المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌مقدمة الطبعة الثانية

‌مقدمة الطبعة الثانية

السطور الأولى من هذه المقدمة كتبت في (مكتبة القدسي) في سوق الحميدية في دمشق، ووضعت في صدر الطبعة الأولى من رسائل (في سبيل الإصلاح) التي صدرت سنة 1348هـ، وتتمتها أكتبها الآن في دار صهري -زوج بنتي- الأستاذ زياد الطباع في جدة سنة 1407هـ، لأضعها في أول هذه الطبعة من كتابي (في سبيل الِإصلاح). وبينهما مدى واسع في المكان هو بُعد ما بين دمشق وتهامة الحجاز، وبينهما مدى في الزمان مقداره تسع وخمسون سنة.

زمان طويل طويل، تبدل فيه كل شيء يقبل التبديل: غاب العالم الذي عرف صباي وتبدلت معالمه ومضى أكثر أهله، الناس الذين كانوا هم ناسي، وكانوا أهلي وصحبتي، لم يبق في كل ألف منهم بضعة آحاد يعدون على الأصابع. فلا البلد اليوم هو البلد، ولا أهله هم الأهل، ولا العادات والأوضاع هي العادات والأوضاع، حتى لو أنَّ الله بعث جدي الشيخ أحمد الذي مات سنة 1332هـ، لما عرف من دمشق إلا جامع التوبة والجامع الأموي وجبل قاسيون، حتى الجبل الذي خلَّفه عارياً أجرد، لن يميزه اليوم وقد لَبِس الشوارع والبيوت فسترت شعابه وغطت ترابه، بل لن يعرف في هذا الشيخ الذي جاوز الثمانين حفيده الذي تركه ولم يتعد الخمس السنين (1) ولوطنه بعث ووصف ما رآه وما أحسَّ به في كتاب، لجاء أطرف من (حديث عيسى بن هشام)، وقصة (حاجي بابا في انكلترا) التي نشر الزيات ترجمتها في مجلة (الرواية) من قديم.

(1) كذا يقال وأفصح منه أن نقول: خمس السنين.

ص: 7

لأن هذا التبدل الذي تمَّ في ثلاثة أرباع القرن التي عشتها لا يقع مثله في ثلاثة قرون.

والمجتمعات (تتطور) دائماً، ولكن (تطورها) إن أسرع يمشي مشية الخيل التي بالغ الشاعر مبالغة جاوزت حد المعقول حين وصفها فقال:

وأجل علم البرق عنها أنها

مرت بجانحتيه وهي ظنون

فصارت هذه المبالغة حقيقة، وغير المعقول معقولاً واقعاً، وصرنا ونحن في مكة نسمع الخطيب يخطب في أميركا قبل أن يسمعه من هو قاعد أمامه في النادي، لا مجازاً بل حقيقة لأن الصوت يصل إلى من في النادي من طريق الهواء، ويبلغنا بالموجات الكهرطيسية (أي الكهربائية المغناطيسية)، ولو صرخ النذير من فوق الجبل يحذرنا طيارة معادية قادمة علينا لوصلت الطيارة قبل أن نسمع الصوت، لأنَّ من الطيارات ما هو أسرع من الصوت، وإذا كان الشاعر قد مدح بطلاً بأنه (ينظم فارسين بطعنة) أو أنه يقتل من الأعداء مئة في غارة، فلقد رأينا غارة من المتمدنين أهل الحضارة، تقتل مئة ألف في هيروشيما في لحظة واحدة، جلهم من غير المحاربين وإنما هم من الأطفال والنساء والشيوخ العاجزين.

جدّ جديد في العلم لو خُبِّر به أعلم علماء الطبيعة من مئة وخمسين سنة لجنّ أو لحسب المُخبِر مجنوناً: صرنا نسمع المغنّي يغني لنا، وقد مات واستحال جسدُه إلا رفات.

كان الشعراء يصفون القمر، ويشبهون به الغيد الحسان فوصلنا إلى القمر ووطئناه بنعالنا، وإذا هو كالأرض: صخر ورمل وتراب.

وهذه كلها آيات لمن كان له قلب، ومن كان يفكر فيما يرى وما يسمع، آيات وشواهد تقوي الإيمان في القلب المؤمن، أما من كان كالأنعام همُّه الطعام والشراب والزواج فيمر عليها وهو غافل عنها، يقف عند الصنعة وينسى

ص: 8

الصانع، يقول:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وينسى قول الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . ملء كوب من ماء البحر فما الكوب من البحر.

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : علمنا قوانين الله التي وضعها للجاذبية، ولكن هل عرفنا ما الجاذبية؟ ما حقيقتها؟ وعرفنا الكهرباء، وكثيراً من سنن الله فيها وجعلنا لها علماً، وألّفنا فيها كتباً، وفتحنا لها في الجامعة أقساماً، وأقمنا لهذه الأقسام أساتذةً، ولكن هل عرفنا ما هي حقيقة الكهرباء؟

ودرسنا المخَّ وخلاياه وأقسامه، ولكن هل عرفنا ما علاقة المخ بالفكر؟ لقد نبذنا المقالة الحمقاء التي قالها بعض الماديين في القرن التاسع عشر (هيكل أو استرنر): أن المخ (يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء) منذ قضى (هنري بركسون) وصحبه على هذا المذهب، ولكنا بقينا على جهلنا بعلاقة المخ بالتفكير، وأكثر منه جهلنا بعلاقة القلب بالإيمان والعواطف، وهل المراد بالقلوب (التي في الصدور) هذا العضو الذي لم نعرف عنه إلا أنه مضخة للدم، ولا نتساءل لم تسرع ضرباته عند الغضب، وتبطيء عند الحزن، فيحمر الوجه أو يصفر، وتظهر عليه تلك الأعراض إن لم يكن إلا مضخة تضخُّ الدم؟

أم المراد بالقلب شيء آخر، لم نعرفه بعد، وأننا حين نقول (القلب) نريد به اللب. كما نميز في الفاكهة قشرتها من لبها ولونها وشكلها، اللذين لا يدلان على العناصر التي تتألف منها، ولا على ما أودع من النفع والضر فيها.

إن اختلت خلايا المخ اضطرب التفكير، كما ينقطع تيار الكهرباء إن انقطعت الأسلاك، ويبطل عمل الرائي (التلفزيون) إن نقص شيء من أجزاء الجهاز. ولكن هل الأسلاك والمصابيح هي الكهرباء؟ إنَّ الذي يعرفه الأطباء عن الدماغ كالذي يعرفه (مصلح التلفزيون) عن جهازه، يكمل نقصه، أو يقوم اعوجاجه ولكن ما أثر ذلك فيما يعرض فيه من ندوات ومسلسلات، وما فيها من الخير أو من الشر؟

إن هذه الكشوف العلمية، وهذه المخترعات الحضارية تقوي الإيمان عند

ص: 9

من في قلبه إيمان، كما تشحن الذاخرة (أي البطارية) بالكهرباء إن كان لا يزال فيها بقية من كهرباء.

لقد كان في قريش عقلاء، وكان فيهم أولو فهي، ولكن لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى القدس ورجع من ليلته لم يستطع أكثرهم أن يصدق، وكاد يتزعزع إيمان بعض من قد آمن، ولو أنت قلت اليوم لأقل الناس علماً وأكثرهم جهلاً: لقد ذهبت أمس من جدة إلى عمان ورجعت، لما عجب، ولما رأى في ذلك شيئاً يتعجب منه.

إني حين أفكر فيما كانت عليه الدنيا وأنا في صدر حياتي ومطلع صباي، وما هي عليه الآن أحسُّ كأني صعدت إلى رأس المئذنة ووقفت عند الهلال، لا أستند إلى شيء، أنظر من تحتي إلى ما حولي فأحسُّ أنَّ الدنيا تدور بي، حتى أكاد أسقط على رأسي.

لقد كان تبدلاً يكبر عن التصديق، ولكن هل كان خيراً كله؟ الجواب: لا. هل كان شراً كله؟ الجواب: لا. إن فيه خيراً من الواجب علينا أن نتمسك به، وفساداً علينا أن نصلحه، ومن هنا حاولت، وأنا أكتب وأؤلف وأخطب وأحاضر (من ستين سنة) أن أجعل حظاً من عملي هذا في سبيل الله ثم (في سبيل الإصلاح).

فكيف نسلك هذا السبيل؟

إن ما وصلنا إليه فيه الطيب وفيه الخبيث، فكيف نميز الخبيث من الطيب؟

وإن ذلك كله يتبدل ويتغير، فأين الثابت الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل لنتخذه مقياساً يكون به هذا التميز؟ أين الطيب الذي لا خبيث فيه، والحق الذي لا باطل معه؟

الجواب واضح بين لمن أعمل فيه فكره، وكان فكره مجرداً عن الهوى.

هو أن البشر يخطئون ويصيبون، فلنرجع إلى من لا يخطىء أبداً، والذي

ص: 10

يقول الحق وهو يهدي السبيل، لندع ما اختلف فيه البشر إلى ما شرعه خالق البشر، وأنزله علينا، ولم يكل حفظه إلينا كما وكل ذلك إلى أهل الكتب من قبلنا، فبدلوا فيها وغيَّروا، بل تولى هو حفظه جل جلاله، وتقدست أسماؤه. فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

فالمقياس هو شرع الله، هو الكتاب الذي لم يستطع أعدى عدو لنا، وأعتى ظالم مخاكم أن يثبت (بل لم يجرؤ أن يدعي مجرد دعوى) أنه قد بدَّل أو غيَّر، أو أنه قد صحَّف أو حرَّف، أو أنَّ القرآن الذي هو في المصاحف بين أيدينا غير الذي أنزله الله. الذي بلَّغه جبريل سيد الملائكة محمداً سيد المرسلين، وإن كان بعض الفرق التي تنتسب زوراً إلى الإسلام تدَّعي كذباً وجهلاً، مالم يدعه هؤلاء الأعداء من أن المصاحف التي نقرأ فيها كلها قرآن ولكن ليست كل القرآن، وهي دعوى لا أدري أيُّهما أظهر: سخافتها أم وقاحتها.

ولكن الشيطان حين عجز عن تحريف تنزيله، دخل علينا من باب تأويله، حتى صار من الناس من يصرف الكلام عن معناه ويوجهه إلى غير الوجه الذي أراده الله، وحتى أنه كان عندي كتاب اسمه (حجج القرآن) لرجل اسمه الرازي (نسبة إلى مدينة الري قرب طهران الآن) جمع فيه ما احتجت به الطوائف كلها المسلمة والمرتدة عن الإسلام التي تُدعَى في الاصطلاح (الفرق الإسلامية) باعتبار ما كانت في الأصل عليه، هذا الكتاب فيه العجب العجاب، من صرف الآيات عن مدلولها في لسان العرب الذي نزل به القرآن، وعمَّا صحَّ في تفسيرها عن رسول الله الذي هو المبينِّ للقرآن.

ودخل علينا من باب صرفنا عن تدبر آياته، وتفهِّم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه إلى تصريف الصوت في تلاوته بالأنغام، وطرب الناس لسماع الصوت بدل الخشوع عند فهم المعاني وكان معنى كلمة (القرَّاء) حين نقرؤها في حروب الردة مثلاً وذكر من استشهد منهم في معركة -اليمامة- كان معناها الذي يقرأ القرآن متدبراً واعياً، عاملاً بما قرأ معلماً إياه من لا يعلم. فصار معناها البصير بالألحان والمقامات، الخبير بالمحطات والتصرف بالنغمات، وصار

ص: 11

السامعون يتصايحون من الطرب كأنهم يسمعون مغنياً في ملهى، لا يزيد إيمانهم بتلاوة القرآن، كما خبَّر الله عن أهل الإيمان، وصرنا نفتح به ونختم به الإذاعات والحفلات، ويكون بين تلاوة الافتتاح وتلاوة الختام ما لا يرضي الله من المخالفات والذنوب والآثام.

من هنا، ومن الأحاديث الموضوعة التي كشفها العلماء وما زال يرددها بعض الجهلة من الوعاظ والخطباء، وممن يبتدع في الدين مالم يأذن به الله ولا أرشد إليه رسول الله، ومن سوء فهم بعض الفقهاء لكلام الله وسنة رسول الله، ومما دخل علينا من شبه وضلالات على أيدي المنضِّرين المكفّرين الذين يتسمَّون كذباً بالمبشرين، وأيدي المستشرقين الذين يتكلمون في العربية وفي الدين، وقليل منهم من المخلصين، الذين يؤتون من ضعف العلم بالدين، وفقد مَلَكةِ العربية التي لا تحصل بالتعليم والتلقين، وأكثرهم بين عدو للإسلام يدسُّ ويفتري ويلبّس دسَّه وافتراءه ثوب التحقيق العلمي، كما كان يفعل كجولد زيهير ولامنس وشاخت وأمثالهم وتلاميذهم الذين قرؤوا عليهم، ونشؤوا على أيديهم كـ (فيليب حتي) الذي جعلناه المرجع في التاريخ.

إن سبيل الإصلاح بيِّن ظاهر، إن شئنا سلوكه فليتفق الدعاة إليه على منهج واحد، نرتب فيه المقاصد التي ندعو إليها، نقدِّم الأهم منها على المهم، لا ندع الأصول ونتنازع في الفروع، وقد وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج لمعاذ لما بعثه إلى اليمن داعياً إلى الله، ومبشراً بالإسلام ومعلماً ومرشداً للراغبين فيه فقال له: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، إلى تصحيحٍ العقيدة لأن العقيدة هي الأصل، هي الأساس فإن ارتفع البناء عشرين طبقةً في الهواء بغير أساس لم ينفعه الارتفاع، ومن قام الليل كله وصام الدهر كله، وفي إيمانه شرك، كان كالتلميذ الذي أخذ أسئلة الامتحان وقعد في داره فأجاب عليها كلها، ولكنه سحب أوراقه من المدرسة، ومحي اسمه من سجلاتها.

درسٌ واحد أمره أن يعلمه الناس هو صدق التوحيد، وصحة العقيدة،

ص: 12

فإن هم وعوه واستقرَّ في قلوبهم، انتقل إلى الدرس الثاني وهو الصلاة ثم الزكاة. منهج مرتب، فما بالنا في غفلة عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بال كل داع يخترع منهجاً غيره يبدأ الطريق من وسطه أو من آخره، ويأخذ المسألة من ذنبها، حتى صارت الدعوة فوضى، والطرق فيها متداخلة ومتقاطعة.

وإذا كان شياطين اليهود قد وضعوا مخططات لإفساد بني الإنسان، تستمر على زعمهم أكثر من مئة عام، فلم لا يجتمع حكماء المسلمين من أهل الإصلاح، فيضعون مخططات للدعوة يدعونها:(مخططات حكماء حراء)، ليقوم لأهل الحق مقام (مخططات حكماء صهيون) لأهل الباطل.

إن الدعاة منا كثر، والمسلمون حاضرون ليستجيبوا لهؤلاء الدعاة، فإن لبثوا على خلافهم وتنازعهم، وتضارب مناهجهم، كان عليهم إثم أنفسهم، وإثم هذه الأمة التي تمشي وراءهم، وتقتدي بهم.

وبعد فهل كنت أنا في عملي كله، في هذه السنين الستين، أعمل لوجه الله وحده، لا أبتغي غير ذلك شيئاً، ولا أخلط به دنيا؟ ألم يكن يسرُّني أن يقول لي الصالحون: أحسنت، ويسؤوني أن يقال: أسأت؟ ألم أكن أفرح إن جاءتني كتاباتي وأحاديثي بالمال الحلال؟.

إني اللآن وأنا في آخر العمر وعلى مقربة من القبر، أسال نفسي، أقول: يا نفس أليس بالواقع؟ فتقول: بلى. فيقول: لما يا نفس خلطت قصداً صالحاً بقصدٍ شيء؟ فتقول: إنها طبيعتي التي طبعني الله عليها، والتي لا تقوى على التخلص منها إلا النادر من عباد الله المخلصين.

فأقول: فما جوابك عند سؤال ربِّ العالمين: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فتقول، أجيب: غرَّني يا رب ما وصفت به هنا نفسك، لتذكّرنا به بعفوك، غَرَّني بك أنك الكريم، فإن عاملتني بعدلك خسرت وضعت، لأني ظلمت نفسي وأسرفت عليها، فأنا أخاف عقوبتك، ولكني لا أقنط من مغفرتك، فاغفر لي وارحمني، وارحم من يقرأ هذا الكلام فيقول: آمين.

ص: 13

اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، واغفر لي، فإنَّ الصلاة على رسولك تقبلها لا تردها، وقد قرنتها بطلبِ المغفرة لي فلا تفرق اللهم بينهما.

رب اغفر لي ولوالدي ولذريتي، واغفر اللهم لكل من مات مؤمناً بك وبملائكتك وكتبك كلها ورسلك جميعاً.

اللهم إنَّ رحمتك لا تضيق بالمسلمين وقد وسعت كل شيء.

علي الطّنطاوي

ص: 14