في سن مبكرة بعد إصابة أمها باضطرابات عقلية شديدة، وبعد الملجأ تلقتها أسر كثيرة لرعايتها، حتى استقرت في النهاية عند سيدة عجوز تدعى (آنالودور) ظلت معها حتى الدراسة الثانوية، واكتشفت العجوز أن الفتاة كبرت، وأصبحت رائعة الجمال بطريقة جعلت الشباب في مدينة لوس أنجلوس يلاحقونها أينما ذهبت، فدبرت زواجها من شاب يدعى (جيم دوجرتي) ولكنها لم تحبه، ولم تشعر بالسعادة معه، وهنا بدأت العمل في السينما، وشعر الزوج بالغيرة، وانتهى الأمر بالطلاق، وبدأت مارلين تصعد أول درجات الشهرة كممثلة (2).
ثم بعد ذلك وصلت إلى قمة الشهرة، فاشتعلت الغيرة والحقد كما تقول مارلين في نفوس كثيرين، ولم تشعر كما تقول بدفء المشاعر، وصدق النوايا.
وتقول: إنها تتمنى أن تخرج مع أناس لا يتوقعون منها شيئاً، وإنما يخرجون معها كنوع من الحب.
وتعترف مارلين أنها لم تحب أياً من أزواجها الثلاثة (جيم دوجرتي، وجوتي هايد، وجود يبمابيوم) وأن الرجل الوحيد الذي أحبته هو الكاتب المسرحي الأمريكي آثر ميلر، ولكن الزواج كما تقول أفسد هذا الحب، فقررا الانفصال، والطلاق، والاحتفاظ بالصداقة.
وتؤكد مارلين أن أسوأ شيء في حياتها هو محاولة الكثيرين استغلالها، حتى أقرب الأقربين (3).
الجدير بالذكر أن حياة تلك المرأة كانت سلسلة من الفضائح التي كانت مسؤولة عن بعضها، ولا يد لها في بعضها الآخر.
(1)(2) كيف سقطوا ص 115_116.
(3)
كيف سقطوا ص 115_116.
وأشهر ما كان من ذلك علاقتها بالرئيس الأمريكي جون كنيدي، ثم تخليه عنها لما تولى الرئاسة، ثم علاقتها بأخيه روبرت كنيدي.
ولقد سببت لها تلك العلاقات متاعب كثيرة، بل لقد قيل: إن لآل كنيدي يداً في موتها (1).
وأخيراً كيف كانت نهاية تلك المرأة؟
لقد وجدوها جثة هامدة في منزلها، واكتشف المحقق الذي تناول قضيتها أنها ماتت منتحرة، ووجد رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن في نيويورك، وهذه الرسالة ألقت بعض الضوء على انتحار مارلين مونرو؛ إذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب العمل في السينما: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض؛ لم أستطع أن أكون أماً، إني أفَضِّل البيت، والحياة العائلية الشريفةَ على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية.
وتقول في النهاية: لقد ظلمني الناس، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة.
إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل؛ إن نهايتهن إذا كن عاقلات كنهايتي (2).
هذه هي حال تلك المرأة، وهذه نصائحها المجانية تقدمها في نهاية مطافها؛ فما أكثر العبر، وما أقل المعتبر؛ فهل من مدكر؟
(7)
كريستينا أوناسيس:
تلك الفتاة اليونانية، ابنة التاجر الكبير الشهير أوناسيس الذي يملك الأموال الطائلة، والجزر، والأساطيل.
هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها؛ فبقيت هي الوريثة الوحيدة مع زوجة أبيها لتلك الثروات الهائلة.
لقد ورثت عن أبيها ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال، وتملك أسطولاً بحرياً ضخماً، وجزراً كاملة، وشركات طيران.
أليست المقاييس لدى كثير من الناس تقول: إنها أسعد امرأة في العالم؟! بلى، ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، والدليل على ذلك تفاصيل حياتها وما مر بها من بؤس، وتعاسة، وشقاء.
(1) انظر كيف سقطوا ص 116_123.
(2)
انظر حضارة الإسلام العدد الثالث للمجلد الثالث ص 331، وانظر المرأة بين الفقه والقانون للسباعي ص 315_316.
ومما مرت به من ذلك إخفاقها في الزواج أربع مرات، حيث تزوجت أربعة رجال من أربع دول، فلقد تزوجت برجل أمريكي ثم انفصلت عنه بعد شهور، ثم تزوجت برجل يوناني، ثم انفصلت عنه بعد عدة شهور، ثم انتظرت طويلاً تبحث عن السعادة، ثم تزوجت برجل شيوعي، وعندما سألها الناس والصحفيون: أنت تمثلين الرأسمالية؛ فكيف تتزوجين بشيوعي؟
قالت: أبحث عن السعادة.
وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة فقد جلست تخدم نفسها في غرفتيها، فجاءها الصحفيون وهم يتابعونها في كل مكان فسألوها: كيف يكون هذا؟ قالت: أبحث عن السعادة!
وعاش معها زوجها سنة ثم انفصلت عنه.
وبعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة في العالم؟
قالت: نعم أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة!
وآخر فصل من فصول قصتها أنها تزوجت برجل فرنسي، وبعد فترة يسيرة أنجبت منه بنتاً ثم انفصلت عنه، وعاشت بقية حياتها في تعاسة وهمّ. وأخيراً وجدوها جثة هامدة في شاليه في الأرجنتين، وذلك في 19/ 11/1988م، وكان عمرها آنذاك 37 سنة، ولا يُعْلم أماتت مِيتَةً طبيعية، أم أنها قتلت، أم انتحرت، حتى إن الطبيب الأرجنتيني أمر بتشريح جثتها ثم دفنت في جزيرة أبيها.
فهل أغنى عن هذه مالها؟ وهل وجدت السعادة؟ (1).
فماذا لو كانت مؤمنة بالله، واليوم الآخر، عاملة بما يرضي الله_عز وجل_مسلطة مالها على هلكته بالحق، أتراها تشقى بمالها؟
الجواب: لا، بل سيكون ذلك من أعظم أسباب سعادتها.
(8)
الفنانة الإيطالية العالمية داليدا:
التي وصلت مبيعات أغانيها إلى 85 مليون اسطوانة، والتي غنت 400 أغنية بالفرنسية، و 200 أغنية بالإيطالية، و 20 أغنية بلغات مختلفة منها الألمانية، والأسبانية، واليابانية، والعربية.
داليدا التي حققت في إحدى عشرة سنة إعجازاً فنياً جعلها تحصل على:
أ_جائزة الأوسكار العالمي للأسطوانة عام 1974م.
ب_الأسطوانة البلاتينية لشركة بني لوكس عام 1975م.
جـ_جائزة أكاديمية الأسطوانة بفرنسا عام 1975م.
د_جائزة برافو عام 1985م.
هـ_جائزة الأوسكار التي حصلت عليها 5 مرات من إذاعة مونت كارلو.
و_عدة جوائز من إذاعة لوكسمبرج بدأتها في عام 1970م.
(1) انظر لماذا انتحر هؤلاء ص 140_143، والسعادة بين الوهم والحقيقة ص 10_13، وتجاربهم مع السعادة ص 111_114.
ز_في عام 1968م منحت ميدالية باريس، وميدالية رئاسة الجمهورية الفرنسية التي قدمها لها الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديجول، والتي لم يحصل عليها أي فنان من قبل.
داليدا التي تركت للدنيا أغاني كثيرة، خلفت ثروة تقدر بأكثر من 30 مليون فرنك فرنسي.
فماذا كانت حياتها في الحقيقة؟ وهل وجدت السعادة والراحة والاستقرار؟
الجواب: لا؛ فلقد عاشت حياة تعيسة، فلم تؤسس أسرة، ولم تنجب طفلاً، أو طفلة، مع أن الإنجاب كان حلم حياتها.
ولقد كانت مدمنة للمخدرات، التي تلجأ إليها للخلاص من الاكتئاب، والوحدة، والعذاب النفسي كما قال ذلك أحد أقاربها.
ولهذا حاولت الانتحار عام 1967م، محاولة اللحاق بحبيبها (لويفي تانكر) الذي قتل نفسه بمسدسه، فلم تطق العيش بدونه، فجرعت مواد سامة؛ رغبة في الانتحار، ولكن محاولتها باءت بالإخفاق.
وذات ليلة دخلت خادمتها إلى غرفتها، وخيل إليها أنها نائمة في فراشها، فاقتربت منها؛ لكي توقظها، نادت فلم يأتها الرد، فنادتها أخرى، فلم يأتها الرد، أخيراً هزت كتفها، وابتعدت عنها، وصرخت: سيدتي ماتت.
بعد ذلك نظرت الخادمة إلى يدي داليدا، فوجدت في إحداهما ورقة، فانتزعتها من بين أصابعها، فقرأت ما فيها وإذا بها قد كتبت:
الحياة لا تحتمل، سامحوني؛ الحياة أصبحت بالنسبة لي مستحيلة.
نظرت الخادمة إلى يدها الأخرى، فوجدتها تقبض على كأس فارغ، اتضح فيما بعد أن السيدة المنتحرة كانت ترتوي من هذه الكأس؛ لعلمها أن الخمر تساعد على سرعة سريان المفعول للحبوب المخدرة التي تعاطتها بكثرة؛ كي تنهي حياتها في لحظة.
حدث هذا في اليوم الثالث من شهر مايو من عام 1987م، وعمرها أربع وخمسون سنة (1).
تُرى لو أن هذه المرأة تعرف رَبَّاً تلجأ إليه، وصلاة تفزع إليها، وديناً يضبط تصرفاتها وعواطفها، ترى هل تكون هذه نهايتها؟.
(9)
الليدي ديانا سبنسر:
تلك المرأة الإنجليزية التي نالت من الشهرة ما لم تنله امرأة في القرن العشرين، حيث تزوجت بولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز عام 1980م_1400هـ، وأقيم حفل الزواج الكبير في قصر بكنجهام، وشاهد العالم ذلك الحفل عبر شاشات التلفاز.
ومنذ ذلك الحين والإعلام العالمي بكافة وسائله لا يفتأ يذكر اسمها، ويتابع أخبارها، وينشر صورها.
(1) انظر: فنانون ومخدرات، لعاطف النمر ص29_34، ولماذا انتحر هؤلاء ص 136_139.
وظل الناس يتابعون كل دقيقة وجليلة من أمرها، حتى أصبح كثير من نساء العالم يقلدنها في شتى أحوالها، حتى في مشيتها، وتسريحة شعرها، وطريقة ابتسامتها، ونوع ملبوسها، ونحو ذلك من شؤونها.
وعلى مدى سنوات طويلة كان لدى الشعب البريطاني، وسائر شعوب العالم اعتقاد بأن ديانا وتشارلز هما أسعد زوجين على وجه الأرض، كيف لا وقد امتلكا جميع مباهج الحياة_في نظر الأكثرين_؟
فالشهرة، والمجد، والثراء، والنفوذ، والمستقبل الذي ينتظر الذرية كل هذه الأمور نصب أعين الزوجين.
ولكن هذا الاعتقاد لم يكن صائباً، وكل القصص والحكايات الوردية التي صنعها خيال الناس لم يكن لها أي نصيب من الواقع؛ فلقد استيقظ العالم ذات صباح من شهر مايو 1992م على فضيحة مدوية عصفت بتلك الخيالات، وطوحت بها مكاناً قصياً؛ فقد ظهر كتاب جديد في بريطانيا تحت عنوان (ديانا القصة الحقيقية).
وهذا الكتاب يروي قصة إخفاق ذلك الزواج التاريخي، ويكشف تعاسة ديانا وشقاءها، ومحاولتها الانتحار في عام 1989م بعد أن يئست من حياتها.
ويذكر الكتاب أحد المواقف التي زلزلت كيان الأميرة، وجعلتها تحيا أسوأ أيامها؛ فعندما رآها تشارلز تبكي لوفاة والدها، وعدم وجوده بجانبها عنَّفها، ووبخها، وقال لها بمنتهى القسوة: اخرجي من أحزانك بسرعة؛ فلا وقت لدينا لهذه الأحاسيس.
ولم يكن هذا الموقف هو الأخير؛ فقد توالت عبارات الأمير تشارلز، وإهاناته البالغة لديانا، حتى قررت التخلص من حياتها، خاصة بعد الأنباء التي أشارت إلى وجود علاقة غرامية بين الأمير وبين سيدة أخرى تدعى كاميلا فلورز، ومن ثم ابتلعت ديانا كل ما لديها من حبوب مهدئة؛ رغبة في التخلص من حياتها، إلا أن قدرها لم يحن بعد، فنجت من الموت.
ولم يكن صدور ذلك الكتاب نهاية المطاف؛ فقد بدأت الصحف تكشف جوانب أخرى، وأسراراً جديدة تعكس إخفاق الزوجين في تجاوز خلافاتهما، واستعادة ما كان بينهما من صفاء في بداية حياتهما الزوجية.
وكشفت صحيفة صنداي إكسبرس النقاب عن أن الأميرة ديانا تعاني من كوابيس مرعبة، وأحلام مخيفة تداهمها ليلاً في نومها؛ لتحيل حياتها إلى عذاب لا يتوقف، وشقاء لا ينقطع.
وأضافت الصحيفة أن ديانا تتلقى العلاج؛ للتخلص من هذه الكوابيس والأحلام المزعجة التي يرى الطبيب المعالج أنها تعكس مدى ما تعانيه الأميرة في حياتها من مصاعب، وما تعجز عن تحقيقه من رغبات مكبوتة.
وقالت: إن الأميرة التعسة بلغت درجة من الشقاء والضيق الشديد اضطرت معها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي كي يعالجها.
وأكدت الصحيفة أن الأميرة أسرعت عقب تدهور صحتها؛ بسبب الكوابيس والأحلام المزعجة إلى الطبيب النفساني الشهير آلان ماكجلاشان.
وتقول الصحيفة: إن ديانا ترى في نومها وحوشاً غريبة تثير الرعب والهلع، وترى مشاهد بحرية مخيفة تزلزل كيانها، وترتعد لها فرائصها.
وأكدت بأن الأمير تشارلز نفسه بدأ يشعر بالقلق إزاء ما يجري لزوجته التي أصبحت تقطع نومها؛ لتنهض مذعورة لما تراه.
وبعد ذلك زادت المشكلات بينها وبين زوجها، وحاولت والدة تشارلز الملكة إليزابيث تهدئة الأمر، وحث الزوجين على تجاوز خلافاتهما، والتوقف عند هذا الحد.
ورغم ذلك فقد اتفق الطرفان على أن حياتهما على هذا النمط أصبحت مستحيلة، ولكن الطلاق ثقيل، خصوصاً على نفس تشارلز؛ لأنه سيؤدي إلى فقدانه وفقدان أبنائه من بعده حق الجلوس على العرش؛ حيث لا يجوز دستورياً أن يكون الملك مطلقاً.
ولأن الأمير عَيْنُه على العرش، وليس لديه أية فكرة للتنازل عنه_فقد قرر ألا يطلق.
أما الأميرة التعيسة فلم يعد لديها سوى ولديها هاري وويليام يملآن الفراغ والوحدة التي تقاسيها، ولا تريد أن تُطَلَّق؛ حتى لا يفقدا حق الجلوس على عرش بريطانيا في المستقبل ومن أجل هذا قررا الانفصال دون طلاق؛ ليبدأ كل منهما حياته بالطريقة التي يحبها (1).
وبعد هذا اعترف الزوجان بالخيانة الزوجية، وأصبحت ديانا تترامى من أحضان عشيق إلى عشيق، إلى أن آل بها الأمر إلى آخر واحد منهم وهو عماد الفايد.
وآخر فصل من فصول حياة تلك المرأة هو تلك النهاية المؤلمة التي أودت بحياتها عندما كانت في فرنسا بصحبة عشيقها عماد الفايد، حيث ركبا في السيارة التي خرجت بهما من الفندق الذي كانا يقيمان فيه، فلما خرجا إذا بعدسات المصورين تضيق عليهما الطريق، فأسرع السائق هروباً من المصورين، فوقع الحادث الذي أودى بحياة ديانا وعماد الفايد.
فماذا أغنى الثراء؟ وماذا أغنت الشهرة؟ وماذا أغنى الجاه؟
(10)
مادونا:
تلك الفنانة الأمريكية الشهيرة، التي نالت من المال والشهرة والانطلاق ما جعلها أشهر فنانة في هذا العصر تقريباً.
(1) انظر تفاصيل الحديث في هذا الشأن إلى كتاب: كيف سقطوا ص11_18.
فشهرتها قد طبقت الخافقين؛ لأن وسائل الإعلام تحفل بها وأمثالها. وثرواتها تقدر بـ 130 مليون دولار، ولديها تعاقدات كثيرة للعمل خلال السنوات الخمس القادمة ربما درت عليها أكثر من 90 مليون دولار؛ فهل هي سعيدة بذلك؟ وهل وجدت الراحة والاستقرار؟
إن مادونا نفسها تعترف بصراحة أن كل ذلك لم يحقق لها السعادة أبداً، بل على العكس من ذلك؛ فهي الآن تعيش حالة اكتئاب عميق، وذلك بعد أن اكتشفت أنه لم يبق بينها وبين سن الأربعين سوى ثلاث سنوات، ذلك السن المتعارف عليه لدى الأطباء بأنه آخر فرصة للإنجاب بالنسبة للمرأة دون مشكلات.
ولقد صرحت مؤخراً لمجلة نمساوية بأنها نادمة ندماً شديداً على السنوات التي أضاعتها وراء الغناء هنا وهناك دون أن تفكر أن تتزوج من جديد بعد زواجها الأول الذي لم يستمر، ودون أن تفكر في إنجاب طفل أو أكثر يملأون عليها حياتها بعد أن تنصرف عنها الأضواء.
وتقول: إنها تخشى أن تقضي بقية حياتها لا تعيش إلا مع الحيوانات الأليفة، أو مع أناس تستأجرهم؛ ليكونوا حولها دون أن يكونوا من دمها ولحمها، وليس من بينهم زوج يحبها وتحبه بإخلاص.
وتضيف مادونا بأنها تملك المال الوفير ولكنه لن يسعدها بقدر ما سيسعدها أن تجد زوجاً مناسباً.
فهذه اعترافات واحدة من شهيرات نساء هذا العصر، وليتها عرفت أن البديل لشقاء الحياة المادية يوجد في الإسلام الذي كفل السعادة لمعتنقيه بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى (1).
(11)
مايكل جاكسون:
ملك البوب، المغني الأمريكي الراقص، الذي يعد أشهر مغنٍّ في العالم، والذي يملك الملايين، ويحوز النصيب الأوفى من الحضور الجماهيري.
ذلك الرجل الذي تملأ شهرته الآفاق، وتنتشر أغانيه المسموعة والمرئية في أنحاء العالم.
ذلك الرجل الذي يقلده_ومع بالغ الأسف_فئام من شباب المسلمين، يقلدونه في حركاته، ورقصاته، وقصات شعره، ونوع ملابسه.
فما حال ذلك الإنسان؟
الذي يبدو للعيان أول وهلة أن ذلك الإنسان يعيش في أعلى درجات السعادة؛ لأن أسبابها_في نظر كثيرين_متوافرة فيه، مجتمعة له.
ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، حيث جاء في جريدة الرياض عدد، 11321 وتاريخ 9_3_1420هـ تقرير يحمل العنوان التالي:
يصرخ كطفل، وفكر في الانتحار مايكل جاكسون يعاني من حالة اكتئاب شديدة وتحت هذا العنوان جاء مايلي:
(1) انظر مجلة الرابطة عدد 399 في المحرم 1419هـ.
يعاني مايكل جاكسون من حالة اكتئاب شديدة، لدرجة أن والدته تقول لأصدقائه: إنه بدأ ينهار، وقد أقنعته في النهاية بأن يبدأ سراً علاجاً نفسانياً بالمنزل.
وكشف مصدر مقرب أن مايكل منزعج بشدة من مجموعة أشياء تركته في حالة انهيار؛ فهو لا يستطيع أن يتخلص من صورة أنه يسيء معاملة الأطفال، كما أن حياته العملية تبدو مجمدة، وهو في حالة شجار مع إخوته بعدما حنث بوعده في الانضمام مجدداً من أجل جولة لفرقة جاكسون فايف.
وهو يعاني من المشاكل الشخصية الأخرى التي يحاول معالجتها، ووالدته كاثرين في حالة انزعاج شديد عليه؛ فهي تطلبه هاتفياً يومياً؛ للتأكد من أنه على ما يرام، وأنه لا يحاول القيام بشيء أحمق؛ حيث إنها تخشى من لجوئه للانتحار.
وكان المغني البالغ من العمر أربعين عاماً اعترف في مقابلة أنه قد فكر في الانتحار.
وكانت والدته قد اندفعت إلى منزله عدة مرات مؤخراً، وجلست بجواره طوال الليل؛ خوفاً من أن يقتل نفسه.
وتضيف الصحيفة قائلة: والآن أقنعته والدته بمراجعة طبيب نفساني؛ لأنها تعتقد أن ذلك ينقذ حياته.
وذكرت والدته لأحد أصدقائه أن مايكل يصرخ كالطفل، وهو في حاجة إلى مساعدة مهنية متخصصة، وقد وعدني أخيراً بأنه سيراجع طبيباً نفسانياً، ولكنه يريد أن يتم ذلك بصورة سرية جداً؛ حتى لا يعتقد الناس أنه مصاب بالجنون.
ترى هل سيخرجه الطبيب النفساني من حالته الكئيبة؟ لا أظن ذلك؛ لأن الطبيب نفسه يريد من يخرجه من حالته إلا إذا كان مسلماً مؤمناً بالله عز وجل.
(المقصود من ذكر هذه النماذج:
المقصود من ذكر هذه النماذج إنما هو أخذ العبرة والعظة ليس إلا.
وإلا فهم سيفضون إلى ما قدموا، وسيقفون أمام حكم عدل.
ثم إن نزول البلايا والمصائب لا يختص به أحد دون أحد؛ فقد تنزل بالبر والفاجر، والمسلم والكافر.
ولكنْ فرقٌ بين نزولها على البر المؤمن، وبين نزولها على الفاجر أو الكافر؛ فالمؤمن البر يستقبلها برضا وسرور؛ فترتفع بها درجاته في الدنيا والآخرة.
وكلما زيد في بلاء المؤمن فصبر واحتسب ورضي أعانه الله، ولطف به، وأنزل عليه من السكينة والرضا، واليقين، والقوة ما لا يخطر ببال.
أما الفاجر والكافر، فيستقبلها بهلع، وجزع، فتزداد مصائبه، وتكون من عاجل العقوبة له.
فأين أحوال أولئك العصاة مِنْ أحوال مَن اعتصموا بالله، وهُدوا إلى صراطه المستقيم؟
[*](فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر (1).
[*](وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول لما أودع غياهب السجن: ما يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني؛ أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (2).
(وقال أيضاً: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (3).
(وقال أيضاً: الإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله، وذكر محامده، وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر (4).
وكما قال أحد العباد عن حاله: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب (5).
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طرباً بأنسه بالله، وحبه له+ (6).
وقال آخر: =مساكين أهل الغفلة؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها (7).
وقال آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (8).
[*](وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين قد تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا إذا أطعنا الله عز وجل (9).
[*](وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله (10).
[*] (وقال ابن القيم متحدثاً عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى: وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه من الخير ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه.
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/ 287، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 97.
(2)
ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 402، وانظر الوابل الصيب لابن القيم ص 69.
(3)
الوابل الصيب ص 69، وانظر الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الكرمي الحنبلي ص 34.
(4)
منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/ 389.
(5)
(3)(4)(5) إغاثة اللهفان لابن القيم ص 567.
(9)
حلية الأولياء لأبي نعيم 7/ 370، ومواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم للشيخ صالح الشامي ص94_95.
(10)
حيلة الأولياء 2/ 358، ومواعظ الإمام مالك بن دينار للشيخ صالح الشامي ص 18.
ولما دخل القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال:(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)[الحديد: 31]
ويواصل ابن القيم حديثه عن ابن تيمية فيقول: =وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة؛ فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها_ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها (1).
(أروع القصص للتائبين:
إن قصص التائبين لها تأثير بالغ في ترقيق القلوب لأنها تهز القلوب وتجعل الإنسان منحوب ويقلع عن الإثم والحوب ويهرع إلى علام الغيوب، هي قصصٌ تُفري الأكباد وتذيب الأجساد وتحملُ على الجد والاجتهاد والتشمر لإعداد الزاد ليوم المعاد، قصصٌ تُبكِي الصخور وتشرح الصدور وتُجَافِيك من دار الغرور وتُحَفِزُكَ إلى فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور والبعد عن دواهي الأمور، عسى ربُك أن يرزقك عملاً متقبلاً مبرور، ترى في هذه القصص مدى صدق التوبة وجريان الدموع في التوبة والرجوع، فتأملها بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد، ونحن بتوفيق الله تعالى نذكر نوعين من قصص التائبين هما كما يلي:
أولاً: قصصٌ للتائبين من القرون السابقة:
ثانياً: قصصٌ للتائبين المعاصرين لأنها أوقع في النفس:
ودونك القصص بين يديك
أولاً: قصصٌ للتائبين من القرون السابقة:
وقد انتقينا بتوفيق الله تعالى أروع القصص وأبلغها من كتاب التوابين لابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:
(توبة فتى من الأزدكان عن التأنث والتخنث:
(1) الوابل الصيب ص 69_70.
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن رجاء بن ميسور المجاشعي قال «كنا في مجلس صالح المري وهو يتكلم فقال لفتى بين يديه اقرأ يا فتى فقرأ الفتى» (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر: 18]
(فقطع صالح عليه القراءة وقال: كيف يكون لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة مسودة وجوههم مزرقة عيونهم ذائبة أجسادهم ينادون يا ويلنا يا ثبورنا ماذا نزل بنا ماذا حل بنا، أين يذهب بنا ماذا يراد منا والملائكة تسوقهم بمقامع النيران فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين ومرة يقادون إليها مقرنين من بين باك دما بعد انقطاع الدموع ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت، إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظرا لا يقوم له بصرك ولا يثبت له قلبك ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك، ثم نحب وصاح يا سوء منظراه يا سوء منقلباه وبكى وبكى الناس فقام فتى من الأزدكان به تأنيث فقال أكل هذا في القيامة يا أبا بشر؟ قال: نعم والله يا ابن أخي وما هو أكثر لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فما يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف، فصاح الفتى إنا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة واأسفا على تفريطي في طاعتك يا سيداه واأسفا على تضييعي عمري في دار الدنيا ثم بكى واستقبل القبلة، فقال: اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم فاقبلني على ما كان في واعف عما تقدم من فعلي وأقلني عثرتي وارحمني ومن حضرني وتفضل علينا بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين، لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقا لذلك قلبي، فالويل لي إن لم تقبلني، ثم غلب فسقط مغشيا عليه فحمل من بين القوم صريعا فمكث صالح وإخوته يعودونه أياما ثم مات والحمد لله، فحضره خلق كثير يبكون عليه ويدعون له فكان صالح كثيرا ما يذكره في مجلسه فيقول: بأبي قتيل القرآن وبأبي قتيل المواعظ والأحزان قال فرآه رجل في منامه قال ما صنعت قال عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء.»
(توبة رجل عما جنت يداه:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إبراهيم بن الحارث قال «كان رجل كثير البكاء فقيل له في ذلك فقال أبكاني تذكري ما جنيت على نفسي حين لم أستحي ممن شاهدني وهو يملك عقوبتي فأخرني إلى يوم العقوبة الدائمة وأجلني إلى يوم الحسرة الباقية والله لو خيرت أيما أحب إليك تحاسب ثم يؤمر بك إلى الجنة أو يقال لك كن ترابا لاخترت أن أكون ترابا.»
(توبة مُلْهِي أهل المدينة عن اللهو على يد والدته:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن صالح بن عمر قال: حدثني أبي قال «كان بالمدينة امرأة متعبدة ولها ولد يلهو وهو مُلْهِي أهل المدينة وكانت تعظه وتقول يا بني اذكر مصارع الغافلين قبلك وعواقب البطالين قبلك اذكر نزول الموت فيقول: إذا ألحت عليه كفي عن التعذال واللوم واستيقظي من سنة النوم إني وإن تابعت في لذتي قلبي وعاصيتك في لومي أرجو من أفضاله توبة تنقل من قوم إلى قوم فلم يزل كذلك حتى قدم أبو عامر البناني واعظ أهل الحجاز ووافق قدومه رمضان فسأله إخوانه أن يجلس لهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم وجلس ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح واجتمع الناس وجاء الفتى فجلس مع القوم فلم يزل أبو عامر يعظ وينذر ويبشر إلى أن ماتت القلوب فرقا واشتاقت النفوس إلى الجنة فوقعت الموعظة في قلب الغلام فتغير لونه ثم نهض إلى أمه فبكى عندها طويلا ثم قال زممت للتوبة أجمالي ورحت قد طاوعت عذالي وأبت والتوبة قد فتحت من كل عضو لي أقفالي لما حدا الحادي بقلبي إلى طاعة ربي فك أغلالي أجبته لبيك من موقظ نبه بالتذكار أغفالي يا أم هل يقبلني سيدي على الذي قد كان من حالي، واسوءتا إن ردني خائبا ربي ولم يرض بإقبالي ثم شمر في العبادة وجد وكان لا يفطر إلا بعد التراويح ولا ينام إلا بعد طلوع الشمس فقربت إليه أمه ليلة إفطاره فامتنع وقال: أجد ألم الحُمى فأظن أن الأجل قد أزف ثم فزع إلى محرابه ولسانه لا يفتر من الذكر فبقي أربعة أيام على تلك الحال ثم استقبل القبلة يوما وقال: إلهي عصيتك قوياً وأطعتك ضعيفاً وأسخطتك جَلَدَاً وخدمتك نَحِيْفَا فليت شعري هل قبلتني ثم سقط مغشيا عليه فانشج وجهه فقامت إليه أمه فقالت: يا ثمرة فؤادي وقرة عيني رد جوابي، فأفاق فقال يا أماه هذا اليوم الذي كنت تحذريني وهذا الوقت الذي كنت تخوفيني، فيا أسفي على الأيام الخوالي يا أماه إني خائف على نفسي أن يطول في النار حبسي، بالله عليك يا أماه قومي فضعي رجلك على خدي حتى أذوق طعم الذل لعله يرحمني، ففعلت وهو يقول هذا جزاء من أساء ثم مات رحمه الله،
قالت أمه: فرأيته في المنام ليلة الجمعة وكأنه القمر فقلت يا ولدي ما فعل الله بك؟
فقال: خيرا رفع درجتي، قلت فما كنت تقول قبل موتك؟ قال هتف بي هاتف أجب الرحمن فأجبت، قلت فما فعل أبو عامر؟ فقال: هيهات أين نحن من أبي عامر حل أبو عامر في قبةٍ وطدها ذو العرش للناس بين جوار كالدمى خرد يسقينه بالكاس والطاس يقلن بالترخيم خذها فقد هنيتها يا واعظ الناس.»
(توبة دينار العيار عن المعاصي على يد والدته:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن رجلا «كان يُعْرَفُ بدينار العيار كانت له والدة تعظه ولا يتعظ فمر في بعض الأيام بمقبرة كثيرة العظام فأخذ منها عظما نخرا فانفت في يده ففكر في نفسه وقال لنفسه: ويحك كأني بك غدا قد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا وأنا اليوم أقدم على المعاصي، فندم وعزم على التوبة ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي إليك ألقيت مقاليد أمري فاقبلني وارحمني ثم مضى نحو أمه متغير اللون منكسر القلب فقال يا أماه: ما يصنع بالعبد الآبق إذا أخذه سيده؟
فقالت: يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يده وقدمه، فقال أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير وتفعلين بي كما يفعل بالآبق لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت ما طلب فكان إذا جنه الليل أخذ في البكاء والعويل ويقول لنفسه ويحك يا دينار ألك قوة على النار كيف تعرضت لغضب الجبار وكذلك إلى الصباح، فقالت له أمه في بعض الليالي: ارفق بنفسك فقال دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أمي إن لي موقفا طويلا بين يدي رب جليل ولا أدري أيؤمر بي إلى الظل الظليل أو إلى شر مقيل إني أخاف عناء لا راحة بعده وتوبيخا لا عفو معه، قالت فاسترح قليلا فقال الراحة أطلب أتضمنين لي الخلاص قالت فمن يضمنه لي قال فدعيني وما أنا عليه كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار، فمرت به في بعض الليالي في قراءته (فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الحجر 92: 93] ففكر فيها وبكى وجعل يضطرب كالحَيْة حتى خر مغشيا عليه فجاءت أمه إليه ونادته فلم يجبها فقالت: قرة عيني أين الملتقى؟
فقال بصوت ضعيف: إن لم تجديني في عرصة القيامة فاسألي مالكا عني ثم شهق شهقة مات فيها فجهزته وغسلته وخرجت تنادي أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار فجاء الناس فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم.»
(توبة رجل عن حب مغنية شغلته عن الله:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن علي بن الحسين قال «كان لنا جار من المتعبدين قد برز في الاجتهاد فصلى حتى تورمت قدماه وبكى حتى مرضت عيناه فاجتمع إليه أهله وجيرانه فسألوه أن يتزوج فاشترى جارية وكانت تغني وهو لا يعلم فبينا هو ذات يوم في محرابه يصلي رفعت الجارية صوتها بالغناء فطار لبه فرام ما كان عليه من العبادة فلم يطق فأقبلت الجارية عليه فقالت يا مولاي لقد أبليت شبابك ورفضت لذات الدنيا أيام حياتك فلو تمتعت بي فمال إلى قولها واشتغل باللذات عما كان فيه من التعبد، فبلغ ذلك أخا له كان يوافقه على العبادة فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من الناصح الشفيق والطبيب الرفيق إلى من سلب حلاوة الذكر والتلذذ بالقرآن والخشوع والأحزان بلغني أنك اشتريت جارية بعت بها من الآخرة حظك فإن كنت بعت الجزيل بالقليل والقرآن بالقيان فإني محذرك هادم اللذات ومنغص الشهوات وموتم الأولاد فكأنه قد جاء على غرة فأبكم منك اللسان وهدم منك الأركان وقرب منك الأكفان واحتوشك الأهل والجيران وأحذرك من الصيحة إذا جثت الأمم لهول ملك جبار فاحذر يا أخي ما يحل بك من ملك غضبان ثم طوى الكتاب وأنفذه إليه، فوافاه الكتاب وهو في مجلس سروره فغص بريقه وأذهله ذلك فنهض مبادرا من مجلس سروره وكسر آنيته وهجر جاريته وآلى أن لا يطعم الطعام ولا يتوسد المنام،
قال الذي وعظه: فلما مات رأيته في المنام بعد ثلاث فقلت ما فعل الله بك؟ قال: قدمنا على رب كريم أباحنا الجنة وقال: الله عوضني ذو العرش جارية حوراء تسقيني طورا وتهنيني تقول لي اشرب بما قد كنت تأملني وقر عينا مع الولدان والعيين يا من تخلى عن الدنيا وأزعجه عن الخطايا وعيد في الطواسين.»
(توبة شاب وامرأته على يد سري السقطي:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن سري السقطي قال «كنت يوما أتكلم بجامع المدينة فوقف علي شاب حسن الشباب فاخر الثياب ومعه أصحابه فسمعني أقول في وعظي: عجبا لضعيف يعصي قويا، فتغير لونه وانصرف فلما كان من الغد جلست في مجلسي وإذا بالفتى قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال: يا سري سمعتك بالأمس تقول عجبا لضعيف يعصي قويا فما معناه؟ فقلت: لا أقوى من الله ولا أضعف من العبد وهو يعصيه فنهض فخرج ثم أقبل من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد فقال يا سري كيف الطريق إلى الله؟ فقلت إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل وإن أردت الله فاترك كل شيء سواه تصل إليه وليس إلا المساجد والخراب والمقابر فقام وهو يقول والله لا سلكت إلا أصعب الطرق وولى خارجا فلما كان بعد أيام أقبل إلي غلمان كثير فقالوا ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب فقلت لا أعرفه إلا أن رجلا جاءني من صفته كذا وكذا فجرى لي معه كذا كذا ولا أعلم حاله فقالوا: نقسم عليك بالله متى عرفت حاله فعرفنا ودلوني على داره فبقيت سنة لا أعرف له خبرا فبينا أنا ذات ليلة بعد عشاء الآخرة جالسا في بيتي إذا بطارق يطرق الباب فأذنت له بالدخول فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عاتقه ومعه زنبيل فيه نوى فقبل بين عيني وقال لي: يا سري أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رق الدنيا، فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم فمضى وإذا بزوجته قد جاءت ومعها ولده وغلمانه فدخلت وألقت ولده في حجره وعليه حلي وحلل وقالت له يا سيدي أرملتني وأنت حي وأيتمت ولدك وأنت حي، قال سري: فنظر إلي وقال يا سري ما هذا وفاء ثم أقبل عليها فقال والله إنك لثمرة فؤادي وحبيبه قلبي وإن هذا ولدي لأعز الخلق علي غير أن هذا سري أخبرني أن من أراد الله قطع كل ما سواه ثم نزع ما على الصبي فقال: ضعي هذا في الأكباد الجائعة والأجساد العارية وخرق قطعة من كسائه فلف فيها الصبي، فقالت المرأة: لا أرى ولدي في هذه الحال وانتزعته منه فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال ضيعتم علي ليلتي بيني وبينكم الله وولى خارجا وضجت الدار بالبكاء فقالت إن عدت سمعت له خبرا فأعلمني فقلت نعم، فلما كان بعد أيام أتت عجوز فقالت يا سري بالشونيزية غلام يسألك الحضور، فمضيت فإذا به مطروح في تربة تحت رأسه لبنة فسلمت عليه ففتح عينيه وقال يا سري ترى تغفر تلك الجنايات؟ فقلت نعم، قال يغفر لمثلي؟ قلت نعم، قال أنا
غريق قلت هو منجي الغرقى، فقال علي مظالم فقلت في الخبر أنه يؤتى بالتائب يوم القيامة معه خصومه فيقال لهم خلوا عنه فإن الله تعالى يعوضكم فقال يا سري معي دراهم من لقط النوى إذا أنا مت فاشتر لي ما أحتاج إليه وكفني ولا تعلم أهلي لئلا يغيروا كفني بحرام، قال سري فجلست عنده قليلا ففتح عينيه فقال (لِمِثْلِ هََذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] ثم مات فأخذت الدراهم وجئت فاشتريت ما يحتاج إليه وسرت نحوه فإذا الناس يهرعون فقلت ما الخبر؟ فقيل مات ولي من أولياء الله نريد أن نصلي عليه فجئت فغسلته ودفناه فلما كان بعد مدة نفذ أهله يستعلمون خبره فأخبرتهم بموته فأقبلت امرأته باكية فأخبرتها بحاله فسألتني أن أريها قبره فقلت أخاف أن تغيروا أكفانه قالت لا والله فأريتها القبر فبكت وأمرت بإحضار شاهدين فأحضرتهما وأعتقت جواريها وأوقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت.»
(توبة امرأة بارعة الجمال أرادت أن تفتن الربيع بن خيثم:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن قوماً أمروا امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خيثم لعلها تفتنه وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه ثم تعرضت له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها فأقبلت عليه وهي سافرة فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك، أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين أم كيف بك لو سألك منكر ونكير، فصرخت صرخة فسقطت مغشيا عليها فو الله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها ما أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.
(توبة جار لأحمد بن حنبل رحمه الله:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن جعفر الصائغ قال «كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل ممن يمارس المعاصي والقاذورات فجاء يوما إلى مجلس أحمد يسلم عليه فكأن أحمد لم يرد عليه ردا تاما وانقبض منه، فقال له يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ فإني قد انتقلت عما كنت تعهدني برؤيا رأيتها، قال: وأي شيء رأيت» قال «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وناس كثير أسفل جلوس قال فيقوم رجل منهم إليه فيقول ادع لي فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري قال فأردت أن أقوم فاستحيت من قبيح ما كنت عليه، قال لي: يا فلان لم لا تقوم إلي فتسألني أدعو لك؟
قال: قلت يا رسول الله يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه، فقال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدع لك فإنك لا تسب أحدا من أصحابي، قال فقمت فدعا لي فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه» قال «فقال لنا أبو عبد الله يا جعفر يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع.»
(توبة أبي عمر بن علوان عن نظره إلى امرأة:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أبي عمرو بن علوان يقول خرجت يوما في حاجة فرأيت جنازة فتبعتها لأصلي عليها ووقفت في جملة الناس حتى تدفن فوقعت عيني على امرأة مسفرة من غير تعمد فلمحت بالنظر واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلى منزلي فقالت لي عجوز: يا سيدي مالي أرى وجهك أسود فأخذت المرآة فنظرت فإذا وجهي أسود فرجعت إلى سري أنظر من أين دهيت فذكرت النظرة فانفردت في موضع أستغفر الله تعالى وأسأله الإقالة أربعين يوما فخطر في قلبي أن زر شيخك الجنيد فانحدرت إلى بغداد فلما جئت الحجرة التي هو فيها طرقت الباب فقال ادخل يا أبا عمرو تذنب بالرحبة ويستغفر لك ببغداد.
(توبة رجل عن الشراب والعود بسماع آيات من القرآن:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أبي هاشم المذكر قال: أردت البصرة فجئت إلى سفينة أكتريها وفيها رجل ومعه جارية فقال الرجل ليس هاهنا موضع فسألته الجارية أن يحملني فحملني فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع فقال أنزلوا ذلك المسكين ليتغدى فأنزلت على أني مسكين فلما تغدينا قال يا جارية هاتي شرابك فشرب وأمرها أن تسقيني فقلت رحمك الله إن للضيف حقا فتركني، فلما دب في النبيذ قال يا جارية هاتي العود وهاتي ما عندك فأخذت العود وغنت تقول وكنا كغصني بانة ليس واحد يزول على الخلان عن رأي واحد تبدل بي خلا فخاللت غيره وخليته لما أراد تباعدي فلو أن كفي لم تردني أبنتها ولم يصطحبها بعد ذلك ساعدي ألا قبح الرحمن كل مماذق يكون أخا في الخفض لا في الشدائد ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا فقلت: أحسن خيرا منه فقرأت (إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ * وَإِذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ)[التكوير 1: 3] فجعل الشيخ يبكي فلما انتهيت إلى قوله تعالى (وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ)[التكوير: 10]
قال الشيخ يا جارية اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى وألقى ما معه من الشراب في الماء وكسر العود ثم دنا إلي فاعتنقني وقال يا أخي أترى الله يقبل توبتي فقلت (إِنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ الْمُتَطَهّرِينَ)[البقرة: 222]
قال فواخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي فرأيته في المنام فقلت له إلى ما صرت؟ قال إلى الجنة قلت بم صرت إلى الجنة؟ قال بقراءتك علي (وَإِذَا الصّحُفُ نُشِرَتْ)[التكوير: 10].
(توبة شيخ مُهَلَبِّي وجاريته عن الشراب والضرب بالعود:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن إسماعيل بن عبد الله الخزاعي قال «قدم رجل من المهالبة من البصرة أيام البرامكة في حوائج له فلما فرغ منها انحدر إلى البصرة ومعه غلام له وجارية فلما صار في دجلة إذا بفتى على ساحل دجلة عليه جبة صوف وبيده عكازة ومزود، قال فسأل الملاح أن يحمله إلى البصرة ويأخذ منه الكراء، قال فأشرف الشيخ المهلبي فلما رآه رق له فقال: للملاح قرب واحمله معك على الظلال فحمله فلما كان في وقت الغداء دعا الشيخ بالسفرة وقال للملاح قل للفتى ينزل إلينا فأبى عليه، فلم يزل يطلب إليه حتى نزل فأكلوا حتى إذا فرغوا ذهب الفتى ليقوم فمنعه الشيخ حتى توضؤوا ثم دعا بزكرة فيها شراب فشرب قدحا ثم سقى الجارية ثم عرض على الفتى فأبى وقال: أحب أن تعفيني، قال قد أعفيناك، اجلس معنا وسقى الجارية وقال هاتي ما عندك فأخرجت عودا لها في كيس فهيأته وأصلحته ثم أخذت فغنت، فقال يا فتى تحسن مثل هذا قال أحسن ما هو أحسن من هذا فافتتح الفتى بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالَاخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ اتّقَىَ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَة) [النساء 77: 78]
وكان الفتى حسن الصوت قال فرج الشيخ بالقدح في الماء وقال أشهد أن هذا أحسن مما سمعت فهل غير هذا؟ قال نعم (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً)[الكهف: 29]
قال فوقعت من قلب الشيخ موقعا قال فأمر بالركزة فرمى بها وأخذ العود فكسره ثم قال يا فتى هل هاهنا فرج قال نعم (قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ)[الزمر: 53]
قال فصاح الشيخ صيحة خر مغشيا عليه فنظروا فإذا الشيخ قد ذاق الموت وقد قاربوا البصرة قال فضج القوم بالصراخ واجتمع الناس وكان رجلا من المهالبة معروفا فحمل إلى منزله فما رأيت جنازة كانت أكثر جمعا منها قال فبلغني أن الجارية المغنية تدرعت الشعر وفوق الشعر جبة صوف وجعلت تقوم الليل وتصوم النهار فمكثت بعده أربعين ليلة ثم مرت بهذه الآية في بعض الليالي (وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً)[الكهف: 29] قال فأصبحوا فأصابوها ميتة.»
(توبة أعرابي لسماع آية من القرآن:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن الأصمعي قال «أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس فدنا وسلم وقال لي ممن الرجل؟ قلت من بني الأصمع، قال أنت الأصمعي؟ قلت نعم، قال ومن أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال اتل علي شيئا منه، فقلت له انزل عن قعودك فنزل وابتدأت بسورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى:(وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22] قال «يا أصمعي هذا كلام الرحمن قلت إي والذي بعث محمدا بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي حسبك ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها وقال أعني على تفريقها ففرقناها على من أقبل وأدبر ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرحل وولى مدبرا نحو البادية وهو يقول (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22]
فأقبلت على نفسي باللوم وقلت لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا فسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي اتل كلام الرحمن فأخذت في سورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى» (وَفِي السّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات: 22]«صاح الأعرابي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا قلت نعم يقول الله عز وجل (فَوَرَبّ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 23] فصاح الأعرابي وقال يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت فيها روحه»
(توبة لبيب العابد عن قتل الحيات:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن القاضي أبي علي التنوخي قال «كان ينزل بباب الشام من الجانب الغربي ببغداد رجل مشهور بالزهد والعبادة يقال له لبيب العابد وكان الناس ينتابونه فحدثني لبيب قال: كنت مملوكا روميا لبعض الجند فرباني وعلمني العمل بالسلاح فصرت رجلا ومات مولاي بعد أن أعتقني فتوصلت إلى أن جعلت رزقه لي وتزوجت امرأته وقد علم الله تعالى أني لم أرد بذلك إلا صيانتها وأقمت معها مدة فاتفق أني رأيت يوما حية داخلة إلى جحرها فأمسكت ذنبها لأقتلها فوثبت علي فنهشت يدي فشلت ومضى زمن طويل على هذا فشلت يدي الأخرى بغير سبب أعرفه ثم جفت رجلاي ثم عميت ثم خرست فكنت على هذه الحال سنة كاملة لم يبق لي جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره وأنا طريح على ظهري لا أقدر على كلام ولا إيماء ولا حركة أسقى وأنا ريان وأترك وأنا عطشان وأطعم وأنا شبعان وأمنع وأنا جائع، فلما كان بعد سنة دخلت امرأة على زوجتي فقالت كيف أبو علي لبيب فقالت لها زوجي لا حي فيرجى ولا ميت فيسلى، فأقلقني ذلك وآلم قلبي ألما شديدا فبكيت وضججت إلى الله تعالى في سري ودعوت وكنت في جميع تلك العلل لا أجد ألما في نفسي فلما كان في بقية ذلك اليوم ضرب علي جسدي ضربانا شديدا كاد يتلفني ولم يزل على ذلك إلى أن دخل الليل وانتصف أو جاز فسكن الألم قليلا فنمت فما أحسست إلا وقد انتبهت وقت السحر وإحدى يدي على صدري وقد كانت طول السنة مطروحة على الفراش لا تنشال أو تشال فحركتها فتحركت ففرحت فرحا شديدا وقوي طمعي في تفضل الله بالعافية فحركت الأخرى فتحركت فقبضت إحدى رجلي فانقبضت فرددتها فرجعت وفعلت بالأخرى مثل ذلك فَرُمْت الانقلاب فانقلبت وجلست وَرُمْت القيام فقمت ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحا عليه وكان في بيت من الدار فمشيت ألتمس الحائط في الظلمة إلى أن وقعت يدي على الباب وأنا لا أطمع في بصري فخرجت إلى صحن الدار فرأيت السماء والكواكب تزهر فكدت أموت فرحا وانطلق لساني بأن قلت يا قديم الإحسان لك الحمد ثم صحت بزوجتي فقالت أبو علي فقلت الساعة صرت أبا علي اسرجي فأسرجت فقلت جيئيني بمقراض فجاءت به فقصصت شاربا كان لي على زي الجند فقالت لي زوجتي ما تصنع الآن يعيبك رفقاؤك فقلت بعد هذا لا أخدم أحدا غير ربي فانقطعت إلى الله عز وجل وخرجت من الدار ولزمت عبادة ربي قال وكانت هذه الكلمة يا قديم الإحسان لك الحمد قد صارت عادته يقولها في حشو كلامه وكان
يقال إنه مجاب الدعوة.»
(توبة المعتصم ورجوعه عن قتل تميم بن جميل:
(توبة لص من اللصوص عن التعرض للناس:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن أمة الملك بنت هشام بن حسان قالت «خرج عطاء الأزرق إلى الجبان يصلي بالليل فعرض له لص فقال اللهم اكفنيه قال فجفت يداه ورجلاه قال فجعل يبكي ويصيح والله لا أعود أبدا، قال فدعا الله له فأطلق قال فاتبعه اللص فقال له أسألك بالله من أنت؟ قال أنا عطاء فلما أصبح سأل تعرفون رجلا صالحا يخرج بالليل إلى الجبان يصلي قالوا نعم عطاء السلمي قال فذهب إلى عطاء السلمي إلى الخربة فدخل عليه وقال إني جئتك تائبا من قصتي كذا وكذا فادع الله لي قال فرفع عطاء السلمي يديه إلى السماء وجعل يبكي ويقول ويحك ليس أنا ذاك عطاء الأزرق.»
(توبة نباش عن نبش القبور:
(توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي فاعرض علي ما يكون لها زاجرا ومستنقذا لقلبي، قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة قال هات يا أبا إسحاق؟
قال أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه، قال فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه قال له يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه قال لا.
هات الثانية؟ قال وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده قال الرجل هذه أعظم من الأولى يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه قال لا.
هات الثالثة؟ قال إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزا له فاعصه فيه، قال يا إبراهيم كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به قال لا، هات الرابعة؟ قال إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صالحا قال لا يقبل مني قال يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص.
قال هات الخامسة؟ قال إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم قال لا يدعونني ولا يقبلون مني قال فكيف ترجو النجاة إذا قال له يا إبراهيم حسبي حسبي أنا أستغفر الله وأتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.»
(توبة عاصي في جوف الليل وموته لسماع آية من القرآن فيها ذكر النار:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن منصور بن عمار قال «حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بناكلك جاهل ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي وغرني سترك المرخي علي وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ولك الحجة علي فالآن من عذابك من يستنقذني وبحبل من أتصل إذا قطعت حبلك مني واشباباه واشباباه قال فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله (نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6] فسمعت حركة شديدة ثم لم أسمع بعدها حسا فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي إذا بجنازة قد وضعت وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فلما سمعها ابني تفطرت مرارته فوقع ميتا.
(توبة منازل بن لاحق:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال «بينما أنا أطوف مع أبي حول البيت في ليلة ظلماء وقد رقدت العيون وهدأت الأصوات إذ سمع أبي هاتفا يهتف بصوت حزين شجي وهو يقول يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وأنت عينك يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي يا من إليه أشار الخلق في الحرم إن كان عفوك لا يدركه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالكرم قال فقال أبي: يا بني أما تسمع صوت النادب لذنبه المستقيل لربه الحقه فلعل أن تأتيني به فخرجت أسعى حول البيت أطلبه فلم أجده حتى انتهيت إلى المقام وإذا هو قائم يصلي فقلت أجب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجز في صلاته واتبعني فأتيت أبي فقلت هذا الرجل يا أبت فقال له أبي ممن الرجل؟ قال من العرب قال وما اسمك؟ قال منازل بن لاحق قال وما شأنك؟ وما قصتك؟ قال وما قصة من أسلمته ذنوبه وأوبقته عيوبه فهو مرتطم في بحر الخطايا فقال له أبي علي ذلك فاشرح لي خبرك قال كنت شابا على اللهو والطرب لا أفيق عنه وكان لي والد يعظني كثيرا ويقول يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد وكان إذا ألح عليَّ بالموعظة ألححت عليه بالضرب فلما كان يوم من الأيام ألح علي بالموعظة فأوجعته ضربا فحلف بالله مجتهدا ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو علي فخرج حتى انتهى إلى البيت فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد، إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلا بالواحد الصمد هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد، قال فو الله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى ثم كشف عن شقه الأيمن فإذا هو يابس قال فأبت ورجعت ولم أزل أترضاه وأخضع له وأسأله العفو عني إلى أن أجابني أن يدعو لي في المكان الذي دعا علي قال فحملته على ناقة عشراء وخرجت أقفو أثره حتى إذا صرنا بوادي الأراك طار طائر من شجرة فنفرت الناقة فرمت به بين أحجار فرضخت رأسه فمات فدفنته هناك وأقبلت آيسا وأعظم ما بي ما ألقاه من التعيير أني لا أعرف إلا بالمأخوذ بعقوق والديه فقال له أبي أبشر فقد أتاك الغوث فصلى ركعتين ثم أمره فكشف عن شقه بيده ودعا له مرات يرددهن فعاد صحيحا كما
كان وقال له أبي لولا أنه قد كان سبقت إليك من أبيك في الدعاء لك بحيث دعا عليك لما دعوت لك، قال الحسن وكان أبي يقول لنا احذروا دعاء الوالدين فإن في دعائهما النماء والانجبار والاستئصال والبوار.»
(توبة شاب عن الانهماك في الدنيا:
[*] أورد ابن قدامة المقدسي في كتابه التوابين عن جعفر بن سليمان قال «مررت أنا ومالك بن دينار بالبصرة فبينا نحن ندور فيها مررنا بقصر يعمر وإذا شاب جالس ما رأيت أحسن وجها منه وإذا هو يأمر ببناء القصر ويقول افعلوا واصنعوا فقال لي مالك ما ترى إلى هذا الشاب وإلى حسن وجهه وحرصه على هذا البناء ما أحوجني إلى أن أسأل ربي أن يخلصه فلعله يجعله من شباب الجنة يا جعفر ادخل بنا إليه قال جعفر فدخلنا فسلمنا فرد السلام ولم يعرف مالكا فلما عرفوه إياه قام إليه فقال حاجة قال كم نويت أن تنفق على هذا القصر قال مائة ألف درهم قال ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه وأضمن لك على الله تعالى قصرا خيرا من هذا القصر بولدانه وخدمه وقبابه وخيمه من ياقوتة حمراء مرصع بالجواهر ترابه الزعفران وملاطه المسك أفيح من قصرك هذا لا يخرب لا تمسه يدان ولم يبنه بناء قال له الجليل كن فكان قال أجلني الليلة وبكر علي غدوة قال جعفر فبات مالك وهو يفكر في الشاب فلما كان في وقت السحر دعا وأكثر من الدعاء فلما أصبحنا غدونا فإذا بالشاب جالس فلما عاين مالكا هش إليه ثم قال ما تقول في ما قلت بالأمس قال تفعل قال نعم فأحضر البدر ودعا بدواة وقرطاس ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان إني ضمنت لك على الله قصرا بدل قصرك بصفته كما وصفت والزيادة على الله واشتريت لك بهذا المال قصرا في الجنة أفيح من ظل ظليل بقرب العزيز الجليل ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الشاب وحملنا المال فما أمسى مالك وقد بقي عنده مقدار قوت ليلة فما أتى على الشاب أربعون ليلة حتى صلى مالك ذات يوم الغداة فلما انفتل فإذا بالكتاب في المحراب موضوع فأخذه مالك فنشره فإذا في ظهره مكتوب بلا مداد هذه براءة من الله العزيز الحكيم لمالك بن دينار إنا وفينا الشاب القصر الذي ضمنت له وزيادة سبعين ضعفا قال فبقي مالك متعجبا وأخذ الكتاب فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب فأقبلنا فإذا الباب مسود والبكاء في الدار فقلنا ما فعل الشاب قالوا مات بالأمس فأحضرنا الغاسل فقلنا أنت غسلته قال نعم قال مالك فحدثنا كيف صنعت قال قال لي قبل الموت إذا أنا مت
وكفنتني اجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني فجعلت الكتاب بين كفنه وبدنه ودفنته معه فأخرج مالك الكتاب فقال الغاسل هذا الكتاب بعينه والذي قبضه لقد جعلته بين كفنه وبدنه بيدي قال فكثر البكاء فقام شاب فقال يا مالك خذ مني مائتي ألف درهم واضمن لي مثل هذا قال هيهات كان ما كان وفات ما فات والله يحكم ما يريد فكلما ذكر مالك الشاب بكى ودعا له.»
(توبة جندي صاحب قصر عن الغناء والملاهي:
(توبة الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضل بن موسى قال كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو " (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا) [الحديد: 16] " فلما سمعها قال بلى يا رب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة فقال بعضهم نرحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
قال الإمام الذهبي تعليقا على القصة:
وبكل حال: فالشرك أعظم من قطع الطريق، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة، فنواصي العباد بيد الله، وهو يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب.
(توبة المجوسي علي يد الحسن البصري:
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: (دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له: ما تجد، وكيف حالك؟ فقال: لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا أنيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي ، وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي.
قل الحسن: فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له: لم لا تسلم حتى تسلم؟ قال: إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار إلى صدره وغشي عليه.
قال الحسن: فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل.
فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال: يا شيخ، إن الفتاح أرسل المفتاح. أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله.
(توبة شاب عندما مر بالمقابر فرأى عظما ناخرة:
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة:
كان لبعض العصاة أمٌ تعظه ولا ينثني فمر يوماً بالمقابر فرأى عظما ناخرة فمسه فانفت في يده فأنفت نفسه فقال لنفسه أنا غدا هكذا فعزم على التوبة فرفع رأسه إلى السماء وقال يا إلهي اقبلني وارحمني ثم رجع إلى أمه حزينا فقال يا أماه ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده فقالت يغل قدميه ويديه ويخشن ملبسه ومطعمه قال يا أماه أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني ففعلت به ما طلب فكان إذا جن عليه الليل أخذ في البكاء والعويل فقالت له أمه ليلة يا بني ارفق بنفسك فقال يا أماه إن لي موقفاً طويلا بين يدي رب جليل فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل إني أخاف عناء لا راحة بعده أبداً وتوبيخاً لا عفو معه، قالت فاسترح قليلاً فقال الراحة أطلب يا أماه كأنك بالخلائق غداً يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار فمرت به ليلة في تهجده هذه الآية (فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الحجر 92، 93]
فتفكر فيها وبكى واضطرب وغشي عليه فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها فقالت له قرة عيني أين الملتقى فقال بصوت ضعيف إن لم تجديني في عرصةِ القيامة فسلي مالكاً عني ثم شهق شهقة فمات رحمه الله فخرجت أمه تنادي أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم هذه والله علامة المحبين وأمارات الصادقين وصفات المحزونين.
سبحان من وفق للتوبة أقواماً ثبت لهم على صراطها أقداماً، كفوا الأكف عن المحارم احتراما، وأتعبوا في استدراك الفارط عظاماً، فكفر عنهم ذنوباً وآثاماً، ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاما.
(ثانياً: قصصٌ للتائبين المعاصرين لأنها أوقع في النفس:
إنّ قصص التائبين لا تنقضي، وأخبارهم لا تنتهي، فمع إشراقة شمس كلّ يوم جديد يتوب إلى الله تائب، ويؤوب إلى حظيرة الإيمان آيب، فطوبى لمن بادر بالتوبة النصوح قبل خروج الروح، وأَخَذ من صحته لسقمه ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن غناه لفقره.
،
وإن مما لا شك فيه أن قصصٌ التائبين المعاصرين أوقع في النفس، لذلك انتقينا منها أشد القصص تأثيراً، قصصٌ تظهر فيها دموع التوابين وأنين المذنبين ونشيج الأوابين وعبرات المنينين، وجه مدفون بين كفين ملأى بالدموع .. قلبٌ يرتجف كورقة خريفية مآلها السقوط .. دموعٌ تنهمر بغزارة في صمت رهيب .. تنهار من مآقي عينه كالسيول الجارفة مشبعة بمرارة مضنية .. آلام غائرة مستكنة في قرارة نفسه .. هموم وغموم رابضة على قلبه .. ! الليل يتأوه لحزنه .. لكربه .. موجاتٌ من الندم والحسرة تهدر أعماقه بل تمتد فتقبض أنفاسه .. ! كم عصفت به أعاصير الهوى فحركت مركبه حيث شاءت .. حيث العوج الخُلقي .. حيث السطو على العواطف .. حيث تلّون القلب بالأقذار .. !
كم انتابه ذاك السعار الملهوف .. وتلك الشهوات المجنونة فبصمت على آثارها .. كم مرة خلع فيها خير لباس .. لباس التقوى، وتدثر بذلك الثوب الخلِق .. البالي .. القذر .. المزركش بتلك الخطايا .. !
كم خطفته تلك النشوة المؤقتة إلى منزلقٍ خطير .. بل إلى منحدر سحيق حيث التمرغ بأوحال الخطايا والآثام .. !
ها هي مقابر الأحزان تلتف حول عنقه .. ها هو بين الحين والحين يحمل الأكفان المثقلة بأجساد الذكريات النتنة .. العفنة ..
،وغالب هذه القصص من كتاب (العائدون إلى الله) لمحمد بن عبد العزيز المسند فإنه كتاب عظيم النفع جداً في هذا المجال، جزى الله جَامِعَه خَيْرَ الجزاء وأنعم عليه بنعمٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، وقد قمت بتقسيمها إلى ثلاث أقسام رئيسية كما يلي:
(القسم الأول: توبة الشيوخ والعلماء:
(القسم الثاني: توبة الفنانين والفنانات:
(القسم الثالث: توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان:
وهاك القصص بين يديك:
(القسم الأول: توبة الشيوخ والعلماء:
(القسم الأول: توبة الشيوخ والعلماء:
(توبة الشيخ أحمد القطان (1):
الشيخ أحمد القطان من الدعاة المشهورين والخطباء المعروفين يروي قصة توبته فيقول:
إن في الحياة تجارب وعبراً ودروساً
…
لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلّبة حائرة
…
لقد درست التربية الإسلامية في مدارس التربية ـ ولا تربية ـ ثمانية عشر عاماً.
(1) هذه القصة ذكره الشيخ في محاضرة له بعنوان (تجاربي في الحياة)
وتخرجت بلا دين
…
وأخذت ألتفت يميناً وشمالاً: أين الطريق؟ هل خلفت هكذا في الحياة عبثاً؟ .. أحس فراغاً في نفسي وظلاماً وكآبةً .. أفر إلى البر
…
وحدي في الظلام لعلي أجد هناك العزاء، ولكن أعود حزيناً كئيباً.
وتخرجت في معهد المعلمين 1969م وفي هذه السنة والتي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغموم إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم، والنفخ فيها، وأخذوا يفسرون العبارات والكلمات بزخرف من القول يوحي به بعضهم إلى بعض حتى نفخوا فيّ نفخة ظننت أنني أن الإمام المنتظر؟
وما قلت كلمة إلا وطبّلوا وزمّروا حولها
…
وهي حيلة من حيلهم، إذا أرادوا أن يقتنصوا ويفترسوا فرداً ينظرون إلى هويته وهوايته ماذا يرغب
…
يدخلون عليه من هذا المدخل.
رأوني أميل على الشعر والأدب فتعهّدوا بطبع ديواني نشر قصائدي وعقدوا لي الجلسات واللقاءات الأدبية الساهرة
…
ثم أخذوا يدسون السم في الدسم.
يذهبون بي إلى مكتبات خاصة ثم يقولون: اختر ما شئت من الكتب بلا ثمن فأحم كتباً فاخرة أوراقاً مصقولة
…
طباعة أنيقة عناوينها: (أصول الفلسفة الماركسية)، (المبادئ الشيوعية) وهكذا بدءوا بالتدريج يذهبون بي إلى المقاهي الشعبية العامة، فإذا جلست معهم على طاولة قديمة تهتز
…
أشرب الشاي بكوب قديم وحولي العمال
…
فإذا مرّ رجل بسيارته الأمريكية الفاخرة قالوا: انظر، إن هذا يركب السيارة من دماء آبائك وأجدادك
…
وسيأتي عليك اليوم الذي تأخذها منه بالثورة الكبرى التي بدأت وستستمر
…
إننا الآن نهيئها في (ظفار) ونعمل لها، وإننا نهيئها في الكويت ونعمل لها، وستكون قائداً من قوادها.
وبينما أنا اسمع هذا الكلام أحسّ أن الفراغ في قلبي بدأ يمتلئ بشيء لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان
…
فالقلب كالرحى
…
يدور
…
فإن وضعت به دقيقاً مباركاً أخرج لك الطحين الطيب وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى.
ويقدّر الله سبحانه وتعالى بعد ثلاثة شهور أن نلتقي برئيس الخلية الذي ذهب إلى مصر وغاب شهراً ثم عاد.
وفي تلك الليلة أخذوا يستهزئون بأذان الفجر
…
كانت الجلسة تمتد من العشاء إلى الفجر يتكلمون بكلام لا أفهمه مثل (التفسير المادي للتاريخ) و (الاشتراكية والشيوعية في الجنس والمال)
…
ثم يقولون كلاماً أمرّره على فطرتي السليمة التي لا تزال
…
فلا يمرّ
…
أحس أنه يصطدم ويصطكّ ولكن الحياء يمنعني أن أناقش فأراهم عباقرة
…
مفكرين
…
أدباء
…
شعراء
…
مؤلفين كيف أجرؤ أن أناقشهم فأسكت.
ثم بلغت الحالة أن أذّن المؤذّن لصلاة الفجر فلما قال (الله أكبر) أخذوا ينكّتون على الله ثم لما قال المؤذن (أشهد أن محمّدا رسول الله) أخذوا ينكّتون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وهنا بدأ الانفعال الداخلي والبركان الإيماني الفطري يغلي وإذا أراد الله خيراً بعباده بعد أن أراه الظلمات يسرّ له أسباب ذلك إذا قال رئيس الخلية: لقد رأيت الشيوعية الحقيقية في لقائي مع الأبنودي الشاعر الشعبي بمصر وهو الوحيد الذي رأيته يطبّقها تطبيقاً كاملاً.
فقلت: عجباً
…
ما علامة ذلك؟!!.
قال: (إذا خرجنا في الصباح الباكر عند الباب فكما أن زوجته تقبله تقبلني معه أيضاً وإذا نمنا في الفراش فإنها تنام بيني وبينه
…
) هكذا يقول
…
والله يحاسبه يوم القيامة فلما قال ذلك نَزَلَتْ ظلمة على عينيّ وانقباض في قلبي وقلت في نفسي: أهذا فكر؟!! أهذه حرية؟!! أهذه ثورة؟!! لا وربّ الكعبة إن هذا كلام شيطاني إبليسي!!
ومن هنا تجرأ أحد الجالسين فقال له: يا أستاذ مادمت أنت ترى ذلك فلماذا لا تدع زوجتكم تدخل علينا نشاركك فيها؟ قال: (إنني ما أزال أعاني من مخلفات البرجوازية وبقايا الرجعية، وسيأتي اليوم الذي نتخلص فيه منه جميعا
…
)
ومن هذه الحادثة بدأ التحول الكبير في حياتي إذ خرجت أبحث عن رفقاء غير أولئك الرفقاء فقدّر الله أن ألتقي باخوة في (ديوانية)
كانوا يحافظون على الصلاة
…
وبعد صلاة العصر يذهبون إلى ساحل البحر ثم يعودون وأقصى ما يفعلونه من مأثم أنهم يلعبون (الورقة).
ويقدّر الله أن يأتي أحدهم إلىّ ويقول: يا أخ أحمد يذكرون أن شيخاً من مصر اسمه (حسن أيوب) جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ قالها من باب حبّ الاستطلاع ..
فقلت: هيا بنا .. وذهبت معه وتوضأت ودخلت المسجد وجلستُ وصليتُ المغرب ثم بدأ يتكلم وكان يتكلم واقفاً لا يرضى أن يجلس على كرسي وكان شيخاً كبيراً شاب شعر رأسه ولحيته ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب.
وبعد أن فرغ من خطبته أحسستُ أني خرجت من عالمٍ إلى عالمٍ آخر .. من ظلمات إلى نور لأول مرة أعرف طريقي الصحيح وأعرف هدفي في الحياة ولماذا خلقت وماذا يراد مني وإلى أين مصيري ..
وبدأت لا أستطيع أن أقدم أو أؤخر إلا أن أعانق هذا الشيخ وأسلّم عليه.
ثم عاد هذا الأخ يسألني عن انطباعي فقلت له: اسكت وسترى انطباعي بعد أيام ..
عدتُ في الليلة نفسها واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ وأخذتُ أسمعها إلى أن طلعتِ الشمس ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأردّه ثم طعام الغداء وأنا أسمع وأبكي بكاءً حارّاً وأحسّ أني قد ولدتُ من جديد ودخلتُ عالماً آخر وأحببتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هو مثلي الأعلى وقدوتي وبدأتُ أنكبُ على سيرته قراءةً وسماعاً حتى حفظتها من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، فأحسستُ أنني إنسان لأول مرة في حياتي وبدأت أعود فأقرأ القرآن فأرى كل آية فيه كأنها تخاطبني أو تتحدث عني (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام: 122] نعم .. لقد كنت ميتاً فأحياني الله
…
ولله الفضل والمنة
…
ومن هنا انطلقتُ مرة ثانية إلى أولئك الرفقاء الضالين المضلين وبدأت أدعوهم واحداً واحداً ولكن
…
(إِنّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص: 56]
…
أما أحدهم فقد تاب بإذن الله وفضله، ثم ذهب إلى العمرة فانقلبتْ به السيارة ومات وأجره على الله.
وأما رئيس الخلية فقابلني بابتسامة صفراء وأنا أناقشه أقول له: أتنكر وجود الله؟!! وتريد أن تقنعي بأن الله غير موجود؟!! فابتسم ابتسامة صفراء وقال: يا أستاذ أحمد .. إنني أحسدك لأنك عرفت الطريق الآن .. أما أنا فاتركني .. فإن لي طريقي ولك طريقك .. ثم صافحني وانصرفت وظل هو كما هو الآن؟
وأما البقية فمنهم من أصبح ممثلاً ومنهم من أصبح شاعراً يكتب الأغاني وله أشرطة (فيديو) يلقي الشعر وهو سكران
…
وسبحان الذي يُخرج الحي من الميت
…
ومن تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين.
(توبة والد الشيخ أحمد القطان:
الشيخ أحمد القطان -جزاه الله خيراً ـ كان هو السبب ـ بعد توفيق الله في هداية والده يروي لنا القصة فيقول (1)
أصيب والدي رحمه الله بمرض في الغوص حيث كانوا على ظهر سفينة فضربتهم صاعقة ..
فقد كانوا داخلين في شط العرب يحملون التمور وكانت هناك سفينة كويتية معطلة تحتاج إلى بعض التصليح فطلب ربّان هذه السفينة من ربّان السفينة الأخرى التي فيها والدي أن يساعده فيجر معه (المحمل) حتى يخرجه من المكان الضحل إلى المكان العميق. فوعده أن يساعده في وقت آخر بعد أن يستقي الماء ويجره إلى المكان العميق إلا أنه كان مستعجلاً وكان محمّلا بضاعة ثقيلة فلم يف بوعده إذ (خطف) بالليل خفية وترك صاحبه الذي وعده قال والدي رحمه الله: فلما خرجنا من الخليج العربي جاءت سحابة فوق السفينة فبرقت ورعدت ونزلت منها صاعقة على الشراع فاحترق كله ..
فكان والدي ممن أصيب بهذه الصاعقة إذ أصيب بمرض أشبه بالشلل.
وكان التجار يلومون ربان السفينة ويقولون له: لو أنك ساعدت ذلك الرجل صاحب السفينة المعطلة لما حدث ما حدث
…
ولكن
…
قدرّ الله وما شاء فعل
…
ثم عادوا بوالدي رحمه الله إلى بيته وأصبح مقعداً لا يستطيع المشي وأكل ما عنده من مدخرات حتى أصبح يخرج وهو يزحف إلى الشارع لعله يجد من يجود عليه ولو بكسرة خبز.
ولما بلغت به هذه الحالة وامتد مرضه ما يقارب العشر سنوات وهو جالس البيت بلا علاج وصفوا له شيخاً من المنتسبين للدين يقرأ على الناس الآيات والأحاديث للاستشفاء. واستدعي ذلك الشيخ الذي يسمونه (الملا) وكان أول سؤال وجّهه إلى والدي مع الأسف الشديد: كم تدفع على هذه القراءة؟! فقال والدي رحمه الله: أنا رجل فقير ومقعد وليس معي في جيبي إلا هذه النصف روبية هي ثمن طعامي أنا ووالدتي .. فقال (الملا) هذه لا تكفي .. وطلب أكثر من ذلك .. فلما لم يعطه والدي ما يريد خرج ولم يقرأ عليه شيئاً.
(1) هذه القصة ذكرها الشيخ في درس له بعنوان: (سلامة الصدر من الأحقاد) ،
وهنا أحسّ والدي بامتعاض شديد وتولد عنده ردّ فعل عنيف جعله يكره الدين ويكره من ينتسب إلى هذا الدين
…
وأصبحت هذه الحادثة دائماً على لسانه لاسيما وأنه كان فصيحاً وذكياً يقول الشعر ويضرب الأمثال .. فسلط تلك الفصاحة وذلك الذكاء للسخرية بالمتدينين بسبب ذلك الموقف الذي وقفه ذلك الملا.
ومرت الأيام
…
ويقدر الله جل وعلا أن يأتيه رجل فيقول له: لماذا لا تذهب إلى المستشفى (الأمريكاني) الذي يمدحه الناس ويثنون عيه وفيه طبيب جيد اسمه سكيدر
…
الخ وهو مستشفى تابع لإرساليات التبشير (النصرانية) التي تعمل لتنصير المسلمين أو إخراجهم من دينهم على الأقل ..
فقال والدي ولكن كيف أستطيع الوصول إلى هذا المستشفى وهو بعيد عني بيتي وأنا لا أستطيع المشي.
ولم تكن في ذلك الوقت مواصلات تنقلهم كما هو الآن إلا عند أناس يعدون على الأصابع ومن هؤلاء المعدودين ذلك المستشفى المذكور حيث كان يملك سيارة وعند الدكتور سكيدر ..
وعند أذان الفجر زحف والدي رحمه الله على فخذيه من بيته إلى المستشفى (الأمريكاني) فما وصله زحفاً إلا قبيل الظهر وكان ذلك في فصل الصيف.
يقول رحمه الله: فلما وصلت إلى جدار المستشفى لم تبق فيّ قطرة ماء لا في فمي ولا في عيني ولا جسمي
…
وأحسست أن الشمس تحرقني وأكاد أموت حتى إني لا أستطيع أن أتكلم أو أصرخ أنادي .. فدنوت من الجدار ونمت وبدأت أتشهد استعداداً للموت.
يقول: ثم أغمي عليّ وظننت أني متّ فلما فتحت عيني إذا أنا في بيتي وبجواري دواء ..
قال: فسألت الناس الذين كانوا يعالجون في المستشفى: ماذا حدث؟ فقالوا: إن الناس قد أخبروا الطبيب بأن هناك رجلاً قد أغمي عليه عند جدار المستشفى فنظر من النافذة فرآه فنزل مع الممرضين وحملوه ودخلوا به ثم بعد ذلك قام بتشخيصه تشخيصاً كاملاً حتى عرف المرض وأعطاه حقنة ثم بعد ذلك أعطاه الدواء وحمله بسيارته الخاصة وأوصله إلى البيت.
قال والدي رحمه الله: فلما وضعتُ يدي في جيبي وجدتُ بها خمس روبيات فسألت: من الذي وضع هذه الروبيات في جيبي؟ فقالت الوالدة وضعها الدكتور الذي أحضرك إلى هنا!!!.
وهنا يظهر الفرق الكبير بين ما فعله هذا (المبشر) النصراني وبين ما فعله ذلك (الملا) سامحه الله.
إن هذا النصراني لم يدعُ والدي إلى دينه بطريقة مباشرة وإنما أحسن معه المعاملة لكي يستميل قلبه ومن أصول الإرساليات التبشيرية (التنصيرية) التي تدرس لهم وقرأناه في الكتب ودرسناها نحن أنه ليس من الشرط أن تجعل المسلم نصرانياً .. إن جعلته نصرانياً فهذا تشريف للمسلم (هكذا يقولون) ولكن إذا عجزت أن تجعله نصرانياً فاحرص على أن تتركه بلا دين فإن تركته بلا دين فقد حققت المطلب الذي نريد.
الشاهد أن الوالد رحمه الله شُفي وقام يمشي وظل ذلك الطبيب يزوره في كل أسبوع مرة ويتلطف معه ويمسح عليه وينظفه ويعالجه إلى أن تحسنت صحته وقام يمشي وبدأ يعمل ثم بعد تزوج فلما رزقه الله بابنه الأول ـ وهو أنا ـ ظل ولاؤه لهذا الطبيب لدرجة أنني لما بلغت الخامسة من عمري وبدأت أعقل بعض الأمور كان يأخذني كل أسبوع في زيارة مخصصة إلى ذلك الدكتور ويلقنني منذ الصغر ويقول: انظر إلى هذا الرجل الذي أمامك. إنه هو سبب شفاء والدك .. هذا الذي كان يعالجني في يوم من الأيام ويضع في جيبي خمس روبيات بينما يرفض (الملا) علاجي لأني لا أملك هذه الروبيات .. ثم يأمرني بتقبيل يده .. فأقوم أنا وأقبل يده.
واستمرت هذه الزيارة المخصصة لذلك الدكتور إلى أن بلغت العاشرة من عمري .. في كل أسبوع زيارة وكأنها عبادة .. يدفعني إليه دفعاً لكي أقبّل يده.
ثم بعد ذلك استمر والدي يسخر من المتدينين ويستهزئ بهم، فلما هداني الله إلى الطريق المستقيم وأعفيت لحيتي بدأ يسخر ويستهزئ باللحية.
فقلت في نفسي: إنه من المستحيل أن أنزع صورة ذلك (الملا) من رأسه وصورة ذلك الدكتور من رأسه أيضاً إلا أن أحسن المعاملة معه أكثر من (الملا) وأكثر من الدكتور وبدون ذلك لن أستطيع.
فظللت أنتظر الفرصة المناسبة لذلك طمعاً في هداية والدي. وجاءت الفرصة المنتظرة .. ومرض الوالد مرضاً عضالاً .. وأصبح طريح الفراش في المستشفى حتى إنه لا يستطيع الذهاب إلى مكان قضاء الحاجة إذا أراد ذلك وكنتُ أنا بجواره ليلاً ونهاراً فقلتُ في نفسي هذه فرصة لا تقدّر بثمن.
وفي تلك الحال كان رحمة الله عليه يتفنّن في مطالبة يختبرني هل أطيعه أم لا؟
ومن ذلك أنه في جوف الليل كان يأمرني بأن أحضر له نوعاً من أنواع الفاكهة لا يوجد في ذلك الوقت فأذهب وأبحث في كل مكان حتى أجدها في تلك الساعة المتأخرة ثم أقدمها له فلا يأكلها .. فإذا أراد أن يقضي الحاجة لا يستطيع القيام فأضع يدي تحت مقعدته حتى يقضي حاجته في يدي .. ويتبول في يدي .. وأظل واضعاً يدي حتى ينتهي من قضاء الحاجة، وهو يتعجّب من هذا السلوك
…
ثم أذهب إلى دورة المياه وأنظف يدي مما أصابهما.
وقد تكررت هذه الحادثة في كل عشر دقائق مرة .. نظراً لشدة المرض حتى أنني في النهاية لم أتمكن من وضع يدي كلما تبرز أو تبول .. لكثرة ذلك.
فلما رأى والدي هذا التصرف يتكرر مني أكثر من مرة أخذ يبكي .. فكان هذه البكاء فاتحة خير وإيمان في قلبه .. ثم قال لي: إنني ما عرفت قيمتك إلا في هذه اللحظة.
ثم سألني: هل جميع هؤلاء الشباب المتدينين مثلك؟ .. قلت له: بل أحسن مني، ولكنك لا تعرفهم .. وكانوا يزورونه ويسلمون عليه.
فبدأ يصلي ويصوم ويحب الدين ويذكر الله .. ولا يفتر لسانه عن ذكر الله وقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأسبغ الله عليه هذا الدين فقلتُ: سبحان الله .. حقاً إن الدين هو المعاملة.
(توبة الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني:
في لقاء مفتوحٍ مع الشيخ سعيد بن مسفر ـ حفظه الله ـ طلب منه بعض الحاضرين أن يتحدث عن بداية هدايته فقال:
حقيقةً .. لكل هداية بداية
…
ثم قال بفطرتي كنت أؤمن بالله، وحينما كنتُ في سن الصغر أمارس العبادات كان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأن أبلغ مبلغ الرجال فكنتُ أتساهل في فترات معينة بالصلاة فإذا حضرتُ جنازة أو مقبرة، أو سمعتُ موعظةً في مسجد ازدادتْ عندي نسبة الإيمان فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنن ثم بعد أسبوع أو أسبوعين أترك السنن
…
وبعد أسبوعين أترك الفريضة حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلى ..
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم لم أستفد من ذلك المبلغ شيئاً وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة لأن من شبّ علي شيء شاب عليه.
وتزوجت
…
فكنت أصلي أحياناً وأترك أحياناً على الرغم من إيماني الفطري بالله .. حتى شاء الله تبارك وتعالى في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله وهو الشيخ سليمان بن محمد بن فايع بارك الله فيه، وهذا كان في سنة 1387هـ نزلت من مكتبي وأنا مفتش في التربية الرياضية وكنتُ ألبس الزي الرياضي والتقيتُ به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية فحييته لأنه كان زميل الدراسة وبعد التحية أردتُّ أن أودعه فقال لي إلى أين؟ ـ وكان هذا في رمضان ـ فقلت له: إلى البيت لأنام .. وكنت في العادة أخرج من العمل ثم أنام إلى المغرب ولا أصلى العصر إلا إذا استيقظت قبل المغرب وأنا صائم .. فقال لي: لم يبق على صلاة العصر إلا قليلاً فما رأيك لو نتمشى قليلا؟ فوافقته على ذلك ومشينا على أقدامنا وصعدنا إلى السد (سد وادي أبها) ـ ولم يكن آنذاك سداً ـ وكان هناك غدير وأشجار ورياحين طيبة فجلسنا هناك حتى دخل وقت صلاة العصر وتوضأنا وصلينا ثم رجعنا وفي الطريق ونحن عائدون
…
ويده بيدي قرأ علي حديثاً كأنما أسمعه لأول مرة وأنا قد سمعته من قبل لأنه حديث مشهور
…
لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له حتى كأني أسمعه لأول مرة
…
هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يُلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ قالها مرتين أو ثلاثاً ـ ثم قال (إن المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه .. ) الحديث.
فذكر الحديث بطوله من أوله إلى آخره وانتهى من الحديث حينما دخلنا أبها وهناك سنفترق حيث سيذهب كل واحد منا إلى بيته فقلت له: يا أخي من أين أتيت بهذا الحديث؟ قال: هذا الحديث في كتاب رياض الصالحين فقلت له: وأنت أي كتاب تقرأ؟ قال أقرأ كتاب الكبائر للذهبي .. فودعته .. وذهبتُ مباشرة إلى المكتبة ـ ولم يكن في أبها آنذاك إلا مكتبة واحدة وهي مكتبة التوفيق ـ فاشتريتُ كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين وهذان الكتابان أول كتابين أقتنيهما.
وفي الطريق وأنا متوجه إلى البيت قلت لنفسي: أنا الآن على مفترق الطريق وأمامي الآن طريقان الطريق الأول طريق الإيمان الموصل إلى الجنة، والطريق الثاني طريق الكفر والنفاق والمعاصي الموصل إلى النار وأنا الآن أقف بينهما فأي الطريقين أختار؟
العقل يأمرني باتباع الأول
…
والنفس الأمارة بالسوء تأمرني باتباع الطريق الثاني وتمنيني وتقول لي: إنك مازلت في ريعان الشباب وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة فبإمكانك التوبة فيما بعد.
هذه الأفكار والوساوس كانت تدور في ذهني وأنا في طريق إلى البيت
…
وصلتُ إلى البيت وأفطرت وبعد صلاة المغرب صليت العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح ولم أذكر أني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة .. وكنت قبلها أصلي ركعتين فقط ثم أنصرف وأحياناً إذا رأيت أبي أصلي أربعاً ثم أنصرف .. أما في تلك الليلة فقد صليت التراويح كاملةً .. وانصرفت من الصلاة وتوجهت بعدها إلى الشيخ سليمان في بيته، فوجدته خارجاً من المسجد فذهبت معه إلى البيت وقرأنا في تلك الليلة ـ في أول كتاب الكبائر ـ أربع كبائر الكبيرة الأولى الشرك بالله والكبيرة الثانية السحر والكبيرة الثالثة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة وانتهينا من القراءة قبل وقت السحور فقلت لصاحبي: أين نحن من هذا الكلام فقال: هذا موجود في كتب أهل العلم ونحن غافلون عنه .. فقلت: والناس أيضاً في غفلة عنه فلابدّ أن نقرأ عليهم هذا الكلام.
قال: ومن يقرأ؟ قلت له: أنت. قال: بل أنت واختلفنا من يقرأ وأخيراً استقر الرأي علي أن أقرأ أنا.
فأتينا بدفتر وسجّلنا فيه الكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة. وفي الأسبوع نفسه، وفي ويوم الجمعة وقفت في مسجد الخشع الأعلى الذي بجوار مركز الدعوة بأبها ـ ولم يكن في أبها غير هذا الجامع إلا الجامع الكبير ـ فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي كانت سبباً ولله الحمد في هدايتي واستقامتي وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه إنه سميع مجيب.
(توبة المفكر سيد قطب رحمه الله (1):
في قرية صغير في صعيد مصر ولد سيد قطب رحمه الله، ونشأ في أسرة متدينة متوسطة الثراء، وقد حرص والداه على تحفيظه القرآن الكريم في صغره، فما أتمّ العاشرة إلا وقد حفظه كاملاً ..
(1) انظر كتاب (شيد قطب
…
من القرية إلى المشنقة) لعادل حمودة.
ولما بلغ التاسعة عشرة عاش فترة من الضياع، وصفها بنفسه بأنه كانت (فترة إلحاد) حيث قال: (ظللت ملحداً أحد عشر عاماً حتى عثرت على الطريق إلى الله، وعرفت طمأنينة الإيمان.
وفي سنة 1948م غادر سيد القاهرة متوجهاً إلى أمريكا في بعثة لوزارة المعارف آنذاك، فكانت تلك الرحلة هي بداية الطريق الجديد الذي هداه الله إليه، ووفقه لسلوكه والسير فيه.
كان سفره على ظهر باخرة عبرت به البحر المتوسط والمحيط الأطلسي
…
وهناك على ظهر الباخرة، جرت له عدة حوادث أثرت في حياته فيما بعد، وحددت له طريقه، ولذلك ما إن غادر الباخرة في الميناء الأمريكي الذي وصل إليه، وما إن وطئت قدماه أرض أمريكا حتى كان قد عرف طريقه، وحدد رسالته، ورسم معالم حياته في الدنيا الجديدة.
والآن
…
لنترك الحديث لسيد ليخبرنا عما حدث له على ظهر السفينة يقول:
(منذ حوالي خمسة عشر عاماً
…
كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام، على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة ليس فيهم مسلم.
وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة!
والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا!
وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزياً ـ أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها ـ وكلهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي منهم معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة.
وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.
وقمت بخطبة الجمعة، وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون، يرقبون صلاتنا!
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القداس)!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا.
ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية (1) هاربة من جحيم (تيتو) وشيوعيته ـ كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعره
…
جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول ـ في إنجليزية ضعيفة ـ إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه، وما فيها من خشوع، ونظام وروح
…
الخ (2)
(1) المسيح عليه السلام، بريء منهم، بعد أن حرفوا دينهم والصحيح أن يقال نصرانية.
(2)
الظلال 3، 1786.
وبعد ذلك كله
…
وفي ظلال هذه الحالة الإيمانية، راح سيد يخاطب نفسه قائلا:
(أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المبتعثين العاديين، الذين يكتفون بالأكل والنوم، أم لابدّ من التميز بسمات معينة؟!
وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه، والالتزام بمناهجه في الحياة وسط المعمعان المترف المزوّد بكل وسائل الشهوة واللذة الحرام؟
…
)
قال: ورأيت أن أكون الرجل الثاني، (المسلم الملتزم)، وأراد الله أن يمتحنني هل أنا صادق فيما اتجهت إليه أم هو مجرد خاطرة؟!
وكان ابتلاء الله لي بعد دقائق من اختياري طريق الإسلام، إذ ما إن دخلتُ غرفتي حتى كان الباب يقرع
…
وفتحتُ
…
فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة، فارعة الطول، شبه عارية، يبدو من مفاتن جسمها كل ما يغري
…
وبدأتني بالإنجليزية قائلة: هل يسمح لي سيدي بأن أكون ضيفة عنده هذه الليلة؟
فاعتذرتُ بأن الغرفة معدة لسرير واحد، وكذا السرير لشخص واحد
…
فقالت: وكثيراً ما يتسع السرير الواحد لاثنين!!
واضطررت أمام وقاحتها ومحاولتها الدخول عنوة لأن أدفع الباب في وجهها لتصبح خارج الغرفة، وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية في الممر، فقد كانت مخمورة
…
فقلت: الحمد لله
…
هذا أول ابتلاء
…
وشعرتُ باعتزاز ونشوة، إذ انتصرت على نفسي
…
وبدأت تسير في الطريق الذي رسمته لها (1)
ولقد واجه سيد رحمه الله ابتلاءات كثيرة بعد ذلك ولكنه تغلّب عليها وانتصر على نفسه الأمارة بالسوء!
ولما وصل إلى أمريكا، يحدثنا عما رأى فيقول: ولقد كنت ـ في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية ـ أرى رأي العين مصداق قول الله تعالى: (فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ)[الأنعام: 44] فإن المشهد الذي ترسمه الآية مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب، لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك!
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه
…
وشعورهم بأنه وَقف على الرجل الأبيض
…
وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية كذلك بشعة
…
وفي صلف على أهل الأرض كلهم، كنتُ أرى هذا كله فأذكر هذه الآية
…
وأتوقع سنة الله
…
وأكاد أرى خطواتها وهي تدبّ إلى الغافلين (2).
(1) انظر (أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب)، للدكتور صلاح الخالدي.
(2)
الظلال 2، 1091 باختصار.
وبعد سنتين قضاهما سيد في أمريكا، عاد رحمه الله إلى مصر
…
ولكنه عاد رجلاً آخر
…
رجلاً مؤمناً ملتزماً صاحب رسالة ودعوة وغاية.
رحم الله سيداً وأسكنه فسيح جناته وعفا عنا وعنه.
(توبة الشرطيين شهدا إعدام سيد قطب رحمه الله (1):
إن في بذل العلماء والدعاة والمصلحين أنفسهم في سبيل الله حياة للناس، إذا علموا صدقهم؛ وإخلاصهم لله عز وجل.
ومن هؤلاء الدعاة والمفكرين .. (سيد قطب) رحمه الله، فقد كان لمقتله أثر بالغ في نفوس من عرفوه وعلموا صدقه، ومنهم اثنان من الجنود الذين كُلفّوا بحراسته وحضروا إعدامه.
يروي أحدهما القصة فيقول:
هناك أشياء لم تكن نتصورها هي التي أدخلت التغيير الكلي على حياتنا ..
في السجن الحربي كنا نستقبل كل ليلة أفراداً أو مجموعات من الشيوخ والشباب والنساء، ويقال لنا: هؤلاء من الخونة الذين يتعاونون مع اليهود ولابدّ من استخلاص أسرارهم .. ولا سبيل إلى ذلك إلا بأشدّ العذاب. وكان ذلك كافياً لتمزيق لحومهم بأنواع السياط والعصي .. كنا نفعل ذلك ونحن مُوقنون إننا نؤدي واجباً مقدّساً
…
إلا أننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام أشياء لم نستطع لها تفسيراً، لقد رأينا هؤلاء (الخونة)، مواظبين على الصلاة أثناء الليل وتكاد ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله حتى عند البلاء.
بل إن بعضهم كان يموت تحت وقع السياط، أو أثناء هجوم الكلاب الضارية عليهم، وهو مبتسمون على الذكر.
ومن هنا
…
بدأ الشك يتسرب إلى نفوسنا
…
فلا يعقل أن يكون مثل هؤلاء المؤمنين الذاكرين من الخائنين المتعاملين مع أعداء الله.
واتفقتُ أنا وأخي هذا سراً على أن نتجنب إيذائهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، وأن نقدم لهم كل ما نستطيع من العون.
ومن فضل الله علينا أن وجودنا في ذلك السجن لم يستمر طويلاً
…
وكان آخر ما كُلفنا به من عمل هو حراسة الزنزانة التي أفرد فيها أحدهم وقد وصفوه لنا بأنه أخطرهم جميعاً، أو أنه رأسهم المفكر وقائدهم المدبر (2)
وكان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادراً معه على النهوض، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التي تنظر في قضيته.
(1) مجلة الدعوة السعودية/ العدد 1028/ بقلم: محمد المجذوب، باختصار.
(2)
هو سيد رحمه الله
وذات ليلة جاءت الأوامر بإعداده للمشنقة، وأدخلوا عليه أحد الشيوخ!!! ليذكره ويعظه!!! وفي ساعة مبكرة من الصباح التالي، أخذت أنا وأخي بذراعيه نقوده إلى السيارة المغلقة التي سبقنا إليها بعض المحكومين الآخرين
…
وخلال لحظات انطلقت بنا إلى مكان الإعدام
…
ومن خلفنا بعض السيارات العسكرية تحمل الجنود المدججين بالسلاح للحفاظ عليهم
وفي مثل لمح البصر أخذ كل جندي مكانه المرسوم محتضناً مسدسه الرشاش، وكان المسئولون هناك قد هيئوا كل شيء
…
فأقاموا من المشانق مثل عدد المحكومين
…
وسيق كل منهم إلى مشنقة المحددة، ثم لفّ حبلها حول عنقه، وانتصب بجانب كل واحدة (العشماوي) الذي ينتظر الإشارة لإزاحة اللوح من تحت قدمي المحكوم .. ووقف تحت كل راية سوداء الجندي المكلف برفعها لحظة التنفيذ.
كان أهيب ما هنالك تلك الكلمات التي جعل يوجهها كل من هؤلاء المهيئين للموت إلى إخوانه، يبشره بالتلاقي في جنة الخلد، مع محمد وأصحابه، ويختم كل عبارة الصيحة المؤثرة: الله أكبر والله الحمد.
في هذه اللحظات الرهيبة سمعنا هدير سيارة تقترب، ثم لم تلبث أن سكت محركها، وفتحت البوابة المحروسة، ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية، وهو يصيح بالجلادين: مكانكم!
ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره على جانبي المشنقة، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينه، ورفع الحبل عن عنقه، جعل يكلمه بصوت مرتعش:
يا أخي .. سيد .. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس الحليم الرحيم، كلمة واحدة تدليها بتوقيعك، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء.
ولم ينتظر الجواب، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول: اكتب يا أخي هذه العبارة فقط: (لقد كنت مخطئاً وإني أعتذر
…
).
ورفع سيد عينه الصافيتين، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها .. وقال للضابط في هدوء عجيب: أبداً .. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول!
قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن
…
ولكنه الموت يا سيد.
وأجاب سيد: (يا مرحباً بالموت في سبيل الله .. )، الله أكبر!! هكذا تكون العزة الإيمانية، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار، فأشار الضابط للعشماوي بوجوب التنفيذ.
وسرعان ما تأرجح جسد سيد رحمه الله وإخوانه في الهواء
…
وعلى لسان كل منهم الكلمة التي لا نستطيع لها نسياناً، ولم نشعر قط بمثل وقعها في غير ذلك الموقف، (لا إله إلا الله، محمد رسول الله
…
)
وهكذا كان هذا المشهد سبباً في هدايتنا واستقامتنا، فنسأل الله الثبات.
(توبة الشيخ عادل الكلباني (1):
جامع الملك خالد بأم الحمام من المعالم البارزة في مدينة الرياض، مئات المصلين يقصدون هذا المسجد في رمضان وغيره، ليستمعوا إلى الشيخ عادل الكلباني (إمام المسجد) بصوته الخاشع الجميل، ونبرته الحزينة المؤثرة، وكغيره من شباب الصحوة كانت له قصة مع الهداية، يرويها لنا فيقول:
لم أكن ضالاًّ بدرجة كبيرة نعم .. كانت هناك كبائر وهفوات أرجعها إلى نفسي أولا، ثم إلى الأسرة والمجتمع.
لم يأمرني أحد بالصلاة يوماً، لم ألتحق بحلقة أحفظ فيها كتاب الله، عشتُ طفولتي كأي طفل في تلك الحقبة، لَعِبٌ ولهوٌ وتلفاز و (دنّانة) و (سيكل) ومصاقيل و (كعابة)، وتتعلق بالسيارات، ونجوب مجرى البطحاء، ونتسكع في الشوارع بعد خروجنا من المدرسة، ونسهر على التلفاز والرحلات وغيرها.
لم نكن نعرف الله إلا سَمَاعاً، ومن كانت هذه طفولته فلابدّ أن يشبّ على حب اللهو والمتعة والرحلات وغيره، وهكذا كان.
وأعتذر عن التفصيل والاسترسال، وأنتقل بكم إلى بداية التعرف على الله تعالى، ففي يوم من الأيام قمتُ بإيصال والدتي لزيارة إحدى صديقاتها لمناسبة ما ـ لا أذكر الآن ـ المهم أني ظللت أنتظر خروجها في السيارة، وأدرتُ جهاز المذياع، فوصل المؤشر ـ قَدَراً ـ إلى إذاعة القرآن الكريم، وإذ بصوت شجي حزين، يُرتل آيات وقعتْ في قلبي موقعها السديد لأني أسمعها لأول مرة:(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19]. صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله، كان مؤثراً جداً.
صحيح أني لم أهتدي بعدها مباشرة، لكنها كانت اللبنة الأولى لهدايتي، وكانت تلك السنة سنة الموت، مات فيها عدد من العظماء والسياسيين والمغنين، وظل معي هاجس الموت حتى كدت أصاب بالجنون، أفزع من نومي، بل طار النوم من عيني، فلا أنام إلا بعد أن يبلغ الجهد مني مبلغه. أقرأ جميع الأدعية، وأفعل جميع الأسباب ولكن لا يزال الهاجس.
بدأت أحافظ على الصلاة في وقتها مع الجماعة، وكنت فيها متساهلا، ولكن كنت أهرب من الصلاة، أقطعها، خوفاً من الموت. كيف أهرب من الموت؟ كيف أحِيدُ منه؟ لم أجد إلا مفراً واحداً، أن أفرُّ إلى الله، من هو الله؟ إنه ربي .. إذن فلأتعرّف عليه.
(1) كتبها لي بنفسه جزاء الله خيراً.
تفكرت في القيامة .. في الحشر والنشر .. في السماء ذات البروج .. في الشمس وضحاها .. في القمرِ إذا تلاها، وكنت أقرأ كثيراً علماً بأني كنتُ محباً لكتاب الله حتى وأنا في الضلالة .. ربما تستغربون أني حفظتُ بعض السور في مكان لا يُذكر بالله أبداً.
عشتُ هذه الفترة العصيبة التي بلغت سنين عدداً حتى شمَّرت عن ساعد الجدِّ، ورأيت فعلاً أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن الموت آت لا ريب فيه، فليكن المرء منا مستعداً لهذا:(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]. تفكروا ـ إخواني ـ في هذه الآية ترَوا عجباً، تفكروا في كل ما حولكم من آيات الله، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟ عقلاً ستدركون أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور .. فكيف ـ إذن ـ يكون الحل؟ .. أن نعود إلى الله، أن نتوب إليه، أن نعمل بطاعته.
المهم أني عدت إلى الله، وأحببت كلامه سبحانه، ومع بداية الهداية بدأ ارتباطي الحقيقي بكتاب الله العظيم، كنتُ كلما صليتُ خلف إمام أعجبتني قراءته أو الآيات التي قرأها، أعود مباشرة إلى البيت لأحفظها، ثم عُيِّنتُ إماماً بجامع صلاح الدين بالسليمانية، وصليت بالناس في رمضان صلاة التراويح لعام 1405هـ نظراً من المصحف، وبعد انتهاء الشهر عاهدتُ الله ثم نفسي أن أحفظ القرآن وأقرأه عن ظهر قلب في العام القادم بحول الله وقوته، وتحقق ذلك، فقد وضعت لنفسي جدولاً لحفظ القرآن بدأ من فجر العاشر من شهر شوال من ذلك العام، واستمر حتى منتصف شهر جماد الآخرة من العام الذي بعده (1406هـ)، في هذه الفترة أتممت حفظ كتاب الله ولله الحمد والمنة.
وقد كانت (نومة بعد الفجر) عائقاً كبيراً في طريقي آنذاك، كنت لا أستطيع تركها إطلاقاً إلى أن أعانني الله، وعالجتها بالجد والمثابرة والمصابرة، حتى أني كنت أنام أحيانا والمصحف على صدري، ومع الإصرار والمجاهدة أصبحت الآن لا أستطيع النوم بعد صلاة الفجر إطلاقاً.
ثم وفقني الله فعرضت المصحف على شيخي فضيلة الشيخ أحمد مصطفى أبو حسين المدرس بكلية أصول الدين بالرياض، وفرغت من ذلك يوم الثلاثاء 19رمضان 1407هـ، وكتب لي الشيخ إجازة بسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية حفص عن عاصم، ولعل الله أن يوفقني لإتمام العشر بحوله وقوته.
هذه قصتي مع القرآن ونصيحتي لكل من يريد أن يحفظ القرآن أن يحفظ القرآن.
وكلمة في ذيل القصة أشير فيها إلى مسئولية الأسرة في تربية الابن، ومسئولية المجتمع، ومسئولية الفرد نفسه، في التفكر والبحث عن الحقيقة والعمل بها.
ثم أشير إلى أهمية كتاب الله، هذا الكتاب العظيم الذي يطبع بالملايين، وتصدر التسجيلات الإسلامية مئات الأشرطة منه .. تريدون الخير في الدنيا عليكم به، تريدون الخير في الآخرة عليكم به .. فوالله الذي رفع السماوات بغير عَمَدٍ لا أجد في شخصي شيئاً أستحق به أن أصدّر في المجالس، أو أن يشار إليّ ببنان مسلم، أو أن يحبني شخص وهو لم يَرَني
…
إلا بفضل كتاب الله عليّ .. ما أهون هذا العبد الأسود على الناس لولا كتاب الله بين جنبيه .. وكلما تذكرت هذا لا أملك دمعة حَرَّى تسيل على مُقْلَتي فألجأ إلى الله داعياً أن يكون هذا القرآن أنيساً لي يوم أموت، وحين أوسَّد في التراب دفيناً، وحين أُبعث من قبري إلى العرض على ربي.
أرجوه ـ جلت قدرته ـ أن يقال لي: اقرأ وارق، ورتّل كما كنت تُرتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
وأسأله ـ جلت قدرته ـ أن أكون مع السّفرَة الكرام البَررة، وأن يجعل حب الناس لي عنوان محبته، ورفعهم لي رفعة لدرجتي في الجنة إنه جواد كريم.
ثم اسمعوا ما قاله القحطاني رحمه الله في نونيته:
أنت الذي أدنيتني وحبوتني
…
وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب محبةً
…
والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسناً
…
وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البرية شائعاً
…
حتى جعلت جميعهم إخواني
والله لو علموا قبيح سريرتي
…
لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني ومَلوا صُحْبَتي
…
ولبُؤت بعد قرابة بهوانٍ
لكن سترت معايبي ومثالبي
…
وحَلِمتَ عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها
…
بخواطري وجوارحي ولساني
أخوكم
العبد الفقير إلى رحمة ربه المنان
أبو عبد الله عادل بن سالم الكلباني
(توبة شيوعي (1):
قال سيد قطب رحمه الله تعالى: (إن أقصى مدى أتصوره للمد الشيوعي لن يتجاوز جيلنا هذا الذي نحن فيه وأوائل الجيل القادم إذا سارت الأمور سيرتها الحالية)(2).
هذا ما تصوره سيد رحمه الله قبل ما يقارب من ثلاثين عاماً، فلم تمضِ سنوات معدودة حتى كانت الشيوعية قد سقطت وأفلس أصحابها.
وأترككم الآن مع صاحبنا ليروي لنا رحلته من الشيوعية مروراً بالصوفية وانتهاءً بالعقيدة السلفية النقية،
يقول:
(1) كتبها لي بنفسه.
(2)
نحو مجتمع إسلامي ص 39 ط 6.
كنت شيوعياً داعياً إلى الإلحاد، جنّدتُ كثيراً من الشباب ـ من الجنسين ـ في الأحزاب الشيوعية، وترقيتُ في مراتبها حتى وصلتُ إلى مرتبةٍ عاليةٍ، ثم تبيَن لي سخف هذه العقيدة وهذا الفكر وضلاله ومصادمته للفطرة الإنسانية، فقررتُ تركه إلى غير رجعة، فبحثتُ عن الإسلام فوجدته ـ بحسب فمهي الوراثي ـ عند المتصوفة؛ فاعتنقتُ الطريقة السمانية، ومؤسسها في الأصل من طيبة الطيبة، ومقرها الآن بالسودان، وهذه الطريقة تعتقد من العقائد الكفرية ما الله به عليم، ولها مؤلفات درستُ أهمها، وكنت أعتقدُ أني قد أحسنتُ صنعاً، وفرح أهلي وأصدقائي من الطرق الأخرى بتركي للحزب الشيوعي واختياري لطريقة آبائي وأجدادي، وترقيتُ في هذه الطريقة حتى وصلتُ إلى مرتبة (شيخ) وأُجزتُ في أخذ العهد على المريدين (!!)، وإرشاد العباد من الجنسين، وإعطاء الأوراد المبتدعة، وعلاج المرضى] الجن [
…
الخ.
وحصلتْ لي بعض الخوارق للعادة فكنتُ أظنها ـ والناس كذلك ـ تكريماً من الله وهي في الحقيقة إضلال الشيطان وتلبيسهم.
ولا أجد حرجاً أن أقول أنني قد استفدتُ من الحزب الشيوعي كثرة الإطلاع والجدال، الأمر الذي جعلني أتطاول وأقرأ ـ لمجرد النقد ـ كتاب (صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان)، وهو كتاب قيم في الرد على المتصوفة والخرافيين، فكانت النتيجة تركي للطريقة السمانية، وبدأتُ أقرأ في كتب مَن كنت أبغضهم بغضي للشيطان أو أشد، وهم الآن من أحب الناس إليّ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب عليهم رحمة الله جميعاً وغيره من أصحاب العقيدة السلفية النقية، والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنتُ لأهتدي لو لا أن هداني الله، وإني بهذه المناسبة أنصح إخواني المسلمين لا سيما من ابتلوا باتباع هذه الطرق وهذه الأحزاب بأن يُعملوا عقولهم ويتجردوا للحق، ويحذروا من الدجاجلة والمخرفين، ولا يقولوا كما قال أهل الجاهلية:(قَالُوَاْ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّهْتَدُونَ)[الزخرف: 22] والله الهادي إلى سواء السبيل. (1)
(توبة قبوري (2):
(1) يراجع في موضوع الصوفية كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) لبعد الرحمن عبد الخالق.
(2)
حدثني بها بنفسه ..
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفنتة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم واتخذتْ أوثاناً، وبُنيت عليها الهياكل والأنصاب
…
) إلى أن قال: (فلو رأيتَ غلاة المتخذين لها عيداً؛ وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعتْ أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا .. ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنه قد أحرزوا من الأجر فوق أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملئوا أكفّهم خيبة وخسراناً، فلغير الله بل للشيطان ما يُراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت الحاجات، ويُسأل من تفيرج الكُربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يُفعل به وفدُ بيت الله الحرام؟ ثم عفّروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُغفَّر مثل بين يديه في السجود، ثم قرّبوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين .. ).
(إلى أن قال رحمه الله: (هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح
…
) (1)
أخي القارئ: بعد هذه المقدمة الرائعة والتي لا أجد مزيداً عليها؛ أتركك الآن مع صاحب القصة ليحدثنا عن رحلته،
يقول:
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لبن القيم ج 1 ص 182/ 194 باختصار وتصرف. وهو كتاب عظيم جدير بكل مسلم أن يقرأه.
نشأت في مجتمع قبوري وبيئة قبورية قي قرية من قرى باكستان كانت تسمى (مدينة الأولياء) لكثرة ما فيها من الأضرحة والقبور
…
منذ نعومة أظفاري كنت أرى والدي ووالدتي وإخوتي الكبار وسائر أقربائي، بل سائر مَنْ في قريتنا يذهبون إلى ما يسمى بالولي أو السيد، حتى بلغتْ بهم السفاهة إلى أن يذهبوا إلى غرفة خالية، فيها سرير ليس عليه أحد، ويزعمون أنه ضريح الولي الحي الذي لا يموت، وينسون قول الله عز وجل:(إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر:14] كنت أشاركهم في شركهم وطقوسهم وخرافاتهم، حتى أصبحت تلك الخرافات عقيدة راسخة في قلبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه .. ) الحديث.
فلو مِتُّ على هذه العقيدة لكنتُ من أهل النار: (إنه من يُشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنةَ ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
ظللتُ على هذه العقيدة الشركية حتى بعد أن أصبحتُ زوجاً وأباً، فكنتُ أربّي أولادي على هذه العقيدة .. أحملهم إلى ضريح الولي المزعوم فأحلق شعر أحدهم هناك تقرباً وتبركاً (!!!)، وأحمل معي الهدايا والقربات والذبائح والنذور، وأرش الماء على القبر
…
ولئن كان غيري متعلماً، فقد كنتُ أمياً جاهلاً، حتى يسّر الله لي القدوم إلى هذه البلاد. مهبط الوحي ومنبع الرسالة، فلم أجد فيها ما كنتُ معتاداً عليه من الأضرحة والقبور ومظاهر الشرك، ومع ذلك لم أفكر في تغيير عقيدتي الباطلة، كنتُ متعلقاً بتلك الأضرحة وإن كانت بعيدة عني، وليس أعجب من ذلك أنني لم أكن أصلي الصلوات المفروضة، بل حتى الجمعة لا أحضرها، وأدخن بشراهة، وأرتكبُ كثيراً من المحرمات .. ! فليس بعد الكفر ذنباً.
ويشاء الله عز وجل أن ألتقيَ بأحد الدعاة الباكستانيين مَن الذين درسوا في هذه البلاد، وبعد محاورات لم تدم طويلاً استطاع أن ينتشلني من أوحال الشرك وغَوره السحيق، إلى رياض التوحيد في علو سامق، حيث استنشقت عبير الإيمان الصحيح، وها أنذا اليوم أنظر إلى أهلي وقومي من هذا العلو، أمد لهم يدي، أحاول انتشالهم من مستنقعات الشرك الآسنة:(ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
(توبة الشيخ محمد جميل زينو من ضلالات الصوفيّة:
الشيخ محمّد جميل زينو – حفظه الله – عرفناه من خلال مؤلّفاته النافعة التي تُعنى بنشر العقيدة السلفيّة، وبيانها بأسلوب واضح ميسر، وقد نفع الله بهذه المؤلّفات، وهدى بها من الضلال بإذنه .. وللشيخ قصّته مع الهداية إلى هذه العقيدة الصحيحة، وقد رواها بنفسه (1)، فقال:
ولدتُ في مدينة حلب بسورية .. ولمّا بلغتُ العاشرة من عمري التحقتُ بمدرسة خاصّة تعلّمت فيها القراءة والكتابة، ثم التحقت بمدرسة دار الحفّاظ لمدّة خمس سنين حفظت خلالها القرآن الكريم كاملاً ولله الحمد، ثمّ التحقت بما يسمّى آنذاك بالكليّة الشرعيّة التجهيزيّة ـ وهي الآن الثانوية الشرعيّة ـ وهي تابعة للأوقاف الإسلامية، وهذه المدرسة تجمع بين تدريس العلوم الشرعيّة والعصريّة.
وأذكر أنّني درست فيها علم التوحيد في كتاب اسمه: ((الحصون الحميديّة)) والذي يقرّر فيه مؤلّفه توحيد الربوبيّة، وأنّ لهذا العالم ربّاً وخالقاً! ..
…
وقد تبيّن لي فيما بعد خطأ هذا المنهج في تقرير العقيدة، فإنّ المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرّين بأنّ الله هو الخالق الرازق:((وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (الزخرف: 87)، بل إنّ الشيطان الذي لعنه الله كان مقرّاً بذلك؛ ((قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)) (الحجر: 39).
أمّا توحيد الإله الذي هو الأساس والذي به ينجو المسلم، فلم أدرسه ولا كنت أعلم عنه شيئاً.
كنت نقشبنديّاً:
(1) - انظر: كتابه (كيف اهتديت)، وقد أطال في ذكر قصّته والتعليق على أحداثها، وقد ذكرتها هنا باختصار وتصرّف يسير.
لقد كنت منذ الصغر أحضر الدروس وحلقات الذكر في المساجد، وقد شاهدني شيخ الطريقة النقشبندية فأخذني إلى زاوية المسجد، وبدأ يعطيني أوراد الطريقة النقشبندية، ولكن لصغر سنّي لم أستطع أن أقوم بها، لكنّي كنت أحضر مجالسهم مع أقاربي في الزوايا، وأستمع إلى ما يردّوونه من أناشيد وقصائد، وحينما يأتي ذكر اسم الشيخ كانوا يصيحون بصوت مرتفع، فيزعجني هذا الصوت المفاجئ، ويسبب لي الرعب والهلع، وعند ما تقدّمت بي السنّ بدأ قريب لي يأخذني إلى مسجد الحيّ لأحضر معه ما يسمّى بالختم، فكنّا نجلس على شكل حلقة، فيقوم أحد الشيوخ ويوزّع علينا الحصى ويقول:((الفاتحة الشريفة، الإخلاص الشريف))، فنقرأ بعدد الحصى سورة الفاتحة وسورة الإخلاص، والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي يحفظونها، ويجعلون ذلك آخر ذكرهم. ثم يقول الشيخ الموكّل، لأنّ الشيخ ـ بزعمهم ـ هو الذي يربطهم بالله؛ فيهمهمون، ويصيحون، ويعتريهم الخشوع، حتّى إنّ أحدهم ليقفز فوق رؤوس الحاضرين كأنّه البهلوان من شدّة الوجد .. إلى آخر ما كانوا يفعلونه من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
كيف اهتديت إلى التوحيد؟
كنت أقرأ على شيخي الصوفيّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله .. ))
فأعجبني شرح الإمام النوويّ رحمه الله حين قال: (ثمّ إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه، كطلب الهداية والعلم، وشفاء المرضى، وحصول العافية، سأل ربّه ذلك. وأمّا سؤال الخلق، والاعتماد عليهم فمذموم)).
فقلت للشيخ: هذا الحديث وشرحه يفيدان عدم جواز الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
فقال لي: بل تجوز!!
قلت له: وما الدليل؟ فغضب الشيخ، وصاح قائلاً: إنّ عمّتي كانت تقول: يا شيخ سعد (وهو من الأولياء المزعومين الأموات) فأقول لها: يا عمّتي، وهل ينفعك الشيخ سعد؟ فتقول: أدعوه فيتدخّل على الله فيشفيني!!
قلت له: إنّك رجل عالم، قضيت عمرك في قراءة الكتب، ثمّ تأخذ عقيدتك من عمّتك الجاهلة!!
فقال لي: عندك أفكار وهّابيّة! (نسبة إلى الشيخ المجدد محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله.
وكنت لا أعرف شيئاً عن الوهّابية إلا ما أسمعه من المشايخ، فيقولون عنهم: إنّهم مخالفون للناس، لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم المزعومة، ولا يحبّون الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من التهم الكثيرة الكاذبة التي لا حقيقة لها.
فقلت في نفسي؛ إن كانت الوهّابيّة تؤمن بالاستعانة بالله وحده، وأنّ الشافي هو الله وحده، فلا بدّ أن أتعرّف عليها.
وبحثت عن هذه الجماعة، فاهتديت إليها، كان لهم لقاء مساء كلّ خميس يتدارسون فيه التفسير والفقه والحديث، فذهبت إليهم بصحبة أولادي وبعض الشباب المثقّف .. دخلنا غرفة كبيرة، وجلسنا ننتظر الدرس، وبعد برهة من الزمن دخل الشيخ، فسلّم علينا، ثمّ جلس على مقعده، ولم يقم له أحد، فقلت في نفسي، هذا الشيخ متواضع، لا يحب القيام له.
وبدأ الشيخ درسه بقوله: إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره .. إلى آخر الخطبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه، ثمّ بدأ يتكلّم باللغة العربية الفصحى، ويورد الأحاديث، ويبيّن صحّتها وراويها، ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر اسمه. وفي ختام الدرس وجّهت له الأسئلة فكان يجيب عليها بالدليل من الكتاب والسنّة، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يردّ سائلاً أو متكلماً، ثمّ قال في آخر درسه: الحمد لله، إنّنا مسلمون سلفيون، وبعض الناس يقولون إنّنا وهّابيون، فهذا تنابز بالألقاب، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله:((وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)) (الحجرات: 11).
ولمّا انتهى الشيخ من درسه، خرجنا ونحن معجبين بعلمه وتواضعه، وسمعت أحد الشباب يقول: هذا هو الشيخ الحقيقيّ.
ومن هنا بدأت رحلتي إلى التوحيد الخالص، والدعوة إليه، ونشره بين الناس اقتداء بسيّد البشر صلى الله عليه وسلم. وإنّي لأحمد الله عز وجل الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، والحمد لله أوّلاً و آخراً.
(القسم الثاني: توبة الفنانين والفنانات:
(القسم الثاني: توبة الفنانين والفنانات:
(توبة الممثلة شمس البارودي (1):
في حوار أجرته إحدى الصحف مع شمس البارودي الممثلة المعروفة التي اعتزلت التمثيل وردّاً على سؤال عن سبب هدايتها قالت:
(1) من كتابها (رحلتي من الظلمات إلى النور) من ص 16 - 29.
البداية كانت في نشأتي .. والنشأة لها دور مهم، والدي بفضل الله رجل متدين، التدين البسيط العادي .. وكذلك كانت والدتي ـ رحمهما الله ـ كنت أصلي ولكن ليس بانتظام .. كانت بعض الفروض تفوتني ولم أكن أشعر بفداحة ترك فرض من فروض الصلاة .. وللأسف كانت مادة الدين في المدارس ليست أساسية وبالطبع لم يكن يرسب فيها أحد ولم يكن الدين عِلماً مثل باقي العلوم الأخرى الدنيوية .. وعندما حصلت على الثانوية العامة كانت رغبتي إما في دخول كلية الحقوق أو دراسة الفنون الجميلة، ولكن المجموع لم يؤهلني لأيهما .. فدخلت معهد الفنون المسرحية، ولم أكمل الدراسة فيه حيث مارست مهنة التمثيل .. وأشعر الآن كأنني دفعت إليها دفعاً .. فلم تكن في يوم من الأيام حلم حياتي ولكن بريق الفن والفنانين والسينما والتليفزيون كان يغري أي فتاة في مثلي سني ـ كان عمري آنذاك 16 - 17 سنة ـ خاصة مع قلة الثقافة الدينية الجيدة.
وأثناء عملي بالتمثيل كنت أشعر بشيء في داخلي يرفض العمل حتى أنني كنت أظل عامين أو ثلاثة دون عمل حتى يقول البعض: إنني اعتزلت ..
والحمد لله كانت أسرتي ميسورة الحال من الناحية المادية فلم أكن أعمل لحاجة مادية .. وكنت أنفق العائد من عملي على ملابسي ومكياجي وما إلى ذلك .. استمر الوضع حتى شعرت أني لا أجد نفسي في هذا العمل .. وشعرتُ أن جمالي هو الشيء الذي يُستغل في عملي بالتمثيل .. وعندها بدأت أرفض الأدوار التي تُعرض عليً، والتي كانت تركز دائماً على جمالي الذي وهبني الله إياه وعند ذلك قلّ عملي جداً .. كان عملي بالتمثيل أشبه بالغيبوبة .. كنت أشعر أن هناك انفصاماً بين شخصيتي الحقيقية والوضع الذي أنا فيه .. وكنت أجلس أفكر في أعمالي السينمائية التي يراها الجمهور .. ولم أكن أشعر أنها تعبّر عني، وأنها أمر مصطنع، كنت أحسّ أنني أخرج من جلدي.
وبدأت أمثل مع زوجي الأستاذ حسن يوسف في أدوار أقرب لنفسي فحدثت لي نقلة طفيفة من أن يكون المضمون لشكلي فقط بل هناك جانب آخر. أثناء ذلك بدأت أواظب على أداء الصلوات بحيث لو تركت فرضاً من الفروض استغفر الله كثيراً بعد أن أصلّيه قضاءً .. وكان ذلك يحزنني كثيراً .. كل ذلك ولم أكن ألتزم بالزي الإسلامي.
وقبل أن أتزوج كنتُ أشتري ملابس من أحدث بيوت الأزياء في مصر وبعد أن تزوجت كان زوجي يصحبني للسفر خارج مصر لشراء الملابس الصيفية والشتوية!! .. أتذكر هذا الآن بشيء من الحزن، لأن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغلني.
ثم بدأت أشتري ملابس أكثر حشمةً، وإن أعجبني ثوب بكمّ قصير كنت أشتري معه (جاكيت) لستر الجزء الظاهر من الجسم .. كانت هذه رغبة داخلية عندي.
وبدأت أشعر برغبة في ارتداء الحجاب ولكن بعض المحيطين بي كانوا يقولون لي: إنكِ الآن أفضل!!!.
بدأت أقرأ في المصحف الشريف أكثر .. وحتى تلك الفترة لم أكن قد ختمت القرآن الكريم قراءة، كنت أختمه مع مجموعة من صديقات الدراسة .. ومن فضل الله أنني لم تكن لي صداقات في الوسط الفني، بل كانت صداقاتي هي صداقات الطفولة، كنت أجتمع وصديقاتي ـ حتى بعد أن تزوجت ـ في شهر رمضان الكريم في بيت واحدة منا نقرأ الكريم ونختمه وللأسف لم تكن منهن من تلتزم بالزي الشرعي.
في تلك الفترة كنت أعمل دائماً مع زوجي سواء كان يمثل معي أو يُخرج لي الأدوار التي كنت أمثلها .. وأنا أحكي هذا الآن ليس باعتباره شيئاً جميلاً في نفسي ولكن أتحدث عن فترة زمنية عندما أتذكرها أتمنى لو تمحى من حياتي ولو عدت إلى الوراء لما تمنيت أبداً أن أكون من الوسط الفني!!
كنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة لأن ذلك هو الحق والله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56] كنت عندما أذهب إلى المصيف أتأخر في نزول البحر إلى ما بعد الغروب ومغادرة الجميع للمكان إلا من زوجي، وأنا أقول هذا لأن هناك من تظن أن بينها وبين الالتزام هُوَّةٌ واسعة ولكن الأمر بفضل الله سهل وميسور فالله يقول في الحديث القدسي:(ومن تقرب إلىّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلى ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً).
وكانت قراءاتي في تلك الفترة لبرجسون وسارتر وفرويد وغيرهم من الفلسفات التي لا تقدم ولا تؤخر وكنت أدخل في مناقشات جدلية فلسفية وكانت عندي مكتبة ولكني أحجمت عن هذه القراءات دون سبب ظاهر.
كانت عند رغبة قوية في أداء العمرة وكنت أقول في نفسي: إنني لا أستطيع أن أؤدي العمرة إلا إذا ارتديت الحجاب لأنه غير معقول أن أذهب لبيت الله دون أن أكون ملتزمة بالزي الإسلامي .. لكن هناك من قلنَ لي: لا .. أبداً .. هذا ليس شرطاً .. كان ذلك جهلاً منهن بتعاليم الإسلام لأنهن لم يتغير فيهن شيء بعد أدائهن للعمرة.
وذهب زوجي لأداء العمرة ولم أذهب معه لخوفي أن تتأخر ابنتي عن الدراسة في فترة غيابي .. ولكنها أصيبت بنزلة شعبية وانتقلت العدوى إلى ابني ثم انتقلت إليّ فصرنا نحن الثلاثة مرضى فنظرت إلى هذا الأمر نظرة فيها تدبر وكأنها عقاب على تأخري عن أداء العمرة.
وفي العام التالي ذهبت لأداء العمرة وكان ذلك سنة 1982م في شهر (فبراير) وكنتُ عائدة في (ديسمبر) من باريس وأنا أحمل أحدث الملابس من بيوت الأزياء .. كانت ملابس محتشمة .. ولكنها أحدث موديل .. وعندما ذهبتُ واشتريت ملابس العمرة البيضاء كانت أول مرة ألبس الثياب البيضاء دون أن أضع أي نوع من المساحيق على وجهي ورأيت نفسي أكثر جمالا ..
ولأول مرة سافرت دون أن أصاب بالقلق على أولادي لبُعدي عنهم وكانت سفرياتي تصيبني بالفزع والرعب خوفاً عليهم .. وكنت آخذهم معي في الغالب.
وذهبتُ لأداء العمرة مع وفد من هيئة قناة السويس .. وعندما وصلتُ إلى الحرم النبوي بدأت أقرأ في المصحف دون أن أفهمَ الآيات فهماً كاملاً لكن كان لدي إصرار على ختم القرآن في المدينة ومكة .. وكانت بعض المرافقات لي يسألنني: هل ستتحجبين؟ وكنت أقول: لا أعرف .. كنت أعلق ذلك الأمر على زوجي .. هل سيوافق أم لا
…
ولم أكن أعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الحرم المكي وجدت العديد من الأخوات المسلمات اللائى كُنَّ يرتدين الخمار وكنت أفضل البقاء في الحرم لأقرأ القرآن الكريم وفي إحدى المرات أثناء وجودي في الحرم بين العصر والمغرب التقيتُ بإحدى الأخوات وهي مصرية تعيش في الكويت اسمها (أروى) قرأتْ عليّ أبياتاً من الشعر الذي كتبته هي فبكيت، لأنني استشعرت أنها مسّت شيئاً في قلبي وكنت في تلك الفترة تراودني فكرة الحجاب كثيراً ولكن الذي من حولي كانوا يقولون لي: انتظري حتى تسألي زوجك .. لا تتعجلي
…
أنت مازلتِ شابة
…
الخ) ولكن كانت رغبتي دائماً في ارتداء الحجاب قالت الأخت (أروى):
فليقولوا عن حجابي
…
لا وربي لن أبالي
قد حماني فيه ديني
…
وحباني بالجلال
زينتي دوماً حيائي
…
واحتشامي هو مالي
ألأني أتولى
…
عن متاعٍ لزوالِ
لامني الناس كأني
…
أطلب السوء لحالي
كم لمحت اللوم منهم
…
في حديث أو سؤال
وهي قصيدة طويلة أبكي كلما تذكرتها
…
استشعرت تتحدث بلسان حالي
…
وأنها مست شغاف قلبي.
وبعد ذلك ذهبت لأداء العمرة لأخت لي من أبي توفيت وكنت أحبها كثير رحمها الله وبعد أداء العمرة لم أنم تلك الليلة واستشعرت بضيق في صدري رهيب وكأن جبال الدنيا تجثم فوق أنفاسي
…
وكأن خطايا البشر كلها تخنقني
…
كل مباهج الدنيا التي كنت أتمتع بها كأنها أوزار تكبلني
…
وسألني والدي عن سبب أرقي فقلت له: أريد أن أذهب إلى الحرم الآن
…
ولم يكن الوقت المعتاد لذهابنا إلى الحرم قد حان ولكن والدي وكان مجنداً نفسه لراحتي في رحلة العمرة صحبني إلى الحرم
…
وعندما وصلنا أديتُ تحية المسجد وهي الطواف وفي أول شوط من الأشواط السبعة يسّر الله لي الوصول إلى الحجر الأسود ولم يحضر على لساني غير دعاء واحد
…
لي ولزوجي وأولادي وأهلي وكل من أعرف
…
دعوت بقوة الإيمان
…
ودموعي تنهمر في صمت ودون انقطاع
…
طوال الأشواط السبعة لم أدعُ إلا بقوة الإيمان وطوال الأشواط السبعة أصل إلى الحجر الأسود وأقبّله، وعند مقام إبراهيم عليه السلام وقفت لأصلي ركعتين بعد الطواف وقرأت الفاتحة، كأني لم أقرأها طوال حياتي واستشعرت فيها معانٍ اعتبرتها منة من الله، فشعرت بعظمة فاتحة الكتاب
…
وكنت أبكي وكياني يتزلزل
…
في الطواف استشرت كأن ملائكة كثيرة حول الكعبة تنظر إلي
…
استشعرت عظمة الله كما لم أستشعرها طوال حياتي.
ثم صليت ركعتين في الحِجر وحدث لي الشيء نفسه كل ذلك كان قبل الفجر
…
وجاءني والدي لأذهب إلى مكان النساء لصلاة الفجر عندها كنت قد تبدلت وأصبحت إنسانة أخرى تماماً. وسألني بعض النساء: هل ستتحجّبين يا أخت شمس؟ فقلت: بإذن الله
…
حتى نبرات صوتي قد تغيرت
…
تبدلت تماماً
…
هذا كل ما حدث لي
…
وعدتُّ ومن بعدها لم أخلع حجابي
…
وأنا الآن في السنة السادسة منذ ارتديته وأدعو الله أن يُحسن خاتمتي وخاتمتنا جميعاً أنا وزوجي وأهلي وأمة المسلمين جمعاء.
(توبة الراقصة هالة الصافي (1):
روت الفنانة الراقصة، المعروفة، هالة الصافي، قصة اعتزالها الفن وتوبتها، والراحة النفسية التي وجدتها عندما عادت إلى بيتها وحياتها، وقالت: بأسلوب مؤثر عبر لقاء صحفي معها:
(1) المجلة العربية: العدد 140.
(في أحد الأيام كنت أؤدي رقصة في أحد فنادق القاهرة المشهورة، شعرت وأنا أرقص بأنني عبارة عن جثة،، دمية تتحرك بلا معنى، ولأول مرة أشعر بالخجل وأنا شبه عارية، أرقص أمام الرجال ووسط الكؤوس.
تركت المكان، وأسرعت وأنا أبكي في هستيريا حتى وصلت إلى حجرتي وارتديت ملابسي.
انتابني شعور لم أحسه طيلة حياتي مع الرقص الذي بدأته منذ كان عمري 15 سنة، فأسرعت لأتوضأ وصليت، وساعتها شعرت لأول مرة بالسعادة والأمان، ومن يومها ارتديت الحجاب على الرغم من كثرة العروض، وسخرية البعض.
أديت فريضة الحج، ووقفت أبكي لعل الله يغفر لي الأيام السوداء .. ).
وتختتم قصتها المؤثرة قائلة: (هالة الصافي ماتت ودفن معها ماضيها، أما أنا فاسمي سهير عابدين، أم كريم، ربة بيت، أعيش مع ابني وزوجي، ترافقني دموع الندم على أيام قضيتها من عمري بعيداً عن خالقي الذي أعطاني كل شيء.
إنني الآن مولودة جديدة، أشعر بالراحلة والأمان بعد أن كان القلق والحزن صديقي، بالرغم من الثراء والسهر واللهو).
وتضيف: (قضيت كل السنين الماضية صديقة للشيطان، لا أعرف سوى اللهو الرقص، كنت أعيش حياة كريهة حقيرة، كنت دائماً عصبية، والآن أشعر أنني مولودة جديدة، أشعر أنني في يد أمينة تحنو علي وتباركني، يد الله سبحانه وتعالى.
(توبة الممثل المغربي المشهور سعيد الزياني (1):
في مكة أم القرى، شرفها الله ومن جوار بيت الله الحرام، وفي العشر الأخيرة من رمضان، حدثنا الممثل سابقاً، والداعية حالياً، الأخ سعيد الزياني عن قصة رجوعه إلى الله، وهدايته إلى الطريق المستقيم، فقال:
نشأت في بيت من بيوت المسلمين، ولما بلغتُ من المراهقة كنتُ أحلم ـ كما كان يحلم غيري من الشباب المراهق ـ بتحقيق شيئين مهمين في نظري آنذاك، وهما: الشهرة والمال، فقد كنت أبحث عن السعادة وأسعى إلى الحصول عليها بأية طريقة كانت.
(1) هذه القصة كتبها لي أحد الاخوة الثقات وقد سمعها بنفسه من الأخ سعيد
في بداية الأمر،. التحقتُ بالإذاعة المغربية، وشاركتُ في تقديم بعض الفقرات التي تربط بين البرامج، ثم تقدمت فأصبحت أقدّم برامج خاصة حتى اكتسبتُ خبرة في هذا المجال، ثم اتجهت إلى التلفزيون وتدرجت فيه حتى أصبحت مقدماً من الدرجة الأولى ـ وهي أعلى درجة يحصل عليها مذيع أو مقدم ـ وأصبحت أقدِّم نشرات الأخبار، والكثير من برامج السهرة والمنوعات وبرامج الشباب، واشتهرت شهرة كبيرة لم يسبقني إليها أحد، وأصبح اسمي على كل لسان، وصوتي يُسمع في كل بيت.
وعلى الرغم من هذه الشهرة إلا أني كنت غير سعيد بهذا .. كنت أشعر بضيق شديد في صدري، فقلت في نفسي لعلي أجد السعادة في الغناء .. وبالفعل، فقد ساعدتني شهرتي في الإذاعة والتلفزيون أن أقدم من خلال أحد البرامج التلفزيونية أغنية قصيرة كانت هي البداية لدخول عالم الغناء.
ودخلتُ عالم الغناء، وحققت شهرة كبيرة في هذا المجال، ونَزَل إلى الأسواق العديد بل الآلاف من الأشرطة الغنائية التي سجلتها بصوتي.
وعلى الرغم من ذلك كله كنت أشعر بالتعاسة والشقاء، وأحس بالملل وضيق الصدر، وصدق الله إذ يقول:(فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ)[الأنعام:125] فقلت في نفسي: إن السعداء هم الممثلون والممثلات، فأردتُّ أن أشاركهم في تلك السعادة، فاتجهت إلى التمثيل، وأصبحت ممثلاً من الدرجة الأولى، فكنت لا أمثل إلا أدوار البطولة في جميع الأعمال التي أقدمها .. والحقيقة ودون مبالغة أصبحت شخصاً متميزاً في بلدي، فلا أركب إلا أغلى السيارات وأفخمها، ولا ألبس إلا الملابس الثمينة .. مكانتي الاجتماعية أصبحت راقية، فأصدقائي هم كبار الشخصيات من الأمراء وغيرهم، فكنت أنتقل بين القصور، من قصر إلى قصر، وتُفتح لي الأبواب وكأني صاحب تلك القصور.
ولكن .. وعلى الرغم من ذلك كله، كنت أشعر بأني لم أصل إلى السعادة التي أبحث عنها.
وفي يوم من الأيام .. أجرى معي أحد الصحفيين لقاء صحفياً طويلا، وكان من بين الأسئلة التي وجهها إليّ هذا السؤال: (الفنان سعيد الزياني .. من المصادفات أن اسمك ينطبق على حياتك .. فاسمك سعيد، ما تقول في ذلك؟
(وكان الجواب:
(في الحقيقة أن ما تعتقده ويعتقده كثير من الناس غير صحيح، فأنا لستُ سعيداً في حياتي، واسمي في الحقيقة لا يزال ناقصاً، فهو يتكون من ثلاثة أحرف وهي: س، ع، ي: (سعي)، وأنا ما زلت أسعى، أبحث عن الحرف الأخير، وهو حرف (الدال) ليكتمل اسمي وتكتمل سعادتي، وإلى الآن لم أجده، وحين أجده سوف أخبرك).
وقد أجري معي هذا اللقاء وأنا في قمة شهرتي وثرائي .. ومرت الأيام والشهور والأعوام .. وكان لي شقيق يكبرني سناً، هاجر إلى بلجيكا .. كان إنساناً عادياً إلا أنه كان أكثر مني التزاماً واستقامة، وهناك في بلجيكا التقى ببعض الدعاة المسلمين فتأثر بهم وعاد إلى الله على أيديهم.
فكرتُ في القيام برحلة سياحية إلى بلجيكا أزور فيها أخي فأمر عليه مرور الكرام، ثم أواصل رحلتي إلى مختلف بلاد العالم.
سافرت إلى بلجيكا، والتقيتُ بأخي هناك، ولكني فوجئت بهيئته المتغيرة، وحياته المختلفة، والأهم من ذلك، السعادة التي كانت تشع في بيته وحياته، وتأثرتُ كثيراً بما رأيتُ، إضافةً إلى العلاقات الوثيقة التي تربط بين الشباب المسلم في تلك المدينة، وقد قابلوني بالأحضان، ورحّبوا بي أجمل ترحيب، ووجهوا لي الدعوة لحضور مجالسهم واجتماعاتهم والتعرف عليهم بصورة قوية.
أجبت الدعوة، وكنت أشعر بشعور غريب وأنا أجلس معهم، كنتُ أشعر بسعادة عظيمة تغمرني لم أشعر بها من قبل، ومع مرور الأيام قمتُ بتمديد إجازتي لكي تستمر هذه السعادة التي طالما بحثتُ عنها فلم أجدها.
وهكذا .. كنت أشعر بالسعادة مع هؤلاء الأخيار تزداد يوماً بعد يوم، والضيق والهم والشقاء يتناقص يوماً بعد يوم .. حتى امتلأ صدري بنور الإيمان، وعرفتُ الطريق إلى الله الذي كنت قد ضللت عنه مع ما كنت أملكه من المال والثراء والشهرة، وأدركت من تلك اللحظة أن السعادة ليست في ذلك المتاع الزائل، إنما هي في طاعة الله عز وجل:(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97] وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ)[طه: 124] امتدت إجازتي عند أخي أكثر من سنتين، وأرسلتُ رسالة إلى الصحفي الذي سألني السؤال السابق، وقلت له:
الأخ ........ رئيس تحرير صحيفة ......... في جريدة ..........
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، .. أود أن أذكّرك بالسؤال الذي سألتني فيه عن السعادة، وذلك في يوم ....... وتاريخ ........ وقد أجبت بالجواب التالي: ....... ووعدتك أن أخبرك متى ما وجدت حرف (الدال)، والآن: يطيب لي ويسعدني ويشرفني أن أخبرك بأني قد وجدتُ حرف الدال المُتمم لاسمي حيث وجدته في الدين والدعوة .. وأصبحت الآن (سعيد) حقاً.
شاع الخبر بين الناس، وبدأ أعداء الدين والمنافقون يطلقون عليّ الإشاعات، ويرمونني بالتهم، ومنهم من قال: إنه أصبح عميلاً لأمريكا أو لروسيا
…
إلى غير ذلك من الإشاعات المغرضة .. كنتُ أستمعُ إلى هذه الإشاعات فأتذكر دائماً ما قوبل به الأنبياء والرسل والدعاة على مرّ العصور والدهور، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين ـ فازداد ثباتاً وإيماناً ويقيناً، وأدعو الله دائماً:(رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ)[آل عمران: 8]
(توبة الممثلة هالة فؤاد (1):
(أرى أنني ارتكبت معصية وخطأ كبيراً في حق ربي وديني، وعلى هذا الأساس أتمنى أن يغفر الله لي ويسامحني).
هذا ما قالته الممثلة (سابقاً) هالة فؤاد بعد توبتها واعتزالها الفن، وارتدائها الحجاب، وإعلانها التفرغ التام لرعاية زوجها وأولادها وبيتها، تروي قصتها فتقول:
(منذ صغري وبداخلي شعور قوي يدفعني إلى تعاليم الدين، والتمسك بالقيم والأخلاق الحميدة، وبالتحديد: عندما كنت في المرحلة الإعدادية.
كنت لا أحب حياة الأضواء، أو الظهور في المجتمعات الفنية، وكانت سعادتي الكبرى أن أظل داخل منزلي، ولكن النفس الأمارة بالسوء والنظر إلى الآخرين وتلك التبريرات الشيطانية كانت وراء اتجاهي لهذا الطريق (2).
(1) مجلة (كل الناس)، العدد/85، والكواكب، العدد/2056.
(2)
هكذا يراد لأجيالنا المسلمة، أن تتجه للفن والتمثيل، لتنصرف عما خلقت من أجله من عبادة الله وحده، والجهاد في سبيله، فمتى نتنبه لذلك.
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبتليني بمصيبة أعادتني إلى فطرتي، وتبين لي من خلالها الضلال من الهدى، في لحظةٍ كنت فيها قاب قوسين أو أدنى من الموت، وذلك أثناء عملية الولادة الأخيرة، حيث سدت المشيمة عنق الرحم، وكان الأطباء يستخدمون معي الطلق الصناعي قبل الولادة بثلاثة أيام، وحدث نزيف شديد هدد حياتي بخطر كبير، فأجريت لي عملية قيصرية، وبعد العملية ظللت أعاني من الآلام، وفي اليوم السابع، الذي كان من المفروض أن أغادر فيه المستشفى، فوجئت بألم شديد في رجلي اليمنى، وحدث ورم ضخم، وتغير لونها، وقال لي الأطباء: إنني أصبحت بجلطة.
وأنا في هذه الظروف شعر بإحساس داخلي يقول لي: إن الله لن يرضى عنكِ ويشفيك إلا إذا اعتزلت التمثيل، لأنك في داخلك مقتنعة أن هذا التمثيل حرام، ولكنك تزينينه لنفسك، والنفس أمّارة بالسوء، ثم إنك في النهاية متمسكة بشيء لن ينفعك.
أزعجني هذا الشعور، لأنني أحب التمثيل جداً، وكنت أظن أني لا أستطيع الحياة بدونه، وفي نفس الوقت خفت أن أتخذ خطوة الاعتزال ثم أتراجع عنها مرة أخرى، فيكون عذابي شديداً.
المهم عدتُّ إلى بيتي، وبدأت أتماثل للشفاء، والحمد لله، رجلي اليمنى بدأ يطرأ عليها تحسن كبير، ثم فجأة وبدون إنذار انتقلت الآلام إلى رجلي اليسرى، وقد شعرت قبل ذلك بآلام في ظهري، ونصحني الأطباء بعمل علاج طبيعي، لأن عضلاتي أصابها الارتخاء نتيجة لرقادي على السرير، وكانت دهشتي أن تنتقل الجلطة إلى القدم اليسرى بصورة أشد وأقوى من الجلطة الأولى.
كتب لي الطبيب دواء، وكان قوياً جداً، وشعرت بآلام شديدة جداً في جسمي، واستخدم معي أيضاً حقناً أخرى شديدة لعلاج هذه الجلطة في الشرايين، ولم أشعر بتحسن، وازدادت حالتي سوءاً، وهنا شعرت بهبوط حاد، وضاعت أنفاسي، وشاهدت كل من حولي في صورة باهتة، وفجأة سمعت من يقول لي قولي:(لا إله إلا الله) لأنك تلفظين أنفاسك الأخيرة الآن، فقلت:(أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
نطقتُ الشهادة، وفي هذه اللحظة تحدثتُ مع نفسي وقلتُ لها: سوف تنزلين القبر، وترحلين إلى الله والدار الآخرة، فكيف تقابلين الله، وأنت لم تمتثلي لأوامره، وقضيتِ حياتك بالتبرج، والوقوف في مواقف الفتنة من خلال العمل بالتمثيل؟ ماذا ستقولين عند الحساب؟ هل ستقولين إن الشيطان قد هزمني.
نعم، لقد رأيت الموت فعلاً، ولكن للأسف، كلنا نتناسى لحظ الموت، ولو تذكر كل إنسان تلك اللحظة فسوف يعمل ليوم الحساب، يجب أن نتثقف دينياً حتى لا نكون مسلمين بالوراثة، ويجب أن نتعمق في دراسة القرآن والسنة والفقه، وللأسف فإننا نعاني من (أمية دينية)، ولابدّ من تكاتف كل الجهات لتثقيف المجتمع دينياً، ولن يتم ذلك من خلال تقديم برنامج واحد أو برنامجين.
وباختصار، قمت بمحاكمة سريعة لنفسي في تلك اللحظات ثم شعرت فجأة بأنني أسترد أنفاسي، وبدأت أرى كل من يقف بوضوح تام .. أصبح وجه زوجي شديد الاحمرار، وبكى بشدة، وأصبح والدي في حالة يُرثى لها، أما والدتي فقد قامت في ركن من الحجرة تصل وتدعو الله.
سألت الطبيب: ماذا حدث؟!
قال: (احمدي ربنا، لقد كُتب لك عُمر جديد).
بدأت أفكر في هذه الحادثة التي حدثتْ لي وأذهلتِ الأطباء بالإضافة إلى من حولي
…
فكرت في الحياة كم هي قصيرة، ولا تستحق منا كل هذا الاهتمام، فقررت أن أرتدي الحجاب وأكون في خدمة بيتي وأولادي، والتفرغ لتنشئتهم النشأة الصحيحة، وهذه أعظم الرسالات).
وهكذا عادت هالة إلى ربها، وأعلنت قرارها الأخير باعتزال مهنة التمثيل، تلك المهنة المهينة التي تجعل من المرأة دمية رخيصة يتلاعب بها أصحاب الشهوات وعبيد الدنيا، إلا أن هذا القرار لم يَرق لكثير من أولئك التجار (تجار الجنس) فاتهموها بالجنون، وأنها إنما تركت التمثيل بسبب المرض وعجزها عن المواصلة، فترد على هؤلاء وتقول:
(إن هناك في (عالم الفن) مَن هم أكثر مني (نجومية)!! شهرةً، وقد تعرضوا لتجارب أقسى كثيراً مما تعرضتُ له، ولكنهم لم يتخذوا نفس القرار).
ثم تضيف: (والغريب أن الوسط الفني) قد انقسم أمام قراري هذا إلى قسمين: فالبعض قدم لي التهنئة، والبعض الآخر اتهموني بالجنون، فإذا كان الامتثال لأوامر الله جنوناً، فلا أملك إلا أن أدعو لهم جميعاً بالجنون الذي أنا فيه).
وفي معرض حديثها عن حاله قبل التوبة، وموقفها من زميلاتها اللاتي سبقنها إلى التوبة والالتزام تقول:
(لقد كنت أشعر بمودة لكل الزميلات اللاتي اتخذن مثل هذا القرار، كهناء ثروت، وميرفت الجندي
…
وكنت أدعو الله أن يشرح لما يحب، وأن يغلقه عما لا يحب، وقد استجاب الله دعائي وشرح صدري لما يحب).
وفي ختام حديثها تقول:
(هالة فؤاد الممثلة توفيت إلى غير رجعة، وهالة فؤاد الموجودة حالياً لا علاقة لها بالإنسانة التي رحلت عن دنيانا).
هذه هي قصة الممثلة هالة فؤاد مع الهداية كما ترويها بنفسها، ونحن بانتظار المزيد من العائدين إلى الله من (الفنانين) وغيرهم، اللاحقين بركب الإيمان قبل فوات الأوان، فمن العائد الجديد يا ترى؟؟
(توبة أشهر عارضة أزياء فرنسية (1):
(فابيان) عارضة الأزياء الفرنسية، فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، جاءتها لحظة الهداية وهي غارقة في عالم الشهرة والإغراء والضوضاء .. انسحبت في صمت .. تركتْ هذا العالم بما فيه، وذهبتْ إلى أفغانستان لتعمل في تمريض جرحى المجاهدين الأفغان وسط ظروف قاسية وحياة صعبة.
تقول فابيان:
(لولا فضل الله عليّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ).
ثم تروي قصتها فتقول:
(منذ طفولتي كنت أحلم دائماً بأن أكون ممرضة متطوعة، أعمل على تخفيف الآلام للأطفال المرضى، ومع الأيام كبرت، ولفتّْ الأنظار بجمالي ورشاقتي، وحرّضني الجميع ـ بما فيهم أهلي ـ على التخلي عن حلم طفولتي، واستغلال جمالي في عمل يدرّ عليّ الربح المادي الكثير، والشهرة والأضواء، وكل ما يمكن أن تحلم به أية مراهقة، وتفعل المستحيل من أجل والوصول إليه.
وكان الطريق أمامي سهلاً ـ أو هكذا بدا لي ـ، فسرعان ما عرفت طعم الشهرة، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها.
ولكن كان الثمن غالياُ .. فكان يجب عليّ أولاً أن أتجرد من إنسانيتي، وكان شرط النجاح وتألق أن أفقد حساسيتي وشعوري، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت عليه، وأفقد ذكائي، ولا أحاول فهم أي شيء غير حركات جسدي، وإيقاعات الموسيقى، كما كان عليّ أن أحرم من جميع المأكولات اللذيذة وأعيش على الفيتامينات الكيميائية والمقويات والمنشطات، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر
…
لا أكره .. لا أحب
…
لا أرفض أي شيء.
إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول .. فقد تعلمتُ كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل، لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنتُ بذلك، بل كلما تألّقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم البارد
…
أما إذا خالفت أيّاً من تعاليم الأزياء فتُعرِّض نفسها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضاً.
(1) جريدة المسلمون العدد 238.
وعشت أتجول في العالم عارضة لأحدث الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل أو حياء).
وتواصل (فابيان) حديثها فتقول:
(لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ ـ إلا من الهواء والقسوة ـ بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصيّاً واحترامهم لما أرتديه.
كما كنت أسير وأتحرك .. وفي كل إيقاعاتي كانت تصاحبني كلمة (لو) .. وقد علمت بعد إسلامي أن لو تفتح عمل الشيطان .. وقد كان ذلك صحيحاً، فكنا نحيا في عالم الرذيلة بكل أبعادها، والويل لمن تعترض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط).
وعن تحولها المفاجئ من حياة لاهية عابثة إلى أخرى جادة نقول:
(وكان ذلك أثناء رحلة لنا في بيروت المحطمة، حيث رأيتُ كيف يبني الناس هناك الفنادق والمنازل تحت قسوة المدافع، وشاهدت بعيني انهيار مستشفى للأطفال في بيروت، ولم أكن وحدي، بل كان معي زميلاتي من أصنام البشر وقد اكتفين بالنظر بلا مبالاة كعادتهن.
ولم أتمكن من مجاراتهن في ذلك .. فقد انقشعت عن عيني في تلك اللحظة غُلالة الشهرة والمجد والحياة الزائفة التي كنت أعيشها، واندفعت نحو أشلاء الأطفال في محاولة لإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة.
ولم أعد إلى رفاقي في الفندق حيث تنتظرني الأضواء، وبدأت رحلتي نحو الإنسانية حتى وصلت إلى طريق النور وهو الإسلام.
وتركتُ بيروت وذهبتُ إلى باكستان، وعند الحدود الأفغانية عشت الحياة الحقيقية، وتعلمتُ كيف أكون إنسانة.
وقد مضى على وجودي هنا ثمانية أشهر قمت فيها بالمعاونة في رعاية الأسر التي تعاني من دمار الحروب، وأحببت الحياة معهم، فأحسنوا معاملتي.
وزاد اقتناعي بالإسلام ديناً ودستوراً للحياة من خلال معايشتي له، وحياتي مع الأسر الأفغانية والباكستانية، وأسلوبهم الملتزم في حياتهم اليومية، ثم بدأت في تعلّم اللغة العربية، فهي لغة القرآن، وقد أحرزت في ذلك تقدماً ملموساً.
وبعد أن كنت أستمد نظام حياتي من صانعي الموضة في العالم، أصبحت حياتي تسير تبعاً لمبادئ الإسلام وروحانياته.
وتصل (فابيان) إلى موقف بيوت الأزياء العالمية منها بعد هدايتها، وتؤكد أنها تتعرض لضغوط دنيوية مكثفة، فقد أرسلوا عروضاً بمضاعفة دخلها الشهري إلى ثلاثة أضعافه فرفضت بإصرار .. فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليها هدايا ثمينة لعلها تعود عن موقفها وترتد عن الإسلام.
وتمضي قائلة:
(ثم توقفوا عن إغرائي بالرجوع .. ولجئوا إلى محاولة تشويه صورتي أمام الأسر الأفغانية، فقاموا بنشر أغلفة المجلات التي كانت تتصدرها صوري السابقة أثناء عملي كعارضة للأزياء، وعلقوها في الطرقات وكأنهم ينتقمون من توبتي، وحاولوا بذلك، الوقيعة بيني وبني أهلي الجدد، ولكن خاب ظنهم والحمد لله).
وتنظر (فابيان) إلى يديها وتقول:
(لم أكن أتوقع يوماً أن يدي المرفهة التي كنت أقضيها وقتاً طويلاً في المحافظة على نعومتها سأقوم بتعريضها لهذه الأعمال الشاقة وسط الجبال، ولكن هذه المشقة زادت من نصاعة وطهارة يدي، وسيكون لها حسن الجزاء عند الله سبحانه وتعالى إن شاء الله).
(توبة المغني البريطاني كات ستيفنز:
هذا الرجل كما يروي عن نفسه ولد في لندن قلب العالم الغربي، وتعلم في مدرسة كاثوليكية علمته مفهوم النصرانية للحياة والعقيدة، وما يفترض أن يعرفه عن الله، وعن المسيح عليه السلام وعن القدر، والخير، والشر.
كانت الحياة حول هذا الرجل مادية كلها، فكانت أجهزة الإعلام تعلم الناس بأن الغنى هو الثروة الحقيقية، وأن الفقر هو الضياع الحقيقي؛ فما كان منه إلا أن اختار طريق الغنى، فالتمس الغنى بالغناء، فبلغ قمة الشهرة، وأصبحت الأموال طوع يمينه وشماله، حينئذ بدأ القلق ينتابه خشية السقوط؛ فلجأ إلى الخمر، وبدأ يكره الحياة، واعتزل الناس، وأصيب بالسل، ونقل إلى المستشفى ثم بدأ يفكر في ما هو عليه، فلم يقتنع تماماً بتعاليم الدين النصراني، وبدأ يبحث عن السعادة التي لم يجدها في الغنى ولا في الشهرة، ولا في الكنيسة، فطرق باب البوذية، والفلسفة الصينية، فلم يجد السعادة، ثم انتقل إلى الشيوعية، ولكنه شعر بأنها لا تتفق مع الفطرة، فاتجه إلى العقاقير المهدئة؛ ليقطع هذه السلسلة القاسية من الحيرة، ثم رجع مرة أخرى إلى عالم الغناء.
وفي عام 1975م أهداه شقيقه الأكبر نسخة من القرآن، ثم بحث عن ترجمة لمعاني القرآن؛ ففكر في الإسلام الذي يعد في الغرب زوراً وبهتاناً رمزاً للعنصرية والعرقية.
يقول كات ستيفنز: ومن أول وهلة شعرت أن القرآن يبدأ بـ: (بسم الله) وليس باسم غير الله، وعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) كانت مؤثرة في نفسي، ثم تستمر الفاتحة فاتحة الكتاب:(الحمد لله رب العالمين) الحمد لله خالق العالمين (1).
(1) العائدون إلى الله للشيخ محمد المسند 2/ 22.
ثم بعد ذلك تبين له أن القرآن يدعو إلى عبادة الله والإيمان باليوم الآخر، ويبين حقيقة الإنسان، وبدايته ونهايته، وتبين له الفارق بين القرآن وبين الإنجيل الذي كتب على أيدي مؤلفين مختلفين.
ولقد حاول أن يبحث عن أخطاء في القرآن ولكنه لم يجد، ومن هنا بدأ يعرف ما هو الإسلام حقيقة.
يقول: لقد أجاب القرآن على كل تساؤلاتي، وبذلك شعرت بالسعادة؛ سعادة العثور على الحقيقة.
وبعد قراءة القرآن الكريم كله خلال عام كامل بدأت أطبق الأفكار التي قرأتها فيه فشعرت بذلك أنني المسلم الوحيد في العالم.
ثم فكرت كيف أكون مسلماً حقيقياً، فاتجهت إلى مسجد لندن، وأشهرت إسلامي وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
حين ذلك أيقنت أن الإسلام الذي اعتنقته رسالة ثقيلة، وليس عملاً سهلاً ينتهي بالشهادتين (1).
ثم يواصل حديثه قائلاً: لقد ولدت، وعرفت إلى أين أسير مع إخواني من عباد الله المسلمين، ولم أقابل أحداً منهم من قبل، ولو قابلت مسلماً يحاول أن يدعوني للإسلام لرفضت دعوته بسبب أحوال المسلمين المزرية، وما تشوهه أجهزة إعلامنا في الغرب، بل حتى أجهزة الإعلام الإسلامية كثيراً ما تشوه الحقائق الإسلامية، وكثيراً ما تقف وتؤيد افتراءات أعداء الإسلام العاجزين عن إصلاح شعوبهم التي تدمرها الآن الأمراض الأخلاقية، والاجتماعية وغيرها.
لقد اتجهت للإسلام من أفضل مصادره، وهو القرآن الكريم، ثم بدأت أدرس سيرة الرسول"وكيف أنه بسلوكه وسننه علم المسلمين الإسلام، فأدركت الثروة الهائلة في حياة الرسول"وسنته، لقد نسيت الموسيقى، وسألت إخواني: هل أستمر؟ فنصحوني بالتوقف، فالموسيقى تشغل عن ذكر الله، وهذا خطر عظيم.
لقد رأيت شباباً يهجرون أهلهم، ويعيشون في جو الأغاني والموسيقى، وهذا لا يرضاه الإسلام الذي يحث على بناء الرجال.
وأما الملايين التي كسبتها في عملي السابق وهو الغناء فوهبتها كلها للدعوة الإسلامية (2).
هذه هي خلاصة قصة المغني البريطاني المشهور كات ستيفنز الذي رفض الشهرة والملايين، بعد أن هداه الله إلى طريق الحق.
(1) العائدون إلى الله 2/ 24_25.
(2)
العائدون إلى الله 2/ 25_26.
وبعد أن أسلم سمى نفسه (يوسف إسلام) وأصبح همه الأول نصرة الدين والدعوة إليه، ولقد أطلق لحيته حتى إنها تكاد تكسو صدره، ولقد سمعته يتلو آيات مباركات من سورة البقرة من آخر الجزء الأول وبداية الجزء الثاني بصوت عذب شجي، فنسأل الله أن يثبته على دين الحق.
(توبةالممثلة هناء ثروت:
الممثلة المصرية المشهورة، التي عاشت في عالم الفن فترة من الزمن، حتى منَّ الله عليها بالتوبة.
هذه الممثلة روت قصتها بنفسها، وأفادت بأن هناك أسباباً دفعتها إلى الدخول في عالم الفن؛ حيث لم يقم والداها بتربيتها كما ينبغي؛ إذ كانا مشغولين بأعمالهما؛ فلم تجد الرعاية التامة؛ حيث تلقفتها دور الحضانة قبل أن تبلغ الثالثة من عمرها.
تقول: كنت أعيش في قلق، وتوتُّر، وخوف من كل شيء؛ فانعكس ذلك على تصرفاتي الفوضوية الثائرة في المرحلة الابتدائية في محاولة لجذب الانتباه إلى شخصي المهمل أسرياً، بيد أن شيئاً ما أخذ يلفت الأنظار إليَّ بشكل متزايد.
أجل فقد حباني الله جمالاً، ورشاقة، وحنجرة غرّيدة جعلت معلمة الموسيقى تلازمني بصفة شبه دائمة تستعيدني الأدوار الغنائية الراقصة منها والاستعراضية التي أشاهدها في التلفاز، حتى غدوت أفضل من تقوم بها في الحفلات المدرسية.
ولا أزال أحتفظ في ذاكرتي بأحداث يوم كُرّمْتُ فيه، لتفوقي في الغناء والرقص والتمثيل على مستوى المدارس الابتدائية في بلدي.
احتضنتني (الأم ليليان) مديرة مدرستي ذات الهوية الأجنبية، وغمرتني بقبلاتها قائلة لزميلة لها: لقد نجحنا في مهمتنا!
إنها وأشارت إليَّ من نتاجنا، وسنعرف كيف نحافظ عليها؛ لتكمل رسالتنا!
لقد صور لي خيالي الساذج آنذاك أني سأبقى دائماً مع تلك المعلمة، وهذه المديرة، وأسعدني أن أجد بعضاً من حنان افتقدته، وإن كنت قد لاحظت أن عطفهما من نوع غريب، تَكَشَّفَتْ لي أبعاده ومراميه بعدئذ، وأفقت على حقيقة هذا الاهتمام المستورد.
وبعد ذلك تدرجت في عالم الفن حتى أصبحت ممن يشار إليهم بالبنان.
تقول عن نفسها في تلك المرحلة: كانت تمتلكني نشوة مسكرة وأنا أرفل في الأزياء الفاخرة، والمجوهرات النفيسة، والسيارات الفارهة، كانت تطربني المقابلات والتعليقات الصحفية، ورؤية صوري الملونة وهي تحتل أغلفة المجلات، وواجهات المحلات، حتى وصل الأمر بي إلى أن تعاقد معي متعهدو الإعلانات والدعايات؛ لاستخدام اسمي ـ اسمي فقط ـ لترويج مستحضراتهم وبضائعهم.
كانت حياتي بعمومها موضع الإعجاب والتقليد في أوساط المراهقات، وغير المراهقات على السواء.
وبالمقابل كان تألقي هذا موطن الحسد والغيرة التي شب أوارها في نفوس زميلات المهنة (1).
(إلى أن تقول: قد تتساءل صغيرتي: وهل كنت سعيدة حقاً يا أمي؟!
ابنتي الحبيبة لا تدري بأني قطعة من الشقاء والألم؛ فقد عرفت وعشت كل ما يحمل قاموس البؤس والمعاناة من معان وأحداث.
وتضيف قائلة: بات مألوفاً رؤيتي ساهمة واجمة، وقد أصبحت دمية يلهو بها أصحاب المدارس الفكرية على اختلاف انتماءاتها العقائدية لترويج أغراضهم ومراميهم عن طريق أمثالي من المخدوعين والمخدوعات، واستبدالنا بمن هم أكثر إخلاصاً، أو إذا شئت (عمالة) في هذا الوسط الخطر، والمسؤول عن الكثير من توجهات الناس الفكرية.
وجدت نفسي شيئاً فشيئاً أسقط في عزلة نفسية قائظة، زاد عليها نفوري من أجواء الوسط الفني ـ كما يُدعى ـ معرضة عن جلساته، وسهراته الصاخبة التي يرتكب فيها الكثير من التفاهات والحماقات باسم الفن أو الزمالة.
لم يحدث أن أبطلت التعامل مع عقلي في ساعات خلوتي لنفسي وأنا أحاول تحديد الجهة المسؤولة عن ضياعي وشقائي، أهي التربية الأسرية الخاطئة؟ أم التوجيه المدرسي المنحرف؟ أم هي جنايات وسائل الإعلام؟ أم كل ذلك معاً؟.
لقد توصلت ـ أيامها ـ إلى تصميم وعزم يقتضي تجنيب أولادي
مستقبلاً ما ألقاه من تعاسة مهما كان الثمن غالياً؛ إذ يكفي المجتمع أني قُدّمت ضحية على مذبح الإهمال والتآمر والشهوات (2).
وبعد ذلك تزوجت بالممثل محمد العربي الذي كان متململاً من حياة الفن، حريصاً على تطليق الشهرة التي حصل عليها من جراء الفن.
وبعد زواجهما قاما بزيارة للأراضي المقدسة، وطلقا حياة الفن والتعاسة إلى غير رجعة، فالتزمت هناء ثروت الحجاب، وكرست جهدها لرعاية زوجها وأولادها.
أما زوجها فقد أكرمه الله ـ كما تقول ـ بحسن التفقه في دينه، وتعليم الناس في المسجد.
وتقول: أولادي الأحباء لم يعرفوا بعد أن أباهم في عمامته، وأمهم في جلبابها كانا ضالين فهداهما الله، وأذاقهما حلاوة التوبة والإيمان (3).
(1) العائدون إلى الله 2/ 29_30.
(2)
العائدون إلى الله 2/ 31.
(3)
العائدون إلى الله2/ 37.
وبعد أن منَّ الله عليها بالتوبة والهداية توالت الأقلام المسعورة، والحملات الضارية محاولة ردها عن دينها، وفتنتها في توبتها، وذلك بعرض أفلامها السافرة، والكتابة عنها، وتشويه سمعتها، إلا أنها بتوفيق من الله صمدت أمام ذلك كله.
تقول ثبتها الله: ومن المضحك أن أحد المنتجين عرض على زوجي أن أقوم بتمثيل أفلام وغناء أشعار يلصقون بها مسمى دينية، ولا يعلم هؤلاء المساكين أن إسلامي يربأ بي عن مزاولة ما يخدش كرامتي، أو ينافي عقيدتي.
نعم لقد كانت هجرتي لله، وإلى الله (1).
(توبةالممثل محسن محيي الدين وزوجته الممثلة نسرين:
لقد من الله على هذين بالتوبة من الفن، فوجدا الحياة السعيدة الآمنة.
يقول محسن محيي الدين بعد اتخاذه قرار ترك الفن: هذا القرار إن شاء الله لا رجعة فيه؛ لأني اتخذته بكامل اقتناعي وإرادتي، وندمت لأني تأخرت فيه حتى الآن؛ فالأضواء ليست غالية حتى أحن إليها مرة أخرى؛ فالشهرة والمال والأضواء لا تساوي ركعتين لله (2).
(ثم يضيف: إننا اعتزلنا ونحن في القمة الزائفة؛ فقد كان قرارنا بعد مهرجان القاهرة السينمائي الذي أقيم في العام الماضي، وبعد النجاح الكبير الذي حققناه، وليس لأننا لم نجد أدواراً نمثلها كما يقول البعض.
وقد أدركنا الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع وهي أن الإنسان مهما طال عمره فمصيره إلى القبر، ولا ينفعه في الآخرة إلا عمله الصالح (3).
وتقول زوجته نسرين: الحمد لله، كان يومي يضيع دون إحساس بالسعادة، ودون أن أشعر بالسلام، والآن ليس لدي وقتٌ كاف؛ لأن هناك أموراً كثيرة نافعة يجب اللحاق بها، لقد وجدت السلام الداخلي (4).
(توبة الشيخ سليمان الثنيان (المخرج السينمائي سابقا)(5):
من الهندسة الكيميائية والإخراج السينمائي بألمانيا إلى كلية الشريعة بالرياض، هذه باختصار رحلة الشيخ سليمان الثنيان من الضياع والتخبط إلى الهداية والإيمان.
(1) العائدون إلى الله2/ 37.
(2)
العائدون إلى الله 4/ 17.
(3)
العائدون إلى الله 4/ 17_18.
(4)
العائدون إلى الله 4/ 18.
(5)
سمعتها منه بنفسي.
كانت البداية .. ابتعاث الدكتور سليمان الثنيان إلى ألمانيا لدراسة الهندسة الكيميائية، وهناك حدث التحول الأول في حياته، حيث وجد أن دراسة الكيمياء ليست كافية، وأراد أن يدرس شيئاً جديداً يستطيع التأثير من خلاله، فنصحه عددٌ من الأساتذة الألمان بدراسة الفن والتخصص في الإخراج السينمائي، وبروح التحدي استطاع أن يستكمل دراسة الهندسة الكيميائية، وفي نفس الوقت كان يدرس السينما والتلفزيون والمسرح.
ثماني سنوات قضاها في دراسة هذه الفنون، وضع خلالها منهجاً للدراسة يتيح له الحصول على المعلومات والمهارة الفائقة في مجال الإخراج وذلك بمساعدة متخصصين ألمان ودرس في عدة معاهد فنية وفي الأكاديمية الوطنية للسينما والمسرح والتليفزيون.
ونترك الحديث للدكتور الثنيان ليحدثنا عن رحلته يقول: لم أترك مجالاً يحتاجه المخرج إلا ودخلته، فقد التحقتُ بمدارس ركوب الخيل وقيادة السفن ودخلتُ معاهد التمثيل والموسيقى، ودرستُ أنواع الصوت وجزئيات الإضاءة والمؤثرات الصوتية والملابس والديكور، وبذلك أنهيتُ المرحلة الأولى بنجاح، وبدأتُ المرحلة الثانية التي تميزتْ بالممارسة العملية من إخراج وتصوير وعمليات مسرحية وإنتاج فكري وكتابة قصص، وباليوم والساعة أنهيتُ هذه المرحلة، وبنهايتها انهالتْ عليّ العروض من (مسرح شلرد) ومن بعض الشركات لكي أعمل فيها كمخرج أو مساعد مخرج أو ممثل لفترة معينة.
ولكني لم أستجب لهذه العروض
…
فقد حدث تحول ثان في حياتي، فقد التقيتُ بمدير عام التليفزيون السعودي في ذلك الوقت الذي طلب مني العودة مع وعدٍ منه بأنني سوف أنتج أشياء جديدة، ولم تكن طموحاتي هي مجرد إخراج فيلم أو مسرحية، وإنما كنتُ أريد أن أقوم بأعمال أُسمِعُ من خلالها كلمة الإسلام والمسلمين للعالم أجمع، ومن هنا كانت استجابتي السريعة بالعودة.
عملتُ في التليفزيون السعودي أربع سنوات، ومثلتُ بلادي في مؤتمر (جينس) بميونج وكان حول دور التليفزيون في تربية الشباب، وفي عام 1396هـ، قررتُ أن أترك مجال الإعلام، لأنني وجدتُ أنني لن أحقق طموحي من خلال الإعلام التليفزيوني، فالسينما كانت أحبُ إلى نفسي، لأن إمكاناتها هائلة، وكانت (المادة) تقف حائلاً أمام تحقيق هذا الطموح، حيث إنني لم أجد إلا المال المشروط بالربح التجاري.
سنة ونصف السنة قضيتها بعد ذلك في حالة تردد، جاءتني الكثير من العروض التجارية ورفضتها تماماً، وفي إحدى رحلاتي من القصيم إلى الرياض حدث التحول الثالث، كان الوقت ضحى، وكنت في سيارتي، حيث رأيت سروراً عظيماً، وشعرتُ كأنني كنتُ مغمض العينين وأزيحتِ الغشاوة عني، لقد رأيتُ الدنيا من جديد وكدتُّ أطير فرحاً تعذبتُّ عاماً ونصف العام وها هو الخير أراه أمامي أصابني شيء من البكاء والضحك من شدة سعادتي، فقررتُ أن أستدرك بقية عمري وأن أتصل بالله سبحانه وتعالى ورأيت أنه لابدّ من العلم، وهذا ما تعودتُّه منذ طفولتي، فأنا لا أعمل شيئاً إلا بالعلم، وحتى أحقق ذلك عزمت على دراسة الشريعة والعلم الشرعي دراسة متعمقة.
انطلقت إلى كلية الشريعة وأنا في غاية الفرح والنشوة، قالوا لي: لك أن تقدم للدراسات العليا إن شئت. قلتُ لهم: لا .. أريد أن أبدأ الرحلة من أولها، أي من الصف الأول. وهذا ما حدث .. انتظمتُ في الدراسة حتى حصلتُ على البكالوريوس. دون أن أتغيبَ يوماً واحداً وبعد ذلك حصلتُ على الماجستير، ثم جاءت مرحلة الدكتوراه، وانتهيتُ منها في فترة وجيزة.
توقع الجميع ألا أصمد في دراسة الشريعة لصعوبتها، خاصةً وأنني ـ في رأيهم ـ تعودت على الشهرة والمال، وقالوا لي: ستعرف يوماً أنك أخطأت الطريق، ولن تتحمل الكراسي الخشبية التي تجلس عليها لتدرس الشريعة، ولكن بحمد الله حدث العكس، لم يكن يمر يوم إلا وتزداد رغبتي في الدراسة، ولم أندم لحظة واحدة على تغيير مسار حياتي.
ثم يضيف: إني مستعد في أي لحظة أن أعود إلى الإعلام، إذا ناسب ما أريد، دعني أقول لك رأيي فيما يطرح حالياً من أفلام في السوق العربية، كثير من هذه الأفلام كلام فارغ وعمل رخيص لا يستحق العرض وبذل المال، وضياع الوقت في مشاهدتها، إنها تسلب العقل وتضيع الفكر، وتجعل الإنسان يتخبط دون وعي أو بصيرة.
لم أر مثيلاً للدول العربية في تخبطها في إنتاج الأفلام. كلٌ ينتج ما يريد دون ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، أنها أفلام هابطة في معناها وتعبيرها وفي طريقة عرضها وأبعادها.
ثم يعقب الدكتور الثنيان بقوله: إنني مستعد أن أستغنى عن أدوار النساء تماماً، وقد جربت ذلك في مسرحية (خادم سيدين) حيث استغنيت فيها عن النساء تماما، واستعضت عن الموسيقى بمؤثرات وأشياء خاصة بالإيقاع تغني عن الموسيقى، بل أضعاف ما تعطيه الموسيقى.
ويضيف: إنني أستطيع أن ألغي دور أمرأة وأعوّضه بما هو أحسن منه، وأخرج أي عمل بواسطة الرجال، ويكون ذا تأثير وقوة ومتعة للمشاهد، وأجمع فيه بين الفكر والعلم والمتعة. وهذا هو النموذج مسرحية (خادم سيدين)، وهي في الأصل مليئة بالنساء والمواقف الطريفة، وقد استبعدت أدوار النساء منها، وجعلتها بالعربية الفصحى، وأعجب الناس بها.
وعموماً فإن تجربة المسرح الذي من العنصر النسائي ليست تجربة جديدة بل هي تجربة يتميز بها المسرح السعودي بعامة والذي استطاع على امتداد ثلاثين عاماً على الأقل أن يقدم عشرات المسرحيات التي تخلو من العنصر النسائي، وقد نجح في هذا تماماً بل إن أمريكا مسرحاً يقدم تجارب جيدة وهو يخلو من النساء أيضاً، المهم هو الفن ليس المرأة.
(توبة الممثلة نورا:
جاءت إلى مكة المكرمة لأداء العمرة والاستغفار بعد اعتزالها التمثيل منذ عدة أشهر .. كانت لا تفارق الحرم إلا لماماً، ولا يبرح المصحف الشريف يدها، ولا تكف عن البكاء.
إنها الممثلة (نورا) سابقاً، وشاهيناز قدري حالياً وهو اسمها الحقيقي .. وجواباً على سؤال وُجّه إليها عن رحلتها مع التوبة قالت: (إنها لحظة كانت من أعظم لحظات حياتي .. عدتُّ فيها من غربتي .. وولدتُ فيها من جديد حينما ذهبتُ مع صديقة لي لمقابلة عالم جليل، وكان من المقرر أن يمتد اللقاء لمدة ساعة، ولكنه امتد لمدة ساعات سمعت فيها ـ مع غيري من المسلمين والمسلمات ـ ما لم أسمعه من قبل .. وارتعدتْ فرائصي واهتز كياني وأنا أسمع كلمات الشيخ عن الإسلام والمعصية والتوبة، والطريق الخطأ والطريق الصواب .. فعدتُّ مع صديقتي إلى منزلي وأنا أرتعش، وأحسست بزلزال رهيب في أنحاء جسمي .. وفي اليوم الثاني ـ وعلى الفور ـ توجهتُّ إلى مسجد من مساجد القاهرة حيث الداعية الكبيرة شمس البارودي وهناء ثروت، وجلست أقرأ القرآن وأتفقه في دين الله والسنة المطهرة، وداومتُ على ذلك بصفة مستمرة ودون انقطاع.
وفي لحظة روحانية قررتُ وحسمتُ أمري بأن أكون مسلمةً مؤمنةً تائبةً إلى ربها، وأن أقطع كل صلتي بالتمثيل.
وتخلصتُ والحمد لله من كل ارتباطي الفنية مع المخرجين والمنتجين وكل ما يتعلق بالفن، بلا رجعة .. فمن يعرف طريق الله لن يجد له بديلاً.
وأنا الآن والحمد لله أعيش من رزق حلال طيب، أسأل الله عز وجل أن يبارك فيه).
وحول الشبهة التي يثيرها البعض من أن توبة الفنانين نتيجة تهديد من جهات ما أجابت:
(أنا عن نفسي رجعتُ إلى الله، وتبتُ وندمتُ خوفاً منه سبحانه واقتناعاً بما أفعل وليس خوفاً من تهديد مطلقاً ولا يخفى علينا جميعاً الحملة الشعواء لهذه الأقلام المغرضة التي تخشى الإسلام وقوّته)
وسُئلتْ: من واقع تجربتك الفنية هل تعتقدين أن الفن حرام؟ فأجبت: (إن الفن والله تعالى أعلم بالنسبة للنساء حرام حرام لأن المرأة عورة، وفن هذه الأيام فن مبتذل فيه إسفاف .. ولن يكون رسالة سامية مطلقاً .. فهو بعيد كل البعد عن الإسلام).
هذا هو ملخص ما قالته الممثلة التائبة نورا بعد اعتزالها الفن والتمثيل .. وأني بهذه المناسبة أنصح كل فتاة تتخذ من هؤلاء (الفنانين) قدوة لها، أو تفكر في الزج بنفسها في وسط تلك الأجواء العفنة؛ أن تقف طويلاً وتمعن النظر في أحوالهم وأقوال التائبين منهم وألا تغتر بما هم فيه من المظاهر الجوفاء وبريق الشهرة الخادع، فما هو إلا كظل زائل أو سراب كاذب سرعان ما يزول فتنكشف الحقيقة.
(توبة الراقصة زيزي مصطفى (1):
عشرون عاماً من عمرها قضتها في حياة الرقص والمجون والعبث، وفي ((عرفات)) عرفت طريق الحق وذاقت حلاوة الإيمان، فكانت التوبة:
تقول زينب مصطفى (زيزي مصطفى سابقاً)) في بداية حديثها:
ظروفي الماديّة العصيبة هي التي جعلتني أعمل في هذا المجال حوالي عشرين سنة، فأنا أعول أمّي المريضة، وأخواتي البنات، وليس لي مصدر آخر للرزق (2).
ثمّ لم أكن أدري أنّ هذا العمل حرام! ولم يكلّمني أحد في ذلك، وظللت على هذه الحال حتّى أنجبت ابنتي الوحيدة.
ثمّ تضيف:
بعد إنجابي لابنتي هذه حدثت تحوّلات جذريّة في حياتي ..
فجأة، ودون سابق إنذار بدأت أصلّي وأشكر الله على هذه النعمة ـ نعمة الإنجاب ـ، ثمّ بدأت أفكّر لأوّل مرّة أنّه لا بدّ أن أنفق على ابنتي من حلال، ولا أدري من أين جاءني هذا الشعور، الذي يعني أنّ عملي حرام، وأنّ المال الذي أجنيه من ورائه حرام.
وبدأت أشعر بتغيّرات نفسية دون أن أدري مصدرها.
(1) - مجلّة الأسرة، العدد: 50 (بتصرّف يسير)).
(2)
- يقول تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب .. )(الطلاق: 2، 3) وفي المثل: تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها.
وشيئاً فشيئاً بدأت أتوضّأ، وأنتظم في أداء الصلاة، وبدأت أدخل في نوبات بكاء حادّ ومتواصل أثناء صلاتي، دون أن أدري لذلك سبباً. ومع كلّ هذه البكاء، وتلك الصلاة، كنت أذهب إلى صالة الرقص، لأنّني ملتزمة بعقد، وفي مسيس الحاجة إلى ما يدرّه عليّ من دخل.
وظللت على هذه الحال: أصلّي، وأبكي، وأذهب إلى الصلاة، حتّى شعرت بأنّ الله سبحانه وتعالى يريد لي التوبة من هذا العمل، عندها أحسست بكرهي الشديد للبدلة التي أرتديها أثناء عملي.
كنت كثيراً ما أستفتي قلبي: هل بدلة الرقص التي أرتديها يمكن أن أنزل بها إلى الشارع؟ فكنت أجيب نفسي، وأقول: طبعاً لا، وبعد عشرين سنة من الرقص، لم يمنعني عملي المحرّم أن أميّز بين الحلال والحرام. إنّ الحلال والحرام بداخلنا، ونعرفهما جيداً حتّى دون أن نسأل أهل العلم.
لكنّ الشيطان يزيّن لنا طريق الحرام حتّى يغرقنا فيه.
كانت هناك رسائل ذات معنى أرسلها الله سبحانه لي حتّى أستيقظ من الغفلة التي أحاطتني من كلّ جانب.
كان الحادث الذي تعرّضت له هو أوّل هذه الرسائل .. وبسبب هذا الحادث قُطع الشريان الذي بين الكعب والقدم، وقال لي أحد الأطباء: بحسب التقرير، وحسب العلم الذي تعلّمناه، سوف تعيشين بقيّة حياتك على عكّاز.
وبعد فكّ الضماد وجدتني أسير بطريقة طبيعية وسليمة مع تساوي قدميّ كما أفادت التقارير الطبيّة.
اعتبرت ذلك رسالة لها معنى من الله سبحانه وتعالى وأنّ قدرته المعجزة فوق كلّ شيء، فقد نجوت من موت محقّق، ونجوت من عمليّات كثيرة في قدمي كان من الممكن أن أعيش بعدها عاجزة.
أمّا الرسالة الثانيّة فقد كانت أشدّ وضوحاً، أرسلها الله إليّ عن طريق صديقة ابنتي في المدرسة عند ما عيّرتها بمهنتي، وجاءت ابنتي تبكي، فبكيت معها، وتأكدّ لي أنّ مهنتي غير مقبولة في المجتمع.
ثم جاءت الرسالة الثالثة، وكان لها صوت عالٍ بداخلي، فكثيراً ما كنت أحدّث نفسي أنّني أريد أن أربّي ابنتي من مال حلال، وأن أعلّمها القيم والمثل والأخلاق الفاضلة، وكنت أسخر من نفسي، وأقول: وأيّ قيم سوف أعلّمها ابنتي وأنا أقوم بذلك العمل.
ثمّ مرضت ابنتي، فكنت أهرع إلى سجّادة الصلاة .. أركع، وأسجد، وأدعو الله أن يشفيها. وبعد أن شفيت، كان لا بدّ من التفكير في الاعتزال النهائي، لأنّه لا يجتمع في قلب المؤمن إيمان وفجور، ولأنّ الصورة أصحبت واضحة تماماً أمامي، ولا تحتاج إلى تفسير آخر.
وفي الأيّام الأخيرة كنت أشعر شعوراً حقيقيّاً بالشوك يشكّني في جسدي كلّما ارتديت بدلة الرقص، وفي مرّة من المرّات كنت أصلّي، وأبكي، وأدعو الله أن يتوب عليّ من هذا العمل الذي يبغضه، وفجأة .. وأثناء دعائي وتضرّعي بين يدي الله قمت من فوري لأتوجّه إلى خزانة ملابسي، وفتحتها، ونظرت إلى بدل الرقص باحتقار شديد، وقلت بصوت عالٍ أشبه بالصراخ: لن أرتديكِ بعد اليوم. وكرّرت هذه الجملة كثيراً، وأنا أبكي كما لم أبكِ من قبل. وبعد هذه النوبة البكائية شعرت براحة نفسيّة عجيبة، تسري في أنحاء جسدي، وتُدخلني في حالة إيمانية أخرى مكّنتني من التخلّص من حياتي السابقة بيسر وسهولة، ولو كنت في أمسّ الحاجة إلى المال الذي أعول به نفسي، وأمّي، وأخواتي، وابنتي.
لقد جاء قرار الاعتزال من أعماقي، وسبقه وقت أمضيته في التفكير والبكاء، ومراجعة النفس، حتّى رسوت على شاطيء اليقين بعد حيرة وعذاب، وشهرة زائفة، وعمل مُرهِق مجرّد من الإنسانية والكرامة، كلّه ابتذال ومهانة وعريّ، وعيون شيطانيّة زائغة تلتهم جسدي كلّ ليلة، ولا أقدر على ردّها.
هذه الرجعة إلى طريق النور منّة من الله سبحانه وتعالى وحده، فهو الذي امتنّ عليّ بها، وليس لأحد من الخلق أيّ فضل فيها.
ثمّ أديت العمرة مرّتين، وفي المرّة الثانية بعد أن عدت إلى بلدي، قرّرت الاعتزال النهائي، وبعدها بشهرين فقط كتب الله لي الحجّ، وفهمت بأنه مكافأة من الله عز وجل، وفي الحجّ، ونحن على صعيد عرفات الطاهر، بكيت بكاء أشبه بالهستيريا، حتّى بكى لبكائي جميع من في الخيمة، ثمّ عدت من الحجّ بحجاب كامل، أدعو الله أن يغفر لي، وأن يسامحني، لأنّني كنت في غفلة، لا أدرك ما أعمله حرام، ولم يعظني أحد في ذلك.
لم يعجب اعتزالي أولئك المهتمّين بالفن، وبدأت العروض المغرية تنهال عليّ بأكثر ممّا أتوقّع، واعتقدت في نفسي أنّ هذه العروض ما هي إلا اختبارات حقيقيّة من الله تعالى ليختبر صدق إيماني؛ هل أنا صادقة في توبتي أم أنّها لحظات مؤقّتة، وأعود بعدها لأنجذب من جديد لهذه العروض الشيطانية، ووقفت أتحدّاهم بالرفض، وأتحدّى نفسي، وأوّل هذه العروض التي رفضتها كانت بمبلغ ضخم للعمل في مسرحية مع ممثل مشهور تستمّر عروضه المسرحية لسنوات عديدة. وثاني هذه العروض جاءني من شركة سياحية لا أعرف لحساب من تعمل، إذ عرضت عليّ أن أذهب إلى ألمانيا لتعليم الرقص الشرقي بمبلغ عشرة آلاف دولار شهريّاً، وسيّارات أحدث موديل، وشقّة فخمة في حي راقٍ بألمانيا. رفضت كلّ ذلك ولم يصدّقوا، فاتّصلوا بي وأملوا حججهم: كيف ترفضين عرضاً كهذا؟ فسوف تعملين بالحجاب، ثمّ إنّ الفتيات اللاتي ستقومين بتعليمهنّ لسن على دينك، فلماذا ترفضين؟! وكان ردّي: إنّ كلّ بنت صغيرة، أو فتاة يافعة سوف أقوم بتعليمها سوف آخذ وزرها حتى لو كانت غير مسلمة.
أمّا السؤال الأكثر وقاحة، الذي لم أكن أتوقّعه، فقد قيل له: إذا كنت اعتزلتِ، حذا حذوك راقصات، فأين يذهب الرقص الشرقي؟! (1).
وأسئلة أخرى أكثر سخافة وفضوليّة، مثل: من أين تدبّرين أمورك؟ وتربيّن ابنتكِ؟ فأجبتهم بالرفض القاطع من أجل أن أعيش بقية عمري تحت مظلّة الإيمان، وقلت: أنا سعيدة بوضعي الجديد، وقانعة به، وسوف يرزقني ربّي، ولن يتخلّى عنّي بعد أن منّ عليّ بالتوبة.
أمّا العرض الأكثر إغراء الذي لم أتوقَّعه في حياتي البتّة، فقد تلقّيته من أحد الغيورين (!) على اندثار الرقص الشرقيّ بخمسين ألف دولار نظير إحياء ليلة واحدة من الرقص، أحييه وسط النساء فقط، ولمدّة ساعتين، وكان جوابي الصارم: لا، وألف لا، لأنّ هذه المحاولة دوافعها مفهومة لي، فإذا كان أكبر أجر تلقّيته في حياتي أثناء عملي في دول أوربيّة كان ألفين أو ثلاثة أو أربعة آلاف دولار، نظير عقد كامل لمدّة معينة؛ فلماذا يعرض عليّ هذا المبلغ نظير إحياء ليلة واحدة؟! المقصود هو إخراجي من حجابي، ومن دائرة إيماني التي ولجت فيها عن صدق ويقين.
بعد هذا الرفض الأخير أصابهم اليأس، وتوقّفوا عن محاولاتهم الدنيئة لإغرائي بالابتعاد عن طريق النور الذي سلكته و رضيته، والحمد لله على كلّ حال ..
(1) - فليذهب إلى الجحيم.
(توبة الممثلة هدى رمزي (1):
الطريق إلى الله عز وجل مفتوح أمام التائبين، ومهما كانت الذنوب والآثام فرحمة الله قد وسعت كلّ شيء، وهو القائل سبحانه:((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر: 53].
هكذا بدأت الممثلة التائبة هدى رمزي حديثها للمجلّة، أمّا رحلتها إلى الهداية فترويها بقولها:
منذ نشأتي الأولى وأنا في الوسط الفنّي، فوالدي كان منتجاً ومخرجاً، وشقيقي الأكبر كذلك، وبعد تخرّجي من كليّة الإعلام ـ قسم الإذاعة والتلفزيون ـ سلكت طريق الفنّ لعدّة سنوات، ظللت خلالها أفكّر كثيراً في جدوى هذا العمل المليء بالذنوب.
كنت في رحلة بحث متواصلة عن الفضيلة، وتزوجت عدّة مرّات بحثاً عن تلك القيم الزائفة، المفقودة في حياتي، ورحت أقرأ واستمع كثيراً لشتّى الآراء والأفكار، حتى شاهدت حديثاً لأحد المشايخ المعروفين في التلفزيون، ومن فرط تأثّري به حاولت الاتصال بهذا الداعية الجليل .. وبالفعل أعطاني عدّة كتب، وحدّثني كثيراً عن قيم الإسلام السامية دون أن يصرّح، ومن تلقاء نفسي وجدت أنّ حظيرة الإسلام هي أفضل ما يمكن اللجوء إليه، وبعد قراءات واتّصالات مع الشيخ قررّت اعتزال هذا العفن نهائياً، وإعلان توبتي إلى الله عز وجل، واكتشفت أنّ هذا التصرّف هو ضالّتي المنشودة التي كنت أبحث عنها منذ سنوات، ثم وجدتها والحمد لله.
وأنا الآن أقضي معظم وفتي في قراءة القرآن وكتب الفقه حتّى أعوّض ما فاتني من علوم الدين الضرورية التي لا يسع مسلم الجهل بها.
أمّا ما أنوي عمله – إن شاء الله – فهو تأسيس دار لتشغيل الفتيات المسلمات، وتعليمهن أصول دينهنّ ودنياهنّ أيضاً حتى يستطعن مواجهة الحياة وتربية النشء، كما أنوي أيضاً – إن شاء الله – تأسيس دار للأيتام ورعايتهم، لأنّ كافل اليتيم له أجر عظيم عند الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين)) وأشار بأصبعه؛ السبّابة والتي تليها وأنا أطمع في تلك المكانة الرفيعة.
أما رأيها في الفنّ بشكله الحالي، فتقول:
(1) - مجلّة الدعوة، العدد: 1507 (بتصرّف).
إنّ الوضع القائم الآن باسم الفنّ حرام بكلّ المقاييس، ولا يمكن أن يسمّى فنّاً، بل هو عفن وفساد، ومجون واختلاط، ودمار للأخلاق والمجتمعات، فهو لا يخدم المجتمع، ولا يقدّم قيماً ولا مثلاً للشباب، فيكف يكون حلالاً. نحن نقول حرام بعد أن خضنا تجربته، وعندنا الدليل والحجّة على ذلك، فما يجري فيما يسمّى بالوسط الفنّي حالياً لا يمكن أن يمتّ للدين بصلة، فالإسلام يحضّنا على الالتزام والصدق والنقاء والفضيلة، والفنّ اليوم يدعو إلى ضدّ ذلك.
وفي نصيحة للاتي لا زلن في ذلك الوسط تقول:
أقول لهنّ: إنّ الطريق إلى الله خير وأبقى، وهو دائماً مفتوح للتائبين، وحين ترجعن إلى حظيرة الدين ستعلمن أنّ ما يقدّم باسم الفنّ ما هو إلا عفن، ولا علاقة له بالدين، بل هو من المحرّمات والفساد المنهي عنه، لأنّه علاوة على كونه لهواً لا يفيد شيئاً فهو أيضاً يعتمد المحرّمات سبيلاً، ويكرّس الخطيئة، ولا يهدف إلى الصالح العام، فتبن إلى الله، فهو توّاب رحيم.
أمّا اللاتي تبن ثمّ عدن إلى غيّهن، فأقول لهن ما قاله الله – عز وجل – في سورة التوبة:((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (التوبة: 115).
فهؤلاء كان في نفوسهن مطمع ومرض، ولما لم يمكنهن مما أردن، عدن إلى الشيطان)).
هذا ما قالته الفنانة سابقاً هدى رمزي عما يسمى بالوسط الفني، وهو كلام قيم يبين حقيقة ما يجري في ذلك الوسط العفن الذي تتحدث عنه كثيراً وسائل الإعلام، وتلمع أهله! ّ!
(توبة الممثلة سهير البابلي ((1)):
من الفنانات اللاتي التحقن مؤخراً بركب الإيمان، الممثلة سهير البابلي، تحدّثنا عن رحلتها إلى الإيمان فتقول:
(1) - مجلّة الدعوة، العدد الصادر في: 2/ 3/ 1414هـ، وجريدة المسلمون، العدد: 439 (بتصرف).
منذ خمس سنوات أحسست بأنّ في حياتي شيئاً خاطئاً، ولكن حبّي لعملي كان كبيراً، فطغى على هذه الأحاسيس في داخلي، فكانت تطفو على السطح بين آن وآخر، وزادت تلك الأحاسيس عمقاً في داخلي منذ عامين، فبدأت أغيّر أنماط حياتي بالمزيد من التقرب إلى الله، فحاولت التعرف على كتاب الله أوّلاً، وأخذت أقرأ، وأستفسر، وأعمل بقول المولى الكريم، ((فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) (النحل: 43). فكنت ألجأ إلى العلماء لأستفسر عمّا يستعصي عليّ فهمه من آيات وأحاديث، فاكتشفت أنه ليس هناك ما هو أجمل ولا أفضل من التقرّب إلى الله، وبكيت ودعوت الله أن يهديني، ويأخذ بيدي إلى طريق الحقّ، حتّى كان يوم من الأيّام التي لا أنساها، كنت على موعد مع درس من دروس الإيمان من أحد الدعاة، فإذا باللقاء يمتدّ لأكثر من ثلاث ساعات، شعرت فيها بشعور يصعب عليّ تفسيره. وعدت إلى منزلي، وصليت الظهر، وبكيت كما لم أبكِ من قبل، ودعوت الله أن يلهمني رشدي، وأن يباعد بيني وبني الشيطان.
وأمسكت بالمصحف، وقرأت قوله تعالى:((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (النور: 1)
فكان قرار الحجاب الذي نبع عن عقيدة وعزيمة، بعد ما علمت بفرضيّته، ودون مناقشة، امتثلت لأمر الله.
أما زملائي سابقاً في الوسط الفني فأقول لهم بإحساس إيماني صادق، إنّ طريق الإيمان هو ثمرة الدنيا والآخر، وإن طاعة الله خير من الدنيا وما فيها.
وأقول لهم أنتم تعيشون في تيه وضياع، وتعايشون الغفلة والدمار، وإني أدعو لهم بالهداية.
(القسم الثالث: توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان:
(القسم الثالث: توبة أناسٍ غارقين في المعاصي إلى الأذقان:
(توبة شاب عاق لأمه (1):
ح. ح. م. شابّ ذهبت إلى الخارج
…
تعلم وحصل على شهادات عالية ثم رجع إلى البلاد
…
تزوج من فتاة غنية جميلة كانت سبباً في تعاسته لولا عناية الله
…
يقول ح. ح. م:
(1) هذه القصة نشرت في جريدة البلاد /عدد9021/ إعداد عبد العزيز الحمدان.
مات والدي وأنا صغير فأشرفتْ أمي على رعايتي
…
عَمِلَتْ خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها
…
أدخلتني المدرسة وتعلمتُ حتى أنهيت الدراسة الجامعية
…
كنت بارّاً بها
…
وجاءت بعثتي إلى الخارج فودّعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك
…
أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملتُ تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصاً آخر قد أثّرتْ فيه الحضارة الغربية
…
رأيتُ في الدين تخلفاً ورجعية
…
وأصبحتُ لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله.
وتحصلتُ على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة ولكني أبيتُ إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأني كنتُ أحلم بالحياة (الأرستقراطية)(كما يقولون)
…
وخلال ستة أشهر من زواجي كانتْ زوجي تكيد لأمي حتى كرهتُ والدتي
…
وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجي تبكي فسألتها عن السبب فقالت لي: شوف يا أنا يا أمك في هذا البيت
…
لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جنّ جنوني وطردتُّ أمي من البيت في لحظة غضب فَخَرجَتْ وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي.
وبعد ذلك بساعات خَرجتُ أبحث عنها ولكن بلا فائدة
…
رجعتُ إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة.
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أُصِبْتُ خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى
…
وعَلِمتْ أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل علي طردتْها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا
…
ماذا تريدين منا
…
اذهبي عنا
…
رجعت أمي من حيث أتت!.
وخرجتُ من المستشفى بعد وقت طويل انتكستْ فيه حالتي النفسية وفقدت الوظيفة والبيت وتراكمت علي الديون وكل ذلك بسبب زوجتي فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة
…
وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: مادمتَ قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريد
…
طلقني.
كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعتْ على رأسي
…
وطلقتها بالفعل
…
فاستيقظتُ من السُّباتِ الذي كنت فيه.
خرجتُ أهيم على وجهي أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها ولكن أين وجدتها؟!! كانت تقبع في أحد الأربطة تأكل من صدقات المحسنين.
دخلت عليه
…
وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة
…
وما إن رأيتها حتى ألقيتُ بنفسي عند رجليها وبكيتُ بكاءً مرّاً فما كان منها إلا أن شاركتني البكاء.
بقينا على هذه الحالة حولي ساعة كاملة
…
بعدها أخذتُّها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه.
وها أنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر: أمي حفظها الله وأسأل الله أن يُديم علينا الستّر والعافية.
(توبة فتاة نصرانية (1):
(سناء) فتاة مصرية نصرانية، كتب الله لها الهداية واعتناق الدين الحق بعد رحلة طويل من الشكّ والمعاناة، تروي قصة هدايتها فتقول:
(نشأت كأي فتاة نصرانية مصرية على التعصب للدين النصراني، وحرص والديَّ على اصطحابي معهما إلى الكنيسة صباح كل يوم أحد لأقبّل يد القس، وأتلو خلفه التراتيل الكنسية، وأستمع إليه وهو يخاطب الجمع ملقناً إياهم عقيدة التثليث، ومؤكداً عليهم بأغلظ الإيمان أن غير المسيحيين مهما فعلوا من خير فهم مغضوب عليهم من الربّ، لأنهم ـ حسب زعمه ـ كفرة ملاحدة.
كنت أستمع إلى أقوال القس دون أن أستوعبها، شأني شأن غيري من الأطفال، وحينما أخرج من الكنيسة أهرع إلى صديقتي المسلمة لألعب معها، فالطفولة لا تعرف الحقد الذي يزرعه القسيس في قلوب الناس.
كبرت قليلاً، ودخلت المدرسة، وبدأت بتكوين صداقات مع زميلاتي في مدرستي الكائنة بمحافظة السويس
…
وفي المدرسة بدأت عيناي تتفتحان على الخصال الطيبة التي تتحلّى بها زميلاتي المسلمات، فهن يعاملني معاملة الأخت، ولا ينظرن إلى اختلاف ديني عن دينهن، وقد فهمت فيما بعد أن القرآن الكريم حث على معاملة الكفار ـ غير المحاربين ـ معاملة طيب طمعاً في إسلامهم وإنقاذهم من الكفر، قال تعالى:(لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8] إحدى زميلاتي المسلمات ربطتني بها على وجه الخصوص صداقة متينة، فكنت لا أفارقها إلا في حصص التربية الدينية، إذ كنت ـ كما جرى النظام ـ أدرس مع طالبات المدرسة النصرانيات مبادئ الدين النصراني على يد معلمة نصرانية.
(1) مجلة الفيصل، العدد 165 (بتصرف).
كنت أريد أن أسأل معلمتي كيف يمكن أن يكون المسلمون ـ حسب افتراضات المسيحيين ـ غير مؤمنين وهو على مثل هذا الخُلق الكريم وطيب المعشر؟! لكني أم أجرؤ على السؤال خشية إغضاب المعلمة حتى تجرأت يوماً وسألت، فجاء سؤالي مفاجأةً للمعلمة التي حاولت كظم غيظها، وافتعلت ابتسامة صفراء رسمتها على شفيتها وخاطبتني قائلة: (إنك مازلت صغيرة ولم تفهمي الدنيا بعد، فلا تجعلي هذه المظاهر البسيطة تخدعك عن حقيقة المسلمين كما نعرفها نحن الكبار
…
).
صَمَتُّ على مضض على الرغم من رفضي لإجابتها غير الموضوعية، وغير المنطقية.
وتنتقل أسرة أعز صديقاتي إلى القاهرة، ويومها بكينا لألم الفراق، وتبادلنا الهدايا والتذكارات، ولم تجد صديقتي المسلمة هدية تعبر بها عن عمق وقوة صداقتها لي سوى مصحف شريف في علبة قطيفة أنيقة صغيرة، قدمتها لي قائلة:(لقد فكرتُ في هدية غالية لأعطيك إياها ذكرى صداقة وعمر عشنا سوياّ فلم أجد هذا المصحف الشريف الذي يحتوي على كلام الله).
تقبّلت هدية صديقتي المسلمة شاكرة فرحة، وحرصت على إخفائها عن أعين أسرتي التي ما كانت لتقبل أن تحمل ابنتهم المصحف الشريف.
وبعد أن رَحَلَتْ صديقتي المسلمة، كنت كلما تناهى إليّ صوت المؤذن، منادياً للصلاة، وداعياً المسلمين إلى المساجد، أعمد إلى إخراج هدية صديقتي وأقبلها وأنا أنظر حولي متوجسة أن يُفاجأني أحد أفراد الأسرة، فيحدث لي ما لا تُحمد عُقباه.
ومرت الأيام، وتزوجت من (شماس) كنيسة العذراء مريم، ومع متعلقاتي الشخصية، حملت هدية صديقتي المسلمة (المصحف الشريف)، وأخفيته بعيداً عن عيني زوجي، الذي عشت معه كأي امرأة شرقية وفيّة ومخلصة وأنجبت منه ثلاثة أطفال.
وتوظفت في ديوان عام المحافظة، وهناك التقيتُ بزميلات مسلمات متحجبات، ذكرني بصديقتي الأثيرة، وكنت كلما علا صوت الأذان من المسجد المجاور، يتملكني إحساس خفي يخفق له قلبي، دون أن أدري لذلك سبباً محدداً، إذ كنت لا أزال غير مسلمة، ومتزوجة من شخص ينتمي إلى الكنيسة بوظيفة يقتات منها، ومن مالها يطعم أسرته.
وبمرور الوقت، وبمجاورة زميلات وجارات مسلمات على دين وخلق بدأت أفكر في حقيقة الإسلام والمسيحية، وأوازن بين ما أسمعه في الكنيسة عن الإسلام والمسلمين، وبين ما أراه وألمسه بنفسي، وهو ما يتناقض مع أقوال القس والمتعصبين النصارى.
بدأت أحاول التعرف على حقيقة الإسلام، وأنتهز فرصة غياب زوجي لأستمع إلي أحاديث المشايخ عبر الإذاعة والتلفاز، لعلي أجد الجواب الشافي لما يعتمل في صدري من تساؤلات حيري، وجذبتني تلاوة الشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد للقرآن الكريم، وأحسستُ وأنا أستمع إلى تسجيلاتهم عبر المذياع أن ما يرتلانه لا يمكن أن يكون كلام بشر، بل هو وحي إلهي.
وعمدتُ يوماً أثناء وجود زوجي في الكنيسة إلى دولابي، وبيد مرتعشة أخرجتُ كنزي الغالية (المصحف الشريف)، فتحته وأنا مرتبكة، فوقعت عيناي على قوله تعالى:(إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)[آل عمران: 59] ارتعشت يدي أكثر، وتصبب وجهي عرقاً، وسرتْ في جسمي قشعريرة، وتعجبت لأني سبق أن استمعت إلى القرآن كثيراً في الشارع والتلفاز والإذاعة، وعند صديقاتي المسلمات، لكني لم أشعر بمثل هذه القشعريرة التي شعرت بها وأنا أقرأ من المصحف الشريف مباشرةً بنفسي.
هممتً أن أواصل القراءة إلا أن صوت أزيز مفتاح زوجي وهو يفتح باب الشقة حال دون ذلك، فأسرعت وأخفيت والمصحف الشريف في مكانه الأمين، وهرعت لأستقبل زوجي.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة ذهبتُ إلى عملي، وفي رأسي ألف سؤال حائر، إذ كانت الآية الكريمة التي قرأتها وضعتْ الحد الفاصل لما كان يؤرقني حول طبيعة عيسى عليه السلام، أهو ابن الله كما يزعم القسيس ـ تعالى الله عما يقولون ـ أم أنه نبي كريم كما يقول القرآن؟! فجاءت الآية لتقطع الشك باليقين، معلنة أن عيسى، عليه السلام، من صلب آدم، فهو إذا ليس ابن الله، فالله سبحانه وتعالى:(لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ).
تساءلت في نفسي عن الحلّ وقد عرفت الحقيقة الخالدة، حقيقة أن (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، أيمكن أن أشهر إسلامي؟! وما موقف أهلي مني، بل ما موقف زوجي ومصير أبنائي؟!
طافت بي كل هذه التساؤلات وغيرها وأنا جالسة على مكتبي أحاول أن أؤدي عملي لكني لم أستطع، فالتفكير كاد يقتلني، واتخاذ الخطوة الأولى أرى أنها ستعرضني لأخطار جمة أقلّها قتلي بواسطة الأهل أو الزوج والكنيسة.
ولأسابيع ظللتُ مع نفسي بين دهشة زميلاتي اللاتي لم يصارحني بشيء، إذ تعودنني عاملة نشيطة، لكني من ذلك اليوم لم أعد أستطيع أن أنجز عملاً إلا بشق الأنفس.
وجاء اليوم الموعود، اليوم الذي تخلصتُ فيه من كل شك وخرف وانتقلت فيه من ظلام الكفر إلى نور الإيمان فبينما كنتُ جالسة ساهمة الفكر، شاردة الذهن، أفكر فيما عقدتُّ العزم عليه، تناهى إلى سمعي صوت الأذان من المسجد القريب داعياً المسلمين إلى لقاء ربهم وأداء صلاة الظهر، تغلغل صوت الأذان داخل نفسي، فشعرت بالراحة النفسية التي أبحث عنها، وأحسست بضخامة ذنبي لبقائي على الكفر على الرغم من عظمة نداء الإيمان الذي كان يسري في كل جوانحي، فوقفتُ بلا مقدما لأهتف بصوت عالٍ بين ذهول زميلاتي:(أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، فأقبل عليّ زميلاتي وقد تحيرنَ من ذهولهن، مهنئات باكيات بكاء الفرح، وانخرطتُ أنا أيضا معهن في البكاء، سائلة الله أن يغفر لي ما مضى من حياتي، وأن يرضى عليّ في حياتي الجديدة.
كان طبيعياً أن ينتشر خبر إسلامي في ديوان المحافظة، وأن يصل إلى أسماع زملائي وزميلاتي النصارى، اللواتي تكلفن ـ بين مشاعر سخطهن ـ بسرعة إيصاله إلى أسرتي وزوجي، وبدأن يرددنَ عني مدّعين أن وراء القرار أسباب لا تخفى.
لم آبه لأقوالهن الحاقدة، فالأمر الأكثر أهمية عندي من تلك التخرصات: أن أشهر إسلامي بصورة رسمية، كي يصبح إسلامي علناً، وبالفعل توجهتُ إلى مديرية الأمن حيث أنهيتُ الإجراءات اللازمة لإشهار إسلامي.
وعدتُ إلى بيتي لأكتشف أن زوجي ما إن علم بالخبر حتى جاء بأقاربه وأحرق جميع ملابسي، واستولى على ما كان لديّ من مجوهرات ومال وأثاث، فلم يؤلمني ذلك، وإنما تألمت لخطف أطفالي من قَبَل زوجي ليتخذ منهم وسيلة للضغط عليّ للعودة إلى ظلام الكفر
…
آلمني مصير أولادي، وخفتُ عليهم أن يتربوا بين جدران الكنائس على عقيدة التثليث، ويكون مصيرهم كأبيهم في سقر.
رفعتُ ما اعتمل في نفسي بالدعاء إلى الله أن يعيد إلىّ أبنائي لتربيتهم تربية إسلامية، فاستجاب الله دعائي، إذ تطوع عدد من المسلمين بإرشادي للحصول على حكم قضائي بحضانة الأطفال باعتبارهم مسلمين، فذهبت إلى المحكمة ومعي شهادة إشهار إسلامي، فوقفت المحكمة مع الحق، فخيرتْ زوجي بين الدخول في الإسلام أو التفريق بينه وبيني، فقد أصبحتُ بدخولي في الإسلام لا أحلُّ لغير مسلم، فأبى واستكبر أن يدخل في دين الحق، فحكمتِ المحكمة بالتفريق بيني وبينه، وقضتْ بحقي في حضانة أطفالي باعتبارهم مسلمين، لكونهم لم يبلغوا الحُلم، ومن ثم يلتحقون بالمسلم من الوالدين.
حسبت أن مشكلاتي قد انتهت عند هذا الحد، لكني فوجئت بمطاردة زوجي وأهلي أيضاً، بالإشاعات والأقاويل بهدف تحطيم معنوياتي ونفسيتي، وقاطعتني الأسر النصرانية التي كنت أعرفها، وزادت على ذلك بأن سعت هذه الأسر إلى بث الإشاعات حولي بهدف تلويث سمعتي، وتخويف الأسر المسلمة من مساعدتي لقطع صلتهن بي.
وبالرغم من كل المضايقات ظللتُ قوية متماسكة، مستمسكة بإيماني، رافضة كل المحاولات الرامية إلى ردَّتي عن دين الحق، ورفعتُ يديّ بالدعاء إلى مالك الأرض والسماء، أن يمنحني القوة لأصمد في وجه كل ما يشاع حولي، وأن يفرّج كربي.
فاستجاب الله دعائي وهو القريب المجيب، وجاءني الفرج من خلال أرملة مسلمة، فقيرة المال، غنية النفس، لها أربع بنات يتامى وابن وحيد بعد وفاة زوجها، تأثرتْ هذه الأرملة المسلمة للظروف النفسية التي أحياها، وتملكها الإعجاب والإكبار لصمودي، فعرضتْ عليّ أن تزوجني بابنها الوحيد (محمد) لأعيش وأطفالي معها ومع بناتها الأربع، وبعد تفكير لم يدم طويلاً وافقتُ، وتزوجتُ محمداً ابن الأرملة المسلمة الطيبة.
وأنا الآن أعيش اليوم مع زوجي المسلم (محمد) وأولادي، وأهل الزوج في سعادة ورضا وراحة بال، على الرغم مما نعانيه من شظف العيش، وما نلاقيه من حقد زوجي السابق، ومعاملة أسرتي المسيحية.
ولا أزال بالرغم مما فَعَلَته عائلتي معي أدعو الله أن يهديهم إلى دين الحق ويشملهم برحته مثلما هداني وشملني برحمته، وما ذلك عليه سبحانه وتعالى بعزيز.
(توبة رجل في بانكوك (1):
(بانكوك) بلد الضياع والفساد
…
بلد العربدة والفجور بلد المخدرات والهلاك أنه رمز لذلك كله.
مئات الشباب
…
بل والشيوخ يذهبون إلى بانكوك يبحثون عن المتعة الحرام فيعودون وقد خسروا الراحة والحياة السعيدة
…
خسروا دينهم ودنياهم
…
وبعضهم يعود وقد خسر الدنيا والآخرة يعود جنازة قد فارق الحياة ويا لها من خاتمة بئيسة!!
وفيما يلي قصة لرجل قد بدأ الشّيبُ يَشتعلُ في رأسه ذهب إلى هناك تاركاً زوجته وأولاده ولكنه استيقظ في النهاية يروي قصته فيقول:
(1) هذه القصة نشرت في جريدة المسلمون العدد (202).
لم أخجل من الشيب الذي زحف إلى رأسي
…
لم أرحم مستقبل ابنتي الكبرى التي تنتظر من يطرق الباب طالباً يدها للزواج
…
لم أعبأ بالضحكات الطفولية لابنتي الصغرى التي كانت تضفي السعادة والبهجة على البيت
…
لم أتلفت إلى ولدي ذي الخمسة عشر ربيعاً والذي أرى فيه أيام صباي وطموحات شبابي وأحلام مستقبلي
…
وفوق كل هذا وذاك لم أهتم بنظرات زوجتي
…
شريكة الحلو والمرّ وهي تكاد تسألني إلى أين ذلك الرحيل المفاجئ.
شيئا واحداً كان في خاطري وأنا أجمع حقيبة الضياع لأرحل
…
قفز هذا الشيء فجأة ليصبح هو الحلم والأمل
…
ليصبح هو الخاطر الوحيد
…
وميزان الاختيارات الأقوى.
ما أقسى أن يختار المرء تحت تأثير الرغبة
…
وما أفظع أن يسلك طريقاً لا هدف له فيه سوء تلبية نداء الشيطان في نفسه وهكذا أنا
…
كأنه لم تكفني ما تمنحه زوجتي إياي
…
تلك المرأة الطيبة التي باعت زهرة عمرها لتشتري فقري
…
وضحت كثيراً لتشبع غروري الكاذب
…
كانت تمر عليها أيام وهي تقتصر على وجبة واحدة في اليوم لأن مرتبي المتواضع من وظيفتي البسيطة لم يكن يصمد أمام متطلبات الحياة.
صبرت المسكينة
…
وقاست كثيراً حتى وقفت على قدمي
…
كنت أصعد على أشلاء تضحياتها
…
نسيتُ أنها امرأة جميلة صغيرة
…
يتمناها عشرات الميسورين واختارتني لتبني مني رجلاً ذا دنيا واسعة في عالم الأعمال يسانده النجاح في كل خطوة من خطواته.
وفي الوقت الذي قررّت فيه أن ترتاح تجني ثمرات كفاحها معي فوجئتْ بي أطير كأن عقلي تضخم من أموالي
…
وكأني أعيش طيش المراهقة التي لم أعشها في مرحلتها الحقيقية.
بدأت يومي الأول في بانكوك
…
وجه زوجتي يصفع خيالي كلما هممتُ بالسقوط هل هي صيحات داخلية من ضمير يرفض أن ينام
…
أم هو عجز (الكهولة) الذي شل حركتي.
(إنك لا تستطيع شيئاً
…
أعرض نفسك على الطبيب) عبارة صفعتني بها أول عثرة فنهضت وقد أعمى الشيطان البصيرة ولم يعد همي سوى رد الصفعة
…
توالت السقطات وتوالى الضياع
…
كنت أخرج كل يوم لأشتري الهلاك وأبيع الدين والصحة ومستقبل الأولاد وسلامة الأسرة
…
ظننت أنني الرابح والحقيقة أنني الخاسر الضائع الذي فقد روحه وضميره وعاش بسلوك البهائم يغشى مواطن الزلل.
أخذت أتجرع ساعات الهلاك في بانكوك كأنني أتجرّع السم الزعاف
…
أشرب كأس الموت
…
كلما زلّت القدم بعثرات الفساد
…
لم تعد في زمني عظة ولم يسمع عقلي حكمة.
عشت غيبوبة السوء يزينها لي مناخ يحمل كل أمراض الخطيئة
…
مرت سبعة أيام أصبحت خلالها من مشاهير رواد مواطن السوء
…
يُشار إلي بالبنان
…
فأنا رجل الأعمال (الوسيم) الذي يدفع أكثر لينال الأجمل!
أحياناً كان همي الوحيد منافسة الشباب القادمين إلى بانكوك في الوجاهة
…
في العربدة
…
في القوة
…
أعرفهم جيداً
…
لا يملكون جزءاً يسيراً مما أملكه لكنهم كانوا يلبسون (أشيك) مما ألسبه لذا كنت اقتنص فوراً الفريسة التي تقع عليها أعينهم
…
وعندها أشعر أنني انتصرت في معركة حربية وفي النهاية سقطت سقطة حولتني إلى بهيمة
…
فقدت فيها إنسانيتي ولم أعد أستحق أبوتي
…
فكانت الصفعة التي أعادت إلى الوعي
…
قولوا عني ما تشاءون
…
اصفعوني
…
ابصقوا في وجهي
…
ليتكم كنتم معي في تلك الساعة لتفعلوا كل هذا
…
أي رعب عشته في تلك اللحظات وأي موت تجرعته.
أقسم لكم أنني وضعت الحذاء في فمي لأن هذا أقل عقاب أستحقه
…
رأيت فجأة وجه زوجتي يقفز إلى خيالي
…
كانت تبتسم ابتسامة حزينة
…
وتهز رأسها أسفاً على ضياعي
…
رأيت وجه ابنتي الكبرى التي بلغت سن الزواج تلومني وهي تقول: ما الذي جعلك تفعل كل هذا فينا وفي نفسك؟! ورأيت لأول مرة صحوة ضميري ولكنها صحوة متأخرة
…
جمعت حقيبة الضياع التي رحلت بها من بلدي
…
قذفتها بعيداً
…
وعدت مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.
ها أنذا أبداً أولى محاولتي للنظر في وجه زوجتي
…
أدعو الله أن يتوب علي
…
وأن يلهم قلبها نسيان ما فعلته في حقها وحق أولادنا. ولكن حتى الآن لم أسامح نفسي
…
ليتكُم تأتون إلىّ وتصفعوني بأحذيتكم أنني أستحق أكثر من ذلك.
(توبة شاب رأى الموت بعينيه (1)
شاب من ضحايا رفقاء السوء، كانت له صولات وجولات في عالم الضياع والمخدرات، حدثت في حياته حادثة أيقظته من غفلته، وأعادته إلى خالقه، التقيتُ به في أحد مساجد الرياض، فحدثني عن قصته، فقال:
نشأتُ في بيت متدين جدّاً، في حي من أحياء مدينة الرياض، والدي رحمه الله كان شديد التدين، فلم يكن يسمح بدخول شيء من آلات اللهو والفساد إلى البيت.
(1) هذه القصة رواها لي هذا الشاب بنفسه.
ومضتِ الأيام، وتجاوزت مرحلة الطفولة البريئة، ولما بلغت الرابعة عشرة من عمري ـ وكنت في السنة الثانية من المرحلة المتوسطة ـ حدث في حياتي حادث كان سبباً في تعاستي وشقائي فترة من الزمن، فقد تعرفت على (شلة) من رفقاء السوء، فكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإيقاعي في شباكهم (1).
وجاءت الفرصة المناسبة، فترة الامتحانات، فجاءوني بحبوب بيضاء منبهة، فكنت أسهر عدداً من الليالي المتواليات في المذاكرة دون أن يغلبني نعاسٌ، أو أشعر بحاجة إلى نوم، وانتهتِ الامتحانات، ونجحتُ بتفوق!!
وبعد الامتحانات داومت على تعاطي هذه الحبوب البيضاء، فأرهقني السهر، وتعبتُ تعباً شديداً، فجاءني أولئك (الشياطين)، وقدموا لي في هذه المرة حبوباً حمراء (مخدرات)، وقالوا لي: إنها تطرد عني السهر وتجلبُ لي النوم والراحة، ولم أكن ـ لصغر سني ـ أدرك حقيقة هذه اللعبة، وهذا التآمر وهذا المكر الخبيث من هؤلاء الشياطين، شياطين الإنس.
أخذت أتعاطى هذه الحبوب الحمراء يومياً وبالعشرات، وبقيتُ على هذه الحال ثلاث سنوات تقريباً أو أكثر، وفشلت في دراستي، ولم أتمكن من إتمام المرحلة المتوسطة من الدراسة والحصول على الشهادة، فصرتُ أنتقل من مدرسة إلى مدرسة عليّ أحصل عليها، ولكن دون جدوى، وبعد هذا الفشل الذريع الذي كان سببه هذه الحبوب المشؤومة، فكرتُ في الانتقال إلى مدينة أخرى، حيث يقيم عمي وأولاده في محاولة أخيرة لإتمام الدراسة.
وفي ليلة من ليالي الشتاء البرادة ـ وكان والدي قد اشترى سيارة جديدة ـ أخذت هذه السيارة دون علم والدي، واتجهتُ إلى تلك المدينة، وكنتُ أحمل في جيبي كمية كبيرة من الحبوب الحمراء.
وفي الطريق توقفت عند بعض الأصحاب، وفي تلك الليلة أسرفتُ في تناول هذه الحبوب حتى أصبحتُ في وضع يرثى له.
(1) مصاحبة الأشرار من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والفساد والبعد عن الله والوقوع في المعاصي والذنوب وربما الكفر، وبالمقابل فإن مصاحبة الأخيار من أعظم أسباب الهداية والصلاح والقرب من الله. فالواجب الحذر من رفقاء السوء.
وقبيل الفجر، ركبتُ السيارة وانطلقت في طريقي، وما هي إلا دقائق حتى غبتُ عن الدنيا ولم أفق إلا وأنا في المستشفى في حالة سيئة، قد كسرت ساقي اليمنى، وأصبحت بجروح كثيرة، بعد أن مكثت في غرفة الإنعاش ثمانٍ وأربعين ساعةً، فقد كان حادثاً شنيعاً حيث دخلتُ بسيارتي تحت سيارة نقل كبيرة، ومن رحمة الله بي أن كتب لي الحياة، ومنحنى فرصة جديدة، لعلي أتوب وأقلع عمّا أنا فيه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
نقلت من المستشفى إلى بيت والدي بالرياض، وفي البيت كنت أتعاطى هذه الحبوب النكدة.
قد تسألني وتقول: كيف تحصل على هذه الحبوب، وأنت على فراش المرض؟
فأقول: لقد كان أولئك الشياطين يأتون إليّ في البيت فيعرضون علي بضاعتهم، فأشتري منهم، بالرغم من حالتي السيئة.
بقيتُ على هذه الحال أياماً، حتى أحسست بتحسن بسيط، وكانت فكرة السفر تراودني حتى تلك اللحظة أملاً في إكمال دراستي المتوسطة.
وفي عصر أحد الأيام، وبعد أن تناولت كمية كبيرة من هذه الحبوب، خرجت أتوكأ على عكازي وأخذت أبحث عن سيارة تنقلني إلى المدينة، حاولت أن أوقف عدداً من السيارات إلا أن أحداً لم يقف لي، فذهبت إلى موقف سيارات الأجرة واستأجرت سيارة أوصلتني إلى هناك.
وهناك، بادرت بالتسجيل في إحدى المدارس المتوسطة بعد جهود بذلها عمي وغيره في قبولي، وحصلتُ على شهادة الكفاءة، وكنت أثناء الدراسة مستمراً على تعاطي المسكرات، إلا أنني تركتُ المخدرات ووقعتُ في الشراب (الخمر)، وفي الوقت نفسه كنت أقوم بترويج تلك الحبوب الحمراء، وبيعها بسعر مضاعف، ولم أكن أدرك فداحة هذا الأمر وخطورته، فقد كان همي جمع المال ـ أسأل الله أن يتوب عليّ ـ.
ثم وقعتُ بعد ذلك في الحشيش وأدمته، وكنت أتعاطاه عن طريق التدخين، فكنت أذهب إلى المدرسة وأنا في حالة هستيرية فأرى الناس من حولي كأنهم ذباب أو حشرات صغيرة، لكني لم أكن أتعرض لأحد، لأن الذي يتعاطى هذا البلاء يكون جباناً يخاف من كل شيء.
بقيت على هذه الحال سنتين تقريباً، وكنت آنذاك أسكن بمفردي في بيت يقع في مكان ناءٍ في طرف البلد.
وفي يوم من الأيام جاءني اثنان من شياطين الإنس الذين أعرفهم ـ وكان أحدهم متزوجاً ـ فأوقفت سيارتي وركبت معهم، وكان ذلك بعد صلاة العصر، فأخذنا ندور وندور في شوارع البلد.
وبعد جولة دامت عدة ساعات، أوقفوني عند سيارتي، فركبتها واتجهت إلى البيت فلم أستطع الوصول إليه، فقد كنت في حالة سكر شديد.
ظللت مدة ساعتين أو أكثر أبحث عن البيت فلم أجده!!!
وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد وجدته
…
فلما رأيته فرحتُ فرحاً شديداً، فلما هممتُ بالنزول من السيارة أحسستُ بألم شديد جداً في قلبي، وبصعوبة بالغة نزلت ودخلت البيت، وفي اللحظات تذكرت الموت.
نعم، والله أيها الاخوة لقد تذكرتُ الموت كأنه أمامي يريد أن يهجم عليّ، ورأيت أشياء عجيبة أعجز عن وصفها الآن فقمتُ مسرعاً ومن غير شعور، ودخلت دورة المياه وتوضأت، وبعد خروجي من الدورة عدتُّ وتوضأت ثانية .. ثم أسرعت إلى إحدى الغرف وكبرت ودخلت في الصلاة، وأتذكر أني قرأت في الركعة الأولى بالفاتحة، و (قل هو الله أحد) ولا أتذكر ما قرأته في الركعة الثانية.
المهم أنني أديت تلك الصلاة بسرعة شديد قبل أن أموت!!
وألقيت بنفسي على الأرض، على جنبي الأيسر، واستسلمت للموت، فتذكرت تلك اللحظات أنني سمعت أن الميت من الأفضل أن يوضع على جنبه الأيمن فتحولت إلى الجنب الأيمن، وأنا أحس بأن شيئاً ما يهز كياني هزاً عنيفاً.
ومرت في خاطري صور متلاحقة من سجل حياتي الحافل بالضياع والمجون، وأيقنت أن روحي قد أوشكت على الخروج.
ومرّت لحظات كنت أنتظر فيها الموت، وفجأة حرّكتُ قدمي فتحركتْ، ففرحتُ بذلك فرحاً شديداً، ورأيت بصيصاً من الأمل يشعّ من بين تلك الظلمات الحالكة، فقمت مسرعاً وخرجت من البيت وركبت سيارتي، وتوجهت إلى بيت عمي.
دفعت الباب ودخلت، فوجدتهم مجتمعين يتناولون طعام العشاء، فألقيت بنفسي بينهم.
قام عمي فزعاٍ وسألني: ما بك؟!!
فقلت له: إن قلبي يؤلمني.
فقام أحد أبناء عمي، وأخذني إلى المستشفى، وفي الطريق أخبرته بحالي وأنني قد أسرفت في تعاطي ذلك البلاء، وطلبتُ منه أن يذهب بي إلى طبيب يعرفه، فذهب بي إلى مستوصف أهلي، فلما كشف عليّ الطبيب وجد حالتي في غاية السوء حيث بلغت نسبة الكحول في جسمي 94%، فامتنع عن علاجي، وقال لابدّ من حضور رجال الشرطة، وبعد محاولات مستمرة وإلحاح شديد وإغراءات وافق على علاجي، فقاموا بتخطيط للقلب ثم بدءوا بعلاجي.
كان والدي في ذلك الوقت موجوداً في تلك المدينة، فلما علم أني في المستشفى جاء ليزورني، وقد رأيته وقف فوق رأسي فلما شم رائحتي ضاق صدره فخرج ولم يتكلم.
أمضيت ليلة تحت العلاج، وقبل خروجي نصحني الطبيب بالابتعاد عن المخدرات، وأخبرني بأن حالتي سيئة جداً.
وخرجت من المستشفى، وأحسست بأني قد منحت حياة أخرى جديدة، وأراد الله بي خيراً، فكنت فيما بعد كلما شممت رائحة الحشيش أصابني مثل ما أصابني في تلك الليلة وتذكرت الموت، فأطفئ السيجارة، وكنتُ كلما نمت بالليل أشعر بأن أحداً يوقظني ويقول لي: قم، فأستيقظ وأنا أنتفض من الخوف، فأتذكر الموت والجنة والنار والقبر، كما كنت أتذكر صاحبين لي من رفقاء السوء لقيا حتفهما قبل وقت قصير، فأخاف أن يكون مصيري كمصيرهما، فكنت أقوم آخر الليل فأصلي ركعتين ـ ولم أكن أعرف صلاة الوتر في ذلك الحين ـ ثم بدأت أحافظ على الصلوات المفروضة، وكنتُ كلما شممت رائحة الحشيش أو الدخان أتذكر الموت فأتركهما.
وبقيت على هذه الحال أربعة أشهر أو أكثر حتى قيض الله لي أحد الشباب الصالحين فالتقطني من بين أولئك الأشرار، وأخذني معه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعدها ولله الحمد تبت إلى الله وعدت إليه.
ونصيحتي للشباب المسلم أن يحذروا كل الحذر من شياطين الإنس، ورفقاء السوء، الذين كانوا سبباً في شقاقي وتعاستي سنوات طويلة، ولولا رأفة الله ورحمته حيث أنقذني من بين أيديهم لكنت من الخاسرين.
وأسال الله أن يتوب عليّ، وعلى جميع المذنبين والعاصيين إنه توّاب رحيم.
(توبة امرأة مغربية بعد إصابتها بالسرطان وشفائها منه في بيت الله (1)
(ليلى الحلوة) امرأة مغربية، أصيبت بالمرض الخبيث (السرطان)، فعجز الأطباء عن علاجها، ففقدت الأمل إلا بالله الذي لم تكن تعرفه من قبل، فتوجهت إليه في بيته الحرام، وهناك كان الشفاء، والآن ـ عزيزي القارئ ـ أتركك مع الأخت ليلى لتروي تفاصيل قصتها بنفسها، فتقول:
منذ تسع سنوات أصبتُ بمرض خطير جداً، وهو مرض السرطان، والجميع يعرف أن هذا الاسم مخيف جداً وهناك في المغرب لا نسميه السرطان، وإنما نسميه (الغول) أو (المرض الخبيث).
أصبتُ بالتاج الأيسر، وكان إيماني بالله ضعيفاً جداً، كنتُ غافلة عن الله تعالى، وكنت أظن أن جمال الإنسان يدوم طوال حياته، وأن شبابه وصحته كذلك، وما كنت أظن أبداً أني سأصاب بمرض خطير كالسرطان، فلما أصبتُ بهذا المرض زلزلني زلزالاً شديداً، وفكرت في الهروب، ولكن إلى أين؟! ومرضي معي أينما كنت، فكرت في الانتحار، ولكني كنتُ أحب زوجي وأولادي، وما فكرت أن الله سيعاقبني إذا انتحرت، لأني كنت غافلة عن الله كما أسلفت.
(1) هذه القصة نقلتها من شريط مسجل بصوتها هي. (باختصار).
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يهديني بهذا المرض، وأن يهديني بي كثيراً من الناس فبدأت الأمور تتطور.
لما أصبتُ بهذا المرض رحلت إلى بلجيكا، وزرت عدداً من الأطباء هناك، فقالوا لزوجي لابدّ من إزالة الثدي .. وبعد ذلك استعمال أدوية حادّة تُسقط الشعر وتزيل الرموش والحاجبين، وتعطي لحية على الوجه، كما تسقط الأظافر والأسنان، فرفضتُ رفضاً كلياً، وقلت: إني أفضل أن أموت بثديي وشعري وكل ما خلق الله بي ولا أشوّه، وطلبتُ من الأطباء أن يكتبوا لي علاجاً خفيفاً ففعلوا. فرجعتُ إلى المغرب، واستعملتُ الدواء فلم يؤثر علىّ ففرحتُ بذلك، وقلت في نفسي: لعل الأطباء قد أخطئوا، وأني لم أصب بمرض السرطان.
ولكن بعد ستة أشهر تقريباً، بدأت أشعر بنقص في الوزن، لوني تغير كثيراً وكنت أحس بالآلام، كانت معي دائماً، فنصحني طبيبي في المغرب أن أتوجه إلى بلجيكا، فتوجهت إلى هناك.
وهناك، كانت المصيبة، فقد قال الأطباء لزوجي: إن المرض قد عمّ، وأصيبت الرئتان، وأنهم الآن ليس لديهم دواء لهذه الحالة .. ثم قالوا لزوجي من الأحسن أن تأخذ زوجتك إلى بلدها حتى تموت هناك.
فُجِعَ زوجي بما سمع، وبدلاً من الذهاب إلى المغرب ذهبنا إلى فرنسا حيث ظننا أننا سنجد العلاج هناك، ولكنا ولم نجد شيئاً، وأخيراً حرصنا على أن نستعين بأحد هناك لأدخل المستشفى وأقطع ثديي وأستعمل العلاج الحاد.
لكن زوجي يذكر شيئاً كنا قد نسيناه، وغفلنا عنه طوال حياتنا، لقد ألهم الله زوجي أن نقوم بزيارة إلى بيت الله الحرام، لنقف بين يديه سبحانه ونسأله أن يكشف ما بنا من ضرّ، وذلك ما فعلنا.
خرجنا من باريس ونحن نهلل ونكبر، وفرحتُ كثيراً لأنني لأول مرة سأدخل بيت الله الحرام، وأرى الكعبة المشرفة، واشتريتُ مصحفاً من مدينة باريس، وتوجهنا إلى مكة المكرمة.
وصلنا إلى بيت الله الحرام، فلما دخلنا ورأيتُ الكعبة بكيتُ كثيراً لأنني ندمت على ما فاتني من فرائض وصلاة وخشوع وتضرع إلى الله، وقلت: يا رب .. لقد استعصى علاجي على الأطباء، وأنت منك الداء ومنك الدواء، وقد أُغْلِقَتْ في وجهي جميع الأبواب، وليس لي إلا بابك فلا تُغْلِقْه في وجهي وطفتُ حول بيت الله، وكنت أسأل الله كثيراً بأن لا يخيبني، وأن يخذلني، وإن يحيّر الأطباء في أمري.
وكما ذكرت آنفاً، فقد كنت غافلة عن الله، جاهلة بدين الله، فكنت أطوف على العلماء والمشايخ الذين كانوا هناك، وأسألهم أن يدلوني على كتب وأدعية سهلة وبسيطة حتى أستفيد منها، فنصحوني كثيراً بتلاوة كتاب الله والتضلع من ماء زمزم ـ والتضلع هو أن يشرب الإنسان حتى يشعر أن الماء قد وصلى أضلاعه ـ كما نصحوني بالإكثار من ذكر الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
شعرت براحة نفسية واطمئنان في حرم الله، فطلبتُ من زوجي أن يسمح لي بالبقاء في الحرم، وعدم الرجوع إلى الفندق، فأذن لي.
وفي الحرم كان بجواري بعض الأخوات المصريات والتركيات كنَّ يرينني أبكي كثيراً، فسألنني عن سبب بكائي فقلت: لأنني وصلتُ إلى بيت الله، وما كنت أظن أني سأحبه هذا الحب، وثانياً لأنني مصابة بالسرطان.
فلازمنني ولم يكن يفارقنني، فأخبرتهن أنني معتكفة في بيت الله، فأخبرن أزواجهن ومكثن معي، فكنا لا ننام أبداً، ولا نأكل من الطعام إلا القليل، لكنا كنا نشرب كثيراً من ماء زمزم، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول:(ماء زمزم لما شرب له)، إن شربتَه لتشفى شفاك الله، وإن شربته لظمأك قطعه الله، وإن شربته مستعيذاً أعاذك الله، فقطع الله جوعنا، وكنا نطوف دون انقطاع، حيث نصلي ركعتين ثم نعاود الطواف، ونشرب من ماء زمزم ونكثر من تلاوة القرآن، وهكذا كنا في الليل والنهار لا ننام إلا قليلاً، عندما وصلتُ إلى بيت الله كنت هزيلة جداً، وكان في نصفي الأعلى كثير من الكويرات والأورام، التي تؤكد أن السرطان قد عمّ جسمي الأعلى، فكنّ ينصحنني أغسل نصفي الأعلى بماء زمزم، ولكني كنت أخاف أن ألمس تلك الأورام والكويرات، فأتذكر ذلك المرض فيشغلني ذلك عن ذكر الله وعبادته، فغسلته دون أن ألمس جسدي.
وفي اليوم الخامس ألحّ عليّ رفيقاتي أن أمسح جسدي بشيء من ماء زمزم فرفضتُ في بداية الأمر، لكني أحسستُ بقوة تدفعني إلى أن آخذ شيئاً من ماء زمزم وأمسح بيدي على جسدي، فخفت في المرة الأولى، ثم أحسست بهذه القوة مرة ثانية، فترددت ولكن في المرة الثالثة ودون أن أشعر أخذت يدي ومسحت بها على جسدي وثديي الذي كان مملوءاً كله دماً وصديداً وكويرات، وحدث ما لم يكن في الحسبان، كل الكويرات ذهبت ولم أجد شيئاً في جسدي، لا ألماً ولا دماً ولا صديداً.
فاندهشتُ في أول الأمر، فأدخلت يدي في قميصي لأبحث عما في جسدي فلم أجد شيئاً من تلك الأورام، فارتعشتُ، ولكن تذكرتُ أن الله على كل شيء قدير، فطلبت من إحدى رفيقاتي أن تلمس جسدي، وأن تبحث عن هذه الكويرات، فصحن كلهن دون شعور: الله أكبر الله أكبر.
فانطلقتُ لأخبر زوجي، ودخلتُ الفندق، فلما وقفتُ أمامه مزقتُ قميصي وأنا أقول، انظر رحمة الله، وأخبرته بما حدث فلم يصدق ذلك، وأخذ يبكي ويصيح بصوت عالٍ ويقول: هل علمتِ أن الأطباء أقسموا على موتك بعد ثلاثة أسابيع فقط؟ فقلت له: إن الآجال بيد الله سبحانه وتعالى ولا يعلم الغيب إلا الله.
مكثنا في بيت الله أسبوعاً كاملاً، فكنت أحمد الله وأشكره على نعمه التي لا تُحصى، ثم زرنا المسجد النبوي بالمدينة المنورة ورجعنا إلى فرنسا.
وهناك حار الأطباء في أمري واندهشوا وكادوا يُجنّون، وصاروا يسألونني هل أنت فلانة؟! فأقول لهم: نعم ـ بافتخار ـ وزوجي فلان، وقد رجعت إلى ربي، وما عدت أخاف من شيء إلا من الله سبحانه، فالقضاء قضاء الله، والأمر أمره.
فقالوا لي: إن حالتك غريبة جداً وإن الأورام قد زالت، فلابد من إعادة الفحص.
أعادوا فحصي مرة ثانية فلم يجدوا شيئاً وكنت من قبل لا أستطيع التنفس من تلك الأورام، ولكن عندما وصلت إلى بيت الحرام وطلبت الشفاء من الله ذهب ذلك عني.
بعد ذلك كنتُ أبحث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سيرة أصحابه رضي الله عنهم وأبكي كثيراً، كنت أبكي ندماً على ما فاتني من حُب الله ورسوله، وعلى تلك الأيام التي قضيتها بعيدة عن الله عز وجل، وأسأل الله أن يقبلني وأن يتوب عليّ وعلى زوجي وعلى جميع المسلمين.
(توبة فتاة من عالم الأزياء إلى كتب العلم والعقيدة (1)
إن إفساد المرأة المسلمة وإخراجها من دينها من أهم ما يسعى إليه أعداء الإسلام باسم (تحرير المرأة)، ذلك أن المرأة هي المدرسة التي تتربى فيها الأجيال وتتخرج، وبفسادها تفسد الأجيال.
يقول (يوبه) المأسوني سنة 1879م:
(1) هذه القصة كتبتها لي هذه التائبة بنفسها.
(تأكدوا تماماً أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة فتمشي في صفوفنا)، ولكي تمشي المرأة في صفوفهم أخذوا يحيكون المؤامرات، والمخططات ليلاً ونهاراً، ومنها إشغال المرأة بالتوافه من الأمور كالاهتمام الزائد باللباس والزينة والتجمل، وإغراق الأسواق بمجلات الأزياء المتخصصة التي تحمل في طياتها آخر ما تفتّق عن العبقرية اليهودية (1) من الأزياء العارية الفاتنة، و (الموديلات) الرخيصة الماجنة التي تتنافى مع ما أمر الله به المرأة من الحشمة والعفاف والستر، وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
والآن سنقف قليلاً مع إحدى الأخوات، لتحدثنا عن رحلتها مع عالم الأزياء والجمال الزائف إلى عالم آخر، عالم الكتب وطلب العلم، فتقول:
عشتُ بداية حياتي في ضلال وضياع وغفلة، بين سهر على معاصي الله، وتأخير للصلاة عن وقتها، ونوم وخروج إلى الحدائق والأسواق، ومع ذلك كله فقد كنت أصلي أصوم، وأحاول أن ألتزم بأوامر الشرع التي تعلمتها منذ نعومة أظفاري، حتى أني ـ في المرحلة المتوسطة ـ كنت أعدّ ملتزمة بالنسبة لغيري من الفتيات الأخريات، ولكن حب المرأة للزينة والجمال والشهرة وميلها الغريزي إليه كان من أكبر مداخل الشيطان عليّ.
فقد كنتُ مفتونة جدّاً بالأناقة وحبّ ابتكار (الموديلات) التي قد يستصغرها البعض ويقول: إنها ليست بمعصية، ولكني أقول: إنها قد تكون من أكبر المعاصي، فقد كانت هي وقتي كله، كنت أفكر فيها عند الطعام والشراب والنوم والسفر، وأثناء الحصص المدرسية، حتى الاختبارات، مع حرصي الشديد على المذاكرة والتفوق حيث كنت من الأوائل على المرحلة بكاملها.
وأعظم من ذلك، أن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغل تفكيري حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله، فإذا انتهيتُ من الصلاة بدأت في وصف الموديل الذي فكرت به في الصلاة لأختي، وهي كذلك.
وأذكر مرة أني حضرت زواجاً لإحدى قريباتي، وحزتْ على إعجاب الكثيرات من بنات جيلي من إطراء ومديح بطريقة اللبس مما زاد من غروري، وجعلني أتحسر وأتألم لِمَ لم ألبس أفضل لأحوز على مديح أكثر، وأخذت أتحسر لمدة سنة تقريباً.
(1)(بيوت الأزياء الكبرى يهودية وكذلك بيوت الزينة، واليهود يكسبون مها كسباً مضاعفاً، يكسبون أرباحاً خيالية لا تدرها الصناعات الأخرى، ويكسبون سريان الفساد كالسم في مجتمع الأميين (غير اليهود). (محمد قطب/ مذاهب فكرية ص 150، الهامش.
قد تستغربون ذلك، ولكن هذا كله بسبب الصديقات المنحلات اللاتي كنت أختارهنّ، فكنت بالنسبة لهن ملتزمة.
وفي نهاية المرحلة الثانوية يسر الله لي طريق الهداية، فقد كنت أذهب أثناء الاختبارات إلى مصلى المدرسة لأذاكر مع صديقاتي، فأجد هناك بعض حلقات العلم فأجلس إليها وأستمع أنا وزميلاتي، فأثر ذلك فيّ، مما جعلني بعد التخرج ودخول الجامعة ألتحق بقسم الدراسات الإسلامية.
وفي الجامعة، تعرفتُ على أخوات صالحات، وبفضل الله ثم بفضل أخواتي الصالحات ومجالس الذكر والإلحاح في الدعاء أعانني الله على أن استبدل حب الدنيا بطلب العلم، حتى أني أنسى حاجتي للطعام والشراب مع طلب العلم، ولا أزكي نفسي ولكن الله يقول:(وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ)[الضحى: 11] كما أصبحت بعد الالتزام أشعر بسعادة تغمر قلبي فأقول: بأنه يستحيل أن يكون هناك إنسان أقل مني التزاماً أن يكون أسعد مني، ولو كانت الدنيا كلها بين عينيه، ولو كان من أغنى الناس.
وهكذا تمت رحلتي من السهر على الفيديو والأفلام الماجنة إلى كتب العقيدة والحديث وأبحاث الفقه.
ومن النوم إلى الظهيرة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في النوم فالإنسان محاسب على وقته، وعليه استغلال كل دقيقة، فإذا كنت في وضع لا يسمح لي بطلب العلم فلساني لا يفتر ـ والله الحمد ـ من ذكر الله والاستغفار.
وفي الختام أسأل الله لي ولجميع المسلمين والمسلمات الهداية والثبات .. فأكثر ما ساعدني على الثبات ـ بعد توفيق الله ـ هو إلقائي للدروس في المصلى، بالإضافة إلى قراءتي عن الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من اللباس والجمال والزينة، والأسواق، والزيارات بين الناس، وهذه من أحب الأشياء إلى قلبي.
فكنت كلما أردت أن أشتري شيئاً من الملابس التي تزيد على حاجتي أقول: ألبسها في الآخرة أفضل.
فتذكري للجنة ونعيمها من أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك ملذات الدنيا طمعاً في الحصول عليها كاملةً في الآخرة بإذن الله.
ومن أكثر الأسباب المرغبة لي في ترك المعاصي تذكري للصراط، وأهوال يوم القيامة، وأن الأعمال تعرض على الله أمام جميع الخلائق، وهناك تكون الفضيحة.
(توبة شاب كان يتعرض للنساء (1):
إنها قصة مؤثرة، يرويها أحد الغيورين على دين الله يقول:
(1) هذه القصة رواها لي أحد الاخوة فكتبتها ثم عرضتها على صاحبها فأجازها.
خرجت ذات يوم بسيارتي لقضاء بعض الأعمال، وفي إحدى الطرق الفرعية الهادئة قابلني شاب يركب سيارة صغيرة، لم يرني، لأنه كان مشغولاً بملاحقة بعض الفتيات في تلك الطريق الخالية من المارّة.
كنتُ مسرعاً فتجاوزته، فلما سرت غير بعيد قلت في نفسي: أأعود فأنصح ذلك الشاب! أم أمضي في طريقي وأدعه يفعل ما يشاء؟
وبعد صراع داخلي دام عدة ثوانٍ فقط اخترتُ الأمر الأول.
عدتُ ثانية، فإذا به قد أوقف سيارته وهو ينظر إليهن ينتظر منهن نظرة أو التفاته، فدخلن في أحد البيوت.
أوقفت سيارتي بجوار سيارته، نزلت من سيارتي واتجهت إليه، سلمت عليه أولاً، ثم نصحته فكان مما قلته له: تخيل أن هؤلاء الفتيات أخواتك أو بناتك أو قريباتك فهل ترضى لأحد من الناس أن يلاحقهن أو يؤذيهن؟
كنت أتحدث إليه وأنا أشعر بشيء من الخوف، فقد كان شابّاً ضخماً ممتلئ الجسم، كان يستمع إليّ وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة.
وفجأة التَفَتَ إليّ، فإذا دمعة قد سالتْ على خده، فاستبشرتُ خيراً، وكان ذلك دافعاً لي لمواصلة النصيحة، لقد زال الخوف مني تماماً، وشددتُّ عليه في الحديث حتى رأيت أني قد أبلغت في النصيحة.
ثم ودّعته لكنه استوقفني، وطلب مني أن أكتب له رقم هاتفي وعنواني، وأخبرني أنه يعيش فراغاً نفسياً قائلاً، فكتبتُ له ما أراد.
وبعد أيام جاءني في البيت، لقد تغير وجهه وتبدلتْ ملامحه، فقد أطلق لحيته وشعَّ نور الإيمان من وجهه.
جلستُ معه، فجعل يحدثني عن تلك الأيام التي قضاها في (التسكع) في الشوارع والطرقات وإيذاء المسلمين والمسلمات، فأخذت أسليه، وأخبرته بأن الله سبحانه واسع المغفرة، وتلوت عليه قوله تعالى:(قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ)[الزمر: 53]. فانفرجتْ أسارير وجهه، واستبشر خيراً، ثم ودعني وطلب مني أن أردّ الزيارة، فهو في حاجة إلى من يعينه على السير في الطريق المستقيم، فوعدته بالزيارة، مضت الأيام وشُغلت ببعض مشاغل الحياة الكثيرة، وجعلت أسوّف في زيارته. وبعد عدة أيام، وجدت فرصة وذهبت إليه.
طرقت الباب، فإذا بشيخ كبير يفتح الباب وقد ظهرت عليا آثار الحزن والأسى، إنه والده.
سألته عن صاحبي، أطرق برأسه إلى الأرض، وصَمَتَ برهةً، ثم قال بصوت خافت: يرحمه الله ويغفر له، ثم استطرد قائلا: حقاً إن الأعمال بالخواتيم.
ثم أخذ يحدثني عن حاله وكيف أنه كان مفرطاً في جنب الله بعيدًا عن طاعة الله، فمنّ الله عليه بالهداية قبل موته بأيام، لقد تداركه الله برحمته قبل فوات الأوان.
فلما فرغ من حديثه عزيته ومضيت، وقد عاهدتُ الله أن أبذل النصيحة لكل مسلم.
(توبة مدمن (1):
يقول هذا التائب:
(كان المنعطف الأول في حياتي في سن مبكرة جداً حيث كان عمري آنذاك ست سنوات لا غير، وقبل أن أعي الحياة وأدركها كما ينبغي صحوت على (مأساة عائلية).
لقد طلّق والدي أمي، وانفصلتْ عنه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ازداد الأمر تعقيداً حينما قررتْ أمي أن تتزوج .. واختار أبي زوجة أخرى، فأصبحت تائهاً، ضائعاً بين الاثنين .. وكما يقولون:(أمران أحلاهما مر) .. فعند أبي كنت أقابل بمقالب زوجة أبي، أما عند أمي فكان زوج أمي يكشر عن أنيابه دائماً في وجهي، ومن الطريف أنني كنت دائماً حاضراً عند كليهما، وكنت أيضاً غائباً عن كليهما .. فكنتُ الحاضر الغائب، والموجود المفقود.
ومع هذه الظروف العائلية غير الطبيعية، ومع التفكك والاضمحلال الأسري، سقطتُ في هوة الإدمان مع رفقاء السوء، ووجدتُ معهم الملاذ الذي افتقدته، والعطف والاهتمام اللذين حرمت منهما، طبعاً لم يكن عطفاً واهتماماً خالصاً لوجه الله، وإنما من أجل الوصول إلى أغراضهم الخبيثة.
أصبحتُ أقضي معظم وقتي مع أولئك الأشرار ما بين شرب وتعاطٍ وإدمان، وحينما يسألني أبي أين كنت؟ أقول له عند أمي، وحينما تستفسر أمي عن غيابي، أقول لها كنت عند أبي، وهكذا يظن كلاهما أنني موجود، وكنت مفقوداً ويعتقد كلاهما أني حاضر، وكنت في تلك الأثناء الغائب الوحيد .. الغائب عن الحياة .. الساقط في التيه والضياع.
كان هذا هو المنعطف الذي ألقى بي في هاوية الإدمان، ولكن كيف خرجت إلى شط الأمان؟
تلك قصة أخرى سأرويها لكم:
ففي ليلة من الليالي، وبعد سهرة تطايرت فيها الرؤوس، وتلاعبت بها المخدرات، خرجنا من (الوكر) لكي نتنفس الهواء العليل ليزيدنا طرباً على طرب!! ونشوة إلى نشوة!! وبينما كنا في سعادة موهومة غامرة، وغيابات كاذبة، إذ بالسيارة تنقلب عدة مرات.
كنا أربعة من الشياطين داخل السيارة، توفي الثلاثة ولم يبق إلا أنا نجوت بأعجوبة .. بفضل الله تعالى.
ومكثتُ في المستشفى عشرة أيام كاملة ما بين الحياة والموت، غيبوبة كاملة تماماً، كتلك التي كنتُ أحياها من قبل.
(1) عكاظ، العدد 8641.
وأفقتُ من الغيبوبة الصغرى عقب الحادث، على حقيقة الغيبوبة الكبرى التي كنتُ أحياها، واكتشفتْ نفسي من جديد، وشعرت بالإيمان بعد أن مات الإحساس لديّ، وعدتُ إلى الله ضارعاً مستغفراً حامداً شاكراً لأنه تولاني وأنقذني من موتتين: موت السيارة، وموت الإدمان، وخرجت من المستشفى إلى المسجد مباشرةً، وقطعتُ كل صلتي بالماضي، وأحمد الله أنني دخلتُ المسجد بدلاً من السجن، والقرآن الكريم هو أوفى صديق لي الآن يلازمني وألازمه.
هذه قصتي باختصار، وأنصح إخواني الشباب وغيرهم بالحذر من رفقاء السوء، الذين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، كما أنصحهم بالبعد عن المخدرات فإنها رأس كل خطيئة، والله الموفق.
(توبة طبيب نصراني وإسلامه على يد داعية مسلم (1):
جي ميشيل (36 سنة) مسئول هيئة تنصيرية جاءت من ألمانيا الغربية للعمل في الصومال، ولأن البعثة جاءت للعمل فكان لابدّ من تسميتها بعثة (المشروع الوطني لمحاربة أمراض العمى) كان ميشيل من النابغين في الإشراف على فريق التمريض، لذلك لم يفاجأ بخبر تعيينه مسئولاً للبعثة إضافةً إلى إدارة المشروع، تحركت البعثة في منتصف عام 1978م وأمامها خريطة للتنصير في القرن الإفريقي تحت لافتة:(محاربة أمراض العمى). حديث (ميشيل) يأتي عذباً صافياً لأنه نابع من القلب، ولأن حديثي يختلف بالتأكيد عن حديث (ميشيل) من حيث الصدق والإحساس سأتركه لكم:
يقول جي ميشيل:
سعادتي بالصومال والصوماليين كانت كبيرة، ربما لحسن استقبالهم لنا، وربما لإحساسنا بمدى الفقر الذي يعانونه في الوقت الذي يعتزون فيه بأنفسهم، كما لو كانوا من أثرى الأثرياء، ربما لوجوههم الطيبة التي تستطيع رغم سمرتها أن تترجم كل حركة أو إشارة صادرة منها بسهولة.
أشياء كثيرة كانت وراء فرحتي بمكان المهمة.
(1) جريدة المسلمون، عدد/260.
يبدو أنني في زحمة انشغالي بالعمل وفرحتي واحترامي للشعب الصومالي نسيتُ مهمتي الأصلية، التي جئت وجاء الفريق من أجلها! فبسرعة عجيبة كان لي أصدقاء مسلمون يسألون عني وأسأل عنهم، تفانيت في محاربة أمراض العمى، وأشرفت على علاج عشرات الحالات، وكانت كلمات المديح والإطراء تخرج من كل الأفواه أثناء مروري على أي تجمع أو في أي شارع، كنت أفهم كلماتهم رغم أنها صادرة بلغة غير لغتي لكنها لغة الإحساس، في زحمة ذلك كله وبعد خمسة أشهر من النجاح الباهر في محاربة العمى جاءتني برقية من قصر رئاسة المنظمة الألمانية التي تتولى تنفيذ المشروع من ألمانيا!
قلت لنفسي: لعلها بشرى سارة فقد أمروني بالعودة فوراً، ربما ليشكروني على التفاني في العمل، وربما ليقدموا لي ولأفراد الفريق هدايا أو أوسمة. لم أستطيع أن أفسر طلبهم العجيب بضرورة توجهي إلى إنجلترا لأخذ دورة جديدة تساعدني في إنجاح مهمتي، إن مهمتي ناجحة تماماً والعمل هناك يمضي بصورة رائعة فما جدوى هذه الدورة مع رجل مثلي كان الأول على كل الدورات السابقة؟ لم أستطع التفسير وبالتالي لم أستطع الرد بأكثر من نعم. سافرت إلى إنجلترا وأمضيت هناك شهراً كاملاً، وعدتُ إلى ألمانيا الغربية وأنا أتوق إلى أوامر بعودتي إلى الصومال، وبعد أسبوع جاء الأمر: توجه إلى تنزانيا! ومرة أخرى لا أجد تفسيراً لتوجهي إلى تنزانيا رغم نجاحي في الصومال، ولأنني لم أناقشهم في سبب ذلك. اطمأنوا تماماً لي وأرسلوا لي برقية بعد أربعة أسابيع يطلبون فيها عودتي إلى الصومال، وبكيتُ فرحاً!
عدتُ إلى الصومال بعد خمسة أشهر من الانقطاع عن الوجوه الطيبة والقلوب الدافئة، التحقتُ بالمشروع على الفور، ومارستُ عملي وإشرافي، كانتْ فرحةُ الصوماليين بعودتي تكاد تقترب من فرحة مريض بمرض في عينه وتم علاجه، ولولا اتهامي بالمبالغة لقلتُ أن فرحتهم بي كانت كفرحة الأعمى بعودة البصر إلى عينيه، هذا ما أحسستُ به خاصةً من صديقي (محمد باهور).
دعاني (محمد باهور) لزيارة منزله، وهناك كان الترحيب بي من أسرته ومن جيرانه رائعاً، وفوجئتُ أثناء جلوسي معهم برجل يتحدث الإنجليزية بشكل جيد، فرحتُ كثيراً بذلك وفرحت أكثر عندما علمتُ أنه والد (محمد) ها هي الفرصة تتحقق وها هو الجزء الثاني والأهم في مهمتي إلى الصومال سيتحقق! إن اللغة تقف عائقاً كبيراً في عملية التنصير لكن وجود مثل هذا الرجل سيساعدني كثيراً في شرح أبعاد التبشير بالنصرانية خاصةً وأن هذا الرجل يحترمه الجميع ويقدّرونه بصورة تكاد تقترب من الخوف!
وبدأتُ مع هذا الرجل الذي توقعتُ أن يكون مفتاحَ التبشير والتنصير في المنطقة كلها، قلت لنفسي فلأبدأ معه بالحديث عن الأديان عموماً وأنتقل للحديث عن الإنجيل وعن المسيح الذي أدركتُ واكتشفتُ أكثر من مرة أن المسلمين جميعاً يحبونه ويعترفون به! ولا أدري ماذا حدث وكيف اكتشف هذا الرجل أن حديثي معه سيكون عن الأديان! قبل أن أبدأ حديثي وجدته ممسكاً بنسخة من (القرآن) في يديه وسألني: أتعرفُ هذا الكتاب؟ ابتسمتُ ولم أجب خشية إثارته أو التلميح له بمهمتي! مرة أخرى أحسستُ أن الرجل يدرك ما يدور بعقلي منحني فرصةَ الخروج من المأزق وبدأ هو يتحدث عن الإنجيل وعن المسيح، وطلب مني أن أوجه له أي سؤال أريد الإجابة عنه سواء في الإنجيل أو في القرآن! قلت: كيف؟ قال: في القرآن كل شيء!
انتهتْ زيارتي وعدتُ إلى عملي ثم إلى مقر إقامتي وأنا أفكر في كيفية اختراق عقل وفكر هذا الرجل، إنني لو نجحتُ في ذلك سأكون بلا شك قد قطعتُ شوطاً كبيراً وسيسهل بعد ذلك اصطياد الواحد تلو الآخر عدتُ إلى بعض النشرات والكتيبات، وسخرتُ من نفسي وأنا أشعر وكأني تلميذ مقبل على امتحان خطير! طمأنت نفسي وقلت: إنها مهمة بسيطة ويبدو أنني أضخّمها أكثر من اللازم، إن السيطرة على تفكير رجل مثل والد محمد مسألة سهلة، هي بالتأكيد سهلة وخرجتُ إلى عملي، أنهيته وبدأتُ في البحث عن (محمد باهور) طامعاً في وعد بزيارة جديدة حتى ألتقي بالرجل (المفتاح).
كان الموعد وكان اللقاء وكانت البداية المباغتة: فور جلوسي سألني الرجل عن طبيعة مهنتي فقلتُ: الطب! قال لي: إن (القرآن الكريم) يشرح بالتفصيل عملية (الخلق) و (النشأة) وكل ما يحدثُ في الإنسان من تغيرات! قلتُ: كيف؟ وكأن الرجل كان ينتظر الإشارة الخضراء، اندفع يتحدثُ بلغة إنجليزية جيدة، وليس هذا مهماً، لكن المهم أنه كان يتحدث بإحساس شديد لكل كلمة تخرج من فمه. أقول لكم بصراحة أنني دهشتُ لدرجة الانبهار بكتاب (عمره) أكثر من 1400 عام يتحدث عن كيفية نمو الجنين في رحم المرأة! لقد درستُ لسنوات طويلة وتدربتُ تدريباً شاقّاً وأعرف مراحل نمو الجنين، لكن ما ذكره هذا الرجل شدني كثيراً وقد آلمني ذلك كثيرا!!
كالعادة طمأنت نفسي وهدأتُ من روعها حتى أستطيع النوم، أوكلتُ بعض مهامي في العمل للفريق، وبدأت أفكر كيف أنجح في الجزء الثاني من المهمة (التنصير) مثلما نجحتُ في الجزء الأول منها (محاربة أمراض العمى)، صحيح أنني أحب الصومال والصوماليين، لكنني أحب عملي وأحب النصرانية فلماذا لا أجذبهم إليها.
من جديد اضطررتُ لأن أطلب محمد (محمد باهور) أن أزوره، لكنني قبل أن أطلب منه ذلك فوجئتُ به يطلب مني أن أزور والده يومياً إن أمكنني ذلك لأنه يريدني ويحب دائماً الجلوس معي! فرحتُ في البداية لكنني قلتُ لنفسي: كيف أفرح وأنا حتى الآن لم أتمكن من السيطرة عليه، إنه هو البادئ دائماً فلماذا لا أبدأ أنا بالهجوم أو بالغزو؟
لن أحكي لكم تفاصيل ما حدث في الزيارة الثالثة والرابعة والخامسة لقد وجدتني محاصراً تماماً، أذهب إلى الرجل وأنا مستعد تماماً للمواجهة لكن حديثه وصدقه وقدرته الفائقة على الشرح والتوضيح جعلتني أبدو أمامه تلميذاً يسمع دروساً في الدين لأول مرة.
لم أكن أدري أنني مراقب منذ أول زيارة إلى منزل والد (محمد باهور) ويبدو أن المراقبة كانت دقيقة للغاية حتى أنها وصلتْ إلى أن يواجهني أفراد الفريق الطبي ويطلبون مني عدم الذهاب إلى هذا المنزل أو الاتصال بهذه العائلة.
اكتملتْ المراقبة وتوِّجتْ بقرار صادر من ألمانيا الغربية ينص على ضرورة مغادرتي للمعسكر! وقبيل تنفيذ الأمر بيوم واحد اكتشفتُ وجود قرار آخر ينقل (محمد باهور) من عمله إلى مكان آخر!
لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعني من أن أحب (محمد باهور) وأحب والده وأسرته وأحب الصوماليين جميعاً، مكثتُ في مقديشو أياماً معدودة، وكنت أتسلل ليلاً وأركب شاحنة أخرى حتى أصل إلى منزل عائلة (محمد) لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد قام رئيس فريق العمل الألماني بدفع أموال كبيرة لبعض مسئولي الأمن بالمنطقة، وذلك لمنعي من الوصول إلى هذه المنطقة، وعندما نجحتُ في إقناع مسؤولين آخرين على قدر من التقوى والجدية في العمل كان الخبر المؤلم، لقد تم اعتقال (محمد) لعلاقته بي!
بكيتُ كثيراً من أجل (محمد) وتألمتُ كثيراً من عدم تمكني من مواصلة المشوار مع والده للنهاية، كنت أريد أن أصل إلى نهاية، أو بمعنى أوضح إلى بداية، فإما نهاية للشكوك التي بدأتْ تتسرب إلى عقلي من حديث هذا الرجل، وإما بداية لرحلة جديدة! أثناء ذلك جاءتني برقية أخرى من ألمانيا تطلب مني مغادرة الصومال خلال أيام والانتقال إلى كينيا لتقضية (إجازة ممتعة)!
تعللت بضرورة أخذ بعض أوراقي من مكان المعسكر وأبلغت مسؤول الأمن بذلك، وفور دخولي توجهتُ إلى منزل (محمد باهور).
وجدتُ في المنزل فرحة غير عادية، قال لي الوالد لقد جئتَ مع إطلالة شهر الخير والبركة، سألتُه عن هذا الشهر فقال إنه رمضان! تناولت وجبة (السحور) معهم وقبيل الفجر شاهدتُّ المنطقة كلها تخرج للصلاة! مكثتُ معهم يوماً كاملاً واضطررتُ احتراماً لمشاعرهم أن أصوم لأول مرة في حياتي يوماً كاملاً عن الطعام والشراب!
وفي (نيروبي) وجدتُ في المطار من يستقبلني ويخبرني بأنني سأقيم في منزل كبير بدلاً من الفندق، وكانت الحفاوة بي واضحة، لكنني بعد عدة أسابيع أخبرتُ بخبر آخر أشد ألماً. جاءت البرقية تقول:(لن تستطيع العودة مرة أخرى إلى الصومال لأسباب أمنية)! لماذا؟ كيف؟ ولمصلحة من هذا القرار؟ لم أجد من يجيبني عن تساؤلاتي. هدأتُ قليلاً وأنا أذكر موقف (محمد) ووالده وأسرته معي وأتذكرُ كل الوجوه الصومالية التي التقيتُ بها. ووصلتني رسالة ساخنة من والدي يطالبني فيها بالعودة إلى ألمانيا بأسرع ما يمكن، كانت سطور الرسالة تقول أو توحي بأن والدي تلقى ما يفيد خطورة موقفي إذا سافرتُ إلى الصومال!
اكتشفتُ كذلك أن الرئاسة في ألمانيا الغربية لديها تقرير مفصل عني وعن تحركاتي الكاملة، واتخذت قراري!
قارنتُ بين ما يحدث في ألمانيا وما يحدث في الصومال من لهفة الناس عليّ وقلقهم البالغ وسؤالهم المستمر عني وأغلقتُ بابي على نفسي ورحتُ أراجع الدروس التي سمعتها من والد محمد.
جهزتُ ورقة بيضاء ناصعة وأحضرت القلم وكتبتُ هذه البرقية إلى رئاستي في ألمانيا الغربية: اطمئنوا تماماً كل شيء على ما يرام. سأعتنق الإسلام.
وضعتُ رسالتي في صندوق البريد لأنهي رحلة من القلق والتوتر، كنتُ أشعر وأنا أتوجه إلى صندوق البريد وكأنني عريس في يوم زفاف، وتوجهتُ إلى أصدقائي في (نيروبي) قلتُ لهم: قررتُ العودة إلى الصومال مهما كلفني ذلك! سأعود حتى ولو أدى ذلك إلى قتلي! كان من الطبيعي ألا أجد شيئاً أنفذ به قراري بالعودة، بعت حاجاتي وملابسي كلها باستثناء ما أرتديه، وثلاثة أحذية كنتُ أحضرتها معي، وتمكنتُ من تحصيل سعر التذكرة إلى الإيمان! نعم فقد وصلتُ إلى مقديشو ومنها إلى منزل الوالد (باهور) وفور أن عانقني قلتُ هامساً:(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)!.
لم يكن لدي وقتاً للفرح، عكفتُ على الدراسة والحفظ الجيد للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وكان إعجاب الصوماليين بي شديداً ولأن المسؤولين في المنطقة جزء من نسيج هذا الشعب فقد نجحوا في استصدرا قرار يسمح لي بالتحرك والانتقال والتعايش مع الصوماليين في أي وقت وفي أي مكان كشقيق وأخ مسلم اسمه الجديد (عبد الجبار). الآن فقط فكرتُّ في المشروع الذي كنا نقوم بتنفيذه لقد توقف المشروع بحمد الله دون أن ينجح في الجزء الثاني أو الأول منه وهو الخاص بالتنصير، لكنه حقّق نجاحات باهرة في الجزء الخاص بالعلاج، لذلك لم أفاجأ بموافقة الدكتور عبد الله نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على أن أواصل العمل في المشروع في وجهه الجديد وجه الخير والعمل الخالص لوجه الله، وها أنا أعود!).
(توبة الزعيم الشيوعي تروتسكي:
وهو من أبرز الشخصيات في الحزب الشيوعي، ومن كبار منظري الشيوعية، ويعد الرجل الثاني بعد لينين، وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة، وأسندت إليه شؤون الحرب، وكان يهودياً، واسمه الحقيقي بروستالين، ولد سنة 1879م، واغتيل سنة 1940م.
ومع أن هذا الرجل له شهرته الواسعة، ومع كثرة ما كتب عنه إلا أنه ومع بالغ الأسف قل أن يذكر خبر اعتناقه للإسلام.
جاء في مجلة الهداية الإسلامية الجزء السابع من المجلد الأول ما نصه: تروتسكي يعتنق الإسلام في بيئة تجهل الإسلام.
وتحت هذا العنوان كتبت: نقلت الصحف خبر اعتناق تروتسكي الزعيم البولشفي للإسلام وهو منفي في تركيا، وجاء في حديث إسلامه أنه على إثر شفائه من مرضه في الأستانة دعا مفتي الأستانة فأجاب دعوته، وشهد اجتماعهما مندوب جريدة وقت التركية، فقال تروتسكي: كنت يهودياً غير أن مبادئي لم ترق لبعض الحاخامين فحرموني من ديانتي، ولكني لم أُعِرْ حرماني هذا اهتماماً كثيراً؛ لأن مبادىء الدين الإسرائيلي لم تكن لتروقني فلم أحْتَجَّ، ولم أعارض.
وأما الآن وأنا أتقدم في السن فإني أشعر كغيري من الناس بأني في حاجة إلى إيمان ودين سماوي، ففكرت في وقت ما أن أصبح مسيحياً غير أني عدلت عن ذلك؛ لكراهيتي اعتناق دين القياصرة المستبدين وراسبوتين الراهب الشرّير؛ فلم يبقَ أمامي غير الدين الإسلامي الذي دققت في البحث في شرائعه فوجدت فيه مزايا حسنة، منها أنه يحض على المناقشة والمباحثة في أصوله، ولذا سأعتنق الإسلام، وسيتناول فضيلة المفتي العشاء معي، ثم يبدأ بتلقيني الشرائع الإسلامية (1).
وبعد إيراد هذا الخبر علق صاحب مجلة الهداية الإسلامية الشيخ محمد الخضر حسين على هذا الخبر قائلاً: يحدثنا تروتسكي أنه اعتنق الإسلام بعد أن دقق البحث في حقائق شريعته الغراء.
ومن نظر إلى أن تروتسكي نشأ في منبت غير إسلامي، وأُشْرِب مذهباً ذا مبادىء لا تلائم طبيعة الدين الحنيف، ثم وقع في بيئة أخذ مترفوها يفسقون عن الإسلام وثق بأن مثل تروتسكي إنما يسلم على سلطان من الحجة مبين.
ولا عجب أن يهتدي تروتسكي للإسلام، ويزيغ عنه نفر ترددوا على معاهد شريعته بضع سنين؛ فإن هؤلاء النفر لم ينظروا في حقائقه نظر الباحث النبيه، وما كانت تعاليمه إلا كالصور تقع على ظاهر قلوبهم دون أن تخالط سرائرها؛ فما هم من أولئك الذين يتجافون عنه بجهالة مطلقة ببعيد.
ولنا الأمل في أن تُصلح طرق التأليف والتعليم، فيسهل على كل ناشىء يدرس حقائق الشريعة أن يصل إلى لبابها، وينفذ إلى بالغ حكمتها.
(1) الهداية الإسلامية لمحمد الخضر حسين، جمعه وحققه علي الرضا الحسيني ص 163، وانظر جريدة الأهرام عدد 19أبريل نيسان سنة 1929م.
ولو عُني القائمون على شؤون الدين بترجمة محفوفة بالاستدلال وبيان الحكمة لأصبح عدد المعتنقين للإسلام من أمثال تروتسكي غير قليل (1).
(توبة السفاح (2):
هكذا كان يُلقب لكثرة جرائمه، التي لم تقف عند حد، فقد كان مضرب المثل في الجريمة والإرهاب، الكل يرهبه ويخافه، كان الناس يقولون: لو استقام العصاة والمجرمون كلهم ما استقام فلان -ـ يعنونه ـ فسبحان من بيده قلوب العباد .. من كان يُصدّق أن مثل هذا القلب القاسي سَيَلِيْنُ في يوم من الأيام؟! لكنها إرادة الله عز وجل، ومشيئته قال تعالى:(اعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الَايَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الحديد: 17]، وقد روى لي قصته كاملة يوم أن هداه الله، فإذا فيها أمور عظام تقشعر منها الأبدان، وتمتعض لهولها القلوب، اقتصرت منها على ما يحسن ذكره في مثل هذا المقام،
قال عفا الله عنا وعنه:
توفي والدي قبل أن أتم التاسعة من عمري، وكنت أكبر أولاده فانتقلتْ أمي إلى بيت أبيها (جدي لأمي)، أما أنا فاستقر بي المقام عند أعمامي، في بيت جدّي لأبي، كنتُ بينهم كاللقيط، الذي لا يعرف نسبه، أو كاليتيم على مائدة اللئام، بل لقد كنتُ كذلك، وكأنهم لم يسمعوا قول الله عز وجل:(فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ) أو ما ورد في الأثر: (خير بيت في المسلمين فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه).
وليتَ الأمر اقتصر على ذلك؛ بل كانت التهم دائماً توجه إليّ .. بالسرقة .. والفساد
…
وغير ذلك، في الوقت الذي كنت فيه أشد الحاجة إلى العطف والحنان واليد الرحيمة المشفقة، كنت أرى الآباء وهم يقبلون أبناءهم ويلاعبونهم، ويشترون لهم الحلوى واللُّعب والثياب الجديدة، أما أنا
…
فتدمع عيني، ويتقطع قلبي ألماً وحسرة.
أصبحتُ أكره كل من حولي .. انتظر اللحظة السانحة لأنتقم من الجميع.
(1) الهداية الإسلامية ص 163_164.
(2)
رواها لي بنفسه.
وحين بلغتُ سن الخامسة عشرة بدأتُ التمردَ .. تلفتُّ يميناً وشمالاً فلم أجد إلا رفقاء السوء، فانخرطتُ معهم في غيهم، وتعلمتُ منهم التدخيَن والسهرَ إلى أوقات متأخرة، وعلم عمي أنني أصبحتُ مدخناً فضربني دون مفاهمة وطردني من البيت وكأنه ينتظر هذه اللحظة، فلجأتُ إلى بيت جدي لأمي حيث تقيم والدتي، ولم تكن والدتي مع اخوتها في بيت جدي أحسن حالاً مني، فقد كانوا يعاملونها هي الأخرى كالخادمة في البيت فهي التي تطبخ وتنظف وتغسل و
…
ولا أنسى مرة أنني دخلتُ عليها وأنا في أوج انحرافي وهي تبكي ألماً وتقول: يا بني، اعقل وعد إلى رشدك، وابحث لك عن وظيفة تنقذني بها من هذا العذاب، فلم أكن ألقي لها بالاً.
وَعَمِلْتُ مع أخوالي في الزراعة والحرث تحت الضرب والتهديد، فضاقتْ بي الدنيا، فاقترضتُ من والدتي بعض المال، فاشتريتُ به سيارة، وتوظفتُّ في إحدى الشركات، فتعرفتُ على رفقاء جدد عرّفوني على المخدرات وأنواع أخرى من الشرور، فلما علمتْ والدتي أصابها الهمُ والحزن والمرض، وفزعَتْ إلى عمي وخالي لنصحي وإنقاذي قبل فوات الأوان، لكنهم انهالوا عليّ ضرباً وما هكذا تكون النصيحة؛ فلم أزدد إلا بعداً وتمرداً وتمادياً في الانحراف، وعرفتُ طريق الهروب من البيت، فكنتُ أقضي وقتي كله مع رفقاء السوء، ولم أعد أفرق بين الحلال والحرام، أما العقوق وقسوة القلب فقد بلغت فيها حداً لا يوصف .. وأذكر مرة أنني دخلتُ على والدتي وهي تبكي وقد أعياها المرض وشحب وجهها ـ فشتمتها، وقذفتها بكلام جارح جداً وخرجتُ، وكأن شيئاً لم يكن، أسأل الله أن يعفو عني بمنه وكرمه .. فلكِ الله يا أمي الحبيبة، ما ذنبك؟ وقد ربيتيني وأنفقتِ عليّ، وربما كانت هدايتي بسبب دعوة صالحة في جوف الليل خرجتْ من قلبك الطاهر .. (قتل الإنسان ما أكفره)
واشتهرتُ بالغناء والعزف على العود ـ وكان صوتي جميلاً ـ .. ثم بالتفحيط وما يصاحبه من أمور لا تخفى على الكثيرين حتى أُطلِقَ علىَّ لقب السفاح لكثرة الجرائم التي كنت أقوم بها، فكان لا يركب معي إلا الكبار الذين لا يخافون على أنفسهم، أما البقية فكانون يلوذون بالفرار.
ودخلتُ السجن مرات عديدة، فلما أراد الله هدايتي هيأ لذلك الأسباب؛ فقد كان لي صديق عزيز، كنتُ أحبه كثيراً، فقد كان جميل الوجه، بهي الطلعة، فلم تكن هذه المحبة في الله، بل كانت مع الله، فسألت عنه يوماً فقيل لي إنه أدخل المستشفى في العناية المركزة، وهو في حالة خطرة جداً من جرّاء حادث مروع، فانطلقتُ مسرعاً لزيارته، فلما رأيته لم أكد أعرفه؛ فقد ذهب جماله وبهاؤه، وصار منظره مخيفاً مفزعاً، فكنت كلما رأيته أبكي من هول ما أرى .. !
فلم تمض أيام معدودة حتى قيل أنه مات، فبكيتُ يومين كاملين خوفاً من الموت فكان هذا الحدث فاتحة خير لي، وكنتُ عندما أتوضأ أحس براحة نفسية عظيمة، وأتذكر الموت وسكراته وشدائده فأعزم على التوبة إلى الله قبل حلول الأجل.
وألقى الله في نفسي بعض المعاصي كلها، وحبب إليّ الإيمان والعمل الصالح، فجمّعتُ ما عندي من أشرطة الغناء والباطل وذهبتُ إلى مكتب الدعوة فاستبدلتها بأشرطة إسلامية نافعة.
أما والدتي الحبيبة فقد عدتُّ إليها، وأخذتها معي معززةً مكرمةً، وطلبت منها العفو والسماح، فبكتْ فرحاً وسروراً، وحَمِدَتِ الله عز وجل على هدايتي، فما كانت تظن أن ذلك سيحدث في يوم من الأيام.
ولكن هل تركني رفقاء السوء؟؟
كلا، بل كانوا يزورونني، ويدعونني إلى الرجوع ما كنتُ عليه في الماضي، ويقولون لي: لا توسوس، ارجع إلى الفن، أين العزف؟ أين الشهرة؟ أين
…
وأخذوا يذكرونني بالعود والغناء والتفحيط والأمور التي أستحي من ذكرها، بل إن بعضهم ـ والعياذ بالله ـ لم يستح أن يعرض نفسه عليّ مقابل الرجوع!! فأي ضلال أعظم من هذا الضلال؟.
ومضتْ شهور فغرني أحد السفهاء ودعاني إلى جلسة عود؛ فعزفت؛ لأني كنت حديث عهد بالتزام، وبدأتُ أضعف شيئاً فشيئاً، حتى عدتُ إلى سماع الغناء، وذات ليلة رأيت فيما يرى النائم أن ملك الموت قد هجم عليّ، فأخذتُ أذكر الله، وأحاول النطق بالشهادة، فحلفتُ بالله إن أصبحتُ حياً أن أتوب إلى الله توبة نصوحاً ولا أنصح أحداً بمفردي، لأن الأول قد غرني، فلما أصبح الصباح قمتُ بتحطيم جميع أشرطة الغناء، وقصّرتُ ثوبي، وعزمتُ على الاستقامة الحقة، وقد مضى على ذلك الآن أربع سنوات ولله الحمد والمنّة.
أما حالي بعد التوبة فإني أشعر الآن بسعادة لا يعلمها إلا الله، وقد أشرق وجهي بنور الطاعة وذهب سواده وظلمته، وأحبني من كان يبغضني أيام الغفلة، أما والدتي الحبيبة فقد شفيَتْ من جميع الأمراض ولله الحمد.
ومما زادني فرحاً وسروراً ما أجابني به أحد العلماء حينما سألته عن ذنوبي السابقة فقال: إن الله قد وعد بتبديل سيئات التائبين حسنات، فلله الحمد والمنة الذي لم يجعل منيتي قبل توبتي ..
(توبة شاب ماجن (1):
الشباب هم عماد الأمة وذخيرتها الحية، وأملها المرتقب، ومستقبلها المنشود، لذا؛ فإن الأعداء لا يألون جهداً في تحطيم نفوس الشباب وهدم أخلاقهم بشتى السبل والوسائل ..
يقول المستشرق شاتلي: (وإذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضتْ على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانتْ السبب الأول والرئيس لعزة المسلمين وشموخهم، وسيادتهم وغزوهم للعالم .. إذا أردتم غزو هذا الإسلام، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم وكتابهم: القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أغصانها .. )(2).
وما كان للأعداء أن يحققوا شيئاً لو تمسك المسلمون بدينهم وصبروا عليه، لأن الله يقول:(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لَا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120] يقول هذا التائب:
كنتُ في ضلال وضياع وفجور، تربيتُ كسائر الناس على طاعة الوالدين، لكني لم أكن أعرف الصلاة وكذلك سائر العبادات إلا رياءً
…
تعلمتُ التدخين في سن مبكرة، فكنتُ أدخن كثيراً .. لم أكن أعرف عن قضايا المسلمين شيئاً؛ اللهم إلا القضية الفلسطينية .. وعند دراستي في الجامعة تعرفتُ على شاب أبيض ذي لحية سوداء صغيرة، لا تفارق الابتسامة محياه .. لا أدري لماذا كنتُ أكرهُ هذا الشابَ وأحقد عليه .. ربما لأنه كان دائماً ينصحني، ويحثّني على ترك التدخين، وكل ما يُغضب الله ..
(1) رواها أحد زملائه، وقد سمعها منه بنفسه.
(2)
انظر: كتاب (الغارة على العالم الإسلامي).
وفي يوم من الأيام، حضر إلى الجامعة وبيده بعض المنشورات عن المجاهدين، وما أن اطلعتُ عليها حتى سَرَتْ في نفسي رعشةٌ وقشعريرةٌ لم أدرِ لها سبباً، لكنها سرعان ما زالت بعد دقائق معدودة ..
وذات يوم، كان الوقت عصراً وكنتُ أستمع إلى أغنية في المذياع، وصوت المؤذن يجلجل في الآفاق منادياً لصلاة العصر، ولكن:
فلا الأذان أذان في منارته
…
إذا تعالى، ولا الآذان آذانُ
كنتُ أنا والجدار متشابهين في القسوة والجمود وعدم الإجابة
…
وبعد انتهاء الأغنية، جاءت الأخبار، فأستمع إليها وإلى أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك وما يتعرضون له من القتل والتشريد؛ فلم ألقِ لذلك بالاً.
وفي الصباح، ذهبتُ إلى الجامعة كالعادة، فقابلني أحد رفقاء السوء، وعرض عليّ (فلماً) خليعاً فأخذتُه مسروراً، وسهرتُ تلك الليلة لمشاهدته، وهكذا في كل صباح كنا نتبادل هذه الأفلام المدمرة بيننا في الجامعة وللأسف الشديد .. !! فكيف يمكن للمسلمين أن يتقدموا على أعدائهم وهذا حال شبابهم.
وجاء اليوم الموعود، فإذا بذلك الشاب الذي كنتُ لا أطيقه يأتيني ويقول لي: هل تريد فلماً؟ فقلتُ له متعجباً: أعندك؟! .. قال: نعم. قلتُ: هات.
وأخذتُ الفلم، وفي الوقت الذي كنتُ أقضيه في السهر لمشاهدة تلك الأفلام؛ سهرتُ على هذا الفيلم الجديد الذي لا أدري ما محتواه .. كنتُ أظنه كتلك الأفلام التي أعرفها .. ولكن كانت المفاجأة.
تسجيلات قرطبة الإسلامية تقدم:
الصليب يتحدى
كان هذا هو عنوان الشريط ..
ثم توالت بعد ذلك الصور المفزعة .. دماء
…
أشلاء .. أجساد ممزقة .. أعضاء متناثرة
…
نساء ثكالى .. أطفال حيارى
…
دمار وخراب ....
أحلَّ الكفر بالإسلام ضيماً
…
يطول به على الدين النحيب
فحق ضائع وحمىً مباح
…
وسيف قاطع ودمث صبيبُ
وكم من مسلم أمسى سليباً
…
ومسلمة لها حرمُ سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً
…
على محرابه نُسب الصليب
أمور لو تأملهن طفل
…
لطفل في مفارقه المشيبُ
أتسبى المسلماتُ بكل ثغر
…
وعيش المسلمين إذاً يطيبُ
أما لله والإسلام حقُ
…
يدافع عنه شبان وشيبُ
فقل لذوي البصائر حيث كانوا
…
أجيبوا الله ويحكم .. أجيبوا
لم أتمالك نفسي من البكاء .. أحسستُ برعشة تسري في أوصالي .. كنتُ أتخيل نفسي واحداً من هؤلاء، وقد ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ورُسم على صدري الصليب .. يا إلهي .. ألهذه الدرجة بلغ الحقد الصليبي على هؤلاء الغُزّل، لا لشيء .. إلا لأنهم مسلمون .. ؟؟!! (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
لم أنم تلك الليلة من شدة الخوف .. استلقيتُ على فراشي وأنا لا أدري ماذا أصنع .. نظرتُ من حولي، فإذا بضوء القمر الخافت قد تسرب من خلال النافذة، وألقى بأشعته الفضية على طاولة مكتبي الذي أذاكر عليه .. وإذا بي ألمح مصحفي القديم الذي تقطعتْ بعض أوراقه من الإهمال .. فأسرعتُ إلى أخذه وبدأتُ أقرأ فيه حتى وصلتُ إلى آية الكرسي من سورة البقرة .. (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .. ) فتوقفتُ عن القراءة ثم انهمرتْ عيناي بالدموع، فلم أتوقف عن البكاء إلا على صوت المؤذن وهو يجلجل في الآفاق .. ( .. الله أكبر .. الله أكبر .. ) .. فقمتُ مسرعاً، وذهبتُ إلى المسجد خائفاً ترتعد فرائصي .. فدخلتُ دورة المياه، فوجدتُ شيخاً كبيراً يتوضأ، فطلبتُ منه أن يعلمني الوضوء والصلاة، وكانت تلك الحادثة هي نقطة التحول في حياتي ..
(توبة مُعاكِسة (1):
إنّ المعاكسات التي تحدث بين الجنسين لهي من أعظم البلايا وأخطرها على الفرد والمجتمع، وما أكثر ضحايا هذه المعاكسات من الجنسين، وبخاصّة النساء، ولنستمع إلى هذه التائبة لتروي لنا تجربتها المرّة مع هذه المعاكسات .. تقول:
تزوجت في سنّ مبكرة، وكنت مخلصة لزوجي غاية الإخلاص، حتّى كنت معه كالطفلة المدلّلة، أفعل كلّ ما يأمرني به، على الرغم من أنّي نشأت في أسرة ثريّة كنت فيها أُخدَم ولا أَخدِم، كان أبي قد طلّق أمّي فتزوّجتْ بغيره، وتزوّج هو بغيرها، فكان من نتائج ذلك أن فقدت حنان الأمّ، كما فقدت التوجيه السليم.
(1) - كتبتها لي بنفسه.
كان زوجي يذهب لزيارة أهله في كل أسبوعين فيمكث يومين، فأنتهزها فرصة للذهاب إلى بيت عمّي القريب من بيتنا، فكنت أجد من زوجة عمّي حناناً غريباً، وعطفاً زائداً حيث كانت تعطيني كل ما أطلب، لكنّها لم تكن مستقيمة، فقد كانت تذهب بي إلى الأسواق، وإلى هنا وهناك، وتفعل أشياء مخلّة بالأدب لا ترضي الله تعالى، فسرت على نهجها، والصاحب ساحب كما يقولون، ومن تلك اللحظات تغيّرت الفتاة الوديعة الغافلة إلى فتاة مستهترة متمّردة على كل من حولها، كانت زوجة عمّي ـ هداها الله ـ دائماً تغريني بأنّ خروج المرأة من بيتها حريّة، ورفع صوتها للحصول على مطالبها أفضل وسيلة، فصرت أستهزئ بكل من يذكّرني بالله أو يدعوني إليه .. ألهو كما أشاء، وألعب كما أحبّ على الرغم من أنّي زوجة، ولي أولاد، لكنّي لم أكن أبالي، ولم يقف الأمر عند هذا، بل رحت أجمع حولي صديقات سيئات الأخلاق، كن دائماً يدعونني إلى الحفلات والأفراح، والخروج إلى الأسواق بلا سبب يُذكر، وبما أنّي كنت أكثرهن ذكاء وجمالاً وتمرّداً، وأقلهن حياءً، كنت أنا الزعيمة.
وأدهى من ذلك أنّني كنت أعتقد في السحر، وأستعين بالمشعوذين مع خطورة ذلك على العقيدة.
وفي يوم من الأيام جاءتني امرأة من نساء الجيران، ولم أكن أهتمّ بمن يسكن حولي، ولا أحبّ الاختلاط بهم، ولكنّ هذه المرأة تعلّقت بي، وأصّرت على زيارتي، وبما أنّها كانت صالحة وملتزمة فقد كرهت الجلوس معها، وكنت دائماً أحاول الهروب منها، لكنّها كانت لا تيأس، وتقول لي: لقد صلّيت صلاة الاستخارة (1). هل أنزل عندك مرّة أخرى أم لا، فيقدّر الله لي النزول ورؤيتك.
ومرّت الأيام ـ حوالي الشهرين ـ مرّة تكلّمني، ومرّات لا تستطيع أن تقابلني، وكانت تذهب كلّ يوم بعد العصر لتعلّم النساء القرآن في المسجد المجاور لنا، وكلّما رآها زوجي دعا الله أن أكون مثلها، وكانت هي تدعوني إلى الذهاب معها إلى المسجد، ولكنّي كنت أعتذر بأعذار واهية، حتى لا أذهب، وكانت دائماً تقول لي: إنّي والله أقوم من الليل أصلي، فأدعو الله لكِ بالهداية، وعند ما أتقلّب في فراشي أذكرك فأدعو الله لكِ، وذلك لما تفرّسَتْه فيّ من الذكاء، وقوّة الحجّة، وفصاحة اللسان، والقدرة على جذب الناس حولي.
(1) - صلاة الاستخارة من أعظم أسباب التوفيق والبركة وتيسير الأمور.
وجاء يوم ذَهَبَتْ فيه خادمتي إلى بلدها، وكنت بانتظار مجيء أخرى، فجاءتني جارتي وأنا منشغلة ببعض أعمال البيت، فاقترحت عليّ الاستغناء عن الخادمة، وكان موعد قدومها عصر ذلك اليوم، فقدر الله عز وجل أن يتأخّر قدومها أسبوعاً كاملاً، فكانت جارتي تأتيني فتجدني في البيت، فتساعدني في بعض الأعمال، وتُسرّ بي سروراً كبيراً، وكنت أنا في الوقت نفسه قد أحببتها، ورأيتها امرأة مرحة، لا كما كنت أتصوّر، فإنّ زوجي من الملتزمين، ولكنّه كان دائماً عابس الوجه، مقطّب الجبين، فكنت أظن أنّ ذلك هو دأب الملتزمين جميعاً، حتّى رأيت هذه المرأة وعاشرتها، فتغيّرت الصورة التي كانت في ذهني عن الملتزمين.
وبعد ذلك بأيام توفيت قريبة لي، فذهبت للعزاء، فإذا امرأة كانت تتكلّم عن الموت، وما يجري للإنسان عند موته بدءاً من سكرات الموت وخروج الروح، ومروراً بالقبر وما فيه من الأهوال والسؤال، وانتهاءً بدخول الجنّة أو النار .. عندها توقفت مع نفسي قائلة .. إلى متى الغفلة، والموت يطلبنا في كل وقت وفي كل مكان، وفكّرت .. وفكرت، فكانت هذه هي البداية، وفي صباح اليوم التالي وجدت نفسي وحيدة ولأول مرة أحس بالخوف .. فقد تذكرت وحدة القبر وظلمته ووحشته، فكنت ألجأ إلى جارتي المخلصة لتسليني، فكانت تجيء إليّ بالكتب الوعظية النافعة، فكنت عند ما أقرأها أحسّ وكأنّني أنا المخاطبة بما فيها، خاصّة فيما يتعلّق بمحاسبة النفس، وظللت أقرأ وأقرأ حتّى شرح الله صدري للهدى والحقّ، وذقت طعم الإيمان، عندها أحسست بالسعادة الحقيقيّة التي كنت أفتقدها من قبل، وتغيّرت نظرتي للحياة، فلم أعد تلك الإنسانة اللاهية العابثة المستهترة، وابتعدت عن رفيقات السوء، وكرهت الأسواق، بل كرهت الخروج من المنزل إلّا لحاجة أو ضرورة ماسّة، والتحقت بدار الذكر لتحفيظ القرآن الكريم، وهذا كلّه بفضل الله ثمّ بفضل الصحبة الصالحة، والدعوات المخلصة بظهر الغيب من جارتي وزوجي، ولله الحمد والمنّة.
(توبة فتاة من شرك المعاكسات (1):
تقول هذه الفتاة:
(1) - كتبتها لي بنفسها.
أنا فتاة في الخامسة عشرة من عمري: كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي، سواء الأسرية أو الاجتماعية أو المدرسيّة، وقد تجاوزت المرحلة الابتدائية – ولله الحمد – بخير وسلام، ولم أتأثّر بشيء كان يحصل آنذاك، وأظنّ أن السبب في ذلك هو صغر سنّي، وعدم فهمي للحياة على حقيقتها، فما بدأت حياة الضلال والتخبط والجهل إلا في المرحلة المتوسطة، كنت أضل يوماً بعد يوم بشكل غير واضح، ودون أن أشعر بذلك، كانت البداية بعض المعاصي الصغيرة التي لا يعاقب عليها الشرع بشدة، إلى أن وقعت في ذنب كبير أحسست بأن نفسي قد احترقت بسببه، وكانت الخطوة الأولى مكالمة هاتفية من مجهول، كنت في تلك الليلة وحدي في غرفتي أذاكر دروسي، أختي كانت نائمة، وأخي كان في مدينة أخرى، ووالدي غير موجود، أما والدتي فلم يكن همّها إلا حضور المناسبات والحفلات والتجمّعات النسائية، مما شغلها عن أمور بيتها، المهم أنني كنت وحدي أذاكر دروسي في جو من الهدوء والسكينة والطمأنينة، وكنت حقاً أذاكر رغبة في طلب العلم، والله يعلم ما في نفسي ..
وفجأة
…
رنّ جرس الهاتف .. ولم يكن أمامي إلا أن أردّ عليه، فليس في البيت غيري وأختي النائمة، فإذا بصوت ذئب من ذئاب البشر ينبعث من سماعة الهاتف، يخاطبني بأرق عبارة، لم أعتد ذلك قط، لذا شعرت بشيء من الخوف والرهبة تسري في أوصالي، حتى لو كان غرض ذلك المتكلم شريفاً.
قال لي: أهذا بيت فلان؟ قلت: لا .. النمرة خطأ .. وهو يعلم أن النمرة خطأ، حتى صارحني بذلك، ثم طلب مني أن أكلمه .. فقلت له: وماذا تريد؟ قال أريد التعرف عليك!.
في البداية رفضت هذا الأمر بشده، فأنا لم أعتد هذا النوع من المكالمات، ولم أجرّبها من قبل، مع أن بعض زميلاتي في المدرسة كن قد جرّبنها كثيراً! حتى إنّي كنت أتحاشى الجلوس معهن، وما كنت أظن أنني في يوم من الأيام سأصبح واحدة منهن ..
إحداهن كانت تدرس معي في نفس الفصل .. أخبرتها بالأمر طالبة المشورة ـ و بئس المستشار ـ فلم تتردد في تشجيعي في السير في ذلك الطريق بكل عزم وإصرار، لا سيّما وأن هذا الأمر بالنسبة لها شيء هيّن، أما أنا فهو عندي شيء غريب لا أعرفه، ولم أجرّبه قط في حياتي .. الشيء الغريب الذي أستغربه من نفسي هو: كيف أنّني استمعت إلى نصائحها الشيطانية، مع أني أخاف هذا النوع من المكالمات الهاتفية خوفاً شديداً .. حقاً إنه شيء غريب .. لا أدري أين ذهب عقلي آنذاك .. لقد نسيت مراقبة الله لي، بل لقد نسيت نفسي، حتى غاب عني الشعور بالخوف من الله، وزالت عني الرهبة من تلك المكالمات فأصبحت وكأنها شيء لا حرج فيه، أو كما صورته لي صديقتي أنه مجرد لهو، وتسلية، وتنفيس عن النفس!!، ونسيت المصادر الأساسية الواجب تحكيمها، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك غاب عني في تلك اللحظات، وبما أنني قد عرفت أن هذا الشيء منتشر بين الشباب والفتيات، قلت في نفسي: ولِمَ لا أجرّب ذلك، فربما أجد فيه السعادة التي أبحث عنها .. .
وبالفعل .. بدأت علاقتي الهاتفية مع ذلك الشابّ (الذئب)، فكنت في كل صباح أنقل لزميلتي في المدرسة كل ما يجري بيني وبينه من أحاديث وأحداث، فكانت تشجعني، وترشدني إلى بعض الأقوال والتصرفات، وأنا أنقل له على لساني ما كانت تقول لي، حتى إني بعد توبتي وتذكري لتلك الأيام شعرت وكأني كالبلهاء أسمع كلامها، أو كالخاتم في يدها تديره كيف شاءت ..
وفي يوم من الأيام، وأثناء ما كنت أحكي لصديقتي ما دار بيني وبين ذلك الشاب من حوار ليلة أمس، سمعتني إحدى صديقاتي الصالحات، فامتعض وجهها، وحاولت نصحي، وإبعادي عن تلك الصديقة، كنت في بعض الأحيان أشعر بشيء يشدني ويدفعني إلى سماع نصائحها وتصديقها، لكن تأثير صديقة السوء كان أقوى، فما كان من تلك الأخت الفاضلة ـ بعد أن عجزت عن تقويمي ـ إلا أن أخبرت أختي التي تكبرني في السن، وتفوقني خبرة في الحياة، ومن رحمة الله بي أن أختي هذه كانت من النوع الذي يحافظ على الأسرار ويكتمها، فرأت أن تنصحني قبل أن تخبر أبي وأمي، فكانت تقص عليّ بعض القصص التي تبين أضرار هذه المكالمات ومخاطرها، إلا أن لم أكن أصدق ذلك، فقد كانت تلك الصديقة (صديقة السوء)) تقف هي والشيطان حاجزاً منيعاً يحول دون وصول صوت أختي إلى أذني أو بالأصح إلى قلبي، إلا أن أختي لم تيأس من صلاحي، فكانت تبذل قصارى جهدها لإنقاذي من الحفرة التي وقعت فيها، والتي حفرها لي شياطين الإنس، والعناد إلى أن جاءت لحظة الهداية، كانت قاسية جداً، بل كانت فاضحة .. ففي يوم من الأيام .. وبينما كنت مشغولة بمكالمة ذلك الشيطان الإنسي إذ بأخي الأكبر الذي عاد من سفره يستمع إلى المكالمة بكل إنصات .. يا للفضيحة .. في تلك اللحظة شعرت بأنني قد انتهيت فعلاً .. ذبت خوفاً وخجلاً .. لا أكون كاذبة إذا قلت إن ذلك الشعور ليس خوفاً من أخي وردة فعله، أو إخباره لأهلي، إنما كان ذلك خوفاً من الله عز وجل وحياء منه، وندماً على تلك الأيام التي ضيّعتها في غير طاعة الله عز وجل، وشغلتها بالمعاصي والذنوب ..
المهمّ أنّني بعد تلك الحادثة عزمت على التوبة النصوح، وترك كل ما يخدش ويجرح إسلامي، وإيماني، والعمل على ما يرضى الله دائماً، والشعور بمراقبته في كل أمر وحين.
وإنّي أعتقد أن من أسباب ضلالي وانحرافي ما يلي:
أولاً: سنّ المراهقة، فلا شك أن هذا السن يساعد على الانحراف، لا سيما في غياب التوجيه السليم، والقدوة الحسنة ..
ثانياً: رفقاء السوء، وكما في المثل (الصاحب ساحب)، يسحبك إلى ما هو عليه من خير أو شر، ويجعلك مثله.
ثالثاً: انشغال الأهل عن أولادهم، وإهمال مراقبتهم ومصاحبتهم، وهذا ما حدث لي تماماً، لولا ما حصل من أخي وأختي جزاهما الله خيراً ..
وأخيراً فإني أحمد الله عز وجل على هدايته لي بعد الضلال الكبير الذي عشته، وانحرافي عن الصراط المستقيم، ولو أن النهاية كانت قاسية ومؤلمة كما يظهر لبعض الناس، لكنها أفضل من قسوة وعقوبة الآخرة ..
هذه نماذج لبعض أحوال التائبين، وما وجدوه من الأنس والنعيم والطمأنينة لما أقبلوا على الله، وآثروا محابه عز وجل.
ولا عجب في ذلك؛ لأنه لا نعيم ولا أنس إلا بالله، وبمحبته، والإقبال عليه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير الشأن؛ فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها؛ فهو إلهها، ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربها، ومدبرها، ورازقها، ومميتها، ومحييها؛ فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن؛ فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسرَّ، ولا أنعم من محبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.
والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة (1).
(إلى أن قال: ووجدان هذه الأمور وذوقُها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب، والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر_كانت الحلاوة، واللذة، والسرور، والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه، وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد.
ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حباً لغيره، ولا أنساً به.
وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية، وذلاً، وخضوعاً ورقَّاً له وحرية عن رق غيره (2).
(إلى أن قال: وما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لله تعالى وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يَحُسَّ به؛ لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به؛ فوجود الشي غير الإحساس والشعور به (3).
(1) إغاثة اللهفان ص 567.
(2)
إغاثة اللهفان ص 567.
(3)
إغاثة اللهفان ص 568.
(إلى أن قال: إذا عرف هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه، وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت؛ فإنها لو كانت موجودة لما قدم عليها لذة أو شهوة (1).
(توبةُ الأمة:
إن الأمة تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها.
وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن غفلة الأمة عن التوبة؛ فإذا تحدث متحدثٌ عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر ببال أو تدور في الخيال، وهذا ضربٌ من الخبال، بل هو من السفه والضلال لأنه يجمع بين سوء الحال وقبح الفِعال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من شرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وخذلان لأوليائه، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركٍ للصلوات ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة كالربا والفسوق، والمجون، ونقص المكاييل وغير ذلك.
فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)[النور: 55]
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98]
وهؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس
(1) إغاثة اللهفان ص 568.
عليه السلام وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.
ومعنى الآية كما يقول المفسرون: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس _ قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال:(وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98]
أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.
(هذا ومما يجب على الأمة في توبتها زيادة على ما مضى ما يلي:
(1)
التوبة من الإسراف:
فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين، والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأنَّ شِدَّةَ تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن الدين، والنفس، والمال، والعرض.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همُّه الوصولُ إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتُمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يَلَذُّه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش، لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث بسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسُه العيش الناعم_ يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تُدْرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرفُ في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح؛ فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.
قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها.
(وقال أيضاً: المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار.
ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ)[الأعراف: 32]
وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.
ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال
تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)[الإسراء: 29]
وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)[الإسراء: 27]
وَعَدَهُمْ في زمرة من يستحقون بغضه فقال عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]
وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[الفرقان: 67]
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها.
(2)
التوبة من التبعية الثقافية والفكرية:
إنَّ مما يؤسف عليه، ويندى له جبين الحق ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.
ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله"وصحابته الكرام رضوان الله عليهم.
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.
ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.
ويجهلون قيم الإسلام، ومُثُلَه، وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.
ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.
ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهو الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه لم يواجهوه إلا بعقولٍ خواء، وأفئدةٍ هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة.
وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حِطَّةً أمام الغرب.
ولهذا تراهم يَهُشُّون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم الفكرية.
وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
ومن هنا فإن مثقفينا في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك قد نقشوا ما عند الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب.
وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية.
ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين.
والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.
أما الحياة بشمولها فإنها في نظرهم لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان.
[*] (يقول الدكتور محسن عبد الحميد_ أحد علماء العراق _: من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:
(في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها منذ أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.
فلما سُئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.
ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.
(وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه الجنائي الغربي استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا بعمق نظرية قانونية كان هو يعتقد أنها نظرية غربية صِرْفة.
(وكنا نتناقش يوماً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛ فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوَّاماً عليها.
فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة حتى نحدد موقفنا منه تلعثم ولم يعرف معناها.
فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا تعرف معنى القوامة؟
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.
وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.
وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته.
وما الجهاد دفعاً كان أو طلباً إلا تخليص للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وما هو إلا وسيلة للحياة الكريمة العزيزة الطيبة.
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم؟ وينس ما فعلوه به؟
وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود، وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبين؟ ألم يُنْعِم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه؟
فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ المسلمين، مما كان لها أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفَغَيْرَ المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يُعَدُّ أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟
وماذا صنعت أو تصنعه أمريكا من التسلط، والصلف، وهي التي تدعي أنها حاملة لواء السلام؟
فماذا صنعت بأطفال أفغانستان وشعبه البائس، وماذا ستفعله في العراق وغيره.
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟
هذه هي حال كثير من مثقفينا، ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة.
ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتةً وفرحاً.
والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.
فلا بد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.
فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبل رقيها وفلاحها.
وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.
أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص فذلك محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ماتأخذ، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع.
(3)
التوبة الإعلامية:
فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.
فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.
وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.
(4)
التوبة من التفرق والتدابر:
فالناظر في أحوال الأمة يرى عجباُ؛ فأعداؤها يحيطون بها من كل جانب، ويكيدون لها ويتربصون بها الدوائر، ومع ذلك ترى الفرقة، والتدابر، والتنافر؛ فالعقوق، والقطيعة، وإساءة الظن، وقلة المراعاة لحقوق الأخوة في الله تشيع في أوساط المسلمين، ولا ريب أن ذلك مما يسخط الله عز وجل ومما يفرح الأعداء، ويذهب الريح، ويورث الفشل.
فواجب على الأمة أن تجمع كلمتها على الحق، وأن ينبري أهل العلم والفضل والإصلاح لرأب الصدع، ونبذ الفرقة.
قال ربنا تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *)[آل عمران: 102،103]
(5)
التوبة من التبرج:
تلك السنة الإبليسية الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير.
ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.
وهذا الصنيع نذير شر وشؤم، ومؤذن لعنة وعذاب؛ ذلك أن التبرج موجبٌ لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغَيْرَة، واضمحلال الحياء، وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.
وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام.
قال تعالى مخاطباً نساء المسلمين (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)[الأحزاب: 33]
وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها.
كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!
وإذا أنكر منكر على أولئك الذين يدعون إلى التبرج والسفور وصموة بالتخلف والرجعية؛ فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أو ليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن وضعفاً على ضعف وخَوَراً منقطع النظير؟!
وإذا أردت الدليل على أن التبرج تخلف عن ركب الحضارة فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حالٍ تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.
ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.
كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة بعد درجة حتى ينتهي الأمر إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاءًا تاماً في القريب العاجل.
إننا في حاجة إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة فيتسع الخرق على الراقع ويستعصي الداء فلا ينفع دواء.
ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين، بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.
في الوقت الذي يَخْضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.
هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من الشرع ـ وهم يزعمون أنهم مسلمون ـ لووا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر، نعوذ بالله من الخبال ومن السفه والضلال، فإن عقولهم عقولٌ خواء، وأفئدتهم وأفئدةٌ هواء.
أترى فرقاً بين هؤلاء وبين أمم قد خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذُكِّروا بآيات الله: (قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[الأنفال:] 31؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[النحل:25]
(وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنه إلى ابتذال المرأة أقرب منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منه إلى راحة بالها.
[*] (قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت.
(وقال أيضاً: وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت استوى عندها أن تذهب يميناً، أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.
وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال
…
؟.
(وقال أيضاً: فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق فلا تَعُدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.، وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد وغير ذلك من فضائل الحجاب.
كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ويضرون ولا ينفعون، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وأن يكون حجابه مستوعبا جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة.
فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تَسعدَ الأمةُ بها.
(5)
التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فأمة الإسلام هي الأمة القَوَّامةُ على الأمم، وهي الشاهدة على الأولين والآخرين، والبشرية جمعاء بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام، ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله.
والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟.
وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟
وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة؟
وما بال كثير منهم ينزوي وينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟
وما بال الشرك يضرب بجرانه في كثير من بلاد المسلمين على مرأى ومسمع من أهل العلم دون أن يُغيَّر أو ينكر؟
وما بال القبور تشيد، وتعظم، ويطاف عليها، وتهدى لها النذور، ويدعى أصحابها من دون الله عز وجل؟
إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.
والبغيُ يضرب على الأمة الذلةَ والمسكنةَ، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة من نحو الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير.
وإذا تفشى وباء الفساد تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلَّت الرغبة في الآداب والعلوم.
وما عَاقِبَةُ الأمة المصابة بالذل والإحجام، والجهل والتفرق، وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدمار.
ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين، ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون؛ فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم.
قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25]
فإذا كَثُرَ الخبث هلك الناس وفيهم الصالحون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث).
ومن البلية في سكوت أهل العلم أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!.
(ومن أثر التهاون بالإرشاد أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية؛ فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكرون في سوء عاقبتها، فَإِلْفُ المعصية والعياذ بالله أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب فهو داءٌ عضال ومرضٌ قتَّال يضرب القلب ويفتك به ويعميه عن رؤية الحقيقة على ما هيتها.
ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها.
وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله.
هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكلٍ وجهةٌ هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن ارتكاب الذنوب لا يُسَوَّغُ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: فكثيرٌ من الناس إذا قصَّر في الطاعة، أو وقع في المعصية ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ بحجة أنه مُقَصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه كما في قوله تعالى:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 44]، وقوله:(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 3]
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره ويتجنبه؛ فترك أحد الواجبين ليس مُسَوِّغَاً لترك الآخر، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف.
قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78، 79]
فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[*] (قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي ".
[*] (وقال النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمرُ وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهيُ وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟
[*] (قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر.
[*](قال الإمام مالك رحمه الله تعالى معلقاً على قول سعيد بن جبير: وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء (1).
[*] (وقال الحسن لمُطَرّف بن عبد الله رحمهما الله تعالى: عظْ أصحابك.
فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!
قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر (2).
[*](وقال الطبري رحمه الله تعالى: وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره (3).
(وعلى هذا فعلى من وقع في معصية، أو قصَّر في طاعة ألا يدع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله حسب قدرته واستطاعته؛ فلربما اهتدى على يده عاص، أو أسلم كافر، أو تسبب في ذلك؛ فكان له من الأجر مثل ما لهم من غير أن ينقص ذلك من أجورهم.
ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس في ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر؛ لأنه يعرض نفسه لغضب الله عند التساهل في هذا.
بل ينبغي له أن يكون أولَ ممتثل لما يأمر به، وأولَ مُنْتَهٍ عما ينهى عنه.
وغاية ما في الأمر أن فعل المعروف، وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يقال لمن أمر بالمعروف، ولم يفعله أو نهى عن المنكر، وفعله: لا تأمر بالمعروف، ولا تنهَ عن المنكر، وإنما يقال له: داوم على أمرك ونهيك، واتق الله فيما تأتي وما تذر (4).
وإذا كان هذا في شأن من هو عاص أو مقصر فكيف إذا كان الشخص ذا علم، وصلاح وهو مقصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فعليه أن يتوب من ذلك، وأن يستدرك ما فات؛ لأن الله سائله عن علمه ماذا عمل به، قال تعالى:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[هود: 7]
(نظرة في حال المجتمعات البعيدة:
(1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/ 367.
(2)
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/ 367.
(3)
فتح الباري 13/ 53.
(4)
انظر شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر د. فضل إلهي ص20_24.
بعد أن تبين لنا حاجة الأمة إلى التوبة، وإلى التميز، والحذر من تقليد الأعداء الكفار في مستهجن العادات، هذه نظرة في حال المجتمعات البعيدة عن الله؛ فهناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتْباع النفوس هواها، وإرسالها مع كافة رغائبها وشهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.
ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون!
فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟
والجواب ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ فلم يَعُدْ يَرْدَعُها دين، أو يَزُمُّها ورعٌ، أو يحميها حياء؛ فَمِنْ كفر وإلحاد إلى مجون، وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً، ولواط، وشذوذ بكافة أنواعه مما يخطر بالبال، ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاءًا وحسرةً؛ فسنة الله عز وجل في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.
ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية تعيسة صعبة معقدة؛ حيث يشيع فيها القلق، والاضطراب، والتفكك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتفقد فيها الطمأنينة، والراحة، والمحبة، والبر، والصلة، والتعاطف، والتكافل إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]
كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كل إنسان منها أسئلة محيرة؟ من خلق الحياة؟ وما بدايتها؟ وما نهايتها؟ وما سر تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى.
وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟
إن الكنيسة بتعاليمها المُحَرَفَة لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.
ولقد زاد هذا الأمر ضراوة بعد أن تراجعت الكنيسة أمام ضربات الإلحاد.
فما أغنت الحرية المزعومة والإباحية المطلقة عن تلك المجتمعات فتيلاً أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقة، ولا الحياة الكريمة.
ولهذا يبحث الناس هناك عما يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء.
ومنهم من يروي غليله بالشذوذ الجنسي، حتى يفقد إنسانيته وصحته؛ ويكون عرضة للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوعة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز، وما يصاحب هذه الأمراض من ضيق وتكدر.
ومنهم من يروي غلته بالسطو، والسرقة؛ حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم، وممتلكاتهم؛ بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة والتكنولوجيا الحديثة؛ المجهزة بأحدث الوسائل والأساليب، القائمة على أحدث المبتكرات والتخطيط لكل عملية سطو.
ومنهم من يسلك طريق القتل؛ ليتشفى من المجتمع، ويطفىء نار حقده، فتراه يتحين الفرص، وينتهز الغِرَّة؛ ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى.
بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعة، ونوعاً من اللذة.
وكثيراً ما يكون القتل لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين إليه.
ومنهم من يبلغ به الشقاء والهم غايته؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه وغمومه، ولا يرى ما ينفس به كربته، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار؛ رغبة في التخلص من الحياة بالكلية.
ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق كثرة الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
أما طرق الانتحار فتأخذ أساليب متنوعة؛ فهذا ينتحر بالغرق، وذاك بالحرق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردي من شاهق، وهكذا.
أما أسباب الانتحار فمعظمها تافهة حقيرة، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهذا ينتحر بسبب وفاة عشيقته، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بعدما توفي كلبه كما فعل (جاك أشورت) وكان عمره 46 سنة.
بل إن هناك من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار وهو الكفر بالله، وما يستتبعه من الضنك، والشدة، وقلة التفكير في المصير.
والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء؛ حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين.
ومما يلفت النظر أن أشد البلاد انحلالاً أكثرها انتحاراً.
ومن الأشياء التي استحدثوها لمحاربة التخفيف من الانتحارات المتزايدة إنشاءُ مركز يتلقى مكالمات المُقْدِمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر.
وهذه الخدمات تقدم ليلاً ونهاراً وبالمجان.
والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار، حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كُتَيِّباً وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نَص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم!.
فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبد بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب؟
والجواب: أنهم فقدوا السبب الأعظم للسعادة، ألا وهو الإيمان بالله عز وجل فلم تغن عنهم حريتهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفىء لفح الحياة وهجيرها وصخبها؛ فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنزل بهم.
فهل اطلع على تلك الحال من يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقحاً، ودعارة، وفساداً؟
وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟
إن كانوا لم يطلعوا فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.