المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قبر دانيال - قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ قبر دانيال

يسأل، ويقال: إنا نستشفع به، كما يفعله النصارى، بل لما فتح المسلمون العراق وجدوا‌

‌ قبر دانيال

، وعنده مصحف، قال أبو العالية: أنا قرأته، /13ب/ وفيه أخباركم، وكان أهل المكان يستسقون به، فكتب فيه أبو موسى إلى عمر، فكتب إليه عمر يقول: احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، وادفنه بالليل في واحد منها؛ لئلا يفتتن به الناس.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسافرون إلى المساجد الثلاثة لأجل الصلاة فيها، وللدعاء ونحو ذلك، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» .

أخرجاه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.

حتى كان ابن عمر يأتي إلى بيت المقدس فيصلي فيه، ويخرج ولا يشرب فيه ماء، رجاء أن تصيبه دعوة سليمان عليه السلام: اللهم لا يأتي هذا البيت أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

ص: 46

ولم يكونوا يتخذون ذلك وقت الحج، بل كانوا يحجون ويأتون إلى بلادهم، وكان عمر يقول: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق عراقكم. ولكن كانوا يأتون مسجد المدينة والمسجد الأقصى بحسب ما تيسر، ليس لذلك وقت، ومنهم من يتيسر له ذلك وقت الحج.

وكان الصحابة يتحرّون متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فما فعله على وجه العبادة فعلوا كما فعل، وإذا خص مكانًا أو زمانًا بالعبادة فيه خصوه هم أيضًا بالعبادة، كما كان يخص مشاعر الحج مثل عرفة ومزدلفة /14أ/ ومنى، بما شرع فيها من العبادة، وقد قال لهم:«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فكانوا يقصدون أن يفعلوا كفعله.

وكذلك كان يقصد تخصيص المسجد الحرام، ومسجده، ومسجد قباء؛ فيخصونها، لكن مسجد قباء؛ لم يشرع السفر إليه، ولكن شرع إتيانه من القرب، كما قال:«مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ لَهُ كَعُمْرَةٍ» .

وكذلك كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة في مكان من مسجده، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة فيه عند اسطوانة فيه.

ص: 47

وكذلك يعظمون شهر رمضان، وعشر ذي الحجة، ويوم الجمعة، ونحو ذلك مما كان يخصه صلى الله عليه وسلم بالتعظيم.

وما فعله على وجه الاتفاق، مثل سيره في طريق، وصلاته فيه إذا نزل، وصبّ ماء فضل معه في أصل تحت شجرة، - وكان ابن عمر رضي الله عنه يحب أن يفعل كفعله، وأما أكثر الصحابة فلم يكونوا يقصدون ذلك؛ لأن المتابعة هي أن نفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فلا بد أن نشاركه في القصد والنيّة فإنما الأعمال بالنيّات، فإذا قصد العبادة بالعمل، فقصدنا العبادة به؛ كنا مقتدين، متبعين، متأسين به، وأما إذا لم يقصد به العبادة، بل فعله على وجه الاتفاق لتيسره عليه، فإذا قصدنا العبادة به؛ لم نكن متبعين له - ومشي ناقته في الطريق، وصب ماء فضل من وضوئه في شجرة هناك، ونحو ذلك، هو لم يقصد به مكانًا معينًا بقصد العبادة بصبّ الماء /14ب/ في تلك الشجرة دون غيرها، أو قصد العبادة بمشي راحلته (1) في ذلك الجانب دون غيره، بل قصد أن يمس بالماء ما قرب منه من (2) الشجر ولا يضيع، ففعل ما يسره الله له من الفعل، كما كان يأكل ما تيسر، ويلبس ما تيسر، فكان لا يعيب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وكان يأكل من تمر مدينته كالرطب، وأما ما لم يوجد فيها فلم يكن يأكله؛ لأنه لم يوجد ولو وجده لأكله، فاتباعه في ذلك أن يأكل الرجل من طعام بلده ما تيسر، لا يقصد من ليس ببلده رطب أن يأكل الرطب، فإن هذا ليس بمتابعة.

وهذا كما أمر أهل المدينة أن يخرجوا صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو

(1) تحرفت في المطبوع إلى: (رجليه) .

(2)

في الأصل: (في) ، والتصويب من المحقق.

ص: 48

شعير؛ لأنه كان قوتهم، فمن كان قوته القمح فهو مأمور أن يخرج قمحًا عند جماهير العلماء - وإن قال بعضهم: إن التمر أفضل - وليس له أن يخرج الشعير عند الجمهور، وفي إخراج التمر نزاع أيضًا.

وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رأى قومًا ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسفر، ومكان حلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال عمر] (1) : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب.

وهذا نهي عن مثل ما كان يفعله /15أ/ ابن عمر، مع أن ابن عمر لم يكن يقصد لا هو ولا غيره من الصحابة إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء للعبادة، بل إنما قصد متابعته في صورة الفعل.

وأما الأمكنة التي كان يقيم بها، ويجلس فيها، وينزل بها ليلاً ونهارًا، والطُرق التي كان يسير بها، والمواضع التي كان ينزلها في أسفاره، فلم يكن أحد من الصحابة يقصدها لصلاة فيها ولا دعاء ولا غير ذلك، مثل حُجَر أزواجه التي كان يقيم بها ليلاً ونهارًا، فلم يكن أحد منهم يقصد زيارة تلك البقاع، أو الصلاة (2) فيها، أو الدُّعاء (3) .

وكذلك غار حراء الذي كان يتحنث فيه، وغار ثور الذي كان فيه هو وأبو بكر، وغار المرسلات الذي نزلت عليه فيه {وَالْمُرْسَلَاتِ} (4) ، ومثل منزله لما حاصر قريظة والنضير، ومثل طرقه في أسفاره، فلم يكن أحد من الصحابة

(1) ما بين المعكوفين لم يظهر في هامش مصورة الأصل.

(2)

غيرت في المطبوع إلى: (والصلاة) .

(3)

غيرت في المطبوع إلى: (والدعاء) .

(4)

غيرت في المطبوع إلى: (المرسلات) .

ص: 49

يقصد زيارة هذه الأمكنة، ولا الصلاة فيها، والدُّعاء، وإذا لم يكونوا يفعلون هذا بالبقاع التي حلّ بها أفضل الخلق؛ فهم لغيرها أترك، فلم يكن أحد منهم يقصد شيئًا من البقاع لا بالشام ولا بغير الشام، إلا المساجد التي للصلاة، لا يقصدون بقعة لكونه نزل بها إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، لا بالبيت المقدس، ولا غيره، بل كانوا يسافرون لإتيان البيت المقدس.

ولما فتحه المسلمون وكان على الصخرة زبالة عظيمة جدًا كانت النصارى تهينها بغضًا لليهود، فطهّرها عمر بن الخطاب، وقال /15ب/ لكعب الأحبار: أين ترى أن أبني مصلّى المسلمين؟ قال: خلف الصخرة. قال: يا ابن اليهودية خالطتك يهودية، بل أبنيه في صدر المسجد، فإن لنا صدور المساجد. فبنى مصلّى المسلمين في قبلي المسجد - وهو الذي يسميه بعض الناس: الأقصى، والمسجد الأقصى يتناول المسجد كله - ولم يبنه خلف الصخرة؛ لئلا يتشبه المسلمون بمن يصلّي إلى الصخرة، مع أنها كانت قبلة منسوخة.

وإبراهيم عليه السلام لمّا بنى البيت، ودعا الناس إلى الحج، فأمر الله تعالى أن نجيب دعوة إبراهيم، ونفعل كما فعل، فنعبده في الأماكن التي قصد العبادة فيها، ولهذا قال غيرُ واحدٍ من السلف: مقام إبراهيم هو: المشاعر: عرفة، ومزدلفة، ومنى، وإن كان المقام الخاص أخصّ من غيره، ولهذا صلّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف عنده، ثم إذا كانت سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وأصحابه، وما عليه علماء أمته: أنه لا يسنّ استلام مقام

ص: 50

إبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهما، وهما أفضل الخلق؛ فغيرهما أولى أن لا يسن استلام مقامه، فإن الاستلام إنما هو بركن بيت الله عبادة لله، كما أن الطواف إنما هو ببيت الله عبادة لله، لا يكون ببيت مخلوق.

ولم يكن الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، يسافرون إلى قبر الخليل عليه السلام، /16أ/ ولم يكن ظاهرًا، بل كان على المغارة بناء، وليس له باب مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نقب عليه بابًا النصارى الكفار، لما استولوا على تلك البلاد، وجعلوه كنيسة، وعلى مثل ذلك لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتخذوا قبور الأنبياء مساجد.

فلم يكن أحد من الصحابة يسافر لزيارة قبر إبراهيم وأهل بيته، وأكثر الناس لم يكونوا يعرفون أن هناك قبر الخليل، ولهذا تنازع الناس فيه، بل كانوا يأتون إلى المسجد الأقصى، ولا يذهبون إلى تلك القرية، وكان ذلك قربه، ولم يكن قبر الخليل ظاهرًا يدخل إليه، فإن سليمان عليه السلام بنى عليه حجرة فكان مسدودًا، وليس عليه علامة يعرف بها، وقد قيل: إنه أول ما أظهر في سنة بضع وثلاثمائة في خلافة المقتدر، لما حدث في الإسلام حوادث كثيرة، واستطال الكفار والمنافقون على أهل الإسلام في ذلك الوقت.

والأحاديث التي رويت في ليلة المعراج أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: انزل فصلّ، فهذا يثرب، أو فهذا طور موسى، أو قبره، أو هذا قبر الخليل، كلها كذب، قد بين الحفاظ كذبها، وإن كان قد خفي حال بعضها على بعض

ص: 51

العلماء، بل الذي في الصحيح أنه صلى في بيت المقدس بالأنبياء ولم يصل في غيره، ولهذا كانت الصلاة فيه والسفر إليه للصلاة فيه مستحبة.

وقد اتفق المسلمون على ما هو سنة بينهم، أن من حج البيت فإنه /16ب/ يستحب له أن يستلم الحجر الأسود، ويقبله، وأما اليماني فإنه يستلمه، وتنازعوا في تقبيله، فقيل: يقبّله، وقيل: يقبّل يمينه التي استلمه بها، وقيل: لا يقبّله ولا يقبّل يمينه، وهذا أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه واستلم الحجر الأسود، وقبل الحجر، ولم يقبّله، وأما الركنان الشاميان فلم يستلمهما ولم يقبلهما.

ومقام إبراهيم الذي قال الله فيه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] لم يستلمه ولم يقبله، واتفق العلماء على أنه لا يستلم ولا يقبّل، فإذا كان هذا مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى، اقتداءً بإبراهيم خليله، فمقام لم نؤمر (1) أن نصلي فيه، أولى أن لا نستلمه ولا نقبّله، مثل مقامات تضاف إلى إبراهيم، وغيره، بالشام، وغير الشام.

ويقال: في هذا المكان قتل فلان النبي، وبهذا المكان نزل فلان النبي، ونحو ذلك، وتقبّل تلك الأمكنة، وتستلم، وتقصد للصلاة فيها، وهذا لو كان صحيحًا لم يكن أفضل من المواضع التي صلى فيها النبي

(1) في الأصل: (يؤمر) ، والتصويب من المحقق.

ص: 52

صلى الله عليه وسلم، مثل حُجَره التي كان يقيم بها ليلاً ونهارًا، ومثل الغيران الني حلّ بها، كغار ثور، وغار حراء، وغير ذلك من البقاع، فإذا لم يكن الصحابة يقصدون هذه البقاع للدعاء والصلاة؛ فغيرها أولى أن لا يقصد.

وجوانب البيت لا تستلم، ولا تقبّل، وقد طاف ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما، فكان معاوية يستلم الأركان الأربعة، فقال له ابن عباس: إن رسول الله /17أ/ صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له معاوية: ليس من البيت شيء مهجور، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. فسكت معاوية، ووافق ابن عباس لما بين له السنة.

وعلى هذا فقهاء المسلمين قاطبة، فما سوى الكعبة، كالصخرة، وغيرها، لا تستلم، ولا تقبّل، كما لا يطاف بها، وليس في الأرض مكان يطاف به إلا الكعبة، كما أنه لا قبلة إلا الكعبة، مع أن الصخرة كانت قبلة، فمن اتخذها اليوم قبلة فهو كافر، والطّواف بها، وبأمثالها، أعظم من اتخاذها قبلة؛ فإن الطّواف لم يشرع قطّ إلا بالبيت العتيق، ولا حرم يحرم صيده ونباته إلا حرم مكة، وكذلك حرم المدينة عند الجمهور، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة. ووادي وَج بالطائف حرم عند الشافعي، لحديث روي فيه، وأكثر العلماء يقولون: ليس بحرم، وضعف أحمد حديثه، وما

ص: 53

سوى الثلاث ليس بحرم باتفاق المسلمين، لا البيت المقدس، ولا قبور الأنبياء، ولا غير ذلك.

# # #

ص: 54