المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الاستطابة الاستطابة، والاستنجاء، والاستجمار: إزالة الأذى عن السلبيين؛ إلا أن - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الاستطابة الاستطابة، والاستنجاء، والاستجمار: إزالة الأذى عن السلبيين؛ إلا أن

‌باب الاستطابة

الاستطابة، والاستنجاء، والاستجمار: إزالة الأذى عن السلبيين؛ إلا أن الاستطابة

والاستنجاء يكونان بالماء والحجر، والاستجمار لا يكون إلا بالأحجار، مأخوذ من

الجمار، وهي: الأحجار الصغار.

والاستطابة مأخوذة من طلب الطيب؛ فإن طالب قضاء الحاجة يطلب طيب نفسه

بإخراج الأذى وإزالته.

والاستنجاء مأخوذ من: نجوت الشجرة، وأنجبيتها؛ إذا قطعتها؛ كأنه يقطع الأذى

عنه.

وقيل: من النجوة؛ وهي المرتفع من الأرض؛ لأنه يستتر عن الناس بنجوة، وقد

قال بعض المفسرين: إن قوله - تعالى-: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس:92] [من

هذا].

قال: إذا أراد قضاء الحاجة، أي: في البنيان؛ كما دل عليه قوله من بعد: "وإن كان

في صحراء"، فإن كان معه شيء في ذكر الله تعالى - نحاه؛ لما روى أنس بن مالك

قال: " [كان] رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء؛ وضع خاتمه" رواه ابن ماجه، وأبو داود.

ص: 428

قيل: وسبب ذلك: أنه كان مكتوباً عليه: "محمد رسول الله" ثلاثة أسطر.

والخلاء: ممدود، وأصله المكان الخالي، ثم نقل إلى موضع قضاء الحاجة؛ كما

نقل لفظ "الغائط" عن المكان المطمئن، ولفظ العذرة عن فناء الأبنية.

والسر - فيما ذكرناه - أن مواطن النجاسة مستقذرة، ومن تعظيم اسم الله - تعالى

- ألا يدنى من القاذورات؛ ومن هنا يؤخذ اختصاص التحية بما إذا أراد دخول

الخلاء؛ لأنه محل القاذورات، دون ما إذا أراد قضاء الحاجة في الصحراء؛ كما أفهمه

كلام الشيخ، وكلام البندنيجي، والإمام أيضا؛ حيث قيدا ذلك بما إذا أراد دخول

الخلاء، وهو وجه حكاه الرافعي مع وجه آخر ادعى أنه الأظهر: أن التنحية مطلوبة في

الموضعين، وهو ما اقتضاه كلام الماوردي؛ حيث قال: إذا كان في يده خاتم فيه

اسم الله - تعالى - خلعه قبل دخوله- أي: الخلاء - او جلوسه - أي: في الصحراء

- وهذه التنحية في إحدى الصورتين أو كلتيهما على وجه الاستحباب، صرح به في

"المهذب" وغيره.

وقد حكى عن الصيرمي أنه قال: إذا كان على فص الخاتم ذكر الله - تعالى -

خلعه قبل دخوله الخلاء، أو ضم كفيه عليه؛ مخيرا بينهما، والمشهور الأول.

[نعم، لو غفل] عن النزع حتى اشتغل بقضاء الحاجة ضم كفيه عليه؛ حتى لا

يظهر؛ وكذا يفعل إذا كان يخاف عليه لو نزعه.

واعلم: أنه إذا نزع ما ذكرناه فيما عليه اسم الله - تعالى - ففيهما عليه شيء من

ص: 429

القرآن أولى، وقد ألحق به ما عليه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وضابطه: كل اسم معظم.

قال: ويقدم رجله اليسرى في الدخول؛ لأنها لما دنا، واليمنى في الخروج؛ لأنها

لما علا ودخول المسجد، والخروج منه على العكس من ذلك؛ لما ذكرناه، وهذا على

وجه الاستحباب فيهما.

وقد أفهم لفظ "الدخول" و "الخروج" مع قوله: "وإن كان في صحراء" اختصاص

هذه السنة بدخول الخلاء؛ وكذا دل عليه [كلامه] في "الوسيط" وهو وجه في

المسألة.

قال الرافعي: لكن الأكثرين على أنه لا يختص حتى إنه يقدم رجله اليسرى إذا بلغ

موضع جلوسه في الصحراء أيضاً، وإذا فرغ قدم اليمني.

قلت: وتقديم اليمنى عند الفراغ ظاهر؛ لأنه يفارق مادنا [إلى ما علا]، وأما

تقديم اليسرى إلى موضع الجلوس ففيه نظر؛ لمساواته - قبل قضاء الحاجة - لما قبله.

قال: ويقول: أي: عند إرادة الدخول على وجه الندب: "اللهم إني أعوذ بك من

الخبث والخبائث" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك متفق عليه.

والخبث - بضم الباء، وإسكانها:- جمع خبيث؛ وهم: ذكور الشياطين.

والخبائث: جمع خبيثة: وهي إناثهم؛ فكأنه استعاذ من ذكور الشياطين وإناثهم.

وقيل: هو بالإسكان: الشر، وقيل: الكفر، والخبائث: المعاصي.

واعلم: أنه يوجد في بعض النسخ: ويقول: "باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من

الخبث والخبائث" وإن كان ذلك، فوجهه ما روى أنه عليه السلام قال: "ستر

[ما بين] عورات أمتي وأعين الجن، باسم الله".

ص: 430

واستحب الغزالي والبندنيجي أن يقول: "باسم الله، أعوذ بالله من الخبث

المخبث الشيطان الرجيم". وبعضهم استحب أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من

الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم".

ص: 431

قال الأصحاب: ويستحب مع ذلك ألا يدخل الخلاء حاسر الرأس، حتى إذا لم

يجد شيئاً فليلق كمه عليها؛ تخوفاً من الجن؛ وكذا يستحب ألا يدخله حافياً، صرح به

في"الروضة".

قال: ولا يرفع ثوبه؛ أي: عن عورته حتى يدنو من الأرض - أي: يقرب - لأنه -

عليه السلام كان يفعله؛ فيما رواه أبو داود، عن راويية [ابن] عمر؛ ولأنه لا

حاجة به إليه قبل ذلك؛ وهذا على وجه الندب، وفيه نظر؛ لأن الصحيح أن كشف

العورة في الخلوة لا يجوز من غير حاجة، وقبل دنوه من الأرض لا حاجة به إلى

الكشف.

قال: وينصب رجله اليمنى، ويعتمد على اليسرى؛ لما روى سراقة بن مالك قال:

ص: 432

"علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى"، وروى عن أنس

نحوه؛ ولأنه أسهل لخروج الخارج.

وقال البندنيجي: ويضم إحدى فخديه إلى الأخرى.

قال في "المهذب" وغيره: ولا يطيل القعود؛ لأن لقمان قال: إنه يتجع منه

الكبد، ويحدث منه الباسور - وهو بالباء: علة تحدث في [المقعدة - فيقعد]

هوينى، ويخرج؛ فإن أطال كره؛ قاله في "الروضة".

قال: ولا يتكلم؛ لما روى ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا

يخرجان الرجلان يضربان الغائط، كاشفي [عن] عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت

على ذلك" رواه أبو داود.

ومعنى يضربان: يطلبان، ومعنى "يمقت": يعيب، وقيل: يبغض أشد البغض،

ص: 433

وذلك لا يفضي إلى التحريم؛ كما لم يفض إليه في قوله عليه السلام: "أبغض

الحلال إلى الله الطلاق"، لكن لك أن تقول: ثم اقترن به ما صرفه عن التحريم،

وهو قوله: "الحلال"، ولا كذلك هنا؛ فحصل الفرق.

ثم في معنى الكلام رد السلام، وتشميت العاطس والتحميد عند عطاسه، وموافقة

المؤذن؛ كما صرح به في "المهذب" وغيره؛ فقد روى ابن عمر: "أن رجلاً سلم على

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول؛ فلم يرد عليه" رواه مسلم وإذا لم يرد [السلام] مع أنه واجب؛ فغيره أولى.

قال الأصحاب: وينبغي له ألا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى

السماء، ولا يعبث بيده.

قال: فإذا انقطع البول، مسح بيده اليسرى من مجامع العروق إلى رأس الذكر؛

ص: 434

لاحتمال أن يكون فيه بقية؛ فتخرج بذلك.

ومجامع العروق: مما يلي حلقة الدبر إلى أصل الذكر.

قال: ثم ينتر ذكره ثلاثاً، أي: يجذبه بعنف ولا يبالغ، وهو بضم التاء؛ ووجهه ما

سلف. فلو لم يفعل ذلك أجزأه؛ لأن الظاهر انقطاع البول، وعدم عوده، وقد قيل: إن

الماء يقطع البول.

وقد أفهم كلام القاضي الحسين وجوب ذلك؛ لأنه قال: وإذا فرغ من البول، وجب

الاستبراء. والاستبراء: أن يأخذ ذكر بيده [اليسرى]، ويمده مداً متفاحشاً، حتى لو

بقي في الإحليل قليل بول خرج بالمد، ثم إن كان في هبوط فيرتقي إلى الصعود،

[وإن كان في صعود] من الأرض؛ فينحدر إلى الهبوط، أو يمشي خطوات، ويقفز

قفزات ويتنحنح.

والذي ذكره الرافعي: الأول، وقال: إن أكثر ماقيل في المشي أنه سبعون خطوة.

وهذا النتر يكون قبل قيامه؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وصرح به الماوردي، ويكره

حشو الإحليل بقطنة ونحوها.

قال: ويقول إذا خرج: "غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى،

وعافاني" كذا رواه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عائشة قالت: كان رسول الله

ص: 435

صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء - قال: "غفرانك" قال الترمذي: حسن غريب.

ثم في قوله: "غفرانك" وجهان:

أحدهما: أنه سأله المسامحة؛ بسبب تركه الذكر في تلك الحال.

والثاني: أنه يطلب منه دوام نعمائه عليه بتسهيل الأذى، وألا يحبسه كي لا

يفضي إلى شهرته وانكشافه.

والغفران: الستر، ونصبه على المصدر بتقدير: اغفر غفرانك، أو على المفعول،

بتقدير: أسألك غفرانك.

ومعنى: "عافاني"، أي: من احتباسه، أو من زوال الأمعاء معه؛ إذ جاء في بعض

ص: 436

الأحاديث: "الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى ما ينفعني"

واعلم: أن ما ذكرناه [من] لفظ الشيخ؛ هو الصحيح.

قال النواوي: وفي بعض النسخ التي لا تعتمد: "ويقول إذا فرغ".

قال: وإن كان في صحراء - وهي: الفلاة - وثم غيره، أبعد، أي: بحيث لا

يراه؛ لما روى الترمذي أنه عليه السلام "كان يبعد في الصحراء"، وقال: حسن

صحيح. وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق حتى توارى

ص: 437

عني؛ فقضى حاجته" والمعنى فيه ظاهر.

قال: واستتر عن العيون؛ لقوله عليه السلام:"من أتى الغائط - فليستتر؛ فإن لم

يجد إلا أن يجمع كثيبا من الرمل؛ فليستتر به" رواه أبو داود.

والستر يحصل بأن يأوى إلى بقية جدار أو تل، أو ينزل في وهدة، أو يقرب من

شجرة غير مثمرة، ولا يقصد ظلها، أو من راحلته؛ كما فعله ابن عمر.

ولو استتر بذيله، ففي الكفاية به وجهان في "الوسيط": أصحهما وهو الذي رأيته

في "الرافعي"، وقال الإمام: إنه الذي يجب القطع به: الإكتفاء.

ويعتبر أن يكون بينه وبين الساتر قدر ما بين الصفين، وهو ثلاثة أذرع فما دونها،

وما قرب؛ فهو أولى، وليكن ارتفاعه بقدر مؤخرة الرجل: لأنه يستتر من سرته إلى

موضع قدميه.

قال: وارتاد موضعا للبول، أي: لينا في مهب الريح؛ حتى لا يصيبه شيء من

رشاشه، ولا يرده عليه الريح، وقد روى أبو موسى الأشعري قال:"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ فأراد ان يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال: إذا أراد أحدكم

أن يبول؛ فليرتد لبوله" والدمث: الموضع اللين.

ص: 438

قال الأصحاب: فلو لم يجد إلا موضعا صلبا، دقه بشيء حتى يلين.

قال: ولا يبول في ثقب، وهو [ما] استدار، ولا سرب؛ وهو الشق في الأرض؛

لأنه عليه السلام:"نهى أن يبال في الجحر"؛ لأنه مساكن الجن؛ ولأنه ربما كان

في ذلك بعض الهوام؛ فخرج فآذاه، أو نجسه، وقد روي أن سعد بن عبادة "بال في

جحر في الشام، ثم استلقى ميتا؛ فسمعت الجن تقول:

نحن قتلنا سيد الخزر

ج سعد بن عباده

رميناه بسهمين

فلم نخط فؤاده"

وقد قيل: إن الثقب - وهو بفتح الثاء، وضمها-: الخرق النازل، وأن السرب -

وهو بفتح السين والراء-: المنبطح؛ قاله النواوي.

وقال غيره: السرب هاهنا - بفتح السين والراء-: بيت في الأرض، من قولهم:

سر بالثعلب في جحره؛ قاله الجوهري.

قال: ولا تحت الأشجار المثمرة؛ كي لا تتنجس ثمارها؛ فتفسد، وتعافها

ص: 439

الأنفس. والكراهة فيما إذا لم تكن مثمرة وعادتها أن تثمر أخف.

والبول في الماء القليل مكروه؛ كالبول تحت الأشجار المثمرة؛ لأنه يفسده -

وأما البول في الماء الكثير؛ فإن كان في الليل كره؛ لأنه قيل: إنه بالليل للجن؛ فيخشى

أذاهم، وإذا كان في النهار؛ فيكره في الراكد أيضاً؛ لقوله عليه السلام: "لا يبولن

أحدكم في الماء الدائم" [ويروى: "في الراكد].

قال: ولا في قارعة الطريق، ولا في ظل؛ لما روى معاذ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" رواه أبو داود.

ص: 440

والبراز بفتح الباء: أصله الفضاء من الأرض، كني به عن قضاء الحاجة.

والموارد: المواضع التي يرد إليها الناس، وقيل: إنها الطرق إلى الماء.

وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: صدره، وقيل: ما برز منه، وهو متقارب، والطريق

تذكر وتؤنث.

وسميت: ملاعن؛ لأن كل من رأى ذلك يلعن فاعله.

وفي مسلم: "اتقوا الملاعن" قالوا: وما الملاعن؟ قال: "الذي يتخلى في طريق

الناس، أو في ظلهم".

ومواضع الشمس في الشتاء كمواضع الظل في الصيف.

والمنع من البول على القبور أولى، وإليه يرشد قول الشيخ: "ولا يجلس [على قبر،

ولا يدوسه".

وقال في "الروضة": إن البول عليها حرام؛ وكذا] في المسجد. نعم، لو بال في

إناء في المسجد - ففي تحريمه وجهان، أصحهما: التحريم أيضاً.

ويكره البول قائماً إلا من عذر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله لعذر.

قال: ولا يستقبل الشمس والقمر؛ لأنهما من آيات الله الباهرة؛ وادعى الإمام: أن

ص: 441

العراقيين رووا فيه خبراً، وهذا على وجه الاستحباب؛ وكذا ما ذكرناه قبله إلى أول

الباب إلا ما نبهنا عليه؛ فلو استقبل الشمس أو القمر، كان مكروهاً.

وعن الصميري فيما حكاه صاحب "البيان" أنه يكره استدبارهما أيضاً، ولا يحرم.

وقال الرافعي: إنه رآه في "الشافعي" لأبي العباس الجرجاني. وهو المفهوم من كلام

الغزالي في "الوجيز"، وفي الخبر ما يدل عليه، والكتب المشهورة ساكتة عنه، وهذا

المستحب مما يستوي فيه الصحاري والبنيان؛ كما صرح به المحاملي وغيره.

قال: ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها؛ لما روى الشافعي بسنده عن أبي هريرة عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد؛ فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ [فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط] [أو بول]، وليستنج بثلاثة أحجار "ونهى عن الروث والرمة"،وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر الغائط في موضعه الأول

وهو المكان المستفل بين عاليين، وما نقل إليه لنلازمته لذلك في الغالب: وهو

الفضلة المستقذرة.

وفي هذا الخبر دليل على ظان النهي مخصوص بالصحاري؛ كما هو مفهوم كلام

الشيخ، وبه صرح غيره، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الغائط بها يكون دون البنيان، وقوله:

"فإذا ذهب أحدكم" يدل عليه؛ لأن الذهاب [إنما يطلق] على التوجه إلى

الصحاري، أما في المنازل: فيقال: دخل، وقد وردت أحاديث تعضده: روى مجاهد

عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم"نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، ثم إني رأيته قبل موته

ص: 442

بسنة وقد قعد مستقبل القبلة لقضاء حاجته"، وروي عن ابن عمر أنه قال: "إن ناساً

يقولون: إذا [قعدت على] حاجتك؛ فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس، لقد

ارتقيت على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت

المقدس"؛ وهذا ما استدل به الشافعي على عدم تحريم الاستقبال، والاستدبار في

البيوت؛ لأن من يستقبل بيت المقدس [من المدينة يستدبر الكعبة، وإلا فاستقبال"

بيت المقدس] واستدباره؛ إذا لم يتضمن استقبال الكعبة، واستدبارها مكروه؛ كما

قاله في "التتمة" ويغضد ذلك رواية البخاري، عن ابن عمر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

مستدبر القبلة، مستقبل الشام". وروى عن عراك بن مالك قال: "سمعت عائشة

تقول: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم:

ص: 443

أو قد فعلوها؟! حولوا بمقعدتي إلى القبلة" رواه أصحاب السنن.

والفرق من حيث المعنى بين الصحاري والبيوت من وجهين:

أحدهما: أن الصحاري لا تخلو من مصل: من ملك، أو جني، أو إنسي؛ فربما

وقع بصره على فرجه؛ فيتأذى به. وأما الحشوش في البناء؛ فإنها موضع الشياطين؛

فتخلو عن المصلين.

والثاني: أنه لا مشقة في تجنب ذلك في الصحاري بخلاف البيوت؛ فإنه مع ضيقها

يشق ذلك.

وفي هذا كله دليل عدم التحريم، وإلا فالأدب أن يتوقى استقبالها واسدبارها في

البنيان ويهيئ مجلسه مائلاً عن ذلك.

فرع: لو جلس في الصحراء إلى ما يستره من جبل، أو جدار، أو دابة، هل يغلب

حكم الصحراء في المنع من الاستقبال والاستدبار، أو يغلب حكم الستر في جواز

ذلك؟ فيه وجهان في "الحاوي" جاريان فيما إذا كان في مصر من خراب قد صار

فضاء، والعمراني في "الزوائد" حكاهما [فيما] إذا كان الساتر من جرم الأرض؛

بأن نزل في وهدة منها.

والذي ذكره الجمهور في الولى عدم التحريم، واعتبروا في قدر الساتر وما بينه

وبينه ما سلف؛ وفي الثانية التحريم؛ كما في الصحراء؛ نظراً للمعنى.

قال: وإذا أراد الاستنجاء بالماء - انتقل إلى موضع آخر؛ لما روى عبد الله بن

مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ؛ فمغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ؛ فإن عامة

ص: 444

الوسواس منه" أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.

والمعنى فيه: التحرز عن أن يلحقه رشاش مما يقع على الخارج.

قال بعضهم: وهذا متجه إذا كان يقضي حاجته على وجه الأرض، أو على

موضع يترشش بمصادمته الأرض، أما إذا كان بعيد الهوي- فلا وجه للكراهة.

ومغفل: بغين معجمة، وفاء مشددة مفتوحة.

واحنرز الشيخ بقوله: "بالماء" عما إذا أراد الاستجمار؛ فإنه لا ينتقل عنه؛ لأن

المعنى الذي لأجله شرع الانتقال مفقود فيه، بل في انتقاله نقل النجاسة عن محلها،

وبه يتعين استعمال الماء؛ ولهذا المعنى استحب الأصحاب إعداع أحجار الاستجمار

قبل قضاء الحاجة، وعليه يدل - أيضاص - قوله عليه السلام: "اتقوا الملاعن،

وأعدوا النبل".

والنبل: يروى بضم النون، وفتحها، وهي: حجارة الاستنجاء الصغار.

قال الهروي: والمحدثون يروونها بالفتح، وهي من الأضداد، يقال للصغار: نبل،

وللعظام: نبل.

ص: 445

وقال الأصمعي: هي برفع النون: جمع نبلة كيورة وسور.

قال: والاستنجاء واجب من البول والغائط؛ لقوله عليه السلام في الخبر الذي

رواه الشافعي عن رولية أبي هريرة: "وليستنج بثلاثة أحجار" فإنه أمر، وظاهره

الوجوب، وقد روي [عن] عروة، عن عائشة أنه عليه السلام قال: "إذا ذهب

أحدكم إلى الغائط؛ فليذهب [معه] بثلاثة أحجار يستطيب بهن؛ فإنها تجزئ

عنه" أخرجه أبو داود؛ فلما أمر بالأحجار، وعلق الإجزاء بها، دل على وجوبها،

وعدم الإجزاء بفقدها.

وقد أبعد المزني؛ حيث صار إلى عدم وجوب [الاستنجاء؛ قياساً على عدم

وجوب] إزالة الأثر الباقي بعد الاستجمار.

وقاله عليه السلام: "تنزهوا من البول؛ فإن علمة عذاب القبر منه" وقوله -

ص: 446

عليه السلام - وقد مر بقبرين:"إنهما يعذبان

" الخبر يرد عليه.

وقد أفهم كلام الشيخ هذا أن الاستنجاء لا يجب فيما عدا البول والغائط، ولا

شك في وجوبه من الرطوبات النجسة الخارجة من السبيلين وعدم وجوبه من

خروج الريح، ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبا أو يابسا، ولو قيل فيما

إذا كان رطبا: في وجوبه خلاف؛ بناء على أن دخان النجاسة طاهر أم نجس؟ كما قيل

بمثله في تنجيس الثوب الذي يصيبه إذا كان رطبا - لم يبعد.

ولكن قد يقال في جوابه: إن ذلك لا يزيد على ما يبقى على المحل بعد الاستجمار، وذلك معفو عنه، والله أعلم.

وعلى هذا فالجواب عما أفهمه كلام الشيخ هنا: أنه أراد انطباق دلالة الخبر

الأول على دعواه، والاستنجاء من الرطوبة يفهم وجوبه قوله من بعد: "فإن كان

الخارج حصاة، لا رطوبة معها

" إلى آخره؛ فإنه يفهم الجزم بوجوبه عند خروج

الرطوبة، والله أعلم.

قال: والأفضل أن يكون قبل الوضوء؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخروجا عن الخلاف؛ فإنه شرط عند أحمد على رواية هي قول لنا ستعرفه، ولأن تأخيره يعرض الوضوء

للانتقاد بالمس.

وإذا ثبت أن الأفضل تقده على الوضوء؛ فعلى التيمم مع ضعفه أولى؛ ولأجل

ذلك فصل الشيخ؛ حيث قال: فإن أخره إلى ما بعد الوضوء؛ أي: ولم يمس شيئا

من ذكره، [ولا دبره]- أجزأه؛ أي: الوضوء؛ لأن الوضوء موضوع لرفع الحدث،

ورفع الحدث لا يتوقف على استباحة الصلاة؛ بدليل جوازه قبل الوقت؛ فلم يمنع من

صحته قيام نجاسة مانعة من الاستباحة، وهذا ما نص عليه في البويطي.

ص: 447

وحكى الإمام عن رواية المزني في "المنثور" قولا آخر: أنه لا يجزئه، وبه يحصل

فيه قولان، وقد حكاهما أبو علي في "الإفصاح"، عن رواية المزني في "المنثور".

والقاضي الحسين قال: عدم الإجزاء مخرج من مسألة التيمم، وكيف قدر فهو

ضعيف بالاتفاق، بل قال الإمام: لولا أن المزني نقله، لم أعده من المذهب.

قال: وإن أخره إلى ما بعد التيمم، لم يجزئه؛ أي: التيمم؛ لأن التيمم موضوع

لاستباحة الصلاة، لا لرفع الحدث، ولا استباحة مع قيام النجاسة، وهذا ما نص

عليه في "البويطي""والأم".

قال: وقيل: يجزئه؛ قياسا على الوضوء، وهذا أخذ من قول الربيع: "وفي التيمم

قول آخر: أنه يجزئه"، والقياس ظاهر على رأي من يعتقد أنه يرفع الحدث، لكن

الجمهور على أنه لا يرفعه، واختلفوا في نقل الربيع:

فمنهم من صححه، وأثبت في التيمم قولين، وقطع في الوضوء بالإجزاء؛ وهذه

طريقة ابن القاص، وهي التي حكاها الإمام عن الأكثرين، ولم يحك أبو الطيب

غيرها، واقتضى كلامه ترجيح القول بإجزاء التيمم.

ومنهم من لم يصححه، وقال: ذلك من تخريجه وكيسه؛ فلا يصح التيمم قولاً

واحداً؛ وهذه طريقة أبي إسحاق، وحكى البندنيجي أنه قال:[إذا قال] الربيع:

"وله قول آخر"، فإنما هو من كيسه وتخريجه؛ فلا يلتفت إليه.

وعلى هذا فالذي ذكره العراقيون في الفرق بين الوضوء والتيمم ما ذكرناه. والقاضي

الحسين فرق بأنه يجب عليه طلب الماء؛ للاستنجاء، وطلب الماء بعد التيمم يبطله؛

فصار كما لو تيمم، ثم رأى سواداً أو نحوه، وطلب الماء [لا يبطل] الوضوء.

قلت: وفي هذا نظر من وجهين:

أحدهما: أن لا نسلم أن طلب الماء للاستنجاء واجب؛ إذ الحجر يقوم مقامه، ثم

لو سلمناه بأن لم يكن الحجر موجوداً، أو كان الخارج لا يجزئ فيه إلا الماء؛ فهو

يقتضي أن محل الخلاف فيه إذا كان التيمم لأجل فقد الماء، أما لو كان لمرض

[ونحوه]، فيجوز وجها واحداً؛ لأن طلب الماء في هذه الحال لا يبطل التيمم،

ص: 448

والمفهوم من كلام الأصحاب حكايته في الحالتن.

ثم الفرقان [يقتضيان] أنه لا يصح تيمم من على يديه نجاسة. والقائلون بالأول

قالوا: في صحة تيممه وجهان: أصحهما عند أبي الطيب، والأقيس عند البندنيجي،

وهو المنصوص في "الأم"؛ كما قال ابن الصباغ-: عدم الصحة، وعلى هذا لا فرق،

وعلى مقابله فالفرق أن نجاسة الاستنجاء هي التي أوجبت التيمم؛ فجاز أن يكون

[بقاؤها] مانعاً من صحته، وما عداها لا يوجب التيمم؛ فلا يكون بقاؤهل مانعاً من

صحته، وقد حكاه الماوردي عن رواية أبي حامد عن الداركي، وفيه نظر.

والقائلون بالثاني قالوا: إن كان عالماً في ابتداء التيمم بالنجاسة - لا يبطل تيممه؛

لأنه إذا طلب الماء في الابتداء؛ فذاك الطلب يقع عنها. وإن لم يعلم بالنجاسة حتى تيمم،

أو طرأت النجاسة عليه - بطل تيممه؛ لأنه تجدد عليه الطلب لذلك، [ولم يظهر لي في

اختصاص] هذا التفصيل بهذه الحالة معنى، بل هو في نجاسة النجو أولى.

والفرق الأول يقتضي أنه لا يصح تيمم من هو مكشوف العورة، ولم يحك

الإمام وغيره [فيه] خلافاً في الصحة، وبه قوى أبو الطيب القول بصحة التيمم

قبل الاستنجاء، وغيره فرق بأن [باب] النجاسة آكد من ستر العورة.

قال: والأفضل أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر، [أي]: ويقدم

الحجر؛ لأن الله - تعالى - أثنى على أهل قباء بقوله:- (فيه رجال يحبون أن

يتطهروا

) الآية [التوبة: 108] فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقالوا: "كنا نتبع الحجارة الماء"

وفيه من طريق المعنى أن العين تزول بالحجر، والأثر بالماء فلا

ص: 449

يحتاج [إلى] مخامرة النجاسة، وقد قالت عائشة: "مرن أزواجكن أن يتبعن

الحجارة الماء من أثر الغائط؛ فإني أستحبه منهم؛ كان رسول الله صلى الله علبيه وسلم يفعله" رواه أبو سعيد، واحتج به.

قال: فإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لأنه الأصل، ويزيل العين

والأثر، والحجر لا يزيل إلا العين.

والمستحب في كيفية الاستنجاء به من الغائط أن يعتمد على الوسطى من

أصابع كفه اليسرى، وهل يندب له شمها بعد غلبة ظنه بزوال العين والأثر، أم لا؟

قال الماوردي: ذلك ينبني على أنه لو شمها؛ فرأى فيها رائحة النجاسة هل يكون

ذلك دليلاً على نجاسة المحل، أم لا؟ فيه وجهان؛ فإن قلنا: إنه دليل - ندب إلى

شمها، وإلا فلا.

قال في "الكافي": ويستحب له بعد استنجائه أن يمسح يده على أرض طاهرة،

أو جدار، ثم يغسلها. وأشار القاضي الحسين قبيل باب: الساعات إلى أنه - عليه

السلام - فعله.

ص: 450

قال: وإن اقتصر على الحجر، أجزأه؛ لما ذكرناه من رواية عروة عن عائشة.

وظاهر هذا أنه لا فرق [فيه] بين الاستنجاء من الغائط أو البول، وبين الرجل

والمرأة، وهو مما لا خلاف فيهما من الرجل، وفي الغائط من المرأة، وأما في

البول منها: فإن كانت بكراً، فالحكم كذلك، وإن كانت ثيباً فالنص في "الأم": أنه

يجزئ أيضاً، وهو الذي ذكره أبو الطيب وابن الصباغ؛ لأن منفذ البول لم يتغير بزوال

البكارة، والخارج معهود.

وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه لا يجزئ؛ لأن الغالب أنها إذا بالت ينتشر البول إلى

مدخل الذكر، ويتفاحش، وهذا ما حكاه صاحب "الحاوي" و "الفروع".

وفي "تعليق البندنيجي"، والقاضي الحسين "والكافي": أنها إن تحققت أنه وصل

إلى أسفل - لم يجزئها الحجر، وإلا أجزأها.

وقال في "الإبانة": إن أمكنها إيصال الحجر إلى جميع [المواضع] التي يجب

إيصال الماء إليها أجزأها الحجر وإلا فلا. قال: وإنما يجب إيصال الماء إلى الموضع

الذي يظهر عند جلوسها.

وفي "الرافعي" وجه آخر: انه يجب إيصاله إلى باطن فرجها؛ كما تخلل أصابع

رجلها؛ لأنه صار ظاهراً في الثيوبة.

فرع: الخنثى المشكل [هل] يجزئه الحجر عن الغائط وعن البول؟ أطلق الأصحاب

أنه لا يجزئه، سواء خرج من فرج الرجال أو النساء أو منهما؛ لاحتمال الزيادة.

قال الرافعي: ويجيء فيه الخلاف المذكور في إجزاء الحجر في الثقبة المنفتحة

تحت المعدة، [مع انفتاح المخرج المعتاد]؛ بناء على أنه ينتقض الوضوء بالخارج

منه. وهذا سبقه به الشاشي.

واعلم: أن محل إجزاء الحجر بلا خلاف إذا كان الخارج من السبيلين بولاً أو

غائطاً، أو ما هو معتاد مع بقائه رطباً على المحل، ولم يتعد المخرج، ولا انتقل عن

الموضع الذي حصل فيه عند الخروج، ولا اختلط به نجاسة أجنبية؛ فإن اختلط به

نجاسة أجنبية، أو انتقل عن المحل الذي صادفه وقت الخروج - لم يجزئ فيه إلا

الماء بلا خلاف؛ وكذا لو جف الخارج قبل الاستنجاء؛ لأنه بعد الجفاف لا يمكن

ص: 451

إزالته بالحجر؛ وهذا يمكن أن يؤخذ من كلام الشيخ؛ كما سنذكره.

وعن الروياني: أنه إن أمكن إزالته بالحجر؛ أجزأه، واختاره.

وإذا تعدى المحل، أو كان الخارج نادراً، ففيه خلاف يأتي إن شاء الله.

قال: وإن انتشر الخارج إلى باطن الألية؛ أي: انتشاراً متصلاً بحلقة الدبر؛ بحيث لم

ينفصل بعضه عن بعض، ففيه قولان:

أصحهما: أنه يجزئه [الحجر]؛ لأنه لم يزل في زمانه عليه السلام وإلى

اليوم رقة البطون في الناس، خصوصاً من قوتهم التمر: كأهل المدينة؛ فإنه يرق

البطون، ومن يرق بطنه ينتشر الخارج منه عن الموضع وما حواليه، ومع ذلك أمروا

بالاستجمار، وهذا ما حكاه الماوردي عن القديم، وعن رواية الربيع، وغيره حكاه

عن نصه في "الأم" و "حرملة" و "الإملاء"، وهو الأظهر، وبه قطع بعضهم، وأجاب

به المحاملي في "المقنع".

والثاني: لا يجزئه إلا الماء؛ لأن انتشاره لا يعم، ولا يغلب؛ فإذا أيقن وجب

غسله؛ كما لو انتشر إلى ظاهر الألية، وهذا ما حكاه الجمهور عن القديم.

وقال الماوردي: إن المزني نقله هنا، وأشار إليه البويطي، ورجحه الغزالي،

والإمام والقاضي الحسين، وكثيرون منهم: صاحب "المرشد"، ومنهم من قطع به.

والألية: ما ينبو عند القيامن وباطنها ما يستر بانطباقها؛ وهي مفتوحة الهمزة.

التفريع: إن قلنا بالأول؛ فلو كان الانتشار منقطعاً، وجب غسل ما انقطع

وانفصل عن حلقة الدبر.

وإن قلنا بالثاني؛ فلو كان انتشاره عن المخرج، لكن لم ينتشر أكثر من القدر

المعتاد أجزأ فيه الحجر؛ لأن ذلك القدر من الانتشار يتعذر - أو يتعسر - الاحتراز

عنه؛ وهذا ما نص عليه في عامة كتبه؛ كما قال البندنيجي.

ونقل المزني أنه يجزئه الحجر مالم يعد المخرج؟ فإن عدا المخرج لم يجزئه إلا

الماء؛ فمن الأصحاب من أثبته قولاً آخر، وزعم أن الضرورة تختص بالمخرج؛ فلا

يسامح فيما عداه بالاقتصار على الأحجار. والأكثرون امتنعوا من إثباته قولاً،

ص: 452

وانقسموا إلى مغلط، وعليه جرى البندنيجي، وإلى مؤول على إرادة المخرج، وما

حوله، وأحوجهم إلى هذا قول الشافعي في "مختصر البويطي": "ومن تغوط، أو بال؛

فلم يعد الغائط المخرج، ولم يعد البول مخرجه - أجزأه أن يمسح بثلاثة أحجار"؛

فإنه مؤول على ذلك.

قال: وإن انتشر البول - أي: عن الثقب - لم يجزئه إلا الماء؛ لأنه يخرج

بتزريق؛ فيندر فيه الانتشار، ومع الندرة لا مشقة في الماء؛ وهذه طريقة أبي

إسحاق، ولم يورد الماوردي سواها.

وقيل: فيه قولان:

أصحمها: أنه يجزئ فيه الحجر مالم يجاوز موضع القطع.

والثاني: لا [يجزئ فيه] إلا الماء؛ إلحاقاً لموضع القطع بباطن الألية، والبول إلى ما وراء موضع

القطع - أنه ينعين الماء، لأنه نادر بمرة، ولا فرق في هذه الحالة بين القدر المجاوز

وغيره إذا كان متصلاً. ومنهم من جعل مالم يجاوز على الخلاف؛ وهذه طريقة أبي

حامد.

قال الماوردي: وهي خطأ، والذي عليه الجمهور أصحابنا الأول. ووجهه القاضي

الحسين بأنه لا يمكن غسله فقط؛ لأن رطوبة المغسول تتعدى إلى الباقي.

قال: وإن كان الخارج دماً أو قيحاً ففيه قولان:

أحدهما: أنه لا يجزئه إلا الماء؛ لأن الاقتصار على الحجر تخفيف على خلاف

القياس ورد فيما تعم به البلوى؛ فلا يلحق به غيره.

قال القاضي الحسين: وهذا ما رواه الربيع؛ حيث قال: [لو تخلى دماً، أو قيحاً،

فليس له أن يستنجى بالأحجار، وعليه يدل] قوله في القديم: لو كان في جوف

مقعدته بواصير - بالباء والنون والصاد والصين - فخرج منها دم فلا يجزئه إلا الماء.

والرافعي ذكر أن الربيع هو الذي روى ذلك، وأخذ منه هذا القول.

والثاني: يجزئه فيه الحجر؛ نظراً إلى المخرج المعتاد؛ فإن خروج النجاسات من

ص: 453

على الانقسام إلى الغالب، والنادر مما يتكرر، ويعسر البحث عنها والوقوف عليها؛

فيناط الحكم بالمخرج، وهذا ظاهر ما نقله المزني وحرملة، وهو الصحيح في

"الكافي" وغيره، ومنهم من قطع به، وتأول ما قاله في القديم على ما إذ كان بين

الألتين، لا في الداخل.

قال القاضي الحسين: ومنهم من قال في النقل تصحيف؛ لأنه قال: "ولو كان في

جوف مقعدته بواصير".

قلت: وهذا تأويل من لم يقف على نقل الربيع، ولا جرم اقتصر الشيخ على حكاية

القولين.

قال الفوراني: وقد اختلف الأصحاب في محل القولين:

فقيل: محلهما: إذا كان الدم والقيح ملوثا بالمعتاد؛ فلو انفرد، لم يجزئه إلا الماء،

وهو اختيار االقفال.

ومنهم من قال: لا فرق، وصححه في "التتمة".

والخلاف جار في كل خارج من القبل أو الدبر على وجه الندور، وقد عد منه في

"المهذب" و "الحاوي" المذي والودي.

واعلم: أنه يستثنى من الدماء دم الحيض؛ فإن الإمام حكى عن العراقيين ـنه يتعين

في إزالته الماء، ثم قال: وليس هذا بعيداً عن الاحتمال.

قلت: وما حكاه عن العراقيين قد رأيته في "تعليق البندنيجي"؛ فإنه قال: إن

الاستنجاء بالحجر لا يغني فيه؛ لأن عليها غسل جميع البدن، وتبعه صاحب

"الكافي" في ذلك، وهذه العلة [مدخولة؛ لأنها] تفهم جواز الاستنجاء بالحجر عند

فقد الماء وإرادة التيمم. وفائدته: ألا يجب عليها الإعادة إذا كانت في السفر؛ إذ لو

قلنا: إنها لا تستنجي [عن دم] الحيض بالحجر لكانت مصلية بالنجاسة؛ فيجب

عليها الإعادة على الصحيح من المذهب، وقد صرح بالمفهوم - كما قال في

"الروضة" - صاحب "الحاوي" وغيره، لكن الذي نص عليه الشافعي؛ كما حكاه

الروياني في "تلخيصه": أن البكر يجزئها [فيه] الاستنجاء بالحجر دون الثيب،

ص: 454

وعلته ان البكر لا يجب عليها غسل ما وراء العذرة؛ فالحجر يأتي على ما يأتي عليه

الماء؛ فأجزأها، والثيب يجب عليها غسل ما يبدو عند القعدة، والحجر لا يأتي

على ذلك كله؛ فلا يجزئها، ويشهد له أن العراقيين قالوا: إن الثيب إذا بالت، وتحققت

دخول البول في موضع الحيض تعين الماء؛ لما ذكرناه.

ثم ما ذكره [الإمام] من الاحتمال، يجوز أن يكون مادته أن ما وراء ملتقى

الشفرين لا يجب غسله في الجنابة والحيض؛ كما جزم هو به، وهو واجب في

الاستنجاء؛ فلا يكون الغسل شاملا له، وهو خلاف ما قاله العراقيون، وحينئذ

يكون كغيره من الدماء، والله أعلم.

قال: وإن كان الخارج حصاة لا رطوبة معها؛ أي مشاهدة لم يجب الاستنجاء

في أحد القولين؛ لأن المقصود من الاستنجاء: إزالة النجاسة، ظظظاو تخفيفها عن المحل؛

فإذا لم يلوث المحل فلا معنى للإزالة، ولا للتخفيف؛ وهذا مااختاره المزني،

وصححه الرافعي، وصاحب "الكافي"، وقال ابن الصباغ: إنه أظهر.

ويجب في الآخر؛ لأنها لا تخلو عن رطوبة وإن قلت وخفيت، والفوراني علله

بالتعبد؛ وهذا القول صححه الإمام، والقولان منسوبان لـ "الجامع الكبير".

والغزالي، وإمامه، والشيخ أبو محمد والصيدلاني أثبتوا الخلاف وجهين، وهو

مشبه في "تعليق القاضي الحسين" بما إذا ولدت المرأة، ولم تر دماً.

واعلم: أن ما ذكرناه من الخلاف جار فيما لو كان الخارج دودة، أو نواة، أو

بعرة، لا رطوبة معها؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره، وعلى الثاني هل يجزئ فيه

الحجر؟

قيل: نعم، وههو اختيار القاضي أبي الطيب، وادعى في "الروضة" أنه المذهب.

وقيل: قولان، وهي المذكورة في"الشامل" و "تعليق البندنيجي"،

"الروضة" إلى الجمهور، وقال: إن الأولى الصواب.

قال: وإذا استنجى بالحجر، لزمه إزالة العين - أي: به - بمسحة واحدة، أو مسحات،

زادت على الثلاث أو لا؛ لإمكان ذلك، ومن هنا يؤخذ أن شرط جواز الاستنجاء

بالحجر أن يكون ما يستنجى منه رطباً؛ كما سلف. نعم، ما لا يمكن إزالته بالحجر

ص: 455

من العين، يعفى عنه، وصورته - كما قال الإمام - أن ترق النجاسة بعد الرقة،

وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ؛ فإن النجاسة تغوص في [أثناء تلك

المعاطف، والأحجار لا تلاقي إلا ظواهرها، وتبقى الأعيان على] تلك المعاطف.

قلت: ولأجل هذا كره علي - كرم الله وجهه - الاقتصار على الأحجار إلا حالة

الضرورة؛ كما قال الماوردي موجهاً ذلك بقوله: إنما كنا نبعر وأنتم تثلطون

ثلطاً.

ولا يكلف المستجمر إزالة الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء؛ لأنه ليس في

وسعه، وذلك محل العفو، وهذا بخلاف الاستنجاء بالماء؛ فإنه يلزمه إزالة العين

والأثر؛ كما في سائر النجاسات لإمكانه من غير كلفة.

ولو بقى بعد الاستنجاء بالحجر أثر لا يزيله الحجر، وتزيله الخرق، قال في

"الحاوي": وظاهر مذهب الشافعي: أن عليه إزالته، وهو قول أكثر أصحابه.

وفيه وجه آخر لبعض المتقدمين منهم: أنه لا تلزمه إزالته؛ لأنه لما كان فرضه

يسقط بالأحجار لزمه إنقاء ما يزول بالأحجار.

قال: واستيفاء ثلاث مسحات - أي: يعم بكل مسحة جميع المحل؛ كما نص عليه

في "الأم"، وإن حصل الإنقاء بدونها: إما بحجر له ثلاث أحرف، أو بأحجار ثلاثة.

ووجهه في الأحجار ظاهر الخبرين السابقين، وما رواه مسلم عن سلمان

الفارسي وقيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل لقد نهانا أن

نستقبل القبلة لغائط أو أن نستنجي باليمين أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن

نستنجي برجيع، أو عظم".

ووجهه في الحجر ذي الأحرف ما روى أنه عليه السلام قال:" إذا جلس

ص: 456

أحدكم لحاجته؛ فليمسح ثلاث مسحات"، ولأن المقصود من الأحجار الثلاث

تعدد المسحات؛ إذ بها يحصل الإنقاء غالباً، وهو موجود في الحجر ذي الأحرف.

وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يجزئه الاستنجاء بالحجر الواحد؛ إذا لم يكن له غير

حرف، وإن غسله من أول دفعة [ونشفه]، ثم استنجى به، ثم غسله، ونشفه

واستنجى به؛ وهو وجه حكاه الرافعي مقيساً على عدم جواز التيمم بالتراب المتيمم به،

والحجر الواحد في الجمار، وتكرر شهادة الشاهد الواحد في الواقعة الواحدة.

لكن المشهور أنه يجزئ من غير كراهة، وليس كما ذكرنا؛ لأن غلبة الظن في الشهادة

هي المطلوبة، ولا تحصل بالتكرار، والتراب والحجر مستعمل في التيمم والجمار كله،

ولا كذلك هنا؛ فإن المقصود: حصول الإنقاء، وإذا استعمله ثانياً [وثالثاً] كما ذكرنا

حصل، والمستعمل منه فيه بعضه؛ ولهذا لو قسمه أقساماً أجزأه وفاقاً.

وعلى هذا فالجواب عما أفهمه كلام الشيخ أن من شرط الاستنجاء بالحجر؛ كما

[سلف أن] يكون ما على المحل رطباً؛ فتصوير جفاف الحجر مرتين، مع بقاء ما

ص: 457

على المحل رطباً يندر؛ فجرى كلامه على الغالب.

فإن قيل: إذا كان المقصود الاستنجاء: الإنقاء واكتفيتم بالمسحات بحجر واحد؛

لحصوله؛ فينبغي إذا حصل الإنقاء بمسحة واحدة أن تكتفوا بها.

قلنا: قد أبعد بعض أصحابنا، فقال به، لكن المشهور والذي نص عليه الشافعي

عدمه؛ كما ذكره الشيخ؛ لأن الشارع إذا نص على عدد فلا بد له من فائدة، وهي [إما

منع الزيادة] والنقصان أو منع أحدهما، والزيادة غير ممتنعة هنا؛ فتعينت في عدم

النقص؛ ولأنها عبادة ورد الشرع فيها بالأحجار يستوي فيها الثيب والأبكار؛

فللعدد فيها اعتبار، دليله رمى الجمار.

أو لأنها نجاسة شرع في إزالتها عدد؛ فوجب الإتيان به؛ كما في [غسلات]

الإناء من ولوغ الكلب؛ [ولأن الإنقاء الحاصل بثلاث مسحات لا يوجد بالمسحة

الواحدة؛ خصوصا والمحل الممسوح غير مشاهد للماسح؛ فتعين الإتيان بها].

فرعان:

إذا لم تزل العين بالثلاث، وجب الزيادة عليها، ويستحب أن يكون وترا إن حصل

الإنقاء بالشفع؛ لقوله عليه السلام:"من استجمر؛ فليوتر" وعن ابن خيران

أنه يجب الوتر؛ لظاهر الخبر.

ص: 458

والثاني: إذا حصل الإنقاء بواحد؛ فاستعمال الثاني والثالث واجب؛ كما ذكرنا،

وهل يجوز استعمالها مرة أخرى في استنجاء آخر؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، كما في الجمار.

والثاني: لا؛ لأنه تأدى بها فرض الاستنجاء؛ فأشبهت الماء.

قال: والمستحب أن يمر حجرا من مقدم الصفحة اليمنى، إلى أن يرجع إلى

الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم الصفحة اليسرى إلى أن يرجع إلى

الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثالث على الصفحتين والمسربة؛ لقوله - عليه

السلام-: "وليستنج بثلاثة أحجار، يقبل بواحد، ويدبر بواحد، ويحلق بالثالث"

وهو اختيار ابن أبي هريرة، [والشيخ أبي زيد، كما قال القاضي الحسين].

فإن قلت: إذا كان هذا المستحب؛ فما الكيفية الواجبة؟

قلنا: إمرار كل حجر على جميع المحل كما ذكرنا، سواء بدأ بمؤخر الصفحة، أو

وسطها، أو آخره؛ هكذا دل عليه كلام العراقيين، وحكوا عن أبي إسحاق المروزي

ص: 459

أنه قال: يمر حجرا على الصفحة اليمنى فقط، وحجرا على الصفحة اليسرى فقط

وحجرا على المسربة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"حجرا للصفحة اليمنى وحجرا للصفحة اليسرى، وحجرا على الوسط"؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي في

"الكبير"، وخطأ الأصحاب أبا إسحاق فيه؛ من حيث إنه لم يقع استيعاب كل حجر

لجميع المحل، ومن نقله عن النص قال: النص مؤول على الكيفية الأولى؛ وكذا

الخبر؛ فيكون معنى قوله عليه السلام: "حجرا للصفحة اليمنى" أي: بدأ فيه

بالصفحة اليمنى، وقوله" وحجرا للصفحة اليسرى" أي: بدأ فيه بالصفحة اليسرى،

وقوله: "وحجرا للوسط" محمول على الإدارة على جميع المحل.

قال الإمام: وهذا بعيد.

قيل: حمل الوسط على الجميع بعيد لا يستقيم، وإن قيل: معناه: يبدأ بالوسط؛

فلست أرى [فيه] معنى.

وهل خلاف أبي إسحاق في الوجوب أو الاستحباب؟ الذي حكاه الإمام عن

العراقيين أنهم قالوا: هو في الاستحباب، وهو ما يفهمه كلامهم، والمسلكان جميعا

جائزان عنده، ولا يجوز الثاني عند غيره.

وعن الشيخ أبي محمد أن الوجهين موضوعان على التنافي؛ فصاحب الوجه الأول

لا يجيز المسلك الثاني، وصاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الأول، وعلى هذا

فظاهر؛ لما ذكرناه، وأما كون صاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الثاني

فظاهر؛ لما ذكرناه، وأما كون صاحب الوجه الثاني لا يجيز المسلك الأول فلا وجه له؛ إذ

الزيادة في استعمال الأحجار غير ممنوعة، وهذا كذلك، وقد حكاه في "الروضة" وجها.

وجوابه يتوقف على معرفة شيء مقصود في نفسه، وهو كيفية ما يضع الأحجار،

ص: 460

وغيرها، وقد قال بعضهم: إنه يجب على المستجمر أن يضع الحجر أولاً في موضع

طاهر - فإنه لو وضعه على موضع نجس؛ لخلف شيئاً من النجاسة - ثم يديره

أولاً فأولاً؛ بحيث يلقي كل جزء طاهر منه جزءاً من النجاسة ينقلها، ويختطف ذلك

خطفاً ولا يمسح به مسحاً؛ كي لا يكون ناقلاً للنجاسة من محل إلى محل فيتعين

في إزالتها الماء، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، عن أبي زيد.

وحكى الإمام معه وجهاً آخر: أنه [لا] يجب ذلك، وهو ما يفهمه قول الشيخ:

"له ثلاثة أحرف"؛ إذ مع الحرف قد لا يمكن الإتيان باليئة الأولى.

ووجهه الإمام: بأن الاستجمار رخصة، لا توازيها في التساهل رخصة؛ فلا يليق

بوضعها تكليف ذلك، وأنه لو كلف ألا تنتقل النجاسة في محاولة رفعها [أصلاً]،

لكان ذلك تكليفا بأمر يتعذر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برخص؛

فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف؛ لذلك فالقدر الذي يعسر مع الاحتياط

التصون منه في النقل يجب أن يعفى عنه.

فإذا عرف ذلك عدنا إلى ما نحن فيه، وقلنا: إنما امتنع إمرار [كل] حجر من

الأولين على الصفحتين؛ لأن ملاقاة كل جزء من النجاسة جزءا طاهرا من الحجر، لا

يدركه المستنجي يقينا؛ لأنه لا يشاهده، وفي حصول ذلك عسر؛ كما ذكرناه، والشرع

اكتفى به في أحد الصفحتين بالظن؛ للضرورة؛ فإنه لو لم يكتف به لما جاز الاستنجاء

بالحجر؛ [كما ذكرنا]، ولا ضرورة في إمرار ذلك الحجر على الصفحة الأخرى بل

يغلب على الظن عند إمراره عليها نقل النجاسة؛ فيتعين الماء؛ وهذا هو المعني

بالوجوب: أنه لو أمر كل حجر منها على الصفحتين - تعين الماء، والله أعلم.

وقد حكى البغوي وجها آخر في كيفية الاستنجاء: أنه يأخذ واحدا فيضعه على

مقدم المسربة، ويديره إلى مؤخرها، ويضع الثاني على مؤخرها، ويديره إلى

مقدمها، ويحلق بالثالث.

قال الرافعي: وحاصله أنه رجع [إلى أنه] مثل الوجه الأول إلا في الحجر

ص: 461

الثالث؛ فإنه على الوجه الأول يمسح به الصفحتين والمسربة، وعلى هذا يمسح به

المسربة فقط.

تنبيه: الصفحتان: جانب مجرى الغائط [من الإنسان] والمسربة بضم الميم،

وكذا الراء وفتحها، قال النواوي وغيره: مجرى الغائط، مأخوذ من سرب الماء.

وقال الإمام: هي ملتقى الحجرين الأولين. وعليه ينطبق كلام الشيخ وغيره.

ولو احتاج إلى أزيد من ثلاث مسحات، قال في "التتمة": كان ما عدا الثالثة كالثالثة.

وقد سكت الشيخ عن الكيفية المستحبة في الاستجمار من البول، والذي ذكره

العجلي وغيره: أنه لا يسمح في المرة الأولى، بل يضع الحجر على منفذ الذكر

وضعا؛ لينقل البلة؛ وكذا في الثانية، وفي الثالثة يمسح. ووضع رأس الذكر على ثلاثة

مواضع من حائط ونحوها كاف.

ص: 462

قال القاضي الحسين: ولو مسح بذكره من أعلى الحائط إلى أسفلها، أجزأه، ولو

مسح من الأسفل إلى الأعلى، لم يجزئه.

قال: ولا يستنجي بنجس- أي: بكسر الجيم- لأن المقصود من الاستنجاء: إزالة

النجاسة، أو تخفيفها، والنجس يزيدها.

ولا فرق في النجس بين نجس العين: كالرجيع ونحوه، أو المتنجس بغيره:

كالحجر ونحوه.

وقد استدل على المنع من الاستنجاء بخ بنهيه عليه السلام عن الاستنجاء

بالرجيع، كما رواه [سلمان] الفارسي، وقالوا: لا علة إلا النجاسة، وفيه ما سنذكره.

قال: ولا بمطعوم - أي: للجن والإنس:- كالعظم- أي: الطاهر- وجلد المذكي

قبل الدباغ، ووجهه في الأول ما روى عن ابن مسعود أن وفد الجن أتوا إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ انه أمتك عن الاستنجاء بالعظم، والروث؛ فإن الله جعل لنا فيه رزقا؛ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إنه زاد إخوانكم من الجن".

وبعضهم استدل على منع الاستنجاء بالعظم، بحديث سلمان، وما ذكرته أولى؛

لأن فيه تعرضا لأنه مطعوم، وهذا إذا كان العظم على صفته، سواء جف أو لم يجف؛

فلو حرق، وخرج عن حال العظم، ففي جواز الاستنجاء به وجهان في "الحاوي"،

ووجهه في الثانية القياس على الأولى [وهو من باب الأولى] ، وما ذكره الشيخ فيها

عليه نص الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" و "حرملة"، وبه قطع بعضهم.

ص: 463

قال أبو الطيب: لأن باطنه كاللحم، وظاهره عليه الشعر يمرسه، وكلاهما لا

يحصل الإنقاء.

وبعض الأصحاب قال: قد نص في "البويطي" على أنه يجوز الاستنجاء به؛ فيكون

فيه قولان، وهذه طريقة أبي حامد وطائفة.

وذهب الصيمري إلى تنزيل النصين على حالين؛ فقال: نصه في "الأم" و "حرملة"

محمول على ما إذا كان رطبا، ونصه في "البويطي" محمول على ما إذا كان يابسا.

قال الماوردي: ووجدت لبعض أصحابنا الخراسانيين أنه تحمل رواية المنع

على باطن الجلد وداخله؛ لأنه باللحم أشبه، ورواية الجواز على خارجه؛ لأنه خارج

عن حال اللحم؛ لخشونته وغلظه، وهذه الطريقة لم يحك القاشي الحسين غيرها.

قال الماوردي: وهذا قول مردود مطروح، وإنما حكيته تعجبا.

وقد أفهم كلام الشيخ أنه بعد الدباغ يجوز الاستنتجاء به جزما، أو على قول، وفيه

طريقان:

إحداهما: القطع بالجواز؛ لأنه في هذه الحالة غير مأكول، و [هذه الطريقة] لم

يحك الماوردي وأبو الطيب وابن الصباغ سواها.

والثانية: حكاية قولين فيه؛ أخذا مما سنذكره، [وهذه طريقة البندنيجي وغيره].

وقد أفهم كلامه أيضا أن جلد غير المذكى بعد الدباغ يجوز الاستجاء به قولا

واحدا أو على قولين، والثاني هو المشهور؛ لأنه نص في "البويطي" و "الأم" - ونقله

المزني- على جوازه.

وقال في "حرملة": إنه لا يجوز الاستنجاء بشيء من الجلود؛ فحصل فيه قولان.

قال أبو الطيب: والثاني على قياس القديم في منع بيعه.

والقاضي الحسين قال: إن أصلهما أن الدباغ هل يطهر باطن الجلد؛ كما يطهر

ظاهره، أو لا؟ فإن قلنا بالأول، جاز الاستنجاء به، وإلا فلا.

وأعجب من قوله بعد هذا البناء: إن القولين جاريان في جلد المذكى بعد الدباغ.

والماوردي قال: إن قلنا يجوز بيع جلد غير المذكى بعد الدباغ، جاز الاستنجاء به،

وإلا فوجهان.

ص: 464

ووجه المنع: أنه لما أجري عليه حكم الميتة في عدم حل بيعه، وجب أن يجري

عليه في الاستنجاء.

واعلم أن تمثيل المطعوم بالعظم وجلد المذكى قبل الدباغ، يفيد منع الاستنجاء

بغيرها من مطعومات الآدميين من طريق الأولى، وهو مما خلاف فيه، وهل

يقتضي منع الاستنجاء بمطعوم البهائم فقط؟ يحتمل وجهين، وكل منهما قد صرح

به؛ فإن ابن الصباغ قال: لا يجوز الاستنجاء بأوراق الأشجار؛ فإنها تعلف للدواب،

وقد يستدل لهذا بنهيه عليه السلام عن الاستنجاء بالروث والرمة؛ لأنه في خبر

قال: "أما الرمة فإنها زاد إخوانكم من الجن، وأما الروث فعلف دوابهم" فإذا علل

منع الاستنجاء بالروث؛ لأنه علف [دواب الجن]- فدواب الإنس أولى.

وقال الماوردي: لا يحرم الاستنجاء بعلف الدواب، وهل يحرم بما نأكله نحن

وهي؟ ينظر: إن كان أكلنا له أكثر، حرم؛ وإن كان أكلها له أكثر، فلا، وإن استويا،

فوجهان من اختلاف أصحابنا في أنه هل يجري فيه الربا، أم لا؟.

قال: ولا بما له حرمة؛ لما في ذلك من امتهانه؛ ولأنه إذا منع من الطعام، [فما له

حرمة] أولى، وقد مثل الأصحاب هذا النوع بما عليه مكتوب اسم معظم، أو

الطيب، وابن الصباغ؛ وكذا الدراهم والدنانير المطبوعة، وحجارة الحرم، وماء زمزم؛

كما قال الماوردي.

وفي "الرافعي": أنه لا يلتحق بالمحرمات الذهب والفضة على أصح الوجهين،

ولعل مراده غير المطبوع.

ص: 465

وأوراق التوراة غير ملحقة بهذا النوع؛ كما قال القاضي الحسين؛ لأنه لا حرمة

لها.

قال: فإن استنجى بشيء من ذلك، لم يجزئه: أما إذا استنجى بالنجس؛ فلأنه زاد

المحل نجاسة، وأما بالمطعوم؛ فلأن ما فيه من اللزوجة يمنع الإنقاء، وأما فيما له

حرمة؛ فلأن الاستنجاء بالحجر رخصة؛ فلا تناط بالمعصية.

وعلى هذا هل يتعين استعمال الماء؟ قال الأصحاب: ينظر: فإن [كان قد]

استنجى بالنجس، ففيه وجهان:

أحدهما: لا، لأن تحصيل الحاصل محال.

والثاني: نعم؛ كما لو انفردت النجاسة الأجنبية.

وفيما عداه إن انبسطت النجاسة تعين الماء، وإن لم تنبسط؛ وكان ما استنجى به

رطبا - تعين ايضا، وإلا فلا.

وقد قيل إذا استنجى بمطعوم حصل به الإنقاء [أو الشيء] المحترم يجزئه، وهو

مجمع عليه في ماء زمزم؛ كما قال الماوردي.

قال: ولا يستنجي بيمينه؛ أي: لا يجعل يمينه محركة للحجر، ولا للذكر إن جعل

الحجر في يساره، ووجهه: ماذكرناه من خبر سلمان.

وقد روى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الماء".

وكذلك لا ينبغي أيضا أن يستعين بيمينه فيه إلا عند الحاجة؛ كما إذا استنجى

بالماء، أو بحجر لا يقدر على الاستنجاء به إلا بمسكه بها؛ قاله ابن الصباغ.

ص: 466

ثم هذا النهي: نهي تنزيه أو نهي تحريم؟

ظاهر كلام الاصحاب: أنه نهى تحريم، وبه صرح كلام بعضهم.

وكلامه في "الكافي" يوهم خلافه؛ لأنه قال: "لو استنجى بيمينه، صح، كما لو

توضأ من إناء ذهب أو فضة".

قال: فإن فعل ذلك، أجزأه؛ لأن الاستنجاء يقع بما في اليد، لا باليد، ولا معصية

في الرخصة.

أو لأن النهي عن الاستنجاء باليمين لا يعود إلى الاستنجاء؛ فلم يمنع من صحته

كالصلاة في الدار المغصوبة؛ وبهذا خالف النهي عن الاستنجاء بالعظم ونحوه؛ لأنه

عائد إلى نفس المنهي عنه.

فإن قلت: لم حملت قول الشيخ: "ولا يستنجي بيمينه" على ما ذكرت، [ولم

تحمله على جعلها آلة الاستنجاء؟]

قلت: لأن الماوردي قال: لأنه لو استنجى [بيد نفسه] لم يصح؛ بخلاف ما إذا

استنجى بيد غيره؛ خلافا لابن خيران؛ فإنه قال: إنه يجوز بهما. وهو خطأ؛ فإن الفرق

وقع بينهما في السجود؛ فإنه يجوز أن يسجد على كف غيره، دون كف نفسه، والشيخ

قد قال: إنه إذا فعل ذلك أجزأه.

فإن قلت: يجوز أن يكون الشيخ اختار مذهب ابن خيران. بل قال الإمام: لو

استنجى بيد غيره؛ كما لو استنجى بعصفور حي [أي: فيكون] فيه وجهان.

ولو استنجى بيد نفسه صح؛ [إذ لا حجر على المرء في تعاطي] النجاسة باليد.

قلت: لو كان هذا مختار الشيخ لما خص المنع باليمين؛ إذ الشمال كذلك.

وقد جزم ابن الصباغ بأنه: لا يصح بيد نفسه، ولا بيد غيره؛ وبذلك يتعين: أن مراده ما ذكرناه. [ومنه] يظهر لك أن المستحب: أن يستنجي بشماله؛ استدلالا بقول عائشة:"كان يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضوءه وطعامه، ويساره لخلائه وماعدا

ص: 467

ذلك من أذى".

ثم كيفية ما يفعل به في الغائط سلف، وأما البول: فإن كان يستنجي بحائط أو

بصخرة أو أرض أخذ ذكره بيساره، ومسحه بذلك.

وإن كان بحجر صغير، لا يمكن مسح ذكره به إلا بأن يمسكه بيده فقد اختلف

الأصحاب: هل الأولى أن تكون يساره لأخذ الذكر والحجر؟ على وجهين:

أحدهما: أن الأولى أن يأخذ بها الحجر؛ لأنه المقصود، ويكون ذكره بيميناه، وعلى

هذا يمر الحجر على ذكره.

والثاني: يأخذ الحجر بيمينه؛ لنهيه عليه السلام عن مس الذكر باليمين؛ فعلى

هذا يمسح الذكر على الحجر؛ ليكون على الوجهين معا، ماسحا باليسرى دون اليمنى.

فإن كان الحجر كبيرا يمكن حمله ووضعه بين يديه ويمسح ذكره به، فالأولى: ألا

يحمله، ويضعه بين عقبيه أو إبهاميه، ويأخذ ذكره باليد اليسرى، ويمسحه به.

واعلم أن قول الشيخ:"ولا يستنجي بنجس

" إلى آخره، يفهمك أن الأحجار لا

تتعين في الاستنجاء وإن نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها؛ [إذ] لو كانت تتعين لما احتاج إلى تعديد ما لا يجوز الاستنجاء به، ولقال:"ولا يجوز إلا بحجر طاهر". وهذا مذهبنا، وعليه يدل قول سلمان:"وأن نستنجي برجيع أو عظم"،إذا سلكت فيه الطريق الذي ذكرناه.

وقول وفد الجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أمتك عن الاستنجاء بكذا؛ يدل على أنهم لا يقتصرون على الأحجار. وكذا قوله عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجار ليس

فيها رجيع ولا عظم"،يدل عليه؛ لأن معناه: وليستنج بثلاثة أحجار وما قام مقامها. بل

قد جاء في رواية سراقة بن مالك:"وليستنج بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة

أعواد"، كما سنذكره.

ص: 468

وعلى [هذا]؛ فحد ما يجوز الاستنجاء به غير الماء: كل جامد طاهر، قلاع

للنجاسة، غير مطعوم، ولا محترم، ولا مخلف.

[وعن ذلك عبر] الشيخ سهل الصعلوكي بأنه: كل ما نظف ونظف،

وانصرف فزاد، ولم يخلف، وبالاستعمال لم يتلف.

وبلفظ: "قلاع للنجاسة" يخرج العين المبلولة؛ فإنها لا تقلع النجاسة؛ لرطوبتها.

والمشهور فيها: عدم الإجزاء.

وفي "الحاوي" وجه أن البلل لا يمنع من الصحة؛ وإنما المانع كون الماء عليها.

وعلى الأول، إذا استعملها مبلولة هل يتعين الماء؟

قال الأصحاب: إن انبسطت تعين [الماء]، وإن لم تنبسط؛ فعن الشيخ أبي محمد:

أن الحكم كذلك؛ لأن البلل يتنجس بملاقاة النجاسة؛ فيصير حكمه حكم نجاسة أجنبية.

قال الإمام: ولى فيه نظر؛ فإن عين الماء لا تنقلب نجسا، وإنما تجاور النجاسة، أو تخالطها.

قلتك وما قاله أبو محمد تفريع على أنه: إذا استنجى بشيء نجس يتعين الماء؛ كما

صار إليه أبو حامد. أما إذا قلنا: لايتعين كما حكاه البندنيجي عن الأصحاب فهنا أولى.

ويخرج أيضا: الخرقة اللينة، ولبقطن اللين، والبيضة، والزجاج، والنحاس،

والرصاص، ونحوه؛ إذا كان أملس، وكذا الحممة-: وهي الفحم - والتراب الذي لا

يلتئم؛ لأن ذلك غير قلاع.

وللشافعي- رضي الله عنه في الحممة والتراب نصوص مختلفة حكاها المراوزة:

أما في الحممة؛ فنص في "البويطي" على عدم الجواز.

ص: 469

ونقل الربيع جوازه بالمقابس، فمن الأصحاب من جعل المسألة على قولين،

ومنهم من قال على حالتين:

حيث قال: "يجوز" - أراد إذا كان صلبا، لا يتناثر؛ فإنه يحصل المقصود.

وحيث قال: "لا يجوز" - أراد إذا كان رخوا.

والذي أطلقه القاضي أبو الطيب والبندنيجي فيها - عدم الجواز.

وأما التراب: فقد نص على جواز الاستنجاء به في القديم، وعليه يدل ما روت

عائشة عن سراقة بن مالك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التغوط فقال:"لا تستقبل القبلة، ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح، ولتستنج بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من التراب".

وقال في موضع آخر: لا.

فمن الأصاب من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قال:[بل] على حالتين:

فقوله في القديم محمول على ما إذا كان منعقدا مثل المدر، وقوله في الموضع

الآخر محمول على ما إذا لم يكن منعقدا، وهذا أصح، ولم يحكي في "الحاوي" غيره.

قال القاضي الحسين: وإذا قلنا: يجوز، فيحتاج إلى أن يستنجي [به] أربع مرات؛

لأنه إذا استنجى به مرة يلصق التراب بالمحل، وفي الثانية يتناثر عن المحل؛ ويستحب له

الخامسة لأجل الإيتار.

وإن قلنا: لا يجوز، فاستنجى به - تعين الماء، وكذا إذا استنجى بالحممة المفتتة،

والله أعلم.

ص: 470