الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الآنية
الآنية: جمع إناء، كسقاه وأسقية، ورداء وأردية، وجمع الآنية: الأواني، وهي
ظروف المياه، فلما ذكر المياه ذكر ظروفها.
قال: تجوز الطهارة -أي: تباح -من كل إناء طاهر بالإجماع؛ فلا يحتاج ما ذكره
الشيخ إلى قيد كما ذكره بعض الشارحين؛ إذ المدعى جوازها على الجملة، وهو
حاصل، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ من شن من جلد، ومن تور من شبه، ومن قدح من خشب، ومن مخضب من حجر.
قال: إلا ما اتخذ من ذهب أو فضة؛ فإنه يحرم استعماله -أي: على الرجل
والمرأة -في الطهارة وغيرها.
ذكر الشيخ غير الطهارة هنا؛ لأمرين:
أحدهما: ما ستعرفه.
والآخر: أنه محل قيام الدليل؛ قال عليه السلام:" الذي يشرب في آنية
[الذهب] والفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم" متفق عليه.
وفي "نار" روايتان: النصب، والرفع.
ومعنى الخبر: أنه يلقى في جوفه بسبب [استعماله] ذلك نار جهنم، ومثله ما
جاء في قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10] والتجرجر:
التصوت، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه: إذا جرعه جرعا متتابعا يسمع له صوت.
وقال -عليه السلام_: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة)، ولا تأكلوا في
صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" متفق عليه.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة،
وظاهر النهي التحريم، خصوصا وقد تأيد بالخبر الأول، فإن الوعيد بالعقاب إنما
يكون على محرم، وإذا حرم الأكل والشرب فغيرهما من الاستعمالات أولى؛ لأنه
دونهما في المعنى الذي لأجله حرما.
وبعضهم يقول: إنه عليه السلام -نبه بذلك على سائر وجوه الاستعمالات؛ كما
في قوله تعالى: {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10] فإن الوعيد لا
يختص بنفس الأكل.
ثم تحريم استعمال آنية الذهب والفضة لعينهما أو لمعنى؟
من الأصحاب من رواه مختصا بعينهما، كما اختص بهما القراض والنقدية
وغيرهما.
ومنهم من قال: بل إنما حرم ذلك؛ لما فيه من الخيلاء والتزيي بزي الأعاجم.
وقال الإمام: الذي أراه أن معنى الخيلاء لا بد من اعتباره؛ فإنه مما يبتدر إلى
الفهم، وإذا أمكن اعتبار المعنى فحسمه مع القول بالمعاني بعد.
وقد حكى الرافعي ذلك عن العراقيين أيضا، وأثر الخلاف يظهر في مسائل:
منها: لو اتخذ آنية من ذهب أو فضة ورصصها من الظاهر، فعلى المعنى الأول
يحرم استعماله وعلى الثاني: لا؛ إذ لا خيلاء في ذلك.
ولو رصصها من الظاهر والباطن، قال الإمام: فالذي أراه القطع بجواز الاستعمال؛
فإن الإناء من الرصاص وقد أدرج فيه ذهب مستور فيه.
قال الرافعي: والذي يجيء على رأى من جعل مناط التحريم العين: التحريم أيضا.
وفي "الروضة" حكاية طريقين في المسألة:
إحداهما: تخريجه على الوجهين: أصحهما عنده الإباحة.
والثانية: القطع بها.
قلت: والأظهر التفصيل: فإن كان للرصاص المعمول على ذلك جرم يمكن أن
ينفصل فلا يحرم، وإلى هذه الحالة يرشد قول الإمام:" إن الإناء من رصاص، وقد
أدرج فيه ذهب" وإن كان لا يتحصل من الرصاص الموضوع عليه شيء جرى
الوجهان.
ومنها لو اتخذ آنية من رصاص ونحوه، وغشاها بالذهب أو الفضة، بحيث لا
يجتمع منه شيء لو عرض على النار -فعلى المعنى الأول: لا يحرم، وعلى الثاني:
يحرم؛ لأن الخيلاء موجود فيه، فإن المراد بالخيلاء إظهار أن ذلك آنية ذهب وفضة،
وذلك ينكسر به قلوب الفقراء.
ومن قال: إن معنى الخيلاء ملاحظ بلا شك، يعلل وجه الإباحة -هنا -بأنه لا
يكاد يخفي المموه بغيره فينتقي معنى الخيلاء من ذلك، ولو كان يجتمع من ذلك
شيء بالنار، حرم وجها واحدا.
وكلام الشيخ يقتضي في الصورة الأولى الجزم بالتحريم، وفي الثانية بمقابله، وإن
كان في باب ما يكره لبسه، ألحق المموه بالذهب، بالذهب؛ وهذا كله تفريع على
الجديد في [أن استعمال] آنية الذهب والفضة حرام.
وقد حكى الزعفراني عن القديم: أن ذلك مكروه، وليس بمحرم؛ لأن ما فيه
الخيلاء والتشبه بالأعاجم لا ينهض حجة في التحريم؛ وعلى هذا فالمموه بالإباحة
أولى.
لكن الصحيح بالاتفاق الأول، بل قال الإمام: إن المراوزة لا يعرفون غيره، وأنهم
نقلوا -[أيضا]-للشافعي في نفي التحريم بخيلاء، ثم أولوه وحملوه على أن
المشروب في نفسه لا يحرم.
وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا فرق في الآنية بين ما ذكر منها وما صغر: كالمكحلة،
والمسعط، والمدهن، والمرشف ونحوه، وبه صرح الماوردي في كتاب الزكاة وألق
به [الميل]، وقال: إن استعماله لأجل جلاء العين إذا احتاج إليه يكون مباحا: كربط
السن بالذهب.
وعن الشيخ أبي محمد تردد في إباحة الظروف الصغيرة من الفضة، وضبط
بعضهم الصغير منها بقدر الضبة التي لا تحرم بقصد الزينة.
ورأى الإمام القطع بتحريم الكل.
قال القاضي الحسين: وإذا أراد الإنسان استعمال الماورد الذي في آنية الفضة،
فطريقه أن يقلبه في يساره، ثم يقلبه من يساره في يمينه، ويستعمله؛ فلا يكون محرما.
وليس من الاستعمال المحرم شم البخور الذي يصعد من على مبخرة فضة
والقرب منها، نعم: الاحتواء على المبخرة منه.
قال: فإن تطهر منه، صحت طهارته؛ لأن المنع لا يختص بالطهارة؛ فلم يقتض
الفساد: كالصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بسكين الغير، وهذه وهي الفائدة الأخرى
التي تقدم الوعد بها.
ولأن التطهير يقع بإجراء الماء على الأعضاء، وذلك يكون بعد انفصاله من الإناء.
قال: وهل يجوز اتخاذه؟ فيه وجهان:
وجه الجواز: أن المنع بالاستعمال دون الاتخاذ.
قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في صحة بيعه.
وهذا فيه نزاع مذكور في كتاب البيع.
ووجه التحريم -وهو الصحيح -: أن ما حرم استعماله على الرجال والنساء، حرم
اتخاذه على هيئة الاستعمال، كالملاهي.
قال البندنيجي وغيره: لأن لا خلاف في وجوب الزكاة فبها، ولو كان الاتخاذ
مباحا لكانت لا تجب على قول كالحلي المباح.
قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب في المحرم، وهي تجب في
المحرم والمكروه، واتخاذ الآنية من الذهب والفضة مكروه.
ثم الشيخ في حكاية الخلاف [في المسألة وجهين] متبع للماوردي وأبي الطيب
هنا، وإلا فقد حكاه البندنيجي وكذا أبو الطيب وغيرهما في كتاب الغصب قولين.
ولا جزم قال ابن الصباغ: فبي تحريم الاتخاذ قولان، وقيل: وجهان.
قال المراوزة: وعلى الخلاف يتخرج اسحقاق صائغها أجرة عملها، ووجوب
الغرم على كاسرها، فعلى الأول: يجب له الأجرة، وأرش النقص على كاسرها،
وعلى الثاني: لا يجب ذلك.
وفي " النهاية" في الفروع المذكورة بعد باب الوليمة: أنه إذا غصب إناء من ذهب
وزنه [ألف، وقيمته] ألف ومائة، وفرعنا على أن اتخاذ الأواني من الذهب
حرام – يرجع عليه بألف ومائة على وجه، وذكر له نظيرا ثم.
وقد خرج الشيخ أبو محمد على الخلاف في استحقاق صائغها الأجرة: أنه هل
يجوز تزيين الحوانيت والبيوت بها من غير استعمال؟ فإن قلنا: يستحق الأجرة، جاز
التزيين بها، وإلا فلا.
قال الإمام: والوجه عندي تحريم التزيين بها؛ للسرف مع الخلاف في حرمة
الصنعة.
ومنصوص الشافعي على احترامها؛ فإنه قال: لو أصدق امرأة إناءين من ذهب أو
فضة، وكسرت إحداهما؛ ثم طلقها قبل الدخول فقولان:
أحدهما: أن الزواج يأخذ نصف قيمة المنكسر، ونصف الإناء الصحيح.
والثاني: يأخذ قيمة نصف الإناءين، ويترك الإناءين في يدها؛ فإن كان من ذهب
فيقوم بالفضة، وإن كان من فضة فيقوم بالذهب.
قال: وما اتخذ من بلور أو ياقوت- أي: وما في معناه: كالعقيق والفيروزج وغير
ذلك، ففيه قولان:
أظهرهما: أنه لا يحرم استعماله؛ هكذا رأيته في نسخة عليها خط المصنف
رحمه الله.
ووجهه: أن الشرع إنما نص على تحريم أواني الذهب والفضة؛ [فاختص المنع
بها] وهذا [ما] حكاه الربيع، ونقله المزني وغيره، وهو الأصح في
"التهذيب".
ومقابله نص عليه في "حرملة ": أنه يحرم؛ لأن في ذلك سرفا؛ فأشبه المتخذ من
الفضة والذهب؛ وهذا مت نسب أبو الطيب إلى القديم، ومن هذا الخلاف استنبط ما
سلف من أن تحريم آنية الذهب والفضة تعبد أو لأجل الخيلاء والتشبه بالأعاجم؟
فمن قال: إنه لا يتعدى التحريم [آنية] الذهب والفضة، قال بالتعبد.
ومن عداه إلى الياقوت ونحوه، راعي المعنى المذكور.
والإمام حيث قال: إن المعنى لا بد من ملاحظته، قال: إنما لم تحرم الآنية من
الياقوت ونحوه؛ لأنه لا يعرف ذلك إلا الخواص من الناس؛ فلا يحصل التخييل
وكسر قلوب الفقراء؛ بخلاف الذهب والفضة؛ فإنه يعرفها الخاص والعام.
وقد رأيت في كلام بعضهم بناء الخلاف في مسألتنا على الخلاف أن تحريم
الذهب والفضة؛ أو لعينهما أو لأجل السرف:
فإن قلنا: لعينهما، لم تحرم آنية الياقوت ونحوه.
وإن قلنا: لأجل السرف، فهو هنا أكثر؛ فيحرم.
تنبيه: البلور بكسر الباء وفتح اللام كسنور، قيل: ويجوز بلور بفتح الباء وضم اللام.
وقد أفهمك استثناء ما ذكره بعد تعميم القول بجواز الطهارة من كل إناء طاهر _
أن ما عدا المستثنى من الأواني الطاهرة باق على الإباحة، سواء كان خسيسا أو نفيسا؛
بسبب صنعه: كالزجاج المحكم، والخشب ونحوهما، وهو كذلك عندنا، ولا نعرف
فيه خلافا إلا ما يحكى عن بعضهم: أن فيما نفاسته في صنعته وجها: أنه يحرم، ولم
نره في كتاب يوثق بنقل صاحبه، بل الماوردي والشيخ أبو محمد ألحقا البلور
بالزجاج المحكم في الجزم بعد التحريم.
نعم: حكى الماوردي وجهين في المتخذ من الطيب الرفيع: كالعود الرفيع،
والكافور المصعد، والمعجون من المسك والعنبر، تخريجا على القولين في الياقوت
ونحوه.
وأفهمك تقييد الطهارة الاحتراز عن الإناء النجس عينا؛ كالمتخذ من جلود
الميتات قبل الدباغ والنجس بغيره -فإن فيه تفصيلا، وهو [أنه] إن كان ما فيه
دون القلتين فلا يجوز، وليس ذلك لنجاسة الإناء، بل لنجاسة ما فيه: فإن تصور أن
يكون طاهرا كما ذهب إليه بعض الأصحاب في الإناء الطاهر الذي ولغ فيه الكلب _
كما ستعرفه في بابه -جازت الطهارة منه.
[وإن كان ما فيه قلتين، فقط بني جواز الطهارة منه] على وجوب التباعد من
النجاسة: فإن قلنا: يجب، لم تجز الطهارة [منه]، وإلا جازت بما يغترفه منه أول مرة.
وإن كان أكثر من قلتين، فيجوز الطهارة منه، من الموضع الذي يكون بينه وبين
النجاسة مقدار قلتين، وأما مابينه وبين النجاسة دون القلتين، فعلى الخلاف.
وأواني المشركين هل تلحق بالأواني الطاهرة او بالمتنجسة؟ الكلام فيها وفي
ثيابهم واحد، وهو أنه ينظر:
فإن كانوا لا يتعبدون باستعمال النجاسة: كأهل الكتاب فهي كآنية المسلمين
وثيابهم، واستدل لذلك في الأواني بقوله تعالى:} وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم {[المائدة:4] ومعلوم أنهم يطبخون في اوانيهم، واو كانت نجسة لما حل المطبوخ
فيها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر من جرة نصرانية، حكاه في "المختصر". والجرة: إناء من فخار. نعم: فال الأصحاب: يكره استعمال ذلك، لأنهم لا يتحرزون من النجاسات.
قال الشافعي: وأما مايلي أسافلهم - أي: من الثياب – أشد كراهة.
وخص البندنيجي الكراهة بما عدا آنية الماء، وقال: إن استعمال آنية الماء غير
مكروهة، ويشهد لقوله فعله عليه السلام وفعل عمر.
وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة: كطائفة من المجوس، والبراهمة من
الهنود الذين يغتسلون بأبوال البقر، تقرباً ففي جواز استعمالها وجهان أخذا من
القولين في تعارض الاصل والغالب، والأصح منهما في "التتمة" التحريم، لما روي
في حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يا رسول الله: إنا ننزل بلاد المشركين ونطبخ
في قدورهم ونشرب في أوانيهم؟ فقال: استغنوا عنهم ما استطعتم، فإن لم تجدوا
عنها بدا فارحضوها بالماء، فإن الماء طهور".
وفي "تعليق البندنيجي": أن الذي نص عليه الشافعي في القديم وحرملة
: الإباحة، واختاره أبو إسحاق، وحمل الحديث على ما إذا تحقق نجاسة ذلك
بلحم خنزير وغيره.
والفرق على الوجه الأول بينه وبين ما إذا تحقق الطهارة، وغلب على ظنه
الحدث، حيث يأخذ باليقين: أن الطهارة والنجاسة يتطرق إليهما الاجتهاد، وتنتصب عليهما العلامات، وما كان كذلك، وجب الاستمساك فيه بغالب الظن، كسائر
المجتهدات، وليس يتطرق ذلك إلى الحدث، إذ ليس عليه علامة لائحة بها اعتبار،
وهذا فرق الإمام.
ومجموع ما ذكرناه في أواني الكفار وثيابهم، يجري في أواني مدمني الخمر
وثيابهم، وثياب القصابين الذين لا يحترزون عن النجاسة.
ثم ما ذكرناه في أواني الكفار وثيابهم، هو طريقة الجمهور أيضاً.
والماوردي قسم الكفار ثلاثة أقسام: فقال: من يتنزه من النجاسة: كأهل الكتاب،
يجوز استعمال ثيابهم، [ومن لايتعبد بالنجاسة، ولايتنزه منها يجوز استعمال ثيابهم،
ويكره]، ومن يتدين باستعمالها إن قل لبسه لتلك الثياب كرهت الصلاة فيها، وإن طال زمن لبسه لها، ففيها الخلاف السابق.
وأما الأواني: فإن كانت أواني أهل الكتاب الذين لا يأكلون لحم الخنزير فيجوز
استعمالها وإن كانوا يأكلون لحم الخنزير، ففيها الخلاف السابق.
قال: وما ضبب بالفضة إن كان قليلاً للحاجة لم يكره، لقلته، وللحاجة إليها، وقد
روي أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشق سلسلة من فضة. أخرجه البخاري، وروي أنه كان لقدحه حلقة من فضة.
قال: وإن كان للزينة، أي: كان قليلاً للزينة، كره، لعدم الحاجة إليه ولا يحرم
لقتله.
قال: وإن كان كثيراً للحاجة، كره للكثرة، ولا يحرم للحاجة. انتهى.
قال: وإن كان للزينة – أي: كثيراً للزينة – حرم، لكثرته، وعدم الحاجة إليه، وهذه
طريقة الداركي وغيره من متأخري الأصحاب، ولم يحك البندنيجي غيرها، واختارها
في " المرشد".
قال: وقيل: إن كان في موضع الشرب، حرم – أي: وإن قل ودعت الحاجة إليه –
كما قال الإمام، لأن بالفضة يقع الاستعمال.
قال: وإن كان في غيره، لم يحرم، إذا لا يقع بها استعمال، وهذه طريقة أبي إسحاق
المروزي، أخذها من قول الشافعي في "المختصر": "وأكره المضبب بالفضة كي لا
يكون شارباً على فضة".
قال: وقيل: لايحرم بحال، لأنه روى أن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبيعته من فضة، ونعله من فضة، وما بين ذلك حلق الفضة، وكانت برة ناقته من فضة.
وأيضاً: فالدليل قام على تحريم إناء الذهب والفضة، والمضبب لا يسمى إناء
ذهب أو فضة، وهذه طريقة أبي علي الطبري الزجاجي، وحمل الكراهة في لفظ
الشافعي على التنزيه، وهي مخصوصة بما إذا لم يعم التضبيب الإناء، فإن عمه، حرم
كله قولاً واحداً، قال الماوردي.
وقد حكى الشيخ أبو محمد وجها يقابل هذه الطريقة: أن المضبب يحرم بكل
حال، لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شيءٌ من ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم".
وبعض المراوزة قال: القليل للحاجة لا يحرم، والكثير للزينة يحرم، وفي الكثير
للحاجة والقليل للزينة وجهان.
والماوردي قال: إن كان كثيراً للحاجة في فم الإناء حرم، وإن كان في غيره لا
يحرم، وإن كان قليلاً للحاجة فلا يكره، وإن كان يسيراً للزينة فلا يحرم، وفي الكراهة
وجهان:
أحدهما: لا، كالثوب المطرز.
والثاني: نعم.
والفرق: أن الحرير أخف، لإباحته لجنس النساء.
وقال القاضي الحسين: إن كان في موضع الشرب، لا خلاف في التحريم، وكذا
قاله في "التهذيب". وإن كان في غيره: فإن كان قليلاً للحاجة، يجوز قولاً واحداً، وإن
كان كثيراً لغير حاجة لا يجوز قولاً واحداً، وإن كان كثيراً لحاجة أو قليلاً لغير حاجة فوجهان.
والمراد بالقليل مالا يأخذ جانباً من جوانب الإناء: كدور أسفله أو رأسه، والكثير
بخلافه، واستبعد الإمام ذلك، من جهة أن الإناء قد يكبر، فيكون سعة سلفه ذراعاً في
ذراع، فما يأتي عليه ثلث الإناء أو نصفه كثير متفاحش.
قال: والأولى ضبط القليل بما لا يلوح من البعد، والكثير بما يلوح منه.
وفيه نظر، لأنه إن أراد بالبعد ماوراء مجلس التخاطب، فيبعدألا يرى الضبة منه
وإن قلت. وإن أراد أكثر من ذلك، فلا ضابط لذلك يرجع إليه إلا العرف، ولو رجع
إليه أولاً، لاستغنى عن ذلك.
ولا جرم: أن بعضهم قال: المرجع في القلة والكثرة الى العرف، وهو الأصح في
"الروضة".
والمراد بالحاجة قدر الشعب، لا أنه لم يجد ما يضبب به غير ذلك، كذا
قاله ابن الصباغ، وأيده بأنه لو لم يجد إلا إناء ذهب أو فضة،
ومست الحاجة إلى استعماله جاز له استعماله، ثم قال: ويحتمل أن يعتبر عجزه عما
يقوم مقام الفضة.
وهذه الطرق مفرعة على الجديد في تحريم آنية الذهب والفضة، ولا يلتحق الضبة
المحرمة الاستعمال في الإناء الخاتم في كف الشارب، والدرهم في فمه أو في الإناء
الذي يشرب منه.
وقد أفهم قول الشيخ: "وما ضبب بالفضة": أن المضبب بالذهب غير جائز بكل
حال، وهو ما أورده الماوردي هنا في كتاب الزكاة، والشيخ في "المهذب" وحكاه
…
البغوي عن العراقيين، وحكاه النواوي عن رواية أبي العباس الجرجاني والشيخ
أبي نصر المقدسي والعبدري.
ويوافق ذلك إطلاق القاضي الحسين: أنه لا يجوز أن يلبس خاتما من فضة أسنانه
من ذهب.
والرافعي اقتصر على نسبته إلى رواية الشيخ في "المهذب"، ورجحه، ثم قال:
والذي أورده الجمهور: أنه لا فرق بين الذهب والفضة في ذلك، وهو الذي اختاره
والروياني في "تلخيصه"، وحكاه بعضهم عن المراوزة.
] و [عن الشيخ أبي محمد: أنه لا ينبغي أن يسوى بين الذهب والفضة في
الصغر والكبر؛ فإن القليل من الذهب في إظهار الخيلاء بمثابة كثير الفضة، وأقرب
معتبر به فيه أن ينظر إلى قيمة ضبة الذهب إذا قومت بالفضة.
قال: ويستحب أن يخمر الآنية، لقوله – عليه السلام: "أغلقوا الأبواب، وأوكئوا
الأسقية، وخمروا الآنية، وأطفئوا السرج، فإن الشيطان لا يفتح مغلقا، ولا يحل
وكاء، ولا يكشف إناء، وإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم".
والتخمير: التغطية؛ أخذً من الخمار؛ لأنه يغطى الرأس.
قال: فإن وقعها بعضها نجاسة، واشتبهت عليه تحرى – أي سأل الأحرى، وهو
الاجتهاد.
قال: وتوضأ بالطاهر على الأغلب عنده؛ لأنه لا يشترط في الماء المستعمل في
الطهارة اليقين بلإجماع؛ بل يكفي فيه ظن الطهارة؛ بدليل جواز الطهارة من الماء
القليل مع القدرة على الماء الكثير، وإذا كان كذلك فالاجتهاد محصل للظن بها.
ونظمه قياساً: أنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاجتهاد؛ فجاز
الاجتهاد فيه عند الاشتباه: كالقبلة.
والاجتهاد والتحري والتأخي بمعنى [وهو] بذل الجهد في طلب الشيء.
والجهد – بضم الجيم -: هو الطاقة.
وقال الماوردي في كتاب الأقضية: الاجتهاد: مأخوذ من جهاد النفس، وكدها
في طلب المراد، وكذا الجهاد مأخوذ من إجهاد النفس في قهر العدو، والاجتهاد: هو
طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه.
وزعم ابن أبي هريرة: أن الاجتهاد هو القياس، ونسبه إلى الشافعي من كلام اشتبه
عليه في كتاب "الرسالة" والذي قاله الشافعي: أن معنى الاجتهاد [معنى] القياس،
يريد به أن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه.
وكيفية الطلب هنا: أن ينظر إلى تغير أحدهما، أو اضطرابه، أو ترشيش حوله، أو
قرب الكلب، منه أو نقصه ونحو ذلك.
قال: وقيل: إن كان معه ماء – أي: أو يقدر على ماء – يتيقن طهارته – أي: مثل أن
كان معه إناء ثالث لا شك عنده في طهارته، أو كان على شط بحر أو نهر أو ماء كثير
لم يتحر؛ لأنه قادر على إسقاط الفرض بيقين؛ فلا يسوغ له تأديته بالاجتهاد؛
كالمكي في القبلة، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وادعى أنه مذهب الشافعي؛
لأنه قال: وإذا كان في سفر، ومعه ماءان نجس أحدهما، ففرضه] الاجتهاد]، وإذا
لم يكن معه ثالث طاهر بيقين.
وعن المزني: أنه منع التحري في الأواني مطلقاً، وقال: إنه يتيمم، ويصلين ولا
يعيد؛ كما لو اشتبه عليه ماء وبول.
وعن بعض الأصحاب فيما حكاه الصيدلاني: أنه يجوز أن يهجم ويتوضأ بأحد
الآنية، ويصلي، ولا إعادة عليه؛ لأن الأصل في كل منها الطهارة، وعدم وقوع
النجاسة فيه، وفارق القبلة؛ لأنه ليس الأصل في كل جهة أنها القبلة.
قال الإمام: وهذا وإن كانل لا يعسر توجيهه، فهو بعيد عن المذهب جدا.
وحكي عن شيخه وبعض المصنفين: أنه لو ظن اللرجل طهارة أحد الإناءين من
غير تعلق بأمارة، فله التعويل على الظن من غير أن يكون له مستند، فأما استعمال
أحدهما من غير اجتهاد فلا، وهذا أشهر مما حكاه الصيدلاني، وقد حكاه القاضي
الحسين والمتولي أيضاً، وعليه يدل النص، لأنه قال: أراق النجس على الأغلب عنده.
وبهذا يحصل في المسألة. ورأى الأول أربعة أوجه، والصحيح الأول.
وقول أبي إسحاق باطل؛ لجواز الطهارة من الماء القليل مع وجود الكثير.
والشافعي إنما شرط فقد الإناء الثالث في وجوب الاجتهاد عليه، لا في جوازه؛
فإنه إذا كان معه إناء طاهر بيقين، كان بالخيار بين أن يجتهد وبين ألا يجتهد، والأولى
استعمال الطاهر، بخلاف ما إذا لم يكن معه ثالث يتيقن طهارته؛ فإنه يجب عليه
الاجتهاد؛ كما صرح به الماوردي وغيره.
والفرق بين ما نحن فيه والمكي في القبلة: أن اليقين ثم في محل الاجتهاد، وهو
هاهنا في غيره.
وما ذكره المزني خطأ؛ لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:6] وهذا
واجد للماء.
وما رواه الصيدلاني باطل من جهة أن ذاك الأصل قد عارضه تحقق وقوع
النجاسة؛ فارتفع به.
وما رواه الشيخ أبو محمد وغيره ضعيف؛ لأن الظن لا يغلب من غير سبب
يقتضي تغليبه، والأمور الشرعية لا تبني على الألهامات والخواطر، ويتخرج على ما
ذكره الشيخ من الخلاف مسائل:
منها: إذا اشتبه عليه ماء طهور وماء مستعمل، فإن قلنا بالأول، جاز أن يجتهد
فيهما، وإن قلنا بالثاني: فلا، بل يتوضأ بكل واحد منهما؛ كذا قاله البندنيجي
والماوردي وابن الصباغ.
والقاضي أبو الطيب بنى ذلك على ما إذا اشتبه عليه إناء طاهر وإناء نجس،
فانصب أحدهما قبل الجتهاد، هل يجتهد في الثاني أو يستعمله من غير اجتهاد؟ فيه
وجهان:
فإن قلنا بأنه يجتهد في الثاني، اجتهد هاهنا، وإلا توضأ من كل واحد منهما،
والبناء الأول أشبه.
[والثاني يلتفت إلى أن الإقدام على الوضوء، هل يجوز مع عدم الظن بأن المتطهر
به آلة للطهارة أم لا؟].
وماذكره في الفرع المبني عليه فيه مزيد نقل؛ فإن ابن الصباغ والشيخ في
"المهذب" وغيرهمت قالوا: إنه هل يجتهد في الثاني أو لا؟ فيه وجهان اختار ابن
سريج: أنه يجتهد، وقال غيره: لا، وهو الأصح في "المهذب".
وعلى هذا قال أبو علي في "الإفصاح": يتوضأ به؛ لأن الاصل الطهارة.
وقال القاضي أبو حامد في "الجامع": يتيمم ويصلي؛ لأن حكم الأصل قد زال
فيه؛ لوجوب التحري.
والخلاف على النحو المذكور قد حكاه أبو الطيب – أيضا – في موضع آخر
فيما إذا كان قد صب أحدهما بعد الوقت.
ومنها: إذا كان معه إناء طاهر، وإناء نجس، ويبلغ مجموعهما قلتين فأكثر، وهو
قادر على خلطهما – قال الإمام: فعلى الأول: له الاجتهاد فيهما، وعلى الثاني: يجب
عليه الخلط.
وهذا التخريج أبداه ابن الصباغ من عند نفسه.
ومنها: ما إذا اشتبه علي ماء، وماء ورد انقطعت رائحته [قال الإمام] فعلى
الأول: يجوز له الاجتهاد، وعلى الثاني: يتوضأ من كل إناء، ويصلي صلاة واحدة.
قلت: وهذا البناء فيه شيء، والحق إلحاق هذه الصورة بما إذا اشتبه عليه ماء
وبول ، فإن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير.
فرع: إذا غلب على ظنه طهارة إناء، وتوضأ به، قال الشافعي: أستحب له أن يريق
الآخر؛ كي لا يدخل عليه وقت صلاة أخرى، ويتغير اجتهاده، فإن أراقه فذاك، وإن
أبقاه حتى دخل عليه وقت صلاة أخرى: فإن لم يحدث فهو باق على طهارته، وإن
أحدث: فإن كان قد بقي مما استعمله بقية تكفيه لطهارة أخرى، اجتهد في الآخر
وفيما بقي من الذي تطهر منه: فإن علم أن ما توضأ به هو الطاهر أو ظن ذلك، توضأ
منه، وإن تيقن أن ما توضأ به هو النجس أعاد الصلاة، وغسل ما أصاب يديه وثيابه.
وفي المسألة قول شاذ: أنه لا إعادة عليه؛ كنظيره في القبلة، وهو محكي في كتب
المراوزة ثَم. وإن غلب على ظنه أن ما تطهر به أولا هو النجس، قال القاضي الحسين: فلا يستعمله، وله أن يريقهما أو يصب أحدهما في الآخر، ويتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه.
فرع: وإن تركهما تيمم وصلى وأعاد.
والعراقيون قالوا: فيما يلزمه في هذه الحالة ثلاثة أوجه:
أحدها: ما ذكرناه عن القاشي الحسين، وهو الذي نقله المزني عن الشافعي: أنه
يتيمم ويصلي، وعليه الإعادة.
والثاني- قاله ابن سريج -: أنه يتوضا بالثاني ويصلي ولا تجب عليه الإعادة؛
كم صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم إلى أخرى باجتهاد آخر.
قال: والذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي.
قال أبو الطيب بن سلمة: وهذا الذي قاله ابن سريج غير صحيح، والذي نقله
المزني رأيته في "حرملة"، ويفارق مسالة القبلة؛ لأنا في القبلة لا نأمره بفعل فاسد
قطعا؛ لانه محتمل أن تكون هذه الجهة الثانية هي جهة القبلة، وليس كذلك هنا؛ فإنا
نتحقق أنا نأمره بفعل فاسد، أو بنقض الاجتهاد بالاجتهاد، وإنما قلنا ذلك؛ لأنا
[إن] لم نأمره بإيراد الثاني على موارد الأول فهو مصل بغير طهارة من حدث أو
خبث، وذلك يمنع الصحة، وإن أمرناه بأن يورده على موارد الأول فذاك نقض
للاجتهاد بالاجتهاد، وهو لا يجوز، والإمام حكى عنه أنه أوجب إيراد الماء الثاني
على موارد الأول.
وقال ابن الصباغ: إن هذا ليس عندي بنقض للاجتهاد فيما فعله بالاجتهاد؛ لأنا
ليس نبطل طهارته الأولى وصلاته، وإنما نأمره بغسل ما على بدنه من الماء الذي
غلب على ظنه أنه نجس، ويكون ذلك بمنزلة منعنا له من استعمال بقية الإناء وحكمنا
بنجاسته.
قال: وعلى هذا ينبغي أن يغسل ما أصاب غير موضع الوضوء من الأول فإن
مواضع الوضوء يطهرها الوضوء من الحدث ومن النجاسة.
قلت: وهذا قد حكينا فيه خلافا من قبل.
والثالث: أنه يتيمم ويصلي، ولا يعيد؛ كمن به قروح أو وجد الماء وهو محتاج
إليه للعطش؛ لأنه معذور.
ومن رجح مانقله المزني قال: العذر هنا منسوب إلى تفريطه، ولا كذلك ثم.
ولو كان الإناء الذي غلب على ظنه طهارته وتوضأ منه أولا لم يبق منه شيءٌ، قال
الرافعي: فلا يجب عليه إعادة الاجتهاد.
وفي "التتمة" حكاية وجهين في وجوب الإعادة؛ كما إذا انصب أحد الإناءين قبل
الاجتهاد.
وكيف كان فإذا أعاد الاجتهاد وأدى اجتهاده إلى طهارة غير الأول، فإن قلنا عند
بقاء الأول: إنه يتيمم ويصلي [ولا] يعيدن فهاهنا أولى، وإن قلنا ثم إنه يتيمم
ويصلي ويعيد كما نقله المزني - فهاهنا يتيمم ويصلي وهل تجب عليه الإعادة؟ فيه
وجهان:
وإن قلنا بمذهب ابن سريج توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه، وأورد الثاني
موارد الأول؛ كما سلف.
ولو كان قد بقي من الإناء الأول بقية لا تكفيه لطهارته: فإن قلنا: [إنه يجب عليه
استعمال الوجود، كان كما لو بقي منه قدر ما يكفيه للطهارة. وإن قلنا]: لا يجب
عليه استعماله، كان كما لو لم يبق منه شيءٌ آخر.
وإذا اجتهد ولم يغلب على ظنه طهارة إناء، قال البندنيجي: فعليه أن يعيد
الاجتهاد إلى أن يخشى خروج الوقت، فإن لم يظهر له شيءٌ صلى بالتيمم، وأعاد
الصلاة إذا عرف الطاهر وعليه بعد ذلك أن يعيد الاجتهاد إلى أن يظهر له الطاهر.
وغيره قال: إن إذا لم يظهر له الطاهر من النجس أراقهما، أو صب أحدهما في
الآخر، وتيمم.
ويجيء وجه ابن سريج في جواز تقليد غيره في ذلك؛ كما جرى مثله في
الأوقات، وقد يفرق بينهما.
قال: وإن اشتبه ذلك، أي: البعض الذي وقعت فيه النجاسة على أعمى؛ ففيه
قولان:
أحدهما: يتحرى -[أي]: وجوبا - لأن له طريقا إلى معرفة الطاهر من النجس
بالأمارات: كالشم، واللمس، والاستماع؛ فوجب عليه إذا لم يجد ماءً طاهراً بيقين؛
كما في الأوقات؛ وهذا مانص عليه في "الأم" وهو أصح في الرافعي، ولم يحك
الماوردي، وكذا القاضي الحسين في باب استقبال القبلة غيره.
والثاني: لا يتحرى - أي لا يجوز له أن يتحرى - لأن [للنظر أثراً في] حصول
الظن بالمجتهد فيه، وقد فقد؛ فعنع من الاجتهاد؛ كما في القبلة؛ وهذا منا نص عليه
في "حرملة".
التفريع: إن قلنا بالأول جاء الخلاف في جواز اجتهاده عند قدرته على ماء
طاهر بيقين، وإذا اجتهد ولم يظهر له شيءٌ، قال الشافعي" إن كان هناك بصير قلده".
واختلف الأصحاب في تأويله: فقال بعضهم: أراد إذا كان البصير يعلم الطاهر من
النجس، فأما إذا كان باجتهاد فلا [يجوز أن] يقلده؛ لأن المجتهد لا يقلد المجتهد.
وقال بعضهم: يرجع إلى اجتهاد البصير، وهو ما صححه الرافعي.
والتأويل الأول بعيد؛ فإنه إذا كان بصيراً يعلم الطاهر منهما من النجس لا يسوغ له
الاجتهاد.
وإن قلنا بالثاني تعين عليه تقليد بصير، فإن لم يجد من يقلد، أو لم يظهر للبصير
شيءٌ - قال الشافعي: لا يتيمم، بل يتوضأ بما أدى إليه تخمينه على أبلغ مايقدر عليه.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يعيد.
وعن الشيخ أبي حامد أنه يتيمم ويصلي ويعيد، وهو الأصح في" الروضة".
وقال ابن الصباغ: إن ما يذكر أبو حامد أقيس وما ذكره أبو الطيب أقرب
إلى نص الشافعي.
والخلاف في جواز اجتهاده في الأواني جار في اجتهاده في الثياب [كما] قال
الإمام وغيره.
وقد أفهمك كلام الشيخ: أنه لا فرق فبما ذكره بين أن يكون فيما وقعت فيه النجاسة
من الآنية أقل من الباقي أو مثله أو أكثر منه، والحكم عندنا كذلك؛ قياساً على ما إذا
وقد أفهمك كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما ذكر بين أن يكون ما وقعت فيه النجاسة
من الآنية أقل من الباقي أو مثله أو أكثر منه، والحكم عندنا كذلك؛ قياساً على ما إذا
اشتبه عليه مثل ذلك في الثياب، وقد وافق الخصم-: وهو أبو حنيفة - على جوازه.
نعم، لو كانت الآنية ثلاثا، وقد وقعت النجاسة في اثنين منها، واجتهد ثلاثة فيها،
وأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء - لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض في صلاة
مابتلك الطهارة؛ كما لو وقعت النجاسة في أحد الإناءين، فاجتهد فيهما اثنان، وأدى
اجتهاد أحدهما إلى طهارة إناء واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر.
على ان في مسألة الاستشهاد وجه حكاه الشيخ أبو محمد في "كتاب الحج":
أنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر؛ بناء على قول في أن من أحرم بنسك ثم نسيه،
هل يتحرى؟ وإذا ثبت في هذه الصورة جرى في الأخرى.
ولو كان النجس من الثلاثة واحداً وقد أدى اجتهاد كل شخص إلى طهارة واحد-
ففي جواز اقتداء بعضهم ببعض كلام سبق في باب صفة الأئمة، وذكره [ثم أمس،
والله أعلم].
قال: ومن اشتبه عليه ماء وبول - أي: من بصير أو أعمى - أراقهما وتيمم؛ لأنه لا
يمكنه أن يجتهد فيهما؛ فإن الاجتهاد يقوي مافي النفس من الطهارة الأصلية، والبول
لا أصل له في التطهير؛ فامتنع العمل به، وإذا لم يتمكن من الاجتهاد، وليس معه ماء
آخر تعين التيمم والإراقة؛ لأجل ألا يتيمم ومعه ماء متيقن طهارته؛ فتلزمه الإعادة.
وصب أحدهما في الآخر في معنى الإراقة.
فإن قيل: هو غير قادر على استعمال الماء، والصلاة بالتيمم مع وجود الماء الذي
لا يقدر على استعماله تجزئه، ولا تقتضي القضاء؛ دليله ما إذا حال بينه وبينه سبع.
قيل: قد أبداه بعض الأصحاب احتمالاً فجوز التيمم قبل صبه وخلط أحدهما
بالآخر، وحكاه في "التهذيب" وجهاً، لكن المذهب الأول، و [الفرق] أنه فير
مقصر في مسألة السبع، والمنع من استعمال الماء هنا جاء من تقصيره.
فإن قيل: إذا كان الماء في هذه الحالة في حكم المقدور عليه بالنسبة إلى عدم
إسقاط القضاء كالصلاة بالتيمم - فينبغي أن يتخرج وجوب القضاء إذا تيمم بعد
إراقته على الخلاف فيما إذا صب الماء بعد دخول الوقت؛ كما سيأتي.
قيل: هو ثم متعد بالصب وهاهنا هو مأمور به، أو هو محتاج إلى الإبقاء ثم وإلى
الإراقة هنا، وما ذكره الشيخ هو ماذكره العراقيون، وألحقوا به في عدم الاجتهاد ما
إذا اشتبه عليه ماء وماء ورد انقطعت رائحته، لكنهم قالوا في هذه الصورة يتوضأ من
كل منهما.
وفي طريقة الوراوزة حكاية وجه: في أنه يجتهد فيهما.
قال الإمام: وهو متجه في القياس، ولم يحك في "التتمة" غيره؛ تفريعاً على
اشتراط الاجتهاد في الأواني: نعم، لا يجوز الهجوم هنا ولا الأخذ بمجرد الظن كما
حكاه عن رواية الشيخ أبي محمد بلا خلاف.
والملوردي قال: إن اجتهاده في الماء وماء الورد؛ لأجل الصلاة فلا يجوز.
وإن كان لأجل العطش حتى يشرب ماء الورد، ويبقى الماء - يجوز.
ثم إذا اجتهد وظهر له ماء الورد أعده لشربه وبقي الآخر محكوماً عليه بأنه ماء؛
فيجوز له حينئذ أن يستعمله في الطهارة.
وقد نجز شرح مسائل الباب؛ فلنختمه بشيء يتعلق به:
إذا اشتبه عليه الطاهر من الطعام المأكول بالنجس منه، فهو كما إذا اشتبه الماء
الطاهر بالنجس حتى تجري طريقة أبي إسحاق فيه إن كان مضطرا إلى الأكل، وإلا
فيجوز وجهاً واحدً كما قاله في "التتمة" و "الروضة".
ولو اشتبه عليه الطعام المأكول بغيره، فهو كما لو اشتبه عليه ماء وبول قاله
القاضي الحسين.
وقال فيما إذا اشتبه عليه ميتة بمذكاة: لا يجتهد على الأصح، وإذا اجتهد فطريقه
أن يضع اللحم على الماء، فإن طفا فهو الميتة.
ولو اختلطت ميته بمذكيات، بلد أو إناء بول بأواني بلد، فله الأخذ من غير
اجتهاد، وإلى متى يأخذ؟ قال في "البحر" فيه وجهان:
أحدهما: إلى أن يبقى واحد.
والثاني: إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز.
ولو اشتبه عليه غنمه بأغنام الناس، أو طيوره بطيورهم، أو رحله برحالهم جاز له
الاجتهاد؛ قاله القاضي الحسين.
ولا يجوز لمن اشتبه عليه منكوحته بأجنبية الاجتهاد في الزوجة بحال؛ إذ لا أمارة
عليها والله أعلم.