الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشكلة الكبرى (1)
نشرت سنة 1938
صورة المشكلة:
آلاف مؤلفة من الشبان يبيتون مسهدين ينتظرون أزواجهم اللائي خلقهن الله لهم، وآلاف مؤلفة من الشابات يبتن الليل مؤرقات ينتظرن أزواجهن الذين برأهم الله لهن، والذراري تطل من شرفة الغيب ترقب تعارف أبويها، لتأخذ بإذن الله، طريقها إلى عالم الوجود، فيكون منها عباد لله صالحون، وجنود للوطن مخلصون، وأنصار للحق ثابتون.
ثم إذا قدر الله وكان زواج، كان الزواج (أكثر ما يكون) همّاً ونكداً وخلافاً مستمراً، وآض البيت من بعده جحيماً محرقاً، وسجناً مظلماً، ونشأ الأولاد على غير تهذيب، ومن غير أخلاق ولا دين
…
هذه هي صورة المشكلة: انتظار أليم يسلم إلى الجنون أو إلى الفسوق أو إلى اليأس، ونقص في الأولاد، وضعف في الأمة، وخراب للبيوت، وضياع للأسر، وفقد للسعادة
…
سبيل العلاج:
هذه هي صورة المشكلة، فما هي أسبابها؟ وما نتائجها؟ وما علاجها؟ بل وما نفع الكتابة فيها؟
لقد كُتب فيها وكُتب (حتى لو أن محصياً أحصى المكتوب فيها لجاء معه كتاب ضخم) فلم يُغن المكتوب شيئاً، ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حل عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يدلي بها الكتاب والأدباء، من أجل
ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل فلم أتعمق ولم أتفلسف! ومن أجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصوراً
…
على أنها لا تغني المباحث، ولا تجدي الشواهد ولا الصور، ولا المقترحات ولا الآراء ما لم يحققها عقلاء الآباء، أو من لهم في الأمة أمر أو نهي، من أرباب الحكم وأصحاب السلطان!
موانع الزواج:
لو سألت أكثر العزّاب من الشبان: «ما منعكم من الزواج؟» لكان جواب الأكثرين إن لم أقل جوابهم أجمعين: «المهر، وما يتصل بالمهر من تكاليف وبلايا» ، ولست أذهب بالقارئ إلى بعيد، بل أضرب له المثل من نفسي
…
أنا أريد الزواج، وأنا امرؤ في رأسه أشياء وليس في كيسه شيء
…
أما الذي في رأسي، فقد أفنيت في تحصيله شبابي، وبيضت في طلبه لياليّ وسوّدت نُهُري، وخدعني عن حقيقته معلّمي فحسبته أثمن شيء في الوجود، وصدقت أن العلم خير من المال
…
فرأيت من بعد أن المال خير من كل شيء
…
وأما كيسي فما فيه وفر، ولكن فيه مرتباً يكفيني ويكفي بحمد الله أربع زوجات معي، لو أن الزوجة بقيت إلى اليوم شريكة الحياة وربة البيت، تطلب حياة هنيئة وزوجاً صالحاً، بيد أن هذا كله قد ذهب
…
وصارت الزوجة (يا أسفي!) متاعاً يشري، ولا بد للمتاع من ثمن، فإذا أخذ الأب الثمن لم يبال بعده شيئاً، ومتى كان يبالي التاجر إذا استوفى الثمن بأخلاق الشاري أو سيرته في أهله؟ وثمن الزوجة (أقل ما يكون) خمسون أو مائة (ليرة) ذهبية، فتصور يا صديقي القارئ متى تجتمع لرجل مثلي مكساب متلاف لا يستطيع أن يمسك شيئاً، أو لا يفضل عن نفقته شيء؟ وليست هذه المصيبة كلها. إن بعدها نفقات العقد (الكتاب) وقبل العقد خاتم الخطبة، وما يكون إلا من الذهب، و (الشبكة) وما يصلح لها إلا حلية لها قيمة
…
وبعد العقد الهدايا واللُّطَف يحملها إلى دار (الزوجة العتيدة) كلما زارها، ولا بد له من أن يزورها؛ ثم تأتي بلايا العرس، وما أدراك ما بلايا العرس: كسوة أهله وأقربائه ممن تجب عليه
نفقتهم (وكسوة النساء) أقبح التبذير، لأنهن يشترين قماشاً لا يدفئ ولا يستر، ويدفعن ثمنه غالياً، ثم إذا مرت شهور بطل طرازه (موضته) فأصبح لا يصلح لشيء
…
وبعد الكسوة نفقات حفلة الزفاف. ثم إذا دخل على زوجته، وانفرد بها، لا تكلمه حتى يدفع إليها (ثمن شعرها) وهي جملة من المال لا تقل عن (بضع ليرات ذهبية) ولا حد لزيادتها، وما أدري والله كيف تنزل الفتاة للمقص عن شعرها يجزّه ويلقيه على الأرض، ثم تطلب (ثمنه) من زوجها؟
ثم إذا أصبح أعطاها (وجوباً) عطية أكبر من (ثمن الشعر) هي (الضُّبْحة)، فإذا زال النهار أهدى إليها هدية، لا بدّ أن يكون فيها إزار للحمام ثمين وقد يكون منسوجاً بخيوط الفضة، ومناديل (مناشف)
…
إلخ، ثم تأتي نفقات (السبعة الأيام) يقيم فيها الأقارب والأهلون في داره، تولم لهم كل يوم الولائم، ويُطرفون بأنواع الطرف، فإذا انتهت دعوا جميعاً إلى الحمام وقد قلّ ذلك في هذه الأيام منذ كثرت الحمامات في الدور، وأهملت الحمامات العامة أو كادت، ثم يدعو أهلها (أي أهل الزوجة) جميعاً وأهله إلى وليمة كبيرة تسمى (التعريفة) يعرَّف فيها بعضهم ببعض - وقد يبلغ المدعوون إليها المئات في بعض الأسر الكبيرة
…
فأنى لمثلى الطاقة على هذه المصروفات التي تخرب بيوت الأغنياء؟ وإني لأعرف قاضياً شرعياً زوّج ابنه، فتكاثرت عليه النفقات، فلم يقدر عليها حتى باع بيته لينفق ثمنه في ليالي العرس! هذا أول موانع الزواج وأظهرها
…
الحجاب:
وهب أني قد وقعت على كنز، أو أصبت إرثاً فأصبحت غنياً وتوفر لي ما أبتغي من المال فكيف أختار زوجتي؟ أما الحاسرات المتبرجات اللائي يعرف الرجال كلهن: صدورهن ونحورهن وأيديهن وسوقهنَّ، فأنا (بحمد الله) أعقل من أن أتخذ زوجة منهن، ولو كانت ابنة ماء السماء، وأعلم العلماء، وما أحسب ذا دين ومروءة، يرضى أن يتزوج بمن رضيت لنفسها إهمال الدين وإسقاط المروءة، بتعرّضها في زينتها وفتنتها للرجال، تستهويهم وتأخذ بأيديهم إلى
النار
…
بقي عليَّ المتحجبة من بنات الأسر، وهي التي لا سبيل إلى رؤيتها إلا ليلة الزفاف، بعد أن يكون الغلُّ قد استدار حول عنقي، والقيد قد أحكم إقفاله على يدي ورجلي، ولم يبق لي إلا أن أقبل بها ولو كان لها وجه قرد وأخلاق الشيطان!
أفهذا من المعقول؟
يريد المرء سفراً، فيتحرى عن أخلاق رفيقه أياماً، ليعلم أيوافقه أم يخالفه ويبتغي أجيراً فيراه ويبحث عن أصله وفصله، ويجرِّبه أياماً؛ ويعزم على أن يتزوج، فلا يرى رفيقة حياته ومهوى قلبه، وموضع حبه، إلا بعد أن يتمَّ كل شيء؟
مع أن الشرع أباح له أن يراها ويجالسها (1)
…
ومع أنها تخرج إلى السوق فيراها (على خلاف الشرع) البائع ومن كان عنده، ويقدّم إليها القهوة ويحادثها ويراها عمال السينما، ويراها
…
ويراها
…
فما الذي حاق بالآباء حتى هان عليهم كل محرّم، وصعب عليهم ما أحلَّ الله؟
هذا هو المانع الثاني من موانع الزواج، بل إن هذا الوضع هو الذي سبب ما نرى من تبرج النساء وحسورهن، وعريهن على السواحل
…
ولا علاج له إلا بحجاب شامل (وذلك ما لا يستطاع) أو بسفور شرعي، كالذي سماه صديقي الأستاذ عز الدين التنوخي بسفور الراهبات، وذكر أن الحشويين الجامدين، يقابلون من يفتى به بالسباب والشتائم، وذلك هو الواقع، فإن هؤلاء قائمون بالمرصاد لكل من يعرض رأياً في إصلاح حال المرأة الذي كاد يصل إلى حدّ العري المطلق، بل لقد بلغه فعلاً
…
ولكنهم لا يأتون بأي رأي من عند أنفسهم، ولا يهتمون بما يرون، فهم هادمون ولا يبنون، وهم مفسدون لعمل كل مصلح ولا يصلحون
…
ولله الحمد على أن ضعفت مُنّتهم، وخفتت أصواتهم، وبادت جماعتهم، ونسأل الله أن يبدلنا بهم علماء يفهمون روح الإسلام ويعرفون حقائقه، ويفهمون روح العصر ويعرفون حاجات أهله.
(1) أي يراها غير حاسرة ويجالسها غير منفرد بها.
الخلاف العائلي:
فإذا يسر الله لامرئ سبيل الزواج، وأنجاه من هذه الموانع، عرضت له مشاكل، ورأى من المتاعب ما يندم معه على ما أتى، ولو ذهبت تتقصى أحوال المتزوجين ودخائلهم في بيوتهم لوجدت أكثرهم متألماً شقياً، ولهذا الألم أسباب يمكن تلافيها لو فكر فيها الزوج، وعزم على التلافي.
أول أسباب الخلاف:
أعرف أخوين: أما أحدهما فشيخ محافظ توفي، رحمه الله، من سنين طويلة، وأما الثاني فأديب موسيقي على الطراز الجديد. تزوج الأول، ولبث مع زوجه ستة عشر عاماً حتى توفي عنها ولم يكلمها على مسمع أهله كلمة، وإنما كان يوجه الكلام إلى أخته سائلاً حاجته، أو يأمر أخته أن تقول لها ما يريد، وألفت ذلك منه ورضيت به أو صبرت عليه. وكانت تخشاه كخشيتها الله أو هي أشد له خشية .. وأما الثاني .. لا، بل أكثر من عرفنا من الأزواج (المجددين) تتحكم بهم نساؤهم، فيأمرنهم وينهينهم، ويشتمنهم وقد يضربنهم! وهم يخافونهن ولا يجرؤون عليهن ..
أي أن الأزواج بين رجلين، رجل أعمل سلطته، وأهمل عاطفته، فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم الحب، ولا عرف السعادة الزوجية، ورجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً، وتفصيل ذلك أن الزوج هو الذي يحكم على نفسه، ويختار طريقه، فإذا دلل زوجه في الأيام الأولى، ومثَّل لها (دور العاشق في الروايات الخيالية)، ومنحها قياده، وأراها أنها حياته، وأنها الآمرة الناهية عليه، وتذلل لها وخضع، (ولذة الحب في التذلل والخضوع) ألفت ذلك منه، وتعودته .. فإذا طارت من رأسه سكرة الحب، وأحب أن يحكم في الدار، كما يحكم رب الدار، وجد الأمر قد أفلت من يده، فيبدأ الخلاف، ثم لا ينتهي أبداً. وإذا هو ضبط نفسه في الأيام الأولى، ولم يعط إلا بمقدار واستعمل عقله وسلطانه، ألِفت منه الزوجة ذلك، فوجدت كل عطف منه بعد ذلك غنماً كبيراً ..
فالزوج العاقل الحازم من لم تلهه حلاوة العسل التي تدوم له شهراً، عن مرارة العلقم التي ستبقى دهراً طويلاً. ومن لم تشغله اللذة الجسمية العاجلة، عن السعادة الروحية الآجلة. فليتنبه لهذا الأزواج، فمن هنا منشأ الخطر ..
حقوق الزوجين:
ومن أسباب النكد البيتي، والشقاء الدائم، الخلاف على حقوق كل واحد من الزوجين، فمن الرجال من يأخذ أكثر من حقه، ومن النساء من تقيم نفسها مقام الرجل، وتفرض عليه سلطانها، حتى إن الرعناء لتسأله: أين كنت؟ ومن كلمت؟ بل إن من النساء الحمقاوات التحذلقات ممن يحسبن أنهن متعلمات من تحاسب زوجها على زيارته أهله، وصلته رحمه، وتغار عليه إذا كلم عمته أوزارها .. حتى أصبح الأمر فوضى لا ناظم له وظلمة لا نور فيها: مع أن الشرع الإسلامي (الذي أيغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا بين وجه الحق فيها) قد حدد حقوق الزوجين، فجعل «من حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه فيما لا معصية فيه، وأن تصون عفافها، وألا تخرج إلا بإذن منه أو لضرورة، وأن تحرص على إدخال السرور عليه، وألا تكلفه ما لا يطيق ولا تطالبه بالزائد من حاجة نفسها، وأن تبذل جهدها في أداء واجباتها الدينية، وأن تعطيه زمام الرياسة المنزلية. ومن حقها عليه أداء مهرها كاملاً إليها والإنفاق عليها بالمعروف وأن يجتهد في تعليمها واجباتها الدينية وأن يكتم سرها ولا يتحدث به وحسن خلقه معها واحتمال بعض الأذى منها وممازحتها ومداعبتها» (1)، أي أن على الجملة رياسة المنزل (حين لم يكن بد لكل شركة أو جماعة من رئيس) وله السيادة فيه، وحفظ كرامته، وإدارة شؤونه الخارجية والإشراف على أموره كلها، وله الحكم وكسوة المرأة وخروجها، وله تأديبها بالعدل، ومن غير أن يخرج على ما أحل الله وذكر في كتابه، وللمرأة حق التصرف بأموالها، وإدارة شؤون المنزل الداخلية، والنفقة عليها وضمان حاجاتها اللازمة؛ ولها عليه أن يحرصن على سعادتها وسرورها، ويعاملها بالخلق الحسن، والقول اللين، ويتغاضى
(1) حقوق الزوجين للأستاذ الشيخ محمود ياسين.
خطيئاتها ما أمكن التغاضي، ويعلم أنها شريكة حياته، وأدنى الناس إليه فلا يستأثر دونها بطعام أو شراب، ولا يدعها في المنزل وحيدة متألمة ويسهر في المقاهي والملاهي، ولا يقدم نفسه عليها في كسوة أو متعة من متع العيش.
المشكلة بين الزوجين:
وإن من أظهر الخلاف بين الزوجين، ألا يكون بينهما مشاكلة ومماثلة، كأن يكون فقيراً وتكون هي غنية، فتعيره بفقره، وتترفع عليه بمالها، أو أن يكون من رجال الأعمال، وتكون متعلمة، على أن المتعلمة العالمة حقاً لا ينتظر منها إلا كل خير، ولكن البلاء في هؤلاء اللائي يحسبن أنفسهن متعلمات لأنهن كن قبل الزواج معلمات في مدرسة أو مديرات، وإن كن لا يفتحن في السنة كتاباً، ولا يفهمن شيئاً، ولا يعرفن إلا تنكيد حياة الزوج، وإضاعة ماله في الولائم والاستقبالات، والكسوة والزينة، هؤلاء هن البلاء الأزرق، وخير منهن الأمية الجاهلة.
ومن أشنع أشكال الاختلاف بين الزوجين حال من يتزوجون بالأجنبيات، فيرون منهن (على الغالب) ما يتمنون معه الموت الأحمر. وإني لأعرف من الناس رجلاً درس في فرنسا وجاء معه بفتاة زعم أنها من أكرم الأسر الفرنسية وأعرقها، فتزوج بها، فكان من أيسر ما تصنع أنها تذهب إلى السينما فترى الضباط الفرنسيين فتحن إليهم بصلة الدم فتكلمهم وتصادقهم ثم تدعوهم إلى دارها فلا يروع صاحبنا إلا الضباط قد ملأوا بيته. ثم انتهى أمرها بالفرار مع واحد منهم!
ومن العجب أن دماغين كبيرين تواردت خواطرهما على مسألة واحدة، وبينهما الدهر الأطول، وبينهما ما بين المشرق والمغرب فوقعا فيها على الصواب الذي نعرفه ولا نريد أن نتبعه:
لما كانت القادسية، ولم يجد الناس نساء مسلمات، تزوجوا نساء أهل الكتاب فلما كثر المسلمات بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بن اليمان بعد ما ولاه المدائن «بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل الكتاب فطلقها» ، فكتب
إليه: «لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟» .
فكتب إليه عمر: «لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، وإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم» .
فقال حذيفة: الآن! وطلقها.
هذا حكم الرجل العظيم، عمر، وقد حكم به في المدينة منذ ألف وثلاثمائة سنة.
وأما الثاني فحكم موسوليني، حكم به المؤتمر الفاشي في روما في هذا الأسبوع حين كان من مقرراته منع الإيطاليين من الزواج بالأجنبيات.
فمن لم يعظه قول عمر، فليعظه حكم موسوليني!
***