المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أين الأقلام ؟ نشرت في مصر سنة 1946   نحن اليوم في معركة مع - في سبيل الإصلاح

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌أين الأقلام ؟ نشرت في مصر سنة 1946   نحن اليوم في معركة مع

‌أين الأقلام

؟

نشرت في مصر سنة 1946

نحن اليوم في معركة مع الاستعمار، قد اندلعت نارها، وطار في كل أرض من أرض الإسلام شرارها، فهل رأيت جيشاً في معركة يدع مدافعه فلا يطلقها، وينسى دباباته فلا يسيّرها، ويلقي بنادقه فلا يحملها؟ وهذا ما نفعله نحن حين نهمل أقلامنا فلا نسخرها في هذا النضال، وإن من أمضى أسلحتنا وأنفذها وأبقاها على الزمان وأثبتها للغِيَر، لَهذه الأقلام؛ فما لِهذه الأقلام نائمة لا تفيق، جامدة لا تتحرك؟ وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب، كانه مدفع العيد يتفجر بالبارود الكاذب وسط المعمعة المدلهمّة التي جُنّ فيها الموت؟!

إنها معركة الاستعمار: استعمار البلاد بالجيوش، والأسواق بالشركات، والرؤوس بالمذاهب، والقلوب بالشهوات، فجنود العدو تخطر على أرضنا (1)، وشركاته تتحكم في أسواقنا، ومذاهبه الخبيثة تملأ رؤوسنا، وتقليده في إباحته وشهوته وسفوره وحسوره، وتكشفه في نسائه وفي أدبه، يفسد قلوبنا؛ فأين تلك الأقلام تنبه القوم النيام، وتطهر الرؤوس والقلوب، وتحمل نور الحق لتبدد به ظلمة الباطل؟!

أين تلك الأقلام تعرّف هذا الشعب بنفسه، وتتلو عليه أمجاد أمسه، وتذكره أنه لم يخلق ليذل ويخنع، وإنما خلق ليعز ويحكم، وأن الله ما برأه من طينة العبيد، بل سوّاه من جِذْم الصيد الأماجيد، وأنه أثبت من هؤلاء المستعمرين أصلاً في الأرض، وأعلى فرعاً في السماء، وأكرم نفساً، وأشرف

(1) هذا ما كان.

ص: 17

عنصراً، وأنقى جوهراً، وأنها إذا أفقرت الأيام الغني، وأذلت العزيز، فإن الفلك دوار، والدهر دولاب، فلا يغتر الفقير بالغنى الحادث، ولا يأسَ الغنيّ على اليسار الذاهب، فإن كل شيء يعود إلى أصله، وإن كل حال إلى زوال.

أين الفوهرر الذي نطح النجم كبرياء؟ وأين الدوتشي؟ فاعتبروا يا فهاررة اليوم

فما أنتم بأمنع من الموت، وما أنتم بأعصى على القدر، وإن لهذا الكون دياناً جباراً ما شاركه أحد كبرياءه إلا قصمه

وما أنتم حتى تشاركوا الجبار كبرياءه؟!

وأين تلك الأقلام تفهم الشعب أن المستعمرين ما زهدوه في قرآنه، وصرفوه عن دينه، وشغلوه عن تاريخه، إلا ليسلبوه أحدَّ أسلحته، ويجردوه من أمتن أدراعه، حتى إذا قابلوه أعزل عارياً، هان عليهم اصطياده، وسهل استعباده، فكان إليهم قياده؛ وأنه آن لنا أن ننتبه لمكرهم بنا، وأن نفيق من غفلتنا، ولا نمشي إلى الهوان بأرجلنا، ونمكن عدونا منا بِملْكنا.

وأين تلك الأقلام تعلن للناس أن هذه القوانين الأجنبية في محاكمنا، أثر من آثار الاستعمار الذي نحاربه، وأن لنا شرعاً هو أفضل من قانونهم، وديناً هو أحسن من نُظمهم، وأننا نستطيع أن نأخذ القانون المدني والجزائي من ديننا وفقهنا، وأن نحكم في محاكمنا بما أنزل ربنا، وأن من العار علينا أن نفتقر إلى قوانين عدونا. وما قوانينه؟ إن كانت من فكره فلنا أفكار، وإن كانت من تجاربه فلنا تجارب، وإن كانت من دينه

وأنّى؟ وما في الوجود دين تستمد منه القوانين كلها إلا الإسلام؟

فهل رأيت غنياً موسراً، أورثه أبوه صناديق الذهب، ثم يتكاسل عن القيام إليها، ومعالجة قفلها، ثم يذهب فـ (يشحد) ذليلاً الملاليم والقروش من أكف أعدائه ليتبلغ بها؟

هذا مثالنا حين نترك ديننا ونأخذ قوانين المستعمرين!

***

ص: 18

أين تلك الأقلام تقول للناس: إن الإسلام جاء يكسر الأصنام وأنتم رجعتم تعبدون أصناماً من لحم ودم، تأكل الخبز والحلوى والذهب وورق النقد (البنكنوت)، وتأكل كل شيء وتهضمه معدها، أصناماً تسمونها زعماء الأحزاب تجدّون وتتعبون ليستريحوا هم، وتَشْقَون. لينعموا، وتنخفضون. ليرتفعوا، وتدفعون إليهم ما كسبتموه بأيديكم الخشنة من العمل، وأنتم تقبّلون أيديهم الناعمة من الكسل، وتمنحونهم كل نعمة، ولا يمنحونكم شيئاً. وإن من بقايا الاستعمار هذه الأحزاب التي لا تتقاتل إلا على أكل لحمكم، وامتصاص دمكم وحكمكم

وهذا الأسلوب الأحمق الذي يشترط في معلم المدرسة الابتدائية وكاتب المحكمة الجزئية، شروطاً في نفسه ودرسه، وامتحاناً وتجربة، ولا يشترط في الوزير شرطاً، فكل من أراد الوزارة وسلك سبيلها نالها، ومن نالها يوماً لصقت به (معاليها) إلى آخر أيامه.

ستقولون: وماذا نعمل وهذه سنة المتمدينين في كل بلاد الله؟ نعم هذه سنة المستعمرين، ولكن في بلادهم علماء فلا تلقى وزيراً جاهلاً، وإن فيها شعباً يقظاً وصحافة ساهرة وانتخابات صحيحة وإدراكاً شعبياً، أما الأحزاب، ففي بلد واحد من بلادنا (كمصر مثلاً) أكل مما فيها كلها، وهل في أميركة إلا حزبان: الجمهوريون والديمقراطيون؟ وهل في إنكلترا إلا ثلاثة: الأحرار والعمال والمحافظون؟ فكم حزباً في مصر يا أيها المصريون؟

فإذا كرهتم الاجتهاد، وأبيتم إلا أن تكونوا مقلدين، فقلدوا في المذهب كله، ودعوا التلفيق!

وأين هذه الأقلام، تقول للناس: إن ثكنات قصر النيل في القاهرة، ومطار المزة في دمشق، ومعسكر الربانية في العراق، حصون العدو وقلاع المستعمر ما في ذلك خلاف (1)، ولكن للاستعمار قلاعاً أخرى، إن تكن أخفى

(1) كان ذلك يوم نشر هذا الفصل لسنة (1946).

ص: 19

فقد تكون أخطر، وهذه القلاع هي بيوتنا التي انتشر فيها (التحرر) في الشباب والشابات، و (التجدد) في الصلات بينهما، فقلل الزواج وزهد فيه الشبان، وكسد البنات، ونشر الأمراض، وشغل بالهزل عن الجد، وبالسعي للشهوة عن العمل للوطن. ولقد قلت إنها أخطر، لأن ثكنات قصر النيل قتلت عشرين مصرياً في عشرين سنة، وهذه تقتل كل سنة مليوناً من أهل مصر، كان يكون منهم العبقري النابغ، والقائد البارع، والأديب الملهم، والعامل النافع، ويكون منهم حماة الحمى، ودرع الوطن، خسرناهم لانصراف الشبان عن الزواج وزهدهم فيه، ولولا هذا التحرر، وهذا التجدد، ولو عادت بنا الأيام كما كنا من خمسين سنة، إذ لا تلقى شاباً في العشرين إلا متزوجاً، ولا فتاة في الثامنة عشرة إلا ذات بعل، لزادت مصر مليون إنسان في كل سنة، أفرأيتم كيف قتل استعمار البيوت هذا المليون؟

أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير لنا أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوروبة فهو خير ورشاد، وكل ما بقي لدينا من الشرق فهو شر وفساد!

وهذا من أقبح ما خلَّفه فينا الاستعمار.

فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، وتقيم لهم الميزان العادل، وتحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون!

وبعد، فهذه هي المعركة، وها هم أولاء المسلمون في كل بقاع الأرض يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل. ها هم أولاء يردون بأيديهم وبإيمانهم وبحقهم الجيوش التي لم يستطع ردها هتلر بحديده وناره. لا يرونها أكبر من أن تُغلب، ولا يرون نفوسهم أصغر من أن تَغلب. ها هي ذي المعجزات تظهر كل يوم على أيدي أتباع محمد: في ميدان الإسماعيلية، وفي شوارع الإسكندرية، وفي بلاد الشام، وفي مدن

ص: 20

فلسطين، وفي الهند، وفي جاوة، وفي إيران، فأين تلك الأقلام تدوّن خبرها وتخلد ذكرها؟

أين الشعراء وأين ملاحمهم فيها، وهناك شيء ينطق الجماد بالشعر؟ أين القصصيون وأين ما وضعوا فيها من القصص، وقد جلس الزمان يقص من أفعال هذا الشعب أعجب الأقاصيص؟ أين من في نفوسهم قرائح، أفلا تفيض اليوم بالبينات هذا القرائح؟ أين من بين أصابعهم أقلام، ألا تلتهب اليوم بالحماسة هذه الأقلام؟

أين كتاب العربية وشعراؤها وبلغاؤها؟

يا خجلتاه غداً من كتاب التاريخ إذا جاؤوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجل الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفاً. لقد شغلته عنها شواغل الأيام، ومباهج الأحلام، وملذات الغرام!

***

ص: 21