الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يوجب الغسل
الغسل- بفتح الغين-: مصدر غسل، وبضمها: اسم لذلك؛ قاله في "الصحاح"
و"المجمل".
قال بعضهم: وإنما قدم أسباب الغسل [هنا] على صفته، وعكس في الوضوء؛
لأنه ترجم أسباب الوضوء بنواقضه؛ فاستدعت شيئاً تنقضه، وترجم الأسباب هنا
بالموجب؛ فاستدعت غسلاً بعده؛ لأن الأثر بعد المؤثر.
وسبب ما ذكره من الترجمة أن الطهارة تقتضي ظاهراً وجوب الوضوء عند إرادة
القيام إلى الصلاة، وإن لم يسبق ذلك حدث لو تصور، وأن الغسل لا يجب إلا بتقدم
الجنابة؛ فدل على أنها توجبه.
قال: ويجب الغسل على الرجل من شيئين:
من خروج المني؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الماء من
الماء" رواه مسلم.
تنبيه: المني - مشدد الياء - سمي: منياً؛ لأنه يمنى، أي: يصب، وكذلك سميت
منى؛ لما يراق بها من الدماء.
ومني الرجل - في حال صحته - أبيض ثخين، متددفق في خروجه دفعة بعد دفعة
بشهوة، ويتلذذ بخروجه، ويعقب خروجه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخيل، قريبة من
رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض.
وقد يفقد بعض هذه الصفات؛ بأن يرق ويصفر لمرض، أو يحمر لكثرة الجماع؛
فيصير كماء اللحم، وربما أخرج دما عبيطا؛ لضعف ما يبيضه، وهو في هذه الحالة
طاهر على المشهور، وقد يخرج بغير لذة ولا شهوة؛ لاسترخاء وعائه، وهو في
الأحوال كلها موجب للغسل.
وخواصه التي إذا فقدت بجملتها لا يحكم بكونه منيا، وإن وجد بعضها ثبت أنه
مني - ثلاث:
إحداهما: خروجه بشهوة مع الفتور عقيبه.
الثانية: الرائحة التي تشبه رائحة الطلع.
الثالثة: الخروج بتدفق.
وللإمام وقفة فيما إذا خرج دما عبيطا، مع وجود باقي الصفات؛ من حيث إنه لا
يسمى منيا.
قال: ومن إيلاج الحشفة في الفرج؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها؛ فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل".
قال ابن الأعرابي: و "الجهد" من أسماء النكاح، و "شعبها الأربع" قيل: هما
الفخدان، والأسكتان: وهما حرفا الفرج، وقيل: اليدان، والرجلان.
وعن عاثشة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل
عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك، أنا وهذه، ثم نغتسل". أخرجه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري أنه سأل عائشة رضي الله عنهما عن التقاء
الختانين؛ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان - أو مس الختان الختان - وجب الغسل".
ورواية الشافعي عنها، أنها قالت: "إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا".
وختان الرجل: موضع القطع من ذكره، وهو عند نهاية الحشفة. وختان المرأة:
موضع القطع منها:
والمراد بالتقائهما في الخبر-: تحاذيهما، وذلك يحصل بغيبوبة الحشفة في الفرج.
قال الشافعي: يقال: التقى الفارسان، إذا تحاذيا وإن لم يتضاما، ولا يتصور أن
تصادم الختانين؛ لأن ختان الرجل كما ذكرنا، وشفرا المرأة يحيطان بثلاثة أشياء:
ثقبة في أسفل الفرج، هي مدخل الذكر، ومخرج الحيض والمني والولد.
وثقبة أخرى - فوقها، مثل إحليل الذكر، هي مخرج البول لا غير.
والثالث: فوق ثقبة البول، موضع ختانها؛ لأن هناك جلدة رقيقة قائمة، مثل عرف
الديك. وقطع هذه الجلدة هو ختانها.
قال: ويجب على المرأة من أربعة أشياء:
من خروج المنى؛ لما روي عن أم مسلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل، إذا
هي احتلمت؟ قال: "إذا رأت الماء". أخرجه البخاري.
وفي حديث آخر: فقالت أم سلمة: يا رسول الله، وهل تحتلم المرأة؟ فقال: "تربت
يداك؛ فبم الشبه؟! ". أخرجه الشيخان.
وفي طريق لمسلم: "أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن
أيهما علا وسبق يكون منه الشبه".
وأم سليم هذه هي بنت ملحان، زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن
مالك، كما قاله أهل الحديث، ولم يختلفوا فيه.
والغزالي قال - تبعاً لإمامه - والصيدلاني: إنها جدة أنس بن مالك.
والصحيح: الأول.
ومني المرأة رقيق أصفر، وقد يبيض؛ لفضل قوتها.
قال الإمام: وقد زعم بعض الأطباء أنه لا يخرج منها. ولا شك في [أنها إذا
هاجت] خرج منها، وهذا أغلب فيهن منه في الرجال.
وقال في موضع آخر: إنه لا يتصور الإحاطة بخروج المني منها إلا بفتور شهوتها
فأثبت له خاصية واحد دون مني الرجل.
وتبعه الغزالي؛ فقال في "الوسيط": ولا يعرف في حقها إلا من الشهوة.
وقال في "الوجيز": والمرأة إذا تلذذت بخروج ماء منها - لزمها الغسل.
قال الرافعي: لكن ما ذكره الأكثرون - تصريحاً وتعريضاً - التسوية بين مني
الرجل والمرأة في طرد الخواص الثلاث، ومن ذلك قول البغوي: إن مني المرأة إذا
خرج بشهوة أو بغير شهوة يوجب الغسل؛ كمني الرجل. وإذا وجب الغسل مع انتفاء
الشهوة، كان الاعتماد على باقي الخواص.
قال: ومن إيلاج الحشفة في الفرج؛ لما سلف من حديث عائشة.
تنبيه: الألف واللام في "المني" للعهد؛ فإن المتبادر إلى الذهن منه في الشخص
نفسه، وفائدة ذلك: أن الرجل لو أخذ منياً، فأدخله في ذكره، والمرأة إذا أخذت منياً
فأدخلته في فرجها، ثم خرج لا يجب به الغسل؛ وهذا ما حكاه أبو الطيب، وقال:[إن]
هذا بخلاف ما لو أخذ واحد منهما بولاً، فأدخله ثم أخرجه؛ فإنه يجب عليه الوضوء،
ولا يجب الغسل بذلك كله، ولأن [البول] لا بد من أدنى بلة تظهر فيه؛ وهي
موجبة للوضوء. وليس كذلك المني؛ فإنه يخلو من مني يخرج معه.
والقاضي الحسين حكى فيما إذا استدخلت المرأة مني زوجها، أو من وطئ بشبهة
فرجها: أه يتعلق به لحوق النسب بلا خلاف، وكذلك تاعدة على الظاهر، وهل يجب
به الغسل؟ فيه وجهان، أصحهما في "الكافي": لا.
والخلاف يجري فيما إذا خرج مني الرجل الحاصل معها من وطئه، بعد غسلها،
والأصح في "الكافي" - أيضا-: عدم وجوب الغسل به.
وقال الإمام - بعد حكاية القول بوجوبه عن بعض الأصحاب، الذي لم يحك
سواه-: هذا عندي إذا قضت وطرها، فإن خرج قبل أن تقضيه، أو كانت صغيرة؛ فلا
يجب. وعليه جرى في "الوسيط".
وقال القاضي الحسين - بعد حكاية القول بعدم وجوبه عن بعض الأصحاب، الذي لم
يحك غيره-: هذا عندي إذا أنزل الرجل، ونزل ماؤه منها عقيبه، فأما إذا مكث بعد
ذلك ساعة، ينبغي أن يلزمها الغسل؛ لأن منيها اختاط بمني الرجل؛ فإذا خرج لا
يخلو عن منيها، لا محالة.
وإذا جرينا على ما قيده الإمام والقاضي، لم يكن ذلك خارجا عن كلام الشيخ.
وكلام الشيخ يقتض أمورا:
أحدهما: أن المني لو انتقل من محل إلى محل، من الرجل إلى المرأة، ولم يخرج -
لا يجب الغسل.
وعليه يدل [مفهوم] قوله عليه السلام لعلي - كرم الله وجهه-: "إذا
فضخت الماء؛ فاغتسل". رواه أبو داود.
والفضخ: هو الظهور.
وقال الهروي: فضخ الماء، أي: دفقه، وهو المفهوم، صرح به الأصحاب.
وزاد الماوردي تفصيلا في مني المرأة، فقال: إذا وصل إلى باطن فرجها:
فإن كانت ثيبا وجب عليها الغسل؛ لأن باطن الفرج في حقها كالظاهر؛ فإنه يجب
عليها غسله في الاستنجاء. وإن كانت بكرا فلا؛ لأنه لا يجب غسله في الاستنجاء.
الثاني: أنه لو خرج بقية المني، بعد الغسل، وجب الغسل ثانيا، وهو بذلك مقيس
على ما لو خرج بقية البول، بعد الوضوء.
الثالث: [أنه] لا فرق في خروجه بين أن يكون حال اليقظة أو النوم، بشهوة أو
دونها؛ لمرض من الذكر، أو الفرج، أو غيرهما. وهو المذكور في "التهذيب".
وفي "الحاوي": فيما إذا انكسر فقار ظهر الرجل؛ فخرج منه المني، في وجوب الغسل
منه وجهان، من اختلاف قوليه في وجوب الوضوء مما يخرج من سبيل مستحدث غير
السبيلين؛ ولذلك قال المتولي: إن حكمه إذا خرج من غير الذكر حكم الخارج المعتاد من
غير المخرج المعتاد؛ فيعتبر فيه: الانتفاح والانسداد والأعلى والأسفل.
والمذكور في "تعليق القاضي أبي الطيب"، في كتاب الحجر، أنه: لا يوجب الغسل.
وهذا إذا استحكم المني، فلو خرج قبل استحكامه منيا، قال في "الحاوي": فلا
غسل فيه، وجها واحدا.
فرع: إذا رأى الشخص منيا في ثوبه أو فراشه، ولم يتحقق أنه احتلم، فهل يجب
عليه الغسل؟
قال صاحب "الفروع":لا، سواء نام معه فيه غيره، أو كان على غيره، أو انفرد به،
والمشهور - وهو الأصح-: أن غيره، إن شاركه في لبسه - لا يجب عليه، وإن لم
يشاركه [غيره] في استعماله: فإن كان المني من ظاهر الثوب - لا يجب أيضا.
قال الماوردي: لاحتمال أن يكون قد علقه به من غيره. وإن كان من باطن الثوب،
وجب، وعليه إعادة ما صلى من آخر لبسة لبسه فيها، والأولى: الإعادة من وقت
الشك في حصول المني فيه.
وكلام الشيخ في إيلاج الحشفة يقتضي أمورا:
أحدهما: أنه لا يجب بإدخال ما دونها غسل، وهو المشهور.
وعن ابن كج حكاية وجه: أن تغييب بعض الحشفة كتغييب كلها.
الثاني: أن [إدخال مقدار] الحشفة من ذكر مقطوع الحشفة، لا يوجب الغسل،
وهو وجه حكاه الرافعي عن رواية ابن كج. والإمام حكاه في باب: أجل العنين، عن
رواية العراقيين.
وقال الماوردي: إن الشافعي نص عليه في كتاب "الإملاء"، وقال في
"الروضة": إنه الراجح عند كثير من العراقيين.
وعلى هذا إذا أولج باقي الذكر وجب الغسل.
والذي جزم به القاضي الحسين، والإمام هنا، وكذا الفوراني، والمتولي: أن مقدار
الحشفة من ذكر مقطوع قائم مقام الحشفة في ذلك وكل أحكامها غير الدية، وهو
الأصح.
الثالث: أنه لا فرق في ذلك، بين أن يكون إيلاجها مع حائل من ثوب أو لا، وهو
عند فقد الحائل مما لا خلاف فيه ومعه فيه ثلاث أوجه في "الحاوي":
أحدها: أن الأمر كذلك؛ قياساً على ما لو كان الحائل القافة، وبه قطع البغوي والإمام.
والثاني: أنه لا يجب؛ لأن الحائل يمنع اللذة، وليست الخرقة من الذكر، بخلاف
القلفة؛ ولهذا ينتقض بمسها الوضوء.
والثالث - قاله أبو الفياض البصري، وأبداه القاضي الحسين احتمالاً، بعد ذكره الأول
- أن الخرقة إن كانت خفيفة لا تمنع اللذة ووصول بلل الفرج إلى الذكر وجب؛ وإلا فلا.
الأمر الرابع: أنه لا فرق في إيجاب الغسل - بإيلاجها - على الرجل، بين أن
يكون مولجاً فيه، أو هو مولجها في قبل غيره أو دبره، من ذكر أو أنثى، حي أو ميت،
آدمي أو غيره، وهو كذلك بلا خلاف في الآدمي، وكذا في غيره، على المشهور.
وفي "الحاوي"، في كتاب حد الزنى: أنا إن أوجبنا الحد بالإيلاج في فرج البهيمة
وجب به الغسل؛ وإلا فوجهان، وجه المنع: أنه في حكم المباشرة في غير الفرج،
وهي لا توجبه بلا خلاف؛ مالم يتصل بها الإنزال.
وإذا أدخل ذكر البهيمة في دبره، يشبه أن يكون على الخلاف؛ لما ستعرفه.
ولو أدخل ذكر خنثى مشكل في دبره، لم يجب عليه الغسل، ويجب عليه
الوضوء، كما قاله العراقيون.
والمراوزة قالوا: فيما يجب عليه الخلاف الآتي، فيما إذا شك: هل الخارج من
ذكره مني أو مذي؟
وكذا لا فرق في إيجاب الغسل - بإيلاجها - على المرأة، بين أن يكون
الإيلاج: في قبلها أو دبرها، من حي أو ميت، صغير أو كبير، في يقظة أو منام، متصلاً
ذكره - أي: الحشفة - أو مقطوعاً وهو كذلك، وفي"التتمة" حكاية وجه في الذكر"
المقطوع: أنه لا يوجب الغسل؛ كما لا ينقض مسه الوضوء، على وجه.
والبهيمة: كلام الشيخ يقتضي إلحاقها بالآدمي في ذلك، وقد حكى الإمام عن
شيخه ذلك؛ تعتباراً بالإيلاج في فرجها، ثم قال: وهذا فيه نظر - عندي - من جهة أن
فرض ذلك في غاية الندور.
قلت: ويظهر مجيء ما حكيناه عن الماوردي فيها.
الخامس: أنه لا فرق قي إيجاب الغسل بإيلاجها، بين أن تكون: من ذكر صحيح
أو أشل - وهو المذهب في "الروضة" - ولا بين أن يكون زائداً أو غير زائداً. ولا
شك في أنه إذا كان زائداً - بأن كان لكل شخص ذكران يبول بأحدهما - في عدم إيجاب
الغسل بإيلاجه. أما إذا كان يبول منهما؛ انتقض بإيلاج أيهما كان؛ لأنه ذكر رجل؛
وبهذا خالف ذكر الخنثى المشكل، والله أعلم.
قال: ومن الحيض والنفاس؛ لنا ستعرفه في باب الحيض.
قال: وقيل: يجب عليها أيضا من خروج الولد، أي: الذي لم يخرج بسببه نفاس؛
لأن الولادة مظنة خروج الدم، والحكم يدار على المظان؛ كما في الانتقاض
بالنوم، وإيجاب الغسل بالإيلاج، وإن لم يتحقق إنزال الصغير.
والجمهور وجهوه بأن الولد مني منعقد من مائها ومائه؛ وهذا ما حكاه الماوردي
في كتاب الحيض، عن ابن سريج.
وقال البندنيجي والروياني: ثم إنه المذهب، وهو الأصح في "النهاية"، و "الكافي"،
والختار في "المرشد".
وقيل: لا يجب؛ لأن الولد لا يسمى منيا، والأحداث لا تثبت قياسا، وهذا
قول ابن أبي هريرة.
فإذا قلنا بالأول، ففي أي وقت يصح غسلها؟ فيه وجهان في "الحاوي"؛ بناء
على أن أقل النفاس مجة أو ساعة.
فعلى الأول: يصح عقيب خروج الولد، وما بعده.
وعلى الثاني: لا يصح إلا بعد مضي ساعة.
وعلى الخلاف في الأصل، يتخرج ما إذا ولدت في نهار رمضان:
فعلى الأصح: يبطل صومها.
وعلى الثاني: لا.
ثم إذا أجرى الخلاف في وجوب الغسل [بخروج الولد بجريانه] بخروج
المضغة والعلقة أولى، وبه صرح في "الكافي"، وصحح الوجوب. وجزم البغوي
والقاضي الحسين بوجوبه بخروج المضغة، [وقالا بالوجهين] في العلقة.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي بأنه لا يجب الغسل بما عدا ما ذكره، من خروج: المذي،
والودي، والمجنون، وغسل الميت، وهو كذلك في خروج المذي والودي بلا خلاف،
وفيمل عداه كلام يأتي. وقد زاد بعضهم مع ذلك الموت؛ فعده موجبا للغسل. ولا
يرد على الشيخ؛ لأنه يتكلم فيما يجب فرض عين على المرء المغتسل، وذلك فرض
كفاية على غير المغتسل.
وعدول الشيخ عن قوله: يجب على الرجل بشيئين، وعلى المرأة بأربعة أشياء، إلى
ما ذكره - يعرفك [أن] اختياره: أن الغسل لا يجب بخروج ذلك، بل بإرادته القيام
إلى الصلاة، بشرط تقدم ذلك، وهو وجه حكاه الأصحاب، مع آخر أنه يجب بهذه
الأشياء، ولكن شرط ايجابها القيام إلى الصلاة، كما يقال: النكاح موجب لكمال
المهر؛ بشرط التمكين من الوطء أو الموت، وهذا هو الصحيح في "التممة".
وإذا قلنا به ففي الحيض هل نقول: طرآنه موجب، أو انقطاعه؟ فيه وجهان:
الذي صدر به أبو الطيب كلامه: الأول، فقال: يجب بظهور الدم، وإنما يصح
عند الانقطاع، وهو المذكور في تعليق "البندنيجي"، في كتاب الحيض.
وقال في "الكافي": إنه الأصح. ونسبه الإمام إلى أبي بكر الإسماعيلي، وغلطه
فيه، ونقل عن أكثر الأصحاب مقابله، وقال: إنه لا يظهر للاختلاف كله فائدة.
وبعضهم قال: فائدته في الحائض أنا إذا قلنا لها أن تقرأ القرآن؛ فأجنبت، هل يصح
غسلها؟ إن قلنا: إن غسل الحيض يجب بطروئه، لم يصح.
والأصح، والمذكور في "الإبانة"، [و "التتمة"]: صحته على هذا القول.
وقد ذكرت في باب غسل الميت عند الكلام في الشهداء وجها ثالثا: في أنه يجب
مجموع الأمرين، وفائدة الخلاف؛ فليطلب منه.
قال: وإن شك، هل الخارج من ذكره مني أو مذي أي: مثل أن نام، وانتبه، فرأى
في ثوبه شيئاً؛ فلم يدر أنه مني، أو مذي، وتحقق أنه أحدهما، وتعارضت عنده
الأمارات، وام يذكر لذة حصلت في نومه - فقد قيل: يلزمه الوضوء؛ لأن وجوبه
محقق؛ فإن الخارج إن كان مذياً انتقض وضوءه فقط، وإن كان منياً فهو نلقض
للوضوء موجب للغسل ألا ترى إلى قول أبي الطيب الذي حكيناه من قبل: إن جميع
ما يخرج من الذكر موجب للوضوء، وإذا ثبت أنه ناقض للوضوء، على كل حال
وجب تجديده، دون الغسل؛ لأن الأصل عدم وجوبه، واحتمال كونه منياً لا يوجبه؛
كما إذا شك: هل أحدث، أم لا؟ وهذا ما اقتضى كلام العراقيين القطع به؛ حيث قالوا:
لو أولج خنثى مشكل آلة الرجل في دبر الرجل، لم يجب على المولج فيه الغسل،
ووجب عليه الوضوء.
وهو [نظير هذه المسألة]؛ إذ يحتمل أنيكون الخنثى رجلاً؛ فيكون الواجب
عليه الغسل، ويحتمل أن يكون امرأة؛ فيكون ما اولجه عضواً زائداً، يجب بولوجه
االوضوء فقط.
ثم ظاهر كلام الشيخ أنه - على هذا - لا نكلفه غسل ما أصاب بدنه وثوبه من
الخارج، وهو ظاهر؛ لأن الأصل عدم وجوبه، وهذا ما حكاه الماوردي في هذا
الباب لا غير، وقال: إنه لو اختلط في الأمرين؛ فغسله واغتسل، كان أولى وأفضل.
وما ذكرناه، وإن صح توجيهه، فهو مشكل؛ لأنه يلزم منه القطع بفقد شرط من
شرائط الصلاة؛ لأنه إن كان منياً فالواجب استيعاب البدن بالغسل فقط، ولم يوجد.
وإن كان مذياً: فالواجب [مع الوضوء] غسل ما أصابه من الخارج، فإذا لم يعم
البدن بالغسل، ولا غسل ما أصابه تحقق فقد شرط منها، والقياس: عدم صحتها.
ولا جرم قال الشيخ: ويحتمل - عندي - أنه يلزمه الغسل؛ لأن خروجه أوجب
شيئاً محققاً، ولا تحصل البراءة منه يقيناً إلا بالغسل؛ فوجب.
وإنما قلنا: إنها تحصل به يقيناً؛ لأن الخارج: إن كان منياً فهو واجبه، وإن كان مذياً
فهو يغني عن الوضوء، في ظاهر المذهب عند الجمهور، كما قال الماوردي.
وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يحتاج معه إلى وضوء؛ لما ذكرناه من التقرير،
ولا إلى غسل ما أصابه من الخارج؛ إذا قلنا بطهارة المنى، وهو ظاهر؛ فإن الأصل
عدم وجوبه. ولا شيء عند ملاقاته تحقق وجوبه، حتى نقول: يحتاط في البراءة عنه،
لكنه قال في "المهذب": عندي [أنه] يجب أن يتوضأ مرتبا، ويغسل سائر بدنه،
ويغسل الثوب منه؛ لأن جعله منياً ليس بأولى من جعله مذياً، ولا سبيل إلى إسقاط
حكمهما؛ لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة؛ فوجب الإتيان بموجبهما؛
ليسقط الفرض بيقين. وهذا قد حكاه الرافعي وجهاً في المذهب، ولا يمتنع أن
يكون أبدى في كل كتاب احتمالاً غير الآخر.
وعن بعض الأصحاب حكاية وجه آخر: أنه يخير بين أن يجعله منياً ويجري جميع
أحكامه، أو مذياً ويبني عليه؛ لأنه يحتمل الأمرين احتمالاً واحداص.
وهذا ما أطلق الإمام في باب سنة الوضوء [حكايته، وحكاه] عن شيخه هاهنا،
والقاضي الحسين حكاه عن القفال، وهو الأصح في الرافعي، ولم يذكر الغزالي
سواه، وقال: إنه لو راد الاقتصار على الوضوء، ولم يغسل ما أصابه من الخارج
فالمذهب: أنه لا يجزئه.
وفيه وجه بعيد، ادعى الإمام أنه غلط؛ لما أسلفنا.
ومثله وجه مححكى في "النهاية" و "الوسيط": أنه يجزئه كالوضوء المنكس، وهو
بالتغليط أولى.
وقد حكى القاضي الحسين والفوراني عن القفال: أنه: لو توضأ، ولم يغسل الثوب لا
تصح صلاته، ولا يجب عليه الترتيب في الوضوء، وأنه رجع عن ذلك؛ لأجل ما ذكرناه.
والحكم فيما إذا شك: هل الخارج من ذكره مني أو مذي، كما في مسألة الكتاب
وعليها تكلم الإمام في هذا الباب، وأبدى [وراء ما] حكاه عن شيخه احتمالا،
وقال: قد صح في الأخبار والآثار تمييز المني بصفاته عن سائر الخارجات؛ فليس
كالشاك في الحدث لا يجد علامة يتمسك بها؛ فإن العلامات - هاهنا - ثابتة.
فإذا غلب على القلب أنه مني؛ من جهة أنه لا يليق بصاحب الواقعة الودي، أو
ربما كان تذكر حلما رآه، ووقاعا تخيله، ثم شاهد الخارج؛ فيجوز أن يقال: يستصحب
يقين الطهر، ويجوز أن يحمل الأمر على غالب الظن؛ تخريجا على غلبة الظن في
النجاسة؛ فإن هذا الذي انتهى الكلام إليه مما يغلب في مثله وقوع غلبة الظن.
ولو لم يغلب على الظن أنه مني، فلا يجب الغسل بلا الشك. قال: ومن أجنب:
يقال: أجنب الرجل، وجنب بفتح الجيم وضم النون أي: صار جنبا؛ بجماع أو إنزال.
والجنابة: البعد، وسمى بذلك؛ لبعده عن المسجد والقرآن. ويقال:"جنب" للرجل
والمرأة، والاثنين، والجمع، كله بلفظ واحد؛ قال الله - تعالى-: {وإن كنتم جنبا
فاطهروا} [المائدة:6]. قال: حرم عليه الصلاة؛ للإجماع، وفي معناها: سجود التلاوة
والشكر والطواف؛ لقوله عليه السلام:"الطواف بالبيت صلاة
…
" الخبر.
قال: وقراءة القرآن؛ لقوله عليه السلام:"لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئا من
القرآن".
وعن عمر أنه قال: يا رسول الله، إنك تأكل وتشرب وأنت جنب؛ فقال:"إني آكل
وأشرب وأنا جنب، ولا أقرأ وأنا جنب". وقد كان منع الجنب من القراءة مشهورا
بين الصحابة.
قال الرافعي: ولا يستثنى من ذلك إلا من لم يجد ماء أو ترابا؛ فإنه هل يقرأ الفاتحة
في صلاة الفرض؟ فيه وجهان: أصحهما: التحريم؛ كما يحرم ما زاد عليها.
قال في "الروضة": والأصح الذي قطع به جماهير العراقيين وجوب قراءتها؛ لأنه
مضطر إليها.
ولا فرق في تحريم القراءة على الجنب بين الجهر والإسرار إذا نطق به بلسانه. وقراءته
بالقلب من غير تلفظ باللسان، لا تحرم، وكذا النظر إلى المصحف؛ قاله الماوردي.
وقال: إنه لا فرق في تحريم القراءة باللسان، بين قراءة جميع القرآن، أو آية منه، أو
حرف؛ لعموم الخبر.
وقال أبو الطيب: [إنه] لو كبر أو هلل، وقال كالآمر: خذ الكتاب بقوة، ونحو
ذلك - إن قصد به غير القرآن جاز، وإن قصد به القرآن، لم يجز.
وسكت عن حالة الإطلاق، والظاهر التحريم؛ كما هو مقتضى كلام الماوردي.
وكلام الغزالي أصرح في المنع منه؛ فإنه قال: يستوي في التحريم الآية وبعضها،
إلا أن يأتي بها على قصد الذكر، كقوله: باسم الله، والحمدلله.
وكلام القاضي الحسين، في باب صفة الغسل [يدل] على عدم التحريم؛ حيث
قال: والصحيح أنه يستحب للجنب التسمية؛ لأنها تجوز له على قصد قراءة القرآن؛
وهذا قد صرح الإمام بحكايته عن شيخه، وقال: إنه مقطوع به؛ فإن القصد مراعى في
هذه الأبواب؛ فاقتصر الرافعي على إيراده.
قال: ومس المصحف، وحمله؛ لأنه إذا حرم ذلك على المحدث؛ فعلى الجنب
أولى. وفروع ذلك مذكورة فيما تقدم.
قال: واللبث في المسجد؛ لقوله عليه السلام:"لا أحل المسجد لحائض، ولا
جنب".
فإن قيل: هذا الخبر يقتضي تحريم مروره فيه، ولا خلاف عندكم في جوازه؛ كما
أفهمه قول الشيخ:"واللبث في المسجد".
قلنا: قوله - تعالى-: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43] دل
على جوازه؛ فإن المراد بالصلاة في الآية موضعها، قال الله - تعالى-: {لهدمت
صوامع وبيع وصلوت} [الحج: 40]، والصلوات لا تهدم؛ وإنما يهدم مكانها. وقوله -
تعالى-: {إلا عابري سبيل} يؤيد ذلك؛ فإن العبور على فعل الصلاة، لا يصح؛ وإنما
يصح على مكانها؛ وحينئذ فتقديرها: لا تقربوا مواضع الصلاة
…
إلى آخرها.
قال أصحابنا: ونهيهم عن قربان مواضعها في حالة السكر الطافح؛ خشية من تلويثها.
كما نهى عليه السلام عن إدخال الصبيان والمجانين الذين لا يستمسكون عنها.
وقال أبو إسحاق: تقدير الآية: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون، ولا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل.
قال الماوردي: وهذا التأويل نقل عن علي، وابن عباس.
ولأنه مكلف أمن منه تنجس المسجد؛ فجاز له العبور فيه؛ كالمحدث.
نعم، ذلك مكروه إلا لغرض؛ كما إذا كان المسجد في طريقه إلا مقصده، أو كان
أقرب الطريقين إليه.
وفي "تعليق القاضي الحسين": أنه: إذا كان في المسجد، وله طريقان أحدهما
أقرب، والآخر أبعد؛ فاجتاز الأبعد، حتى لو بلغ مسافة القصر.
وفي "الرافعي" حكاية وجه، فيما إذا كان له طريق غير المسجد: أنه لا يجوز له
العبور فيه، ولا يجوز له التردد في أكنافه، بلا خلاف.
وإليه يرشد قول الشيخ:"واللبث في المسجد"؛ فإن التردد فيه لبث.
قال الإمام، قبيل باب البياعات: ولا نكلف من أجنب في المسجد بالإسراع، بل
يمشي على الاعتياد، ولعل الضبط فيه: ألا يعرج في موضع تعريجا يقتضي بأن مثله
يكون أقل ما يجزئ في الاعتكاف؛ إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللبث.
ثم تحريم اللبث مخصوص بما إذا لم تدع إليه ضرورة.
فإن دعت: كما إذا نام في المسجد، فاحتلم، ولم يمكنه الخروج؛ لإغلاق الباب،
أو لخوف فلا تحريم. وليتيمم في هذه الحالة تطهراً وتخفيفاً للحدث، بقدر
الإمكان؛ وهذا إذا وجد تراباً غير تراب المسجد، فلو لم يجد سواه لا يتيمم به.
وفي "تعليق القاضي الحسين" وجه: أنه يتيمم به.
وهذا مخصوص بالمسلمين؛ فإن في منع الكافر الجنب من اللبث فيه خلافاً يأتي
في الكتاب.
وتخصيص الشيخ الجنب بما ذكره من الأحكام، وإن كانت الحائض والنفساء
تشركه فيه؛ لامتيازهما بأمر ستعرفه في بال الحيض.
وقد أفهم ذكر الشيخ ما يحرم على الجنب، وكذا ما يحرم على الحائض - إباحة
ما عدا ذلك لهما من: الأكل، والشرب، والنوم، وغير ذلك، وعليه دلت الأخبار.
نعم، قال الأصحاب: يستحب للجنب: ألا يأكل، ولا يشرب، ولا يجامع، ولا ينام؛
حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل فرجه، ولا يستحب مثل ذلك للحائض والنفساء
إلا بعد انقطاع طمهما.
قال ابن الصباغ وأبو الطيب: والفرق: أن وضوء الحائض لا يفيد شيئاً، ولا كذلك
وضوء الجنب؛ فإنه يخفف الجنابة، ويزيلها عن أعضاء الوضوء، ويطهرها. والإمام
قال: إنه لا يرفع الحدث، وقضية ذلك التسوية، والله أعلم.