الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«فصل»
فإن قيل: إذا كان زيارة قبر غيره مستحبًّا، ولا يكره أن يقال: زرت قبره، فهو صلى الله عليه وسلم أحقّ بأن يكون زيارة //155ب// قبره مستحبًّا، ولا يكره أن يقال: زرتُ قبره، وقد ثبت لفظ زيارة القبور في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ /19ب/ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» . وما في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» وفي لفظ: «ويَرْحَمُ (1) اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا (2) وَالْمُسْتَأْخِرِينَ» . وثبت في الصحيح أنه خرج إلى أهل البقيع فدعا لهم، وكذلك خرج إلى شهداء أحد. (3)
قيل: الكلام في مقدمتين:
في زيارة سائر القبور، ثم هل هو مثل غيره أو بينه وبين غيره فرقٌ؟
أما المقدمة الأولى: فقد اختلف العلماء في زيارة القبور على ثلاثة أقوال:
(1) في الأصل وتبعه المطبوع: (يرحم) . والمثبت من خ2، والرواية التالية لنفس الحديث ص65، وهو الموافق لما في «صحيح مسلم» .
(2)
في الأصل وتبعه المطبوع زيادة: (ومنكم) . وهي ليست في خ2، ولا الرواية التالية لنفس الحديث، وليست في رواية «صحيح مسلم» ، ولعلها من تصرف ناسخ الأصل، فتم حذفها.
(3)
في خ2 بيض الناسخ هنا بمقدار سطر ونصف، وكتب:(بياض) ، ولعله يشير للأصل الذي نقل عنه.
قيل: إن ذلك مستحبٌّ، وهو قول الأكثرين.
وقيل: إنه مباحٌ وليس (1) بمستحب، وهو قول في مذهب مالك وأحمد.
وقيل: بل ذلك منهيٌّ عنه، روي هذا عن طائفة من السلف، وهؤلاء يقولون: نهي (2) عن زيارة القبور، ولم يثبت عندنا أنه نسخ ذلك.
وقد اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور، قيل: لأن ذلك مظنة الشرك، وقيل: لأنه مظنة النياحة.
واختلفوا: هل نسخ ذلك؟ فقال الأكثرون: إنه نسخ، وقيل: لم ينسخ، /20أ/ والذين قالوا: إنه نُسخ، قال بعضهم: إنه صيغة افْعَلْ بعد حظر، فلا تفيد إلا الإباحة، فإنه قال:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا //156أ// فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» وقال الأكثرون: إن زيارتها على الوجه الشرعي مستحبةٌ، وهذا هو الصحيح.
وجماع الأمر، أن زيارة القبور ثلاثة أنواع:
منها: ما هو منهيٌّ عنه باتفاق العلماء كالزيارة التي تتضمن محرمًا، إما (3) من الندب والنياحة المحرّمة، وإما من الشرك والبدع المحرمة، فهذان النوعان (4) حرام باتفاق العلماء.
ومنها: ما هو مباح، كزيارة القريب، وإن كان كافرًا؛ (5) للرقة عليه، لا للدعاء له، فهذا مثل البكاء على الميت بغير ندب، ولا نياحة، لا (6) بأس به.
والثالث: أنه يزار ليدعى له، كما كان يزور أهل البقيع، والشهداء، وهذا مستحب، لكن لم يقل أحدٌ من العلماء: إنه يستحبُّ السّفرُ إليها لزيارتها، فتنازعوا في زيارتها من المكان القريب: هل هو مستحبٌّ، أو
(1) في خ2: (ليس) دون الواو.
(2)
في خ2 ضبطت: (نَهَى) ، وبعدها (نَسَخ) .
(3)
(إما) ليست في خ2.
(4)
في الأصل: (فهذا النوعين)، وفي خ2:(فهذا النوعان) ، والتصويب من المحقق.
(5)
في خ2 هنا زيادة كلمة لم أجزم بها، كأنها:(لكونه) .
(6)
غيرت في المطبوع إلى: (ولا) .
مكروهٌ، أو مباحٌ؟ ولم يتنازعوا في السّفر إليها أنه ليس بمستحب، فإن المسافر إليها إنما يسافر لفعل ما هو منهي عنه من الشرك وغيره، ولهذا يسمونه حجًّا إليها، لا يسافر أحدٌ لمجرد الدعاء للميت، وإن قدّر أنه سافر لذلك فلا تقوم فضيلة الدعاء عند القبر بكلفة السفر الذي هو قطعة من العذاب، تفوت معه مصالح أنفع من ذلك، وهو /20ب/ مظنة المفسدة.
بخلاف المساجد، فإن المسلمين متفقون على أنه يشرعُ إتيانُ المساجد من المكان القريب، وإتيانها إما فرض عين، وإما فرض كفاية، أو (1) مستحب، إذا كان يأتيها للعبادة الشرعية، كالصلاة المشروعة فيها، والاعتكاف، والقراءة، وتعلم العلم، وتعليمه، ومع هذا فلا يُشرع السفر إليها، بل الأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه لو نذر السّفر إليها لم يوف بنذره؛ لأن في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (2) » .
حتى نص عامة العلماء على أنه لو نذر السفر إلى مسجد قباء، لم يوف بنذره، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وأتباعهم، لكن فيه نزاع شاذ في مذهب مالك؛ لأنه نهى عن السفر إلى غير المساجد (3) الثلاثة، وإنما يستحب إتيانه من قريب، مثل أن يكون بالمدينة، فيذهب إليه، كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبًا، وماشيًا.
وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويقوم في قباء يوم السبت؛ لقوله تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}
(1) في خ2: (وإما) .
(2)
في خ2: (والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) .
(3)
(المساجد) ليست في خ2.
[التوبة: 108] //47ب// وهذا يتناول مسجده، ومسجد قباء، ومسجده أحق بذلك من مسجد قباء.
كما ثبت في الصحيح أنه سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» أي: هو أحق بهذا الوصف /21أ/ من غيره، كما قال لأهل الكساء: علي، وفاطمة، وحسن، وحسين:«اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» أي: هم أحق بذلك من غيرهم، والحصر يكون حصرًا للكمال كما تقول: عبد الله العالم. وإلا فالقرآن يدلّ على أن مسجد قباء (1) أسس على التقوى، وعلى (2) أن أزواجه من أهل بيته.
وإذا كانت المساجد التي يشرع إتيانها من غير سفر بالنص والإجماع لا يشرع السفر إليها، بل (3) يجب إتيانها (4) ، فما لا يجب إتيانه (5) بالاتفاق، وفي استحبابه نزاع، أولى أن لا يشرع السفر إليها. والجمهور على أن زيارة القبور المأذون فيها نوعان:
نوع يباح في حقّ الميت الكافر والمسلم، فهذا جائز، لما فيه من تذكر الآخرة، كما ثبت في الصحيح أنه قال:«اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَ أُمِّي فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» .
(1) في خ2: (أهل قباء) .
(2)
(على) ليست في خ2.
(3)
أضاف المحقق هنا حرف (لا) النافي، ولا وجود له في الأصل ولا خ2، والأولى عدم إثباته؛ فالمعنى مستقيم من دونه.
(4)
الضمير يعود على المساجد التي لا يشرع السفر إليها ولكن يجب إتيانها من قريب للصلوات المفروضة.
(5)
الضمير يعود على القبور، يعني زيارة القبور.
والنوع الثاني: زيارتها للسلام على الميت، والدعاء له، فهذا مستحب في حق المؤمنين خاصة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بُكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» وفي رواية: «وَيَرْحَمُ (1) اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ» ، //48أ// وكما ثبت في الصحيح: أنه كان يخرج إلى أهل البقيع فيدعوا لهم ويستغفر لهم، /21ب/ وكما ثبت (عنه) (2) في صحيح البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم صلّى على قتلى أحد (3) بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، فهذه الزيارة من جنس الصلاة على الجنازة، ومن جنس الصلاة على قبر الميت، وهذا مشروعٌ لأهل المصر، وأما سفر الإنسان إلى قبرٍ يصلي عليه، فهذا ليس بمشروع.
ومن هنا يظهر الكلام على المقدمة الثانية، وهي الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فيقال: هذا كالفرق بينه وبين غيره في الدفن، فإن سنة المسلمين أن يدفنوا في الصحراء تحت السماء، كما كان هو صلى الله عليه وسلم يَدفِنُ أصحابَه في البقيع، ولم يدفن أحدًا منهم تحت سقف في بيت، ولا بنى على أحدٍ منهم سقفًا، ولا حائطًا.
بل قد (4) ثبت عنه في الصحيح أنه نهى أن يُبْنى على القبور (5) ، وهو صلى الله عليه وسلم دُفِن في بيته، تحت السقف؛ وذلك لما بَيَّنَتْهُ عائشة رضي الله عنها من أنه لو دفن في الصحراء لخيف أن يتخذ قبره مسجدًا، فإن عامة الناس لما في قلوبهم من تعظيمه صلى الله عليه وسلم، قد يقصدون الصلاة عنده، بل قد يَرَوْنَ ذلك أفضل لهم من الصلاة في مكان آخر، كما فعل أهل الكتاب حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ورأوا الصلاة عندها أفضل
(1) غيرت في المطبوع إلى: (يرحم) بحذف الواو.
(2)
سقطت من المطبوع.
(3)
في خ2: (وكما ثبت في صحيح البخاري عن عقبة بن عامر أنه قال: [صلى رسول الله] صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد) . اهـ. وما بين المعقوفتين استدراك من صحيح البخاري.
(4)
(قد) ليست في خ2.
(5)
في خ2: (القبر) .
من الصلاة عند غيرها؛ لما في النفوس من الشرك، والذين يفعلون ذلك /22أ/ يرون أنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى (1) ، وأن ذلك من أفضل أعمالهم، وهم ملعونون، قد لعنهم الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى // اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وهم من شرار الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» .
وفي الصحيحين أنه ذُكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال:«إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فلما كان دفنه في بيته من خصائصه؛ لئلا يتخذ قبره مسجدًا، فهو صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يتخذ قبره عيدًا، أي يجتمع عنده في أوقات معتادة، فقال:«صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» فكذا زيارة قبر غيره من عموم المؤمنين للسلام عليه والدعاء له، لا يفضي إلى أن يتخذ قبره مسجدًا، وعيدًا، ووثناً، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد دفن في بيته؛ لئلا يتخذ قبره مسجدًا.
ومقصود الزيارة في حق غيره إنما هو السلام عليه، والدعاء له، كالصلاة على جنازته، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نسلم عليه في صلاتنا، ونصلي عليه، وصلاتنا وسلامنا يصل إليه حيث كنا، وهذا لم نؤمر به في حق غيره على الخصوص، فغيره إذا /22ب/ زرنا قبره قد يحصل له من دعائنا له ما
(1) في خ2: تبارك وتعالى .