المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تزار سائر القبور - قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق

[ابن تيمية]

الفصل: ‌لا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تزار سائر القبور

لا يحصل بدون ذلك من غير مفسدة فيه، كالصلاة على جنازته، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحصل له بزيارتنا فائدة، بل ولا تمكن زيارة قبره، فإنه دُفن في بيته، وحجب قبره عن الناس، وحيل بين الزائر وبين قبره، ف‌

‌لا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تُزار سائر القبور

، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده، ومسجده مبني قبل القبر، والعبادة فيه عبادة لله في بيته، ليس ذلك زيارة للقبر.

ولهذا لم ينقل عن أحدٍ من السلف أنه تكلم بزيارة قبره فإن ذلك غير ممكن، ولهذا كرهها من كرهها؛ لأن مسماها باطل، وإنما الممكن الصلاة والسلام عليه في مسجده، وذلك مشروع في جميع البقاع، ليس هو من زيارة القبور، فأما إذا صلينا عليه، وسلمنا عليه في مسجده وغيره من المساجد، لم نكن (1) زرنا قبره. (2)

ولكن كثير من المتأخرين صاروا يسمون الدخول إلى مسجده مع السلام عليه عند الحجرة: زيارة لقبره، وهذه تسمية (3) مبتدعة في الإسلام، ومخالفة للشرع، والعقل، واللغة، لكن قد شاعت، وصارت اصطلاحًا لكثير من العلماء، وصار منهم من يقول: زيارة قبره مستحبة بالإجماع، والزيارة /23أ/ المستحبة بالإجماع هي الوصول إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه فيه، وسؤال الوسيلة (له)(4) ونحو ذلك، فهذا مشروع بالإجماع في مسجده، فهذه هي الزيارة لقبره المشروعة بالإجماع، فالمعنى المجمع عليه حق، ولكن تسمية ذلك زيارة لقبره هو محل النزاع.

وكذلك تنازعوا: هل يستقبل الحجرة أو يستقبل القبلة؟ كما (قد)(5) ذكر في موضعه. فإنا مأمورون بالصلاة والسلام عليه وسؤال الوسيلة له في كل مكان، وذلك يحصل به أعظم من مقصود الزيار لقبره، لو كانت ممكنة، مع أنها مظنة اتخاذ قبره مسجدًا، وعيدًا، ولما كانت مظنة اتخاذ قبره عيدًا

(1) في الأصل: (يكن) ، والتصوبب من المحقق.

(2)

(هناك كلمة في هامش الأصل لم تظهر كاملة في المصورة.

(3)

تغيرت في المطبوع إلى: (التسمية) .

(4)

سقطت من المطبوع.

(5)

سقطت من المطبوع.

ص: 66

ومسجدًا؛ حجب قبره عن الناس، ومنعوا من هذه الزيارة، فما بقي يمكن أن يتخذ قبره لا مسجدًا، ولا وثنًا، ولا عيدًا، فلما كان الخير الذي يقصد بزيارة القبور، والمصلحة، يحصل بالصلاة والسلام عليه، وطلب الوسيلة له، في أي مكان، أفضل مما يحصل عند القبور؛ لم يكن في الزيارة فائدة تخصّ بها، وفيها مفسدة، وهو كونها ذريعة إلى الشرك، فلهذا فرّق بنيه وبين غيره، كما نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن اتخاذ قبره عيدًا، مع أن المساجد يعبد الله فيها، لكن إذا كانت على القبور كانت مظنة الشرك.

والصلاة والسلام عليه عند قبره حسن، لكن لو تمكن الناس من ذلك اتخذوه عيدًا، وصاروا ينتابونه بجماعاتهم (1) في أوقات كالأعياد، /23ب/ وأفضى ذلك إلى الشرك، فلهذا نهى عنه، ولما نهى عنه منع أصحابه الناس من ذلك، فما بقي أحد يمكنه أن يزور قبره، كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن دخول مسجده، وهذا هو الذي يعنيه الناس بزيارة قبره، وهي تسمية غير مطابقة.

وهذا من أحسن ما يعلل به كراهة من كره أن يقال: زرت قبره، فإن الزيارة المعروفة للقبور هي في قبره مما ليس بمقدور، ولا مأمور، بل قد فرّق الله بين قبره وبين سائر القبور من جهة المأمور به، ومن جهة المنهي عنه، فقبره عنده مسجده المؤسس على التقوى، الذي شرع للناس السفر إليه، وغيره ليس عند قبره مسجد يسافر إليه، بل قد يكون عنده مسجد ينهى عنه. وأما النهي: فقبره لا يمكن أحدًا أن يفعل عنده منكرًا، بل ولا يصل إليه، بخلاف قبر غيره.

وقد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكره ذلك

(1) غيرت في المطبوع إلى: (بجماعتهم) .

ص: 67

في حق غيره، وقد علل ذلك بأنواع من العلل، منها:(تعذر)(1) ذلك في قبره، ومنها: أن في (2) إطلاق هذا اللفظ عليه إجمالاً يتناول الزيارة البدعية، زيارة أهل الشرك، الذين يزورون القبور للسجود لها، ودعاء أهلها، واتخاذها أوثانًا من دون الله، واتخاذها مساجد، وما هو أعظم من اتخاذها مساجد.

وكثير من الناس لا يقصد بزيارة قبور الأنبياء والصالحين إلا مقاصد أهل الشرك، الذين (3) يجعلونهم أوثانًا، وأندادًا لله، وهم شر من الذين اتخذوها مساجد، فإن أولئك يقصدون /24أ/ أن يصلوا فيها لله، ويدعون الله، وهؤلاء إنما يقصدون دعاءهم، والحج إليهم، فيجعلون صلاتهم، ونسكهم، للمخلوق، لا للخالق. يقصد أحدهم في زيارة قبر من يعظمه ما يقصده الحاج في الحج إلى بيت الله، وما يقصده المصلي الذي يقصد مساجد الله، فالحاج والمصلي مسلم حنيف متبع لملة إبراهيم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ • قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ • لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 161-163] .

فالمسلم صلاته ونسكه لله، والمشرك يصلي لغير الله، وينسك لغير الله، ويدعو المخلوق، ويستغيث به، ويتضرع إليه، كما يفعل بالخالق، ويحج إلى قبره، كما يحج إلى بيت الخالق، ويسمون ذلك نسكًا، ويصنفون كتبًا يسمونها: مناسك حج المشاهد، كما صنّف محمد بن

(1) غيرت في المطبوع إلى: (بعدم ورود) ، بسبب خطأ في قراءة الكلمة.

(2)

في المطبوع: (يتوقى في) . و (يتوقى) قد ضرب عليها ناسخ الأصل، وأظن أن الناسخ قصد الضرب عليها وعلى (في) أيضًا؛ فالعبارة مرتبكة بإثباتها، والأولى حذفها. والله أعلم.

(3)

في الأصل: (الذي) ، والتصويب من المحقق.

ص: 68

النعمان الملقب بالمفيد، وغيره، مناسك حج المشاهد، ومنهم من يفضل الحج إلى بيوت المخلوقين على الحج إلى بيت الخالق، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وحج البيت هو الحج الأصغر، ومن الناس من يقول: وحق النبي الذي تحج المطايا إليه، فيجعلون الحج إلى المخلوق.

ولمّا كان السفر إلى المساجد الثلاثة مشروعًا، والمسجدان الأفضلان في الحرمين: الحرم المكي، والحرم المدني؛ صار الناس يقولون لمن حج إلى بيت الله: فلان حج الحرمين، فإن السفر المشروع إلى المدينة من جنس الحج /24ب/ المشروع، لكنه مستحب، والمنهي عنه من جنس الحج المنهي عنه، وهذا موجود في المنتسبين إلى السُّنّة والشّيعة، ومنهم من يقال له: أتبيع زيارتك لشيخك بحجة، أو ثنتين أو ثلاثة، أو عشر حجج؟ فيقول: لا، ويعتقد أن زيارة شيخه مرة أفضل من عشر حجج.

ومنهم من يحج فيأتي إلى المدينة، ثم يرجع ولا يذهب إلى مكة، ويقول: حصل مقصودي من الحج، ومنهم من إذا سافر إلى مكان يضاف إلى نبي، كالمكان المضاف إلى يوسف بمصر، يُحْرِم إذا ذهب إليه كما يحرم الحاج، ومنهم من يستقبل قبر شيخه إذا صلى، ويستدبر الكعبة، ويقول: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا موجود في كثير من أعيان العباد والزُّهاد وممن له قصد وعلم.

وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له،

ص: 69

ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس، فيسجدون لهذا الميت ولا يسجدون للخالق، وقد يكون ذلك الميت ممن يظن به الخير، وليس كذلك، كما يوجد مثل هذا في مصر، والشام، والعراق، وغير ذلك.

ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني، ونحو ذلك /25أ/ كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يعذرون (1) بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر من لم يبعث إليه رسول، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين، قال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وفي الحديث: «إِنَّ الشِّرْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» .

والذين يؤمنون بالرسول، إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسول، وتبين أنه مشرك، فإنه يتوب إلى الله، ويجدد إسلامه، فيسلم إسلامًا يتوب فيه من هذا الشرك، ولم يكن في الصحابة والتابعين من يقصد زيارة أحد لأجل هذا، لا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره، ولا كان أحدٌ منهم بعد السلام على

(1) غيرت في المطبوع إلى: (معذورين) .

ص: 70

النبي صلى الله عليه وسلم يقف يدعو لنفسه ولغيره، بل ولا كانوا يطيلون القيام عنده للدعاء له، بل كما كان ابن عمر يسلم وينصرف، يقول: /25ب/ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت (1) ، ثم ينصرف، ولما حدث قوم يطيلون القيام يدعون للنبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا: هذا بدعة لم يفعلها السلف، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

وكان الصحابة إذا أرادوا أن يدعوا، دعوا في المسجد، واستقبلوا القبلة، ودعوا الله في بيته، لا يستقبل أحدهم القبر ويدعو، هذا وهم يدعون الله تعالى وحده، وأما دعاء الرسول، أو طلب الحوائج منه، فهذا لم تكن الصحابة تعرفه البتة، وقد أصابهم ضرورات في الدين والدنيا، مثل الجدب الذي أصابهم عام الرمادة، وغيره، ومثل الخوف الذي كان يصيبهم في قتال الكفار، فيخافون أن ينتصر الكفار على المؤمنين، ومثل الذُّنوب التي يصيبها من يصيبها منهم.

ولا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته حاجة، لا زوال الجدب، ولا النصر على العدو، ولا غفران الذنوب، لا يطلبه منه، ولا يشكيه إليه، ولا يقول: ادع الله لنا، /26أ/ بل قد ثبت في الصحيح: أنهم عام الرمادة لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا. فيسقون.

(1) في الأصل: (يا أبه) .

ص: 71

وكانوا في حياته إذا أجدبوا؛ توسلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم، توسلوا بدعائه، وطلبوا منه أن يستسقي لهم، كما في الصحيح عن ابن عمر قال: رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ

وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي عَلَى الْمِنْبَرِ، فَمَا نَزَلَ حَتَّى يَجِيشَ لَهُ مِيزَابٌ.

وفي الصحيحين عن أنس قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ (1)[فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» ، وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ. فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ، فَمُطِروا أُسْبُوعًا لَا يَرَوْنَ فِيهِ الشَّمْسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: انْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَتَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ» . فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَنْجَابُ الثَّوْبُ](2) .

/26ب/ فكانوا في حياته يتوسلون بدعائه، ويستسقون به، فلما مات توسلوا

(1) في المطبوع استبدل المحقق كلمة (أعرابي) بكلمة (رجل) لتوافق الرواية التي اختارها من «صحيح البخاري» .

(2)

في الأصل ابتدأ الحديث بـ: (جاء أعرابي) ، ثم بعده بياض كبير إلى آخر الورقة. وقد أكمله محقق المطبوع من أحد روايات البخاري في «صحيحه» لهذا الحديث، ولكني رأيت أن الأولى إكماله من رواية شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه لهذا الحديث في كتاب «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة» ص269.

ص: 72

بدعاء العبّاس، واستسقوا به؛ لكونه عمّه.

وكذلك الحديث الذي رواه الترمذي، والنّسائي، وابن ماجه، وغيرهم، عن عثمان بن حنيف: أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ (1) أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قَالَ: فَادْعُهُ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَحْمَةِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فهذا طلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ليرد الله عليه بصره، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو هو أيضًا ويسأل أن يقبل الله شفاعة نبيه فيه، وقوله:«أتوجه إليك بنبيك» أي: شفاعة نبيك بدعائه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم شافعًا له، وهو سائل قبول شفاعة الرسول، فهذا كان توسل الصحابة به في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، كدعاء العبّاس، وكما استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي.

/27أ/ ولم يكونوا في الاستسقاء وغيره بعد موته يقولون: اللهم إنا

(1) أضاف المحقق هنا كلمة: (لي) ، وليست في الأصل.

ص: 73

نستشفع، أو نتوسل، أو نتوجه؛ لأنه لن (1) يشفع لهم في ذلك، وإنما يتوسل، ويستشفع ويتوجه به، فيما (2) كان شفيعًا فيه صلى الله عليه وسلم، ولا طلبوا منه بعد موته أن يشفع لهم، ويدعو لهم، كما تفعله النّصارى، فيطلبون الشفاعة من الموتى، الأنبياء وغيرهم، فإن الميت قد انقطع عنه التكليف، ليس هو كالحي الذي يطلب منه ما هو مأمور به من عبادة وطاعة ونفع الغير، فإن الحي إذا طلب منه أن يعين غيره بدعاء، أو شفاعة، أو نفع، أو صدقة، فقد طلب منه ما يأمره الله به من الإحسان، والميت ليس مأمورًا بشيء أمر تكليف؛ لانقطاع التكليف بالموت، بل هو بمنزلة أهل الجنة، والملائكة، يفعل ما أريد منه، فما أراده الله منه حصل، سواء طلب ذلك منه الحي أو لم يطلبه، وما لم يرده منه لم يحصل، فليس في سؤال الحي للميت فائدة للحي، ولا للميت، بل فيه شرك بالميت، وإيذاء له، فإن دعاءه يؤذيه، وليس فيه فائدة للحي، بل فيه ظلمه لنفسه، وشركه بربه، وإيذاؤه للميت، ففيه أنواع الظلم الثلاثة.

وهؤلاء الذين يزورون زيارة أهل الشرك والبدع، /27ب/ هم الذين يسافرون إلى قبورهم لذلك، وهو حج لهم، والله سبحانه يحرّم أن يحج إلى بيت غيره. ولا يحجّ إلى جميع بيوته، بل لا يسافر إلا إلى ثلاثة مساجد، والسفر إلى المسجد الحرام للحج (3) واجب، [وإلى](4) كل واحد من الثلاثة

(1) في الأصل: (لم) ، والتصويب من المحقق.

(2)

في الأصل: (فما) ، والتصويب من المحقق.

(3)

في الأصل: (حج) ، والتصويب من المحقق.

(4)

إضافة من المحقق، وليست في الأصل.

ص: 74

سفر إلى بيت الله الذي بناه نبي من أنبيائه، لعبادته، ودعائه.

فهؤلاء إذا زاروا القبور هذه الزيارة المحرمة، فهم منهيون عن ذلك من القرب ومن البعد.

وأما الذين يزورون زيارة شرعية؛ للسلام على أهلها، والدعاء لهم، فهذا هو الذي يفرق فيه بين القريب والبعيد، وهذا قليل جدًّا أن يقصد بالسّفر مجرد السّلام، والدُّعاء للميت.

وقد يأتي الرّجل القبر محبّة وشوقًا لا لقصد سلام، ولا دعاء لله، ولا لقصد دعائه (1)، فهذا يقال له: إذا صليت وسلّمت حيث كنت؛ وصل صلاتك وسلامك، وكان ذلك أنفع لك عند الله، وأحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحب من (2) يصلّي عليه، ويسلّم عليه، ويسأل الله له الوسيلة، وهو لا يحبّ من يخالف أمره، ويفعل ما نهاه عنه، ويتّخذ قبره عيدًا، ويسافر إليه، كما يسافر إلى بيوت الله الثلاثة، ويطلب منه ما يطلب من الله، ويؤذيه بسؤاله، ورفع صوته.

بل لو كان حيًّا مأمورًا بأن يعطي السائل؛ لكان من لا يسأله أحبّ إليه، /28أ/ ولكان سؤاله منهيًّا عنه، إلا لأجل الضرورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهِ إِيَّاهَا فَيَتَأَبَّطُهَا نَارًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَلِمَ تُعْطِهِمْ؟ قَالَ: «يَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ» وقال: «مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ، وَمَنْ لَا يَسْأَلُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلَنَا» هذا وهو

(1) في الأصل: (لدعائه) ، والتصويب من المحقق.

(2)

في الأصل: (لمن) ، والتصويب من المحقق.

ص: 75

مكلف في حياته، قد قيل له:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] .

وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فليس هو مكلفًا، ولا مأمورًا بما كان مأمورًا به في الدنيا من إعطاء السائل، وتأمير الأمراء، وأمر الناس، ونهيهم، بل قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حقّ جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه، ونحن علينا أن نطيعه، فبطاعته تنال سعادة الدنيا والآخرة.

# # #

ص: 76