المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ شرك القائلين بقدم العالم - قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ شرك القائلين بقدم العالم

دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] .

وهذه الأنواع الثلاثة كانت في مشركي العرب وغيرهم، /58أ/ ممن يقر بأن الله خالق السموات والأرض، وأنهما محدثتان، ليستا قديمتين، وأما‌

‌ شرك القائلين بقدم العالم

فهو نوع آخر:

منهم من يعبد الكواكب، ويطلب منها، وتنزل عليه شياطين يقولون: إنها روحانية الكوكب، وهذا الشرك يقع من القائلين بأنها مخلوقة محدثة، ومن القائلين [بعدم](1) حدوثها.

وقوم آخرون يقولون: إنه بنفس توجههم إلى ما يدعونه ويحبونه يحصل مقصودهم، وإن كان ذلك المدعو لا يعرف أن هذا دعاه ولا توجه إليه، وهذا قول المتفلسفة كابن سينا، وصاحب الكتب المضنون (2) بها، ونحوهم، ويقولون: إذا توجه الإنسان إلى ما يتوجه إليه من أرواح الموتى فإنه يفيض عليه ما يفيض من غير علم من ذلك الشفيع، وشبهوا ذلك بشعاع الشمس، فإنه يظهر في المرآة، ثم ينعكس على ما يقابلها من حائط، أو ماءٍ، من غير شعور من المرآة.

وذلك أن هؤلاء عندهم أن الله لا يعلم الجزئيات، ولا يحدث في العالم شيئًا، وعندهم تأثير دعاء بني آدم كله من هذا الباب، وهو أن الداعي إذا جمع همّه، وتوجه نحو ما يدعوه؛ قويت نفسه حتى حصل بها المطلوب من غير أن يكون الله علم بذلك، والمؤثر عندهم /58ب/ هو النفس، فالنفس الفلكية عندهم هي الحركة للفلك، وجميع الحوادث عنها،

(1) إضافة من المحقق.

(2)

في الأصل: (المصنفون) ، والتصويب من المحقق.

ص: 136

والنفس الإنسانية هي المؤثرة في خوارق الأنبياء، والسحرة، وغيرهم، وما يحصل بالدعاء، والشفاعة، هو عندهم من تأثير نفس الداعي المستشفع، لكن بتوجهها إلى ذلك حصل لها قوة، ثم قد يفيض عليها ما (1) يفيض، إما من نفس المستشفع به، وإما من غيره.

ولهذا يأمر مثل هؤلاء أن يجمع الإنسان همّته على أي شيء كان، ويقولون: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به، وقد يأمرون بالعشق ليجتمع قلب العاشق على شيء، وإن كان ذلك المعشوق لا ينفع، ولا يضر، وكذلك يعبدون ما لا ينفع، ولا يضر، فمقصودهم جمع الهمّة على شيء، حتى تثبت النفس، ويزول تفرقها، وتشتتها، وهذا كما يرصد أصحاب البرابي (2) صورة من الصور مدة، وكذلك غيرهم من عبّاد الأصنام، فإذا اجتمعت الهمّة على ذلك الشيء، وتفرغ القلب لما يلقى فيه، تمكن منه الشيطان، فألقى في قلوبهم ما يلقيه، وتمثل لهم، وقضى بعض حوائجهم، والمتفلسفة الذين لا يعرفون الجنّ، يقولون: هذا كله من /59أ/ قوى النفس.

ولكن جمهور الناس الذين قد عرفوا حقيقة الأمر، يعرفون أن الشياطين تفعل من ذلك ما لا تفعل النفس، وهؤلاء قد يذكرون الله، ومقصودهم بذكرهم جمع قلوبهم، وتفريغها لما يرد عليها، فليس مقصودهم عبادته تبارك وتعالى.

وهذا موجود في كثير من أهل زماننا، كما كان بعض الناس يقول لمريديه: توجه إلى قلبك وقل: لا إله إلا الله، وليس المقصود الذكر، إنما المقصود أن يجتمع قلبك، فإذا اجتمع قلبه تنزلت عليه الشياطين، فيخيل إليه أنه صعد إلى السماء، وألوان أخر، ويقول أحدهم: حصل لك ما لم يحصل لموسى بن عمران، ولا لمحمد ليلة المعراج، وشخص

(1) غيرت في المطبوع إلى: (لما) .

(2)

لم يظهر للمحقق معناها فغيرها إلى: (البر أي) ! قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» ج1/ص362: (البرابي، بالفتح وبعد الألف باء أخرى، وهو جمع بربا؛ كلمة قبطية، وأظنه اسمًا لموضع العبادة أو البناء المحكم أو موضع السحر) ثم ذكر قصة بناء البرابي كما تروى في كتب التاريخ، ثم قال:(وبيوت هذه البرابي في عدة مواضع من صعيد مصر في إخميم وأنصنا وغيرهما باقية إلى الآن، والصور الثابتة في الحجارة موجودة)، ووصفها في موضع آخر فقال ج1/ص124:(وهو بناء مسقّف بسقف واحد، وهو عظيم السعة مفرطها، وفيه طاقات ومداخل، وفي جدرانه صور كثيرة؛ منها صور الآدميين، وحيوان مختلف منه ما يعرف ومنه ما لا يعرف، وفي تلك الصور صورة رجل لم ير أعظم منه ولا أبهى ولا أنبل، وفيها كتابات كثيرة لا يعلم أحد المراد بها ولا يدرى ما هي والله أعلم بها) . اهـ. وانظر «الرد على البكري» لابن تيمية (ط. دار الوطن) ص506.

ص: 137

آخر من كبارهم كان يقول: لا فرق بين قولك: يا حجر يا حجر، وبين قولك: يا حي يا قيوم، يعني أن المقصود بكليهما (1) جمع الهمّة، فهذا وأمثاله من أسرار هؤلاء المشركين.

ومن هؤلاء من يدعو بعض الكواكب، أو بعض الموتى من الأنبياء، والصالحين، أو بعض الملائكة، أو بعض الأوثان، فيرى صورًا، إما صورة بشر، وإما غير صورة بشر، فإنهم يرون أنواعًا من الصور تخاطبهم، وتقضي بعض حوائجهم، فيقولون: هذه روحانية الكوكب، أو سر الشيخ، أو رفيقته، أو نحو ذلك، وإنما ذلك شيطان يضلهم كما /59ب/ كانت الشياطين تضل عبّاد الأوثان، وإلى اليوم، وكانت الشياطين تكلمهم أحيانًا من الأصنام، وأحيانًا يرونها، قال ابن عباس رضي الله عنه: في كل صنم شيطان يتراءى (2) للسدنة فيتكلمون. وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: مع كل صنم جنيّة.

وهذا باب واسع، وكل من كان به أعرف، إذا عرف ما جاءت به الرسل، وعرف ما في القرآن من التوحيد العظيم، والعناية العظيمة بذلك، ومذمة الشرك على اختلاف أنواعه؛ عرف بعض قدر ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتبين له كثرة الشرك في بني آدم، الذين لا يعرفون، بل يظنون أن العرب كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها شاركت الله في الخلق، وهذا من غاية الجهل والكذب بمن يظنه بهم، وذلك لأن الشرك الذي كانوا فيه قد وقع هو وأمثاله في نوع منه، وهو لا يعرف أنه الشرك، يعتقد أن التوحيد هو الإقرار بأن الله خالق كل شيء، لم يشاركه في الخلق أحد، فهذا عنده

(1) في الأصل: (بكلاهما) ، والتصويب من المحقق.

(2)

في الأصل: (يترايا) ، والتصويب من المحقق.

ص: 138

غاية التوحيد، كما تجد ذلك في كلام كثير من الناس من متكلميهم، وعبّادهم، فإذا رأى هذا هو التوحيد؛ كان الشرك عنده ما يناقض ذلك.

وقد علم بالتواتر، وإجماع المسلمين، ونص القرآن،: أن العرب كانوا مشركين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك، وكان هذا من /60أ/ أعظم أسباب معاداتهم له، ولمن آمن به، فيظن هذا الذي لم يعرف حقيقة الأمر، أن ذلك الشرك، أنهم جعلوا آلهتهم شركاء لله في خلق السموات والأرض، وإنزال المطر، وخلق النبات، ونحو ذلك.

ولو كان هذا يفهم القرآن، ويعرف ما كانت عليه العرب، ويعرف التوحيد، والشرك؛ لتبين له أن ما يقرُّ به من التوحيد كان المشركون (1) يقرّون به أيضًا، وهم مع هذا مشركون؛ حيث أحبّوا غير الله كما يحبّون الله، وحيث دعوا غير الله، وجعلوه شفيعًا لهم، وحيث عبدوا غير الله يتقربون بعبادته إلى الله، فهذا وأمثاله كان شركهم، مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء، وأنه لا خالق غيره، ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

فمعرفة المسلم بدين الجاهلية هو مما يعرفه بدين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ويعرف الفرق بين دين المسلمين الحنفاء أهل التوحيد والإخلاص، أتباع الأنبياء، ودين (2) غيرهم، ومن لم يميّز بين هذا وهذا فهو في جاهلية، وضلال، وشرك، وجهل، ولهذا ينكر هؤلاء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من [إخلاص](3) الدين لله، إذ ليست لهم به خبرة من جهة النقل، ولا لهم فهم في القرآن، يعرفون به

(1) في الأصل: (المشركين) ، والتصويب من المحقق.

(2)

في الأصل: (ومن دين) ، والتعديل من المحقق.

(3)

إضافة من المحقق.

ص: 139

/60ب/ توحيد القرآن، ولا لهم معرفة بحقيقة الإيمان والتوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فليس لهم علم لا بالقرآن، ولا بالإيمان، ولا بأحوال الناس، وما نقل من أخبارهم، ومعرفة هذا من أهم الأمور، وأنفعها، وأوجبها، وهذه جملة لها بسط، مضمونها: معرفة ما بعث الله به الرسول، وما جاء به الكتاب والسنة.

وهؤلاء المشركون على اختلاف أصنافهم، كلّهم عاقبتهم عاقبة سوء في الدنيا والآخرة، فإن الشياطين مقصودهم إضلالهم، وإغواؤهم، فيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم، ويخبرونهم بأكاذيب كما يفعلون بالسحرة والكهان، ولهذا يقترنون بأهل الكذب، والفجور، قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (1) • تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222] .

ودعواهم أن النفس هي المؤثرة، دعوى باطلة، فتضعف أنفسهم في آخر الأمر، ويتبين (لهم)(2) عجزها عن التأثير، وهم لم يعبدوا الله وحده، بل علقوا أنفسهم بغيره، و {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ • إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ • وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ /61أ/ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41-43] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ (3) آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا • كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81-82] .

وكل من كان أعظم علمًا، وإيمانًا؛ كان أقوم بالتوحيد، وأتبع

(1) في الأصل: (الشيطان) .

(2)

سقطت من المطبوع.

(3)

في الأصل: (الرحمن) .

ص: 140

للسنة، وأبعد عن الشرك، والبدعة، فإن التوحيد، والسنة، هو الإسلام، وهو حقيقة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فالشهادة الأولى تحقيق التوحيد، والشهادة الثانية تحقيق الرسالة، التي توجب اتباع شريعته، وأن نعبد الله بما أمر به، وشرعه، دون ما نهى عنه، أو لم يشرعه، قال أبو العالية في قوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ • عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93] قال: هما خلتان يُسأل عنهما كل أحد (1) : ماذا (2) كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم الرسل؟

ولهذا كان الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، قائمين بهاتين الشهادتين، لم نجد أحدًا منهم يأمر بدعاء أهل القبور، ولا بالسفر إليهم، بل هم كما قال الله:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] .

والصلاة هي دعاء الله، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فإذا قُصد صاحب القبر، لأن يدعى، دعاء عبادة أو دعاء مسألة؛ فقد صارت الصلاة له، وإذا قصد السفر إليه؛ فقد جعل النسك له.

ولهم حديث مشهور بينهم سألني عنه /61ب/ غير واحدٍ من أعيان الشيوخ وكبراء الناس، فكانوا يعتمدون عليه، وهو قوله: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وقد بينتُ لمن سألني عنه مرة بعد مرة، أن هذا كذب منكر، ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة في

(1) في المطبوع: (واحد) . وقد كتبها ناسخ الأصل أولاً: (واحد) ، ثم مسح الواو.

(2)

في الأصل: (لماذا) ، والتصويب من المحقق.

ص: 141

الحديث، ولا ذكره أحدٌ من علماء الإسلام، ولا إمام من أئمة المسلمين، وإنما هذا الحديث من الأكاذيب التي وضعت ليقام (1) بها دين أهل الشرك، كما يقولون: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به. وإنما يحسن الظن بالأحجار المشركون الذين قال الله فيهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وقال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] .

فهؤلاء يجعلون ما يجعلونه من صلاتهم، ونسكهم، لغير الله رب العالمين، وإن كانوا أيضًا قد يصلون، وينسكون لله، فهم يشركون، كما يوجد كثير من الداخلين في الإسلام من يصلي الصلوات الخمس وعنده صنم يعبده، وطائفة من المنتسبين إلى العلم، والعبادة، يصلون الخمس مع المسلمين، ثم يصعد أحدهم فيدعو بعض الكواكب، إما عطارد، وإما الزهرة، وإما غيرهما.

وهؤلاء الضُّلَاّل هم الذين إذا ذُكر النهي عن دعاء أهل القبور، والحج إليهم؛ تراهم (2) ينكرون، وقد يجعلون هذا قدحًا، وسبًّا (3) ، /62أ/ وتنقصًا بالصالحين، وبالأنبياء، لكن ليس معهم حجة شرعية بالأمر بالسفر إلى هؤلاء، فيسكتون على غيظ، فإذا ذُكر هذا النهي عامًّا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، وبُيِّن أن السنة أن يسافر إلى مسجده للصلاة فيه، ويسلم عليه، وغيره ليس عنده مسجد يسافر إليه، فلهذا كان السفر إلى مدينته مأمورًا به؛ أخذوا يصدّون، ويشنّعون، ويقولون: هذا سبّ للنبي

(1) في الأصل: (يقام) ، والتصويب من المحقق.

(2)

في الأصل: (يراهم) ، والتصويب من المحقق.

(3)

غيرت في المطبوع إلى: (عيبًا) .

ص: 142

صلى الله عليه وسلم، وتنقص له، ويسعون في عقوبة من نهى عن ذلك، بما يمكنهم من قتل، وغيره، وليس معهم علم مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، ولا إيمان بحقيقة ما جاء به الرسول، بل يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا، وما ليس لهم به علم، وما للظالمين من نصير.

وهم بين جاهل، أو متبع لهواه، أو جامع بين الأمرين، وكثير منهم ليس قصده تعظيم الرسول، بل تعظيم ما يدعو إليه من الشرك بشيوخه، وغير شيوخه، ولكن جعل الرسول عمدة له يحتج به في الظاهر، وهو في الباطن لا يوجب تصديق الرسول في كل ما أحبه، وطاعته في كل ما أوجب وأمر به، بل قد يوالي أعداءه، ويُحَسِّنُ حالهم، مع ظهور مخالفتهم للرسول، وقد يُجَوِّزُ أن /62ب/ يكون للأولياء وغيرهم إلى الله طريق غير اتباع الرسول.

وفيهم من يجعل متابعة الرسول للعامة، وأما الذين هم عنده خاصة فأولئك يأخذون عن الله بلا واسطة الرسول، فلا يحتاجون إليه، وفيهم من يصرّح بأن شيوخه، وطريقهم، أفضل من متابعة الرسول، ومنهم من (1) يقول: إن أهل الصُّفَّة كانوا أفضل من الرسول، وإن الرسول كان يزورهم لبركتهم، وإنهم لم يأذنوا له، وقالوا له: اذهب إلى من أرسلت إليه، حتى اشتكى إلى ربه، فقال: اذهب إليهم بأدبٍ (2) ، فلما أتى قبلوه!

وكثير منهم يرى قتال الرسول، ويرون أن أهل الصفة قاتلوه لما انهزم أصحابه يوم أحد، أو يوم حنين، وأنهم تحيّزوا إلى الكفّار، فقال لهم: تدعوني، وتذهبون؟! فقالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنّا معه!

(1) في المطبوع زيادة: (كان) ، وكان ناسخ الأصل قد كتبها أولاً ثم ضرب عليها.

(2)

غيرت في المطبوع إلى: (بإذن) .

ص: 143

إلى أمثال هذه الكفريّات، وأمثالها.

وكل ما ذكرته فقد شافهني به غير واحدٍ من هؤلاء، منهم من كان يعتقده، ومنهم من أخبر به عن شيوخه، حتى إنه كان من أعيان شيوخهم من سألني مرّةً عن هذا، فقلت له: هذا كفر، لم يكن أحد من الصحابة يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان المتخلف عن الجهاد المتعين مذمومًا، بل منافقًا، كالذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال لي: /63أ/ فقد يكون جائزًا في بعض المذاهب الأربعة، وأنت لم تعرفها كلها. فقلت له: ويحك! هذا لا يتعلق بالمذاهب، بل هذا يعرفه كل من يعرف الرسول وأصحابه، وأهل (1) المذاهب الأربعة وسائر المسلمين عندهم أن من قال هذا فإنه كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

ومن هؤلاء من يكون متفلسفًا، معظمًا في الباطن لمن يخالف الأنبياء من الفلاسفة، ويكون على رأي الملاحدة الباطنية، يعاونهم تارة، ويعاون الكفار المشركين (2) المظهرين للشرك تارة، فهو عون للكفار، أو المنافقين.

وهؤلاء قد يفضلون زيارة القبور، والاستشفاع بهم، على الحج؛ لأنه عندهم إذا زار القبر، وتوجه إلى الميت، فاض عليه من روحه كما ذكروا ذلك في الشفاعة، وأما الحج فعندهم أن الله لا يسمع دعاء الحجاج، ولا يعلم بأشخاصهم، وجزئياتهم، إذا كان يعلم الكليات دون الجزئيات، ومنهم من يقول: إنه لا يقوم به علم لا بالكليات ولا بالجزئيات، بل العلم عنده نفس المعلومات.

وهؤلاء يعتقدون في الشريعة أنها سياسة للعامة، وأن ما أخبر به الرسول من أنباء الغيب عن الله، وعن اليوم الآخر، فإنما هو تخييل قصد به نفع العامة، من غير أن يكون ذلك مطابقًا للأمر، وهؤلاء عندهم /63ب/ أنه لا

(1) غيرت في المطبوع إلى: (من أهل) .

(2)

غيرت في المطبوع إلى: (والمشركين) .

ص: 144

يستفاد من خبر الله ورسوله عن الغيب علم، وهؤلاء باطنية الشيعة الإمامية، وأولئك أيضًا لهم غلو في أهل المقابر، والصلاة لهم، والحج إليهم، ويتظاهرون بأن الحج إلى مشهد علي، أو غيره، هو الحج الأكبر، وينادون علانية إذا سافروا إلى هذه الزيارة: إلى الحج الأكبر.

وهؤلاء وأمثالهم كما وصف الله المشركين، وأشباههم، يجعلون قبر النبي صلى الله عليه وسلم: ترسًا، ويطلقون القول به مجملاً، ولا يختارون التفصيل بين الزيارة الشرعية، والبدعية؛ فإنه بالتفصيل يظهر ضلالهم، وشركهم، وكذبهم، فيظهرون ألفاظًا مجملةً، وينكرون التفصيل الفارق بين الزيارة الشرعية، والبدعية، ولكن يكذبون فيما يضيفونه إلى الناهي عن الزيارة البدعية، فيضيفون إليه أنه منهي مطلقًا عن هذا الجنس، حتى يروج بذلك تلبيسهم، وهذا من مشابهة أهل الكتاب، قال تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} إلى قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 40-42] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ • يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ (1) الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70-71] .

/64أ/ ومن استقرأ أحوال الناس رأى أن عامة من ينتصر للبدع مظهرًا أنه ينصر الرسول، هو بالعكس، ليس له في نصر (2) الله، ورسوله، والجهاد في سبيله، سعي مشكور، ولا مقام مذكور، بل هم معرضون عن الجهاد المأمور به، وعن نصر (3) كتاب الله، ودينه، ورسوله، وكثير منهم هو محاد لله ورسوله، يكذب بما أخبر به الرسول، وينفي ما أثبته، ويثبت ما نفاه، ويأمر بما نهى عنه، وينهى عما أمر به.

(1) في الأصل: (ويكتموا) .

(2)

غيرت في المطبوع إلى: (نصرة) .

(3)

غيرت في المطبوع إلى: (نصرة) .

ص: 145

وكثير منهم، أو أكثرهم، يفعل ذلك ضلالاً، وجهلاً، وظنًّا أنه على الحق، كمن يرى أن المتفلسفة هم الذين حققوا العلم الإلهي بالبرهان، وأن ما جاء به الرسول إنما هو تخييل لنفع العامة، أو يرى أن ما يقوله النفاة والجهمية من نفي الصفات، هو الحق الذي تقوم عليه الأدلة العقلية، بخلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، فإنه ليس فيه الحق الذي تقوم عليه الأدلة العقلية، ثم قد يقولون: إن الرسول قصد به معاني، ولم يقصد به (1) ما دلت عليه، ولم يقصد بهذا الخطاب البيان للناس، وإنما قصد أنهم إذا رأوه مخالفًا للعقل عرفوا الله بطريق العقل، ثم استخرجوا لهذا الخطاب أنواع التأويلات، وقد يقولون: إن الرسول لم يكن يعلم معاني ما أنزل عليه، وما خاطب به الخلق من القرآن، والحديث، الذي ذكر فيه هذه الصفات.

/64ب/ وكمن يرى أن الشيوخ الذين (2) يعظمهم هو، ويجعلهم أهل المعرفة، والتحقيق، وأعلى أولياء الله، وصل إليهم من جهة الله بلا واسطة ما لا يصل إلى الرسول، فمعرفة مقاصدهم، وعلومهم، هي أفضل عندهم من معرفة معاني الكتاب والسنة.

وفيهم طوائف يستحلون الفواحش، وقتل النفوس التي تخالفهم، والشرك بالله، إلى أمثال هذه الأمور، وأصحابها يظنون أنهم على حق، كالنصارى، وأمثالهم من أهل الضلال، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ • قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ • فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا

(1) في الأصل زيادة: (غير) ، وقد حذفها المحقق ليستقيم المعنى.

(2)

في الأصل: (الذي) ، والتعديل من المحقق.

ص: 146

حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 28-30] .

وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي: عن الذكر الذي أنزله، وهو القرآن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ • وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ • حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ • وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 36-39] .

ومن هؤلاء من يعظّم متبوعه عن أن يكون مطيعًا للرسول، متبعًا له، ويعظّم بعض المخلوقين /65أ/ من نبي، أو غيره، أن يكون عبدًا لله، فإذا ذكر عن المخلوق ما يستحقه من العبودية قالوا: هذا شتمه، كما تقوله النصارى لمن قال: إن المسيح عبد (1)، يقولون: هذا قد سب المسيح، وتنقصه، وشتمه.

وقد ذكر أهل التفسير أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ بُعِثْتَ بِشَتْمِ الْمَسِيحِ، تَقُولُ: هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ (2)، وَلَيِسَ بِعَبْدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لَيْسَ بِعَارٍ بِعِيسَى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا • لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} أي: لم يأنف ولن يتعظم (3) {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا • فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

(1) في الأصل: (عبدًا) ، والتصويب من المحقق.

(2)

غير في المطبوع إلى: (الله) .

(3)

غيرت في المطبوع إلى: (يتعاظم) .

ص: 147