الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة وصف العلماء بالتشدد والتساهل والاعتدال عند التعارض، فلو أن جارحاً متشدداً وصف راوياً بأنه ضعيف، ووصفه معتدل بأنه صدوق، ووثقه متساهل، فيصبح الصواب أنه صدوق.
الثالث: التنبيه إلى أن كثيراً من ألفاظ الجرح والتعديل غير محررة المعاني
، فمثلاً: قول الإمام البخاري في الراوي "فيه نظر"، معناه: أنه شديد الضعف، وذكر ذلك الذهبي وابن كثير وغيرهم، وأثبتت الدراسة الاستقرائية لأحد الدارسين، الذي استقصى لفظ البخاري "فيه نظر"، وخرج بأنه يقصد بها: الضعف الخفيف، وأيّد هذه الدراسة بأقوال أئمة ثلاثة، أوّلهم الترمذي، فقد نقل عن شيخه البخاري قوله في راوٍ "فيه نظر" فقال الترمذي مُعبّراً عن ذلك:"فلم يجزم فيه بشئ"، ففهم الترمذي من عبارة "فيه نظر" أن البخاري متردد، والرواة الذين يستحقون التردد هم من كان في آخر مراتب الحسن، وأعلى مراتب الضعف. والثاني: ابن عدي، في كتابه (الكامل) -في أكثر من موضع- حيث يفهم من كلام البخاري "فيه نظر" أنه ضعف خفيف. وآخر هؤلاء هو الحافظ ابن حجر، حيث ذكر هذه القضية عَرَضاً في كتابه (بذل الماعون في فضل الطاعون)، فقال:"قال البخاري: فيه نظر، وهذه عبارته فيمن يكون وسطاً"، أي بين القبول والردّ، وهذا هو الصحيح.
الرابع: التنبيه إلى أن عبارات الأئمة المتقدمين ليست دائماً متقيدة بالمراتب
، ولكنهم يتوسعون في التعبير على الرواة، فقد يُسئل الإمام عن الراوي، فيهتم ببيان أنه مقبول الرواية أو لا، دون أن يعتني بتفصيل الحكم، ومما يدل على صحة هذا الكلام، أنه إذا سئل الإمام عن راويين أحدهما أوثق من الآخر تجده يقول: الحُجْةُ سفيان الثوري وفلان وفلان، وهذا -أي الآخر- ثقة. فهنا يبين الفرق بين لفظ حجة، ولفظ ثقة، لكن إذا سئل مُفرداً، فقد يجيب بجواب عام لا يقصد به التقيد بمرتبة معينة.
وهنا أمر آخر يدّل على أنه قد يحصل نوع من التوسع، أن الصحيح في أول من استخدم "الحسن" بالمعنى الاصطلاحي هو الإمام الترمذي، بل حتى استخدام الترمذي للحسن بالمعنى الاصطلاحي يحتاج إلى مزيد دراسة وبحث وتثبت من مُراد الترمذي بالحسن، الذي عرّفه في كتابه (العلل الصغير) ، إلا أن العلماء اختلفوا في تفسير تعريفه، وهنا يُلاحظ مدى بعدنا عن فهم كلام الأئمة المتقدمين، فهذا إمام عرّف المصطلح، ومع ذلك اختلف العلماء في فهم التعريف، فكيف بالمصطلحات التي لم تُعرّف أصلاً. فالمقصود أنه اختلف العلماء في تفسير الحديث الحسن، ولازال الاختلاف قائماً، وتجد تفسير ابن رجب مخالفٌ لتفسير ابن حجر، ومخالفٌ أيضاً للتفسير الذي ذكره ابن كثير، ومخالفٌ أيضاً للتفسير الذي ذكره الذهبي، حتى قال الذهبي في (الموقظة) :"أنا على إياسٍ أن أحدُّ تعريفاً مكتملاً للحديث الحسن". الذي يهمنا هنا أن أول من استخدم الحسن بالمعنى الاصطلاحي هو الترمذي -على الصحيح-، وكل الذين جاء عنهم أنهم استخدموا لفظ الحديث الحسن، كشعبة والشافعي والبخاري، فقد استخدموه بالمعنى اللغوي، وقد نصّ الحافظ ابن حجر في كتابه (النكت) ، على أن استخدام الشافعي للفظ الحسن هو بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه استعرض الأحاديث التي وصفها الشافعي بأنها حسان، فوجد بعضها في الصحيحين، ولم يقصد الشافعي أنها مرتبة وسطى، فبيّن أن مقصوده بالحُسْن هو الحسن اللغوي، أي أنه يريد أن يبيّن أنها مقبولة.
يتضح مما سبق أن العلماء حينما يقولون: ثقة، وصدوق، وما أشبهه، لم يكن عندهم شئ اسمه "حديث حسن" حتى يخصونه بمراتب خاصة بالتعديل، فإذا قال شعبة -مثلاً-:"فلان حسن الحديث"، فلا يصح أن أحمله على مرتبة الحديث الحسن؛ لأنه لم يكن عنده مرتبة وسطى بين الصحيح والضعيف،وهي مرتبة الحديث الحسن.
فيجب التنبه إلى تطور المصطلح، وعلى أيّ مصطلح كان الأئمة يتكلمون؛ لكي لا تحمل كلامهم على غير محمله الصحيح.
أمرٌ آخر قد يدل على معاني المصطلحات وألفاظ الجرح والتعديل وهو السياق، أي سياق العبارة، ومن هنا نتنبه إلى ضرورة الرجوع إلى الكتب الأصلية، التي ساقت ألفاظ الجرح والتعديل، فلا يصح أن نكتفي بـ (تهذيب التهذيب) فقط؛ لأن الحافظ ابن حجر يذكر العبارة الخاصة بالراوي فقط، مع أنك لو رجعت إلى الكتاب الأصلي، قد تجده ذكر هذه العبارة في سياقٍ معيّن يدلُّ على مُراد الإمام، كما لو قُرِنَ الراوي خفيف الضعف براوٍ كذاب، فسئل عنهما الإمام، فيقول: فلان صالح، ليس كفلان الكذاب. وهو لا يقصد بـ"صالح" أنه يُحسّنُ حديثه، لكن لما قُرِنَ بالكذاب، رأى أنه من الظلم أن يُقرن بينهما، وكأنهما في مرتبة واحدة، وأن الواجب التفريق بين هذين الراويين، فيأتي الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) فيقول:"قال يحيى بن معين: فلان صالح". فإذا رجعت إلى الكتاب الأصلي وجدت أن ابن معين ذكر هذا في سياق معيّن.وهناك سياق آخر، ويحصل كثيراً في مثل كتاب (تاريخ عثمان ابن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين) ، حيث ذكر في مقدمة الكتاب طبقات الرواة عن شيّخ معيّن، فيسأله عن أوثق الرواة عن شعبة، فيقول: أوثقهم فلان وفلان وفلان، فيقول: ثمَّ من؟ ، فيقول: ثم فلان وفلان، ثم يسأله عنهم، فيقول: فلان ثقة وفلان ضعيف، وهو من عبارته توثيق الراوي في هذا الشيخ، وتضعيفه في هذا الشيخ، أي أنه في روايته عن شعبة ضعيف. ثم يأتون في كتب المصطلح أو بعض كتب التراجم فيقولون:"قال يحيى بن معين: ضعيف"، وكأنه أطلق العبارة مع أنه ذكرها في سياق مراتب الرواة في هذا الشيخ المعيّن، فهذا يدل على أهمية الرجوع إلى الكتب الأصلية في الجرح والتعديل، ولا يُكتفى بالفرعية ما أمكن ذلك.