الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسئلة
نشرت سنة 1947
كان حديثَ الناس في الأسبوع الذي مضى، وحديثَ الصحف، هذه الـ (أربعون ألف جنيه) التي تبرع بها البدراوي باشا وشهد عليه بها الشهود، وجاءته عليها رسائل الشكر وبرقيات التهاني، حتى إذا شبع من الثناء، وروي من المدح، وانتشى من الفخر، ونال ما كان يريده من تبرعه، ولم يبق من ورائه غنم يناله، ما بقي إلا الغرم بالـ (أربعين ألف جنيه) عاد فجحد قوله، وأنكر هبته، وطعن على الشهود، وكذب الناقلين، فعاد المهنئون له يعزونه، والمادحون إياه يهجونه، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيه، والنيل منه، وأذهب هذا القدح لذة المدح الأول، اشتاق إليه لما فقده، ولكن عزّ عليه أن يشتريه بـ (أربعين ألف جنيه)، وأن يؤديها كاملة فيكذب نفسه، ويثبت قول من شهد عليه، فافتداها بعشرة آلاف رفعها إلى السدة الملكية، فردتها عليه، ولم تقبلها منه. وقالوا، إنه سيدعى الشعب إلى اكتتاب عام يشترك فيه الغني والفقير، يحقق به ما كان التبرع له، وهو إنشاء معمل للّقاح، يقي الناس من هذا الوباء الذي يحصد بمنجله النفوس، ويقطع الأعناق، ويودي بالأسر.
…
انتهيت من قراءة هذا الخبر، فنشأت في نفسي أسئلة كثيرة، أحببت إذاعتها لأني أتمنى أن أجد مجيباً عليها:
أولها: السؤال عن هذا التفاوت العجيب بين الناس الذي صار شعار الحياة المصرية، وآيتها
…
من أين جاء؟ وكيف تركه العلماء والمصلحون وأصحاب الرأي، وذوو السلطان، ينمو ويمتد حتى يصير كالدوحة العظيمة، ولم يقطعوه وهو بعد غصن طري؟
وكيف انتهت الحال إلى أن يكون في مصر نفر من المصريين والأجانب اجتمعت في أيديهم الملايين، وملايين من المصريين دون الأجانب فرغت أيديهم من كل شيء.
وكيف امتد هذا التفاوت إلى غير المال؛ فكان في مصر نفر هم أكابر أدباء العربية، ونفر هم أئمة علماء الإسلام، ونفر هم أعلام الفلسفة والحقوق وعلوم الطبيعة، وجماهير لا تحصى، (إلا في دفاتر الإحصاء عند الحكومة)، لا تعرف من العربية ولا من الإسلام ولا من هذه العلوم شيئاً، بل هي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وصارت مصر بحيث لو ذهب منها مئتا رجل فقط، من عشرين مليوناً صارت زعامة مصر الثقافية، بين الأقطار العربية، خبراً بعد عين.
وكان في مصر، بل في القاهرة نفسها العمارة التي تشتمل على خمس عشرة طبقة، والأكواخ التي لا شباك لها ولا ماء فيها ولا مرحاض، وفيها أفخم السيارات تسير بجانب عربات الكارو، تحمل أهل القاهرة من حي إلى حي، وفيها شارع فؤاد وشارع سليمان، وفيها الزمالك وجاردن سيتي، وفيها مقابل ذلك زين العابدين والدراسة وبولاق، وفيها فندق شبرد ووراء حديقته أزقة مسدودة لا تراها الشمس، ولا يمر منها الهواء، ولا ينيرها الكهرباء، ولا تعرف الطريق إليها مصلحة التنظيم ..
إن الناس يتفاوتون في بلدنا، وفي بلاد الناس كلها، ففيهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، وعندنا العمارات الكبيرة، والدور الحقيرة، ولكن المسافة بين عالينا ونازلنا قصيرة متحملة فليس في دمشق كلها عمارة كالـ (ايموبليا) ولا كنصفها، إن أعلى عمارة فيها في ست طبقات، ولكن ليس في دمشق أيضاً، بيوت كبيوت مصر القديمة أو عشش الترجمان ..
وعندنا فقراء، ولكن فقراءنا لهم ثياب نظيفة تسترهم، وأحذية تحملهم، وبيوت تكنهم، وعندنا مالكون للأرض، ولكن الناس يملكون معهم، ليسوا عبيداً لهم، ولا أجراء عندهم، ما عندنا هذه (الإقطاعية
…
) إلا في حماة وأمثالها، وهي مناطق محدودة، وسائر الأرض مقسمة بين الناس، يملك الواحد
منهم ربع الفدان فما فوقه، ولا يرى نفسه دون مالك الآلاف، ولا يذر له ولا يرى له عليه فضلاً.
لذلك يعجب الشامي عندما يقدم مصر، ويرى هذا التفاوت فيها، ويسأل من أين جاء؟
وثانيها: السؤال عن الكتاب والعلماء، لماذا لا يدعون إلى تخليص البلد من هذا الداء العياء، وتعديل كفتي الميزان وتحقيق طبيعة العرب في المساواة، ومقصد الإسلام في العدالة لا أريد المساواة المطلقة التي لا تبقي غنياً ولا فقيراً، فهذا ما لا يكون ولا ترضاه سنن الكون، ولا طبائع الأشياء. لا يكون إلا في أذهان الفلاسفة والشعراء، وأصحاب الأغراض من الدعاة، يشعبذون به على الناس، ويتخذونه سلماً إلى غاياتهم، ووسيلة إلى أغراضهم، ولكن أريد المساواة المعقولة، التي لا ينزل بها إنسان إلى منزلة البهيمية في طعامه وشرابه ومسكنه، ولا يرتقي إنسان إلى الألوهية، يدعيها كذباً وبهتاناً كما ادعاها فرعون من قبل وأن يكفل لكل مصري (مهما كانت مهنته، وكان عمله) طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه، كما يليق بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، وأن لا يترك في مصر رجل واحد، يعيش كما تعيش السائمة، يأكل قريباً من طعامها، وينام مثل منامها، في الطرقات، والحقول، وعلى الأرصفة، وفي الأكواخ؛ وأناس يطعمون كلابهم الشكولاتة، وينفقون أموالهم في المراقص، ويذيبون ذهبهم في الكؤوس.
فماذا يصنع العلماء والكتاب؟
وثالثها: السؤال
…
إذا كان يجوز لمثلي السؤال، عن الحكومة ما لها تقر هذه الحال، في كثير من قوانينها وأنظمتها، فتجعل المدارس الأولية متفاوتة الدرجات، ولا تسوق ابن الغني وابن الفقير بعصا واحدة، وتحشرهم في مدرسة واحدة، كما تفعل وزارة معارفنا في الشام؛ وما لها تعنى بالمشروعات الضخمة الكمالية، قبل إتمام الضروري كأن القصد تنويع الحلوى للأغنياء، قبل تقديم الخبز للفقراء؟!
وما لها لا تضع، ثانياً، القوانين التي تؤدي إلى إبطال هذا التفاوت، وإلى رفع المنخفض وخفض المرتفع، حتى تقترب الدرجتان، وتتدانى كفّتا الميزان، فتعمل بالإسلام في أخذ الزكاة من الأغنياء وردها على الفقراء، وحينئذ تأخذ هذه الـ (أربعين ألف جنيه) قسراً بلا رجاء ولا شكر، أو تعمل عمل الأمم الغربية، فتكثر الضرائب على الدخل وعلى المواريث وتشرف على المعامل والشركات والمصارف، ويكون لها الرأي في كل ما يمس المصلحة العامة وهذه (اشتراكية) ليست من مبادئ الإسلام، ولكنه لا يمنعها إن دعت إليها ضرورة، والضرورات لها أحكام، وتعريف الضرورة وأحكامها، مبين في كتب الفقه ليس هذا موضع بيانه.
ورابعها: سؤال عقلاء مصر وقادتها، ألا تخافون أن تأتيكم هذه الحال بالشيوعية؟ ألا ترون بوادرها؟ ألا تعرفون أخطارها؟ ألا تقدرون أضرارها؟ فلماذا تلبثون نائمين ولهيب النار يقترب من منازلكم، فلا يلبث أن يشعلها عليكم، فيجعلكم فيها كالمجوس في الجحيم؟
إن الناس لا يقبلون على الشيوعية عن معرفة بها، ولا عن حب لها، ولكن دعاتها رأوا ما هم فيه، وعلموا أنهم يتمنون أن يجدوا الخلاص منه ولو على يد الشيطان فأوهموهم أن الشيوعية هي سبيل الخلاص، وأنها طريق السعادة وأنهم إن كانوا دعاتها ملكوا بها قصور الأغنياء، وحقولهم وسياراتهم، فلذلك تعصبوا لها ولا يدرون ماذا فيها، فهم منا كما قال عبدالله بن عمر، لمن لامه على ترك مؤازرة ابن الزبير في دعوته إلى الإصلاح: أرأيت بغلات معاوية الشهب اللائي يحج عليهن؟
قال: نعم. قال: ذلك ما يريد ابن الزبيري!
إنهم يئسوا منكم ومن دينكم، فأروهم أنكم معنيّون بهم، وأن دينكم لا يرضى ما هم فيه. إن الإسلام دين العدالة، دين المساواة، دين الخير، أفنرضى أن يستعبد بعض الناس بعضاً في قرن العشرين الميلادي، وقد أنكر ذلك عمر في القرن الأول الهجري؟
فلماذا لا تأتونهم بحق الإسلام، لتخلصوهم به من باطل الشيوعية؟
أما والله إذا صار هذا البلد (لا سمح الله ولن يسمح) شيوعياً، فأنتم يا أيها العقلاء، ويا قادة الرأي، المذنبون، لا العامة ولا الدهماء ولا الأغرار من الشباب!
وخامسها: سؤال المصريين جميعاً، ألم يروا هؤلاء الأجانب، أصحاب المتاجر والمعامل والمصارف لم تمتد يد منهم بقرش لرد هذا الوباء، ومساعدة المنكوبين به، ورفع البيوت التي هدمها، وإطعام الأطفال التي يتمها، والنساء اللاتي أيّمها؟ ألم يئن لهم أن يتنبهوا إلى أنهم أحق بخيرات بلادهم؟ لا بالنهب والسلب والثورة وأخذ المال من أصحابه، لا، ما ذلك أردت، ولا يريد هذا عاقل، بل بأن تطرحوا عنكم ثوب الكسل، وتشمروا عن ساق العمل وتنزلوا للميدان؛ وتتعلموا حب المال، والرغبة في الأسفار، وتتقنوا فن الاقتصاد، وصيد الدراهم، والتعاون على الكسب. بذلك تخلص إخوانكم الشاميون من سيطرة الأجانب، وأنقذوا بلادهم منهم، ثم ذهبوا فغزوهم في بلادهم، وانتزعوا أموالهم من أكفهم، وزاحموهم، في مانشستر ونيويورك وبونس ايرس والكونغو وبومباي وطوكيو، وكل بلد في الدنيا، ما خلت مدينة من تجار الشام.
إن بعض العراقيين يقولون مازحين: إن الشاميين يهود العرب
يهود العرب .. طيب والله! .. وهل نقاوم اليهود إلا بهذا؟ بارك الله في تجار الشام - وإن كنت (أشهد الله) أكره نفراً منهم، لما رأيت من طمعهم وجشع نفوسهم. وأتمنى أن أشد أصابعي على أعناق أغنياء الحرب منهم، ولكن الحق أحق أن يقال، ولا تنجح أمة إلا بأمثال هؤلاء التجار.
هؤلاء الذين يشيدون مجدها، ويثبتون بناءها، ويحفظون مالها. فمتى يكون المصريون مثل هؤلاء؟ ومتى أجيء مصر، فلا أرى فيها إلا لوحة عربية باسم عربي، على مؤسسة عربية؟!
يا مصر، هذا هو الطريق! وهذا والله كلام صديق!
***