المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إنذار نشرت في مصر سنة 1947   ركبت مع زميلي في البعثة القضائية - في سبيل الإصلاح

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌إنذار نشرت في مصر سنة 1947   ركبت مع زميلي في البعثة القضائية

‌إنذار

نشرت في مصر سنة 1947

ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ نهاد القاسم (1)، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) بأجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده (2) فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فينجو ونلقى نحن حتفنا، فكففنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان أقل الإحسان، حتى دنا الحديث من أجرته، فسألناه:

- كم تأخذ؟.

- قال: أربعين قرشاً.

- قلنا: في اليوم؟.

- فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!.

- قلنا: أوليس لك أسرة؟.

- قال: أمّ أعولها.

- قلنا: أو تكفيك؟.

- قال: تكفيني؟! أبداً.

(1) وزير العدل اليوم.

(2)

أي نساعده.

ص: 56

- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟.

- قال: يضربني عمي (1) أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة.

- قلنا: وكم يحصل هو؟.

- قال: هُوْ هُوْ

كثير

كثير

عنده عشرة زوارق تمشي النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً.

وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفرّاش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والإمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع هؤلاء؟ هل فكر فيهم أحد ممن ولاهّم الله أمر هذه الأمة، وائتمنهم على مالها، وجعل إليهم المنح والمنع، والرفع والوضع؟.

هل ساءل واحدهم نفسه وهو يتخير أطايب الطعام من فوق مائدته ماذا يأكل هؤلاء المفلسون؟.

هل فكر وهو ينتقي بَهيَّ الحلل من خزانة ثيابه ماذا يلبسون؟.

هل خطر على باله وهو يفسد أخلاق أولاده بالترف، ويتلف صحتهم بالسرف، أن لهؤلاء بنين وبنات لا تكفي رواتبهم لسد جوعهم بالخبز القفار، وستر عوراتهم بالخام (2)؟ رواتبهم لا تكفي للطعام والثياب فكيف إذا ولدت المرأة وجاءت نفقات الولادة؟ فكيف إذا مرض الصبي وأقبلت مصروفات العيادة؟ فكيف إذا خطبت البنت وكانت تكاليف الزواج؟ فكيف إذا دخل الأولاد المدرسة وطالبتهم بثمن العلم؟ فكيف إذا اشتهوا أن يتشبهوا بأبناء الناس يوماً، فأرادوا أن يأكلوا الحلوى الحلال أو يطلبوا الملهى المباح؟ أم قد حرمت هذه المتع على الفقراء، وكتب عليهم أن تكون حظوظهم من دنياهم كحظوظ البهائم:

(1) يريد بقوله «عمي» معلمي وسيدي ولا يقول الخادم لسيده في الحجاز والعراق إلا «عمي» .

(2)

الخام أرخص أنواع القماش في الشام.

ص: 57

ملء المعدة بأرخص الطعام، وستر الجسم بأيسر الثياب، والاستكنان بشر المساكن؟ وأن تكون معيشتهم أقل من معيشة كلاب الأغنياء؟.

قرأت العدد 673 من مجلة الإثنين أن (روى) كلب الوجيه الأمثل، فلان بك، يفطر كل يوم بكيلو من الحليب ورغيفين من خبز (الفينو) و (باكيت) من (الشكلاطة) ثمنه بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشاً ويتغذى برطل ونصف رطل من اللحم المسلوق مع طبق مترع بالثريد، وأن له طبيباً خاصاً؟ وخادماً أجرته عشرة جنيهات في الشهر عمله أن يصحبه في سيارته الخاصة به؟ في نزهتيه اليوميتين وأشياء أخرى من هذه البابة، يمتع بها هذا الوجيه الأمثل، كلبه المدلل، لا يصل إلى مثلها واحد في كل عشرة آلاف ممن يقطن هذا الوادي من بني آدم؛ فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول اشتغالي بها، كلمة تليق بهذا السفيه المبذر الكافر بالنعمة وبالإنسانية وبالوطن، لأقولها له؛ ولم أدرِ كيف أخاطب هذا المجتمع الذي بلغ الفساد فيه، والانتكاس في أوضاعه إن صارت الكلاب تأكل (العيش الفينو) وكثير من الناس يتمنون الخبز الأسود؛ وتركب السيارات وهم يمشون حفاة؛ وتنام على الحرير وهم يهجعون على التراب؛ ويقوم عليها طبيب خاص وهم غرقى في الأمراض؛ لا يجدون الطبيب.

هذه حال لا يرضى بها الله، ولا العقل، ولا الشرف، وأنا أخاف والله أن تفتح علينا باباً من الشر لا يسد وتأتينا إن لم ننتبه لعلاجها بالداهية الدهياء، بالشيوعية المدمرة، التي تأكل أخضرنا ويابسنا، وتمحق غنينا وفقيرنا، فتكون لنا الراحة التي لا ألم بعدها: راحة الموت.

هذه حال لا يمكن أن يحتملها بشر، فإن كان من بيدهم الأمر لا يمشون في الطرقات، ولا يخاطبون الناس، ولا يعرفون من الدنيا إلا القصر والسيارة والملاهي والرحلات، فليسألوا: ما بال الفقراء؟ ماذا يصنعون؟ وما شأن صغار العمال والموظفين وكيف يعيشون؟ وليعلموا أن عمر بن الخطاب كان يخاف أن تضيع شاة على شاطئ الفرات فيحاسبه الله عليها، أفلا يخافون أن يسألهم الله عن أمة بقضها وقضيضها ستضيع على شاطئ النيل؛ سيقتلها الجوع في

ص: 58

أخصب أرض، والمرض تحت أصفى سماء، والجهل في أول دار للعلم والحضارة؟.

لقد كانت مصر طبقات يستعبد بعضها بعضاً، فسوى بينها عمرو بن العاص باسم الإسلام وقطع هذا النظام الذي وصلته يد الدهر من عهد الفراعنة الأولين، إلى عهد الاسكندر، إلى أيام البطالسة والرومانيين، وأفاض على الناس الهدى والعدل والنور، فأحبوا لفعله هذا الدين ودخلوا فيه وتركوا له ديناً كان لهم، وأقبلوا عليه علماً وعملاً، حتى كانت مصر مثابة الإسلام، ومشرق أنواره، ومورد علومه أفقدر عليها أن تعود القهقري إلى عهد الجاهلية الأولى؟ أترجع نظامَ الطبقات الذىِ مات؟ أيكون فيها سادة وعبيد؟ ويعلو بعض أهلها على بعض كأنما لم يفتح مصر عمرو، ولم يركز فيها راية محمد، ولم تكن مصر أم دنيا الإسلام؟.

أنا لا أدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس فذلك ما لا يكون ولا يزال في الناس غني وفقير ما دام فيهم عامل وخامل، وذكي وبليد، لن يكونوا أبداً سواء في أرزاقهم ومعايشهم إلا إذا استوى الجنسان وتحقق حلم المدافعين عن (حقوق) المرأة فانقلبت رجلاً، ونبت لها شاربان و

لحية!.

ولكن أدعو إلى تقريب المسافة بين طبقات الناس، عاليها ودانيها، وأن تضمن الحكومة لكل إنسان حقه الطبيعي في الطعام واللباس والمسكن، وألا تقر في موازنتها راتباً لموظف مهما نزلت درجته، لا يكفل هذا الحق له ولأسرته، ولو كان كناس الطريق، أو ناطور المراحيض، وأن تسوي بين الناس (المساواة الممكنة) إليَ حققها الإسلام في أول الدهر في عهد الشيخين، والشيوعية في ذَنَب الزمان في أيام ستالين، وإن اختلف نوعهما، فكانت تلك مساواة في السعادة، وهذه المساواة في الشقاء!.

لقد نشأتُ في الشام، وسِحْتُ في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر أبداً مثل الذي رأيت في مصر!.

فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من

ص: 59

الناس واحداً يملك مليوناً ومليوناً لا يملكون الواحد؟ وألفاً يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملاً؟ وإنساناً يظن نفسه من الغنى والكبر إلهاً، وأناسيَّ تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟.

متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟.

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟.

يا ناس. راقبوا الله، فإن هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم ولا يقرهم عليه، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه، فاتقوا إخذة الله.

يا ناس. اعقلوا، فإن هذا باب الشيوعية فإن لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم.

يا ناس. ارحموا، فإن هؤلاء ناس مثلكم، لا تحسبوهم بهائم لئلا يصنعوا فيكم صنيع البهائم، فيثوروا عليكم رفساً ونطحاً وعضاً ولدغاً، فلا تملكوا دفعهم، ولا النجاة منهم.

لا، لا تحقروهم، فإن الدجاجة إذا هبت تحمي فراخها استماتت فانقلبت صقراً، والقطة إذا ضويقت وغضبت صارت نمراً، والماء إذا اندفع كان سيلاً مدمراً، والهواء إذا انفجر كان إعصاراً مخرباً، ولولا الضغط ما ثقب المسمار الخشب، ولا أطلق المدفع القنبلة، ولا زلزلت الأرض، ولا انفتحت البراكين، ولا ثارت الشعوب.

فارحموهم ترحموا أنفسكم! واعدلوا فيهم تدفعوا عنكم يوماً أسود لا تعلمون إذا حلَّ (1) عَمَّ ينجلي سواده! وقوا مصر إن كنتم تحبون مصر، جائحة مهلكة وداهية مكفهرة، أولها الشيوعية وآخرها ما لا يعلمه إلا الله! وهذا إنذار!

(1) وقد حلَّ بعد هذه المقالة ببضع سنين جاءها به جمال عبدالناصر.

ص: 60