الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابع: مسألة تعارض الجرح والتعديل
، وهذه المسألة مهمةٌ جداً؛ لأنها كثيرة الحصول واقعاً، فكثيراً هم الرواة الذين اختُلف فيهم جرحاً وتعديلاً.
والمسألة اختلف فيها اختلافاً طويلاً وكبيراً بين العلماء، والراجح فيها ضمن النقاط التالية:
1) تقديم الجرحِ المُفسّر بجارحٍ حقيقي، إلا إذا ردّ أحدُ العلماء بما يدلُّ على عدم صحة هذا الجرح.
والمقصود بالجرح المُفسّر الذي بُيّن سببه، والجارح الحقيقي هو الذي يستحق أن يُجْرَحَ به في عدالته أو في ضبطه، لا كما جرح أحدهم راوياً، فسُئل: لماذا؟ ، فقال:"رأيته يركب على برذون يجري به في السوق"، فهذا ليس بجارحٍ حقيقي، وكذا من جرح راوياً آخر، فسُئل لماذا؟ ، فقال:" سمعت في بيته طنبوراً". أي مزماراً، فهذا محتمل أن يكون من طفلٍ صغير أو غيره، بغير علم الشيخ، فتجريحه بهذا ليس بصحيح. كذلك يحصل في التعديل، كمن وثّق أحد الناس، فسُئل عن توثيقه، فقال:" لو رأيت لحيته وهيئته ". فهذا غير صحيح، فلا يصح الاكتفاء بالهيئة في التعديل.
المقصود: أنه إذا بيّن الجارحُ أو المُعدِّلُ سبباً لا يكفي للجرح أو للتعديل، فلا يُقبل في الجرح ولا في التعديل؛ لذا اشترطنا الجارح الحقيقي الذي يستحقُ أن يُقبل، فهذا مُقدّمُ إلا في حالةٍ واحدة، وهي أن يأتي إمامٌ آخر ويقول:" أنا أعرف أن فلاناً قد تكلم في فلان بكذا، والصواب ليس كذلك"، ويبيّن القضية. وهذا يحصل كثيراً، ونجده أيضاً في (ميزان الاعتدال) للذهبي، فهناك مِنْ الرواة مَنْ ضُعِفُوا بأسبابٍ جارحةٍ في ظاهرها، ودافع عنهم الذهبي، كمن ضُعف بأنه يشرب الخمر، فيأتي الذهبي ويقول:لم يكن يشرب الخمر، بل كان يشرب النبيذ، وهو من أهل الكوفة، حيث كان يشربه بناءً على مذهب أهل الكوفة في جواز شرب النبيذ، فالراوي ثقةٌ وعدلٌ وليس فيه شئ.
وقد يجرحه في الضبط، فيقول مثلاً: روى حديث كذا، وتفرّد به، وهو منكر الحديث، فيأتي ابن عدي -مثلاً- فيقول: لم يتفرد به، بل تابعه فلان وفلان، فالحديث مقبول، ولا يدّل ذلك على جرح هذا الراوي. مع أننا لو لم نقف على هذه المتابعات، ولا على مثل هذا الدفاع، فالأصل أن يكون هذا الجرح مقبولاً. ثم إن الردّ والدفاع لا بد أن يكون في محله، فإذا لم يكن في محله، فإنه لا يقبل.
2) تقديم الجرح المبهم -غير المفسر- على التعديل: هذا هو الأصل؛ لأن مع الجارح زيادة علم. ويتضح هذا بأنك لو قدمت قول الجارح على قول المُعدِّل، فكأنك تقول: أنا لاأكذب المُعدِّل، لكن الجارح ظهر له من أمر المُعدِّل مالا يعرفه المُعدِّل، وكلاً منهما أخبر بحسب علمه. لكن إذا قدمت قول المُعدِّل على قول الجارح، فهذا يقتضي تكذيب الجارح بأنه ليس هناك سببٌ يقتضي الجرح، ولم يصدق الجارح في جرحه، أو أقل أحواله أنه مخطئ، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل حمل كلام العلماء على الأصوب، ومن أجل ذلك نقدّم الجرح المبهم على التعديل. ثم إنه ينبغي أن نتذكر أن كلامنا عن الجارح والمُعدِّل العارف بأسباب الجرح والتعديل، فالأصل فيه أن يجرح بسبب حقيقي.
ما سبق هو الحكم الأصلي، ونخرج عنه بقرائن، وهي كثيرة جداً، من أمثلتها:
أ) كثرة المُعدّلين: فإذا وثقه جماعة، وضعفه واحد بجارحٍ مبهم، فنقدم قول الأكثرين، ونحمل التضعيف على أنه ليس بجارح حقيقي.
ب) معاصرة المُعدّلين، وعدم معاصرة الجارح أو الجارحين؛ لأن المعاصر أعرف وأعلم بمن في عصره، فتعديله يُقدم على الجرح المبهم.
جـ) عِظَمُ علمِ المُعدّلين على علم الجارحين.
د) بلدية المُعدّلين: أي أن يكون من أهل بلد الراوي الذي تُكلّم فيه، فلو كان هناك راوٍ بصري، وعدّله البصريون، وجرحه عالمٌ من أهل خراسان، فيقدم من كان من أهل بلده وهم البصريون؛ لأنهم أعرف بأهل بلدهم. وكان من آداب الرحلة عند المحدثين، أن المحدث لا يرحل حتى يستوفي ويستوعب حديث بلده، ويكون عارفاً به.
هـ) قوة عبارة المُعدّلين على عبارة الجارحين، فلو جاءت عبارة تعديلٍ كقوله:"ثقة حجة" أمام عبارة جرح كقوله "أحسبه ليناً"، فعبارة الجرح تضعف عن عبارة التعديل التي هي الأقوى، فلا شك أننا نقدم العبارة القوية على الضعيفة.
و) هناك ألفاظ قد يتبادر إلى الذهن أنها جرح، وهي في الحقيقة تعديل، مثل ما قال شعبة عن أحد الرواة:"إنه شيطان"، فظاهر العبارة أنها ذم، مع ذلك فقد أراد شعبة أنه باقعة في الحفظ، وشئ عجيب فيه، حتى لكأنه ليس بأنسي في قوة حافظته، ومن المعروف أن من عادة العرب أنهم ينسبون الأشياء المستغربة إلى الجن. كذا ما قاله ابن وارة عن عبد الرحمن بن مهدي، لما رأى قوة حفظه، قال:" ماذا خرج من ظهر مهدي، كأنه جني ".
وهناك عبارات على الضد مما سبق، فقد يدل ظاهرها على التعديل، والصواب: أنها جرحٌ، كعبارة:"هو على يديْ عدل "، فهمها العراقي على أنها تعديل، ومعناها: أنه على يدِيْ عدلٌ، وتعقبه الحافظ ابن حجر وبيّن أنها عبارة جرح، وضبطها:"هو على يدَي عدلٍ"، و"عدل" هذا رجل كان من حُجاب أحد الحكام الظلمة في اليمن، وكان كلما أراد أن يقتل إنساناً، قال: يا عدل -ينادي حاجبه- تعال خذ هذا واقتله. حتى صار ذلك مثلاً عند العرب، فإذا قيل: فلان على يدي عدل، يعني: أنه هالك، فيقصد بها إذا أطلقت على الراوي أنه هالك.
ز) اختلاف اجتهاد الناقد: فقد تأتي عبارة لأحد النقاد يُضعِفُ فيها الراوي، وآخرون يوثقونه، وتأتي عبارة أخرى لنفس الناقد يوثق فيها ذلك الراوي في رواية أخرى عنه، فهذه قرينة تجعلني أُقدّم التوثيق على الجرح.
ح) عداوة المُعدِّل للمُعدّل له، سواءً في المذهب أو في غيره، وهذه لا نجعلها قاعدة مطردة، ولكنها قد تكون قرينة من القرائن، فإذا علمت أن هناك عداوة قد تجعلني أقدم التعديل على الجرح.
كما أنني قد أردُّ التعديل -كما في الجرح- إذا كان صادراً من إنسانٍ غالٍ في محبة إنسان آخر. وهذه القرينة ليست دائماً، بل قد يُعمل بها على حسب الحال.
الثامن: من مسائل الجرح والتعديل المهمة، مسألة المجهول؛ لأن المجهول ليس مُعدّلاً ولا مجروحاً، فهو حالة وسط يُجهل حالها.
وقد قسّم العلماء المجهول إلى أقسام، أشهرها تقسيم ابن الصلاح إلى ثلاثة أقسام:
1-
المستور: وهو من روى عنه عدلان، أو روى عنه إمام حافظ -نصّ على هذه الاضافة ابن رجب، في شرح العلل-. فالمستور عُلمت عدالته الظاهرة، وجُهلت عدالته الباطنة.
2-
مجهول الحال: مَنْ جُهلت عدالته الظاهرة والباطنة، لكن عُرفت عينه. وهو من لم يرو عنه إلا رجل واحد ليس من النقاد.
3-
مجهول العين: مَنْ جُهلت عدالته الظاهرة والباطنة، ولم تعرف عينه، وهو كالمبهم.
أما حكم مستور الحال: فمن ناحية العدالة يُكتفى بالعدالة الظاهرة، مع الرواة الذين تعذرت الخبرة الباطنة بأحوالهم؛ لتقادم العهد بهم. وأيضاً نكتفي بالعدالة الظاهرة للرواة المتأخرين، وهم رواة النسخ، أما سوى ذلك فلا يكتفي العلماء بالعدالة الظاهرة.
أما مجهول الحال والعين: فنتوقف عن قبول حديثهم، ومآل هذا التوقف عدم العمل بالحديث، لذلك تجد العلماء يقولون: حديث ضعيف، فيه فلان وهو مجهول، مع أن الأدق أن يقال: حديثه تُوُقِّفَ فيه؛ لأن فيه فلان وهو مجهول، لكن لما كان التوقف مآله عدم العمل، أصبح هو والتضعيف متقاربان، فأطلق العلماء الضعف عليه تجوّزاً، وهو في محله، وليس خطأ تضعيفه.
لكن الأمر الدقيق: ما هي مرتبة ضعف حديث المجهول؟ هل هو في مرتبة الاعتبار به، ويتقوى حديثه بالمتابعات والشواهد، أم لا يتقوى بنفسه، ولا يُقوّي غيره؟ فهل هو شديد الضعف أو خفيف الضعف؟ فالجواب: أننا لا نستطيع أن نحكم بحكم عام على جميع المجهولين حالاً أو عيناً، بل نقول هؤلاء حكمهم يختص بالحديث الذي يروونه، فإذا رووا حديثاً شديد النكارة، فهذا لا يتقوى أبداً، كأن تظهر فيه علامات الوضع وغيرها، ومجهول الحال أخفُّ حالاً من مجهول العين.
تنبيه: حكم الإمام على راوٍ بالجهالة لا يعتبر تعارضاً مع حكم إمامٍ آخر بالتوثيق لنفس الراوي؛ وذلك لأن الإمام الذي وصفه بالجهالة وصفه بذلك لأنه لا يعرفه وهو مجهول عنده، أما الإمام الآخر فإنه يعرفه ويحكم عليه. فهذه المسألة لا تعتبر من مسائل تعارض الجرح والتعديل، وللأسف أنّا نجد من يُقدّم الحكم بالجهالة على التعديل، وهذا خطأ؛ لأن الحكم بالجهالة هو إعلام من الناقد بعدم علمه بهذا الراوي، أما الحكم بالتوثيق فإخبارٌ من الإمام أنه يعرف هذا الراوي وأنه ثقة. فلا تعارض بين الحكم بالجهالة والحكم بالتعديل أو بالتجريح، ولا يُشَكُ في تقديم حكم المُعدّل أو المُجرّح على مَنْ حكم بالجهالة.