المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌يا أيها الأغنياء

‌يا أيها الأغنياء

نشرت سنة 1939

ألم يأنِ لكم أن تخشع قلوبكم، وتلين أفئدتكم أفَقُدّت من حجر؟ ألا تكلفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا صرعى البؤس، وضحايا الفاقة، ماثلين لكم في كل سبيل. فتأخذكم بهم رحمة الإنسان، وتعرو قلوبكم لهم رقّة المؤمن؟ إني لأحاول أن أفهم كيف تزينون لأنفسكم حالكم، وتبررون إهمالكم، فلا أستطيع .... لا أستطيع أن أتخيَّل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صبيته، ويضاحك عياله وعلى عتبة قصره وتحت شبابيكه صبية مثلهم برءاء ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم إثماً، يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين، يتمنون ويتمنى آباؤهم قرشاً من الجنيه الذي يرميه الغني في الهاوية الخضراء التي يسمونها (مائدة القمار) أو يذيبه في كأس السمّ التي يدعونها (الشمبانيا) ثم يخرج جنيهاً غيره بعد لحظة ليتبعه الأول، ويتبع به عشرات

يتمنون هذا القرش الواحد ليعيشوا به يوماً، ويملؤوا به بطونهم خبزاً، فكيف تضنون على الإنسان المسكين بالقرش، وتنفقون الألوف على الشيطان، وعلى خراب الأبدان والأوطان والأديان؟.

إننا نقرأ في الصحف من أنباء أوروبة وأميركة أدت أغنياء القوم لهم مآثر وعطايا ولهم في كل مكرمة السهم الراجح والقِدْح الأعلى، ونسمع فيهم من يعطي العطيّة وهو مستتر مستحٍ لا يحب أن يدعى باسمه، وإنما يتسمى من التواضع والحياء بـ (تفاعل الخير)

فما لأغنيائنا الذين يقلدونهم في عيونهم ومثالبهم، لا يتشبهون بهم في مزاياهم وفَعالهم؟ وما لأغنيائنا (1) دون أهل

(1) لا أعنيهم جميعاً. وأني لأقر أن في الأغنياء كرماء، وفي المثرين محسنين.

ص: 115

الأرض قد اختصوا (بفضيلة) الترفع عن الفقراء، والتعالي على أبناء هذه الأمة التي منها انحدروا وبفضلها عاشوا، وإنكارها إنكاراً ظنوا معه أنهم من طينة غير طينتها، وأنهم أبناء ماء السماء والناس بنو (ماء الأرض

؟).

أكانت علّة ذلك أنهم شرقيون، وكان السبب هذا الشرق المظلوم، المتهم بكل نقيصة؟.

قد يقول ذلك المفتونون بالغرب من ضعاف الأحلام ومرضى العقول، في حين أن الكرم والإيثار بضاعة شرقية، من الشرق قد صدرت

ولقد بلغ بالعرب حبّ الكرم مبلغ الإفراط، وزاد حتى كاد ينقلب مذمة يؤخذون بها، فكيف يستقيم في المنطق (مع هذا) أن يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم وهو القانون الأوحد الذي يحلّ مشكلة الغني والفقير، والذي يردّ عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية و (الرأسمالية) ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟.

لا. ليست الشرقية علّة هذه المشكلة، ولكن العلّة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحّة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب. ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق (1) فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأبناء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون لهم كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون

(1) في مدرسة طارق بن زياد في حيّ التاجرين سنة 1935.

ص: 116

محسورين. فما زلت (والله) بهم أبينّ لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبدالعزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وأنزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزّة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغني واستبدلوا بها عزّة الكرامة وعظمة التواضع!.

فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغني وأوهم نفسي أنه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا

فيا أيها الأغنياء ليتحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فإنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، وحين تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني؟ قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب

هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى

رأيته يضنّ على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغذى به، ويشتري بسبعة عشر قرشاً فرنيّة (كاتو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه، كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء

ص: 117

بجيوب (1)، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يظن أن المال ماله فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟.

المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ إن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع يحسّن لصاحبها كل أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يُكِن من الحر والقر ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو سِمَن يهد الجسم وخمر تحرق الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس وترضي الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدنيا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغبياء من الأغنياء.

على أنه ليس أشدّ على الفقراء من منع الغني المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره

إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيّه لا عمل له إلا تشريف أوراق الدولة بتوقيعه الكريم ينال الثمرة التي يتعب فيها الفلاحون، يجدون ويشتغلون في وقدة الضحى تحت الشمس المتسعرة، وفي زمهرير الليل تحت النجوم التي ترتجف أشعتها من البرد، ليقدموا لهذا الموظف الكبير ثمن سيارته التي يسوقها ابنه خلال الحقول تياهاً مستكبراً وقصره الذي

(1) الجيب فتحة القميص عند الفتق وكلنا نستعمله فيما يفهم الناس.

ص: 118

يلوح بين بيوت القرية كالجبار العابس الباسر، وثمن كأسه المحرّمة ولذاته المنكرة، ويذهبون فيأكلون خبز الشعير وينامون على الحصير. هذا الموظف الذي لا يكفيه وحده ما يدفعه أربعون من صغار (المكلفين) تباع فرشهم من تحتهم وقدورهم وثيابهم لتؤدي من ثمنها الضريبة. هذا الموظف يستعلي ويستكبر ويقبض يده عن الإحسان ويبسطها في سبل السوء، ويتشبه بأولئك الأغنياء الأغبياء وقد يسبقهم في ذلك أشواطاً، ومن كان في شك مما أقول فليذهب إلى القرى والدساكر.

ولسنا والله شيوعيين ولا اشتراكيين ولا يرانا الله ندعو إلى هذه اللعنة (الحمراء) ولا نؤلب الناس بعضهم على بعض، ولكنا ندعو إلى (الشعور) الذي لا يكون الإنسان إلا به إنساناً، والإحسان هو شعبة من شعب دين الإسلام

فمن اختار من الأغنياء وأرباب المرتبات الضخام ألاّ يكون إنساناً ولا مسلماً فليفعل فإن في جهنم مثوىً ومتسعاً للمتكبرين.

***

ص: 119