المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌في القهوة أذيعت سنة 1958   ليس هذا بالحديث الذي يعلو بسامعيه إلى - في سبيل الإصلاح

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌في القهوة أذيعت سنة 1958   ليس هذا بالحديث الذي يعلو بسامعيه إلى

‌في القهوة

أذيعت سنة 1958

ليس هذا بالحديث الذي يعلو بسامعيه إلى سماء الفن والعاطفة والفكر ولكنها قصة من قصص البلد، لا ترتفع بهم عن أرض الواقع، إنه مشهد من مشاهد الحياة، وكذلك تكون أحاديث الإذاعة، يوماً من الماضي ويوماً من الحاضر، ومرّة للاستمتاع بجمال الفن، ومرة للعمل على إصلاح المجتمع، ومن لم يجد فيه ما يبتغي، فليرقب آخر فلعلّه الذي كان يريد.

وهذه القصة أنه حكم عليّ البارحة بلا ذنب أذنبته، ولا جرم ارتكبته، وأبلغت القرار بنفيي وإبعادي عن الدار، التي أنا (ولا فخر) ربّها وصاحبها، وأنذرت بألا أعود إلا إذا مال ميزان الليل، ودنا السحر، ذلك أن الدار كانت تعجّ بالمدعوّات إلى حفلة نسائية (1)، فكأنها الحمام قد انقطع عنه الماء ولو أنه سمح لي لما أطقت البقاء، وكنت امرأ حليف البيت ورفيق الكتاب، أعود إلى بيتي من قبل المغرب، وأن أنا سهرت مرة في الشهر أو الشهرين، فإنما أسهر إلى الساعة العاشرة لا أعدوها، فكيف أمضي أكثر الليل خارج الدار، وإلى أين أذهب؟ حرت في أمري، وضاقت عليّ السبل، ثم أزمعت دخول قهوة من هذه القهوات

وقصدت قهوة كنت أعرفها، فدخلتها متردداً مستحيياً، أحسب أن عيون الناس كلهم قد توجهت إليّ، وأنظارهم قد انصبت عليّ، أدور بين المجالس أكاد أتعثر بنارجيلة أو سهوة (طربيزة) حتى وجدت صديقاً لي رآني فقام يستقبلني هاشاً باشاً متعجباً، ودعاني فجلست

(1) بمناسبة زواج ابنتي الثانية.

ص: 139

- قال لي: عجباً، أراك في القهوة؟.

- قلت: هذا حكم القدر.

وضحكت وقصصت عليه القصة، ثم أخذنا نتحدث، فكان عن أيماننا إثنان يلعبان بالنرد (الطاولة)(1)، وكلما نقلا حجراً خبطاه خبطاً منكراً، فأحسّ بصوته (طَخّ) كأنه ضربة على رأسي، وعن شمائلنا آخران، يلعبان الورق وحولهما جماعة من الشباب، وكلما ألقى أحدهما ورقة صرخوا صرخة أشعر كأنها تثقب طبلة أذني، ومن ورائنا حلقة فيها نوادر، فكلما جاءت نادرة قهقهوا قهقهة ترج القهوة رجّاً، وخلال ذلك، ترتفع الصيحات (من عاوز ميّ؟)(واحد قهوة مظبوط)، (شاي خفيف)، (هات بصّة)، (نَفَس عجمي لهون)، (عشّي)، (مين بدو عشّي!) والراديو يزلزل الجوّ بأغنية من أغاني فريد الأخرس - عفواً أقصد الأطرش! وما كان ثمّة إلا من ينفخ من فمه أو من أنفه دخاناً، فكل رجل مدخنة، والهواء فاسد مفسد، فما مرّت عليّ عشر دقائق حتى أحسست كأنْ قد دير بي (دخت)، وأن أعصابي قد تحطمت، فقمت لأذهب.

قال صاحبي: إلى أين!

قلت: إلى حيث

إلى حيث أجد الهواء، والهدوء، والراحة

قال: ألا تشرب شيئاً؟

قلت: قد شربت كأس الأذى حتى الثمالة فدعني أخرج، فما بقي بي طاقة على الاحتمال

قال: أخرج معك.

قلت: تفضل.

(1) وهي حرام كالورق، وكذلك كل لعبة مدارها على الحظ، بخلاف الشطرنج وأمثاله من اللعب التي يكون مدارها على البراعة والمعرفة.

ص: 140

ولما صرنا في الشارع، ونشقت الهواء، واستراحت أذناي، تشهدت وقلت له: هل تجيء القهوة كل يوم؟

قال: كل يوم!

قلت: أعوذ بالله. وما تجدون فيها؟

قال: نأكل ونشرب ونلعب ونتسلى مع الإخوان.

قلت: ولم؟ أو ليس في دارك ما تأكله وتشربه، أليس لك زوج وأولاد تلاعبهم، وتتسلى بهم؟

قال: طعام القهوة أشهى.

قلت: ولم كان أشهى!

قال: إن معه الفجل والبصل والنعنع والمخللات والمقبلات.

قلت: هذا كله عند الخضري، فلم لا تأتي به إلى الدار، وتأمرهم أن يقدموه إليك مع الطعام؟ وما هو ذنب امرأتك وأولادك حتى تتركهم كل ليلة؟ تهجر بيتك وأنسه وهناءه، وتأوي إلى هذه القهوات التي تصمّ الآذان وتحطم الأعصاب، لا ترجع إلى دارك حتى يكون الأولاد قد ناموا، وربما تأخرت في الصباح فلم تقم من منامك حتى يكونوا قد ذهبوا إلى مدارسهم، فلا يرونك ولا تراهم إلا مرة في الجمعة، فكأن هذه القهوة قد فجعتهم بك، وحرمتهم منك، وصيرتهم أيتاماً وأبوهم حيّ.

وتشكو بعد ذلك أن زاغ الأولاد، أو ساءت أخلاقهم، أو فسدت تربيتهم؟ تترك التعب كله للمرأة المسكينة، فلا يكفيها هم الطبخ والنفخ، والكنس والمسح وهمُّ الأولاد واكتنّ (1) واهدأ، طول النهار، حتى تهجرها في الليل؟

إن المسكينة لا تصل إلى المساء حتى يكون قد انهد جسمها، وضاق

(1) اكتن: من العامي الفصيح.

ص: 141

صدرها وطلعت روحها، وهي تأمل أن تجيء لتنفس عنها، فإذا أنت تركض إلى القهوة

قال: ما هذا يا أستاذ؟ أنت قاض وتقضي عليّ، قبل أن تسمع مني؟ أو تظن أني أفر من الدار لولا أن الدار صارت عليّ جحيماً؟ أو تحسب أن هؤلاء الذين تمتلئ بهم القهوات يتركون بيوتهم لو كانت بيوتهم جنات، وهل يهرب أحد من الجنة؟ إني أكدح النهار كله، أقاسي هم الكسب، ومعاناة الناس، فلا ينتهي النهار حتى يكون قد نفذ صبري، وضاق صدري، فأمشي إلى الدار أرجو أن أجد فيها الأنس والسلام، فلا أجد إلا الحرب والخصام، إن أبدت المرأة للضيوف لطفها ورقتها كان حظي منها غلظتها وشدتها، وإن أرت الأجانب عندما تخرج جمالها، لم أر منها أنا زوجَها إلا قبحها وابتذالها، كان كل خير فيها لغيري وكل شرّ فيها لي، فمن ذلك أفرّ؟

- قلت: لو فررت إلى أنس وطيب لعذرتك، أما هذا المكان الفظيع الشنيع

- قال: ثق أني لو اضطررت إلى ما هو أفظع وأشنع، لما ترددت في الإقدام عليه على أن أخلص من البيت ونكد البيت.

- قلت: عجيب والله، أما أنا فلو دعيت إلى أبهى السهرات، وأعظم الحفلات، لما آثرت ذلك على بيتي.

- قال: لعلك مستريح في بيتك فلا تبغي منه بديلاً.

- قلت: اي والله، أنا مستريح، ولله الحمد.

- قال: أفتظن أن الناس كلهم أمثالك، أو تحسب أن كل أهل كأهلك توفر لزوجها الراحة والهناء.

- قلت: وأنت هل تريح امرأتك وتهنيها؟ ألا تشكو هي منك مثل الذي تشكوه أنت منها؟ وإذا كنت تفتقد الحب والعطف، فإن أقرب طريق يوصلك إلى الحب والعطف، أن تبدأ أنت فتحب وتعطف، فهل جربت هذا مرة؟

- قال: وماذا أصنع سألتك بالله؟

ص: 142

- قلت: أن تعرف أن لزوجك عليك حقاً، وإن لولدك عليك حقاً، وأن تؤدي لكل ذي حق حقه.

صحيح أنك تروح العشية إلى دارك تعبان ضجران، وأن لك أن تستريح وتهدأ، ولكن لا تنسَ أن المرأة في تعب كتعبك وضجر كضجرك، وأنها ترقب مجيئك لتأنس بك، وتلجأ إلى كنفك، وتتخلص بك من هم العفاريت فاعطها ما تطلب منك تعطك ما ترجوه منها.

لا تعطها المال، ولا الهدايا، بل الوجه الطلق، والثغر الباسم، والتحية الحلوة، إنك مهما كنت في تعب، وجاءك ضيف عزيز فإنك تتلقاه بالسلام والابتسام، فلم يكون هذا الضيف أحق ببرّك وخيرك من امرأتك؟

فإذا انتهيت من طعامك، تخيّر لها من حديث يومك، مما رأيت وسمعت ما تملأ به وقتها وتملأ به بالحب قلبها، وهي تحدثك بطريف الحديث، بما يسرّ ويمتع، لا بما يزعج ويغضب، ويحفظ كلٌّ متاعبه ساعةً لنفسه، لا ينفضها في وجه صاحبه من أول لحظة، ولا تقعدا ساكتين كأنكما صنمان في متحف، فإن من آفات الحياة الزوجية أن الزوجين لا يتحدثان إلا قليلاً، لا لأن الأحاديث تنفد وتنتهي، بل لأنهما لا يحفلان الحديث ولا يردانه، والأحاديث لا تنتهي أبداً، والدليل أن الزوجين يكونان جالسين ساكتين فإذا جاءهما قريب أو قريبة تدفق كلاهما بالحديث، واستبقا إليه وتزاحما عليه.

ولقد قرأت مرة أن زوجين عجوزين كانا كلما قعدا تهامسا بشيء ثم انطلقا يضحكان، فسئلا من أين يجدا دائماً هذا الكلام المضحك، فقال الرجل: إننا اتفقنا على شيء نقطع به حبل السكوت بيننا، هو أننا إذا لم نجد ما نقوله، همست في أذنها: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة، فقالت: ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة. فنضحك ونجد ما نقول.

لا أطلب من الزوجين أن يلتا ويعجنا (1) طول الليل، لا، بل بأن يتحدثا

(1) اللت والعجن: من العامي الفصيح.

ص: 143

ساعة ثم يقبل هو على كتابه أو جريدته وهي على خياطتها وحياكتها.

وخير من ذلك، وأجدى، أن يختار الرجل كتاباً من كتب الحديث كرياض الصالحين للنووي أو كتب السيرة أو الأخلاق أو التاريخ، فيقرأ لزوجته وأولاده كل يوم صفحة ويفسّرها لهم، وكلما مرّ أمر بخير تواصوا بالعمل به، وكلما مر نهي عن شرّ تواصوا بالامتناع عنه، فيجتمع لهم من ذلك العلم والعمل والبيان والألفة والسلام.

- قال: يا أستاذ، أنت في واد، ونحن في واد، إنك تتكلم بالخيالات كأنك لا تعرف الواقع، ولا تدري ما حال الناس، وهل تظن أن نساءنا عاقلات عالمات يخاطبن بالمنطق، ويقدرن النكتة واللطف، إني أكلمها من الشرق فتجيبني من الغرب، وأسوق إليها النادرة اللطيفة فأرى منها الهجمة العنيفة، قلت لامرأتي إذا قرب موعد رجوعي فاتركي شغل الدار على حاله، فإن شغل الدار لا ينتهي وأكثر الرجال لا يهمهم نظافة أرض الدار بقدر ما تهمهم نظافة وجه المرأة ونظافة لسانها، ولا يبالون بحسن الطبخ قدر ما يبالون بحسن الخلق، والبسي خير ثيابك وألبسة الأولاد، وأعدي لزوجك ما يريد، هيئي المائدة ورتبي له المكان على النحو الذي يعجبه ويرضاه، واستقبليه بالبشر والعناية، والابتسام والرضا فيلقاك بمثل ذلك، ولو كان الرجل أغلظ الناس، لما استطاع أن يقابل هذا الخير إلا بخير منه أو بمثله.

ولتثق المرأة أن الرجل إذا استراح في بيته لم يفكر في قهوة ولا ملهى ولو أن كل رجل وجد في بيته الراحة والأنس لأقفرت القهوات وأغلقت أبوابها فالذنب كله ذنب المرأة، هي التي تكرّه الدار إلى الزوج، وتحبب إليه السهر فتجني عليه وعلى نفسها.

- قلت: أما أنا فأرى أن الصلاح من الرجل، والفساد من الرجل، ونساؤنا خاصة من خير نساء الأمم، وأطوعهن وأخلصهن، ولكن الرجال لا يعرفون كيف يستفيدون من طبيعة الخير فيهن، الرجل هو المسؤول، الأب أولاً والزوج ثانياً، وعليه أن يبدأ هو بإصلاح ما أفسد.

ص: 144

- قال: إنك تظلم الرجال، إن البلاء كله من النساء.

وبعد فلقد دخلت كثيراً من بلاد الله، فلم أجد في بلد ما نراه في بلادنا العربية، من هذه القهوات، التي يجتمعن فيها الآلاف المؤلفة من البشر يقعدون يمضون الساعات الطوال لا يعملون شيئاً، لا يستفيدون ولا يفيدون، يسيئون إلى صحة أجسادهم، وإلى عواطف زوجاتهم، وإلى تربية أولادهم، ويسيئون إلى أمتهم وبلادهم، هذه الأمة التي هبت اليوم تجدد بناء مجدها، وتستعيد في الأرض مكانها، ولها في عنق كل ابن من أبنائها ألّا يضيع ساعة من وقته، ولا ذرة من جهده، إلا في العمل لها.

فمن المسؤول عن خراب البيوت، وإضاعة الأوقات، وإفساد الأولاد، النساء كما يقول صاحبي، أم الرجال؟

فكّروا أيها القراء!

***

ص: 145