الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عربيّة إسلامية
نشرت سنة 1956
دعتني من أشهر جمعية الإصلاح في الكويت إلى إلقاء محاضرات وكانت المحاضرات في بهو صلاح الدين، الذي يتسع لثلاثة آلاف وكان منها محاضرة عنوانها بين العربية والإسلامية، احتشد لها الفريقان: الإسلاميون والقوميون وجمعوا جموعهم، وجاؤوا وعيونهم محمرة، وقد استعدوا للمعركة، والقوميون جميعاً (وتوقعت أنا) الشر، ثم فكرت، وقلت في نفسي -أنا من أكثر من عشرين سنة في معارك متصلة «بين العربية والإسلامية» أجادل القوميين، وأنكر عليهم دعوتهم إلى العربية، وهم يأبون عليَّ دعوتي إلى الإسلام، وكتبت في ذلك ما يجيء إن جمع في كتاب كبير، ولم يخطر لي أن أنظر يوماً في العربية والإسلامية، ما حقيقة أمرهما، وهل بينهما تناقض كالتناقض بين الوجود والعدم، بحيث لا تجتمعان ولا تنعدمان، فلا يكون المرء عربياً مسلماً، ولا يكوسن إلا عربياً أو مسلماً؟.
هل بينهما تضاد كالتضاد بين السواد والبياض، بحيث ينعدمان جميعاً، ولكن لا يجتمعان؟ ما حقيقة الصلة بينهما؟.
وجعلت هذا موضوع المحاضرة، فلما انتهت نظر كلّ من الفريقين في وجوه الآخرين يفتشون عما كانوا يتوهمونه من العداوة والخلاف فلم يجدوه، وخرجوا كالأخوة المتضامنين.
فأحببت أن أعود اليوم إلى هذا الموضوع، رغبة مني في تصحيح رأي الإسلاميين في العربية، والقوميين في الإسلام وفي إحلال السلام بينهما محل هذا الخصام.
***
إنه ليس بن العربية والإسلامية تناقض ولا تضاد، بدليل أني (أنا نفسي) عربي وأني مسلم، وأن الصفتين قد اجتمعتا فيّ، فلو كان بينهما تناقض أو تضاد، لكنت مناقضاً نفسي وهذا محال. وأكثر القراء يجمعون في أنفسهم بين الصفتين فهم عرب، وهم مسلمون. والرسول صلوات الله عليه وصحبه كانوا عرباً وكانوا مسلمين. والقرآن كتاب الإسلام وكتاب العربية، فهو الدين لمن أراد الدين، وهو البيان والبلاغة لمن أراد البلاغة والبيان.
وإذا شئت تحديد الرابطة بين العربية والإسلامية، وجدت بينهما باصطلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً من وجه، ولا أحب أن أكون رقيعاً فأخاطب جمهرة القراء باصطلاحات المنطق، بل أحب أن أقرب الأمر إليهم، فأصوره لهم دائرتين كبيرة وصغيرة، والصغيرة وسط الكبيرة، إلا هلال منها خارجاً عنها، فإذا رمزنا بالكبيرة للإسلام، وبالصغيرة للعربية، أن العربية تنطوي في الإسلام إلا جانباً منها، فهناك ما هو عربي إسلامي، وما هو إسلامي غير عربي، وما هو عربي غير إسلامي، وإذا لم يكن بد من الاختلاف والتنازع، فبين المسلم العربي وغير العربي غير المسلم، أما نحن المسلمين العرب، فإننا نناقض أنفسنا حين نفرق بين صفتين قائمتين بنا، ونحن قائمون بها، ونجعل للتناقض سبيلاً إلى الدخول بينهما.
والفكرتان من التداخل بحيث لا يكاد يظهر الخلاف بينهما، وبحيث أن أشد الناس بعداً عن الإسلام من غلاة القوميين، أعني من النصارى وممن لا يدين بالإسلام، لا يستطيع أن يجرد العربية من الإسلام، وماذا يبقى له من العربية إذا لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وأتباعه الذين فتحوا الأرض، وشادوا المدائن، وأقاموا هذه الحضارة، وإذا لم يكن فيها القرآن، الذي وضع هذه العلوم كلها.
ما الذي يبقى من العربية إن لم يكن فيها محمد والقرآن؟.
هل تبقى إلا المعلقات وبطولات حرب البسوس التي لم تزد على (خناقة) في حي، وموقعة ذي قار التي طار العرب فرحاً بها، حين غلبوا فيها فصيلة جند
كسرى؟ وغمدان والخورنق والسرير؟ أين هذا من الحضارة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، والبطولات التي أظهروها، والمجد الذي بنوا، فأرسوا أسسه على الصخر وساموا بشرفاته النجم، وتركوه يزاحم بمنكبه في ميدان الخلود الدهر.
إن غير المسلمين من القوميين لا ينكرون، إن الذي أخذ بيد العرب حتى دلهم على طريق المجد، وسلك بهم مسالك الفتح، ووضع في رؤوسهم فكر العالم، وبين أصابعهم قلم الكاتب، وألبسهم تاج السيادة في الدنيا، وأقعدهم مقعد الأستاذية من البشر جميعاً، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فلننظر إلى أشد المسلمين بعداً عن العربية، أعني الأعاجم، هل يستطيع أحد منهم أن ينكر أن محمداً عربي، وأن القرآن عربي، وأن الله كان أعلم حيث يجعل رسالته، ولو كان في الأرض أولى بها من العرب لجعلها فيهم، إنه لم يختر لها المتمدينين الذين يعيشون في المدائن في ظلال الإيوان، ولا في القسطنطينية بجوار الأبراج والقباب، ولم يختر لها رجلاً من بلاد الكروم والأعناب، ما اختار إلا هذا الشعب الصحراوي القوي العبقري الذي لم يتعفن برطوبة المدن الموبوءة، ولم يتلوث بأوضار الحضارة المزورة، بل بقي على الفطرة، على خلال الخير وسلائق الطهر، وأنه هو الذي حمل المصباح الذي أوقده محمد عليه الصلاة والسلام، فضوأ به للدنيا كلها طريق الحق والعدل والخير، وأن القرآن الذي يتلونه في صلاتهم عربي، لا يفهم إلا بتعلم العربية، وأن الكعبة التي يتوجهون إليها، ولا يرون أمنية تعدل الحج إليها والتعلق بأستارها، هي بنية عربية في بلدة عربية، وأن الأرض التي انبثق هواءها ووطئ حصاها، ثم ثوي بين أحشائها هي أرض عربية؟.
لذلك ترى المسلمين في كل بلد يحبون العربي، ويتبركون به، ولقد رأيت العجائب من ذلك، رأيتها بعيني لما ذهبت إلى باكستان والهند والملايا وأندنوسيا.
ولذلك جعل الإسلام كله بلد فتحها، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب بلداً عربياً بلسانه، عربياً بقلبه، وجعل من غير العرب من هم اليوم
أئمتنا وأساتذتنا نحن العرب في لغتنا، في اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وجعل منهم كبار شعرائنا وكتابنا، ولا أحب أن أمثل بأبي عبيدة وسيبويه والزمخشري وبشار وأبي نواس وابن الرومي، فإن المسألة أشهر وأعرف من أن يمثل عليها، وما ثَمّ متعلم إلا وهو يعرفها ويسوق عشرات الأسماء شاهداً عليها.
ونحن اليوم لا نرى جماعة من المسلمين إلا وهم يعرفون العربية أو يعرفها علماؤهم على الأقل معرفة فقه بها وفهم لها وتوسع فيها، في الصين وتركستان وبخارى والهند وجاوه. وهذا كله من أثر الإسلام.
…
فليس بين العربية والإسلامية ما يدعو إلى هذا الخلاف المستمر بين الدعاة إليهما، إنما الخلاف بيننا وبين من يحاول أن يجعل من القومية ديناً يناوئ به الإسلام، أو يجعل من العربية أخوة يستغني بها عن أخوة الإسلام، يريد أن بفك بأصابعه العقدة التي عقدها الله من فوق سبع سماوات، حين قرر أن المؤمنين أخوة، وأن الأخوّة هي أخوة الإيمان، لا أخوّة اللغة والجنس واللون والبلد. وأن نقطع صلتنا بأربعمائة مليون من إخواننا المسلمين غير العرب لنسترضي بهم مليونين من العرب غير المسلمين، وهؤلاء العرب غير المسلمين عاشوا معنا، راضين عنا، ألفا وثلاثمئة سنة ما قالوا شيئاً، حتى جاءت بدعة القومية، وجاء القوميون منا يقولون عنهم ما لم يقولوا هم أنفسهم.
الخلاف بيننا وبين من يخالف أحكام ديننا، وكتاب ربنا. وأذن يكون خلافاً بين كفر وإيمان، لا بين عربية وإسلامية ونحن نأبى الكفر سواء أكان صاحبه أعجمياً أو كان عربياً قرشياً هاشمياً.
وكان أول من نبهني إلى هذا الغلو منا في النفور من كل دعوة عربية، خالي الأستاذ محب الدين الخطيب أول دعاة العربية في مطلع هذا القرن، وأول دعاة الإسلام بعد ذلك، وقال لي، إنكم تخليتم عن قيادة الدعوة العربية، وتركتموها لهؤلاء فصبغوها بهذه الصبغة الجاهلية، وأنتم في الحقيقة أهلها وأنتم أحق بها.
وأنا أريد أن نعود إلى حمل لواء العربية، العربية المسلمة، وأن نعيد لها عزها ومجدها، وما عزها ولا مجدها إلا بالإسلام، وأن نكون مسلمين يدعون إلى الإسلام، وأن نكون عرباً نعتز بالعربية، وأن نجمع بينهما في أنفسنا وعلى ألسنتنا وعلى أقلامنا، وأن نعود إلى البيان العربي الذي نزل به القرآن، ونحيي لغة العرب التي جاءت بها الشريعة، وأن نعرف تاريخ العرب لأنه تاريخ الإسلام، وأن نحافظ على علائق العرب وأخلاق العرب التي أقرها وارتضاها الإسلام، وأن نكون مع كل داع إلى هذا قائل به، فإن جاء من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويراه عبقرياً مجرد عبقري، أو يريد أن نقطع حبل الأخوة الذي يربطنا بإخواننا المسلمين، أو أن يحل أخوة الأرض واللغة والجنس والبلد مكان أخوة الإسلام. قلنا له: لا، لا، ولا كرامة، إن الإسلام قبل كل شيء، ولو أعطينا الدنيا بكنوزها وأمجادها ولذاتها، على أن ننزل عن ذرة واحدة من ديننا، لأبيناها وبصقنا عليها احتقاراً لها، لأن الدنيا كلها لا تعدل في نظر المسلم ذرة من الإسلام.
***