المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وكم في مصر من بنات أمبان - في سبيل الإصلاح

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌وكم في مصر من بنات أمبان

‌وكم في مصر من بنات أمبان

(*)

نشرت في مصر سنة 1947

إجلاء هذه البنت عما تسميّه ملك أبيها، أعظم عندي من إجلاء الإنكليز عن مدن مصر.

لأنها تحتل بحق (التملك) وأولئك يحتلون بسيف الغصب.

ولأنها توشك أن تصير (كما صار غيرها) مصرية، في سجلات الإحصاء، على حين أنها لا تزال أجنبية الدم والهوى واللسان، وأولئك يبقون إنكليز غرباء، غاصبين أعداء، ويبقون قذى في عين كل مصري، وغصّة في حلقه، وثقلاً على قلبه، حتى يخرجوا، وما من خروجهم بدّ، لأن الباطل إلى اضمحلال وإن كانت له جولة، والحق إلى ظفر وإن كانت له كبوة، وقد (طالما) بغي باغون، وظلم ظالمون، ولكن لم يدم باغٍ ولا خلد ظالم!.

هذه البنت وأمثالها شر من الإنكليز، وسند التمليك في يدها أقطع في رقابنا من السيوف في أيديهم، وفندقها في مصر الجديدة أخطر على استقلال مصر من ثكنات قصر النيل، لأن المصيبة في هؤلاء أنهم يعدون (في جنسيتهم الرسمية) منا، وهم في حقيقتهم من غيرنا، فيدخلون في الأمة دخول السم في الجسم، وصندوق الديناميت بين أحجار البناء، ويكونون منا كالشيطان من

(*) جلست بنت البارون أمبان صاحب شركة «مصر الجديدة» في فندف «هيلوبوليس بالاس» مع شابين إنجليزين، وكان على مقربة منهم الضابط الطيار صدقي فجرت بينهم مناقشة في الجلاء، فقالت الفتاة:«إن المصريين من غير الإنجليز صفر» . فلما أنكر عليها الضابط وألزمها بالاعتذار أصرت على قولها وأوعدته بالطرد من فندقها ومدينتها. فبلغت الواقعة حكومة مصر فطردتها منها.

ص: 45

الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه. ثم أن أصحاب كل بلدٍ هم ملّاك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاؤوا عطلوا هذه الأرض وتركوها مواتاً فجعلوا البلد مقفراً، وردّوه فقيراً، وإن شاؤوا أخلوا عماراتهم لليوم والعناكب أو هدموها، وإن شاؤوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاؤوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحساناً، فتزورّ عنهم وتنال بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها (الجميل).

من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى في مصر للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى أن شارعاً عظيماً هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بقيت مصرية لأنها موقوفة، وسائره للخواجات. فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقى إلا بإذنه سقفاً يكنك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوباً يسترك، وأن يسيرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟.

ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيء؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفّى من خير مصر؟ وأنت تمشي حافياً وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخَلِق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحبَ البلد، وابن مصر يصير غريباً في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد!.

لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم،

ص: 46

أنتم آتون (لتقشْمِرونا)(1)، ويبغضون السوري الذي يزاحمهم على مورد الكسب في التجارة، ومنبع الربح في العمل، فكنت أتألم من ذلك وأقول، ليتهم تعلموا اللطف ومحبة الغريب. فلما جئت مصر، ورأيت هذا اللطف وما جر إليه من الضعف، وحب الغريب وما أوصل إليه من الخراب عرفت أن الخير فيما يفعل العراق.

وأنا لا أدعو العرب ليكره بعضهم بعضاً، ولكن أدعو إلى شيء معقول: هو أن العرب اليوم في أقطار العربية كلها، كجيش في مصافّه، على كل فرقة أن تدفع العدو عن حماها، ولا تدع الجيش يؤتى من قبلها، ونحن نحارب (فيما نحارب) الفقر والإفلاس، فعلى كل قطر ألا يدع في أبنائه فقيراً، وألّا يترك فيه رجلاً بلا عمل، وأن يمنع الغرباء عنه من مزاحمة أهله في زراعته وتجارته وصناعته، حتى إذا اشتغلوا جميعاً، وبذلوا قواهم كلها، وبقي فيه بعد ذلك فراغ لأيد غير أيديهم، وأموال غير أموالهم، استعانوا بأبناء الأقطار العربية الأخرى، ولم يفتحوا لهم الباب إلا بمقدار الحاجة، أما أن يجيء السوري ليعمل في مصر، ويجيء المصري ليشتغل في الشام، ويترك أهل البلد بلا مال ولا عمل، فتفسد البطالة أخلاقهم، ويذلّ الفقر نفوسهم، ويعلّمهم هذا وذاك كره أخيهم العربي، فليس من مصلحة العرب أن يكون. هذا رأيي أعلنه بلا جمجمة ولا مداراة.

وهذا للعرب. أما (الخواجات) فأجلوهم عن بلادكم إجلاءً تاماً فلا يأتوها إلا سياحاً أو زوَّار آثار. وارفعوا أيديهم عن مرافقها فلا يملكوا منها إلا ما يملك مثله الأجنبي في بلادهم. وكل بلاد الدنيا، تمنع الأجنبي أن يملك فيها أرضاً أو عقاراً إلا بمرسوم فما بال مصر مائدة ممدودة لكل طاعم، وكنزاً مفتوحاً لكل آخذ؟ وما بال الخواجة يجيء مصر فقيراً مفلساً، لا يبتغي إلا القوت يمسك رمقه أن يموت، ولا يتمنى إلا قرشين يعود بهما إلى بلاده، فلا تمر السنون حتى يصير الفقير غنياً، والواغل على البلد مالكاً له، ويغدو (الشحاد) صاحب

(1) كلمة عامية عراقية معناها (لتسخروا بنا).

ص: 47

المنزل؟ ويجيء معه بالغانية راقصة أو بغياً، فيقدمها للمصري بيد ويأخذ منه الإسناد على موسم القطن بيد، ثم تتجمع الأسناد فتأكل الموسم، ثم تعجز المواسم عن سداد الدين، فيملك الأرض، ثم تتبدل الدنيا غير الدنيا، وينقلب الفلك، فيصير السيد عبداً، والعبد سيداً.

هذا احتلال شر من احتلال الجيوش الإنكليزية، لأنه احتلال المومسات: راقصات وأرتيستات، واللصوص: أصحاب متاجر وأعضاء شركات والخلاص منه أصعب وأشق، لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان (النفير العام) في الكتاب أولاً، وتجنيد القوى الأدبية كلها، للعمل على إعلاء همة هذا الشعب، وأن نعيد إليه ثقته بنفسه، وأن نردّ عليه عزّته وكبرياءه، حتى ترتفع هامته، وتشتد عضلاته، ويشمخ أنفه، ويعلم أنه لا يكون حقيقاً بملك مصر، ولا أهلاً للاستقلال، ولا سليل من ملكوا بالإسلام الدنيا، إن لم يكن عزيزاً في نفسه سيّداً في بلده.

ثم نعمل على أن نصب فيه روح المغامرة، وندفعه إلى اقتحام المخاطر، وركوب الأسفار، ونعلمه حب المال، فما يفلح شعب لا يحب المال، ولا يعرف قيمته، ولا يفلح شعب لا يريد فراق وطنه، ولا النأي عن عشه.

ثم نعلمه بغض الأجنبي، حتى يكون له ديناً، ويغدو له طبعاً، نعم! البغض؛ لماذا تنفرون من سماع هذه الكلمة؟ ألأنها منافية للّطف والمجاملة والكرم؟ يا ناس لقد قتلنا اللطف، لقد ضيعتنا المجاملة، لقد أودى بنا الكرم. الكرم صيّرنا شحادين، والتواضع جعلنا عبيداً، فلنتعلم الاقتصاد، والعزة، أو فلنعلمهما أولادنا إذا لم يمكن أن نأخذ بهما نفوسنا.

ثم لنفهم هذا الشعب أن الأوروبي يضحك علينا بالأرتستات والخمور والأزياء، كما يضحك على زنوج أفريقية بالخرز والأجراس، فلنره أننا عقلنا وشببنا عن الطوق، وأننا لم نعد نرضى أن يضحك أحد علينا، وما لنا ولأرتستاته وعندنا نساؤنا أزكى وأطهر وأجمل وأكمل؟ وما لنا ولأزيائه ولنا أزياؤنا؟ وما لنا ولخموره ولنا

شرائعنا التي تحرم علينا الخمرة، وأخلاقنا؟.

ص: 48

فإذا استكملنا عدة الهجوم، شرعنا الرماح وهجمنا، وخضنا المعركة نحاربه بمثل سلاحه، بالعلم والجد والدأب والتعاون حتى نلقي عنا هذه القيود التي كبلنا بها، حلقة بعد حلقة، كما شدها من حولنا حلقة بعد حلقة، على أن المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى، ومصانع الطرابيس والزجاج (1) إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها، ولنؤلف لكل ميدان فرقة: شركة اقتصادية، فيكون لكل مرفق من المرافق شركة، حتى إدارة الفنادق، وتسيير الترام وبناء المنازل.

لقد أعلنتم المعركة، بإجلائكم هذه البنت عن أرض مصر، وعقد لكم اللواء، ورفع العلم فامشوا تحته أدباء واقتصاديين وعلماء، فإن الميدان يتسع لكم جميعاً، ويحتاج إليكم جميعاً، واعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت المصري فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجراً لأجنبي، ولا عقاراً يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات مصر لأبناء مصر!.

هذا هو الاستقلال، فعلى كل مصري أن يعمل له ما يستطيع!.

(1) ذلك في مصر وفي الشام معامل الشركة الخماسية والشمنتو والزجاج والسكر وأمثالها.

ص: 49