الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الوضوء
الوضوء - بفتح الواو -: الماء، وبضمها: الفعل، وهو المثوب عليه، مشتق من
الوضاءة، وقد قيل: هما جميعاً بالفتح، وحكي ضمهما، وهو شاذ، والمشهور الأول.
قال: إذا أراد - أي: الذي ليس بمتوضئ الوضوء نوى؛ لقوله تعالى: {إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] إلى آخرها؛ لأن تقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة،
فاغسلو للصلاة وجوهكم، كما يقال: إذا لقيت الأمير فتلبس، أي: للقائه، وإذا
لقيت العدو فتأهب أي: للقائه، وإذا رأيت العالم فقم، أي: له.
وقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين} [البينة: 5] والوضوء عبادة.
وقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىٍ ما نوى" متفق
عليه، والوضوء عمل لأنه طهارة موجبها في غير محلل موجبها؛ فافتقرت إلى النية
كالتيمم؛ وبهذا يخرج إزالة النجاسة.
والنية عبارة عن القصد بالقلب؛ يقول العرب: نواك الله بحفظه، [أي: قصدك
الله بحفظه].
وعبارة بعضهم: "أنها تصميم القلب على فعل الشيء"، والماوردي قال: إنها قصد
الشي مقترناً بفعله، فإن قصده وتراخى عنه، فهو عزم، كذا قاله في كتاب الأيمان
والقصد بالنية تمييز رتب العبادات عن العادات أو تمييز رتب العبادات.
قال: رفع الحدث، أو الطهارة للصلاة، أو الطهارة لأمر لا يستباح إلا بالطهارة:
كمس المصحف وغيره، أي: كالطواف، وسجود التلاوة، والشكر، ومس المصحف
وحمله؛ لأن ذلك عين العبادة.
واحترز بقوله: "للصلاة" عن نية مطلق الطهارة؛ [فإنها لا تكفي] عند
الجمهور؛ لترددها بين طهارة الحدث والخبث، واللغوية والشرعية.
وحملوا ما نقله البويطي من قول الشافعي: " لو نوى طهارة مطلقة أجزأه" على
إرادة الطهارة للصلاة أو من الحدث، والماوردي أجراه على ظاهره ولم يحك سواه،
وحكى وجهين فيما لو نوى الوضوء، ووجه المنع بأنه ينقسم إلى الوضوء عن حدث
ووضوء مجدد، واتفقوا على أنه لو نوى فرض الوضوء أو الوضوء المفروض أجزأه؛
لانتفاء ما سبق من الاحتمال.
وقد أفهم كلام الشيخ اموراً:
أحدهما: أنه لا فرق في إجزاء نية رفع الحدث بين أن يكون عليه مع الحدث
الأصغر الحدث الأكبر أو لا يكون، ولا بأن يكون ماسحاً على الخفين أو لا، فلا
خلاف في ذلك إذا لم يكن عليه غير الأصغر وليس بماسح، أمل إذا كان ماسحاً على
الخفين فالمشهور الإجزاء.
ومن الأصحاب من قال: لا يجزئه إلا نية الاستباحة كما في التيمم؛ بناء على أنه لا
يرفع الحدث عن الرجلين، وهو غريب.
ولو كان عليه مع الحدث الأصغر حدث أكبر: فإن قلنا باندراج الأصغر في الأكبر
أجزأت عنهما نية رفع الحدث، وإلا فلا تجزئ عن واحد منهما؛ قاله الماوردي.
والجمهولا أطلقوا القول بإجزاء نية رفع الحدث من غير تفصيل.
الثاني: أنه لا يحتاج مع شيء مما ذكره التعرض غلى إضافة ذلك إلى الله تعالى
والغزالي حكى في اشتراط ذلك وجهين، وهما من تخريج الإمام؛ فإنه قال:
الوضوء من القربات؛ ولذلك أوجب الشافعي النية فيه، وإذا كان كذلك انقدح ذكر
خلاف في أنه هل يشترط أن يضيف الوضوء إلى الله - تعالى - كما في الصلاة؟
لكن قد قطع أئمة المذهب بأنه لو نوى أداء الوضوء أو [فريضة الوضوء]
صحت نيته وارتفع حدثه؛ فالوجه أن يكتفي بما ذكر الأئمة.
قال الرافعي: ولا يجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات؛ بل الاعتبار
التمييز.
الثالث: أن نيته على غير هذا [النحو] الذي ذكر لا تصح، وذلك يشمل
صوراً لا يسلم بعضها من نزاع:
منها: ماإذا نوى استباحة مالا يستباح إلا بالطهارة كالصلاة وغيرها؛ فإن المشهور
من المذهب إجزاؤها، ومن الأصحاب من قال: لا تجزئ؛ لأن هذه الأشياء تستباح
مع بقاء الحدث بالتيمم، وهذا يشابه قول من اشترط من أصحابنا التعرض في الصلاة
إلى الفرضية؛ احترازاً من طهر الصبي، والصحيح الأول، ويمكن أخذه من قول
الشيخ: "نوى رفع الحدث" لأنه يشمل ما إذا أتى بذلك مطابقة أو تضمناً، ونية
استبحة مالا يستباح إلا بطهارة تضمنت رفع الحدث؛ فكذلك إجزاؤه.
وأيضاً فإنه تعرض في صفة الغسل إلى أن نية الاستباحة كافية فيه، وتعرض هنا
إلى ذكر هيئة أخرى لم يتعرض لمثلها ثم؛ فكان كلامه في كل باب تنبيها على مالا يقبل
مثله في الباب الآخر.
والحكم فيما لو نوى استباحة صلاة معينة ولم يتعرض لغيرها بنفي ولا إثبات،
كالحكم فيما لو نوى استباحة [الصلاة. نعم، لو نوى استباحة] صلاة معينة دون
غيرها ففي صحة نيته أوجه:
أصحابها: أن الحكم كذلك، ويستبيح سائر الصلوات.
والثاني: لا؛ لمخالفة وضع النية.
والثالث: يستبيح ما عينه دون ما نفاه.
ثم لا فرق فيما إذا لم يحدد صلاة معينة - وقلنا يرتفع حدثه - بين أن يمكن
أداؤها بذلك الوضوء أم لا؛ كما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن والده، مع وجه
آخر: أنها إذا لم يمكن تأديتها بهذا الوضوء لا تصح نيته.
ومنها: ما إذا نوى رفع الحدث الأكبر، وقد جزم الماوردي بأن ذلك يجزئ،
بخلاف ما إذا كان جنباً فنوى رفع الحدث الأصغر - لا يجزئه؛ لأنه يصح أن يرتفع
الأدنى بالأعلى دون العكس.
وفي "الرافعي" وجه: أنه [لا يجزئه] في الأولى أيضاً؛ لأنه نوى طهارة غير
مرتبة، وهو المختار في"تلخيص الروياني".
وقال القاضي الحسين: لعل الخلاف مبني على أن الحدث الأصغر يحل جميع
البدن أم لا؟ فإن قلنا: يحل، أجزأه، وإلا فلا؛ إذا كيف يصح الفرض بنية النفل؟!
وكيف كان الأمر فالصحيح الأول؛ لأن النية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفياً
وإثباتاً.
وفي "التتمة": أنه يرتفع حدثه عن الوجه واليدين، وهل يرتفع عن الرأس
والرجلين؟ إن قلنا: [إن] غسل الرأس يقوم مقام مسحها، ارتفع عنها أيضاً، وإلا
فلا.
ومنها: ما إذا نوى استباحة ما يستحب فعله على الطهارة: كقراءة القرآن، وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم، وزيارة قبره عليه السلام والجلوس في المسجد، والسعي
بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة - فللأصحاب في الاكتفاء بذلك وجهان:
أصحهما عند الماوردي وغيره: ما أفهمه كلام الشيخ.
وبعض المتأخرين [رجح مقابله]؛ لأن المقصود المتطهر تحصيل المستحب،
وهو لا يحصل بدون رفع الحدث؛ فكانت نية ذلك متضمنة له، وهذا ظاهر نصه؛ فإنه
قال:"لو توضأ لنافلة أو قراءة مصحف أجزأه".
والوجهان جاريان - كما قال الماوردي وغيره - فيما إذا نوى تجديد الوضوء،
وكلام المتولي يخصهما بما إذا نوى ذلك مع علمه بأنه محدث، وكلام ابن الصباغ
في أثناء فروع ابن الحداد يخصهما بما إذا نوى ذلك وهو يعتقد أنه متطهر، وادعى
في باب صفة الصلاة عند الكلام في النية: أن الأظهر ارتفاع حدثه، وفي هذه الحالة
ادعى الإمام أن المذهب أنه لا يصح وضوءه.
ومنهم من بنى الخلاف في هذه الصورة على الصورة الأولى، وأولى بألا تجزئ؛
وبهذا ينتظم في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما حكاها القاضي الحسين، ثالثها: تصح في
الأولى دون الثانية، وهو اختيار القفال، والأصح في "الإبانة".
ولا خلاف في أنه إذا نوى استباحة مالا يستحب له الطهارة: كزيارة الوالدين،
وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، و [دخول السوق]- لاتصح نيته.
ومنها: إذا نوى رفع الحدث والتبرد، والذي نص عليه في البويطي الصحة، ولم
يورد الجمهور غيره؛ لأن التبرد حاصل وإن لم ينوه؛ فأشبه ما إذا نوى عند دخول
المسجد الفريضة والتحية؛ فإنه لا يضره.
وعن ابن سريج أنه لا يصح لأجل الشريك؛ كما أفهمه كلام الشيخ.
ومنها: لو نوى رفع حدث معين من بول، أومس، أو لمس، أو نوم. وللأصحاب
فيه تفصيل: فقالوا: إن لم يكن عليه غير ما نواه أجزأه ذلك، وإن كان عليه غيره؛ ففيه
ثلاثة أوجه حكاها أبو الطيب وغيره:
أصحها: أنه يجزئه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأن المنع من الصلاة تعلق بمحل حدث على انفراده، فإذا نوى
رفع بعض الأحداث ارتفع مت نوى، وخلفه ما بقي أيضاً.
والثالث: إن كان مانواه أول الأحداث ارتفع وما بعده بارتفاعه؛ لأنه الذي صادف
الطهارة فأقسدها، وبواقي الأحداث لم تفسد الطهارة.
وإن كان الحدث الذي نوى رفعه غير الأول لم يرتفع البواقي.
وعكس ابن الصباغ ذلك، فقال: إن نوى رفع الأخير صح؛ لأنه أقرب. وإن نوى ما
قبله فلا.
وجزم الماوردي والمتولي بأنه إذا عين حدثا، ولم ينف ما عداه [ارتفع الجميع. أما
إذا نفى ما عداه]، ففي صحة نيته وجهان.
وزاد المتولي ثالثاً: أنه إن عين الأخير صحت نيته، وإن عين غيره لم تصح.
والشيخ أبو محمد عكسه، فقال: إن عين الأول صح، وإن عين غيره لم تصح.
وقد حصل في كل حالة أربعة أوجه، وإذا جمعتها جاء منها وجه خامس: أنه إن
عين ونفى باقي الأحداث لم تصح نيته، وإن لم ينف صحت، وارتفع الجميع.
وعلى الخلاف ينبني ما إذا غلط في التعيين من حدث إلى حدث: بأن نوى رفع
حدث البول، ولم يكن عليه إلا حدث النوم؛ كما أشار إليه الإمام بعد أن جزم القول
بارتفاع ما عليه بهذه النية، ولم يحك الجمهور سواه، ونقل المازني إجماع الجمهور
عليه.
ووجهه الإمام بأن عين الحدث لا سبيل إلى تخيل ارتفاعه، وإنما يثبت بسبب
الحدث منع - وهو الحدث على التحقيق- ثم يرتفع ذلك المنع بالوضوء، وذلك
المنع ليس جنسا معينا ولا نوعا مخصوصا، فلئن فرض غلط في التعرض لذكر
السبب، فالمقصود ارتفاع الحكم الواقع بذلك السبب، على أن هذه الصورة
شبيهة بما إذا نوى المكفر بالعتق كفارة معينة، وكان عليه غيرها؛ لأن أصل النية
لا بد منه، وتعيين النية ليس بشرط، والحكم في الكفارة أنها لا تجزئ، ولعل الفرق
بينهما أن النية هنا ليست نية القربة بل للتمييز بخلافها ثم. نعم، لو علم أن حدثه
البول، فنوى رفع حدث النوم عمدا - ففي صحة وضوئه وجهان، أصحهما: المنع؛
لتلاعبه.
ومنها: إذا فرق النية على أعضاء الوضوء. وللأصحاب فيها وجهان:
الأظهر عند الغزالي: ما أفهمه كلام الشيخ.
وعند غيره - ومنهم الماوردي-: الإجزاء، والوجهان عند بعضهم مبنيان على
جواز تفريق الوضوء، واختار الإمام ترتيبهما عليه، وقال: إن قلنا: لا يجوز تفريق
الوضوء فتبعيض النية أولى، وإلا فوجهان. والفرق أن الضوء قربة واحدة تربط حكم
أوله بحكم آخره؛ فإن من غسل وجهه لم يقض بارتفاع الحدث عن وجهه ما لم يتم
الوضوء؛ إذ لو أراد مس المصحف بوجهه المغسول لم يجد إلى ذلك سبيلا.
قلت: وإذا تأملت ما حكيناه عن القاضي الحسين وغيره عند الكلام في تفريق
الوضوء - عرفت أن الأمر عند الأصحاب كما قاله الإمام.
ثم الوجهان فيما إذا نوى عند غسل الوجه رفع الحدث عن الوجه، وكذا عند
تطهير باقي الأعضاء، أو عند وجود ذلك وتبقية الحدث على العضو الذي بعده فيه
- اختلف كلام المصنفين: فالذي ذكره الإمام الأول، والذي ذكره الماوردي الثاني.
قال: ويستصحب النية إلى آخر الطهارة؛ اتباعاً للأصل، فإن الدليل يقتضي وجوب
ذلك؛ فإن كل جزء من أجزاء الطهارة عمل وعبادة، لكن في ذلك مشقة؛ فطرح،
واكتفى باقترانها بأوله؛ كما في الصلاة.
ثم استصحاب النية على قسمين:
أحدهما: أن يستصحبهما ذكراً معتقداً لها، وهذا هو الذي ذكرنا أنه لا يجب إلى آخر
الصلاة، وإنما هو مستحب؛ كما قال القاضي الحسين.
وعبارة الماوردي: أنه أكمل.
نعم، إذا اقترنت النية بسنة من سنن الوضوء، قال الماوردي: فيجب استصحابها
ذكراً إلى أن يغسل جزءاً من الوجه. وهذا الكلام فيه نظر؛ لأنه حكى بعد ذلك فيما إذا
اقترنت النية بغسل الكفين أول الوضوء أو المضمضة والاستنشاق، ثم عزبت قبل
غسل جزء من الوجه - هل يكون كعزوبها بعد غسل جزء من الوجه حتى يعتد
بوضوئه، أو لا يعتد به؟ ثلاثة أوجه:
أحدهما - قاله ابن الوكيل - أنه لا يضره ذلك؛ لأنها اقترنت براتب في الوضوء؛
فأجزأت؛ كما إذا اقترنت بغسل الوجه.
والثاني - قاله أبو إسحاق - أنها إن اقترنت بغسل الكفين ثم عزبت لم تجزئه،
وإن اقترنت بالمضمضة أو الاستنشاق أجزأته؛ لأنها وجدت عند أخذه في تطهير
الوجه، فشأنه إذا اقترنت بغسله.
والثالث - قالها ابن سريج-: أنها لا تجزئه مطلقا حتى تقترن بغسل أول جزء
[يغسله] من الوجه؛ لأنه أول واجب يلقاه؛ كما في الصلاة.
فإذا عرفت ذلك عرفت أنه ليس واحد من الأوجه يقتضي ما قاله: أما على رأي
ابن الوكيل وأبي إسحاق فظاهر، وأما على رأي ابن سريج - وهو الصحيح-: فلأن
المعتبر عنده أن تقترن بغسل الوجه، ولا يلزم من ذلك القول بلزوم استصحابها ذكراً
من حين نوى عند سنة من سنن الوضوء إلى أن يغسل جزءاً من الوجه؛ فإنه لو نوى
عند غسل اليدين أو المضمضة أو الاستنشاق، ثم عزبت واقترنت بغسل الوجه -
كفاه؛ ولهذا قال القفال - فيما حكاه الروياني عنه:- إنه من ينوي مرتين: عند غسل
اليدين، وعند غسل الوجه.
وقد حكى الروياني وغيره فيما إذا اقرنت نيته بالمضمضة والاستنشاق، ثم
عزبت -: إن كان قد غسل جزءاً من ظاهر الوجه أجزأه، وإلا فلا، ورجحه
الروياني، وغيره ضعفه؛ لأنه لم يقصد بذلك غسل الوجه.
ومعنى عزوب النية: بعد ذكرها؛ قال الله - تعالى-: {لا يعزب عنه مثقال ذرة}
[سبأ:3] أي: لا يبعد، ويقال: روض عزب عن الناس، أي: بعيد.
و [القسم] الثاني: أن يستصحبها حكماً إلى آخر الطهارة، وهذا لا شك في وجوبه،
ومعناه: ألا يحدث ما يخالف ما تقدم من نيته، مثل: أن يرفض النية ويترك الوضوء، أو
يرتد - والعياذ بالله - فإذا فعل ذلك بطلت نيته في المستقبل، ولا يبطل ما مضى من
وضوئه، حتى لو أراد البناء عليه فنوى في الحال: جاز، وفيه وجه آخر حكاه ابن
الصباغ في الأولى والإمام في الثانية: أنه يبطل أيضا. قال الروياني: وليس بشيْ.
وقد أشار الإمام إلى [أن] مأخذ الخلاف جواز تفريق النية على أعضاء الوضوء،
وهذا في الردة إذا قلنا: إن الردة بعد إكمال الوضوء لا تبطله؛ كما هو في الصحيح وبه
جزم الإمام، أما إذا قلنا: تبطله - كما حكاه ابن الصباغ وجهاً في المسألة - فهاهنا
أولى.
وإذا قلنا: لا يبطل الماضي بما ذكرناه، لاحظنا قصر الزمان وطوله؛ بناء
على وجوب الموالاة.
فرع: طرآن قصد التبرد والتنظيف على الطهارة، هل يكون كطرآن ما ذكرناه؟ ينظر:
إن كان غافلاً حالة قصد التبرد عن الوضوء لم يجزئه ذلك الغسل عن الواجب
الوضوء؛ كما نص عليه، وبه جزم البندنيجي وغيره، وهو الأصح في "النهاية"
والرافعي، مع وجه آخر: أنه لا يؤثر ذلك.
وإن كان حال قصد التبرد ذاكراً للطهارة: فوجهان؛ كما في الابتداء، صرح بذلك
في "المهذب" وغيره، وجزم القاضي الحسين والفوراني بالإجزاء.
ومن مجموع ما ذكرناه يأتي في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: إن غفل عن نية
الوضوء لم يصح وإلا صح هو الأصح.
والخلاف جار - كما قال القاضي الحسين - فيما إذا توضأ فغسل وجهه [ويديه]، ومسح رأسه، وزلق؛ فتوسخت رجلاه؛ فغسلهما غافلا عن نية الوضوء،
هل يقع غسلهما عن جهة الوضوء أم لا؟ والمذهب الإجزاء.
ثم حيث قلنا: إن قصد التبرد والتنظيف يمنع الاحتساب عن الوضوء - لم يعتد
بغسل ما اقترن به قصد التبرد وما بعده؛ لأن الترتيب شرط، ولا يجزئه إعادة غسل
ذلك من غير تجديد نية؛ كما صرح به ابن الصباغ وغيره، لكن هل هذا لأن قصد
التبرد أبطل النية المستصحبة في المستقبل أصلا ورأسا، أو قوي عليها؛ فكان النظر
إليه دونها من غير أن تبطل، وتكون هذه النية تقوية للأولى لا مبتدأة؟ هذا مما
للنظر فيه مجال، والأظهر الثاني، وفائدته تظهر في أنه إذا تبصر القضية وقصد غسل
ذلك عن الحدث، لا يتخرج على جواز تفريق النية.
نعم، يلاحظ طول الزمن وقصره؛ بناء على وجوب الموالاة؛ وهذا ما حكاه
…
الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ.
والذي حكاه القاضي الحسين تخريجه على الوجهين في تفريق النية، وكذا حكاه
الرافعي في نظير المسألة الذي سنذكره، وقال: إن قلنا: إنه يجوز التفريق بقي
النظر في طول الفصل وعدمه: إن [اعتبرنا الموالاة] لم يحتمل طوله.
قلت: قد سلف منه أن الخلاف في تفريق النية مبني على القولين في الموالاة، أو
مترتب عليهما، وأولى بألا يجزئ تفريق النية؛ فكيف يستقيم مع ذلك قوله: إن قلنا:
يجوز تفريق النية ينظر إلى طول الفصل وقصره؛ نظرا إلى اعتبار الموالاة؟! فتأمله.
ولو أغفل لمعة من أعضاء وضوئه في المرة الأولى، وغسلها في الثانية أو الثالثة -
فهو قاصد غسلهما بنية النفل، وهل تؤثر في نية رفع الحدث المستصحبة؟ فيه وجهان:
حكاهما القاضي الحسين:
أحدهما: نعم؛ لأن نية النفل حاضرة، وتلك مستصحبة؛ فقويت الحاضرة،
والفرض لا يقع بنية النفل؛ كما لو ترك سجدة من صلب الصلاة وسجد للتلاوة أو
للسهو، لا تقوم مقام ما عليه.
والثاني: لا؛ لأن الغسل عن النفل إنما يقع بعد فراغ المحل عن الفرض، وفي هذه
الصورة لم يتفرغ المحل عن الفرض؛ فوقع الغسل عن الفرض. والفرق بين ما نحن
فيه ومسألة السجود: أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين وثلاثا، ونية
الصلاة لا تشتمل على سجدة التلاوة والسهو قطعا ويقينا؛ لأنها تطرأ عليها أحيانا.
وفي "الرافعي" أن الوجهين مخرجان على أصلين سلفا:
أحدهما: أن قصد التبرد إذا طرأ بعد عزوب نية الوضوء، هل يؤثر؟ وهذا اتبع فيه
الإمام؛ فإنه كذا قاله.
والثاني: أن تلك اللمعة ما صارت مغسولة بنية رفع الحدث وما في معناه، بل على
قصد التنفل؛ فيكون كما لو نوى بوضوئه ما يستحب له الطهارة، أي: لا لأجل
الحدث، كتجديد الوضوء.
قلت: وتخريج ذلك على الأصل الأول فيه نظر؛ لأن مثار الخلاف فيه مفرع على
أن مقارنة نية التبرد لنية رفع الحدث لا تؤثر، لأن التبرد يحصل بدون نية - كما
سلف- فلم يؤثر بنيته شيئا، ونية رفع الحدث لو قارنتها نية للتنفل ثانية أو ثالثة لم
تصح وجها واحدا؛ كما لو قصد [تكبيرة واحدة للإحرام] والهوي، فإذا كان مع
اقتران نية رفع الحدث مع نية التنفل مانعاً، فحدوث نية التنفل ونية رفع الحدث
مستصحبة أولى.
وأما تخريجه على الأصل الثاني ففيه نظر، والأولى ما قاله القاضي الحسين: أن
الخلاف في ارتفاع الحدث بنية التجديد ممن ظن أنه متطهر - مرتب على الخلاف
في هذه المسألة، فإن قلنا: لا يعتد بغسل اللمعة بالمرة الثانية أو الثالثة - فلا يرتفع
الحدث بنية تجديد الوضوء، وإلا فوجهان.
والفرق: أن نية الطهارة تشتمل على الغسل مرة ومرتين وثلاثاً نفلاً وفرضاً، وإذا
غسلها في المرة الثانية كانت مغسولة بنية موجودة من قبل، ولا كذلك في تجديد
الطهارة.
ثم حيث قلنا: لا يعتد بغسل اللمعة في المرة الثانية والثالثة، فهل يستأنف الوضوء
أم لا؟ فيه ما سلف، وهذا ما نص الرافعي فيه على ما ذكرناه من قبل.
قال: ويسمي الله - تعالى - لقوله عليه السلام: "لا صلاة لمن لا وضوء له
ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أخرجه أبو داود والترمذي.
والتسمية في ابتداء كل شيْ مطلوبة] حتى في الجماع، وفيه ورد خبر.
وصورة التسمية أن يقول: باسم الله.
ولو نسي التسمية عند ابتداء الوضوء وذكرها في أثنائه، أتى بها، نص عليها في
القديم؛ كما قال البندنيجي وغيره، وابن الصباغ نسبه إلا نصه في الأم.
وإن ذكرها بعد الفراغ منه، فلا يأتي بها؛ لفات محلها.
ولو ترك التسمية عمداً، فهو كما لو تركها سهواً؛ قاله في الروضة.
وللرافعي فيه احتمال مما إذا ترك القنوت ونحوه عمداً.
قال: ويغسل كفيه ثلاثاً؛ لما روى البخاري عن عثمان بن عفان أنه دعا بوضوء،
فأفرغ على يديه من إناء، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء
فتمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم
مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو
وضوئي هذا".
قال: فإن كان قد قام من النوم -[أي] في ليل أو نهار-كره أن يغمس يديه في
الإناء قبل أن يغسلهما ثلاثاً؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا استبقظ احدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه؛ فإن
أحدكم لا يدري أين باتت يده؟ "، وفي بعض طرقه: "فلا يغمس يده في الإناء قبل
أن يغسلها ثلاثاً؛ فغنه لا يدري أين باتت يده" وهذه رواية الشافعي.
وفي هذا الحديث تنبيه على أن المر بذلك كان لأجل توهم النجاسة؛ لنهم كانوا
أصحاب أعمال، ويستنجون بالأحجار، وإذا ناموا جالت أيديهم، فربما وقعت على
محل النجو أو بثرات في الجسد؛ فإذا صادفت ماء قليلا نجسته.
وإذا كان هذا هو المعنى، فمن لم ينم إذا احتمل نجاسة يده، كان في معنى النائم،
ومن تحقق طهارة يده، قال الشيخ أبو حامد: هو مخير بين أن يغمسها في الإناء قبل
أن يغسلها ثلاثا، وبين أن يغسلها قبل غمسها، وهو ما حكاه أبو الطيب، والبندنيجي
وابن الصباغ.
وقال الماوردي: الذي عليه الجمهور من أصحابنا - وهو الصحيح من المذهب-
:أنه لايغمس كفيه في الإناء إلا بعد غسلهما ثلاثاً، سواء كان قد قدم من النوم أو
لم يقم؛ لأنهما استويا في سنة الغسل - وإن ورد النص في النائم - فاستويا في تقديم
الغسل على الغمس، وهذا ما حكاه القاضي الحسين، واختاره الإمام، ووجهه بأن
أسباب النجاسة قد يخفي دركها عن معظم الناس؛ فيعتقد المعتقد الطهارة على وجه
يرى اعتقاده يقيناً، وليس الأمر على مل يعتقده؛ فاطردت السنة على الناس كافة، وهذا
كالعدة المنوطة بالوطء، فإنها تجب لتبرئة الرحم، وقد تجب مع القطع ببراءة
الرحم؛ تعميماً للباب.
تنبيه: طلب غسل الكفين عند القيام من النوم قبل إدخالهما الإناء: هل هو غير
طلب الثلاث المشروعة في أول كل وضوء؛ حتى إذا قام من النوم غسل ثلاثاً؛ لأجل
إدخالهما الإناء، وثلاثاً؛ لأجل افتتاح الوضوء؟ أو الثلاث عند القيام من النوم هي
الثلاث المطلوبة في أول كل وضوء، لكن عند القيام من النوم وما في معناه - وهي
حالة الشك في طهارة اليد - يكره ان يدخل يديه في الإناء قبل [أن يغسلهما]،
وفي غير ذلك من الأحوال التي يتحقق فيها طهارة اليد لا كراهة في إدخالها الإناء
قبل فعلها ولا بعد فعلها؟
الذي صرح به البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ الثاني، وهو المفهوم
من كلام الشيخ، وكنت أقول قبل ذلك: ينبغي أن يكون في ذلك خلاف مبني على
أصلين، أحدهما: أن غسل اليدين ثلاثاً أول الوضوء، هل هو من سننه أم [لا]؟
وفي ذلك وجهان حكاهما المراوزة. فإن قلنا: إنه من سننه، انبنى على أن المحدث إذا
كان على [بعض] أعضائه أو كلها نجاسة، وغسل ذلك مرة واحدة - هل يرتفع
حدثه ويحكم بطهارة المحل أو لا يرتفع حدثه؟ وفيه وجهان ذكرتهما في باب صفة
الغسل: فإن قلنا: تجزئ، فلا وجه إلا الاكتفاء بالثلاث مرة واحدة، وإن قلنا: لا
تجزئ، فلا وجه إلا التعدد؛ لأن غسلهما ثلاثا مع تحقق طهارتهما مستحب؛ [لأجل
الحدث، وغسلهما عند الشك في النجاسة ثلاثا مستحب]؛ لأجل الخبث؛ كما
أفهمه الخبر، وقد قلنا: إن الغسلة الواحدة لا تكفي لأمرين؛ فيتعين الإتيان بالست.
وما زلت على هذا إلى أن رأيت في كلام الإمام أن استحباب الثلاث في أول كل
وضوء ليس لأجل الحدث؛ وإنما هي لأجل توقع خبث وإن بعد، حتى لو كان يتوضأ
من قمقمه، فيستحب غسل اليدين؛ احتياطا للماء الذي يصبه على يديه وينقله إلى
أعضائه؛ فرجعت عن التخريج، واعتقدت ما صرح به الأئمة والله أعلم.
قال: ثم يتمضمض ويستنشق، لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك؛ كما
ذكرناه من قبل. والله أعلم.
قال: ثلاثا؛ لما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه دعا بوضوء، فتمضمض
واستنشق، فنثر يده اليسرى، فعل هذا ثلاثا، ثم قال:"هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه النسائي.
تنبيه: المضمضة - كما قال بعضهم-: أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه، ثم يمجه.
والاستنشاق: أن يجعله في أنفه، ويجذبه بنفسه إلى خياشيمه، ثم يستنثر.
وخبر البخاري يدل على أن الاستنثار غير داخل في حد الاستنشاق، وكذلك قال
بعضهم: المضمضة: وضع الماء في الفم وتحريكه، والاستنشاق: جعل الماء في
الأنف وتحريكه.
وقال أبو الطيب والمتولي: المضمضة: إيصال الماء إلى باطن الفم، حتى لو ملأ
فاه ماء ثم بلعه من غير أن يديره فيه، لكان قد تمضمض.
والاستنشاق: إيصال الماء إلى باطن الأنف على أي حال كان.
وفي "الحاوي": أن المضمضة جعل الماء في مقدم الفم، والاستنشاق: جعل
الماء في [مقدم] الأنف.
وبالجملة: فالاستنثار مطلوب؛ لأحاديث صحيحة وردت فيه.
واعلم أن بعضهم قال: أتى الشيخ هاهنا بـ "ثم"، وعطف بالواو فيما تقدم؛ لأن
الغرض أن تجتمع النية مع التسمية مع غسل الكفين؛ لتكون النية مقارنة لهما.
قلت: وعلى هذا يعرض سؤال، وهو أن الأصحاب كافة استحبوا مساعدة اللسان
الثلب بالنطق بالمنوي، وإذا كانت النية مقارنة للتسمية وغسل الكفين تعذر
مساعدة اللسان القلب.
نعم، قالوا في الصلاة: المستحب أن ينطق بالمنوي قبل الشروع في النية؛ لتعذر
النطق بالمنوي حالة النية؛ لأنها تتطبق على التكبير، فإن قيل بمثل هذا هنا لم يبعد،
لكن بعضهم صرح بالفرق بين الموضعين. نعم، إتيان الشيخ بالواو بين المضمضة
والاستنشاق يعرفك أن تقديم المضمضمة على الاستنشاق ليس بشرط في تأدية السنة،
وهو [وجه] في المسألة - مع إجزائه - يشترط إذا قلنا: إنه يفصل بغرفتين؛ كما
قاله الإمام، أو بست غرفات؛ كما قال الرافعي، وجعله أظهر من الأول، والماوردي
أطلقهما وطردهما فيما إذا قدم المضمضة والاستنشاق على غسل اليدين.
قال: ويجمع بينهما في أحد القولين؛ لما روي عن علي - كرم الله وجه - في
وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد، ونقل مثله
عن وصف عبد الله بن زيد.
قال: بغرفة؛ لأن عبد الله بن عباس لما وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه
غرف غرفة واحدة من ماء، فتمضمض واستنشق، رواه البخاري، وهذا مانص
عليه في "الأم" ونقله المزني، ولم يحك الماوردي [على هذا غيره وعلى هذا] في
كيفية ما يفعل وجهان:
أحدهما: ياخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثاً، ثم يستنشق ثلاثاً، وهذا ما حكاه
القاضي الحسين؛ قياساً على سائر أعضاء الطهارة؛ فإنه يستكملها عضواً [عضواً].
والثاني: يأخذها فيتمضمض، ثم يستنشق، ثم يتمضمض، ثم يستنشق ثم
يتمضمض، ثم يستنشق، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وقال: إنه يقدم المضمضة.
والغرفة: بفتح الغين وضمها، وقيل: بالفتح مصدراً، وبالضم اسم للمغروف.
قال: وقيل: بثلاث غرفات، أي: فيأخذ غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يفعل
ذلك ثانية وثالثة؛ لأن عبد الله بن زيد هكذا فعل في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مسلم، ولفظه: "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف
واحدة ففعل ذلك ثلاثاً"، وهذا القول صدر به القاضي أبو الطيب كلامه
واستبعد الأول، وكذلك جعله الرافعي والمتولي أظهر.
قال: ويفصل بينهما في الآخر - أي: في القول الآخر - لما روى عن طلحة بن
مصرف عن أبيه عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة
والاستنشاق.
وروي أن عثمان وعلياً كذلك روياه، ولأنه أقرب إلى النظافة، وهذا القول أصح
في "الرافعي" وغيره، ومنهم من قطع به، وحمل الأول على بيان الجواز.
قال: بغرفتين، أي: فيأخذ غرفة بتمضمض منها ثلاثاً، وغرفة يستنشق منها ثلاثا؛
لأن عليا رضي الله عنه كذلك رواه، وهذا ظاهر ما نقله البويطي، وهو
الأصح في "الرافعي".
قال: وقيل: بست غرفات: ثلاثاً للمضمضة، وثلاثاً للاستنشاق؛ لأنه أقرب إلى
النظافة وأيسر، وفيه تشبيه بسائر الأعضاء المغسولة، وهذا ما حكاه القاضي
أبو الطيب على هذه الطريقة، واختاره في "المهذب"، وهذا الخلاف في الأفضل بلا
خلاف، حتى لو تمضمض واستنشق كيف كان، أدى سنتهما.
قال: ويبالغ فيهما إلا أن يكون صائماً؛ فيرفق، ووجهه في الاستنشاق: ما روي
عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن ابيه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء،
قال: "أسبع الوضوء، وبالغ في الاستنشاق، وإلا أن تكون صائماً" أخرجه الترمذي،
وقال: حسن صحيح.
وصبرة: بفتح الصاد وكسر الباء، ويقال: بإسكان الباء أيضاً
ووجهه في المضمضة: القياس على الاستنشاق، وبجامع خوف توقع الإفطار لكل
منهما.
وفي "الحاوي" إثبات الحكم في محل النص فقط، وفرق بأن المتمضمض
يتمكن من رد الماء عن وصوله إلى جوفه بأن يطبق حلقه، ولا يمكنه دفع الماء
بالخيشوم، والجمهور على الأول، وعليه جرى هو في كتاب الصيام.
و"يرفق" في كلام الشيخ برفع القاف.
والنهي عن ذلك في حال الصيام، قال أبو الطيب في كتاب الصيام: إنه نهى
تحريم، كذا رأيته فيما وقفت عليه من "تعليقه"، وتوجيهه ظاهر، والذي قاله البندنيجي
وغيره ثم أن المبالغة للصيام مكروهة، وعبارة ابن الصباغ: تركها فيهما يستحب به.
والمبالغة في المضمضة عند الماوردي: أن يجعل الماء في جميع فمه، وعند
غيره: أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك وجهتي الأسنان واللثات، مع إمرار الأصبع
عليها.
والمبالغة في الاستنشاق: تصعيد الماء بالنفس إلى الخياشيم من غير تكلف شيءٌ
فيه إضرار، مع إدخال الأصبع وإزالة ما فيه من الأذى.
والخياشيم، قال بعضهم: هي أصول الأنف، وبعضهم يقول: هي العظام الرقاق
التي فيه. وأبو الطيب يقول: هي ما علا من الأنف، واحدها: خيشوم، وهو أيبس من
اللحم وألين من العظم، وتسمى الغضاريف، واحدها: غضروف.
قال: ثم يغسل وجهه -[للآية والإجماع]- ثلاثاً؛ لما ذكرناه من فعله - عليه
السلام - الذي وصفه عثمان، وروى مسلم عن عبد الله بن زيد ذلك - أيضاً في
صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وهو مابين منابت شعر الرأس - أي المعتادة - ومنتهى اللحيين والذقن
طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضا؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، وهذا [ما]
تقع به المواجهة.
واحترزنا بالمعتادة عن الأغم: وهو الذي أخذ الشعر جزءاً من جبهته أو كلها،
فاتصل بالحاجب.
وعن الأصلع الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه؛ فإنه لا اعتبار بالمنابت في حقه؛
كما أشار إليه الشافعي في "الأم" بقوله: "وليس ما جاوز من شعلر رأس الأغم
النزعتين من الرأس، ولا أصلع مقدم الرأس صلعته من الوجه"؛ وهذا ما حكاه
العراقيون وغيرهم.
وفي"تعليق القاضي الحسين" ومن تبعه حكاية وجه فيما إذا لم يتصل شعر
الأغم بحاجبيه: أن الاعتبار في حقه بمابت الشعر، وهو بعيد، والفوراني صححه،
وبعضهم يحكيه في الأغم مطلقاً.
واللحيان - بفتح اللام -: العظمان اللذان عليهما الأسنان، واحدهما: لحي، بفتح
اللام.
والذقن - بفتح الذال المعجمة والقاف -: مجتمعهما.
وعبارة القاضي أبي الطيب في حد الوجه: "أنه من قصاص الشعر إلى ما استرسل
من الذقن طولاً، ومن وتد الأذن إلى وتد الأذن عرضا، ووتد الأذنين ليس من
الوجه".
قلت: فإن كان قد استعمل "إلى"[في] قوله: "إلى ما استرسل من الذقن"
بمعنى: "مع"، وأضمر: شعر الذقن - كان تقدير كلامه: من قصاص الشعر مع ما
استرسل من شعر الذقن طولاً، ومن وتد الأذن غلى وتد الأذن عرضا؛ وحينئذ يكون
هذا حدا لوجه الملتحمي؛ بناء على الصحيح في أنه يجب إفاضة الماء على ما نزل من
اللحية عن الذقن، زما ذكره الشيخ حد الوجه الذي لا شعر عليه، فهو احسن؛ لأنه
يشمل وجه الأمراد والمرأة، ووجه الملتحمي نبه من بعد على باقيه.
وإن استعمل "إلى" على بابها، ولم يضمر شيئا - فسد الحد؛ لأنه يخرج ما
استرسل من الذقن عن أن يكون من الوجه؛ إذ لغاية لا تدخل في المغيا إلا ان يريد
إدخال الغاية؛ فتصح، وهو الأقرب؛ ألا ترى إلى قوله:"ووتد الأذنين ليس من الوجه"
لما كان مراده عدم الدخول بينه؛ وحينئذ يكون قد حد وجه الأمراد، ويجوز على هذا
أن يجعل حد الوجه الذي تقع به المواجهة كيف كان.
ثم إن عليه [عليه] شعر، فهل يجب غسل ما تحته؟ يأتي الكلام فيه ويمكن
حمل كلام الشيخ على هذا أيضاً.
وما ذكره الشيخ من الحد يدخل في الوجه أشياء، ويخرج منه أشياء:
فمن الأول: الجبهة، والجبينان، ولا خلاف في ذلك، والجبهة: موضع السجود،
والجبينان: جانباها. ومنه: الصدغان؛ لأنهما في موازاة ما دون الأذنين؛ وهذا ظاهر
نصه في "البويطي"؛ فإنه قال: "إن كان أمرداً غسل صدغيه، وإن كان ملتحياً أمر الماء
على الصدغ وما خلف الصدغ إلى الأذنين". وقد قال يه بعض الأصحاب ولم يحك
القاضي الحسين غيره، وقال الماوردي: إنه قياس قول أبي إسحاق في مواضع
التحذيف - كما سنذكره - وإن قياس قول ابن سريح وابن أبي هريرة فيهما أنهما من
الرأس، وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير، وحمل نصه في البويطي على إرادة العذار.
وعن أبي الفياض البصري وجمهور البصريين أن ما علا من الصدغين عن
الأذنين من الرأس، وأسلفهما - وهو ما انحدر عن رأس الأذنين - من الوجه.
ومنه: داخل العين، ولا خلاف [في] أنه لا يجب غسله ولا هو سنة.
نعم، قال الشيخ أبو حامد: إنه يستحب. وحكاه عن "الأم"؛ لأن ابن عمر كان
يفعله، وقال سائر الأصحاب: لا يستحب؛ لما يلحقه من المشقة، ويناله من الضرر،
وقد روى أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بأصبعه ما في عينيه، ولو كان غسل
العين مسنونا أو مستحبا لفعله، اختياراً لنفسه أو بيانا لغيره.
ومن الثاني: النزعتان، وهما ما انحسر من الشعر من جانبي الناصية، ولا خلاف في
أنهما من الرأس.
ومنه: مواضع التحذيف، وهو الشعر الداخل إلى الجبين ما بين ابتداء العذار
والنزعة كذا قاله البندنيجي، وابن الصباغ زاد فيه: أنه الداخل إلى الجبين من جانب
الوجه، والماوردي قال: إنه الشعر النابت في أعالي الجبهة ما بين بسيط الرأس
منحدراً إلى الوجه. وللأصحاب في مواضع التحذيف وجهان:
أحدهما - قاله إبو إسحاق:- أنها من الرأس؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وهو
الصحيح في "الشامل" و"تعليق أبي الطيب"، و"التهذيب".
وقال القاضي: إن نص الشافعي في "الإملاء" يومئ إليه.
والثاني-: قاله ابن سريج وابن أبي هريرة:- أنها من الوجه؛ لأنه تقع بها المواجهة؛
وهذا ما اختاره البندنيجين وحكاه الإمام عن نص الشافعي؛ وبهذا يحصل فيها قولان.
قال: وإن كان عليه شعلر خفيف لزمه غسل ما تحته؛ لأن المواحهة واقعة بالبشرة؛
فوجب غسلها.
وكلام الشيخ قد يفهم أنه لا يجب عليه غسل الشعر الخفيف، وقد قال الماوردي:
إنه كما يجب عليه غسل ما تحته، يجب عليه غسله - أيضاً - حتى لو أخل بشيء من
واحد منهما لم يجزئه، وعلى هذا [يكون] سكوت الشيخ عنه؛ [لأن الغالب] أن
الشعر ينغسل بغسل ما تحته من البشرة، أو يحمل ما ذكره الشيخ من حد الوجه على
حده كيف كان؛ لأنه حينئذ يدخل فيه ماوقعت به المواجهة من الشعر كما سلف.
قال: وإن كان عليه شعر كثيف لم يلزمه غسل ما تحته، أي: بل الواجب إفاضة
الماء على [ظاهر الشعر] فقط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غسل وجهه بغرفة، وتوضأ بما لا يبل
الثرى، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الشعر، عظيم اللحية، ومن المعلوم أن ذلك لا يصل
إلى ما تحت شعره؛ فدل على الاكتفاء بالإفاضة على الظاهر، ولأنه باطن دونه حائل
معتاد؛ فلا يجب غسله كداخل الفم.
وعن المزني أنه قال في "المنثور": إنه يجب علينا إيصال الماء إلى البشرة التي
تحت الشعر الكثيف.
قال البندنيجي فظن بعض أصحابنا أنه حكاه عن الشافعي، وليس الأمر كما
ظن. نعم، بعضهم حكى ذلك قولاً عن القديم، وهو غريب.
فلو كان عليه شعر خفيف وكثيف، غسل ما تحت الخفيف دون الكثيف،
والماوردي [خص] ذلك بما إذا تميز أحدهما عن الآخر، فإن لم يتميز وجب
غسل ما تحت الجميع؛ لما في ذلك من المشقة، وقيل: إنه يجب غيل ما تحت
الجميع مطلقا، قال الإمام الرافعي: وهو المذكور في "التهذيب".
قال العراقيون: والمراد بالخفيف: ما ترى البشرة من تحته، والكثيف: ما لا ترى من
تحته، وهذا ما يشعر به النص، وعليه الأكثرون.
وبعض المراوزة يقول: إن الخفيف: ما لا يشق إيصال الماء إلى البشرة تحته،
والكثيف: ما يشق معه ذلك.
قال الرافعي: ورأيت الشيخ أبا محمد والمسعودي وطبقة المحققين يقربون كل
واحدة من العبارتين من الأخرى، ويقولون: إنهما راجعتان إلى معنى واحد. قال:
وبينهما تفاوت مع التقارب الذي ذكروه؛ لأن لهيئة النبات وكيفية الشعر من
السبوطة والجعودة تأثيرا في الستر ووصول الماء.
وقد حكى القاضي الحسين مع الوجه الأول وجها آخر: أن المرجع فيهما إلى
العرف.
قال: ويستحب أن يخلل الشعور، أي: يستحب أن يخلل الشعر الكثيف؛ لأنه -
عليه السلام كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، ثم شبك لحيته بأصابعه من
تحتها، رواه ابن ماجه، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، قال
البخاري: وهذا أصح حديث في الباب. ولا جرم قال الترمذي: إنه حسن صحيح.
والشعر بفتح العين وإسكانها.
قال: إلا الحاجب. وهو معروف، وحده القاضي الحسين بأنه الشعر النابت على
طرف الجبهة، والشارب: وهو الشعر الذي على الشفة العليا، والعنفقة: وهي الشعر
الذي على الشفة السفلى، والعذار: وهو الخط الممتد من الصدغ على العظم الذي
يحاذي وتد الأذن، وبينه وبين وتد الأذن بياض.
قال: فإنه يجب غسل ما تحتها. هذا استثناء من قوله: "وإن كان عليه شعر كثيف
لم يلزمه غسل ما تحته"، ووجه وجوب ذلك: أن الغالب في هذه الشعور الخفة،
وكثافتها نادرة، ولا ينظر إلى النادر، لكن لك أن تقول: ما يندر وقوعه، لكنه إذا
وقع دام - ينزل منزلة العذر العام؛ ألا ترى [إلى] قولهم الذي حكاه الإمام: إن
المريض إذا حصلت له حالة منعته من الصلاة قاعدا، فإنه يصلي على جنب، ولا
يجب عليه القضاء - وإن كان ذلك معدودا عندهم من الأعذار النادرة - لأنه إذا وقع
دام؛ فألحق بالصلاة قاعدا؛ لأنه من الأعذار العامة.
وإذا كانت هذه القاعدة مستقرة فما نحن فيه من هذا القبيل؛ فينبغي أن يلحق
به، ولا جرم ذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا يجب غسل منابت ما ذكرناه إذا كثف؛
كما لا يجب غسل ما تحت اللحية الكثيفة.
وأعرض بعض المراوزة عن التعليل بما ذكرناه، وقال: إنما وحب غسل ما
تحت هذه الشعور؛ لأن بياض الوجه يحيط بها.
وقال لأجل ذلك: وإذا كثف شعر العنفقة واتصل بشعر اللحية، لا يجب غسل ما
تحتها؛ لفقد إحاطة بياض الوجه بها في هذه الحالة، والذي ذكره العراقيون العلة
الأولى.
وكما يجب غسل ما تحت هذه الشعور، يجب غسلها أيضا؛ كما ذكرنا مثيله
من قبل؛ وقد صرح به هنا ابن الصباغ.
وقد أفهم القول بإيجاب غسل ما تحت هذه الشعور إذا كثفت أمورا:
أحدها: إيجاب غسل ما تحت الأهداب إذا كثفت.
الثاني: إيجاب غسل ما تحت لحية المرأة؛ لأن كثافة الأهداب ونبات للحية للمرأة
أندر من كثافة شعر الحاجبين ونحوهما، وبالمفهوم الذي ذكرناه صرح الأصحاب.
وقال القاضي أبو الطيب والحسين: حلق لحية المرأة أحب إلي من إبقائها؛ كي لا
تشبه الرجال.
وما تحت لحية الخنثى المشكل يجب غسله إذا لم تترجح الذكورة بنبات اللحية؛
لاحتمال أنوثته.
والثالث: أن ما لا يجب غسل ما تحته إذا كثف من الشعور، شعر اللحية
والعارضين لا غير، والعارضان: الشعر النابت تحت العذارين على اللحيين. وعبارة
القاضي الحسين: "أنهما الشعر النابت على منبت الأسنان العليا".
قال: وفيما نزل من اللحية عن الذقن قولان، أي: نص عليهما في "الأم":
أحدهما: يجب إفاضة الماء على ظاهره؛ لأنه تقع به المواجهة؛ فأشبه ما قابل
حد الوجه، وقد روي أنه عليه السلام رأى أعرابيا غطى لحيته في الصلاة؛ فقال:
"اكشف عن لحيتك؛ فإنها من وجهك"، وهذا ما ينطبق عليه حد الوجه في
"المختصر"؛ فإنه قال فيه: يغسل من منابت شعر رأسه إلى أصول أذنيه، ومنتهى
اللحية إلى ما أقبل من وجهه وذقنه. وهو الأصح باتفاق متأخري الأصحاب.
والثاني: لا يجب؛ لأن الفرض إذا تعلق بما يوازي محل الفرض اختص بما يحاذيه
كشعر الرأس والخفين في المسح؛ وهذا كما اختاره المزني.
والقولان جاريان في إفاضة الماء على ما خرج من العارض عن حد الوجه؛ كما
صرح به أبو الطيب وغيره.
قال الرافعي: وهو يجري فيما خرج من حد الوجه من الشعور الخفيفة كالسبال.
ومنهم من قطع في السبال بإيجاب غسلها، والأول أظهر.
وعن الزيبري أن الشافعي ذكر قولين فيما خرج عن حد الوجه من الشعر:
أحدهما: أنه يجب إفاضة الماء على ظاهره.
والثاني: [أنه] يمسحه.
قال أبو الطيب: وهذه الحكاية خطأ في المسح، ويقرب منها ما حكاه الزبيري
عن العراقيين: أنا إذا أوجبنا [إفاضة الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية الكثيفة،
فقد أوجبنا] إمرار الماء على الوجه البادي من الطبقة العليا؛ فهل يجب إيصال
الماء إلى الوجه الآخر من تلك الطبقة؟ فيه وجهان، أحدهما: يجب؛ حتى تصير
الطبقة مستوعبة ظاهراً وباطناً.
قال الإمام: وهذا خطأ محض، ولا ينبغي أن يعد من المذهب.
فرع: إذا حلق الشعر الذي لا يجب غسل ما تحته [بعد إفاضة الماء عليه - لا
يجب غسل ما تحته]، وكذا في الشعر إذا حلق بعد المسح عليه، لا يعيد المسح
على الرأس، بخلاف ما إذا ظهرت الرجل من الخف بعد المسح، والفرق: أن الشعر
هنا أصل؛ بدليل أنه لو غسل ما تحته فقط، لم يجزئه؛ على الأصح - كما ستعرفه -
والخف بدل؛ بدليل أنه لو غسل ما تحته فقط أجزأه.
وعن ابن خيران إلحاق شعر الرأس بالخف، وهو بعيد.
قال: ثم يغسل يديه؛ للآية - وهو إجماع - ثلاثاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلهما ثلاثاً، كما تقدم ذكره عن رواية البخاري ورواية مسلم عن عثمان في وصف وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك.
قال: ويجب إدخال المرفقين في الغسل؛ لقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}
[المائدة:6]، واختلفت طرق الأصحاب في كيفية الاستدلال منها:
فذهب المعظم- ومنهم: الرافعي- إلى أن "إلى" فيها بمعنى "مع"؛ كما في
قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]، وقوله: {وإذا خلوا إلى
شياطينهم} [البقرة: 14]، وقوله تعالى:{من أنصاري إلى الله} [آل عمران: 52] ،
وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود: 52]؛ ويدل على أن هذا هو المراد: ما روى
عن أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه وأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع
في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل
رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى حتى أشرق في الساق، ثم قال:
"هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ" وأشرع: أي دخل فيها، ومنه: أشرع بابا إلى الطريق، أي: فتحه إليه؛ ذكره الجوهري؛ وهذا الطريق في الاستدلال قد حكاه
الإمام عن معظم العلماء.
قلت: وفيه نظر؛ لأن الناس اختلفوا في أن اليد تطلق حقيقة على ماذا؟ فالمشهور
أنها إلى المنكب، وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب هنا، ونسبه في كتاب السرقة إلى
الخوارج، واختار أنها تتناول الكفين مع الأصابع دون ما زاد عليها؛ بدليل قوله تعالى:
{وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]، قال: ولو كان اسم "اليد" يقع على المناكب،
لكان استثناء ما زاد على المرفق بحرف الاستثناء؛ لأن العرب تنقص بحرف الاستثناء،
وتزيد بحرف الغاية، فلما قال:{إلى المرافق} [المائدة: 6] دل [ذلك] على أن
هذه زيادة على ما يتناوله الاسم، وليس بنقصان، وأنه يجري مجرى قولهم: "سرت
من الكوفة إلى البصرة".
فعلى المذهب الأول لا يحسن هذا التأويل؛ لأنه يصير التقدير: وأيديكم مع
المرافقو واليد اسم لجميعها إلى الآباط والمناكب، وهذا قد أشار إليه الزجاج
وقال: ينبغي على هذا أن يقال: إنه اقتطع المرفقين من اليد، وأدخلهما في الغسل.
وعلى المذهب الثاني لا تصير الآية مقتضية لغسل ما بين الكف والمرفق؛ لأن
الواجب غسله الكف، والأصابع والمرفق.
ومنهم من قال: في الآية محذوف، والتقدير: اغسلوا أيديكم، وأنزلوا الغسل
إلى المرافق، وهذا قول من يجعل اليد إلى المنكب.
ومنهم من يقول: ما بعد"إلى" إذا لم يخالفه في الجنس: تارة ينتهي إليه، وتارة
ينتهي به؛ فالآية مجملة، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على المراد منها بفعله الذي ذكرناه، ورواية البزار
عن وائل بن حجر قال: "شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بإناء فيه ماء فأكفأه على يمينه
…
"
وساق الحديث إلى أن قال: "ثم أدخل يمينه في الماء فغسل بها ذراعه اليمنى حتى
جاوز المرفق ثلاثا، ثم غسل يساره بيمينه حتى جاوز المرفق ثلاثا، ثم مسح على
رأسه ثلاثا، وظاهر أذنيه ثلاثا، وظاهر رقبته - وأظنه قال: وظاهر لحيته ثلاثا -[ثم
غسل بيمينه قدمه اليمنى ثلاثا،] وفصل بين أصابعه [أو قال خلل بين أصابعه]،
ورفع الماء حتى جاوز الكعب، ثم رفعه في الساق، ثم فعل باليسرى مثل ذلك":
تنبيه: المرافق: جمع مرفق، وفيه لغتان: كسر الميم مع فتح الفاء، وعكسه، وهو
مجمع عظم الساعد وعظم العضد؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره من العراقيين.
وقيل: إنه عظم الساعد فقط وحكاه بعضم عن رواية الربيع، واختاره في
"التهذيب". وفائدة الخلاف تظهر لك من بعد.
فروع:
أحدها هل يجب إدخال ما طال من الأظفار في الغسل؟ فيه طريقان:
منهم من قال: نعم؛ لندرته؛ وهذا قول ابن أبي هريرة، واختاره في "المرشد".
ومنهم من قال: فيه قولان؛ كالمسترسل من اللحية.
الثاني: إذا خلق له يد زائدة أو أصبع زائدة، أو سلعة في محل الفرض - وجب
غسل ذلك، ولو خلق ذلك في غير محل الفرض لم يجب غسله إلا أن يحاذي شيءٌ
منه شيئا من محل الفرض؛ فيجب غسل المحاذي فقط.
وفي "الشامل" و "الحاوي" وغيرهما حكاية وجه: أنه لا يجب؛ اعتباراً بمنبته.
قال الرافعي: وقد صار إلى تقريره كثير من المعتبرين، وحملوا النص على ما إذا
التصق شيءٌ من ذلك بمحل الفرض.
والراجح عند كثير من الأصحاب الأول، وبه جزم البندنيجي والإمام؛ وهذا
بخلاف ما إذا انقشطت جلدة من العضد وتدلت، ولم ينقلع معها شيء من جلد محل
الفرض: لا يجب غسل شيء منه، سواء قابل محل الفرض أو لا؛ لأن اسم اليد لا يقع
عليها. نعم، لو انقلع [معها] شيء من محل الفرض، وتدلى من محل الفرض -
وجب غسل الجميع؛ كما لو كان-المنقشط جلد محل الفرض فقط ولم ينفصل.
ولو كان المنقشط جلد محل الفرض مع شيء من جلد العضد، وتدلى من
العضد - لم يجب غسل شيء منه.
نعم، لو التصق ما انقلع من محل الفرض بالعضد، قال الماوردي والإمام:
وجب غسله.
وقال ابن الصباغ: إنه لا يجب، والبندنيجي حكاه عن نصه في "النهاية" إلى العراقيين، وقال: إنه غلط.
ولو انكشطت جلدة من العضد، والتصقت بشيء من محل الفرض - صار
الملتصق كجلد محل الفرض؛ فيجب غسله والله أعلم.
قال: فإن كان أقطع من فوق المرفق - أي: ولو من المنكب، كما قاله البندنيجي -
استحب له أن يمس الموضوع ماء؛ لأنه روى عن ابن عباس استحبابة، ولكيلا يخلو
العضو عن طهارة، وهذا علة أبي إسحاق المروزي، وهي تشبه باستحباب إمرار
الموسى على رأس من لم يكن له شعر في الحج.
قال أبو الطيب: ومنهم من يوجه ذلك بأنه كان يستحب له [غسل] ذلك عند
بقاء اليد؛ لقوله عليه السلام "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ
الوضوء! فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله"، وقال أبو هريرة: سمعت
خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" رواهما مسلم.
وإذا كان هذا مستحبا عند بقاء العضو بقي بعد قطعه.
قال بعضهم: وقد أفهم قول الشيخ: "فإن كان أقطع
…
استحب"، أنه لا يستحب
ذلك لغير الأقطع، وهو متبع للمزني في ذلك، لكنه مستحب؛ لما ذكرناه، وابن الصباغ
حكاه عن بعض الأصحاب وسيأتي الكلام فيما هي الغرة في الباب بعد، إن شاء الله
تعالى.
ويمس الموضع ماء: هو بضم الياء وكسر الميم، وماء: منصوب، والمراد
بالإمساس - هاهنا-: الغسل، أما إذا كان مقطوعا من المرفق بأن فك عظم الساعد.
من عظم العضد-: [فقد أفهم كلام الشيخ أنه يجب غسل طرف عظم العضد] كما
أفهمه قول الربيع عن الشافعي: إنه لو كان أقطعهما فوق المرفقين، فلا فرض عليه
فيهما. [والذي نقله المزني أنه لا يجب؛ فإنه قال: إذا كان أقطعهما من المرفقين، فلا
فرض عليه فيهما]. واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين - ومنهم من قال:
قولان-:
أحدهما: عدم الوجوب؛ كما نقله المزني، ويحكى عن القديم أيضاً.
والثاني: أنه يجب؛ كما أفهمه كلام الربيع، وهو الأصح.
وقد قيل: إن القولين على هذه الطريقة مبنيان على أن المرفق اسم لماذا؟ فإن قلنا:
اسم لعظم الساعد فقط، لم يجب غسل عظم العضد.
وقيل: بل مبنيان على أن غسل عظم العضد وجب تبعاً أو مقصوداً؛ فعلى الأول
لا يجب غسله؛ لزوال المتبوع، وعلى الثاني يجب؛ كما لو بقى شيءٌ من عظم
الساعد.
ولم يظهر لي فرق بين الطريقين من حيث المعنى.
ومن الأصحاب من قطع بوجوب غسله، ونسب المزني إلى الإخلال بالنقل
وترك بعض اللفظ؛ وهذه طريقة العراقيين والماوردي، وقال الإمام: إن الوجه
القطع بها.
قال: ثم يمسح رأسه؛ للآية، فيبدأ بمقدم رأسه، ثم يذهب باليدين إلى قفاه، ثم
يردهما إلى المكان الذي بدأ منه؛ لما روى مسلم عن عبد الله بن زيد في وصف
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمسح رأسه، فأقبل بيديه وأدبر".
وفي رواية: "فأقبل بهما وأدبر: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما
حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه".
قال الأصحاب: والمعنى في ذلك إيصال البلل إلى جميع الشعر؛ لأن منابت
الشعر مختلفة:
منها: ما يكون وجهه إلى مقدم الرأس.
ومنها: من يكون وجهه إلى مؤخرها، فبالذهاب تبتل بواطن القسم الأول وظاهر
الثاني، وبالرد تبتل ظواهر الأول وبوواطن الثاني؛ وبهذا فارق ما نحن فيه السعي: حيث
عددنا الإقبال والإدبار مرة، وعددنا الذهاب والإياب في السعي مرتين، على
الصحيح؛ لأن المقصود قطع المسافة، وهي منقطعة في كل مرة.
وكيفية البداءة والمسح: أن يأخذ الماء بكفيه، ثم يرسله، ويلصق طرف إحدى
سبابتيه بالأخرى، ثم يضعهما على مقدم رأسه، ويضع إبهاميه على صدغيه.
قال الصيدلاني والقفال: وإنما يستحب [الرد] إذا لم يكن شعره محلوقا ولا
طويلَا، فإن كان، لم يستحب، فلو فعله في هذه الحالة، قال في "التهذيب": لم يحسب
مرة ثانية؛ لأن الماء قد صار مستعملاً.
قال: ويفعل ذلك ثلاثا؛ لخبر وائل بن حجر، ورواية أبي داود والنسائي عن علي:
أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، ومسح رأسه ثلاثا، وغسل رجليه ثلاثا، وقال: [هذا وضوء رسول
الله صلى الله عليه وسلم].
وروى أبو داود من حديث عثمان: أنه عليه السلام مسح رأسه ثلاثا.
قال: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، وقد جاء في
رواية لمسلم في وصف عبد الله بن زيد وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه مسح رأسه مرة واحدة، وكذا روى عن علي في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم] ولا جرم
استحب بعض أصحابنا المسح مرة واحدة.
وقيل: إن أبا عيسى الترمذي حكاه في "جامعه" عن الشافعي، والمشهور من
مذهبه، وبه جزم الجمهور - ماذكره الشيخ.
قال: ثم يمسح أذنيه: ظاهرهما، وباطنهما؛ [لما روى أبو داود عن المقدام بن
معديكرب في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مسح بأذنيه: ظاهرهما وباطنهما]، وأدخل أصابعه في صماخي أذنيه"، وظاهر الأذن: مما يلي الرأس، وباطنها: مما
يلي الوجه.
قال: بماء جديد؛ لما روى ابن وهب بسنده عن عبد الله بن زيد قال: [رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه]، ذكره أبو عبد الله الحاكم في علوم الحديث، قال عبد الحق: وهو حديث تفرد به اهل مصر.
قال بعضهم: ونبه الشيخ بقوله: [بماء جديد] على أنهما ليسا من الرأس [حتى
يمسحا بمائه].
قال: ثلاثا؛ لما ذكرناه من خبر وائل بن حجر؛ فإنه نص في مسح الظاهر على
الثلاث، والباطن بالقياس، وقد قيل:[لا] يستحب في مسحهما التكرار؛ كما قيل به
في مسح الرأس.
وكيفية المسح: أن يضع إبهامه على ظاهر الأذن، ويمرها نحو العلو، ويمسح باطن
الأذن بالمسبحة؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه ذكر في وصف وضوء رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه مسح باطنهما بالسبابتين، وظاهرهما بإبهاميه، أخرجه النسائي.
وقد حكى الإمام عن شيخه: أنه يلصق كفيه بعد ذلك مبلولتين بالأذن؛ استظهاراً.
قال: ويأخذ لصماخيه ماء جديداً؛ لأن الصماخ من الأذن كالفم من الوجه، وإذا
أراد ذلك أدخل خنصريه فيهما بعد بلهما، والرافعي قال: إنه يدخل سبابتيه فيهما،
ويفعل ذلك ايضاً ثلاثاً؛ وهذا ما حكاه الماوردي عن البصريين، وان البويطي حكاه
عن الشافعي، ولم يحك ابن الصباغ غيره.
وعن البغدادين من أصحابنا: انه يدخل [أصبعيه] في صماخيه بماء الأذنين،
وقد حكاه الرافعي قولاً في المسألة، ولعله المراد به ما حكاه القاضي الحسين
والإمام؛ فإنهما قالا: إنه يمسح ظاهر اذنيه وباطنهما بماء جديد، وكيفيته أن يدخل
سبابتيه في صماخي أذنيه، ويمر إبهاميه على ظاهرهما.
قال الماوردي: وليس في أعضاء الطهارة عضوان لا يستحب تقديم الأيمن
منهما في تطهيره إلا الأذنين؛ فإن مسحهما معاً أسهل، وألحق بعضهم بهما
الخدين. نعم، الذي لا يمكنه غسلهما ولا مسح الأذنين معاً - كالأقطع -
يبدأ بالأيمن منهما.
وقد حكى عن ابن سريج أنه كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس،
ويفردهما بالمسح احتياطا؛ فإن من العلماء من أوجب غسلهما، ومنهم من أوجب
مسحهما، ومنهم من استحب إفرادهما [بالمسح] ويقال: إن ابن عمر كان يفعل
ذلك.
قال: ثم يغسل رجليه؛ للآية على قراءة النصب؛ فإنها تكون معطوفة على
المنصوب ولا يضر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمسح الرأس؛ كما لم
يضر ذلك في قوله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه‘قل قتال فيه كبير وصد
عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام} [البقرة 217]؛ فإنه عطف "المسجد
الحرام" على "الشهر الحرام".
ثم لو قيل بمنع ذلك، لقلنا: ذلك منصوب بفعل مضمر، والتقدير: وامسحوا
برءوسكم، واغسلوا أرجلكم؛ كما قيل بمثل ذلك في قولهم [من الرجز]:
علفتها تبناً وماء باردا
أو [من الكامل]:
.
…
....
…
.....
…
متقلداً سيفاً ورمحا
أو نقول: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم
وامسحوا برءوسكم، والتقديم والتأخير في الكتاب كثير؛ كما ستعرفه في باب التيمم.
فإن قيل: قراءة الخفض تدل على وجوب مسحهما؛ لأن العطف يكون على مسح
الرأس ولا جائز أن يكون خفضاً على الجوار؛ كقولهم: "جحر ضب خرب"؛ لأن
ذلك ضعيف لا يجري مثله في كلام فصيح، وقراءة النصب تجعلها معطوفة على
موضع الجار والمجرور؛ فانتفت الدلالة بها على إيجاب الغسل.
قلت في جوابه: لا نسلم أن الخفض على الجوار غير جائز في الكتاب العزيز،
ألا ترى إلى قوله - تعالى-: {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} [ابراهيم:18]
فخفض العاصف وإن كان مرفوعاً؛ لأنه [من] صفة الريح لا من صفة اليوم،
و"الريح" مرفوع، واليوم المخفوض، لكن لما كان مجاوراً لليوم أعطاه إعرابه وإن لم
يكن صفته؛ وكذا قوله تعالى: {عذاب يوم أليم} [هود:26]؛ فإن "أليم" وصف
للعذاب؛ كذا قال الأول: الماوردي، والثاني: أبو الطيب، وقال: إنه [لا] حجة لمن
قال: إن الخفض على الجوار إنما يكون بغير واو؛ لأنه جاء مخفوضاً مع العطف
بواو.
ولئن سلمنا أنها معطوفة على مسح الرأس، فلا يدل على وجوب المسح؛ لأن
العرب قد تعطف الشيء على الشيء إذا كان بينهما اشتراك ما؛ كقولهم [من الرجز]:
علفتها تبناً وماءً باردا
و:
متقلدا سيفاً ورمحاً
والماء لا يعلف، والرمح لا يتقلد، لكن بينهما اشتراك في التغذي والحمل، وكذا
هنا بين الرأس والرجل اشتراك في استعمال الماء.
وبعضهم يقول: إنما جاز ذلك؛ لأن العرب تسمى خفيف الغسل: مسحاً؛ فتقول:
"تمسحت للصلاة".
قال بعضهم: ولعل السر في التعبير عن غسل الرجلين بالمسح في الآية - النهي
عن الإسراف في الماء للابتداء فيهما بالصب دون غيرهما.
وأما جعل قراءة النصب معطوفة على موضع الجار والمجرور: فغير جائز؛ لأنه لا
يجوز ترك العطف على المفعول المصرح به، ويعطف على غيره، مع ان ذلك ضعيف
لم يرد مثله في الكتاب العزيز، قال ابن الصباغ: وقد دلت السنة على ما ذكرناه؛ فتعين.
قال ثلاثاً؛ لأن عثمان وعلياً ذكرا ذلك في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ويلزمه إدخال الكعبين في الغسل؛ لقوله تعالى: {إلى الكعبين} [المائدة:6]
أي: مع الكعبين؛ بالنقل عن أئمة التفسير.
وقد نقل عن المبرد أنه قال: الحد إذا كان من جنس المحدود دخل الحد في
المحدود؛ كقولهم: "بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف"، وإن كان من غيره
لم يدخل؛ كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187]، والحد هنا من
جنس المحدود؛ فدخل فيه.
قال: وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم؛ لما روى النعمان بن بشير
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم. فرأيت الرجل من
يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه"، رواه البخاري، وإنما يلصق الكعب
بالكعب إذا كان ماذكرناه، دون ما قاله الشيعة ومحمد بن الحسن: إنه الذي عند
معقد الشراك.
وقد حكى عن [أبي] عبد الله الزبيري من أصحابنا أنه قال: الكعب - في لغة
العرب-: ما قاله محمد بن الحسن، وإنما عدل الشافعي عنه بالشرع. وأنكر سائر
أصحابنا ذلك، بل الكعب - لغة-: ما ذكرناه.
وقد حكى الرافعي عن ابن كج وغيره وجهاً: أن الكعب هو الذي فوق مشط
القدم، ولعل مراده هنا-: ما ذكرناه.
والناتئان: بالهمزة.
والمفصل: بفتح الميم وكسرها أيضاً، واحد المفاصل، [والساق بلا همز
وبالهمز].
قال: ويخلل بين أصابعه؛ لما روى الترمذي مرفوعا إلى ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك"، وعن عاصم بن لقيط عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا توضأت فأسبع الوضوء وخلل بين الأصابع" أخرجه الترمذي وأبو داود، والأول صريح في استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين،
والثاني يحتمل ذلك؛ فوجب أن يحمل عليه، وقد صرح بوفق الأول ابن كج، فقال:
يستحب فيهما التخليل، والجمهور مصرحون باستحبابه في الرجلين، وسكوت عنه
في اليدين.
وكيفية تخليلها من الرجلين: أن يدخل خنصره من اليد االيسرى في باطن القدم،
يبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى، ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى.
وعن أبي طاهر الزيادي أنه يخلل ما بين كل أصبع من أصابع رجليه بأصبع من
أصابع يديه؛ ليكون بماء جديد.
وقال الإمام: لست أرى لتعيين اليد اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلا إلا
الاستنجاء؛ فإنه عليه السلام نهى عن الاستنجاء باليمين، وليس تخليل
الأصابع مشابهاً له؛ فلا حرج على المتوضئ استعمل اليمين أو اليسار.
وإذا خلل بين أصابع اليدين، قال الرافعي: فالذي يقرب من الفهم أن يشبك بين
الأصابع.
قال: ويستحب إذا فرغ من الوضوء أن يقول -[وهو مستقبل القبلة]-:"أشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شؤيك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"؛ لأن عمر روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء" أخرجه مسلم، وزاد الترمذي فيه: "اللهم اجعلني من التوابين
واجعلني من المتطهرين"، وكذلك استحب ابن الصباغ الإتيان بهذه الزيادة.
وزاد الرافعي عليها في الاستحباب: "سبحانك اللهم وبحمدك، [أشهد أن] لا
إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
وهذا الفصل من الشيخ مؤذن بأنه لا يستحب أن يأتي في أثناء الوضوء بذكر.
وقد وردت دعوات مأثورة صرح غيره باستحبابها، وهي أن يقول عند غسل الوجه:
"اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، وعند غسل اليد اليمنى: "اللهم
أعطني كتابي بيمينى، وحاسبني حساباً يسيراً"، وعند غسل اليسرى: "اللهم لا تعطني
كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري"، وعند مسح الرأس: "اللهم حرم شعري وبشري
[على] النار"، وروى "اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى"، وعند
مسح الأذنين: "اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، وعند غسل
الرجلين: "اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام".
قال: وألا ينفض يديه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح الشياطين"؛ قاله الماوردي والرافعي، ولأنه كالمتبرم من العبادة.
قال بعضهم: ويستثنى من ذلك نفض اليد عند مسح الرأس والأذنين والرقبة؛ فإنه
يستحب إذاً أن يترشش عليه. وهذا فيه نظر؛ لأن المستحب في هذه الأحوال ان
يرسل يديه لا أن ينفضهما؛ فما ذكره الشيخ على عمومه، وعليه اقتصر الرافعي.
[ثم] إذا خالفونفض يديه لم يكن مكروها؛ لما روى عن ميمونة: أنه صلى الله عليه وسلم
اغتسل، فأتيته بالمنديل فلم يأخذه، وجعل ينفض الماء بيديه. متفق عليه.
قال: ولا ينشف أعضاءه؛ لما [ذكرناه من خبر ميمونة، وقد] روى أن أم سلمة
ناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوباً؛ ليتنشف به من وضوئه فأبى، وقال:"إني أحب أن أبقي علي وضوئي".
وقد قيل إن ترك التنشيف غير مستحب، وفعله غير مستحب أيضاً؛ فيكون فعله
وعدمه سيين.
وقيل: إن التنشيف مستحب؛ لما فيه من الاحتراز عن الغبار.
والذي حكاه العراقيون ما ذكره الشيخ.
وإذا قلنا به، فهل يكون مكروهاً أو فاعله تاركاً للأولى؟ فيه وجهان في "التتمة"،
والظاهر من كلام الشافعي منهما - كما حكاه الإمام عن العراقيين - الثاني،
ويشهد له ما روى ابن المنذر بإسناده عن قيس بن سعد قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلاً فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها، وكأني أنظر إلى أثر
الورس على عكنه.
وفي "الرافعي" وجه ثالث عن القاضي الحسين: أنه يكره في الصيف دون الشتاء،
لعدم البرد.
قال: ولا يستعين في وضوئه بأحد؛ لما روى أن أبا بكر هم بصب الماء على يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد"، وروى أن المقول
له عمر حين أراد صب الماء على يده، عليه السلام.
وقيل: إن القائل عمر.
قال بعضهم: وفي كلام الشيخ رمز إلى أنه لو أمر غيره بغسل أعضائه، فالكراهة أشد
وإن صح الوضوء؛ كالغسل المنوي تحت الماء وإن لم يوجد منه سوى النية.
قال: وإن استعان به جاز، أي: من غير كراهة؛ لأن المغيرة بن شعبة أعان النبي صلى الله عليه وسلم
في [وضوئه]؛ لضيق كم جبة كانت عليه؛ كما ستقف عليه في باب المسح على
الخفين.
وروى عن صفوان بن عسال قال: "صببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر
والحضر"، وروى أن أسماء والربيع بنت معوذ صبتا الماء على يديه.
وفي "تعليق القاضي الحسين" في باب الوكالة: أن الاستعانة بالغير في الطهارة، هل
تكره؟ فيه وجهان حكاهما غيره هنا، وأصحهما: لا؛ وهذا في حق من يمكنه ألا يستعين.
أما من لا يقدر على الوضوء إلا بالاستعانة - كالأقطع - فإنه يجب عليه أن
يستعين، "لو بأجرة المثل إن وجدها فاضلة عن كفايته وكفاية من تلزمه كفايته ليومه
وليلته وقضاء ديونه، فإن لم يجد صلى وأعاد؛ كمن لم يجد ماء ولا ترابا؛ لأن عدم
وجدان معين نادر.
وقد أفهم ما ذكره الشيخ في الباب أنه لا يستحب معه شيء آخر، وللأصحاب
خلاف في استحباب مسح الرقبة بعد مسح الأذنين:
فمنهم من قال: هو مستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه أمان من الغل".
ومنهم من قال: هو أدب.
وعلى الوجهين يبني أنه هل يمسحها بماء جديد أو بماء الأذن؟ فإن قلنا: إنه
مستحب مسحها بماء جديد، وإلا مسحها بماء الأذن؛ كذا حكاه الإمام عن شيخه،
واقتصر عليه الرافعي.
والقاضي الحسين قال: إذا قلنا: إنه سنة، اكتفي فيه بماء الأذنين. ومال الروياني
إلى أنه يمسحها بماء جديد.
وقد بقي من الآداب أن يبدأ في غسل الوجه بأعلاه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وهو
أسهل. ويبدأ في غسل اليدين والرجلين بأطراف الأصابع إن كان يغسل بنفسه، وإن
كان غيره يصب عليه غسل من مرفقه وعقبه إلى أطراف الأصابع.
وأن يضع الإناء عن يمينه إن كان يغترف منه، وإن كان يقلب على يده منه
وضعه على يساره.
وسيكون لنا عود إلى شيء من ذلك الباب بعده، إن شاء الله تعالى.