الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«فصل»
وكانوا يصلون الصلوات الخمس خلف /8ب/ النبي صلى الله عليه وسلم وخلف غيره من الأئمة.
كان لكل دار من دور الأنصار مسجد، ولهم إمام يصلي بهم، إلا في الجمعة والأعياد، فإنهم كانوا يصلون ذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم. هؤلاء أهل المدينة، وكانت المدينة كبيرة ولا سور لها، وإنما هي أماكن متفرقة، كل قبيلة لهم حدائق، ومسجد، ومقبرة، ومساكن يتميزون بها عن القبيلة الأخرى.
واسم المدينة يتناول ذلك كله، لا يخرج عنها إلا الأعراب أهل العمود، كما قال تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] والذين يفلحون الأرض هم من أهل المدينة، وهم الأنصار، ويسمى مسكن القبيلة دارًا، ويراد بلفظ الدار: القبيلة نفسها.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد في الدور، وأن تنظف، وتطيب.
وفي الحديث الصحيح: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ» وعير هو: الجبل الذي عند ذي الحليفة، ظهره كظهر العير وهو الحمار، وثور هو: جبل صغير بجنب أحد، وهذا غير جبل ثور الذي بمكة، وقد اشتبه ذلك على بعض العلماء، وقد سمى ذلك كله مدينة وقال: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا» .
واللابة: الأرض التي تركبها حجارة سود، وقال له الأعرابي: ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا. فما بين لابتيها: هو الحرم وهو من المدينة، /9أ/ وهو ما بين عير إلى ثور، وهو بريد في بريد.
وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليه في صلاتهم، كما أمر الله ورسوله، فيقولون في التشهد:«السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ» ويصلون عليه كما علمهم، مثل أن يقولوا:«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» ، وقد روي:«كَمَا صَلَّيْتَ (1) عَلَى إِبْرَاهِيمَ» وقد روي: «عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» .
(1) أشار ناسخ الأصل في الهامش إلى أنها وردت في نسخة أخرى بلفظ: (باركت) . أقول: ولعلها الأصوب؛ إشارة إلى الرواية التي يذكر فيها لفظ الآل في الأول، ولفظ إبراهيم في الآخر. والله أعلم.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وروي مثله في السلام: أنه من سلم عليه مرة، سلم الله عليه عشرًا. فهم إذا صلوا عليه وسلموا عليه، صلى الله عليهم وسلم عليهم.
ولم يكن هذا السلام في الصلاة مما يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه السلام، إنما كان ذلك إذا حيوه تحية يسمعها، فإذا سلموا عليه ردّ عليهم السلام، وأما سلام الصلاة فهو كالصلاة عليه، الله هو الذي يصلي عليهم بالمرة الواحدة عشرًا، ويسلم عليهم بالمرة الواحدة عشرًا.
ولمّا قبض الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، كانوا على ما كانوا عليه في حياته، هم والتابعون يصلون خلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، في مسجده، وخلف /9ب/ غيرهم، لكن هؤلاء الأربعة أمّوا الناس في مسجده، فأبو بكر وعمر صليا بالنّاس حتّى ماتا، وعثمان صلى بالناس حتّى حصر، وعلي صلى بالناس مدة مقامه بالمدينة قبل أن يذهب إلى العراق، وهؤلاء الأربعة بويع لهم في مسجده، ولهذا قال (1) أحمد بن حنبل: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة.
وكان خلفاؤه الراشدون، هم ومن يصلي خلفهم في مسجده، يفعلون بعد موته كما كانوا يفعلون في حياته، يصلون الصلوات الخمس، وهم في الصلوات يصلون عليه، ويسلمون عليه، ويدعون الله تعالى في الصلاة
(1) أضاف المحقق هنا كلمة: (الإمام) . وليست في الأصل.
وخارج الصلاة، وقد علموا أن ذلك يكفيهم، ويغنيهم عن غيره، مما لم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشرعه لهم.
وكان صلى الله عليه وسلم لمّا مات قد دُفن في حجرة عائشة، وفيها كان مرضه، وكانت حُجَرُ أزواجه شرقي المسجد وقبلته، وهي متصلة بالمسجد، يخرج منها إلى المسجد، وقد ذكرها الله تعالى في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وهي بيوته وبيوت أزواجه، أضافها إليه في قوله:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 35] وإلى أزواجه في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الذِّي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وفي طريق أخرى: «غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ -[أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا] (1) » .
قالت عائشة: /10أ/ «وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» وفي لفظ للبخاري: «غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» .
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ
(1) ما بين المعكوفين لم يظهر في هامش مصورة الأصل، وهو إضافة من المحقق.
أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي (1) أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا (2) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . وفي رواية لمسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
وفي المسند وصحيح أبي حاتم أنه قال: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» .
وفي موطأ مالك عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
(1) غيرت في المطبوع إلى: (فإني) .
(2)
غيرت في المطبوع إلى: (صنعوا) .
وفي سنن أبي داود وغيره عن /10ب/ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فِإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» .
وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن [علي بن](1) أبي طالب - وهو أجل الشرفاء الحسنيين في زمن تابعي التابعين - أنه رأى رجلاً ينتاب قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إِلَّا سَوَاءٌ.
(1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.
وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ - أَيْ بَلِيتَ - فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِياءِ» .
وفي النسائي وابن حبان وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» .
فقد أخبر أن الصلاة والسلام عليه يصل إليه من البعيد والقريب بقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» وقوله: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا» ، وكذلك السلام يصل إليه من القريب والبعيد بقوله:«إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ /11/ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» فكل مسلم قال في صلاته: السلام عليك أيها النبي ورحمة [الله](1) وبركاته؛ وصل ذلك إليه.
وكان أصحابه والتابعون لهم بإحسان يعلمون أن هذا السلام أفضل من السلام عليه عند قبره الذي يرد جوابه، فإن سلام التحية شرك فيه جميع المؤمنين (2)، كما في الحديث: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي
(1) إستدراك من المحقق، وليس في الأصل.
(2)
غيرت في المطبوع إلى: (المسلمين) .
الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عليه السلام» .
وأمّا السلام إذا تعبد (1) به في الصلاة وغيرها فإن هذا السلام قد أمروا به في كل صلاة، وهذا السلام يسلم الله على العبد بكل مرة عشرًا، وذلك السلام هو صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، كما كان يرد السلام على من سلّم عليه في حياته.
وكان الصحابة كلهم يسلمون عليه في كل صلاة، وإنما يأتيه من يأتيه منهم بعض الأوقات فيسلم عليه إذا أتاه، فذاك السلام في الصلاة أمر الله به في كل صلاة، بخلاف هذا، فإنه إنما يشرع عند لقائه، وأجر ذلك أعظم، فإن الله يسلم على العبد بالمرة الواحدة عشرًا، وهذا إنما يرد عليه الرسول.
وقد علّمهم أيضًا إذا دخلوا المسجد أن يقول الرجل: «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» ، وإذا خرج أن يقول:«بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي [ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» .
وكثير من الناس اتخذوا قبور أنبيائهم] (2) /11ب/ أعيادًا، وأوثانًا، وأشركوا بها
(1) كذا قرأها المحقق، والأظهر لي أنها:(تقيد) .
(2)
زيادة من المحقق، وليست في الأصل.
بعد موتهم، وإلا ففي حياتهم ما كانوا يمكنون أحدًا أن يشرك بهم ويتخذهم أربابًا.
فلهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان متبعين للتوحيد الذي بعث الله به رسوله، مجتنبين لما نهاهم عنه من الشرك وأسبابه، واتبعوا أمره في منع الناس من قبره، فصار الشرك به، وفهل المنكر عنده، ممتنعًا بعد موته، كما كان ممتنعًا في حياته.
وهذا من فضائله، وفضائل أمته، فإنه لا نبي بعده، وأمته لا تجتمع على ضلالة، ولو كان قبره بارزًا؛ لكان كثير من الجهال يريد أن يتخذه مسجدًا، ووثنًا، وعيدًا، كما فعل ذلك بقبر من ليس مثله، بل ينسب إليه، [تقربًا به](1) ، أو طاعة له، لكن دفن في الحجرة محجوبًا عن الناس، فلم يقدر أحد (على)(2) أن يشرك به، ولا يتخذه وثنًا، ولا يفعل عند قبره منكرًا، فصار له خاصة لا يشركه فيها غيره، فيما يأمر (3) به، وينهى عنه، فإن مسجده أسس على التقوى، والسفر مشروع إليه، [و](4) العبادة فيه فاضلة، وليس عند قبر غيره مسجد يسافر إليه، بل كثير من تلك المساجد بنيت لأجل القبور، وذلك حرام، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك تحذيرًا لأمته.
وأما مسجده فهو مؤسس على التقوى، وهو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام، وقيل: بل أفضلها مطلقًا، والصلاة فيه خير من ألف
(1) رسم الكلمة لم يتبين للمحقق، وهكذا استظهرها.
(2)
سقطت من المطبوع.
(3)
في الأصل: (يؤمر) ، والتصويب من المحقق.
(4)
زيادة من المحقق، وليست في الأصل.