الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتنقصًا، كالنصارى، وبسط هذه الأمور له مواضع أخر، وإنما المقصود التنبيه على [هذه](1) الجمل ليعرف /66أ/ الإنسان الفرق بين ما جاء به الرسول، وبين ما يشبه به وليس منه، فيعرف شريعة الرسول التي قال الله فيها:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ • إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19] .
فأمّة محمد صلى الله عليه وسلم ولله الحمد والمنة - لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال فيهم من هو قائم بالحق إلى أن تقوم الساعة، فلهذا لا يزال في أمته من يفرق بين الطريق الشرعية، والبدعية، ويميز ما جاء به الرسول مما قاله غيره، فإذا طلب المسلم أن يتبع الرسول أمكنه ذلك؛ لوجود من يعرف هذا من الأمة، بخلاف النصارى، وأهل البدع، فإن النصارى لما كثرت فيهم البدع، واشتهرت، وقل العلم فيهم، صار يتعذر - أو يتعسر - عليهم الفرق بين ما أمر به المسيح، وبين ما أمر به غيره، بل هذا خلط بهذا، وصار بأيديهم كتب فيها هذا المختلط الذي لبس فيه الحق بالباطل.
وهكذا أهل البدع كالذين يوجبون اتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم من شيخ، أو إمام، أو غير ذلك، تجد عندهم أمورًا منقولة عن شيخهم، أو إمامهم، أو عن علي رضي الله عنه، /66ب/ أو غيره، وفيها حق وباطل، ولا يمكنهم التمييز بين (2) حقها وباطلها، وتجدهم يروون أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفون صدقها من كذبها.
وهكذا عامة
أهل البدع، لا يميزون بين الحديث الصحيح وغير الصحيح
، لكن ما وافق آراءهم وأهواءهم كان هو الحق عندهم، وإن كان
(1) إضافة من المحقق، وليست في الأصل.
(2)
في الأصل: (من) ، والتصويب من المحقق.
راويه قد اختلقه على الرسول، وما خالف ذلك دفعوه.
بخلاف أهل السنة، وعلماء الأمة، الذين يقصدون متابعة الرسول، والاستنان بسنته، والعمل بشريعته، وتحقيق ما جاء به من حقائق الإيمان، التي أصلها في القلوب وفروعها ونتائجها على الجوارح، فإن هؤلاء يميزون بين ما قاله الرسول وقاله غيره، وما نقل عن الرسول فيميزون بين الصدق منه والكذب، والصحيح والضعيف، ويعتبرون أحوال سلف الأمة وأئمتها، ثم لهم فقه وفهم لما جاء به الرسول، يختصون به عن غيرهم، ولهم أحوالٌ وأعمالٌ امتازوا بها عن غيرهم.
وقد يحتجون بحكايات عن بعضِ المتقدمين فيها ما هو كذبٌ على المنقولِ عنه، مثل حكاية يروونها عن الشافعي أنه قال: إذا كانت لي إلى الله حاجة ذهبت إلى قبر أبي حنيفة، وسألته (2) به، أو نحو هذا، والشافعي
(1) في الأصل زيادة: (أبدًا) .
(2)
غيرت في المطبوع إلى: (وسألت) .
رضي الله عنه هو ممن حذر الشرك بالقبور، ونهى عن البناء عليها، وحذر مما حذر منه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الفتنة بها، وقد ذكر ذلك أصحابه، حتى أبو إسحاق في تهذيبه، وغيره، والشافعي رضي الله عنه لم يكن يقصدَ قبر أحدٍ من الأنبياءِ والصَّحابة ليدعوه، ويسأل الله به، فكيف خص بذلك أبا حنيفة؟ ولم يكن على عهد الشافعي لما أتى بغداد قبر (1) يُزار هذه الزيارة، ولا كان بها مشهد البتة، وكذلك كان بعد موت الشافعي في تمام عُمر الإمام أحمد رضي الله عنه، لم يكن ببغداد مشهد ظاهر، ولا قبر يُزار للدعاء به ولا للدعاء عنده، لا قبر معروف، ولا موسى بن جعفر، ولا غيرهما، بل هذه /67ب/ كلها حدثت بعد ذلك، لا سيما لما تغيرت أحوال الإسلام في المائة الرابعة.
والحكاية التي تروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف، الترياق المجرب. إن كانت صحيحة عمن نقلت عنه فإنه إنما قال ذلك بعد
(1) في الأصل: (قبرًا) ، والتصويب من المحقق.
موت الإمام أحمد لا في حياته، ولو كان من القبور ما هو ترياق مجربٌ؛ لكانت قبور المهاجرين، والأنصار، والخلفاء الراشدين، والأنبياء، أولى بذلك من قبر معروفٍ وأمثاله
…
(1)
/68أ/ وكثير من هؤلاء، بل أكثرهم، ليس اعتمادهم فيما هم عليه من الشرك والبدعة على الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، بل على ما يرونه ويسمعونه من الخوارق، وبعضها صدق، وبعضها كذب، وبعضها يكون خيالاً في أنفسهم، وبعضها يكون موجودًا في الخارج، كما كان يحصل للمشركين، منهم من يسمع كلامًا وخطابًا عند من يشرك به، إما الصنم، وإما القبر، وإما التمثال، ومنهم من يرى صورة إنسان أو غير إنسان، ومنهم من يخبر ببعض الأمور الغائبة، ومنهم من يعطى بعض أغراضه، فيؤتى ببعض ما يشتهيه من الصور، أو المال، أو يقتل بعض من يعاديه، وهذه الأمور هي من الشياطين، وهي من جنس السحر، والكهانة، فيظن كثير منهم أن هذا من باب الكرامات.
وكثير منهم يعتقد أن في الإنس قومًا صالحين أولياء لله لا يزالون غائبين عن أبصار الخلق يسميهم: رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن، كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] كانت الإنس تستعيذ بالجن، فازدادت الجن طغيانًا وكفرًا، وقالوا: قد عبدتنا الإنس، واحتاجت إلينا.
والتعازيم والأقسام التي فيها شرك هي من هذا الباب، لكن من هذه الأمور ما قد عرفت العامّة أنه من الجن، ومنها ما قد اشتبه، مثل ما يرى عند قبور الأنبياء، /68ب/ والصالحين، من شفاء مريض، أو حصول طعام من الغيب، ونحو ذلك، فيظن أنه معجزة أو كرامة، لأجل عكوفه، ودعائه لصاحب القبر.
(1) هنا بياض في الأصل إلى نهاية الورقة، وهو بقدر عشرة أسطر.
فيقال لهذا: معجزات الأنبياء مختصة بهم وبمن اتبعهم من المؤمنين، لا يجوز أن يكون لمن كفر بهم من المعجزات مثل ما لهم، فإن معجزاتهم هي آيات نبوتهم، وبرهان رسالتهم، والدليل يجب أن يكون مختصًّا (1) بالمدلول عليه، فلو كان لمن كذبهم مثل ما لهم لم يكن ذلك دليلاً، ولهذا طلب أعداؤهم أن يعارضوهم فيأتوا بمثل ما أتوا به، كما فعلت السحرة بموسى، وكما قصد بعض الناس أن يعارض القرآن، ولو أتوا بمثل ما أتت به الأنبياء لانتصروا.
فلو أن السحرة أتوا بمثل ما أتى به موسى لم يكن موسى قد جاء بآية، بل من تمام آيات الأنبياء أن المكذبين لهم لا يقدرون على مثلها، ولهذا لما ظهر للسحرة أن ما أتى به موسى لا يمكنهم أن يأتوا بمثله، وليس من جنس السحر؛ آمنوا به، وقالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ • رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47-48] وقالوا لفرعون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا • إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72-73] .
ولهذا /69أ/ تحدى الرسول المكذبين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، تحداهم بمثله، ثم بعشر سور، ثم بسورة، وقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقد بسط الكلام على هذا في مواضع.
فإن الكلام في المعجزات، وخصائصها، والفرق بينها وبين غيرها،
(1) في الأصل: (مختصٌّ) ، والتصويب من المحقق.
من أشرف العلوم، وأكثر أهل الكلام خلطوا فيه تخليطًا ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أن ما كان من المعجزات والكرامات يكون مختصًّا بالأنبياء وأتباعهم المؤمنين، ولهذا لم يكن ما يأتي به الساحر والكاهن من المعجزات والكرامات، فإن هذا يكون للكفار، وما يوجد للمشركين بالقبور وغيرها هو من هذا النوع المشترك، فالكفار من المشركين والنصارى يستغيثون بشيوخهم الموتى، والغائبين، ويرون من أتاهم في الهواء راكبًا، أو غير راكب، وقال: إنه المستغاث به، إما جرجس، وإما غيره، حتى قالوا لبعض علماء النصارى: فهذا جرجس يستغيث به جماعة في وقت واحدٍ، وكل منهم يراه، فقال: ذاك (1) ملك يأتي في صورته. فكثير من المنتسبين إلى الإسلام يستغيث بشيخه، ويرى من جاء راكبًا، أو طائرًا في الهواء، أو غير ذلك؛ فيظنه (2) شيخه. وقد يأتي في صورته إن كان يعرف صورة شيخه فيظن هذا شيخه.
وهذا قد وقع لخلق كثير، ووقع لغير واحدٍ من أصحابنا معي، لكن لما حكوا لي أنهم رأوني بينت لهم أني لم أكن إياه، وإنما كان شيطانًا تصور في صورتي ليضلهم، فسألوني: لم لا يكون ملكًا؟ قلت: لأن الملائكة لا تجيب المشركين، وأنت استغثت بي فأشركت.
والشيوخ الذين لا علم لهم، منهم من يخيل له الشيطان صوت المستغيث به، ويجيبه، /69ب/ فيخيل الشيطان للمستغيث صوت الشيخ، ويوهم كلاًّ منهما أنه سمع صوت الآخر.
والمؤمن إذا نادى غيره وهو في مكان بعيد لمصلحة - كما قال عمر: يا سارية الجبل، قال عمر: فإن لله جندًا تبلغهم صوتي - فلله جند من
(1) غيرت في المطبوع إلى: (ذلك) .
(2)
في المطبوع زيادة: (هذا) ، وليست في الأصل.
أنصار المؤمنين تبلغهم صوت المؤمن (1) ، وكذلك كان عمر قد أرسل جيشًا فجاء بشير (2) بالفتح، وشاع الخبر في الناس، فسألهم عمر: من أين لكم هذا؟ فقالوا: رأينا راكبًا أخبر بذلك. فقال: هذا أبو الهيثم من الجن، بريد المؤمنين، وسيأتي بريد الإنس، فأتاهم بريد الإنس بعد أيام.
فهؤلاء الجن كانوا مؤمنين مجاهدين في سبيل الله، والجن كالإنس: فيهم المسلم، والكافر، والكتابي، والمشرك، كما قال تعالى:{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] .
فمن أعان منهم مشركًا، أو أعان على الشرك؛ كان كافرًا، لم يكن مؤمنًا، وهم شياطين الجن الذين يضلون الإنس، و «الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يَقْتُلُ الساحر بسحره، وإنما يَقْتُلُ بتوسط الجن، وكذلك أيضًا قد يحصل الشفاء بنوع من أفعالهم فيأتون إلى من يدعوه الكفار في صورة، أو قبر، أو نحو ذلك، فيفعلون ما يحصل به زوال ذلك المرض، حتى يظن ذلك الضال أنه ببركة شركه (3) ، وهو من إضلال الشياطين،
(1) غيرت في المطبوع إلى: (المؤمنين) .
(2)
في المطبوع: (البشير) ، وقد كان ناسخ الأصل كتبها أولاً هكذا ثم ضرب على أل التعريف.
(3)
غيرت في المطبوع إلى: (مشركه) .