الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» .
فكان في (1) هذا بيان أن
السفر إلى غير المساجد الثلاثة غير مشروع
، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، فإن قوله:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» استثناء مفرغ، فإما أن يكون التقدير: لا تشد إلى مسجد إلا إلى هذه الثلاثة، وإما أن يكون التقدير: لا تشد إلى مكان مطلقًا /36ب/ من الأمكنة التي تقصد، وتعظم، ويسافر لأجلها.
فأما السفر لتجارة، أو جهاد أو طلب علم، أو زيارة أخ في الله، أو صلة رحم، ونحو (2) ذلك، فإنها لم تدخل في الحديث؛ لأن تلك لا يقصد فيها مكان معين، بل المقصود ذلك المطلوب حيث كان صاحبه، ولهذا لم يفهم أحد من هذا هذه الأمور.
بخلاف السفر إلى البقاع المعظَّمة كطور موسى، وكقبور الأنبياء، والصالحين، فإن الصحابة، والتابعين، والأئمة، فهموا دخولها في هذا الحديث، ولم يكن في السلف من ينكر دخولها في الحديث، ودخولها على أحد وجهين: إن قيل: إن المستثنى منه: جنس البقاع المعظمة، فقد دخلت هذه، وإن قيل: إن المستثنى منه: هو المساجد، فلا ريب أنه إذا لم يشرع السفر إلى المساجد، فلا يشرع إلى هذه بطريق الأولى؛ فإن المساجد أفضل البقاع، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ» رواه مسلم.
والمساجد يؤمر بقصدها، ويسافر إلى بعضها، ويجب السفر إلى
(1) أضيف في المطبوع هنا كلمة: (بيان) ، وليست في الأصل.
(2)
غيرت في المطبوع إلى: (أو نحو) .
بعضها، فإذا كانت لا يشرع السفر منها إلى غير الثلاثة، فغير المساجد أولى أن لا يشرع السفر إليها، ولهذا /37أ/ لم يقل أحد من علماء المسلمين إنه يسافر إلى زيارة القبور، ولا يسافر إلى المساجد، وإنما حكي عن بعضهم العكس، فحكي عن الليث بن سعد أنه قال: إذا نذر السفر إلى سائر المساجد، وفى بنذره. وعن محمد بن مسلمة من أصحاب مالك أنه قال ذلك في مسجد قباء.
ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إنه من نذر السفر إلى قبر نبي أو غير نبي وفى بنذره، بل نصُّوا على أنه لا يوفي بنذره، ليس بين الأئمة الأربعة وغيرهم من نظرائهم خلاف في ذلك، بل كلهم متفقون على أنه من نذر السفر إلى قبر نبي - أيّ نبيٍّ كان - أو قبر صالح، أنه لا يوفي بنذره.
ومالك رحمه الله إذا كان قد نص على ذلك في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الأئمة يوافقونه وهم أولى بذلك منه، فإن مذهب مالك وأحمد: أنه من نذر السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى؛ وجب عليه الوفاء بنذره، وهو أحد قولي الشافعي، والقول الآخر له وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يجب الوفاء إلا إذا نذر المشي إلى الكعبة، فيذهب في حج أو عمرة.
فهؤلاء إذا لم يوجبوا السفر إلى مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، مع أنهما سفران مشروعان مستحبان بنص الرسول (1) صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة، فأن لا يوجبونه إذا نذر السفر لزيارة القبر بطريق الأولى، /37ب/ فإن أصل أبي حنيفة أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان (2) جنسه واجبًا بالشرع، والسفر إلى مسجد المدينة، والأقصى، ليس من جنسه ما هو واجب بالشرع.
(1) غيرت في المطبوع إلى: (رسول الله) .
(2)
في المطبوع زيادة: (من) ، وقد كتبها ناسخ الأصل أولاً ثم ضرب عيها.
لكن مالك، وأحمد، ومن وافقهما كالشافعي في أحد قوليه، لما كانوا يوجبون الوفاء بنذر كل طاعة، سواء كان من جنسها ما هو واجب بالشرع، أو لم يكن، فمن نذر السفر إلى مسجد الرسول مقصوده الصلاة فيه، فعليه أن يوفي بنذره، ومن نذر السفر إلى المدينة، فهذا مجمل، قد يكون مقصوده الصلاة في مسجده، وقد يكون مقصوده زيارة أهل البقيع، أو شهداء أحد، أو زيارة مسجد قباء، أو بعض المزارات، أو مجرد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا صرح هؤلاء بأنه لا يوفي بنذره، إلا إذا كان مقصوده الصلاة في مسجده، فمن قصد غير ذلك، من زيارة قبره، أو غير زيارة قبره، لم يوف بنذره. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» وقال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» وإعمال المطي إلى غير المساجد أولى بالنهي.
فإذا كان مقصوده بإعمال المطي: زيارة (1) قبره، أو قبور أهل البقيع، أو شهداء أحد، أو مسجد قباء، فهو منهي عن هذا السفر، /38أ/ وما كان منهيًّا عنه لم يكن قربة، فلا يجب بالنذر باتفاق المسلمين، لكن إذا نذر لله معصية: فهل عليه كفارة يمين؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، وظاهر مذهب أحمد: أن عليه كفارة يمين، وكذلك مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب الشافعي إذا قصد بالنذر اليمين، وظار مذهب الشافعي أنه لا شيء عليه، وهو مذهب مالك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» أو «لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ» هو نهي عن ذلك عند السلف، والعلماء المتقدمين، ما علمت بينهم نزاعًا أن هذا نهي عن السفر، وهو قول مالك، وأصحابه، والمتقدمين (2) من أصحاب الشافعي، وأحمد، والصيغة نص في ذلك،
(1) في الأصل: (لزيارة) ، والتصويب من المحقق.
(2)
في الأصل: (والمتقدمون) ، والتصويب من المحقق.
كما في قوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وقوله:{وَإِنْ (1) تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، ونظائره كثيرة، كقوله:«لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» .
ثم من الناس من يقول: أصل هذه الصيغة الخبر، لكن لما تعذر ذلك فيها؛ حُملت على النهي. ومنهم من يقول: بل النهي له صيغ متعددة، منها: صيغة: لا تفعل، بالجزم، لكن هذه يسميها النحاة: صيغة النهي، وأما: لا تفعل، بالرفع، فهذه لا تختص بالنهي، بل قد يراد بها النهي، وقد يراد بها غير النهي، وكذلك القولان في مثل قوله:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] .
لكن الناس متفقون على أن مثل هذه الصيغة إذا لم تكن خبرًا كانت أمرًا ونهيًا، وقال /38ب/ طائفة من متأخري أصحاب الشافعي، وأحمد: إن هذا ليس بنهي، بل هو نفي؛ لكونه مشروعًا، قالوا: وهذا يوجب أن يكون مباحًا، لا مستحبًّا، ولا مكروهًا، ولا محرمًا، ولهذا بنى هؤلاء على هذا: أنه إذا سافر إلى غير الثلاثة قصر الصلاة؛ لأنه مباح.
وهكذا قال طائفة من أصحاب مالك، كابن عبد البرّ، وابن بطال، قالوا: الحديث محمول على أنه لا يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة، فلو نذر شيئًا لم يجب، وهذه الثلاثة تجب بالنذر، وإن كان المسجدان مستحبين، فاقتضى الحديث عندهم: أن المستحب يجب بالنذر، وغير
(1) في الأصل: (فإن) .
الثلاثة: لا تجب بالنذر، فلا يكون مستحبًّا، هذا معنى الحديث عندهم.
وأما أولئك الذين يقولون إنه منهي عنه، فمن قال: إن السفر المنهي عنه لا تقصر الصلاة فيه، فإنه لا تقصر الصلاة في مثل هذا، كما صرح بذلك من صرح به منهم، مثل ابن عقيل، وغيره، وكل من يوافقه على الأصلين يوفقه على ذلك، فأصحاب مالك، والشافعي، الذين يوافقونه على أن هذا محرم، وعلى أن المحرم لا تقصر فيه الصلاة، يوافقونه على أنه لا تقصر فيه الصلاة.
والصحيح قول السلف والجمهور، وأن هذا نهي منه صلى الله عليه وسلم وذلك أن الصيغة صيغة خبر، وقد علم أنه لم يرد /39أ/ صيغة الخبر (1) ، فتعين أن يحمل على النهي، هذا إذا روي بصيغة الخبر، «لَا تُشَدُّ» بالضم، وأما إذا روي بصيغة النهي:«لَا تَشُدِّ الرِّحَالَ» ، و «لَا تُعْمِلِ الْمَطِيَّ» لم يبق فيه شبهة، وهذا كقوله:{لَا تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقر: 233] على قراءة من قرأ بالرفع عطفًا على قوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] فإن هذه صيغة خبر، ومعناه النهي، كقراءة من قرأ:{لَا تُضَارَّ} بفتح الراء، فإن هذا نهي، لكنه فتح الراء لالتقاء الساكنين، كما في قوله:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وفي قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] . وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 217] وكذلك قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] أي: لا تجادلوا (2) في الحج، وقول من قال: لم ينه عن ذلك، وإنما نفى استحبابه؛ غلط من وجوه:
منها: أن يقال: معلوم أن من سافر إلى مسجد غير الثلاثة، أو بقعة معظمة، فإنما يفع ذلك متقربًا به، ولا يفعله على أنه مباح مستوي
(1) في حاشية الأصل تعليق مبتور يبدو منه بعض ألفاظ حديث «لا تشد الرحال
…
» المتقدم.
(2)
غيرت في المطبوع إلى: (تجادلون) .
الطرفين، فإذا كان هذا عند صاحب الشرع ليس بمستحب، كما قد ذكرتم أنه أراده، لزم أن من فعله معتقدًا أنه مستحب، يطلب فيه الأجر، مخالف عاصٍ لصاحب الشرع، وهو منهي عن السفر بهذه النية، فقولكم متناقض حيث قلتم: إنه نفى الاستحباب، ولم ينه عنه، مع أن الذين يفعلونه، يفعلونه لأنه مستحب عندهم، وهم ينهون عن هذا، /39ب/ فإن الرسول إذا قال إنه غير مستحب، كان قد نهى أمته أن يظنوا أنه مستحب، أو يعملوه على أنه مستحب، فإذا كانوا لا يفعلونه إلا لأنه مستحب عندهم، وقد نهاهم عن هذا، فقد نهاهم عن فعله.
فإذا قلتم: لم ينههم مع ذلك، جمعتم بين النقيضين، فحقيقة قولكم: إنه نهاهم وهو لم ينههم.
ولهذا كان الذين ينازعون هؤلاء يحتجون عليهم بما سلموه من أنه ليس بمستحب، والذين يفعلونه إنما يفعلونه لأنه مستحب، فيجعلون قولهم: إنه غير منهي عنه، يقتضي أنه مستحب، لكن القول باستحبابه إلزام لهم، ونفي استحبابه نص قولهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكن إذا كان فاسدًا دلّ على فساد المذهب، فلما كان قولهم يستلزم الاستحباب، مع أنهم نفوا الاستحباب، ولا بد لهم من ذلك وإلا عطلوا النص؛ كان قولهم متناقضًا.
ومنها: أن صيغة النفي، إذا لم يُرد بها النفي، كانت نهيًا، هذا هو المعهود في الخطاب، كما أن صيغة الخبر إذا لم يُرد بها الخبر كانت أمرًا، كقوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] . {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أما كون صيغة النفي يراد بها الإباحة، ونفي الاستحباب، فهذا غير معلوم في خطاب الشارع، فالحمل عليه حمل لكلامه على غير لغته المعروفة، ولسانه الذي خاطب به الناس.
/40أ/ ومنها: أن هذا القول محدث لم يقله أحد من سلف المسلمين وأئمتهم.
ومنها: أن السفر إلى غير الثلاثة إذا كان مباحًا مستوي الطرفين مع أن أصحابه يتخذونه قربة وطاعة، فإما أن يقال: إنهم يثابون، أو لا يثابون، فإن قيل: إنهم يثابون، فالمباح الذي ليس بمستحب لا ثواب فيه، وأيضًا فتلك مخالفة محضة للحديث، وإن قيل: إنهم لا يثابون مع أنهم لم يسافروا لمصلحة دنيوية، فقد سافروا سفرًا لا ينفعهم في دينهم ولا دنياهم، وهم يعتقدون أنهم يثابون، ويؤجرون، ومثل هذا لا يكون إلا منهيًّا عنه، لا يكون مباحًا مستوي الطرفين.
ومنها: أن السفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، ولهذا يسمونها: حجًّا، ويسمون أعمالها: مناسك، ويسمون الكتب المصنفة في ذلك: مناسك حج المشاهد، ويقول بعض الناس: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا.
ولكلّ أمة بقاع يعظمونها، يحجون (1) إليها، وكانوا في الجاهلية يحجون إلى بيوت الأصنام، وفي حديث أمية بن أبي الصلت لما اجتمع بالراهب، وأخبره أنه سوف يبعث نبي من العرب، فطمع أن يكون هو إياه، فقال له الراهب: إنه من أهل بيت تحجّه العرب، قال: فقلت له: ونحن معشر ثقيف فينا بيت تحجه العرب، قال: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم /40ب/ من قريش. فقال (2) : فينا بيت تحجه العرب؛ وهو اللات المذكور في القرآن في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] وكانوا يسمونها: الربة، وقرأ طائفة من السلف: اللاتّ، بالتشديد، وقال طائفة من السلف: إنه كان يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره.
(1) غيرت في المطبوع إلى: (ويحجون) ، بزيادة واو العطف.
(2)
عدلها المحقق في المطبوع إلى: (فقوله) .
وأهل الكتاب يحجّون إلى كنائسهم، ومنه قيل في قصة الفيل: إن صاحب الفيل أبرهة بنى كنيسة وأراد أن يصرف حجّ العرب إليها، فأحدث فيها بعض العرب، فجعل السفر إلى الكنيسة حجًّا كالسفر إلى الكعبة.
والمقصود أنهم كانوا يسمّون السفر إلى مثل هذا: حجًّا، إذ الحج في اللغة هو القصد إلى معظَّم، كما قال:
وأشهد من عوف حلولًا كثيرة
…
يحجون سِبَّ الزبرقان المزعفرا
ومشركو الهند يحجون إلى السمناة، والنصارى يحجون إلى بيت لحم والقمامة، وإنما يقصدون المكان الذي ولد فيه المسيح، والمكان الذي صلب فيه، فإنما عظموا تلك البقعة لأجل المخلوق.
وهكذا الذين يسافرون لزيارة المقابر، والمشاهد التي يعظمونها هي عندهم مثل الحج، بل أعظم من الحج، ويسمونها الحج الأكبر، ويرون أن مرة واحدة منها أفضل من حجات إلى مكة، ويدعون عندها، ويتضرعون، ويخشعون، كما يفعله المسلمون في بيوت الله، ومشاعره، أو أعظم من ذلك، أو دون ذلك، كما كان المشركون يعظمون آلهتهم مثلما يعظمون الله، وقد يفضلونها على الله، /41أ/ كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136]، وقال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
ومثل هؤلاء موجودون في زماننا، يكون شيخ أحدهم في صدره أعظم من الله، بحيث يسب الله ويشتمه إذا فعل بشيخه مكروهًا، كما جرى مثل هذا لطائفة بعد طائفة، ومن سب شيخه حاربه، ومن سب الله سالمه، ويحلف بالله ويكذب، ولا يستجرئ (1) أن يكذب إذا حلف بشيخه.
وإذا كان السفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن نسافر سفرًا يشبه الحج إلا إلى هذه المساجد، فالمسجد الحرام يكون السفر إليه واجبًا تارة، ومستحبًّا أخرى، والمسجدان الآخران يستحب السفر إليهما، فهذا هو المشروع من هذا الجنس، وما سوى ذلك غير مشروع، وما كان حجًّا غير مشروع فلا يكون إلا محرمًا، كالحجّ إلى بيت لحم، والقمامة، وسمناة، وغير ذلك.
فإن قيل: هذه أوثان. قيل: والقبور قد اتخذت أوثانًا، وأصل الشرك
(1) عدلها المحقق في المطبوع إلى: (يستجيز)، وفي الأصل قد كتبت هكذا:(يستجر) ، ووضع الناسخ علامة الإهمال على الراء.
هو من تعظيم القبور، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» وقد استجاب الله دعاءه، فلم يُتخذ - ولله الحمد - قبره وثنًا يعبد، ولا يمكن أن يفعل عنده ما هو دون هذا وذريعة إليه /41ب/ مما نهى عنه، فلا يستطيع أحد أن يفعل عند قبره منكرًا، ولا يزوره الزيارة المشروعة في غيره، بل قد منعوا من ذلك سدًّا للذريعة، وإنّما يمكن الوصول إلى مسجده.
وقد يظنّ الظّانُّ أن ما يفعل في المسجد هو عند قبره، وهو غلط، المسجد مسجد قبل قبره، وليس شيء من المسجد من بيته، ولا من قبره، فلا يستطيع أحد أن يفعل هناك خيرًا، أو شرًّا، إلا في مسجده، وأما في بيته فلا يستطيع أحد أن يفعل فيها (لا)(1) خيرًا، ولا شرًّا، ولكن يتوهم أكثرهم أن هذا زيارة لقبره، وإنما زار مسجده، لم يزر قبره، ولا فعل هناك شيئًا (2) يختص بالقبور، بل لم يفعل هناك إلا ما يمكن فعله في غير القبور.
ومن توهم أن الذي فعله.. فعله عند قبره؛ فهو غالط، وقيل له: ما الحدّ الفاصل بين قبره وغير قبره؟ أترى من فعل في الجانب الغربي من المسجد شيئًا، فهو أيضًا عند قبره؟ فإن قال: نعم، كان كل من صلّى في المسجد صلى عند القبر، وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وإن قال: لا، قيل له: فقبره وسط المسجد، فإن حدّ حدًّا بذراع، أو باع، أو رمح؛ كان متحكمًا، فعلم أنه ليس أحد ينهى في المسجد عند قبره، ولا زار أحد منهم قبره، ولا وصل إلى قبره.
ولهذا لم يكن أحد من السلف يطلق على شيء من ذلك أنه زيارة لقبره، وقد كره كثير من العلماء أن يقال: زرنا قبره، ولا ريب /42أ/ أن هذا باطل، لم يزر قبره أحد قط، ولكن الذين أطلقوا ذلك أرادوا به الدّخول إلى المسجد بحيث يكون قريبًا من قبره، ولم يذكروا في ذلك حدًّا
(1) سقطت من المطبوع.
(2)
في الأصل: (شيء) ، والتصويب من المحقق.
فاصلاً، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
فالحمد لله الذي حفظ قبره عن أن يتخذ مسجدًا، أو وثنًا، أو عيدًا، ولم يمكن أحدًا أن يدخل إلى قبره بالكلية، بل سدّ هذا الباب، وأما غيره فقد يتخذ قبره مسجدًا، ويتخذ وثنًا، وليس على الأنبياء والصالحين الذين فعل ذلك بغير رضاهم درك، فإنهم يكرهون ذلك، ويتأذون بما يفعل عندهم، وهذا كما أن من عبد المسيح وغيره لا إثم عليه بما فعله به غيره بغير إذنه.
لكن كان أهل الكتاب قبلنا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونبيّنا عصمه الله أن يتخذ قبره مسجدًا، كما عصم أمته أن تجتمع على ضلالة، فإن الأمم قبلنا كانوا إذا ضلوا أرسل الله نبيًّا يبيّن ضلالهم، ومحمد (1) صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده فلو اتخذ قبره - والعياذ بالله - مسجدًا، وجعل وثنًا؛ لكان ذلك من أعظم ظهور الضلال والشرك في أمّته، وهي آخر الأمم، وقد عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، ولهذا يوجد من هو دونه من أهل بيته، والمشايخ، عند قبره، أو قبر منسوب إليه، وهو كذب، من اتخاذه وثنًا ومسجدًا، ما لا يوجد عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم عصمة من الله، ورحمة، /42ب/ وعناية، بمحمدٍ، وأمته، والمتبعين لسنته.
(1) في الأصل: (ومحمدًا) ، والتصويب من المحقق.