الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما ينقض الوضوء
قد سلف في باب: ما يوجب الغسل ذكر ما لأجله حسنت هذه الترجمة هنا.
قال وهو أربعة:
أحدها: الخارج من السبيلين؛ أي: على البدل.
إطلاق القول بأن الخارج من السبيلين ناقض للوضوء يدل على أنه لا فرق فيه بين
أن يكون ريحا أو عينا، معتادا أو نادرا، نجسا أو طاهرا؛ وكذا صرح به الغزالي.
ووجهه في الريح فقط قوله عليه السلام:" لا وضوء إلا من صوت، أو ريح"
أخرجه الترمذي، وقد سئل أبو هريرة عن قوله عليه السلام:" لا يقبل الله صلاة
أحدكم إذا أحدث؛ فقيل له: ماالحدث؟ فقال: فساء، أو ضراط" ذكره البخاري.
ووجهه في العين قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط}
وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، وأطلق على الخارج من
الإنسان؛ لملازمته له في العادة.
وهذان الدليلان يشملان المعتاد والنادر، والنجس والطاهر؛ إذ انتقاض الوضوء
لذلك غير معقول؛ فلا مدخل للأقيسة فيه؛ فحلت الظواهر فيها محل النصوص.
قال الماوردي: ولأن الغائط كما يقصد لإخراج المعتاد يقصد للنادر؛ فالآية
تشملهما.
وقد ورد في النادر دليل يخصه: روى أن عليا قال:" كنت رجلا مذاء فاستحييت أن
أذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته؛ فأمرت مقداد بن الأسود فسأله؟ فقال: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ"رواه أبو داود، وفي لفظ:" يغسل ذكره ويتوضأ" متفق
عليه، ولفظ الترمذي:"عن علي قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؛ فقال:
"من المذي الوضوء، ومن المني الغسل"، وإذا أردت أن تستدل للمجموع بدليل واحد-فقل:
لقوله – عليه السلام:"الوضوء مما خرج".
واعلم: أن من النادر الذي ينتقض الوضوء به عندنا بلا خلاف: خروج الريح من
ذكر الرجل، وفرج المرأة لأدرة، أو استرخاء الأير ونحوه، وكدوام الاستحاضة،
وكذا خروج الدود والحصى ونحوهما مجردا عن رطوبة؛ كما قاله ابن الصباغ
والماوردي وغيرهما، ومع ذلك يتعين أن يكون المراد بالطاهر – في لفظ الغزالي-:
المني، وقد قال الرافعي: إنه ليس مرادا به، بل المراد الدود والحصى وسائر ما هو
طاهر العين.
وأما المني: فلا يوجب خروجه الحدث وإنما يوجب الجنابة؛ ألا ترى إلى
تصويرهم الجنابة المجردة عن الحدث بمن أنزل بمجرد النظر، أو بالاحتلام قاعدا؟
نعم حكى صاحب"البيان" عن أبي الطيب أن خروج المني يوجب الحدث الأصغر؛
لأنه خارج من السبيلين، والأكبر لأنه مني.
قال: والمذهب المشهور هو: الأول؛ فإن الشيء مهما أوجب أعظم [الأمرين
بخصوصه لا يوجب أدونهما بعمومه؛ كزنى المحصن؛ لما أوجب أعظم] الحدين؛
لأنه زنى المحصن، لا يوجب أدناهما لأنه زنى.
قلت: والظاهر نقض الوضوء به وأنه مراد الغزالي:
أما الأول: فلأن الماوردي ادعى الاتفاق على وجوب الوضوء بخروج دم الحيض،
وهو موجب لنقض الطهارة الكبرى بخصوصه كالمني؛ فوجب استواؤهما، ولا
ينفع في ذلك أن يقال: الموجب للغسل من الحيض: انقطاعه لا خروجه، والموجب
للوضوء خروج الخارج، لا انقطاعه؛ فما أوجب الأكبر غير ماأوجب الأصغر؛ فأشبه
ما إذا جامع، ولم ينزل؛ فإنه يجب عليه الوضوء بالتقاء البشرتين، والغسل بتغييب
الحشفة؛ لأنا نقول: الصحيح – كما ستعرفه – أن الموجب لغسل الحيض طروءه
أيضا، وإن كانت صحته تتوقف على انقطاعه؛ كما أن الوضوء يجب بخروج البول،
ويتوقف صحته على انقطاعه، ثم إنه لو كان هذا مفرعا على ذلك لزم القائل الآخر ألا
يحكم بايجاب الوضوء وهو متفق عليه.
وأما الثاني: فلأن [ما] ذكره يلزم منه التكرار؛ بخلاف ما قلناه، وتصوير
الأصحاب الجنابة المجردة عن الحدث بذلك لا يرد [على] ما قلناه؛ لأنا نقول:
مرادهم تصوير جنابة لا يجب معها فعل الوضوء، بل الغسل كاف بلا خلاف، ونحن
كذلك نقول في هذه الصورة، لا لأنه لم يوجد نقض الطهارة الصغرى؛ بل لأنه قد
وجد في حال واحد ما يقتضي ايجاب فعلين في محل واحد في آن واحد، وذلك لا
يمكن؛ فلا يخاطب به، ولا سبيل لإسقاطهما؛ فتعين الإتيان بأعمهما، وإدراج
الآخر فيه؛ وبهذا فارق ما إذا تقدم الحدث الأصغر على الأكبر، أو تأخر؛ حيث
أوجبنا الوضوء والغسل على رأى؛ لأن حال وجود سبب أحدهما أو شرطه، لم
يوجد سبب وجوب الآخر أو شرطه.
ومسألة الزنى لا ترد؛ لأن الشرع شرط في إيجاب أدنى حديه فقد الإحصان؛
فلم يجب عند وجوده؛ لفقد الشرط، ولا كذلك في مسألتنا.
ثم لو صح ما ذكره، لزم الاعتراض عليه في أحد الأمرين؛ لأنه قال: إن الخلاف
المذكور في إجزاء الغسل فيما إذا اجتمع عيه وضوء وغسل جار فيما إذا تقدم
الحدث الأصغر أو قارن الأكبر، ولا يتصور وجود المقارنة إلا إذا جعلنا المني موجبا
لهما؛ فإن كان لا يوجب الوضوء تعذر تصوير اجتماع موجب الوضوء والغسل في
حال واحد، وإن كان يوجبه، صح ما قلناه. والله أعلم.
فرع: لو أخرجت دودة رأسها من المخرج، ثم ردت، ففي انتقاض الوضوء وجهان
في"الحاوي"، سلف مثلهما فيما لو أخرج الجنين رأسه، ولم ينفصل – هل يجري
عليه حكم المنفصل، أم لا؟ لكن الصحيح – كما قال الإمام في مسألة الجنين -
المنع، والصحيح – كما قال في"الروضة" في مسألتنا – الانتقاض.
واعلم: أنه لا فرق في نقض الخارج الوضوء [بين أن يكون شيئا لم يدخل في
السبيل، أو شيئا أدخل فيه]. كما إذا أدخل مسبارا في ذكره، أو قطنة ونحو ذلك،
ثم أخرجه؛ صرح به الأئمة.
قال: فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح مخرج دون المعدة – أي: تحتها- انتقض
الوضوء بالخارج منه؛ لأن الإنسان لا بد له من مخرج؛ فتعين ذاك مخرجا له.
معدة: الموضع الذي استقر فيه الطعام، أشار إليه في "المجمل"وهي بفتح
الميم، وكسر العين، ويجوز إسكان العين، مع فتح الميم وكسرها، ومحلها مابين
فوق السرة إلى الموضع المنخفض تحت الصدر الذي يخرج منه النفس. وكلام
النواوي وغيره يدل على أنها السرة؛ لأنه قال: المراد بتحت المعدة تحت السرة
وبفوقها: السرة.
قال: وإن انفتح فوق المعدة – أي: والمخرج المعتاد منسد – ففيه قولان:
وجه الانتقاض: ما ذكرناه.
ووجه مقابله: أن ما أحالته الطبيعة تلقيه إلى الأسفل، لا إلى الأعلى؛ فهو إذن شبيه
بالقيء، وهو لا ينقض الوضوء عندنا بلا خلاف؛ وهذا ما اختاره المزني، وصححه
القاضييان: أبو حامد، وأبو الطيب، وغيرهم.
قال الإمام: والحكم فيما إذا انفتح دون المعدة كالحكم في المنفتح فوقها.
قال: وإن لم ينسد المعتاد لم ينتقض الوضوء بالخارج من فوق المعدة؛ لقوة شبهه
بالقيء، وفيما تحتها قولان:
وجه الانتقاض: القياس على ما إذا كان المخرج المعتاد منسدا.
ووجه عدمه: فقدان العلة، وشبهه بالجائفة، وهذا ما صدر به أبو الطيب كلامه، ثم
حكى عن المحاملي حكاية وجهين فيه، ولا جرم قال ابن الصباغ: المشهور أنه لا
ينتقض.
ومن أصحابنا من حكى فيه وجهين، والأصح في "الرافعي" وغيره: عدم
الانتقاض.
وما ذكر الشيخ في حالتي انسداد المخرج [المعتاد]، وانفتاحه هو ما ذكره
الغزالي؛ تبعا لإمامه، والمتولي تبعا للفوراني، واقتصر على إيراده الرافعي، ووراءه
أمور:
أحدها – حكاه الماوردي، عن ابن أبي هريرة، فيما إذا كان المخرج المعتاد
منسدا-:أنه لا ينتقض الوضوء بالخارج من فوق المعدة، وفيما تحتها قولان. ونسبه
الأصحاب إلى الغفلة فيه. والثاني – قاله القاضي الحسين فيما إذا انفتح فوق المعدة، والمخرج المعتاد
منسد-: أنا إن قلنا: إذا انفتح فوق المعدة، والمخرج المعتاد منفتح – لا ينتقض؛
فهاهنا أولى، وإن قلنا: ينتقض ثم؛ فهاهنا وجهان.
والثالث – حكاه الشيخ أبو حامد عن الأكثرين، فيما إذا كان المخرج المعتاد
منفتحا، وانفتح مخرج فوق المعدة:_ أنا إن قلنا: إنه لا ينتقض بالخارج منه مع انسداد
المعتاد؛ فمع انفتاحه أولى، وإلا فوجهان؛ كما في الأسفل.
قال العمراني: وهذا هو القياس.
ولعل الشيخ اقتصر على ما ذكره تفريعا على الأصح.
وجميع ما ذكرناه من التفصيل والخلاف إذا كان انسداد المخرج المعتاد وانفتاح
غيره لعلة طرأت، أما إذا كان ذلك من أصل الخلقة: ففي" الحاوي": أنه لا خلاف في
الانتقاض بالخارج من المنفتح، سواء كان دون المعدة، أو فوقها. والله أعلم.
وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق فيما حكم بالانتقاض بخروجه من غير المخرج
المعتاد بين أن يكون معتادا أو نادرا، وهو الأصح القولين، وبه جزم في "التتمة"؛ لأنه
لما ساوى المخرج في المعتاد، وجب أن يسأله في النادر.
ومقابله: أنه لا ينتقض بالنادر؛ لأن الضرورة في جعله كالمخرج إنما هي في
المعتاد، دون النادر، وهذا ما اختاره البغوي، صاحب"الكافي" والشيخ أبو محمد،
ووجهه: بأنا إنما حكمنا بانتقاض الوضوء بالخارج النادر من المخرج المعتاد؛ لأنه لا
يخلو خروجه عن خروج شيء من المعتاد، ولو خفي وقل؛ وهذا يخالف نص
الشافعي؛ فإن أبا الطيب وابن الصباغ حكيا أنه قال: سواء كان الخارج مسبارا أو
حقنة، خرج على وجهه أو خالطه شيء.
والمسبار: الميل.
فرع: حيث قلنا: لا ينتقض الوضوء بالخارج من المنفتح، تعين في إزالته الماء،
وحيث قلنا: إنه [ينتقض به]؛ كالخارج من الأصلي، فهل يجري به مجرى الأصلي
في إيجاب الغسل بالإيلاج فيه، وانتقاض الوضوء بمسه، وتحريم النظر [إليه]-
إذا لم يكن في محل العورة – وعدم نقض الوضوء بالنوم قاعدا عليه متمكنا – كما
[قال] في"الحاوي" – وجواز الاستنجاء فيه بالأحجار؟ فيه وجهان، أصحهما لا.
وعن ابن كج حكاية الخلاف في الاستجمار قولين؛ فإذا قلنا: يكفي فيه الحجر؛
فذاك إذا كان الخارج معتادا؛ فلو كان نادرا تأتى فيه القولان، وبذلك يحصل في
المسألة ثلاثة أقوال كما حكاها الإمام، ثالثها: يجزىء الحجر؛ إذا كان الخارج معتادا
لا نادرا.
وأعجب منه القاضي الحسين؛ حيث حكى الخلاف في جواز الاستنجاء فيه
بالحجر من الخارج المعتاد وجهين، وقال: إنهما ينبنيان على ما إذا خرج الدم
والقيح ونحوهما من المخرج المعتاد هل يجزىء فيه الحجر؟ فإن قلنا: يجزئه، فذاك
نظر إلى المخرج؛ فعلى هذا لا يجزىء هنا، وإن قلنا: لا يجزئه ثم، فذاك نظر إلى
الخارج؛ فعلى هذا يجزىء هنا. وقياس هذا البناء أن الخارج لو كان نادرا لا يجزىء فيه
الحجر وجها واحدا؛ وكذا صنع في"الكافي".
لكن القاضي قال: إنه ينبني على ما إذا خرج النادر من السبيلين؛ فإن قلنا: لا يجزىءفيه
الحجر وجها واحدا؛ وكذا صنع في "الكافي".
لكن القاضي قال: إنه ينبني على ما إذا خرج النادر من السبيلين؛ فإن قلنا: لا يجزىء
فيه الحجر، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان.
ومن مجموع كلامه يأتي في المسألة ثلاثة أوجه، كما حكيناها أقوالا عن رواية
الإمام؛ وكذا ذكرها الغزالي.
قال الإمام: والتردد في هذه الأحكام مع بعده لا يتعداها؛ فلا يثبت في الإيلاج فيه
شيء من أحكام الوطء، سوى ما ذكرناه من وجوب الغسل، أي: ولا يجب به المهر
و [لا] الحد، ولا يلحق به النسب، ولا يحصل به الإحصان.
وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية الوجهين في إيجاب الحد بالإيلاج فيه.
قال الرافعي: وقد رأيت لأبي عبدالله الحناطي طرد التردد في إيجاب المهر
وسائر أحكام الوطء.
واعلم: أن الخارج من إحدى آلتي الخنثى المشكل كالخارج من المنفتح تحت
المعدة من غيره؛ صرح به المتولي، والإمام قال في "الروضة":وقيل: ينتقض قطعا،
وقيل عكسه. والخنثى غير المشكل حكم الخارج من المخرج الزائد [منه]، كما
تحت المعدة بلا خلاف.
قال: والثاني: زوال العقل إلا النوم قاعدا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض؛ لقوله
عليه السلام:" من نام قاعدا فلا وضوء عليه، ومن اضطجع فعليه الوضوء"،
وهذا الخبر دلالته على [عدم النقض بالنوم قاعدا بالمطابقة، وأما دلالته على]
النقض بزوال العقل هل هي من طريق المطابقة، أو من طريق الأولى؟ ذلك ينبني
على اختلاف العلماء في حد العقل، والصحيح في حده عند علمائنا – على ما حكاه
مجلى عنهم في كتاب الطلاق-: أنه صفة يتهيأ للإنسان بها درك النظريات العقلية،
وتلك الصفة من قبيل العلوم الضرورية؛ [وعلى هذا فدلالته على ما عدا النوم قاعدا
بطريق المطابقة أيضا، ومنه يظهر لك أن استثناء النوم قاعدا من زوال العقل استثناء
متصل، لا من غير الجنس].
ومن قال بخلاف هذا الحد، يقول: الدلالة عليه من طريق الأولى؛ لأن ما عدا
النوم، من: السكر، والإغماء، والجنون في الغلبة على العقل أقوى منه.
[وقد بنى] الفوراني انتقاضه بالسكر المحرم على أن السكران يسلك به مسلك
الصاحي، أم لا؟ فإن قلنا: لا، انتقض، وإلا لم ينتقض. والجمهور على الانتقاض به
مطلقا.
وقد حكى وراء ما ذكره الشيخ في النوم عن الشافعي أقوال بعيدة:
أحدها: أنه لا ينتقض الوضوء، إذا وجد في الصلاة في الركوع والسجود والقيام؛
لقوله – عليه السلام:"إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به الملائكة، فيقول:
[يا] ملائكتي انظروا إلى عبدي، روحه عندي وجسده بين يدي" فسماه ساجدا
بعدما نام، وقد اختاره في "المرشد".
والثاني – حكاه ابن الصباغ عن القديم:- أن النوم في الصلاة لا ينقض الوضوء،
واستدل له بقوله تعالى: {يبيتون لربهم سجدا وقياما} فأخرجه
مخرج المدح، وما تعلق به المدح انتفي عنه إبطال العبادة.
والثالث – حكاه [عنه] البويطي، مثل مذهب أبي حنيفة – أنه لا ينتقض بنومه
على أي هيئة كان من [هيئات المصلين]، سواء كان في الصلاة أو غيرها؛ لقوله -
عليه السلام:"لا وضوء على من نام قائما، أو راكعا، أو ساجدا"، لكن أئمة
الحديث ضعفوه.
والرابع – حكاه الرافعي:- أن النوم قائما لا ينقض الوضوء، وهذا أخذ من قول
الشافعي:"إذا نام قائما فزالت قدماه تبطل طهارته"؛ فإنه يفهم أنه إذا نام قائما، لم
تزل قدماه لم تبطل.
قال الفوراني: وهو غلط، والشافعي قصد أن سن أنه إذا تمكن منه النوم حتى
زالت قدماه- تبطل، وإن لم يتمكن، ولكن نعس – لا تبطل.
وأغرب المزني فقال: النوم مطلقا ينقض الوضوء على أي هيئة كان؛ كما ينتقض
بالإغماء والسكر والجنون على أي هيئة كان؛ كذا حكاه [عنه] العراقيون،
والماوردي، و [أنه] استدل له بعموم قوله – عليه السلام"من نام فليتوضأ"،
وكذا قوله في خبر صفوان:"أو نوم".
قال الفوراني: والإمام قد خرج ذلك قولا للشافعي؛ وهو: إذا تفرد برأي، فهو
صاحب مذهب، وإذا خرج للشافعي قولا، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو
يلحق بالمذهب لا محالة.
وقد نسب بعضهم هذا قولا إلى رواية البويطي؛ لأنه قال فيه: "من نام جالسا، أو
قائما؛ فرأى رؤيا- وجب عليه الوضوء".
والقاضي الحسين نسبه إلى رواية الترمذي.
وأيما كان، فقد حصل في انتقاض الوضوء بالنوم قاعدا قولان، وقد حكاهما أبو
إسحاق المروزي ومدارهما أن النوم في نفسه حدث، أو هو مظنة الحدث، فالمزني
يقول: إنه حدث، ونحن نقول: هو مظنة الحدث الذي هو الريح، ويدل عليه قوله-
عليه السلام فيما رواه معاوية: "العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء؛
فمن نام فليتوضأ"؛ فإنه إشارة لما ذكرناه.
وإذا كان كذلك- فالنوم قاعدا- كما ذكرنا- ليس بمظنة له؛ فلذلك لم يحكم به،
وقد روى مسلم أن "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء [قعودا] فكانوا ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضئون" والظاهر بلوغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى هذا لا فرق بين أن يكون القاعد هزيلا، أو سمينا مستندا- بحيث إذا زال
السناد سقط- أو لا؛ كما قاله في "التتمة"، وهو مفهوم كلام الشيخ.
وفي الهزيل وجه: أنه ينتقض وضوءه؛ لان اللحم ينضغط بأليتيه المحل.
وحكى الإمام أن المعلقين عن شيخه نقلوا أنه كان يقول: إذا استند إلى شيء؛
بحيث لو زال السناد لسقط- بطل وضوءه، وهو غلط من المعلقين.
نعم، لو نام قاعدا؛ فوقع؛ فإن لم ينتبه حتى زالت مقعدته عن الأرض، بطل وضوءه؛
وإن انتبه قبل ذلك، أو معه فلا ينتقض ولو لم يدر كيف كان الأمر فالأصل بقاء الطهارة.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا فرق في عدم النقض عند النوم قاعدا- كما ذكر-
بين أن يكون متربعا، أو محتبيا بيديه، وفي هذه الحالة وجهان للتردد في أن محل
الحدث هل ينضغط بها؟ وأصحهما في "الروضة" ما أفهمه كلام الشيخ.
قال الماوردي: ولعل القول المخرج [في] أن النوم ناقض في حالة الجلوس
محمول على هذا، وعن أبي الفياض البصري: أنه إن كان نحيف البدن معروق
الأليتين - انتقض وضوءه؛ لأن السبيل لا يكون محفوظا.
وإن كان لحيم البدن، تنطبق أليتاه على الأرض في هذه الحالة لم ينتقض وضوءه؛
لأن السبيل يكون محفوظا.
والاحتباء: أن يجلس على أليته، رافعا لركبتيه محتبيا عليهما عليهما بيديه.
والنوم الناقض: ما زال معه الاستشعار، مع استرخاء المفاصل، ولا ينقض مبادئه،
وهو المسمى بـ "السنة"، و "النعاس" و "الغفوة" وحده- كما قال المتولي- أن
يغشى النوم الأجفان والقلب يقظان يدرك بسبب ذلك الكلام.
قال: والثالث: أن يقع شيء من بشرته على بشرة امرأة أجنبية؛ لقوله تعالى: (أو
لامستم النساء) ، فعطف اللمس على المجيء من الغائط، ورتب عليهما
الأمر بالتيمم عند فقدان الماء؛ فدل- والحالة هذه- على كونه حدثا كالمجيء من
الغائط.
والبشرة: ظاهر الجلد. واحترز الشيخ بها عن أمرين:
أحدهما: ما إذا وقع شيء من شعره، أو سنه، أو ظفره على بشرة امرأة أجنبية-
فإنه لا ينتثض وضوءه عند العراقيين، والفوراني، وبه قطع الشيخ أبو محمد، وهو
المحكي في الشعر عن نصه في "الأم" والسن والظفر في معناه.
ولا جرم، قال الماوردي: المذهب أنه لا ينقض، وحكى وجها عن بعض
الأصحاب: أنه ينقض، وهو مشهور في طريق المراوزة؛ لأن حكم الشعر حكم البشرة
في ثبوت الحل بالنكاح؛ والتحريم بالطلاق، ووجوب الغسل؛ بسبب الجنابة
والموت؛ فكذا هنا، والسن والظفر بذلك أولى.
قال الإمام: وتشبت الصيدلاني بأن الخلاف في ذلك مأخذه أن الحياة هل
تحل ذلك، أم لا؟ وهذا رديء؛ فإنه وإن لم يثبت لها حكم الحياة؛ فإنه يلحقها الحل
والحرمة.
قلت: وقضية البناء ترجيح الانتقاض؛ إذ الصحيح أنها تحله، والصحيح عدم
النقض.
والخلاف جار فيما إذا وقع شيء من بشرته على شيء من ذلك منها، ولو وقع
شيء من شعره أو ظفره أو سنه على شيء من ذلك منها.
قال القاضي الحسين: فإن قلنا فيما تقدم: إنه لا ينتقض فهنا أولى، وإلا فوجهان.
والثاني: إذا حصل بين البشرتين حائل؛ فإنه لا ينتقض بلا خلاف، وإن كان الحائل
دقيقا، يحصل معه الالتذاذ بالمصادمة؛ لأنه لا يسمى من فعل ذلك: لامسا.
وقد روى عن ابن عمر وغيره أنهم قالوا:"المراد باللمس في الآية: الجس
باليد، ويشهد له قوله تعالى:{فلمسوه بأيديهم} [الأنعام:7]، وقد استدل لذلك بقول
الشاعر: [من الطويل]
وألمست كفى كفه أطلب الغنى
…
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
والماوردي نسب هذا البيت إلى الشافعي، وقوله حجة في اللغة، وهذا القيد
يقتضي أنه إذا وقع الزائد من يديه، أو الأشل منه على بشرة امرأة أجنبية – لا ينتقض
الوضوء وهذا هو الصحيح، وفيه وجه، واحترز بلفظ"المرأة" عما إذا وقع على عضو
مبان من المرأة؛ فإنه لا ينقض الوضوء؛ لعدم شمول لفظ الآية له؛ لأن العضو المبان
لا ينظمه لفظ "النساء"، والمعنى الذي لأجله نقض لمس النساء- وهو: كونه مظنة
الشهوة- مفقود فيه؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ وأبو الطيب.
وفي طريق المراوزة حكاية وجهين فيه، والأصح: المنع.
واحترز- أيضا- عما إذا وقع شيء من بشرته على بشرة أمرد مستحسن عند
جمهور الأصحاب؛ لأنه ليس مظنة الشهوة، ولا يندرج تحت اسم "النساء"، وعن أبي
سعيد الإصطخري نقض الوضوء به؛ كالمرأة؛ لأن شهوات كثير من الناس تميل إليه.
وهذا القيد يقتضي أمرين:
أحدهما: أنه لا فرق في المرأة الأجنبية بين أن يشتهي مثلها، أو لا؛ لكبر أو صغر،
وقد قال البندنيجي وأبو الطيب: إنه لا نص للشافعي في ذلك.
وقال أصحابنا: نقض الوضوء بمسها على قولين؛ كالمحارم، وأصحهما في
الصغيرة عدم اللمس، وفي الكبيرة النقض.
ومنهم من قطع به في الكبيرة من حيث إن "لكل ساقطة لاقطة"، وحكى الطريقين
الفوراني، والأولى الماوردي وغيره، وأجراها في الشيخ الكبير العادم الشهوة إذا
لمس، وقد زاد بعض الأصحاب في اعتبار المعنى، فاشترط في النقض بلمس من
تشتهى وجود الشهوة، والحناطي رواه عن ابن سريج، عن الشافعي، وذاك يخرج ما
وقع من غير قصد، أو عن قصد بغير شهوة.
والثاني: أنه لا فرق فيها بين الحية والميتة، وهو ما حكاه البندنيجي، وصدر بع ابن
الصباغ كلامه، وحكى عن [بعض] الأصحاب تخريجه على الوجهين في الصغار
والكبار، واستحسنه، والمخرج هو القاضي أبو حامد، وقد حكى الفوراني الطريقين،
وبنى القاضي الحسين الثانية على أنه هل يجب الحد بوطئها؟ وهل يجب تجديد
غسلها؟ فيه وجهان، وقضية البناء ترجيح عدم النقض، [وبه صرح الغزالي،
والرافعي] ، لكن الأظهر في "الحاوي": النقض.
قال: وإن وقع على بشرة ذات رحم محرم- ففيه قولان، أي: في "حرملة":
وجه الانتقاض: عموم الآية؛ ولأن ما نقض الوضوء من الأجانب نقضه من
المحارم؛ كلمس الفرج، والتقاء الختانين، وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الجديد.
وقا أبو إسحاق المروزي: إنه أشبه بالآية.
ووجه المنع: النظر إلى معنى الآية؛ فإنها تشعر بلمس اللواتي يقصدن باللمس
للاستمتاع؛ ولذلك اختلف المفسرون في المراد باللمس [فيها: فذهب بعضهم إلى أنه
الجماع، وبعضهم إلى أنه اللمس باليد؛] كما ذكرنا.
ولأنه – عليه السلام: "كان يحمل بنت ابنته [زينب] أمامة بنت أبي العاص في
صلاته" كما أخرجه البخاري، ومسلم، والبنات الصغار لا يستر جميع بدنهن- في
الغالب- فيغلب على الظن أنه لمسها؛ وهذا القول قال الماوردي، وغيره: إنه نص
عليه في القديم والجديد [، وصححه] ، وكذا الإمام، والخلاف مشهور في الكبار.
وفي الصغار منهن إذا قلنا: ينتقض بمس الكبار- الخلاف السابق، وأولى هنا
بعدم النقض؛ لامتزاج المحرمية والصغر.
واحترز الشيخ بقوله: "محرم" عما إذا وقع على ذات رحم ليست بمحرم: كبنت
العم، والعمة، والخال، والخالة فإنه ينتقض الوضوء قولا واحدا.
وبقوله: "ذات رحم" عما إذا وقع على ذات محرم، وليست برحم، كالمحرمة عليه
بالرضاع، أو المصاهرة؛ فإن في نقض الطهارة طريقين، حكاهما العمراني في
"الزوائد":
أحدهما: طرد القولين.
الثاني: القطع بالانتقاض ولم يذكر الرفاعي غيره.
قلت: ولو فصل بين ما غذا كانت حلالا له في وقت، ثم حرمت عليه [بعد
ذلك]؛ فينتقض الوضوء بمسها، وبين من لم تحل له أصلا؛ فيكون في لمسها
القولان- لم يبعد ويشهد لذلك ما ستعرفه في باب: الظاهر.
تنبيه: الرحم: علاقة القرابة، مأخوذ من الرحم؛ بضم الراء، وهو العطف.
والمحرم: مفعل، من "الحرمة" بمعنى: الحرام؛ مقتضب من قوله – تعالى-:
(حرمت عليكم أمهاتكم) والمراد: من لا يحل له نكاحها؛ بسبب
القرابة، وغيرها.
قال: وفي الملموس قولان:
وجه عدم النقض: ما روي عن عائشة أنها قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة؛ فجعلت أطلبه؛ فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك" رواه مسلم؛ وفي رواية: "فوقعت يدي
على أخمص قدميه"، والأخمص: ما ارتفع من باطن الرجل، فلو كان وضوء
الملموس ينتقض لم يمض صلى الله عليه وسلم في سجوده.
ولأنها مماسة تنقض وضوء اللامس، ولا تنقض وضوء الملموس؛ كمس الذكر،
وهذا [أحد ما] نص عليه في القديم، واختاره في "المرشد".
ومقابله: أنه ينتقض؛ لأنها مباشرة تنقض وضوء اللامس؛ فتنقض وضوء
الملموس؛ كالجماع، وهذا قد نص عليه في القديم أيضا، والجديد وعامة كتبه؛ كما
قال البندنيجي.
قال الماوردي: ويشبه أن يكون مأخذ القولين من اختلاف القراءة: فمن قرأ {أو
لمستم} أوجبه على اللامس فقط، ومن قرأ:{لامستم} أوجبه عليهما؛ لاشتقاقه من
المفاعلة، وعلى هذا جرى القاضي الحسين.
وقد طرد بعضهم – كما قال في"الإبانة" – القول بالنقض في الممسوس ذكره؛
فقال: إنه ينتقض، ولا وجه له.
واعلم: أن جميع ما ذكرناه في الرجل – إذا كان لامسا – يجري في المرأة؛ إذا
كانت لامسة، حرفا بحرف.
وادعى الغزالي، ومن تبعه أنه لا خلاف في ذلك، حتى لو وجدت الملامسة من
كل منهما، انتقضت طهارتهما جميعا بلا خلاف، وإن وجدت من المرأة فقط جرى
القولان في نقض وضوء الجل الملموس، وعلى هذا فإفراد الشيخ الرجل بالذكر؛
لأنه على وفق الآية، والحكم في المرأة ثبت بالقياس عليه؛ لأنهما يشتركان في
جميع النواقض؛ فكذا في هذا.
وقد حكى القاضي الحسين طريقة أخرى [:أن] في نقض وضوئها – إذا كانت
لامسة قولين؛ لأنها ملموسة في الحالين؛ ولهذا يقال لها: موطوءة، وإن استعلت على
الرجل، وقد حكاها الرافعي أيضا، وعليها يمكن أن يجري كلام الشيخ، لكنه خلاف
المشهور، ولا يعرفه العراقيون.
وقضية ذلك: أن المرأة، إذا لمست الرجل ينتقض وضوءه قولا واحدا، وهو في
نهاية البعد والله أعلم.
قال: والرابع: مس فرج الآدمي؛ أي: من قبل أو دبر، من رجل أو امرأة؛ لما روى
عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ويل للذين يمسون ذكورهم ويصلون، ولا يتوضؤن"
قالت عائشة: فهذا للرجال؛ فما بال النساء؟ قال:"إذا مست إحداكن فرجها توضأت".
وألحق الشافعي الدبر بالقبل؛ لأنه في معناه؛ كما أن الأمة في معنى العبد في
قوله – عليه السلام:"من أعتق شركا له في عبد قوم عليه" وفي هذا إشارة إلى أن
هذا ليس من باب القياس؛ لأنه لا يتوقف على إيراد علة جامعة، بل من باب: لا
فارق. ولوسميناه: قياسا، فإنما يمتنع في الأحداث قياس العلة، وما يلتحق به؛ لتوقفه
على علة جامعة تفصيلا، وهي مفقودة فيها.
وقد ورد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون ولا يتوضؤن" قالت عائشة: بأبي أنت وأمي، أهذا للرجال خاصة؟ فقال:"لا؛ إذا
مست المرأة فزجها فلتتوضأ". والفرج يشمل القبل والدبر.
وقد روي في مس الذكر- خاصة – أحاديث رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما قال أبو الطيب-من الصحابة تسع عشرة نفسا، أصح حديث فيها كما قال البخاري: ما رواه بسرة بنت صفوان أنه – عليه السلام قال:"إذا أفضى أحدكم بيده إلى
فرجه، ليس بينه، وبينها سترة فليتوضأ" قال الترمذي: وهو حسن صحيح.
والأحاديث دالة – على النقض بمس الشخص [فرج نفسه]، وطرد الشافعي ذلك
في فرج غيره؛ من حيث إنه لا يمتنع على الإنسان أن يمس ذلك من نفسه، ثم اقتضى
مسه من نفسه نقض وضوئه؛ فكان ذلك دالا– لا شك فيه– عل انتقاض الوضوء بفرج
غيره لأن ذلك أفحش على أن الدارقطني روى عن بسرة أنه- عليه السلام – قال:"من
مس الذكر الوضوء"، وهو يقتضي النقض من مس الذكر مطلقا.
قال: بباطن الكف؛ لما روى الشافعي بسنده عن جابر أنه- عليه السلام قال:
"إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ"، وعن أبي هريرة:"إذا أفضى أحدكم
بيده إلى ذكره فقد زجب عليه الوضوء" خرجه في "مسنده".
والإفضاء- في اللغة – إذا أضيف إلى اليد كان عبارة عن اللمس بباطن الكف؛
تقول العرب: أفيضت بيدي إلى الأمير مبايعا، وأفيضت بيدي إلى الأرض ساجدا: إذا
مسها بباطن راحته، قاله في"المجمل" و"الصحاح".
ومن المعلوم أن المراد بهذا الخبر وما سلف واحد؛ فتعين حمله عليه، وإذا ثبت
ذلك في الذكر؛ فغيره في معناه؛ فيلحق به في ذلك.
وقد حكى ابن القاص عن القديم: أن مس البر لا ينقض الوضوء؛ حملا للفرج
على المبال؛ فإنه المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه، وهو الذي يمس بالشهوة؟
فاختص النقض به.
[والجديد الصحيح]:الأول، ومنهم من قطع به، وقال: إنه لا يوجد في القديم
خلافه.
قال الإمام: ومن تشبث بخلاف في قبل امرأة – فقد أبعد، والمعنى بقبلها الذي
ينقض الوضوء مسه: ملتقى الشفرين على المنفذ نفسه، والمعنى بحلقة الدبر: ملتقى
المنفذ.
وقد أفهم كلام الشيخ أمورا:
أحدها: أنه لا ينقض الوضوء بمس ذكره بما خلا باطن الكف؛ وذلك يشمل
صورا:
منها: إذا مسه بباطن الأصابع؛ إذ لفظ الكف لا يشملها؛ ألا إلى قوله:"وفي
الكفين مع الأصابع الدية" ولا خلاف في أن باطن الأصابع يلحق بباطن الكف
المسمى بالراحة. نعم، رءوس الأصابع، وهي موضع الاستواء بعد المنحرف الذي
يلي الكف، وإذا وضعت إحدى اليدين على الأخرى، مع تحامل تختفي وهل
تلحق بالكف؟ فيه وجهان: أصحهما عند قوم: الإلحاق؛ لأنها من جنس بشرة الكف،
ويعتاد اللمس بها بالشهوة وغيرها، وهذا ما حكاه البندنيجي؛ حيث قال: باطن الكف
مابين الأظفار والزند. وأظهرهما عند آخرين: لا؛ لأنها خارجة عن سمت الكف، ولا
يعتمد على اللمس بها وحدها من أراد معرفة ما يعرف باللمس من اللين والخشن،
وغيرهما.
وعن أبي الفياض البصري: إن مس بما بين أصبعيه مستقبلا لعانته بباطن الكف-
انتقض، وإن كان مستقبلا بظاهر كفه لا ينتقض؛ مراعاة للأغلب.
قال الماوردي: وهذا لا وجه له؛ لاستواء المعنى في الحالين.
وهل يجري طرف الكف، وهو حرف اليد، وما بين الأصابع مجرى باطن الكف؛
فيه طريقان:
إحداهما: لا، وهي التي حكاها ابن الصباغ عن نصه في"مختصر البويطي"، ولم
يحك غيرها؛ وكذا أبو الطيب، والبندنيجي، ويحكي عن رواية [حرملة] أيضا.
والثانية: مس البر بالذكر، والأمر فيه كما أفهمه كلام الشيخ؛ صرح به ابن الصباغ
في"شامله"، ورأيت في"الذخائر" أن ابن الصباغ قال: الذي يقتضيه المذهب أنه لا
ينتقض؛ لأنه ليس بباطن الكف.
والذي يقتضيه التعليل نقض الطهر؛ لأنه آلة اللذة والشهوة؛ كباطن الكف.
وحكى الشيخ أبو بكر: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكر في تعليق الخلاف ما
يوافق مقتضى المذهب.
الأمر الثاني: أنه ينتقض بمس ذلك باليد الزائدة، وينتقض بمس الذكر الزائد، وهو
المشهور فيما إذا كان الزائد عاملا، وكذا إن لم يكن عاملا، على المذهب في
"التتمة".
ومقابله جزم به الماوردي، والروياني، والبغوي، وفي" تعليق القاضي الحسين"
حكاية الخلاف في الزائد مطلقا، وأن الذي عليه أكثر الأصحاب الانتقاض؛ كما يجب
غسله في الوضوء.
الثالث: أنه ينتقض بمس ذلك باليد الشلاء، وينتقض بمس الذكر الأشل، وهو
الصحيح، وفيه وجه: أنه لا ينتقض فيهما.
الرابع: أنه لا ينتقض [الوضوء] بمس العانة، والأنثيين والأليتين، ومابين الدبر
والمبال؛ لأن ذلك ليس بفرج، وهو كذلك عندنا بلا خلاف.
الخامس: أنه لا بنتقض بمس فرج البهيمة، وهو الجديد؛ لأنه يجب ستره، ولا
يحرم النظر إليه؛ فكذا لا ينتقض الوضوء بمسه.
وعن القديم أنه ينتقض بمس الفرج المشقوق منها؛ لأنه يجب الغسل بالإيلاج
فيه؛ فانتقض الوضوء بمسه؛ كفرج المرأة، وهذا حكاه يونس بن عبد الأعلى، وابن
عبد الحكم، والصحيح: الأول، وبعضهم قطع به، وعلى هذا لو أدخل يده في
فرجها، ففي انتقاض وضوئه وجهان.
السادس: أنه لا فرق في فرج الآدمي بين الصغير والكبير، والحي والميت،
والمتصل والمبان، وهو ما ذكره البندنيجي، ولم يورد القاضي أبو الطيب والفوراني
والإمام في الأولى والثانية غيره، وحكوا خلافا في الثالثة.
ومنهم من أجراه في الثانية والثالثة خاصة؛ حكاه الماوردي.
ومنهم من اجراه في الجميع، وهو القاضي الحسين؛ فإنه قال: إنه نص فيما إذا
لمس صغيرة أو ميتة أو يدا مقطوعة من امرأة – على عدم النقض، ونص فيما إذا
لمس فرج صغير أو ميت أو ذكرا مقطوعا على أنه ينتقض؛ فقيل: قولان في الجميع.
ومنهم من فرق بأن نقض الطهارة باللمس؛ لأجل أنه مظنة الشهوة والتلذذ، وذلك
مفقود فيما ذكرناه، والنقض باللمس يهتك حرمة الفرج، وهو موجود فيما ذكرناه، ولا
فرق على الصحيح – في النقض بمس ذكر الصغير بين الجلدة التي تستر الحشفة
وتزول بالختان، أو غيرها ما دامت متصلة؛ فإن أبينت – لم ينتقض الوضوء بمسها؛
قاله الماوردي.
السابع: أنه لا فرق في النقض [بذلك] بين أن يكون قد انفتح معه مخرج آخر
فوق المعدة أو دونها، مع انسداده وانفتاحه، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي،
وأصح الوجهين في غيره.
ومقابله: أنه إذا كان المخرج المعتاد منسدا، لا ينتقض الوضوء بمسه.
وفصل الماوردي؛ فقال: إن كان انسداده خلقة، لم ينتقض، ولا يجب الغسل
بالإيلاج فيه، وإن كان حادثا، وجب ذلك.
ومس محل الجب من المجبوب ناقص على أصح الوجهين، ولم يحك الإمام
غيره، وشبه القاضي الحسين الخلاف فيه بالخلاف في مس حلقة الدبر، وخصه بمس
الثقبة.
والرافعي قال: إنه لا يختص بالثقبة، بل يجري في محل الجب كله، وأن القفال
قال: الوجهان ينبنيان على أحد أصلين، إما على مس حلقة الدبر: فإن قلنا: [إنه] لا
ينتقض، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لأن الحلقة ظاهرة بأصل الخلقة، وهذا ظهر
بعارض.
وإما على مس الثقبة المنفتحة مع انسداد المسلك المعتاد: فإن قلنا: ينتقض ثم،
فهنا أولى، وإلا فوجهان.
ولا خلاف في أنه لو بقى شيء شاخص من الذكر، وإن قل، انتقض الوضوء بمسه.
الثامن: أن ما صورته صورة الفرج، وليس بفرج لا ينقض: وذاك فيما إذا كان لرجل
صورة الذكرين، وأحدهما عامل دون الآخر؛ فالعامل الذكر، والثاني خلقة زائدة فيه، لا
يتعلق بها حكم. وإن كان يبول منهما جميعا؛ فالمذكور في"الحاوي" وغيره: أنه
ينتقض بمس كل منهما. وحكى مجلي أن أبا بكر الشاشي قال: يقضى له بحكم
الخنثى المشكل؛ لأن الله أجرى العادة أن يكون للرجل ذكر واحد؛ فإذا وجد آخر
كان زائدا لا محالة. والماوردي استشعر هذا السؤال؛ فقال: إنما انتقض به؛ لأنه ذكر
لرجل.
التاسع: أنه لا فرق في هذه النواقض بين سهوها وعمدها، وهوالمذهب.
وفي لمس المرأة بغير شهوة ما سلف. وفي مس الذكر ناسيا وجه عن رواية
الحناطي: أنه لا ينقض.
واعلم: أن حصر ما ينقض الوضوء في أربعة المذكورة هو المتفق عليه، وإلافقد
حكى في المملوس قولين، فإذا قلنا بالنقض، كانت النواقض خمسا؛ وكذا حكى -
في نقضه بظهور الرجل، وانقضاء مدة المسح إذاكان ماسحا على الخف – قولين،
فإن قلنا بالنقض، كانت ستا، لكن هذا لا يشمل كل وضوء.
وقد حكى عن الشافعي قول قديم في نقضه بأكل لحم الجزور، واختاره أبو بكر
ابن المنذر، وأبو بكر بن خزيمة من أصحابنا، وصاحب"الروضة" وقال: إنه اختاره
جماعة من محققي أصحابنا المحدثين؛ لأنه ورد فيه حديثان صحيحان ليس عنهما
جواب شاف.
وأئمة المذهب تمسكوا للجديد بقول جابر:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار".أخرجه أبو داود؛ أي: وقد كان واجبا في ابتداء
الإسلام، واختلف الأئمة في الذي كان واجبا، هل الوضوء للصلاة، أو غسل رأس
اليدين؟ كذا حكاه الإمام، والمستحب أن يتوضأ من أكل لحم الجزور؛ للخروج من
الخلاف، وفيه نظر من جهة النية؛ فإن الجزم بها ممن لا يعتقد نقض الوضوء به
غير ممكن ونية التجديد لا تفيد رفع الحدث على الصحيح؛ فأي فائدة فيه؟ وكذا
الكلام في استحباب غسل المجنون عند الإفاقة.
وقد افاد الحصر أنه لا ينتقض الوضوء بما عدا ما ذكره، وهو يشمل الفصد،
منه والحجامة، والرعاف والقيء، وكل نجاسة خرجت من غير مخرج الحدث،
والضحك في الصلاة، وغير ذلك، وكذا الردة، والمشهور فيها عدم النقض، وحكاية
وجهين في بطلان التيمم بها، وابن الصباغ، والبندنيجي في كتاب: التيمم- جمعا بين
الوضوء والتيمم، وقالا في بطلانها بالردة ثلاثة أوجه ثالثها: يبطل التيمم دون
الوضوء، ولا يجري هاهنا الخلاف فيما إذا اغتسل ثم ارتد.
وفي "الرافعي" في صفة الوضوء طريقة طاردة للخلاف في بطلان الغسل بالردة
أيضا.
ثم هذه النواقض هل يجب الوضوء عقبها وجوبا موسعا، أو يجب بدخول الوقت
مع الحدث؟ [فيه] وجهان، المذهب منهما – كما قال ابن التلمساني – الأول؛ لأنه
يسقط الفرض، ولا يفعل بنية التعجيل؛ فتعين وجوبه؛ إذ الفرض لا يسقط بدون ذلك،
وهذا الخلاف قد حكاه الإمام عن العراقيين في الفصل الرابع، في أحكام الاستحاضة.
وأشار الرافعي إلى وجه آخر: أنه يجب بدخول الوقت، والحدث شرط.
قال: فإن تيقن الطهارة – أي: في وقت- وشك في الحدث – أي: في وقت
آخر – بنى على يقين الطهارة؛ لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم شكى إليه الرجل يخيل
[إليه] في صلاته، فقال:"لا ينفتل حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا" أخرجه
البخاري، ومسلم. و [روى البخاري، ومسلم] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:"إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، وأشكل عليه أخرج منه شيء، أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا".
وفي "التتمة" حكاية وجه: أن الشك إذا كان في الحدث قبل الدخول في
الصلاة – لا يبني على يقين الطهارة، وإن كان بعد الدخول فيها، بنى عليه؛ كمذهب
مالك، وحديث البخاري حجة عليه.
والمراد بالشك هاهنا: مطلق التردد بين الشيئين، سواء كان على السواء، أو
أحدهما أرجح، وهواصطلاح المتقدمين.
والمتأخرون من الأصوليين يقولون: الشك تساوي الاحتمالين؛ فالراجح ظن،
والمرجوح وهم.
وقد أبداه مجلي احتمالا فيما إذا غلب على ظنه الحدث بأسباب عارضة في
تخريجه على القولين فيما إذا تعارض الأصل والغالب في النجاسة [، بعد أن حكى
عن الأصحاب أنهم فرقوا بأن أسباب غلبة الظن في النجاسة] تكثر؛ فعارضت
الأصل، وفي الحدث تقل؛ فلم تعارضه، وهذا الفرق ملخص من كلام الإمام.
وعلى هذا يستحب له أن يتوضأ، وتصح طهارته؛ كما قال ابن الصباغ.
قال مجلي في باب المسح على الخفين: وهذا فيه نظر عندي؛ لأنه مع وجود
الشك لا يتأتى منه بمخص القصد إلى رفع الحدث؛ فكيف يصح مع التردد في النية؟!
بل فيه وجهان.
قلت: والمذكور في"النهاية" في كتاب الصيام أنه لا يصح وضوءه؛ بناء على
استصحاب الحال في الطهارة.
قال: وقياس مذهب المزني-[أي]: في نظير المسألة من الصوم – الصحة هنا.
والغزالي ومن تبعه قالوا: لو توضأ عند الشك احتياطا، ثم تبين أنه كان محدثا؛ فهل
يعتد بهذا الوضوء؟ فيه الوجهان المذكوران في ارتفاع الحدث بنية التجديد؟!
واعلم: أن من جملة صور الشك في الحدث الذي لا يقدح في الطهارة ماإذا مس
الخنثى المشكل أحدمباليه، أو مس الرجل منه آلة النساء، أو مست المرأة الممسوس عضوا أو
ثقبة زائدة، وهذا إذا قلنا: إن مس المخرج المنفتح تحت المعدة لا ينقض الوضوء.
نعم، لو مس الخنثى أو غيره المبالين منه، انتقض وضوء الماس؛ وكذا لو مس
الرجل آلة الرجال [منه] أو المرأة آلة النساء منه؛ لأنه دائر بين أن يكون لامسا أو
ماسا.
ولو توضأ، ومس أحد مباليه، وصلى الظهر، ثم توضأ، ومس المبال الآخر، وصلى
العصر – فهل يعيد الصلاتين، أو لا يعيد واحدة منهما؟ فيه وجهان في "الإبانة"،
قربهما الإمام من الخلاف فيما إذا صلى بالاجتهاد إلى أربع صلوات،
والأكثرون فيها على عدم وجوب الإعادة.
وقد بالغ القاضي الحسين في التشبيه [بذلك]؛ فقال: لو مس الخنثى آلة الرجال
منه أياما، وصلى، ثم تبين أنه رجل – ففي لزوم الإعادة جوابان، ينبنيان عل أنه إذا
صلى إلى جهات مختلفة، ثم تبين له يقين الخطأ – هل يلزمه الإعادة، أم لا؟
ولا خلاف في أنه لو مس أحدهما، وصلى، ثم مس الآخر قبل أن يتوضأ -
امتنعت عليه الصلاة
ولو مس أحد الخنثيين آلة الرجال من الآخر، ومس الآخر آلة النساء من الذي مسه
انتقضت طهارة أحدهما لا بعينه فلا تمنع عليهما الصلاة؛ لأن الأصل في كل
منهما بقاء طهارته.
فرع: لو أن جماعة متناعسين في مكان؛ فسمع منهم صوت، ونفاه كل واحد منهم
عن نفسه؛ فلهم أن يصلوا منفردين ومقتدين بالغير، وأئمة للغير، وهل يقتدي بعضهم
ببعض؟ قال صاحب"التلخيص"، والداركي: لا؛ لأن الاجتهاد في حدث الغير لا
يجوز؛ إذ ليس له أمارة على حدث الغير، وبهذا خالف ما إذا اختلفوا في الاجتهاد في
الأواني؛ فإن لكل منهم الاقتداء بالآخرين؛ لأن له الاجتهاد في الأواني.
وقال ابن الحداد: يجوز هنا أيضا؛ لأنه يجوز الاجتهاد في حدث الغير، وعلى هذا
لو كانوا خمسة وأم كل واحد منهم في صلاة من الخمس- فعلى كل واحد أن يعيد
آخر صلاة كان فيها مأموما: فعلى إمام العشاء إعادة المغرب، وعلى المأمومين في
العشاء إعادة العشاء قاله القاضي الحسين.
قال: وإن تيقن الحدث- أي: في وقت – وشك في الطهارة؛ أي: في وقت آخر
بعده؛ بنى على يقين الحدث؛ لأن الأصل بقاؤه، وهذا إجماع؛ كما قال الماوردي.
وادعى الرافعي أن هذا إذا كان التردد على السواء، أما إذا كان احتمال الطهارة راجحا
وهو المعبر عنه بالظن – لم يستصحب حكم الحدث، بل له أن يصلي بالظن، قال:
فإذا حكم الشك واحد في الطرفين، وحكم الظن في الحدث بخلاف حكمه في الطهارة.
وما يفهمه هذا الإطلاق لم أره في غيره، ولعله محمول على ما [سنذكره عن]
الظن الذي أشار إليه ابن الصباغ، وسننبه عليه في الباب.
وقد قال صاحب"التلخيص": اليقين لا يرفع بالشك إلا في أربع مسائل:
[إذا وقع الشك] في انقضاء وقت الجمعة؛ فإنهم يصلون ظهرا، وظني أني
ذكرت فيه خلافا في باب الجمعة.
وإذا شك في انقضاء مدة المسح، بنى الأمر على ما يوجب الغسل.
وإذا شك هل وصل إلى وطنه، أو لا؟ وإذا شك هل نوى الإتمام، أولا؟ يلزمه
الإتمام فيهما. والأصحاب قالوا: بل ذلك [رجوع إلى] الأصل؛ فإن العدول عن
الأصل إلى هذه الرخص منوط بشرط؛ فإذا وقع الشك فيه، رجعنا إلى الأصل: وهو
عدم الرخصة، على أن أبا علي حكى في الأخيرتين وجها آخر.
قال الإمام: ولعل الفرق أن انقضاء وقت الجمعة والمسح ليس مما يتعلق
بالاختيار؛ فإذا فرض الشك فيه، لاح تعين الرد إلى الأصل؛ والانتهاء إلى دار الإقامة
والعزم عليها متعلق بفعل الشاك، ومنه يتلقى معرفته؛ فإذا جهله من نفسه؛ فقد يخطر
أنه بمثابة ما لو [لم] يقع ذلك المعنى أصلا.
قال: وإن تيقن الطهارة والحدث جميعا، وشك في السابق منهما، مثاله: إذا تيقن
أنه صدر منه وضوء وحدث وقت طلوع الشمس مثلا، ولم يدر هل السابق الحدث،
أو الوضوء؟
قال: نظر فيما كان قبلهما – أي: قبل طلوع الشمس في مثالنا – فإن كان حدثا،
فهو متطهر؛ لأنه تيقن أن الحدث السابق قد ارتفع بالطهارة اللاحقة، وشك هل
ارتفعت بالحدث الآخر أم لا، والأصل بقاؤهما.
وإن كان طهارة، فهو محدث؛ لأنه تحقق أن الطهارة السابقة رفعها الحدث
اللاحق، وشك هل ارتفع، أم لا؟ والأصل بقاؤه؛ وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير،
وحكاه القاضي أبو الطيب وجها في المسألة، نسبه ابن الصباغ والإمام إلى صاحب
"التلخيص"، والرافعي إلى الأكثرين، وخصه المتولي – وتبعه الرافعي – بما إذا كانت
عادته أن يتوضأ مجددا أما إذا لم تكن عادته وطهارته الثانية بعد حدث؛ فتباح له
الصلاة؛ فعلى هذا لو لم يتذكر حاله فيما كان قبلهما، فلابد من الوضوء؛ لتعارض
الاحتمالين من غير ترجيح، ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المحض في الطهارة.
وقد ذكر الصيدلاني عن بعض الأصحاب عكس ما ذكره الشيخ، وقال: إن كان
محدثا فهو الآن محدث، وإن كان متطهرا فهو الآن متطهر؛ لأن الطهارة والحدث
[عند الزوال] في مثالنا قد تعارضا؛ فعمل بالسابق.
قال الإمام: وهذا غير صحيح، والصواب ما ذكره صاحب"التلخيص".
والذي حكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الأصحاب: وجوب الطهارة بكل حال؛
احتياطا للصلاة حتى يكون مؤديا للفرض بيقين؛ فهذا ما حكاه في "المرشد"،وإليه
مال ابن الصباغ؛ حيث قال بعد ذكر الوجه الأول وهذا لا غير: وما ذكره صاحب
الوجه الأول فليس مما يقوي به ظن الطهارة؛ لأنه تيقن حصول حدث بعد ذلك
الحدث الأول وشك في أن الطهارة تأخرت عنه فأزالته، أم لا؛ فصارت الطهارة
مشكوكا فيها.
وفي"الروضة" حكاية وجه رابع: أنه يعمل بغلبة الظن.
قال: ومن أحدث حرم عليه الصلاة؛ لما روي عن [ابن] عمر قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" قال
...............................................................
.............................................................
.......................................................
الترمذي: وهذا أصح شيء في الباب وأحسن، وهو إجماع في ذات الركوع،
وسجود التلاوة [والشكر في معناهما]؛ كما ستعرفه.
قال: والطواف؛ لقوله- عليه السلام:"الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه
الكلام.
قال: ومس المصحف؛ لقوله-تعالى-: {إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون} [الواقعة][أي: مصون]{لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79] والقرآن لا
يصح مسه؛ فعلم أن المراد به: الكتاب الذي هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهي
إلى اللوح المحفوظ؛ لأنه غير منزل ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد
بـ"المطهرين" الملائكة؛ لأنه قد نفي، وأثبت؛ فكأنه قال: يمسه المطهرون، ولا يمسه
غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع؛ فعلم أنه أراد المطهرين من
الآدميين، ومن ذلك ماروي أنه- عليه السلام – قال في كتاب عمرو بن حزم:"ولا
تمس القرآن إلا وأنت على طهر" وكذا روى عن كتاب حكيم بن حزام أيضا.
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمس القرآن إلا على طهر".
[فإن] قيل: قد قال الواحدي: إن أكثر أهل التفسير على أن المراد: اللوح
المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم، لم يكن فيها دليل؛ لأن قوله:
{لا يمسه} بضم السين ليس بنهي عن المس؛ إذ لو كان نهيا لكان بفتح السين، أو
لقال: لا يمسسه؛ فهو إذن خبر.
قلت: أما قول المفسرين فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل.
وأما كون المراد بالآية: الخبر؛ فجوابه: أنا نقول: اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي،
وهو كثير في القرآن؛ قال الله- تعالى-: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة:233]
{والمطلقات يتربصن} [البقرة:228] ولأنه لو كان المرادبه الخبر، لزم الخلف في
خبر الله تعالى؛ فإن من ليس بمطهر يمسه، والخلف في خبر الله تعالى محال؛ فتعين
أن المراد النهي؛ والله أعلم.
وقد أفهم كلام الشيخ أمورا:
أحدها: أنه لا فرق في ذلك بين المس بأعضاء الوضوء وغيرها وإن قلنا: إن
الحدث لا يحلها، ولا بين أن يقع المس بما غسله منها قبل تمام الوضوء أو بغيره،
وهو مما لا خلاف فيه.
الثاني: أنه لا فرق [فيه] بين مس الموضع المكتوب، والأبيض بين الأسطر
والحواشي، والجلد؛ لأن اسم المصحف يشملها عرفا؛ ولذلك لو حلف لا يمس
المصحف حنث بمس جلده وبياضه؛ كما يحنث بمس المكتوب [منه] وهذا ما
حكاه الماوردي، والقاضي الحسين، والإمام، وغيرهم.
وأبو الطيب حكاه عن النص، وألحق بذلك مس حليته من الذهب والفضة.
وفي "الرافعي" حكاية وجه في عدم تحريم مس الجلد.
والصحيح: الأول؛ لما ذكرناه؛ ولأنه يندرج تحت مطلق البيع؛ فكذا تحت مطلق
النهي؛ وعلى هذا ففي تحريم مس الخريطة والصندوق والعلاقة إذا كان المصحف
فيها وجهان:
أظهرهما في "الكافي" وغيره التحريم أيضا؛ لأنها متخذة للمصحف منسوبة إليه،
وإذا اشتملت على القرآن، اقتضى التعظيم ألا تمس إلا على طهارة.
ومقابله هو ما أفهمه كلام الشيخ؛ حيث خص التحريم بالمصحف، وهذه لا
تسمى: مصحفا.
وقد أبعد بعض المصنفين: فسوى بين هذه الأشياء والجلد في إجراء الخلاف من
غير ترتيب، وإذا ضممته إلى ما سلف، كان في الجميع ثلاثة أوجه، ثالثها: تحريم مس
الجلد دون الخريطة، والصندوق والعلاقة.
الأمر الثالث: إباحة تقليب أوراقه بقضيب إذا كان موضوعا بين يديه؛ لأنه لا
يصدق على ذلك لفظ"المس" ولا"الحمل" وهو وجه في المسألة لم يحك في
"المهذب" و"الحاوي" غيره، وقال في "الروضة": وبه قطع العراقيون، وهو
الراجح فإنه غير حامل، ولا ماس.
والأصح في"الرافعي"أنه يحرم؛ لأنه حمل بعض المصحف مقصودا؛ فإن الورقة
محمولة تنتقل من جانب إلى جانب.
ولا خلاف في تحريم تقليبها بإصبعه، ولو مع حائل من ثوب؛ وكذا لو لف شيئا
من ثوبه وقلبها به قال الإمام: ومن ذكر فيه خلافا كالخلاف في التقليب بالقضيب،
فهو غلط. والله أعلم.
قال: وحمله؛ لأنه إذا حرم المس؛ لإخلاله بالتعظيم، فالحمل بذلك أولى، وقد
روى أنه- عليه السلام قال:" لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر".
فإن قلت: قياس الحمل على المس منتقض بالمحرم؛ فإنه يحرم عليه مس الطيب
دون حمله.
قيل- في جوابه-: قد أشرنا إلى الفرق، وهو أن تحريم المس؛ للإخلال بالتعظيم
وهو في الحمل أكثر، وتحريم مس الطيب على المحرم؛ لأجل الالتذاذ والاستمتاع،
وهو مفقود في الحمل.
وتحريم الحمل مخصوص بالحالة التي يأمن معها عليه، فإن خاف عليه من غرق،
أو حريق، أو نجاسة، أوكافر، أو لم يتمكن من الطهارة - جاز له حمله؛ للضرورة بلا
خلاف؛ لأن حمله في هذه الحالات من تعظيمه.
وألحق أبو الطيب بذلك ما إذا حمله على طهارته، ثم أحدث، ولم يجد من يودعه
عنده، وظاهر [كلام الشيخ] أنه لا فرق في تحريم الحمل بين أن يقع منفردا، اومع
غيره، ولا خلاف في تحريمه منفردا؛ وكذا في علاقته، وصندوقه الذي يختص به وإن
قلنا: إنه لا يحرم مس الصندوق، والعلاقة.
وفي"تعليق القاضي الحسين" حكاية وجه فيما إذا حمله بالعلاقة: أنه لا يحرم؛
وليس بصحيح.
وأما إذا حمله في صندوق فيه ثياب وأمتعة معه، ففي التحريم وجهان؛ حكاهما
الماوردي قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حامل للمصحف، وحمله الحمل لا يختلف بين أن يكون
محمولا وحده أو مع غيره؛ ألا ترى أنه لو حمل نجاسة كذلك، لم تصح صلاته.
وأصحهما في"الكافي"، وغيره: الجواز، وهو المذكور في "حرملة"؛ لأن الممنوع
حمل يخل بالتعظيم، ولا إخلال في [هذه] الحالة، وخالف حمله في صندوقه
وخريطته؛ فإن ذلك تبع للمصحف، وهنا بخلافه.
وقد أفهم كلام الشيخ [تخصيص] تحريم المس والحمل [بما يسمى]
مصحفا، وذلك يقتضي عدم تحريم مس ما لا يسمى مصحفا من القرآن.
والأصحاب فصلوا فقالوا: ما كتب للدراسة ثم يمحى بعد ذلك؛ [كألواح
الصبيان] – في تحريم مسه على البالغين وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنه لم يقصد بإثباته الدوام، وهذا ما حكاه الماوردي عن
الأكثرين.
وأصحهما في "تعليق القاضي الحسين" و"التهذيب" وهو المذكور في"النهاية"،
و"الكافي"-: التحريم؛ لأنه أثبت قرآنا.
وما لم يكتب للدراسة: كالدراهم الأحدية: وهي المكتوب عليها"قل هو الله
أحد"؛ وكذا ما كتب عليه [من الدراهم آية من القرآن] والعمامة المطرزة بآيات من
القرآن، والحيطان المنقوشة، وكتب الفقه – ففيه أيضا وجهان، لكن الأصح فيها: عدم
التحريم، وهو المذكور في" تعليق البندنيجي"، و"النهاية" و"الكافي"؛ لأنه – عليه
السلام – كتب كتابا إلى هرقل، وكان فيه {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم ....} الآية [آل عمران:64] ولم يأمر الحامل بالمحافظة على الطهارة؛ لأن
هذه الأشياء لا يقصد بإثبات القرآن فيها قربة؛ فلا تجري عليها أحكام القرآن؛
ولهذا يجوز هدم الجدران المنقوش عليها، وأكل الطعام. نعم، لا يجوز حرق الخشبة
المكتوب عليها، كما قال القاضي الحسين.
وفي"الروضة": أنه مكروه.
وجزم في"الحاوي" في الثياب المطرزة بآي القرآن بالتحريم؛ لأن المقصود التبرك
بكتبها، وقال في الدراهم: إن كان الناس لا يتعاملون بها كثيرا حرم مسها، وإن
كانت المعاملة بها كثيرة – فوجهان؛ لأجل المشقة.
والخلاف في الصورة السالفة عند بعضهم جار في كتب التفسير.
ومنهم من قال: إن كان القرآن فيها أكثر حرم المس والحمل، وإلا فوجهان،
وهذه طريقة الماوردي.
ومنهم من قال: إن تميز القرآن في الكتابة عن التفسير حرم ذلك، وإلا فوجهان:
أصحهما – وهو المذكور في "تعليق القاضي الحسين"-: عدم التحريم.
واعلم: أن التحريم، وإن كان متعلقا بالمكلفين؛ فالصبي ممنوع من الصلاة
والطواف بغير طهارة، وهل يجب على وليه ومعلمه منعه من مس المصحف، وحمله
للقراءة والدراسة فيه، وكذا الألواح حيث حرمناها على البالغ؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأن البالغ إنما منع من ذلك؛ تعظيما للقرآن، [والصبي] أنقص
حالا منه؛ فألى أن يمنع، وهذا ما صححه في "الكافي" والبندنيجي.
ومقابله صححه الرافعي، وقال الماوردي: إنه ظاهر المذهب، وبه قال أكثر
أصحابنا؛ لأن تكليفهم استصحاب الطهارة مما يعظم فيه المشقة.
وفي"تعليق القاضي الحسين" الجزم بتمكينه من حمل الألواح، وحكاية الوجهين
في تمكينهم من حمل [المصحف.
والغزالي حكى الوجهين في تمكينهم من حمل] الألواح، وهو يفهم أنهم لا
يمكنون من حمل المصحف وجها واحدا.
والذي ذكره ابن الصباغ، وغيره: إجراء الوجهين في الحالين.
فروع:
كتابة المحدث القرآن على الشيء الموضوع بين يديه، من غير مس، ولا حمل -
لا يحرم؛ على أصح الوجهين.
وفي"الحاوي" الجزم بإباحة ذلك له، وحكاية الوجهين في إباحته للجنب،
ووجه المنع: أنه بمثابة التلاوة.
وكتابة [القرآن على] الحيطان والبساط والثوب مكروهة؛ وكذا كتب اسم من
أسماء الله تعالى. ولا يجوز كتابته بالنجس، وهل يجوز لمن على بدنه نجاسة، وهو
متطهر مسه؟ فيه وجهان أصحهما في"الحاوي"،"وتعليق أبي الطيب": لا يحرم،
والفرق بين الخبث والحدث: أن الحدث يتعدى؛ بخلاف النجاسة.
ولا يجوز المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، وهل يجوز تعليم الكافر شيئا من القرآن
؟ إن كان يرجى إسلامه يجوز، وإن كان معاندا، فلا.
ويجوز إسماع الكافر القرآن، ولا يحرم مس التوراة والإنجيل، وحملهما، في
أصح الوجهين في"الرافعي"، و"الحاوي"، وهو المذكور في "تعليق القاضي
الحسين"، والخلاف جار في مس ما يستحب قراءته من القرآن وحمله.
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتحق بالقرآن فيما نحن فيه،
لكن الأولى أن يكون على وضوء إذا مسه أو حمله، والله تعالى أعلم.