الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدباء الرسميّون
نشرت سنة 1939
ما كان لي أن أعرض إلى هذا الموضوع بعد ما تكلم فيه الأستاذان العقاد والزيات، لولا أن في النفس منه أشياء، وأن آراء العامة فيه يعمها الضلال البين، ويعوزها التقويم، وأن من الناس من يدعي الأدب ثم يزن أهله بميزان الحكومة، فيضع قيمتهم الأدبية في كفة، ويضع في الكفة الأخرى درجتهم في (الوظيفة) ومبلغ ما يقبضون من مرتب. فالشاعر الذي يعلم في مدرسة ابتدائية، لا يساوَى بالشاعر المدرس في الثانوية؛ والأديب الذي يعمل في تفتيش اللغة العربية أكبر من الأديب الذي يشتغل بالتدريس. أما الشاعر الذي جعلته الوزارة أو أصارته الأيام أول المفتشين، فواجب وجوباً أن يكون شاعر الشرق كله، أو شاعر العرب على الأقل الأدنى .. ويدللون على هذا المنطق السقيم بأن الحكومة لو لم تجده أعلم العلماء وأبرع الأدباء ما أحلته هذه المنزلة؛ فالطعن في تقدمه طعن في الحكومة ونفي لحسن التقدير عنها
…
وامتد هذا الجهل إلى الصحف، فصارت تقدم من الأدباء من قدمته الحكومة وتكتب في رأس المقالة كما يكتب صاحبها في ذنبها، مرتبته ودرجة الوظيفة الحكومية التي يقوم بها، كأنها هي الشهادة له بتمكنه في الأدب وعلو كعبه فيه، وغدا من المستحيل أن يقدم شاعر مجوّد محسن ولكنه مدرس عادي، على شاعر مفتش أو رئيس ديوان ولو كان دونه إحساناً وتجويداً، كأن شعر الوزير في الشعر كشخص الوزير في الناس، يتقدمهم ويعلوهم ولا يوزنون به ولا يتقدمون عليه. ومشى هذا المنطق السقيم وهذا الجهل البين في الناس، حتى صار هو القاعدة المقررة والأصل الثابت، وصار غيره هو الفرع الذي يحتاج إلى دليل
…
وما من أحد يدرك هذه العلة إدراك الأديب الموهوب الذي اضطرته
الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبة بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته .. وإذا كتب ينقده في صحيفة أو يسمّع به في مجلس، قامت عليه القيامة ونفي إلى أقصى الأرض، أو أخرج من الوظيفة إخراجاً، ثم لا ينصره عليه أحد لأن الناس قد استقر في أفهامهم أن المفتش أعلم وأبرع من المدرس، ولا سيما إن كان دكتوراً أو كان أستاذاً في جامعة، فإن مثله لا يأتيه الخطأ من بين يديه الامن خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا من فوقه ولا من تحته
…
والمدرس يركبه الخطأ من جهاته الست لا لشيء إلا لأن مرتبه أقل، ووظيفته أصغر
…
ثم إن عندك الموظفين الجاهلين المتزلفين الذين يتقربون إلى المفتش الشاعر أو الرئيس الأديب بإذاعة فضله، والثناء عليه، ومنحه الألقاب جزافاً، ويستمرون على ذلك ما استمر قاعداً على كرسيه لأنهم عباد صاحب الكرسي
…
فتؤثر هذه (الدعاية) -على بطلانها- في نفوس الأخلياء، وينال هذا المفتش الشاعر شهرة ومنزلة لم تقم على أدبه وإنتاجه، وإنما قامت على أرجل كرسيه الأربع وألسنة أتباعه التي تشبه أرجل الكرسي
…
وربما خدع التاريخ بهذه الشهرة -والتاريخ يخدع أحياناً- فانطمس الحق وعمت البلية
…
فما هو سبيل الخلاص من هؤلاء (الأدباء الرسميين) الذين يستغلّون هذه الشهرة الزائفة وهذه المنزلة الكاذبة فيقيمون أنفسهم أو تقيمهم الحكومة مقام الأئمة من أهل الأدب، فيرسمون للناشئين خططه ويضعون مناهجه ويملكون تحويله من وجهة إلى وجهة، ويستطيعون أن يؤثروا في مستقبل الأدب بما أوتوا من السلطان، وأن المدارس في أيديهم، وأموال الدولة تحت إمرتهم، تأثيراً لا يقدر على بعضه الأدباء غير الرسميين الذين لا يملكون إلا أقلامهم وعقولهم، بل إن الأدباء الرسميين قد يستطيعون والحكومة من ورائهم أن يسخروا بعض الصحف لغاياتهم ومقاصدهم. ولو كان هؤلاء (الأدباء الرسميون) الذين
تعتمدهم الحكومة وتثق بهم يُختارون دائماً من ذوي المنزلة الرفيعة في الأدب وممن لهم فيه تمكن ورسوخ لهان الخطب؛ ولكنهم قد يكونون على الضدّ ممّا قلت؛ بل قد يسيّر الأدب في وزارات المعارف من ليس بينه وبين الأدب رحم ولا قرابة
…
فإلى أين يسير الأدب في حالة مثل هذه الحال؟ وكيف ندفع عن الأدب ذلك المصير المحزن؟
…
لقد أشار الأستاذ الزيات إلى هذه المشكلة وإلى دوائها؛ فرأى أن دواءها العدول عن (السياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس) وتطهير التعليم (من المفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهة الاسم). وأنا أزيد أنه لا بد بعد ذلك من تصحيح مقاييس الناس وإفهامهم أن قيمة الأديب بإنتاجه ومواهبه، لا بوظيفته ومرتبه، وأن الأدب لا يقاس بهذه المقاييس الجامدة، ولا بد من التفريق بين شخصية المفتش والوزير الرسمية وبين شخصيته الأدبية؛ فأنا أرعى للوزير حق مكانته، وأعطيه كل ما ينص القانون على أنه حق له من الطاعة والاحترام. أما الوزير الأديب، والمفتش الشاعر، فإنهما عاطلان من هذه الحصانة، معرضان للنقد، أستطيع أن أدرس أدبهما وشعرهما كما أدرس أدب أي أديب وشعر أي شاعر، وأستطيع أن أحكم لهما أو عليهما، ولا يدخل في حساب النقد وظيفة عالية ولا مرتب ضخم. وإذا اقترح الوزير اقتراحاً في تعديل خطط التعليم، أو رأى رأياً يتبعه أذى للأدب أو خوف على مستقبله، فإنني أستطيع أن أناقشه وأرد عليه. وبغير ذلك لا تنمو المواهب ولا تثمر ثمرها، ولا يزدهر الأدب ولا يعطي أكله. بقي أمر واحد وهو حماية هذا الموظف الأديب الذي ينقد ويبحث، ويقوم بحق الأدب من غير أن يقعد عن حق الوظيفة، حمايته من انتقام الرئيس وتشفي المفتش، ولا يكون ذلك إلا بقانون ينظم علاقة الرئيس بالمرؤوس ويوضح لكل منهما ماله (بالضبط) وما عليه، أما إذا بقي أمر المدرس بيد المفتش والرئيس، وترفيعه وتنزيله تابع لرأيهما و (تقريرهما)، فلا حرية في البحث، ولا ازدهار في الأدب، ولا استثمار
للمواهب، لأن المدرس لا يستطيع أن يضحي بوظيفة هي سبيل حياته ومورد رزقه من أجل بحث أو فصل أدبي فيسكت على مضض، ويتوالى سكوته، فتموت قريحته، وتذهب ملكته، ولا يبقى فيه بقية لإنتاج. وإذا ذكرنا أن وضعنا الاجتماعي الشاذ ساق أكثر الشباب طوعاً أوكرهاً إلى وظائف الحكومة قدرنا مبلغ الخسارة الأدبية التي يُمنى بها الأدب، ومبلغ الأذى الذي يصيبه به (الأدباء الرسميون) الذين يعملون عمداً وبغير قصد على تقييد حرية الأدباء، وقتل المواهب، وسد الطريق على الناشئين المتأدبين
…
هذا وإن الأديب لا ينتج ولا يعمل إلا معتداً بنفسه واثقاً بها، وهذه العزة وهذه الكبرياء الأدبية هما عدة الأديب، فإذا خسرهما لم يصلح بعدهما لشيء. ومن نظر في حياة الموظف الصغير نظر مدقق ناقد، رأى أنه لا يستطيع أن يجمع بين إرضاء رؤسائه وبين الشعور بهذه العزة الأدبية، وما له من فقد إحداهما بدّ، وهو يؤثر (على الغالب) أن يفقد عزته الأدبية على أن يخسر وظيفته. وكم من موظف أديب نابغ معتد بنفسه، رأى ألوان الإيذاء، واتهم بالشذوذ والعناد، وعاداه صحبه ورؤساؤه، لأنه لم يبع كرامة نفسه وعزتها بهذا المرتب القليل؛ وربما كان هذا الموظف المغضوب عليه، المنسى المهمل، من خير الموظفين علماً وكفاية وقياماً بعمله، وحرصاً على الواجب عليه
…
ولكنهم الرؤساء، أولئكم (الأدباء الرسميون)
…
***