الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الوقف
الوقف، والتحبيس، والتسبيل: بمعنىً، وهو في اللغة: الحبس، يقال: حبست الأرض، وأحبستها، ووقفت الأرض وغيرها، أقفها وقفًا، ولا يقال: أوقفتها، إلا في لغة رديئة.
وقال الجوهري وغيره: وليس في الكلام "أوقفت" إلا في حرف واحد: أوقفت عن الأمر الذي كنت عليه.
قال أبو عمرو: كل شيء أمسكت عنه تقول [فيه]: "أوقفت".
قال الكسائي: يقال: ما أوقفك هنا، أي: ما صيرك إلى الوقوف.
وجمع الوقف: وقُوُفٌ وأوقاف.
وحقيقته شرعًا -على الصحيح-: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، ممنوع من التصرف في عينه، وتصرف منافعه إلى وجه من وجوه [البر] ، يقصد به التقرب إلى الله تعالى.
وإن شئت قلت: حبس ما يمكن الانتفاع به
…
إلى آخره؛ ليدخل الكلب المعلَّم على رأي.
وسمي هذا التصرف وقفًا؛ لأن عين المال تبقى موقوفة، وسمي حبسًا؛ لأن المال يصير محبوسًا [على جهة معينة].
وسمي سبيلًا؛ لأن الثمرة [تصير] مسبلة.
قال الشافعي –رحمه الله: ولم يحبس أهل الجاهلية –فيما عملته- دارًا ولا أرضًا [تبرُّرًا].
والأصل في مشروعيته: ما روى أبو داود مسندًا عن نافع [عن] ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، وكيف تأمرني؟ فقال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا توهب، ولا تورث، للفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل. وفي رواية: والضيف – لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متموِّل فيه.
وفي رواية: غير متأثِّل مالًا. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
وقال يحيي بن سعيد –وهو الأنصاري-: نسخها لي عبد الحمي بن عبد الله [بن عبد الله] بن عمر بن الخطاب- يعني صدقة عمر بن الخطاب-: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عمر في ثمغ، فقص [من خبره] نحو حديث نافع قال:"غير متأثل مالًا فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم"، قال: وساق القصة، وإن شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقًا لعمله، وكتب معيقيب –وشهد عبد الله بن الأرقم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين: إن حدث فِىَّ حدثٌ أن ثمغًا وصرمة ابن الأكوع والعبد الذي فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي –تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذوو الرأي من أهلها، ألا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى، من السائل والمحروم، وذوي القربى، ولا جناح على وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى
رقيقًا منه".
ومعيقيب: هو ابن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم القرشي الزهري، ولهما صحبة.
وثمغٌ: بفتح الثاء المثلثة، وبعدها ميم ساكنة –وقيدها بعضهم بالفتح- وغين معجمة، وصرمة ابن الأكوع: هما مالان معروفان بالمدينة كانا لعمر بن الخطاب فوقفهما.
وأكل: أي أطعم، آكله إيكالًا: أطعمه.
وقد قيل: إن ما وقفه عمر [بن الخطاب] من أرض خيبر صدقة تصدق بها في الإسلام.
قال: الوقف قربة مندوب إليها؛ لقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقوله تعالى:{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] والوقف خير؛ فاندرج تحت عموم ذلك. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقةٍ [جارية] ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له" كما أخرجه أبو داود ومسلم وغيرهما.
وحمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف، وقد قال الشافعي في القديم: ولقد بلغني أن ثمانين نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات موقوفات.
وقال جابر: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.
وهذه الوقوف [جارية على سبلها] إلى اليوم بمكة والمدينة.
واحترز الشيخ بقوله: مندوب إليها عن القربة الواجبة، ولأن القرب منها ما قام دليل عليه بخصوصه، كالعتق وصلة الرحم وغير ذلك، ومنها ما اندرج في عموم قوله تعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] ونحوه؛ فتبين أن الوقف من الأول وهو آكد من الثاني؛ لتظافر الدليل العام والخاص عليه.
قال: ولا يصح إلا ممن لا يجوز تصرفه في ماله؛ لأنه تصرف في المال، ويعتبر مع جواز التصرف في المال أن يكون أهلًا للتبرع فإن المكاتب من يجوز تصرفه في ماله ولا يصح وقفه.
قال: ولا يصح إلا في عين معينة، فإن وقف شيئاً في الذمة بأن قال: وقفت فرسًا أو عبدًا، لم يصح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة؛ فلم يصح في عين الذمة كالعتق والصدقة، وهكذا الحكم فيما لو ثبت له في ذمة شخص فرس أو عبد فوقفه، ولو وقف أحد العبدين أو إحدى داريه ففيه وجهان في "الوسيط"، وأصحهما: المنع كما في الهبة، ومن جوز قاسه على العتق.
قال الإمام: وهذا التردد يضاهي تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليقَ [قبولَ] العتق له، ويلتفت على أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد هل يفسد أم ينفذ نفوذ العتق؟ ثم إذا صححناه طالبناه بالتعيين، فإن أفضى الأمر إلى الإقراع أقرع، كما في العتق.
قال: ولا يصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها على الدوام كالعقار والحيوان والأثاث أي –سواء كان مفرزًا أو مشاعًا.
ووجه صحة وقف هذه الأنواع –مع ما ذكرناه من حديث عمر-: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا على الصدقات، فلما رجع شكا العباس وخالدًا و [ابن] جميل، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما نقم ابن جميل، إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ إنه قد احتبس أدراعه، وأعتاده في سبيل الله عز وجل". وروي: "أدراعه وأعتده". والأعتد، قال القاضي الحسين: الخيل.
و [بعضهم] روى أن أم معقل جاءت [إلى] النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله، وإني أريد الحج، فأركبه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اركبيه؛ فإن الحج والعمرة من سبيل الله".
وذكر الشيخ العقار –وإن كان مجمعًا على جواز وقفه- لنقيس عليه ما ذكره معه؛ بجامع اشتراكهما فيما ذكره.
وأيضاً: فالمسلمون متفقون على وقف الحصر والقناديل والزلالي في جميع الأعصار من غير إنكار.
ولا فرق في الحيوان بين أن يكون بهيمًا أو آدميًّا، ولا في [الآدمي بين] المسلم والكافر، ولا في [الكافر بين] أن يكون كتابيًّا أو وثنيًّا، كما صرح به القاضي الحسين.
تنبيه: الأثاث –بفتح الهمزة-: متاع البيت ونحوه، قال الفراء: لا واحد له من لفظه.
وقال أبو زيد: الأثاث يقع على المال أجمع من الإبل والغنم والبقر، ومتاع البيع، واحدته: أثاثة، والأول بكلام الشيخ أمسُّ.
[قال]: فإن وقف مالًا ينتفع به مع بقائه كالأثمان والطعام، أو مالاً ينتفع به على الدوام كالمشموم –لم يجز؛ لأنه ليس في معنى المنصوص عليه، فلا يمكن إلحاقه، مع أن تسبيل الثمرة وتحبيس الأصل غير ممكن فيه.
وفي الأثمان وجه: أنه يجوز وقفها؛ بناء على جواز إجارتها، وبه جزم الفوراني عند التصريح بكونها للزينة، وقد حكاه أبو ثور عن الشافعي. قال البندنيجي: وليس بشيء.
قد ألحق الماوردي بما لا منفعة فيه وقف الخصي من الغنم.
وقال في "البحر": وعندي يحتمل وجهًا: أنه لا يجوز؛ لأنه ينتفع بصوفه كما ينتفع من الأنثى بلبنها ونسلها، ورأيته عن أصحابنا.
واعلم أن ما ذكره الشيخ من كون الوقف لا يصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها على الدوام، صحيح، لكنه لا يكفي في ضبط ما يجوز وقفه؛ لأن الحر، والموصى بمنفعته، وأم الولد، والكلب المعلَّم يمكن الانتفاع بهم على الدوام، ومع هذا لا يصح وقف الحر ولا الموصى بمنفعته من مالك المنفعة اتفاقًا، وكذا وقف أم الولد، كما جزم به البندنيجي، وهو عند غيره الأصح؛ بناء على أن الوقف ينقل الملك، وهو المذهب.
ومن قال: إن الوقف لا ينقل الملك، جوزه على وجه، كما صرح به الماوردي وغيره، وحكى الخلاف، ولم يثبته.
وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن الظاهر الجواز، وهو الذي [اختاره] في "المرشد". وعلى هذا: إذا مات السيد هل يبطل الوقف؟ [قال المتولي]: لا؛ بل تبقى منافعها للموقوف عليه؛ كما لو أجرها ومات، ويكون لها الرجوع بعوض منافعها. وفي "الحاوي" و"النهاية": أنه يبطل بلا خلاف. قال الإمام: لأن الحرية تنافي الوقف دون الإجارة، وهذا قضية كلام ابن كج.
وأما الكلب، فجزم المعظم بمنع وقفه، وإن جازت إجازته؛ لعدم الملك فيه كالحر.
وممن جزم به: البندنيجي [والماوردي] والقفال كما حكاه القاضي الحسين، والقاضي أبو الطيب حكاه عن النص، وقد أجاز بعضهم وقفه.
واختلفوا في أصله: فالشيخ أبو حامد كما حكاه عنه في "الإبانة"، والماوردي والقاضي الحسين بنوه على جواز إجازته.
ومنهم من بناه على جواز هبته.
ومنهم من بناه على أن الوقف لا يقتضي نقل الملك، وقد حكى في "البحر" طريقة
قاطعة بهذا الوجه، ونسبها الفوراني إلى القفال، واختارها في "المرشد".
ومن خرج هذا الوقف على ما ذكرناه يلزمه تجويز وقف الموصى له بالمنفعة ولم يجوزه؛ فلا جرم كان الأصل عند المعظم [المنع]، وحينئذ فلو قال الشيخ: ولا يصح الوقف إلا في عين يمكن بيعها ويمكن الانتفاع بها على الدوام –كما قال القاضي أبو الطيب- لكان شاملًا لما يجوز وقفه على الصحيح، وعليه ينطبق أن المكاتب لا يجوز وقفه على الصحيح، وبه جزم الماوردي.
فإن قلت: ما ذكرته وإن كان مانعًا فهو غير جامع؛ لأمرين:
أحدهما: أنه يقتضي أن وقف الأشجار لثمارها، والمواشي لأصوافها وألبانها ونتاجها، والفحل لطروقه على بهائم أهل القرية– لا يجوز؛ لأن ما وقف غير منتفع به، وإنما الانتفاع حاصل بما صدر عنه، والانتفاع به حقيقة: كالدار تسكن والدابة تركب، والثوب يلبس ونحوه؛ ولهذا قال الغزالي: يجوز وقف كُلِّ مُتعين تحصل منه فائدة، أو منفعة لا تفوت العين باستيفائها.
الثاني: أنه يقتضي أن وقف المعلق عتقه لا يصح، وكذا المدبر إذا قلنا: إن التدبير عتق بصفة؛ لأنهما على قولنا: إن الوقف لا ينقل الملك، إذا مات السيد عَتَقَا؛ فهو مال لا ينتفع به مع بقائه على الدوام، مع أن وقفهما صحيح اتفاقًا.
قلت: الجواب عن الأول: أن أهل العرف يعدون [مثل] هذه الأعيان منتفعًا بها،
وكذلك حملة الشرع حيث قالوا في شرائط المبيع: أن يكون منتفعًا به، ولولا شمول الاسم النوعين لما كان كلامهم به مستقيمًا.
وعن الثاني من وجهين:
أحدهما: أنه فرع على الصحيح في أن الملك ينتقل بنفس الوقف؛ لأن الحدود إنما تذكر لحصر ما عليه آحاده، وحينئذٍ فلا يعتق واحد منهما بموت الواقف –كما صرح به الماوردي وغيره- إلا أن يقول: الاعتبار في التعليق بحاله [التعليق لا حالة] وجود الصفة –كما حكاه المراوزة- فحينئذٍ [يعتق بكلٍّ، وقد يقال: إذا نظرنا إلى حالة وجود الصفة مع قولنا: إن الملك للواقف] ، يكون في نفوذه الخلاف الآتي في تنجيز عتق الموقوف، وقد أغرب في "التهذيب"؛ حيث جعل التفريع على قولنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى، كالتفريع على أنه لا ينتقل حتى ينفذ العتق.
[و] الثاني: أن الشيخ اعتبر إمكان الانتفاع بالعين مع بقائها على الدوام، والإمكان موجود؛ لأن احتمال موتهما قبل موت السيد قائم.
ومن هذا الجواب يظهر لك أنه لا يشترط في الموقوف أن يكون [بحيث] تحصل منه منفعة في الحال؛ بل يجوز وقف الأرض الخراب –كما صرح به الماوردي- لإمكان عمارتها، والعبد والجحش الصغيرين، والزمن الذي يرجى زوال زمانته –كما صرح به الأصحاب- قياسًا على جواز نكاح الرضيعة.
وكذا يجوز وقف العين بعد إجازتها كما يجوز وقف [ماله] المغصوب، وهذا ما أجاب به في "البحر" في كتاب الإجارة قبيل باب كراء الإبل، وقال: إنه لا يرجع من وقف عليه بشيء من أجرة مدة الإجارة قولًا واحدًا.
وفي "فتاوى" القفال: تخريجه على الوقف المنقطع الأول.
وزاد بعضهم فقال: إن وقف على مسجد صح؛ لمشابهته الإعتاق.
وإن وقف على إنسان، فإن قلنا: الملك في الوقف للموقوف عليه، فهو على
الخلاف في بيع المستأجر: فإن لم نصححه فكذلك الوقف، وإن صححناه جرى الخلاف في الوقف المنقطع أول، وإن قلنا: ينتقل إلى الله تعالى، فوجهان؛ لافتقاره إلى القبول. ووقف الورثة الموصى بمنفعته مهراً مثلًا، كوقف المستأجر.
فرع: إذا استأجر أرضًا ليبني فيها أو يغرس، ففعل، ثم وقف البناء والغراس –ففي صحة الوقف وجهان:
أصحهما –وبه قال ابن الحداد-: [الصحة] ، وهو الذي حكاه الماوردي في كتاب الإجارة.
ووجه المنع: أن مالك الأرض بسبيل من قلعه؛ فكأنه ما لا ينتفع به.
وهما كالوجهين في أنه لو أراد بيع البناء والغراس هل يجوز؟
ولو وقف هذا أرضه وهذا بناءه جاز بلا خلاف؛ كما لو اجتمعنا على البيع. وإذا قلنا بصحة الوقف ومضت المدة، قال الماوردي: لم يكن لرب الأرض أن يبذل له قيمة ذلك؛ وإنما له أن يأخذ الواقف بقلعه إن بذل له أرش نقصه، وإذا قلعه لزمه أن ينقله إلى أرض أخرى يكون وقفها فيها جاريًا على سبيله، وكذلك قاله في "التهذيب" في كتاب العارية.
وقال الرافعي: إذا قلع مالك الأرض البناء، فإن بقي منتفعًا به بعد النقل فهو وقف كما كان، وإن لم يبق فيصير ملكًا للموقوف عليه أو يرجع إلى الواقف؟ فيه وجهان، وأرش النقص الذي يوجد يسلك به مسلك الوقف.
قال: ولا يجوز إلا على معروف وبر، أي: إذا كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الأقارب والفقراء والقناطر وسبل الخير، فإن وقف على قاطع الطريق أو على حربى أو مرتد لم يجز؛ لأن القصد بالوقف القربة وبالأول تحصل، وفي الثاني إعانة على معصية؛ فهو ضد المراد.
والمعروف الإحسان، والبر: اسم جامع للخير، واصله الطاعة؛ فهو اعم من المعروف.
قال: وإن وقف على ذمي جاز؛ لأن الوقف يجري مجرى صدقة التطوع، وصدقة التطوع على الذمي جائزة؛ فكذلك الوقف.
فإن قيل: يظهر أن المراد بالذمي غير معين، وهو من عقدت له الذمة؛ كما أن مراده بقاطع الطريق والمرتد والحربي ليس شخصًا معينًا، بل من يقطع الطريق ومن يرتد ومن يحارب، وإلا فهو كما لو وقف على زيد مثلًا وكان قاطع الطريق؛ فإنه يصح جزمًا، وكذا لو وقف عليه وهو مرتد أو حربي على أحد الوجهين.
قلت: ليس الأمر كذلك؛ بل المراد الواحد المعين؛ فإن هذه الصيغة ليس فيها عموم، وما ذكر من [أن] المراد بقاطع الطريق واحد غير معين فصحيح؛ لأنه مضاف إلى الطريق، ومثل ذلك يقتضي العموم كما في [ابن] السبيل، وما ذكر من أن المراد بالحربي والمرتد واحد غير معين، ممنوع؛ لما ذكرناه.
والشيخ اقتصر فيهما على الصحيح، وهو منع الوقف عليهما –كما هو مذكور في
"الحلية" و"الرافعي"- لأنهما منقولان عن قرب، والوقف صدقة جارية؛ فكما لا يصح وقف ما لا [دوام له] لا يصح الوقف على من لا [دوام له]، ولك أن تقول: وقف ما لا دوام له لا يبقى له أثر بعد فواته، وإذا فات الموقوف عليه أولًا انتقل الوقف إلى من بعده؛ فمقصود الوقف حاصل وهو الدوام. ثم من جوز الوقف على المرتد [يجب] أن يقول ببقاء ملكه، والله أعلم.
وقد ذهب بعض الأصحاب إلى أن الوقف على الجهة العامة لا يشترط فيه [وجود] القربة؛ بل الشرط انتفاء المعصية حتى جوز الوقف على مساكين أهل الذمة والأغنياء من المسلمين؛ كما لو وقف على ذمي بعينه أو مسلم بعينه –وكان غنيًا- نظرًا لكونه جهة تملك، وهذا ما اختاره الإمام وشيخه بعد أن حكى عن المعظم الأول، وأنهم استدلوا بأنه لا يجب استيعاب المساكين إذا وقف عليهم، ويجوز الاقتصار على ثلاثة منهم، ولو كان القصد التملك لما جاز مثل ذلك.
وقال الرافعي: إن ما اختاره الإمام أشبه، وإنه مطرد في جواز الوقف على الفساق.
واستشهد له بأن ابن الصباغ صحح الوقف على النازلين بالكنائس من مارة أهل الذمة وقال: إنه وقف عليهم لا على الكنيسة.
وإن الأشبه توسط ذهب إليه بعض المتأخرين، وهو تصحيح الوقف على الأغنياء، وإبطال الوقف على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق؛ لتضمنه الإعانة على المعصية.
ولا خلاف أن الوقف على شراء آلة برسم قطاع الطرق والمحاربين لا يجوز، وكذا على البيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل؛ لأنها محرمة لا لكونها منسوخة، كما قاله البندنيجي والقاضي أبو الطيب؛ لأن النسخ لا يذهب حرمتها، والقاضي الحسين علله بكونها منسوخة، وحكاه في "الحاوي" عن بعض الأصحاب وقال: إنه فاسد.
وسواء فيما ذكرناه المسلم والذمي، حتى لو رفع إلينا وقف أهل الشرك نقضناه،
اللهم إلا أن يكون شيئاً وقفوه المبعث على كنائسهم القديمة، فنقره حيث تقر الكنائس.
وقال في "الحاوي": إنه لو وقف دارًا على أن يسكنها فقراء اليهود، فإن جعل لفقراء المسلمين نصيبًا معهم جاز، وإلا فوجهان، وجه المنع: أنهم إذا انفردوا بسكناها، صارت ككنائسهم، وهو مخرج -أيضاً- مما ذكرناه من قبل، وسنذكر في باب الوصية مسائل تشابه ما نحن فيه، ولا يبعد جريان خلاف في جواز الوقف عليها؛ [أخذًا] مما ذكرناه.
فروع:
إذا وقف على سبيل الله، أو:[على] أن تصرف منفعته إلى الله -صرفت المنفعة إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، كما قال القاضي أبو الطيب، ولا يرد علينا حديث [أبي] معقل؛ لأنه-عليه السلام[يجوز أن يكون] علم أن [أبا] معقل جعل الحج والعمرة من سبيل الله في وقفه.
وعندنا لو أراد بـ "سبيل الله" الحج والعمرة صح، وصرفت نفقته إليهما، وكلامنا عند الإطلاق.
ولو وقف على سبيل الخير أو البر أو الثواب صرف إلى أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا فإلى أهل الزكاة.
وذكر القاضي الحسين: أنه إذا وقف على سبيل الخير صرف إلى أهل الأصناف الذين يأخذون لحاجتهم دون العاملين.
وذكر في "التهذيب" أن الموقوف على سبيل البر يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة وإصلاح القناطر وسد الثغور ودفن الموتى وغيرها.
وفرق بعض الأصحاب -كما حكاه الإمام عن رواية شيخه والعراقيين- فقال: إذا وقف على جهة الخير صرف إلى مصارف الزكاة، ولا يبني به مسجدًا ولا رباطًا، وإذا وقف على جهة الثواب صرف إلى أقاربه.
قال الإمام: ورأيت في بعض تعاليق شيخي: أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير،
وحكى أن ذلك نص الشافعي، وأن بعض القياسين [ذهب] إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القرب، ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير، وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا ينقدح فيه تردد، إلا في أنه لا يُبْنَى بالريع رباط ولا مسجد.
وقال الرافعي: إن جواب الأكثرين الأول، وقالوا: لو جمع بين سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير، صرف الثلث إلى الغزاة المذكورين في الزكاة، والثلث إلى أقاربه، والثلث إلى الفقراء، والمساكين والغارمين، وابن السبيل، وفي الرقاب.
وفي "تعليق" أبي الطيب: أن الثلث الثاني يصرف إلى [الفقراء والمساكين، ويبدأ بأقاربه.
وقال البندنيجي: إن هذا الثلث يصرف إلى فقراء] أقرب الناس إلى الوقف.
ويجوز الوقف على أكفان الموتى ومؤنة الغسالين والحفارين، وعلى شراء الأواني والظروف لمن تكسرت عليه.
وعلى المتفقهة: وهو المشتغلون بتحصيل الفقه مبتدئهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويخل فيه من حصل شيئاً منه وإن قل، كذا قاله الرافعي.
والذي حكاه القاضي الحسين: أنه إذا وقف على [الفقهاء صرف إلى من يعرف من كل علم [من الأحكام] شيئاً، فأما من تفقه شهرًا أو شهرين فلا. ولو وقف
على] المتفقهة صرف إلى من تفقه يومًا مثلًا؛ لأن اسم المتفقه ينطلق عليه، بخلاف الأول.
ولو وقف على الصوفية، قال الرافعي: فالذي رأيته بخط بعض المحصلين: أن الشيخ أبا محمد لم يصحح الوقف عليهم؛ إذ ليس للتصوف حدٌّ يوقف عليه، والمشهور: الصحة؛ فيصرف إلى كل من كان منشغلًا بعبادة الله تعالى في أغلب أمره، فأما ما كان مشتغلًا بالأكل والرقص والسماع فلا، كذا قاله القاضي الحسين في "التعليق".
وقال الغزالي [في "الفتاوى"]: لا بد في الصوفى من العدالة ومن [تركه الحرفة]. نعم، لا بأس بالخياطة والوراقة وما يشبههما إذا كان يتعاطاها أحيانًا في الرباط لا في حانوت، ولا تقدح قدرته على الاكتساب والاشتغال بالوعظ والتدريس، ولا أن يكون له من المال قدر ما لا تجوز الزكاة فيه، أو لا يفي دخله بخرجه. وتقدح الثروة الظاهرة والعروض من الكثرة. ولا بد أن يكون في زي القوم، إلا إذا كان مساكنهم في الرباط؛ فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي، وليس يشترط لبس المرقَّعة من يد شيخٍ، كذا ذكره المتولي.
قال: ولا يجوز أن يقف على نفسه أي: وإن ذكر بعده مالًا؛ كالفقراء والمساكين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل، وسبل الثمرة"، وتسبيل الثمرة يمنع أن
يكون فيها حق، ولأن الوقف صدقة ومعناه تمليك المنفعة جزمًا، وتمليك الموقوف على رأي، والموقوف ومنفعته ملكه؛ فلا يمكن أن يتصدق بها على نفسه، ولا أن يملك نفسه ذلك، كما لا يجوز أن يملكها بالبيع، وهذا ما حكاه في "البحر" عن نصه في القديم.
وذهب ابن سريج وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا إلى صحة ذلك –كما حكاه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما- تمسكًا بما روي أن عثمان لما وقف بئر رُومة، قال:"دلوي فيها كدلاء المسلمين"، وحكاه في "البحر" عن المذكورين، وعن محمد بن عبد الله الأنصاري، وقال: إن الاختيار جوازه واستحسنه.
وعن القاضي ابن كج: أنه نقل عن ابن سريج أنه صحح الوقف، وألغى الشرط والإضافة إلى نفسه. وهذا بناء على أنه لو اقتصر على قوله: وقفت، صح الوقف كما سنذكره.
والمنتصرون للأول قالوا: عثمان –رضي الله عنه لم يقل ذلك شرطًا، ولكن أخبر أن للواقف أن ينتفع بالأوقاف العامة؛ كالصلاة في [البقعة التي] جعلها مسجدًا وما أشبه ذلك، وتفارق الأوقاف العامة الخاصة؛ لأن العامة عادت إلى ما كانت عليه من الإباحة، بخلاف الخاصة؛ فإنها تقتضي ملك مخصوصين فلم يجز أن ينتفع بها.
التفريغ:
أن قلنا بالصحيح، فطريق تصحيح الوقف –كما قال ابن يونس وصاحب "رفع التمويه"-: أن يقف على أولاد أبيه الذين من صفتهم [كذا وكذا] ، ويذكر صفات نفسه، [أو يقف على
نفسه] ، ويرفع الأمر إلى حكم يرى ذلك ليحكم به، وفي الأول بحث سأذكره، ولو لم يفعل ذلك، وقال: وقفت على فلان، فإذا مات عاد إلى نفسي، ثم على الفقراء: فهل يصح؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين.
ولو استبقى التولية لنفسه وشرط أجرة، ففي صحة الشرط وجهان يبنيان على أن الهاشمي إذا انتصب عاملًا للزكاة: هل له أن يأخذ سهم العامل؟
ولو وقف على الفقراء فافتقر ففي جواز الأخذ له وجهان:
المجزوم به في "الحاوي" والذي مال إليه الرافعي: الجواز.
وفي "الوسيط": ترجيح المنع. وهذا ينقدح طرده في الصورة الأولى التي فرضها ابن يونس في تصحيح الوقف على نفسه لولا أن الغزالي وجهه بأن مطلق الوقف ينصرف إلى غير الواقف.
وإن قلنا بقول الزبيري ففي "الحاوي" وجهان:
أحدهما: يبقى على حقه على التأبيد يخلفه فيه ورثته وذرية ذريته ما بقوا، فإذا انقرضوا عاد حينئذ إلى جماعة الفقراء والمساكين.
[والوجه الثاني: أنه يقدم مدة حياته، فإذا مات عاد للفقراء والمساكين] دون
ورثته، إلا أن يكونوا من جماعة الفقراء.
فروع:
قال في "الحاوي": لو وقف رجل وقفًا ليحج عنه جاز، ولا يكون وقفًا على نفسه؛ لأنه لا يملك شيئاً من غلته، فإن ارتد عن الإسلام لم يجز أن يصرف الوقف على الحج؛ لأن الحج عن المرتد لا يصح، وصرف في الفقراء والمساكين، فإن عاد إلى الإسلام أعيد الوقف إلى الحج عنه، وهذا منه يظهر أنه تفريع على [أنه يجوز] النيابة في حج التطوع.
ولو وقفها في الجهاد عنه جاز، فلو ارتد الواقف عن الإسلام كان الوقف على حاله يصرف على المجاهدين عنه؛ لأن الجهاد يصح عن المرتد.
ولو وقف ضيعة على أن يصرف ريعها على عمارتها وحق السلطان وما حصل بعد ذلك [في تبعاتي] في الزكاة والكفارات.
قال أبو العباس ابن سريج: [يصح] ويصرف للفقراء والمساكين؛ لأن الظاهر أنه أخرج زكاته وكفاراته، وإنما خاف التقصير فكان تطوعًا عنه، حكاه ابن الصباغ، وفي "التتمة" [حكاية عن ابن سريج]: أنه يصح، ويصرف إلى من تصرف إليه الزكاة والكفارات.
وفي "الوسيط" وغيره: أنه إذا وقف وشرط أن تصرف من الريع ديونه وزكاته، فهو كما لو وقف على نفسه.
قال: ولا على مجهول كرجل غير معين؛ لتعذر تنفيذ الوقف في مستحقه.
وعن الشيخ أبي محمد احتمال فيما إذا وقف على أحد الرجلين على قولنا: إن الوقف على المعين لا يفتقر إلى القبول، وقد أقامه الغزالي وجهًا، وذكر أنه مخرج من وقف أحد العبدين، وعلى هذا يطالب الواقف بالبيان، فإن تعذر الرجوع إليه بموت أقرع.
ولو قال: وقفت على من شاء زيدٌ، كان باطلًا، ولو قال: على من شئت –وكان قد عين من شاءه [عند الوقف –جاز وأخد ببيانه] ، ولو لم يعينه إذ ذاك لم يجز.
قال: ولا على من لا يملك الغلة كالعبد أي: إذا قصد الوقف على نفسه والحمل؛ لأنه تمليك منجز فلا يصح على ما ذكرنا؛ كالبيع والهبة.
واحترزنا بلفظ "التمليك" عن الإرث في حق الحمل، وبلفظ "التنجيز" عن الوصية.
وفي "البحر": أن الشيخ أبا محمد حكى في "المنهاج" وجهين: أن الوقف عن الحمل يصلح كما يملك بالإرث. وفي "الحاوي" وغيره: أن منع الوقف على العبد مبني على قولنا: إنه لا يملك، أما إذا قلنا: إنه يملك، صح، فإذا عتق كان له، وكان على قياس هذا: أنه إذا وقف على عبد فلان [فباعه] أو وهبه يكون الوقف مستمرًا، لكن المتولي قال: إن الاستحقاق منوط بكونه عبد فلان، فإذا باعه أو وهبه زالت صفة الاستحقاق.
قال الرافعي: ولك أن تقول: الخلاف في أنه ملك مخصوص بما إذا ملكه السيد، فأما إذا ملكه غير السيد، فلا خلاف أن [لا] يملك، وحينئذ إذا كان الواقف غير السيد كان الوقف على من لا يملك؛ فأي معنى لقوله: أو ملكه السيد ملك؟!
قلت: قد تكرر من الرافعي ومن غيره القول بأنه: لا خلاف في أن العبد لا يملك بتمليك غير السيد، وقد تقدم منه ومن غيره: أن العبد يملك بالشراء وبالقرض على رأي من جهة غير سيده، وإذا ملك ببدلٍ فبدونه من طريق الأولى، وسأذكر في أول كتاب "الهبة" وأواخر "باب العتق" ذلك منقولًا عن الأصحاب صريحًا؛ فاطلبه تجده.
فأما إذا أطلق الوقف عليه فهو على سيده؛ كما لو وهب منه، أو أوصى له، وإذا شرطنا القبول جاء الخلاف في أن العبد هل يستقل بقبول الهبة والوصية أم يحتاج إلى إذن السيد؟ وكذا في السيد لو قبل هل يصح؟ والأصح في الأخيرة: لا؛ لأن الخطاب لم يجر معه.
وحكى ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب في "المجرد": أنه لو وقف على العبد
وقلنا: إنه يملك، صح الوقف عليه، وكان للسيد أخذ الريع منه، فإذا عتق كان له، وإن قلنا: إن العبد لا يملك، فهو كما لو وقف على بهيمتةٍ للغير، وظاهر المذهب في البهيمة: أنه يصح، ويكون وقفًا على مالكها، وينفق عليها من ريعه، فإذا نفقت تكون لصاحبها. وما ذكره عن القاضي صدره يقتضي أن تكون المسألة مفروضة فيما إذا قصد تمليك العبد، وعجزه يقتضي الإطلاق؛ فإنه لو قصد تمليكه بعد أن يشبه بالبهيمة التي الوقف عليها لا يقتضي التمليك، وأن تصرف السيد، ثم المختار في البهيمة ظاهر المذهب.
وفي "ألرافعي" و"التهذيب": أن الصحيح فيها البطلان، وبه جزم الماوردي؛ كما لا تصح الوصية إليها ولا الهبة.
وأما إذا صححنا وشرطنا القبول فالقابل المالك، والخلاف كما حكاه المتولي يجرى فيما إذا وقف على علف بهائم القرية المملوكة أو على بهائم فلان، بخلاف ما لو وقف على الوحوش أو على علف الطيور المباحة؛ فلا يصح جزمًا.
وحكم المدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد، حكم القن، وكذا المكاتب عند الشيخ أبي حامد.
وفي "الحاوي" إطلاق القول بالصحة، سواء كان على معين أو على المكاتبين.
وفي "التتمة" أن الوقف على المكاتبين صحيح.
ثم إذا عجز بعضهم كان الحكم في استرجاع ما دفع إليه كما [هو] في الزكاة، وكذا إن كان على مكاتب بعينه يصح في الحال، وتصرف الفوائد إليه، ويلزم حكمه إذا عتق إن أطلق الواقف الوقف، وإن قيد بحال الكتابة بطل استحقاقه، وإذا عجز بان [أن] الوقف منقطع الابتداء، وهذا فيه [نظر، بل] ينبغي أن يتخرج على أنه هل يسترجع [منه ما أخذه] أم لا؟ فإن استرجع فالحكم كذلك؛ وإلا فليس بمنقطع الابتداء، [ويؤيد ذلك: أن تصرفات المكاتب بحكم الملك لا ينقضها عند عجزه].
ولو وقف على الأرقاء الموقوفين لسدانة الكعبة وخدمة قبر النبي صلى الله عليه وسلم صح على
الأصح؛ كما لو وقف على علف الدواب في سبيل الله.
ولو وقف على المقبرة لتصرف الغلة إلى عمارة القبور، قال المتولي: لا يجوز؛ لأنه ليس فيه قربة.
ولو وقف على هذه الدار على أن يأكل فوائدها طارقوها صح على أطهر الوجهين.
ولو وقف على عمارة دار زيد: فإن لم يكن زيد [قد] وقفها لم يصح، وإن كان قد وقفها صح.
قال الماروردي: لأن الوقف طاعة، وحفظ عمارته قربة؛ كما لو وقفها على مسجد أو رباط.
فإن قيل: الوقف عندكم على من لا يملك غير صحيح، والوقف على مسجد ورباط قنطرة وفرس في سبيل الله صحيح، وإن لم يصح أن يكون شيء من ذلك مالكًا؟
قيل: هذا وقف على كافة المسلمين، وإنما عيّن مصرفه في هذه الجهة؛ فصار مملوكًا مصروفًا في هذه الجهة في مصالحهم.
قال: فإن وقف على من يجوز [أي]: كأولاده الموجودين أو رجلٍ بعينه، ثم على من لا يجوز كأهل الحرب ونحوهم – بطل الوقف في أحد القولين؛ لأن المقصود بالوقف إيصال الثواب على الدوام حتى يتميز عن العواري، [ولم يحصل] ، وصح في الآخر، لأن مقتضى الوقف القربة والثواب، فإذا بين مصرفه في الحال سهل إدامته على وجه الخير، وهذا نصه في "المختصر"، وهو مع الأول في "حرملة"، وهذا الوقف يلقب به "المنقطع الانتهاء".
وبنى المتولي القولين على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف أو من الموقوف عليه؟.
فإن قلنا بالأول فلا بد من بيان من ينتهي إليه الاستحقاق.
وإن قلنا بالثاني فلا حاجة إليه.
قال الرافعي: وهذا البناء ترجيح قول البطلان؛ لأن قول التلقي من الواقف
أرجح وأصح، وإلى ذلك ذهب المسعودي والإمام، لكن الأكثرون قالوا: أصح القولين صحة الوقف، ومنهم القضاة أبو حامد والطبري [والروياني] ، ووافقهم صاحب "التهذيب".
وعن صاحب "التقريب" قول ثالث في المسألة: وهو الفرق بين أن يكون الموقوف عقارًا فلا يجوز إنشاؤه منقطع الآخر، وبين أن يكون حيوانًا فيجوز؛ لأن مصير الحيوان إلى الهلاك، وكما يجوز فوات الموقوف عليه مع بقاء الموقوف يجوز عكسه إن قلنا بالصحيح.
قال: ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أي: بعد انقراض الموقوف عليه أولًا؛ لأن قصده الثواب، وهو أبلغ فيه فكان الصرف إليه أولى من غيره، ولأن العادة جارية بأن الإنسان إذا أراد أن يتصدق بشيء بدأ بأقاربه؛ فيجعل كأنه صرح بذلك، وهذا نصه في "المختصر"، وهو الأصح عند القاضي الحسين. ثم [إن] المراد بأقرب الناس إلى الواقف ماذا؟ فيه ثلاثة أوجه.
أحدها –وهو ما حكاه القاضي الحسين عن تخريج ابن سريج -: الجيران، وهو أبعدها.
والثاني: أقاربه الوارثون، حكاه المراوزة.
والثالث –وهو الأصح، والمذكور في طريقة العراق، وينسب إلى رواية حرملة -: أنه أقربهم رحمًا وإن كان غير وارث، حتى يقدم ابن البنت على ابن العم.
فلو اجتمع جماعة فمن المقدم منهم؟ سيأتي الكلام فيه في "باب الوصية" –إن شاء الله تعالى – فإن بعض الأصحاب أحال الكلام فيه عليه، ثم الاعتبار بالأقرب –كما قال في "البحر" –حالة رجوع الوقف إليهم، لا يوم الابتداء بالوقف.
قال: وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان:
وجه الاختصاص –وهو المذكور في "حرملة"، والصحيح -: أن مصرف الصدقات: الفقراء.
ووجه الاشتراك – وهو منصوص عليه في "المختصر"، وظاهر رواية الربيع -: أن
اسم القرابة يشمل الجميع، والغني كالفقير في باب الوقف.
وقيل: يختص به الفقراء قولًا واحدًا؛ لما تقدم، وهذا ما نسب إلى ابن سريج، وبه قال جمهور الأصحاب كما قاله الماوردي، وحملوا رواية المزني والربيع المطلقة على رواية حرملة المقيدة بالفقر.
وهذا الخلاف جارٍ بلا شك عند الأصحاب في الوقف على القرابة، لكن هل يجري مثله فيما إذا قلنا: أقرب الناس إلى الواقف الجيران؛ الظاهر: أنه لا يجري؛ فإن الماوردي حكى فيما إذا وقف على الجيران: أنه لا فرق فيهم بين الغني والفقير، وأقصى درجات ذلك: أن يكون كالتصريح، ثم إذا قلنا: بالاختصاص بالفقراء فهل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: على سبيل الوجوب، فلو افتقر من كان غنيًا عند موت الموقوف عليه أولًا صرف إليه، ولو كان الكل أغنياء [كان] كما لو كان الكل فقراء وانقرضوا، و [قد] قال ابن الصباغ في ذلك: إنه يصرف إلى الفقراء والمساكين.
وقال في "البحر": الذي نص عليه الشافعي: أن الإمام يجعلها حبسًا على المسلمين يصرف غلتها في مصالحهم.
وقال: أن القاضي الطبري صار إليه ورجحه.
وقيل على قول الصحة: لا يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، بل يصرف إلى المصالح العامة مصارف الخمس؛ فإنها أعم الخيرات، والأعم أهم.
قال [الإمام]: وعلى هذا لا يتصرف فيه غير الولي على رأي الظاهر، ولا يبعد عن الاحتمال رد ذلك إلى نظر الناظر في الوقف، وقيل: بل إلى مستحق الزكاة غير العامل، وهذا جعله الروياني في "البحر" مع الذي قبله وجهًا واحدًا.
وقيل: بل إلى المساكين؛ لأن سد الخلات أهم الخيرات.
وعلى هذا فهل يقدم جيران الوقف؟ فيه وجهان، أشبههما: المنع؛ لأنا لو
قدمنا بالجوار لقدمنا بالقرابة بطريق الولى، وعلى قول التقديم فالفرق بينه وبين الوجه الذي حكيناه أولًا عن ابن سريج: أن ثمَّ يستحق الجار وإن كان غنيًا على رأي، وهاهنا لا بد أن يكون فقيرًا.
قال الإمام: وينقدح على هذا القول –يعني القول بعدم تقديم الجار –جواز نقل الريع عن مساكين البلد، ومنع ذلك؛ تخريجًا على اختلاف القولين في نقل الصدقات.
وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن الوقف يعود ملكًا للواقف، والله أعلم.
ومن صور هذا القسم: أن يوقف على قوم يمكن انقراضهم، كما إذا قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولادهم. ولم يقل بعد ذلك شيئاً آخر.
وألحق بعضهم ما إذا قال: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على هذا المسجد، [أو:] هذه القنطرة المعينة، أو: على هذا الرباط، ومنهم الماوردي، وكذا إذا جعل الوقف ابتداء على مسجد وقنطرة ورباط معين، كما ذكره القفال في "فتاويه".
وبعضهم ألحق ذلك: بما إذا جعل المال للفقراء أو المساكين أو المساجد أو القناطر أو الرباطات، من غير تعيين أو وقف على ذلك ابتداء؛ فإنه وقف صحيح [في المال] والابتداء جزمًا، والقاضي الحسين حكى الوجهين فيما إذا جعل النهاية المسجد الجامع، وطردهما في "التهذيب" في الصور كلها، وفصل المتولي في الوقف على مسجد بعينه [أو رباط بعينه]، فقال: إن كان يبعد في الوهم خراب ذلك الموضع بأن كان في وسط بلدة صح، وإن كان لا يبعد في الوهم ذلك بأن كان في قرية أو على جادة فهو منقطع الانتهاء، فإذا خرب صرف إلى مسجد آخر، وإذا جعل الصرف إلى جهة العلماء نهاية الوقف صح [الوقف]؛ كما لو جعل نهايته لقراء القرآن والمجاهدين أو للفقراء.
وفي "فتاوى" القفال وخلافه؛ لأنهم قد ينقطعون.
فرع: إذا قال: وقفت على زيد وعلى الفقراء، فذاك ينبني على ما إذا أوصى لزيد وللفقراء، [ووقف النصف الآخر]: فإن جعلناه كأحدهم صح الوقف، ولا يحرم زيد، وإن قلنا: النصف له، صح الوقف في نصف الفقراء، ووقف النصف الآخر منقطع الانتهاء، [فإن لم يصح]، قال الرافعي: فيقع في تفريق الصفقة.
قال: وإن وقف على من لا يجوز [ثم على من يجوز] مثل أن قال: وقفت على هذا العبد، أو على رجل، ثم على أولادي، ثم على الفقراء – فقد قيل: يبطل قولًا واحدًا؛ لأن الأول باطل؛ لعدم إمكان الصرف إليه في الحال، والثاني فرع الباطل، وهذه رواية المزني، وبها قال أبو إسحاق المروزي، وصححها الماوردي والبغوي وصاحب "المرشد".
وقيل فيه قولان أي: كالمسألة قبلها: أحدهما: يبطل؛ لما سبق.
والثاني: يصح؛ لأن الأول لما بطل صار كالمعدوم فصار الثاني كأنه مبتدأ به، وهذا الطريق رواه حرملة، وبه قال ابن أبي هريرة، والقاضي الطبري وابن الصباغ حكيا أن أصحابنا بنوا الخلاف على الخلاف في تفريق الصفقة، كما إذا باع عبده وعبد غيره، ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح من القولين الصحة، وعلى ذلك جرى في "البحر"؛ فقال: إن المذهب الجواز. لكنه بنى الخلاف على أن البطن الثاني ممن يتلقون؟ فإن قلنا: من البطن الأول، لم يصح، وإلا فهو على الخلاف في تفريق الصفقة.
وحكى القاضي الحسين عن شيخه: أنا إن لم نصحح الوقف في المسألة الأولى فهاهنا أولى، وإن صححناه ثم فهاهنا وجهان، والفرق: أن هناك نقله إلى من يصح الوقف عليه للابتداء، وهو الأصل فسومح في الفرع، وهنا عكسه.
ورأي الإمام عكس هذا البناء فقال: إن قلنا: إن منقطع الابتداء لا يصح، فمنقطع الانتهاء أولى، وإن قلنا: منقطع الابتداء يصح، ففي منقطع الانتهاء وجهان؛ لأن وضع الوقف على أن يدوم، وليس في منقطع الأول إلا أن مصرفه منتظر.
قال الرافعي: والظاهر البطلان وإن ثبت الخلاف.
وعلى مقابله قال الشيخ: فإن كان ممن لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه كالمجهول أي: مثل إن وقف على رجل غير معين صرفت اللغة إلى من يجوز الصرف عليه، أي: في الحال؛ كي لا تبطل فائدة الصحة. وإن كان ممن يمكن اعتبار انقراضه كالعبد فقد قيل: يصرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ إذ الأول كالمعدوم فانتقل [الوقف] إلى من بعده، وقيل: لا يصرف [إليه إلى أن] ينقرض أي: ويكون الريع للواقف وإلى ورثته [و] إن كان قد مات؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليه فلا ينتقل، وهذا هو المنصوص في "حرملة". وقال ابن الصباغ: إنه بعيد. وقال الشيخ أبو حامد: إنه المذهب.
فعلى هذا ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان:
أحدهما: يثبت؛ لأنه يجزه ولكن تأخر الاستحقاق.
والثاني: لا يثبت، بل هو ملك، وسبيله سبيل المعلق عتقه بصفةٍ.
وقيل: يكون [لأقرباء] الواقف [إلى أن] ينقرض، ثم يصرف إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأنه لا يمكن رده إلى الواقف؛ لأنه أزال ملكه فيه، ولا يمكن صرفه لمن يصح عليه الوقف؛ لأنه لا يوجد شرط الانتقال إليه، وهو انقراض العبد؛ فكان أقرباء الواقف أحق به، وهذا هو الأقيس في "الشامل"، وإذا قلنا به جاءت التفاريغ المتقدمة.
وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا: أنه يصرف للفقراء والمساكين، ويبدأ [منه بأقرباء الواقف.
وحكى الفوراني وجهًا: أن مصرفه إلى أن ينقرض من لا يجوز الواقف عليه؛ كالمصرف] في المنقطع الآخر، وهذا الوقف يسمى منقطع الابتداء، ومن صوره –كما قال الماوردي-: ما إذا وقف على ورثة زيد وزيد حي، ثم على الفقراء.
وبقى خارجًا عما ذكره الشيخ أقسام:
قسم يكون الوقف فيه صحيح الابتداء والوسط والانتهاء:
وهو أن يوقف على ولده الموجود مثلًا، وعلى من يحدث له من الأولاد، ثم على أولادهم وأولاد أولادهم، وغير ذلك، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، فهذا صحيح جزمًا، وكذا إذا وقف على مدرسة موجودة ثم على مدرسة يستجدها، ثم على الفقراء، كما قاله القاضي الحسين.
وقسم منقطع الابتداء والانتهاء والوسط:
مثل: أن يوقف على عبد، ثم على رجل، ثم على أهل الحرب والقطاع، فهذا لا يصح جزمًا.
وقسم صحيح الابتداء والانتهاء منقطع الوسط:
مثل أن يقول: وقفت على ولدي، ثم من بعده على رجل أو عبد، ثم من بعده على الفقراء، فهذا يترتب على المنقطع الانتهاء.
فإن قلنا: إنه يصح، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والأصح – كما قال القاضي الحسين -: الصحة.
وقد مثل القاضي هذا القسم بما إذا وقف على زيد، فإذا مات ولد زيد فعلى الفقراء.
فإن قلنا بالصحة فالحكم في حال انتهاء الوقف إلى من لا يجوز الوقف عليه؛ كالوقف المنقطع الابتداء.
وقسم منقطع [الابتداء] والانتهاء وصحيح الوسط:
مثل: أن يقف على رجل، ثم على أولاده، ثم على المرتدين، فهذا يترتب على الوقف المنقطع الأول، وهاهنا أولى بالبطلان، وهو الأظهر.
وقسم منقطع الابتداء والانتهاء ولا وسط له:
كما إذا وقف على رجل غير معين، أو على من يختاره فلان، أو على من يولد له،
أو على مسجد سيبنيه، قال في "التهذيب": فهو غير صحيح على الصحيح من المذهب.
قال: وإن وقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء، فرد الرجل أي: أصل الوقف بطل في حقه؛ لأن الوقف يتضمن إيجاب حق للموقوف عليه، وليس للواقف ولاية إيجاب الحق [له] بغير رضاه.
[قال]: وفي حق الفقراء مأخذهما: أن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف أم من الموقوف عليه أولًا؟ وفيه خلاف سبق.
فإن قلنا بالأول صح، وإلا فلا، والقاضي أبو الطيب بناه على تفريق الصفقة، وعلى كلتا الحالتين فالبناء يقتضي أن يكون الصحيح الصحة.
واعلم أن الأصحاب اختلفوا في أن الوقف على معين هل يفتقر إلى القبول أم لا؟ على وجهين، مع اتفاقهم أن الوقف على الجهة العامة كالفقراء والمساكين والرباطات لا يشترط فيه القبول، لتعذره، مع أنه شبيه بالتحرير.
فأحد الوجهين –وهو الأصح عند الإمام وغيره، وبه جزم الفوراني -: الاشتراط؛ لأنه يبعد دخول عين أو منفعة في ملكه من غير رضاه، وعلى هذا فليكن متصلًا بالإيجاب كما في البيع والهبة، وسيأتي في الهبة حكاية وجه في عدم اشتراط القبول فيها على الفور، ولا يبعد [مجيء مثله] هنا.
والثاني: لا يشترط، واستحقاق الموقوف عليه كاستحقاق العتيق منفعة نفسه، وهذا ما اقتضى إيراد صاحب "التهذيب" ترجيحه، وبه أجاب في "الاستقصاء"، والروياني في "البحر" حيث قال: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول، ولكن لا يملك عليه إلا باختياره، ويكفى الأخذ دليلًا على الاختيار في أول دفعة، ولا يشترط تكرره، وخصص في "التتمة" الوجهين بما إذا قلنا: إن الملك في الوقف
منتقل إلى الموقوف عليه، أما إذا قلنا بغيره فلا يشترط.
وكلام الشيخ هنا يجوز أن يكون مفرعًا على عدم اشتراط القبول؛ لأنه لو كان مفرعًا على اشتراطه فالرد إما أن يكون قبل القبول أو بعده، فإن كان بعده لم يكن صحيحًا؛ للزوم الوقف، والوقف بعد لزومه لا يرد، وإن كان قبله فإحالة البطلان على عدم ركن العقد –وهو القبول- أولى من إحالته على غيره وهو الرد، ويجوز أن يكون تفريعًا على اعتبار القبول، وعبر بالرد عن عدم القبول؛ لأنه إذا كان شرطًا ولم يأت الموقوف عليه به فقد رده، أو يكون الرد بعد القبول، ولا نقول: إنه بالقبول لزم، ويكون معنى قول الشيخ: فإذا صح الوقف لزم أي: من جانب الواقف؛ ولهذا نقول: إنه إذا وقف الشقص المشفوع صح، وللشفيع نقض الوقف، وحينئذ يكون الخلاف في صحة الوقف على الفقراء وبطلانه هو الخلاف السابق في الوقف المنقطع الابتداء، وأعاده؛ لأنه [في الصورة الأولى جرى لأجل ذلك في الموقوف عليه، وهنا جرى تخلل في العقد، وهذا هو] المذكور في "النهاية" والمفهوم من كلام الأئمة، وقد قال الأصحاب: إن الوقف يبطل بالرد في حق الراد، سواء شرطنا القبول أو لم نشترطه؛ كما في الوصية والوكالة، وقضية قول الشيخ: وإذا صح الوقف لزم ألا يتمكن من الرد، إذا قلنا بعدم اشتراط القبول، وهو ما أبدأه في "التهذيب" عن شيخه احتمالًا، وقال: إنه الأصح عندي، خصوصًا إذا قلنا: إن الملك زائل إلى الله –تعالى – كما لو أعتق عبده فرده.
أما إذا رد الريع دون أصل الوقف، قال في "البحر": إن رد غلة واحدة كان على حقه فيما يحدث بعدها، ويعرض عليه الغلة الأخرى، فإن عاد بعد الرد يطلبها نظر: إن كان بعد إعطائها إلى من رجعت إليه لم يسترجع، وإن كان قبل ذلك ردت إليه.
وحكى فيمن يرجع إليه الغلة المردودة إذا لم يكن شرط من جهة الواقف
وجهين، كما لو مات:
أحدهما: ترد إلى من معه.
والثاني: ترد إلى الفقراء والمساكين.
فرع: لو رد البطن الثاني فيما إذا كان [قد] وقف على زيد، ثم على عمرو، ثم على الفقراء – فهل يبطل برهم مع أنه لا يشترط قبولهم؟ فيه وجهان عند الغزالي وإمامه، وأجرى في "التتمة" الوجهين في اشتراط القبول منهم أيضاً، وبناهما على أنهم يتلقون ممن؟ فإن قلنا: من الواقف، فحكمهم حكم البطن الأول، وإلا فلا، واستحسنه الرافعي، وقال: لا يبعد ألا يتصل الاستحقاق بالإيجاب، ومع ذلك يعتبر القبول كما في الوصية.
قال: وإن وقف وسكت عن السبيل أي: عن جهات المصرف، مثل أن قال: وقفت هذا –وسكت – بطل [الوقف] في أحد القولين؛ لأن الوقف يقتضي التمليك، فإذا لم يعين الملك بطل كما لو قال: بعت، أو: وهبت، وسكت ولم يعين المبيع منه والموهوب له، ولأنه لو وقف على مجهول بطل؛ فإذا أطلق كان أولى، وهذا ما قال الماوردي: إنه أقيس، والقاضي [الحسين] والغزالي: إنه الأظهر، والبغوي والرافعي: إنه الصحيح، والروياني: إنه اختيار القاضي أبي حامد.
ويصح في الآخر؛ لأنه إزالة ملك عن جهة القربة فصح مطلقًا؛ كالأضحية والهدى، وهذا ما مال إليه الشيخ أبو حامد والمصنف وصاحب "البحر"، وقال: إنه منصوص عليه، وغيره نسب القولين إلى نصه في "حرملة".
وعلى الثاني قال الشيخ: ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لما سبق، ويجيء فيه ما تقدم من التفاريع، ومن هو الأقرب، وقد حكى الشيخ أبو حامد أن
الشافعي نص هاهنا على أنه يسوي بين [فقراء] أقرباء الواقف وأغنيائهم، وتابعه المحاملي في ذلك.
ثم إذا انقرضوا، قال في "التهذيب": صرف إلى الفقراء والمساكين. والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل": أنه يصرف ابتداء [إلى الفقراء والمساكين، فيبدأ][بأقاربه المحتاجين؛ لأنهم أولى بصدقته؛ كما لو أوصى بثلث ماله مطلقًا، ولم يذكر الموصى له يصرف] للفقراء والمساكين، ويبدأ بأقاربه.
وفي "الحاوي" أن ابن سريج حكى في مصرفه ثلاثة أوجه:
أحدها: ما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب، وزاد أنه يقدم أقرب الناس إليه نسبًا ودارًا من ذوي الحاجات، وهذا ما صححه الماوردي.
والثاني: يصرف إلى وجوه البر والخير؛ لعموم النفع بها.
والثالث – وهو المذهب -: أن الأصل وقف المنفعة له ولورثته وورثة ورثته ما بقوا، فإذا انقرضوا كانت في مصالح المسلمين، وكأنه وقف الأصل واستثنى المنفعة لنفسه ولورثته انتهاء.
وحكى المتولي: أنه إذا أوصى بثلث ماله ولم يعين الجهة كان في صحة الوصية الخلاف المذكور.
فرع: لو قال: نصف داري هذه صدقة محرمة ليصرف من غلتها إلى فلان كل شهر كذا –ولم يزد –ففي صحة الوقف وجهان، إن صح ففي الفاضل عن المقدار ثلاثة أوجه:
أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف.
والثاني: الصرف إلى الفقراء.
والثالث: الصرف إلى الواقف.
قال: ولا يصح الوقف إلا بالقول أي: سواء كان الوقف يضاهى التحرير، كوقف
البقعة مسجدًا، أو لا يضاهيه ويتضمن نقل الملك كالوقف على معين، أو على الجهات العامة؛ لأنه إزالة ملك عن منفعة عين، أو عن عين ومنفعة على وجه القربة تبرعًا؛ فلم يصح بغير لفظٍ مع القدرة كشراء القريب والعتق.
واحترزنا بلفظ "القربة" عن قضاء الديون وتقديم الطعام للضيف، وبلفظ "التبرع" عن الزكوات وكفارات، وبلفظ "القدرة" عن الأخرس؛ فإنه إذا عجز عن النطق صح منه الوقف بالإشارة المفهمة.
قال المتولي ويخالف البيع حيث أثبتنا حكمه على طريقة بدون لفظ؛ لأن البيع كان معهودًا في الجاهلية والشرع ورد بإباحته فجرى عليه، والوقف لم نعهده في الجاهلية فاتبع فيه ما ورد في الشرع وهو اللفظ.
قال: وألفاظه أي: الصريحة وقفت؛ لأنه موضوع له ومعروف به، وحبست وسبلت؛ لأنه ثبت لهما عرف الشرع بدليل حديث عمر.
قال المتولي: ولأنهما تكررا في عرف الصحابة؛ فما نقل عنهم الوقف إلا بهذين اللفظين. وهذا هو الصحيح.
وقيل: إن الألفاظ الثلاثة كناية، حكاه ابن كج عن رواية أبي حامد وأبي الحسين، وقد نسب هذا إلى الإصطخري، وبعضهم ينسب إليه أن لفظ:"التحبيس" و"التسبيل" كنايتان دون لفظ "الوقف".
وبعضهم نسب إليه أن لفظ "التسبيل" خاصة كناية؛ تمسكًا بأنه –عليه السلام – غاير بين اللفظين في قصة عمر: فاستعمل التحبيس في الأصول، والتسبيل في الثمار التي ليست بموقوفة، وبأن "التسبيل" من "السبيل"، وهو لفظ مبهم، و"التحبيس" معناه: حبس الملك في الرقبة عن [التصرفات المزيلة] فكان في معنى الوقف، وبذلك حصل في المسألة أربعة أوجه، والمذكور في أكثر الكتب: ما ذكره الشيخ، قال في "الإبانة": ويقوم مقام ذلك ما أدى معنى هذه الألفاظ.
قال: وفي قوله: حرمت وأبدت، وجهان:
أحدهما: انهما كنايتان؛ لنه لم يثبت لهما عرف لغوى ولا شرعى، وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو الأظهر في "الرافعي"، والأصح في "تعليق" القاضي الحسين و"البحر".
والثاني: أنهما صريحان؛ لأن التحريم والتأبيد في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف فحمل عليه، وهذا ما اختاره في "المرشد".
وقال المتولي: إن ظاهر كلام الشافعي –رضي الله عنه – يدل عليه؛ فإنه قال: إذا قال في لفظ الصدقة: محرمة مؤبدة، انعقد الوقف. فلو لم يكن ذلك صريحًا لما كان مفيدًا للصراحة؛ إذ الكناية إذا اقترنت بها كناية أخرى لا تمنع مقتضاها، وقد ذكر ابن الصباغ ما ذكره المتولي احتمالًا لنفسه، ولا يخفى أن هذا تفريع على أن الألفاظ السابقة صريحة، أما إذا قلنا بأنها كناية أو بعضها فهذا أولى.
قال: وإن قال: تصدقت، لم يصح الوقف؛ لتردد اللفظ بين صدقة التطوع والصدقة الواجبة والصدقة الموقوفة.
قال: إلا أن ينويه أو يقرن به أي: بضم الراء، ويقال: بكسرها ما يدل عليه كقوله: صدقة محرمة، أو: مؤبدة، أو: صدقة لا تباع، وما [أشبه ذلك] أي: مما يدل على إرادة الوقف: كذكر شرط من شروطه، أو حكم من أحكامه؛ لأن به تترجح إرادة الوقف، وحكى الإمام عن بعضهم عدم الاكتفاء بلفظ "التحريم" و"التأبيد" مع لفظ الصدقة، [وأنه لا بد من التقييد بقطع التصرف عن العين كقوله: صدقة لا تباع، أو: لا توهب، أو: لا تورث؛ لأن لفظ "التحريم" و"التأبيد" مع لفظ "الصدقة"] قد يحملان على تأكد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها مستمر لا ينقضه المتصدق.
[قال الرافعي]: ويشبه ألا يعتبر هذا القائل في قوله: صدقة موقوفة، [مثل]
هذا التفصيل، وأن هذا قول من ذهب إلى أن لفظ "التأبيد" و"التحريم"[ليسا] بصريحين.
وحكى عن آخرين: أنهم رأوا أن لفظ "ما" لا يُلحق لفظ "الصدقة" بالصريح؛ لأنه صريح في التملك المحض الذي يخالف مقصوده الذي يخالف مقصوده مقصود الوقف؛ فلا ينصرف إلى غيره بقرينة [لا استقلال] لها، وأشار الإمام إليه – أيضاً –وبه يتحصل في إفادة لفظ "الصدقة" الوقف إذا اقترن به لفظ آخر ثلاثة أوجه، وظاهر المذهب على ما حكاه الإمام-: الذي حكاه الشيخ، وقال: إن الخلاف يجري إذا كان الوقف على معين كقوله: تصدقت على فلان وفلان صدقة محرمة [أو] مؤبدة، أو على جهة عامة كقوله: تصدقت على المساكين صدقة محرمة [مؤبدة] ، وسلك فيما إذا تجرد لفظه عن لفظ آخر واقترنت به النية طريقًا آخر، فقال: إن كانت الإضافة إلى جهة عامة فمنهم من ينزل النية منزلة التقييد باللفظ؛ إقامة للفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق، وهو الذي صححه الرافعي، ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريح في تمليك الرقبة، وإن كانت الإضافة إلى معين فالأصح أنه صدقة مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريح في الباب، وأن لفظ التحريم إذا قلنا: إنه ليس بصريح، فاقترنت به النية –يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس بتمليك للرقبة. وما قاله في اقتران النية عند الإضافة إلى جهة عامة لا اعتراض عليه؛ لأنه لا شيء غيرها يصرف اللفظ إليه فانصرف إلى الوقف، وما قاله من الإضافة إلى معين: إن فرضه مع كونه لم يذكر مالًا فصحيح؛ لأن الوقف الذي لا مال له غير صحيح عنده على الأصح، وقد وجد لفظ "الصدقة" نفاذًا [في موضوعه، فترتب عليه مقتضاه، ولا يجوز نقله عن] موضوعه لمجرد النية. وإن فرضه وقد ذكر له مالًا صحيحًا، فذكر المال قرينة ظاهرة على إرادة اللفظ؛ فنزل منزلة اقتران لفظ الصدقة بلفظ التحريم أو التأبيد؛ فلا يظهر الفرق في الحكم معنًى، وما أطلقه العراقيون من الاكتفاء بالنية
يجب حمله على ما إذا كانت الإضافة إلى جهة عامة إذا فرعنا على [أن الوقف المنقطع الانتهاء صحيح]، فلا فرق بين الجهة العامة والإضافة إلى معين.
وأصل الاختلاف بين العراقيين والمراوزة عند وجود مجرد النية يرجع إلى أصل، وهو أن لفظ الصدقة إذا تجرد عن القرائن والنية هل يحمل على الهبة أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي:
أحدهما – وبه قال البغداديون-: لا؛ كما لا يحمل على الوقف، وعلى هذا ينتظم ما قاله العراقيون من أنه إذا نوى حصل الوقف في الظاهر دون الباطن، فإن ذكر بأنه نوى لزم في الظاهر والباطن، وإن قال: ما أردت الوقف، قبل منه، فإن أنكر [ذلك] الموقوف عليه كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه أعرف بنيته، كذا قاله ابن الصباغ.
والوجه الثاني – وبه قال البصريون-: أنه يحمل على الهبة، وعلى هذا تجري مباحث الإمام، والله أعلم.
تنبيه: يؤخذ من كلام الشيخ أن الألفاظ التي [ينعقد بها] الوقف ستة، كما صرح به أبو الطيب والماوردي وغيرهما: ثلاثة ألفاظ صريحة وهي الأُوَل، ولفظ واحد كناية جزمًا وهو الأخير، ولفظان مختلف في إلحاقهما بالأول أو بالأخير، وإذا كان كذلك لزم ألا ينعقد بلفظ غيرها، سواء كان مضاهيًا للتحرير كالمساجد أو لا، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين والمتولي في موضع من كتابه والبغوي، ولم يحكوا سواه، وأن الوقف لا ينعقد بقوله: جعلت هذه البقعة مسجدًا؛ لأنه لم يوجد شيء من ألفاظ الوقف، وكذا أجاب به الأستاذ أبو طاهر، وقال: لأنه وصف البقعة بما هي متصفة به، قال – عليه السلام:"جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا"، وكلام الغزالي في الوجيز ظاهر في أنها تصير مسجدًا بذلك، وإن لم يوجد شيء من ألفاظ الوقف؛ فإنه قال: لو أذَّ للصلاة في ملكه لم يصر مسجدًا [بذلك]، [وكذا إذا صلى]
[ما لم] يقل: جعلته مسجدًا، وكذا المتولي في أوائل هذا الباب قال: إن عندنا يلزم الوقف بمجرد قوله: جعلت هذا الموضع مسجدًا. وحكى الإمام أن الأصحاب ترددوا في استعمال لفظ الوقف فيما يضاهي التحرير كما إذا قال مالك المنفعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهي [يبغي جعلها] مسجدًا.
قال الرافعي: فانظر ما بين الكلامين من التباعد.
والأشبه: أنه لا [بأس باستعمالي لفظ الوقف، وأن قوله: جعلته مسجدًا يقوم مقامه؛ لإشعاره بالمقصود، واشتهاره [به].
قلت: وقد صرح في "الوسيط" بأن لفظ "الوقف" و"التحبيس" و"التسبيل" يستعمل فيها، وإن حكى الخلاف في الصورة التي حكاها الإمام، ومحل التردد الذي ذكرناه إذا خلا عن نية الوقف، أما إذا قصد بقوله: جعلتها مسجدًا، الوقف – صارت مسجدًا، صرح به القاضي الحسين، وكذا محله إذا كان ملكه على الأرض مستقرًّا قبل إرادة جعل البقعة مسجدًا، أما إذا ابتدأ بناء مسجد في موات ونوى به المسجد صارت مسجدًا، ولم يحتج إلى صريح القول بأنه مسجد، قال في "الحاوي": لأن الفعل مع النية يغنيان عن القول، ويزول ملكه عن الآية بعد استقرارها في مواضعها من البناء، وهي قبل الاستقرار باقية على ملكه، إلا أن يصرح قولاً: إنها للمسجد؛ فتخرج عن ملكه، ولو بنى بعضه لم يجبر على التمام، ولو سقط على إنسان لم يضمنه، سواء أستأذن الإمام أم لا.
قال: وإذا صح الوقف لزم أي: ولا يفتقر إلى القبض كما صار إليه بعض العلماء، ولا إلى حكم حاكم كما صار إليه أبو حنيفة، ووجهه: ما ذكرناه في أول الباب من حديث عمر، رضي الله عنه.
ووجه التمسك به على الأول: أنه لما أمره – عليه السلام – بتحبيس الأمل
وتسبيل الثمرة لم يأمره بالإقباض، ولو كان شرطًا لذكره، [و] لأنه جعل إليه التحبيس، وعند المخالف: لا يملك الواقف التحبيس؛ لأنه لا يصير موقوفًا لازمًا حتى يقبضه غيره، وذلك سبب من جهته.
ووجه التمسك [به] على الثاني من وجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يحبس الأصول، وعند المخالف لا يقع تحبيس الأصل بحال؛ لأنه لا يلزم إلا من جهة الحاكم.
والثاني: أن عمر – رضي الله عنه – لما جعلها صدقة، ثم ذكر أحكامها فقال:"لا تباع، ولا توهب، ولا تورث" – دل على أن هذه الأحكام تتعلق بها إذا صارت صدقة، وإن لم يحكم بها حاكم، ولأنه تصرف يلزم إذا وجد في حال المرض من الثلث؛ فجاز أن يلزم في حال الصحة من غير حاكم.
أصله: إذا بنى مسجدًا؛ فإنه يلزم من غير حاكم.
وقال بعض أصحابنا: إذا اعتبرنا القبول في الوقف فلا بد من القبض فيه، وهو ما أفهمه كلامه في "المهذب" في باب الوصية حيث قال في توجيه رد الوقف بعد القبول:[إنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل؛ فيصح رده قبل القبض؛ كالوقف وهو فيه متبع للماوردي كما ستعرفه].
ثم قال: وإن شرط فيه الخيار أو شرط أن يبيعه إذا شاء بطل؛ لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذين الشرطين؛ كالصدقة والعتق، وحكى ابن سريج [وجهًا]: أنه يبطل شرط البيع، ويصح أصل الوقف، كذا حكاه الماوردي، ويوافقه مع حكاه ابن كج عنه فيما إذا وقف على نفسه: أنه يصح الوقف ويلغى الشرط والإضافة إلى نفسه، وفي "الرافعي" أن ابن سريج أبدى ذلك احتمالاً لنفسه في الصورتين، وحكى في باب الهبة وجهًا: أن الوقف لا يبطل بسائر الشروط الفاسدة، مخرَّجًا عن مسألة العُمْرَى، كما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى.
وله وجه مما ذكرناه في أن الوقف يضاهي العتق، وحكاه عن الإمام في باب عقد الهدنة أيضاً، وحكى الجيلي عن "المجرد" وجهًا: أن خيار الشرط يصح.
قال: ولا يجوز أن يعلق ابتدؤه على شرط، فإن علقه على شرط أي: مثل أن قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته على الفقراء، وإذا جاء رأس الشهر فقد وقفته على ولدى ثم على الفقراء.
قال: بطل؛ لأنه عقد يقتضي نقل المال في الحال لم يُبْنَ على التغليب والسِّراية؛ فلم يصح تعليقه على شرط؛ كالبيع والهبة، وهذا ما حكى الإمام والغزالي عن العراقيين القطع به؛ لأنه لم يوافق مصلحة الوقف، بخلاف المنقطع الابتداء.
وحكى الإمام في موضع آخر عن بعض المراوزة تخريجه على الخلاف المذكور فيما إذا وقف على من سيوجد من أولاده، ثم على الفقراء، وهو المنقطع الابتداء، وأن التصريح أولى بالفساد، وعلى هذا يكون حكمه كما تقدم.
وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إن وجه الصحة مبني على أن الوقف لا يثبت بالشاهد واليمين؛ فيكون شبيهًا بالعتق، والعتق يصح تعليقه.
ويقرب منه ما حكى الإمام عن شيخه أنه قال: وقعت في "الفتاوى" مسألة في زمان الأستاذ أبي إسحاق، وهي أن من قال: وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ بأن الوقف يقع بعد الموت وقوع العتق في المُدَبَّر. وساعَدَهُ أئمةُ الزمان.
قال الإمام: وهو تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرف بعد الموت.
فإن قيل: قد تقدم في [باب] الوكالة أنه [لو] قال: جاء رأس الشهر فقد وكلتك، لم يصح؛ لأن هذا تعليق الوكالة، وهو غير جائز.
ولو قال: وكلتك بأن تبيع مالي أو تطلق زوجتي بعد شهر، صح؛ لأنه ليس بتعليق، وذلك يدل على الفرق بين اللفظين.
قلت: تصوير الإمام التوكيل في الحال وتعليق التصرف على شرط – كما ذكرناه في باب الوكالة يُنجي من هذا السؤال.
وقد حكى الرافعي عن "فتاوى" القفال في "الفتاوى" في المسألة التي أفتى فيها الأستاذ: أنه لو أوصى بالدار بعد ذلك كان رجوعًا.
قال: وإن عُلق انتهاؤه على شرط بأن قال: وقفت هذا إلى سنة أي: وذكر مصرفًا صحيحًا بطل الوقف في أحد القولين؛ لأنه إخراج مال عن ملكه على وجه القربة فلم يصح إلى مدة؛ كالعتق والصدقة، لكن العتق نافذ والصداقة، وهذان باطلان، وهذا ما حكاه في "المهذب" لا غير.
وقال الإمام: إنه المذهب الذي عليه الفتوى وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر، فإن تصحيح ذلك يقرب من التأبيد؛ نظرًا [إلى الموقوف] عليه وتشبيهًا بالنكاح، وأما التصريح بالتأقيت فلا اتجاه له.
قال: ويصح في الآخر، ويصرف [بعد السنة] إلى أقرب الناس [إلى الواقف]؛ تشبيهًا له بالمنقطع الانتهاء، وقد ادعى الجيلي أنه الأصح في أكثر
الكتب، وعلى هذا تجيء التفاريع السابقة.
وعن بعض الأصحاب: أنه يصح وينتهي الوقف بانتهاء المدة، كما قلنا في الوقف المنقطع الانتهاء.
قال الإمام: [وهذا] لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق عارية، والعارية يستحيل الحكم بلزومها.
ومنهم من قال: الوقف الذي لا يشترط فيه القبول لا يفسد بالتأقيت على أحد الوجهين، ويتأبد على أحد الوجهين، والذي يشترط فيه القبول على رأي بعض الأصحاب الأصح [فيه] أنه يفسد بالشرط الفاسد في العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول، وما هو من قبيل التحرير كالمساجد والمقابر فلا يفسد بفساد الشرط والتأقيت جزمًا، وما عداه مُطَّرح، كذا قاله الإمام في موضع، وعليه جرى في "الوسيط"، ولو شرط أن يعود الوقف إليه بعد السنة ملكًا فعن البويطي: أنه على قولين؛ أخذًا من مسألة العُمْرى والمذهب البطلان، وعلى قول الصحة يتأبد حكمه كحكم الوقف المنقطع الانتهاء.
وقيل: يعود إليه ملكًا بعد السنة، صرح به في "الإبانة" وغيرها.
قال: وينتقل الملك في الرقبة بالوقف عن الواقف في ظاهر المذهب؛ لأنه سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة بالوقف؛ فأزال الملك كالعتق، وهذا أصح في الطرق، وعليه فلمن ينتقل؟
قال الشيخ: فقيل: ينتقل إلى الله تعالى؛ لأنه معنى يزيل الملك، ولا يقصد به الانتفاع بالرقبة؛ فانتقل إلى الله تعالى، كالعتق، وهذا ما نص عليه هاهنا.
قال: وقيل إلى الموقوف عليه؛ لأن ما أزال الملك عن العين لم يزل المالية نقله إلى الآدمي؛ كالصدقة، وهذا لم يذكره البندنيجي والمصنف في "المهذب"، وأورده القاضي أبو الطيب وغيره، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه – في
الشهادات: أقضي في الوقف بالشاهد واليمين، ولا أقضى في العتق بشاهد ويمين، والقائلون بالأول قالوا:[قبول] الشاهد واليمين فيه ليس لأجل أن الملك في الرقبة قد انتقل إلى الموقوف عليه؛ بل لأن المقصود منه المال، وما كان مالاً أو المقصود منه المال ثبت بالشاهد واليمين، وليس كذلك العتق؛ لأنه ليس بمال ولا المقصود ومنه المال؛ فلا يدخل فيه الشاهد واليمين، على أن بعضهم منع ثبوت الوقف بالشاهد واليمين.
قال: وقيل: فيه قولان، ووجههما: ما ذكرناه، وهذا أظهر الطرق، وعليه أكثر الأصحاب كما حكاه في "البحر"، والصحيح عند الجمهور – وإن ثبت الخلاف -: انتقاله إلى الله تعالى، وفي "الحاوي" تضعيف خلافه.
ومقابل ظاهر المذهب قول حكاه الفوراني والقاضي الحسين والإمام عن رواية بعض الأصحاب: أن الملك لا ينتقل، بل يبقى على ملك الواقف؛ لأنه حبَّس الأصل وسبَّل الثمرة، وذلك لا يوجب زوال الملك – أيضاً – وقد قال – عليه السلام: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثٍ، صدقة جارية
…
" الحديث، وإنما يحصل له الثواب إذا كانت الرقبة باقية على ملكه؛ فتحصل له الزوائد والفوائد، ثم تصرف من ملكه في وجوه البر، فيحصل الثواب.
وحكى في "الحلية" عن بعض الأصحاب القطع به، وبه قال القاضي الحسين في "تعليقه"، وهذا لا يوجد للشافعي – رضي الله عنه – وكذلك البندنيجي أيضاً: أنه لا يعرف مذهبًا للشافعي، رضي الله عنه.
وفي "الحاوي": أن القائل به أبو حفص بن الوكيل، وادعى القاضي أبو الطيب والمتولي أن ابن سريج خرَّجه، وكذلك الرافعي قال: إنه مخرج من نص الشافعي
- رضي الله عنه – على صحة الوقف المنقطع، وأنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، وأنه يحكي عن اختيار القاضي الحسين، وأشار إلى المتولي فإنه حكى ذلك [عنه]، والذي رأيته في "تعليقه": تضعيفه، وكذلك هو في غيره، وتمسك فيه الماوردي بأمرين:
أحدهما: إجماعهم على الفرق بين الوقف والعواريِّ، دليلٌ على زوال الملك بالوقف وإن لم يزل بالعواري.
والثاني: أن حكم الوقف بعد موت واقفه كحكمه في حياة واقفه، وهو لا يبقى له بعد الموت ملك؛ فدل على أنه لم يكن له في حال الحياة ملك.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الوقف على معين أو على جهة عامة [كالمساكين] إذا كان القصد تمليك ما يحصل من الوقف من ثمرة وغَلَّة [للمساكين].
وفي "الوجيز" ما يخرج [منه] طريقة أخرى، وهي أن الوقف إن كان على معين فهو ملك للموقوف عليه بلا خلاف، وإن كان على جهة عامة فالملك لله تعالى بلا خلاف.
وفي "الحاوي" حكاية الخلاف في الوقف على معين، والجزم بأنه ينتقل إلى الله تعالى في الجهة العامة، أما ما لا يقصد به تمليك الرَّيْع كجعل البقعة مسجدًا أو مقبرة فذاك فلكُّ عن الملك كتحرير الرقيق؛ فينقطع عنها اختصاص الآدميين، وليس ذلك موضع الخلاف. ويلتحق بذلك – كما حكاه الإمام-: الرباطات والمدارس.
واعلم أن الموجود في أكثر نسخ "التنبيه": "وينتقل الملك في الرقبة بالوقف عن الواقف في ظاهر المذهب، وقيل: إلى الله" بالواو، والمضبوط عن نسخة المصنف بالفاء كما ذكرناه، وهو الصواب، وبه ينتظم الكلام.
قال: ويملك الموقوف عليه غلة الوقف أي: من ثمرة وأغصانٍ جرت العادة بقطعها كشجر الخِلَاف.
قال: ومنفعته وصوفه ولبنه أي: وإن قلنا: إن الملك في الرقبة إلى الله تعالى أو للواقف؛ لأنه ليس مقصود الواقف إلا التقرب إلى الله – [عز وجل] – بذلك.
قال المتولي: ولأنها لو لم تملك لصارت العين معطلة مُسَيَّبة، وقد قال الله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103].
والسائبة – كما قال القاضي أبو الطيب-: أن تلد الناقة عشر بطون كلها إناث، فتُسَيَّب ولا تُحْلَب إلا للضيف، ولا تُرْكب.
والبحيرة: ولدها الحادي عشر إذا كان أنثى، وسمي بذلك؛ لأنهم يبحرون أذنها، أي يشقونها، والبحر: الشَّقُ.
والوصيلة: الشاة تلد خمس بطون، في كل بطن عناقان، فإذا ولدت بطنًا سادسًا قالوا: أوصلت أخاها. فما ولدت بعد ذلك يكون حلالاً للذكور حرامًا على الإناث.
والحام: الفحل ينتج من ظهره عشر بطون، فيُسَيَّب، ويقال: حمى ظهره؛ فلا يركب.
وإذا ثبت أن ذلك مملوك للموقوف عليه كان له أن يستوفيه بنفسه وبالإجارة والإعارة إذا أمكنت كسائر الأملاك، كما صرح به المتولي، اللهم إلا أن يكون الوقف على أن ينتفع به، كما إذا وقف دارًا على أن يسكنها من يعلِّم الصبيان في هذه القرية؛ فإنه ليس له أن يسكنها غيره بأجرة وبدونها، وكذا إذا وقفها على معين، على المذهب المقطوع به.
وذهب بعض الأصحاب في هذه الصورة – كما حكاه الإمام – إلى أن الشرط فاسد، وهل يفسد الوقف؟ فيه وجهان، فإن صح كان على حكم الإطلاق.
ولو كان الواقف شرط أن يستغل ويصرف [غلته إلى فلان]، فإنه يتعين الاستغلال، ولا يجوز [له] أن يسكنه.
وما ذكرناه [من اللبن] والصوف، وكذا في النتاج – على ما سيأتي – مفروضٌ فيما إذا أطلق الوقف أو شرط ذلك للموقوف عليه، أما إذا وقف دابة على [ركوب] إنسان ولم يشترط [له] الدَّرَّ والنَّسْل، ففي "النهاية": أن من أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يفسده، ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يَعُمُّ.
وفي "الإبانة": أنه لو وقف دابة على رجل للركوب، ولم يجعل درها ووبَرها للموقوف عليه – فللموقوف عليه الركوب وليس له الدَّر والوبر، وحكم الدّر والوبر حكم ما لو وقف شيئاً على زيد ولم يقل بعده على من، ومات زيد.
وفي "الرافعي": أن صاحب "التهذيب" قال ينبغي أن تكون للواقف. وهذا أوجه؛ لأن النسل والدّر لا يصرف لهما أولاً ولا آخرًا؛ بل هما غير داخلَيْن في الوقف، ونَظَّر جواز الوقف ببعض الفوائد والمنافع خاصةً بما إذا وُقفَ ثور للإنزاء، وقد قالوا: إنه جائز، ولا يجوز استعماله في الحراثة، ولا خلاف أنه [لو] جعل الركوب لشخص والصوف لآخر جاز، وصرح به الإمام.
قال: وإن كانت جارية لم يملك وطأها: إما لانتفاء الملك، أو لنقصه لا بوطء سابق، والوطء لا يباح إلا بزوجية [أو ملك] تام، وبالقيد الأخير يخرج وطء أم الولد؛ لأن نقصان الملك فيها حصل بالوطء السابق، ولا يلزم جواز وطء العبد الجارية التي مَلَّكها له السيد بإذنه على [التقديم]؛ لأن الملك ثَمَّ غيرُ ناقص،
وإنما الناقص المالك، وهي كجارية المجنون يطؤها ولا يتصرف فيها لنقصانه، فلو وطئها فلا حد [عليه] للشبهة، وكذا لا مهر؛ فإنه لو وجب لوجب له، فلو أحبها فالود حُرُّ على كل قول، كما صرح به ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والبندنيجي، والروياني وقال: إن هذا على القولين معًا. أي قولنا: إن الملك لله تعالى، أو للموقوف عليه، وقال الرافعي: الأصح: أن ذلك ينبني على أقوال الملك، فإن قلنا: إن الملك له، فلا حد عليه، وإلا فعليه الحد، ولا عبرة بملك المنفعة؛ كما لو وطئ الموصى له بالمنفعة الجارية. وهذه طريقة المتولي واختارها القاضي الحسين بعد أن قال:[قال] أصحابنا: لا حد عليه. وما ذكره الرافعي في الأمة الموصى بمنفعتها يفهم أنه لا خلاف في وجوب الحد عليها، وليس كذلك؛ بل الصحيح عنده – وبه جزم بعضهم، كما ستقف عليه في باب الوصية-: أنه لا حد عليها أيضاً.
ثم قال الرافعي: ولا يجب عليه المهر بكل حال، وإن أحبلها، فإن أوجبنا الحد فهو كولدها من غيره – وسيأتي حكمه – وإن لم نوجبه فهو حر. وهل يغرم قيمته؟ ينبني على أنه [يكون] موقوفًا أم لا؟ فإن قلنا بالأول غرم إذا قلنا: إن الموقوف إذا أتلف [اشترى] بقيمته ما يقوم مقامه، وإلا فلا غرم، وهل تصير الجارية أم ولد [له]؟
ينظر: إن قلنا: لا ملك له، فلا.
[وإن] قلنا: إن الملك له، صارت أم ولد له، جزم به ابن الصباغ.
وقال القاضي الحسين: على الظاهر من المذهب.
وقاله في "الوسيط": على الأصح.
وإيراد الماوردي يقتضي ترجيح خلافه؛ فإنه حكى: أنها لا تصير أم ولد، ثم قال: وكان بعض أصحابنا يجعلها أم ولد له، وإن كان لا ينفذ إعتاقه؛ لأن حكم الاستيلاد
أقوى لكونه يثبت بغير الاختيار.
وقد حكى غيره الوجه في نفوذ إعتاقه.
ثم إذا جعلناها أم ولد عَتَقَتْ بموته، وتؤخذ قيمتها من تركته بلا خلاف، كما قاله البندنيجي والماوردي والمحاملي، والقاضيان أبو الطيب والحسين، وتصرف إلى ثمن جارية تكون وقفًا على قولٍ، وعلى قول تصرف إلى البطن الثاني؛ لأن حالةَ استحقاق القيمة يكون الوقف منتقلاً إليهم، ويكون حكمها كما لو قتل الموقوف [عليه]، وسيأتي.
وحكم الواقف في امتناع الوطء – وإن قلنا: إن الملك له – حكم الموقوف عليه، بل من طريق الأولى؛ لأن المنفعة ليست له، وإذا وطئ وقلنا: لا ملك له، وانتفت الشبهة – واجب عليه الحد، والولد رقيق، ولا تكون الجارية أم ولد، وإن قلنا: الملك له، فلا حد، وإن أتت بولد فهو حر، وفي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن؛ لتعلق حق الموقوف عليه بها، وهاهنا أولى بالمنع، وهو الذي حكاه في "الحاوي"، وكذلك في "البحر" ونسب [غيره] إلى الخراسانيين وقال:[إن] غيره ليس بشئ، والمهر لازم بكل حال.
ولو كان الوطء بشبهة فالود حر، وعليه قيمته، ولمن تكون؟ فيه الخلاف الآتي، وتصير أم ولد إن ملَّكناه على أريٍ، فتعتق بموته، وتؤخذ قيمتها من تركته، وفيما يفعل بها الخلاف الآتي.
واعلم أن كلام الأصحاب يقتضي: أنا إذا حكمنا بكون الجارية الموقوفة أم ولد عند استيلاد الموقوف عليه لا نحكم ببطلان الوقف قبل موته، وكذلك جزموا بأخذ القيمة من تركته.
وقال الماوردي: إنها لو كانت في حياة المستولد لا غرم عليه؛ لأن الوقف باق
لبقاء رقها، وكذلك قالوا فيما إذا حكمنا بكونها أم ولد للواقف إذا استولدها؛ تفريعًا على أن الملك له.
وحكى الإمام [عن الأصحاب] في هذه الصورة: أن بطلان الوقف بعد حكمنا بالاستيلاد يخرج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء أم لا؟
فإن حكمنا بصحته بقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد. ثم حكى عن الأصحاب [أنهم قالوا] في الصورة الأولى: إن بقاء الوقف يخرج على هذا الخلاف، واعترض عليه بأنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه إلا بتقدير نقل الملك إليه بالكلية، مع إثبات الملك الذي أفاده الوقف، ومسافة يوجب إحلالها، فإذا حلت فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف، قيل: فكيف تكون له مملوكة بالوقف ومنتقلة إليه بالاستيلاد؟!
وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليس هذا مما إذا وقع التفريع على أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدته ابتداء فلا يمنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالص ملكه؛ فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح سواه، ومن قال من أصحابنا ببقاء الوقف مع ثبوت الاستيلاد يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه، وهذا خَبْطٌ عظيم، ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف باستيلاد الواقف أو الموقوف عليه كان الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، [وسيأتي]. انتهى.
وهذا خلاف ما ذكره العراقيون والقاضي الحسين والمتولي وغيرهم، والمُحْوِج إليه تقديرُ انتقال ملك مستجد للموقوف عليه، ولا ضرورة بنا إليه؛ لأنا حكمنا بكونها أم ولد لأجل الملك الحاصل له بسبب الوقف، لا بتقدير ملك غيره، والله أعلم.
فرع: إذا أعتق الواقف العبد الموقوف، وقلنا: إن الملك له، لم ينفذ على الأصح، وعلى مقابله وجهان:
أحدهما: تؤخذ قيمته ويشتري بها عبد مكانه.
والثاني: لا، بل يعتق، وتبقى منفعته للموقوف عليه؛ كما لو أوصى برقبة عند لإنسان وبمنفعته لأخر، ثم أعتقه الموصي له بالرقبة – ينفذ عتقه، وتبقى منفعته للموصى [إليه بها]، كذا قاله القاضي الحسين، وأجرى الخلاف في نفوذ عتقه فيما إذا أعتقه الموقوف عليه، وقلنا:[إن] الملك له.
قال: وفي التزويج ثلاثة أوجه:
أحدهما: لا يجوز بحال؛ لأنه ينقص قيمتها ومنفعتها، وربما تتلف بالولادة، وفي ذلك إضرار بمن يأتي، و [هذا] هو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين، و [قد] قال في "البحر": كذا قال عامة الأصحاب، والصحيح في غيرهما خلافه؛ لما في ذلك من تحصينها.
والثاني: يجوز للموقوف عليه لأنه عقد على منفعتها فأشبه الإجارة، وهذا بناء على قولنا: الملك له، ولا يحتاج إلى إذن الحاكم.
والثالث: يجوز للحاكم [أي: بإذن] الموقوف عليه؛ لتعلق حقه بها، وهذا بناء على قولنا: الملك لله تعالى، وهو المختار في "المرشد"، وفي المسألة قول آخر: أنه يجوز للواقف إذا قلنا: الملك له، ويستأذن الموقوف عليه، وهذا جواب المعظم، وفي "الوسيط": أن السلطان إذا زوج هل يستشير الموقوف عليه، [وفي أنه هل يستشير الواقف ويلزم مثله في استشارة الواقف إذا زَوَّجَ الموقوف عليه]، وقد صرح به مجلي.
وفي "الحاوي": أن ولاية التزويج للوالي على الوقف، سواء كان أجنبيًا، أو
الواقف، أو الموقوف عليه، أو الحاكم، وبه جزم.
فرع: لا يجوز للموقوف عليه أن يتزوجها إن قلنا: [لا ملك] له، وإن قلنا [الملك له]، فقد قيل بجوازه، وهو ما جزم به الإمام، وصاحب "الوسيط"، وفي "الرافعي": أن الظاهر المنع.
ثم على قولنا بامتناع التزويج بناء على أن الملك له: لو تزوج بأمة، ثم وقفها سيدها عليه فهل ينفسخ النكاح؟ فيه وجان قربهما الإمام مما إذا ملك الابن زوجة أبيه، والمكاتب زوجة سيده، مع أنهما ممنوعان من التزويج ابتداء.
قال: وإن وطئت أي: بشبهة أو مكرهة أخذ الموقوف عليه المهر؛ لأنه بدل منفعتها، وهكذا الحكم إذا زُوِّجت، وادعى القاضي الحسين فيه نفي الخلاف، وفي "الحلية"[في الأولى] ثلاثة أوجه، هذا أحدها، ولم يُبِنْ ما عداه، ولم أره في غيره.
قال مجلي: ويحتمل أن يكون الآخران:
أحدهما: يُشترى به عبد، ويكون وقفًا.
والثاني: يكون للواقف كما جعلنا التزويج إليه على قولٍ.
قلت: ويظهر فيهما شيء آخر إن صح النقل، وهو أن يقال: الوقف إنما يقتضي تمليك المنافع المعتادة كما قلنا: إذا أوصى له بمنفعةِ جاريةٍ لا يملك الموصَى له منفعة البُضْع على وجه؛ لأن الوصية إنما تقع بالمنافع المعتادة، ومنفعة البضع ليست منها، وإذا كان كذلك؛ فيكون بمنزلة ما إذا وقف دابة لاستيفاء بعض منافعها، وسكت عن باقيها، وقد تقدم ذكر ذلك.
قال: وإن أتت بولد أي: من نكاح أو زنى فقد قيل: يملكه الموقوف عليه ملكًا [يملك التصرف] فيه بالبيع وغيره؛ لأنه نما الوقف فأشبه الثمرة، وهذا أظهر في "الرافعي"، واختاره في "المرشد"، وقيل: هو وقف كالأم؛ لأن كل حكم يثبت لأم لأمرٍ ما يثبت لولدها تبعًا؛ لحرمة الاستيلاد، وهذا أصح في "الجيلي"، وهكذا الحكم فيما لو وقف شاة أو غيرها فنُتِجَتْ ففي ولدها الوجهان، وجزم أبو الفرج السرخسي بالوجه الأول في النعم؛ لأن المطلوب منها الدر والنسل، وذكر الوجهين في ولد الفرس والحمار، وحكى وجهًا ضعيفًا: أنه لا حق فيه للموقوف عليه، بل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، إلا إذا صرح بخلافه، وقد صرح به الماوردي، في ولد الجارية ونسبه إلى ابن أبي هريرة.
وهذا كله في الولد الحادث بعد الوقف، أما إذا كان موجودًا حال الوقف، فإن قلنا:
الحادث يكون وقفًا، فهذا أولى، وإلا فوجهان بناء؛ على أن الحمل هل يعلم أم لا؟ وفي "الحاوي" أنا إذا قلنا:[إن] الحمل لا يعلم يكون للواقف، أما إذا وطئت بشبهة فعلى الواطئ قيمة الولد وهو للموقوف عليه، إن قلنا: ولد الزانية له، وإن قلنا: إنه يكون [وقفًا] له، فوجهان حكاهما العراقيون والمراوزة:
أحدهما: أنهما للموقوف عليه – أيضاً – بناء على أن الموقوف إذا أتلف تكون قيمته له.
والثاني: يُشترى بها عبد يوقف مكانه.
قال القاضي الحسين: وكان الفرق على الأول بين القيمة والرقبة: أن الولد مما يجوز ابتداء وقفه، بخلاف القيمة.
قال وإن أتلف الموقوف اشترى بقيمته ما يقوم مقامه؛ مراعاة لغرض الواقف من استمرار الثواب، وتعلق [حق] البطن الثاني وما بعده به، وهذا الطريق هو الأصح في "الشامل"، و"التتمة"، وبه قال ابن سريج، كما حكاه الفوراني والقاضي الحسين واختاره الشيخ أبو حامد وصاحب "المرشد"، ولا فرق بين أن يكون المتلف أجنبيًّا أو الواقف أو الموقوف عليه.
قال: وقيل إن قلنا: إن الملك للموقوف عليه، فهي له؛ لأنها بدل ملكه فعلى هذا: إذا كان المتلف الموقوف عليه فلا شيء عليه.
قال: وإن قلنا: إنه لله تعالى، اشترى بها ما يقوم مقامه أي: ويكون وقفًا؛ لأن القيمة بدل الرقبة وهي لله تعالى فلا يمكن صرفها للموقوف عليه ولا للواقف؛ فتعين صرفها لما ذكرناه، ومثل هذه الطريقة حكاها الفوراني وغيره من المراوزة فيما إذا قلنا: إن الملك للواقف، فعلى وجه: تكون القيمة له، فإن كان هو المتلف فلا شيء
عليه، وعلى وجه: يشتري بها ما يقوم مقامه ويكون وقفاً.
وحكى في "البحر" عن بعض الأصحاب: أنه إذا أتلفه أجنبي أو الواقف كانت القيمة للموقوف عليه يتصرف فيها ويبطل حق الغير من غير بناء، وأن هذا أصح، وهو اختيار أبي حامد. وعلى هذا قال ابن الصباغ: عندي إذا كان الموقوف عبدًا، وقتله مكافئ له – كان له أن يقتص، وإن قلنا: إنه لله تعالى، فهو كعبيد بيت المال، والظاهر وجوب القصاص، وأطلق في "الحاوي" القول بمنع القصاص، لكن علته ترشد إلى [أن] ذلك مبنى على أن القيمة يشترى بها ما يقوم مقامه.
ولو لم يتلف الموقوف عليه بجملته، [لكنه أتلف] بعضه، مثل: أن كان عبدًا فقطعت يده – فتؤخذ من الجاني نصف القيمة على الأصح، وفي مصرفه طريقان:
أحدهما: البناء على أقوال الملك.
والثاني: القطع بأنه يشتري به عبدًا [أو بعض عبد] يكون وقفًا؛ كالأصل، فإن لم يمكن أن يشتري به بعض عبد فثلاثة أوجه:
أحدها: يستبقى على حاله تبعًا لأصله.
والثاني: يكون ملكًا للموقوف عليه.
والثالث: يُرد إلى أقرب الناس إلى الواقف كما قيل في الولد.
كذا حكاه الماوردي، وحكى عن بعض أصحابنا: أنه جعل الأرش وقفًا وإن أمكن السراية، ثم قال: وهذا لا وجه له؛ لأن وقف القيم والأروش لا يصح. وجزم بعدم استيفاء القصاص في الطرف، وإن كان القطع عمدًا من مكافئ.
وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه: أن أرش الطرف يصرف للموقوف عليه على كل قول، وينزل منزلة المهر والأكساب.
تنبيه: في قول الشيخ: اشترى به ما يقوم مقامه، ما يعرفك أنه لا يحتاج بعد شرائه إلى وقفه، وهو وجه حكاه أبو العباس الروياني في "الجرجانيات"، مع وجه آخر
جزم به المتولي والإمام عند الكلام في جفاف الشجرة، وأشار إليه القاضي الحسين في "تعليقه": أنه لا بد من إنشاء وقفه، وقال: إن الذي ينشئه الحاكم.
قال الرافعي: ويشبه أن يقال: من يباشر الشراء يجدد الوقف، وقد اختلفوا فيمن يباشر الشراء:
قيل: إن قلنا إن الملك لله تعالى، فيشتريه الحاكم.
وإن قلنا: إنه للموقوف عليه، فهو المشتري.
وإن قلنا: للواقف، فوجهان، وجه المنع: أنه لا يملك المنافع والفوائد، وفيه أيضاً ما يفهم [أنه] لا يجوز إذا كان الموقوف عبدًا أن يشتري بدله جارية، وبالعكس كما صرح به غيره، وإن اختلفوا في أنه هل يجوز أن يُشترى عبد صغير بقيمة الكبير أو بالعكس، على وجهين.
فروع:
إذا خرج الموقوف عن أن يكون منتفعًا به على النعت الذي وقف عليه بفعل غير مضمون، نظر: فإن لم يبق منه شيء ينتفع به، كما إذا كان عبدًا فمات فقد فات الوقف، وإن بقى ما يمكن الانتفاع به نظر: فإن كان لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، كحُصُر المسجد الموقوفة إذا بَلِيَتْ، وجِذْعه المنكسر بحيث لا يصلح إلا للوقود، ونحاتة أخشابه في البخر، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، ففيما يفعل بذلك وجهان حكاهما البندنيجي وغيره.
أحدهما: لا تباع؛ لأنها عين الوقف، بل تترك بحالها أبدًا؛ كما لو وقف أرضًا فخربت. وهذا بعيد عند الإمام لا اتجاه له، وقال القاضي أبو الطيب مرة: إنه لا يعرف غيره لأصحابنا، وقال مرة أخرى: إن فيه وجهين. كما حكاه في "البحر" عنه.
والثاني – وهو الأصح في "الرافعي" و"التهذيب" و"شرح" الشيخ أبي علي [السنجي]، كما حكاه في "الزوائد" عن القفال [عنه، و] قال الإمام: إنه الذي
قال به الأئمة-: أنها تباع، وإلا فتَضِعْ ويضيق المكان بها من غير فائدة، وعلى هذا تصرف في مصالح المسجد.
قال الرافعي: والقياس: أن يُشترى بثمن الحُصر حصرٌ، ولا يصرف لمصلحة أخرى.
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا قال في جذع المسجد ونحاتة أخشابه إذا طُبِخَ للمسجد جِصُّ وما يتعلق بمصلحته جاز أن يوقد تحته، فأما بيعه فلا يجوز.
وإن أمكن أن ينتفع به مع بقاء عينه في منفعة أخرى بأن كان الجذع يمكن أن يتخذ منه باب أو ألواح، قال في "التتمة": يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف، وإن كان شجرة فجفت أو قلعها الريح فحاصل ما ذكر في ذلك أربعة أوجه:
أضعفها: أن الوقف ينقطع كما لو مات العبد، ويعود الحطب ملكًا للواقف.
والثاني – وهو اقرب من الأول-: أنها تعود ملكًا للموقوف عليه.
والثالث: يباع، لتعذر الانتفاع به بشرط الواقف، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وما يصنع بثمنه فيه الخلاف السابق في قيمة ما أتلف من الوقف، و [قد] صدر البندنيجي كلامه [هنا] بأنها تصرف للموقوف عليه، ثم قال: والأولى أن يقال: يشتري بها ما يقوم مقامها؛ وهو اختيار صاحب "المرشد".
والرابع: وهو الأصح-: لا يباع ولا ينتقل ملكًا لأحد، بل ينتفع بإجارته جِذْعًا إن لم يكن في استيفاء منفعته استهلاكه، وإن كان فالأصح: أنها تكون للموقوف عليه.
وزَمَانة العبد الموقوف، قال الرافعي: كجفاف الشجرة.
وفي "البحر" حكاية عن القاضي أبي الطيب: أن بيعه لا يجوز، ولا يختلف أصحابنا فيه.
وفي "الحاوي": الجزم بجواز بيع الدابة الموقوفة عند زمانتها، وأنه يستبدل بثمنها؛ لأن للدابة مؤنة إن التُزِمَتْ أًجْحَفَتْ.
وقال: يحتمل [عندي] في العبد [الموقوف] وجه: أنه يجوز بيعه؛ قياسًا على الدابة، وهو موافق لما جزم به فيما إذا جنى العبد الموقوف عمدًا في طرف [واقتص منه؛ حيث قال: إن بطلت منافعه بيع، واشترى به عبد نافع يكون وقفًا مكانه؛ كالبعير إذا عطب].
وإشراف الدار على الانهدام، والجذع على الانكسار: هل يجوز بيعه؟ قال الرافعي: فيه الخلاف. يعني الخلاف الذي في الحصر إذا بَلِيَتْ، وهذا يقتضي أن يكون الصحيح عنده الصحة أيضاً، وينبغي أن يكون هذا مفرَّعًا على جواز البيع [إذا انكسر] الجذع، أما إذا منعنا ثَمَّ فهاهنا أولى، وقد حكى الإمام عن الأكثرين منع بيع الدار، ثم إذا جوزنا البيع كان في مصرف الثمن الخلاف في قيمة ما أتلف، وصحح الإمام طريقة صرف الثمن إلى جهة الوقف، وقال فيما عداها: إنه لا أصل له في هذا المقام.
[وإذا قلنا] بأنه يكون للموقوف عليه، فقال: لا تبيعوها وأقِلُّوها إلى ملكي – فالمذهب: أنه لا يجاب، بل ارتفاع الوقف على هذا موقوف على البيع، وأبعد بعض الأصحاب فأجابه، وزعم أنه ينقلب ملكًا من غير عقد وقول.
قال الإمام: وهذا في غاية الضعف.
ولو كان الموقوف حيوانًا مأكولاً وانتهى إلى حالة يقطع بموته إن لم يذبح، قال في "التتمة" يجوز ذبحه للضرورة، وهل يباع لحمه ويشترى به ما يقوم مقام
الأصل، أو يصرف للموقوف عليه أو للواقف؟ فيه الخلاف المذكور في بدل ما أتلف، ولو لم يذبح حتى مات فالموقوف عليه أولى بجلده، وإذا دبغه ففي عوده وقفًا وجهان في "التتمة"، والظاهر: العود.
ولا خلاف في أن المسجد إذا انهدم، وخربت المحلة، وتفرق الناس عنها، وتعطل المسجد – فلا يعود ملكًا بحال، ولا يجوز بيعه؛ كالعبد إذا عَتَقَ في زمن، ولأن الانتفاع به في الحال بالصلاة في العَرصْة ممكن، [لكن] لو خيف من أولي الفساد والعَرَامة نَقْضُ بنائه [وأَخْذُهُ]، نقض وحُفِظَ، وإن أراد الحاكم أن يعمر بنقضه مسجدًا آخر؛ جاز، وما كان أقرب إليه كان أولى، ولا يجوز صرفه في عمارة رباط أو مدرسة وبئر وحوض؛ كما لا يجوز صرف آلة الحوض وغيره إلى عمارة مسجدٍ.
قال المتولي: إلا أن يؤخذ ذلك الحبس فيصرف إلى نوع آخر للضرورة، وعلى هذا: إذا كان على هذا المسجد أوقاف وقد خربت، قال المتولي: يصرف الحاصل من رَيْعه إلى عمارة مسجد آخر، بخلاف ما لو وقف على ثغر من الثغور فيعَطَّل: إما لاتساع رقعة الإسلام، أو لاستيلاء الكفار عليه – فإنه يجمع رَيْعُ وقفه؛ رجاء أن يعود، ولا يجوز صرفه إلى غيره.
ولو وقف على قنطرة، فانخرب الوادي، وتعطلت تلك القنطرة، واحتيج إلى قنطرة أخرى – جاز النقل إلى ذلك الموضع.
قال أبو عاصم العبادي: بخلاف المسجد الذي باد أهله؛ حيث تبقى عمارته، ويعمر بعد ما خرب إن أمكن، ليصلي فيه المارة.
فرع: إذا عمر المسجد الخراب إنسان ولم يوقف الآلة، قال في "البحر": كانت عارية له يرجع فيها متى شاء.
قال: وإن جنى خطأ وقلنا هو له أي: للموقوف عليه – فالأرض عليه؛ لأنها جناية
صدرت من مملوكه الذي لا يقدر على بيعه فوجب [عليه] كجناية أم الولد، وهكذا الحكم فيما إذا قلنا: إن الملك للواقف يكون الأرش عليه.
قال وإن قلنا: لله تعالى، فقد قيل في ملك الواقف؛ لأنه منع البيع بسبب من جهته وهو الوقف؛ فأشبه سيد أم الولد، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأصح في "المهذب" وغيره.
وقيل: في بيت المال؛ لأنه إيجابه على الواقف والموقوف عليه متعذر؛ لزوال ملكهما، وتعلقه بالرقبة غير ممكن؛ لأنه لا يتعلق إلا بما يمكن بيعه، ولا ذمة له تنتظر؛ فوجب في بيت المال؛ كالحر المعسر إذا جنى خطأ ولا عاقلة له. ويفارق هذا أم الولد؛ لأن حكم الملك باق لسيدها، مع أنه يمكنه التخلص من عهدتها بعتقها.
وقيل: في كسبه؛ لأن محله كان للرقبة، فإذا تعذر [تعلقه بها تعلق] بأقرب الأشياء إليها وهو الكسب المستفاد منها لحقوق النكاح، وبالقياس على النفقة.
وعلى هذا: فلو لم يكن له كسب لم يجز إلا الوجهان السابقان، ثم أضعف الوجوه – كما قال الروياني-: إيجابه على الموقوف عليه؛ لأنه يؤدي إلى الإجحاف به بأن يجني جنايات كثيرة، ويفارق أم الولد؛ لأن هناك في أحد القولين لا يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة لجميع جناياتها، وفي القول الآخر: يجب أرش جميع الجنايات عليه؛ لأنه يمكنه التخلص بعتقها، والموقوف عليه لا يمكنه أن يتخلص.
وعلى كل حال: فكل من ألزمناه الأرشَ يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية كما قلنا في جناية أم الولد، [وهكذا حكمُ تكرُّرِ جناية أم الولد]. هذا هو المشهور في طريق العراقيين، وكذلك هو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"الإبانة".
وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، ففيه وجهان:
أحدهما: أن الفداء على الواقف مطلقًا.
والثاني: أنا إن قلنا: إن الوقف لا يفتقر إلى القبول، فهو على الواقف، وإن قلنا: إنه يفتقر [إلى القبول]، فهو على الموقوف عليه؛ لأنه سبب إلى تحقيق المانع من البيع، وقد انضم إليه كونه مالكًا.
[ولا فرق] على الصحيح في إيجاب الغرم على الواقف بين أن يكون الجاني مات عقيب الجناية أو يبقى، وبه قال ابن الحداد. وفيه وجه: أنه إذا مات عقيب الجناية بلا فصل أنه يسقط الفداء، كما لو جنى القِنُّ ومات، والقائلون بالأول فرقوا بأن القن تعلق الأرش برقبته، فإذا مات فات، وهاهنا تضمين الواقف كان بسبب كونه مانعًا من البيع بالوقف وقد تحقق، وهذا الخلاف يجري فيما إذا جنت أم الولد وماتت.
فرع: إذا قلنا بوجوب الأرش على الواقف، فلو وجدت الجناية بعد موته، قال في "التتمة": لا يفدى من تركته؛ لأنها انتقلت إلى الوارث، والملك في الوقف: ما انتقل إليه، وهذا ما يرشد إليه قول الشيخ في ملك الواقف: وهو بعد الموت لا ملك له، فعلى هذا يتعلق بكسبه في وجه، وفي وجه: يكون في بيت المال.
وفي "الجرجانيات": أنه إن ترك مالاً فعلى الوارث الفداء منه؛ لأن العبد ممنوع البيع بسبب صدر منه في حياته، فلزمه ضمان جنايته في ماله.
قال: ويَنْظُر في الوقف مَنْ شَرَطَهُ الواقفُ، لأنه المتصرف بصدقته فهو أحق من يقوم بإمضائها وصرفها إلى مصارفها، وقد ثبت أن عمر – رضي الله عنه – كان يلي أمر صدقته، ثم جعله إلى حفصة وبعدها إلى ذوي الرأي من أهلها، وأشار في "النهاية" إلى خلاف فيما إذا كان الوقف على معين، وشرط التولية لأجنبي هل يتبع شرطه إذا فرعنا على أن الملك في الوقف للموقوف عليه؟ وعلى الأول لا فرق بين أن يفوض النظر إلى واحد أو إلى أكثر منه.
ويجوز أن يشترط لواحد العمارة وتحصيل الرَّيْع، [و] إلى آخر حفظه وقسمته،
وكذا يجوز أن يشترط لواحد الحفظ واليد، ولآخر التصرف.
قال: فإن شرط النظر لنفسه جاز؛ لأنه من أهل النظر فأشبه غيره، وبل أولى؛ [إذ النظر كان إليه].
[قال]: وإن لم يشترط أي: لنفسه ولا لغيره نَظَرَ فيه الموقوف عليه في أحد القولين؛ لأن النفع والفائدة ترجع إليه.
والحاكم في القول الآخر؛ لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه؛ فكان صاحب النظر العام أولى بالنظر فيه.
وفي المسألة وجه آخر حكاه في "المهذب" وغيره: أنه للواقف؛ لأن النظر والتصرف كان إليه، فإذا لم يصرفه عن نفسه بقى على ما كان عليه، وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال: إنه إذا مات نظر فيه الحاكم.
وبعضهم بنى الخلاف على أقوال الملك، ومنهم من قال إن قلنا: الملك للواقف، فالتولية له، وقيل: للحاكم؛ لتعلق حق الغير به، وإن قلنا: لله تعالى، فهي للحاكم.
وقيل: للواقف إن كان على جهة عامة؛ فإن قيامه بأمر الموقوف [عليه] من تتمة القربة.
وقيل: للموقوف عليه إذا كان على معين.
وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالتولية له.
وذكر كثيرون: أن التولية في صورة السكوت للواقف، من غير حكاية خلاف ولا بناء على شيء، ومنهم القاضي الحسين، وكذا المتولي كما ذكر هنا؛ تمسكًا بأن عمر وعليًّا وفاطمة – رضي الله عنهم – كانوا ينظرون في أوقافهم [إلى الموت]، وقال في كتاب الإجارة: لا خلاف أن الواقف ما دام حيًّا فله أن يؤاجر وأما بعد موته: فإن جعل النظر فيه لغيره فذاك، وإلا فإن قلنا: الملك للواقف أو لله
تعالى، فالحاكم يتولاه، وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالمذهب: أن له أن يؤاجر وينفرد بالعقد إن كان واحدًا، وقد ذكر في المسألة وجه آخر: أنه لا يملك الإجارة، وقال الرافعي: الذي يقتضي كلام المعظم الفتوى به: [أن يقال]: إن كان الوقف على جهة عامة فالتولية للحاكم كما في الوقف على المسجد والرباط، وإن كان على شخص معين فكذلك إن جعلنا الملك لله تعالى، وإن جعلناه للواقف أو الموقوف عليه فالتولية كذلك.
واعلم أنه لا بد فيمن ينظر في الوقف – من واقفٍ وغيره – من وصفين: الأمانة، والكفاية في التصرف، سواء كان الوقف على جهة عامة أو على معين مكلف رشيد، أو غير ذلك.
وفي "الوسيط" وجه فيما إذا كان الوقف على بالغ: أنه لا تشترط العدالة.
ولو شرط التولية للأفضلِ فالأفضلِ من بنيه، كان لأفضلهم حالة استحقاق النظر، حتى لو تحدد من هو أفضل ممن كان حال استحقاق التولية فاضلاً لم يكن إليه.
نعم، لو تغير حال الفاضل حالة الاستحقاق فقد صار مفضولاً؛ فتنتقل الولاية إلى من هو أفضل منه، ولو جعلها للأفضل من ولده فهل يختص بالأفضل من الذكور أو بالأفضل من الذكور والإناث؟ فيه وجهان في "الحاوي". ولو لم يقبل الفاضلُ الولايةَ كانت لغيره، فلو عاد وطلبها بعد الرد ولم يكن من أهل الوقف بطلت ولايته ولم تعد إليه بالطلب؛ كالوصية، وإن كان من أهل الوقف فهل تكون له الولاية؟ فيه وجهان مبنيان على ما إذا لم يشترط النظر لأحد، كذا قال الماوردي.
فروع:
أحدها: الناظر في الوقف على المساجد إذا لم يشترط الواقف النظر لأحدٍ فهو
للإمام، كما دل عليه الكلام السابق، فلو لم يكن سلطان عادل ففي "الرافعي" في كتاب الفرائض: أن لصلحاء القرية صرفه إلى عمارة المسجد ومصالحه إذا قلنا: إن من مات ولا وارث له ولم يكن سلطان عادل-: إن لمن في يده المال أن يصرفه في المصالح بنفسه.
الثاني: لو شرط الواقف للمتولي من الريع شيئاً جاز، وإن كان أكثر من أجرة نفسه كما حكاه الماوردي، اللهم إلا أن يكون هو المتولي فقد تقدم الكلام فيه، ولو لم يذكر شيئاً ففي استحقاق أجرة المثل الخلاف المذكور في مسألة الغسال.
ولو شرط [له] عُشْر الريع أجرة لعمله، ثم عزله – بطل استحقاقه، وإن لم يتعرض لكونه أجرة، ففي "فتاوى" القفال: أن استحقاقه لا يبطل.
الثالث: للواقف أن يعزل من ولاه وينصب [غيره]؛ كما يعزل الوكيل وينصب غيره، وكان المتولي نائبًا عنه، وفيه وجه: أنه ليس له العزل؛ لأن ملكه قد زال فلا تبقى ولايته عليه، ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف، دون ما إذا وقف بشرط أن تكون التولية لفلان؛ لأن في فتاوى صاحب "التهذيب": أنه لو وقف [مدرسة] على أصحاب الشافعي، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، أو: اذهب ودَرِّس فيها – كان له تبديله بغيره.
ولو شرط في الوقف أن يكون هو مدِّرسها، أو قال حالة الوقف: فوضت [تدريسها] إلى فلان – فهو لازم لا يجوز تبديله؛ كما لو وقف على أولاده، وكذا جزم فيها [بأنه] لا يبدل القَيِّم الذي نصبه الواقف قبل موته.
الرابع: قبول المتولي، قال الرافعي: يشبه أن يجيء فيه ما في قبول الموقوف عليه أو الوكيل.
قال: ولا يتصرف الناظر فيه إلا على وجه النظر والاحتياط؛ لأنه نظر في مصالح
الغير فاعتمد هذا المعنى كولي اليتيم، وتصرف الناظر يكون في: العمارة والإجارة وتحصيل الريع وحفظ الأصول والغلات وبيعها؛ ليصرف الثمن والأجرة للعمارة، أو ليقسمه على أرباب الوقف.
قال: فإن احتاج [أي]: الوقف إلى نفقة أي: لكونه حيوانًا، أو احتاج غير الحيوان إلى مؤنة وعمارة تصونه عن الضياع – قال: أنفق عليه من حيث شرط الواقف وَفَاءً بشرطه.
قال في "الإبانة": ويستحب إذا وقف شيئاً أن يقول: يصرف على عمارته من غلته، فما فضل فهو للموقوف عليه، وعلى ذلك جرى الإمام.
قال: فإن لم يشترط أنفق عليه من [غلة الوقف]؛ [الوقوف الانتفاع به] على النفقة فحمل الوقف عليه.
قال: ثم يصرف الباقي إلى الموقوف عليه؛ لأن الرَّيْع كان له [، و] في "تعليق" القاضي الحسين: أن من أصحابنا من قال: إن لم يشترط لم ينفق من كسبه، ويكون الأمر فيها كما لو لم يكن للموقوف ريع لعارض طرأ عليه، وكذلك حكاه الإمام عن بعض المصنفين، والحكم في ذلك: أنه ينظر:
فإن كان حيواناً فزمن أو عطب خرج وجوب النفقة على أقوال الملك، فإن قلنا:[إنه] لله تعالى، كانت في بيت المال، [وإلا وجبت] على من له الملك، فإن حكمنا بأنه للواقف وقد مات كانت في بيت المال أيضاً، ومؤتة [تجهيز]
العبد الموقوف إذا مات كنفقته في حال الحياة.
وإن كان غير حيوان لم يجب على أحد عمارته؛ كالملك الخالص.
وفي "الذخائر" شيء في ذلك لم أر نقله؛ لأن فيه ما يدل على غلط في النقل، وحكم بعض النفقة إذا عجز عنها كحكم كلها.
قال: والمستحب ألا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين أي: إذا جوزنا الزيادة عليها كما هو الصحيح، كي لا تطول المدة فيغلب عليه، وقد ادعى القاضي الحسين والمتولي أن الحكام اصطلحوا على منع إجارته [أكثر من ثلاث سنين كمنا ذكرناه.
وفي "أمالي" أبي الفرج: أن المذهب منع إجارته] أكثر من سنة إذا [لم] تمس الحاجة لعمارة وغيرها. واستغربه الرافعي، وهو مذكور في "النهاية" عند الكلام فيما إذا طلب الوقف بزيادة لكنه لم يذكر لفظ المذهب، بل حكاه عن بعض أصحابنا، ثم قال: إن له اتجاهاً في الوقف على جهات الخير.
ثم على المشهور لو شرط [الواقف]: ألا يؤجر الوقف، ففي طريقة المراوزة ثلاثة أوجه:
أظهرها عند الإمام، والغزالي: أنه يتبع شرطه.
والثاني: المنع؛ لأنه يتضمن حجرًا على مستحق المنفعة.
والثالث: إن منع مطلقاً فلا يتبع، وإن منع الزيادة على سنة اتبع؛ لأنه لائق بمصلحة الوقف، فعلى هذا: لو كان الصلاح في الزيادة على السنة ففي "الزيادات" للعبادي [حكاية وجه]: أنه يزاد.
قال: فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة أي: بعد أن أجر، وقلنا: له الإيجار،
أو كان الواقف قد جعل لكل ناظر أن يؤجر نصيبه، وكانت الإجارة بأجرة المثل- قال: انفسخت الإجارة؛ لأن المنافع بعد موته للنظر الثاني فلا يصح عقده عليها؛ كما لو أجر الموصى له بمنفعة دار مدة عمره الدار، ثم مات قبل فراغها؛ فإنها تنفسخ كما حكاه الرافعي في الإجارة، وهذا قول ابن أبي هريرة، وهو الأصح في "الرافعي" و"تعليق" القاضي الحسين، والأظهر عند الغزالي، واختاره القاضي الحسين [كما] قاله في "البحر" وصاحب "المرشد" فيما إذا لم يكن النظر مشروطًا له ولا مفوضًا إليه من جهة الحاكم، أما إذا كان كذلك فلا ينفسخ. فعلى هذا: هل ينفسخ فيما مضى؟ فيه قولان.
قال: وقيل: لا تنفسخ؛ لأنه أجر عينًا ملك العقد عليها فأشبه ما لو أجر ملك الطِّلْق، وهذا ما اختاره في "المهذب" كما قاله ابن يونس، والأظهر في "الحاوي"، وقد بنى القاضي الحسين الخلاف على أن البطن الثاني يتلقون من الواقف أو [من] الموقوف عليه؟ فإن قلنا بالأول انفسخت، وإن قلنا بالثاني فلا، وهذا موافق لرأيه في أن الصحيح الانفساخ، ولم يستحسن الإمام الصيدلاني وطائفة عبارة الفسخ؛ لأن الانفساخ يشعر بسبق انعقادٍ، وردُّوا الخلاف إلى أنا هل نتبين البطلان أم لا؟!
ثم على القول الثاني قال: ويصرف أجرة ما مضى إلى البطن الأول؛ لكون [أكثر] المنافع كانت في ذلك [الزمن حقًّا لهم]، وما بقي للبطن الثاني؛ لأن المنافع في هذا الزمن حقٌّ لهم فكان لهم عوضها. وعلى هذا: فلو كان الأول قد قبض تمام الأجرة رجع الثاني بها في تركته، ولا يطالب المستأجر بشيء، وإن كان الأول مفلسًا، لأن الثاني كما لزمه عقد الأول لزمه قبضه.
أما إذا أجر الواقف أو ناظر من جهته أو الحاكم أو [أمين الحاكم]، ثم
مات البطن الأول – لم تنفسخ الإجارة؛ لأن الذي عقدها له النظر على جميع البطون، قاله ابن الصباغ والماوردي والإمام في كتاب "الإجارة".
ولا تنفسخ بموت الآجر كما صرح به الماوردي.
وحكى الرافعي عن الروياني فيما إذا أجر الناظر، ثم مات الموقوف عليه أولاً أنه تنفسخ، ولو كان قد أجر بدون أجرة المثل؛ لجواز ذلك له- كما صرح به الإمام- قياساً على الإعاقة؛ فيظهر الانفساخ هنا جزمًا.
فرع: إذا أجر الوقف، ثم طُلِبَ بزيادة نظر: إن كان الآجر الموقوف عليه بحكم الملك فلا أثر للزيادة، وإن أجره المتولي بالشرط أو الحاكم فكذلك الجواب على أصح الوجوه؛ قياساً على ما لو باع اليتيم ماله ثم ارتفعت الأسواق.
والثاني: أنه يتبع؛ لأنه يتبين وقوعه على خلاف الغبطة في المستقبل، وعلى هذا: ينفسخ بنفسه، وأبدى الإمام احتمالاً في أنه يتوقف على إنشاء فاسخ.
والثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد، وإن كانت أكثر فالزيادة مقبولة، وهذا ما أورده أبو الفرج السرخسي في "الأمالي".
ومحل الخلاف عند الإمام إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زَبُوناً يزيد على أجرة المثل [فلا خير] فيما يزيده ولا حكم له، وغيره فرض الخلاف فيما إذا طُلِبَ بزيادة أو زادت الأجرة.
قال: وتصرف الغلة على شرط الواقف: من الأثرة، والتقديم، والتأخير، والجمع، والترتيب، وإخراج من شاء بصفة، وإدخاله بصفة؛ لأن الصحابة – رضوان الله عليهم- وقفوا وقوفًا وكتبوا شروطهم: فكتب عمر ما ذكرناه في أول الباب، وكتب على كرم الله وجهه: "تصدقت ابتغاء رضوان الله؛ ليدخلني الجنة، ويصرف النار عن وجهي، ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذوي الرحم القريب
والبعيد"، وكتبت فاطمة – رضي الله عنها لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفقراء بني هاشم وبني المطلب، ولم ينكر عليهم أحد.
والأثرة- بفتح الهمزة والثاء المثلثة، وبضم الهمزة وكسرها مع إسكان الثاء-: الانفراد [بالشيء]، هذا أصله، ومثاله هنا: وقفت على أولادي بشرط إن كان [فيهم عالم] اختص بالجميع، أو جعل له نصيبان.
ومثال التقديم والتأخير: [أن يقول]: بشرط أن يقدم الأَوْرع منهم بكذا، فإن فضل شيء كان للآخرين، أو يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، أو يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، أو يقول: وقفت على أولادي على أن يكون ريع السنة الأولى للذكور [خاصة] [والسنة الثانية للإناث.
ومثال الجمع]: أن يقول: وقفت على أولادي وأولادهم بشرط أن يقدم أولادي، فإذا انقرضوا فأولادهم، ويطلق؛ فيدخل فيه أولاد البنين والبنات، الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، الذكر والأنثى [فيه] سواء، إلا أن يشترط التفاضل فيتبع شرطه، ولا يدخل أولاد أولاد الأولاد ومن أسفل منهم، إلا أن يقول: ما تناسلوا وتعاقبوا، أو: بطنًا بعد بطن، أو قال: أبدًا – كما ذكره البندنيجي – فإذا قال ذلك اتصل إلى انقراض نسله، ويصرف إلى الموجودين حالة حصوله ممن كان حالة الوقف، وممن حدث من بعد، ولا يصرف لمن كان مجننًا إذ ذاك.
وفي "التتمة" وجه: أنه يصرف لمن كان مجننًا عند الوقف.
وفي "أمالي" أبي الفرج وجه: أنه لا يصرف لمن حدث بعد الوقف إذا كان من البطن الأول، وإليه أشار القاضي الحسين في تعليقه بقوله: فالموجودون يدخلون ومن يحدث بعدهم فالظاهر أنه يدخل، ويعضده: أن البويطي نقل أنه إذا وقف على قرابته فحدث له قريب بعد الوقف لا يدخل، لكن الأصحاب غلَّطُوه [فيه].
ومثال الترتيب خاصة: أن يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي ما تعاقبوا وتناسلوا [أبدًا]، يكون الأول فالأول، والأعلى فالأعلى، والأقرب فالأقرب، [أو يقول: على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم ما تناسلوا بطنًا بعد بطن، كما قاله البندنيجي، وبه أفتى أبو طاهر الزيادي، واختاره القاضي الحسين، وقال: إن من أصحابنا من قال في الصورة الأخيرة: يكون للجميع؛ لأن قوله: "بطنًا بعد بطن" يكون كذلك للضرورة، وهذا ما حكى في "فتاوى" القاضي [عن] أبي عاصم العبادي والشيخ أبي القاسم، [وحكى فيها أيضاً عن الشيخ أبي عاصم في "المسائل" أن ذلك للجمع – أيضاً- وهو بعيد؛ فإن وضع "ثم" للترتيب].
ولو قال: على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، وإذا انقرض أولاد الأولاد فعلى أولادهم، وهكذا – ولو ألف مرة – لا يكون ذلك مستوعبًا لجميع النسل ما لم يقل: ما تناسلوا، أو: أبدًا، كما صرح به المحاملي والقاضي الحسين.
ومثال الجمع والترتيب: أن يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم ما تعاقبوا، [أو]: بطنًا بعد بطن- فيكون الأولاد وأولاد الأولاد مشتركين، وبعدهم يكونون مرتبين، وكذا لو قال: وقفت على أولادي ثم على أولادهم، ثم إذا انقرضوا فعلى أولاد أولادي ما تعاقبوا، فيكون الترتيب ثابتًا بين
الأولاد وأولادهم، والاشتراك ثابتٌ بين أولاد أولاد الأولاد وإن سفلوا، وحيث وجد شرط الترتيب فلا يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، إلا أن يقول: من مات من أولادي فنصيبه لولده؛ فإنه يصرف إليه دون إخوته، كذا حكاه البندنيجي عن النص في "حرملة".
قال الرافعي: والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الأول أن يجيء في نصيبه عند الإطلاقِ الخلافُ المذكور فيما إذا وقف على شخصين ثم على المساكين، فمات واحد: إلى من يصرف نصيبه؟ ولم أَرَ له تعرضًّا، لكن الشيخ أبا الفرج السرخسي حكى وجهين:
أحدهما: أن نصيب الميت لصاحبه.
والثاني: أنه لأقرب الناس إلى الواقف، وبه قال صاحب "الإفصاح" في كتاب الشهادات.
قلت: قد يظهر الفرق بين ما جمعه فيقال: الوقف على الأولاد [وأولاد الأولاد] القصدُ به تمليك القرابة على الجملة على النعت الذي شرطه، لا تمليك كل واحد منهم شيئاً مقدرًا، فإنه لو كان القصد ذلك لامتنع أن ينقص أحدهما عما استحقه حالة الوقف، وذلك ليس ممتنعًا؛ بدليل أنه إذا حصل له ولد أو ولد ولد شارك الموجود فيما كان ينفرد به، وإذا كان هذا هو المقصد فلا يعدل عنه عند إمكانه، وهو مع بقاء واحد ممكن، وليس كذلك الوقف على شخصين ثم على المساكين؛ فإن القصد ظاهر في تمليك كل منهما النصف؛ بدليل عدم تطرق النقص عنه، وهو لو قال: وقفت على هذا النصف وعلى هذا النصف، لم ينتقل نصيب أحدهما للآخر عند فقده؛ فكذلك [ها] هنا، وقد يُلَخَّصُ، فَيُقال: لما قبل نصيب الموجود دخول النقص عليه قبل الزيادة؛ لفهم المعنى، ولما لم يقبل نصيب أحد الرجلين
النقص لم يقبل الزيادة؛ لفهم المعنى، والله أعلم.
ومثال الإخراج بصفة والإدخال بصفة: أن يقول: وقفت على بناتي، فمن تزوجت سقط نصيبها، فإن طلقت عاد نصيبها، أو: من استغنى منهم خرج من الوقف ومن افتقر دخل، أو: من غاب خرج [منه] ومن حضر دخل فيه، وليس هذا بتعليق للوقف، بل هو تنجيز في الحال، وإنما ذلك تعليق للاستحقاق؛ فصار كما لو علق الوكالة على شرط لا يصح، وإذا وكله في الحال وعلق التصرف على شرط جاز، أما لو شرط أن يخرج من شاء من أرباب الوقف باختياره، ويدخل من يدخل فيه باختياره، أو يقدم من شاء ويؤخر من شاء- ففيه وجهان:
أحدهما: أنه جائز؛ كما لو أدخله بصفة وأخرجه بصفة.
والثاني: وهو الأصح في "الحاوي" وغيره، وبه جزم المعظم-: أنه لا يجوز، ويكون الوقف باطلاً.
قال الماوردي: إلا أن يجعل آخره للفقراء؛ فيكون على قولين، وإذا قلنا بالصحة فإذا فعل ذلك مرة واحدة فهل له الزيادة عليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، وله أن يفعل ذلك ما عاش، فإذا مات فقد تعين على من فيه عند موته.
قال الرافعي: وعلى قول الجواز- أيضاً- لو شرط ذلك لغيره ففيه وجهان: أصحهما: الفساد، فإن أفسدناه ففي فساد الوقف به خلاف مبني على أن الوقف كالعتق أم لا؟
وقال في "الوسيط": إن قال: وقفت بشرط أن أحرم المستحق، وأحول الحق إلى غيره متى شئت، أو: أرجع متى شئت- فهو فاسد. وإن قال: بشرط أن أغير مقادير
الاستحقاق بحكم المصلحة، فهو جائز.
وإن قال: أبقى أصل الوقف وأغير تفصيله، ففيه وجهان.
قال الرافعي: وهذا لا يكاد يوجد لغيره، [ثم] فيه لبس؛ فإن التحويل من مستحق إلى مستحق المعدود في الرتبة الأولى، وتغيير مقادير الاستحقاق الذي جعله مثالاً للثانية- كل منهما مندرج فيما جعله موضع الوجهين، وهو إبقاء أصل الوقف وتغيير تفصيله.
فروع متفرقة:
إذا قال: وقفت هذا على سكان موضع، كذا فغاب بعضهم سنة، ولم يبع داره ولم يستبدل دارًا- لا يبطل حقه، ذكره العبادي.
إذا قال: وقفت على زيد بشرط أن يسكن موضع كذا، ثم من بعده على الفقراء – فهذا وقف فيه انقطاع؛ لأن الفقراء إنما يستحقون بعد انقراضه، واستحقاقه مشروط [بشرط] قد تقدم.
إذا وقف على أولاده لا يدخل فيه أولاد الأولاد على الأصح، وعليه نص في "البويطي"، وحكى أبو الحسن بن القطان وجهًا آخر: أنهم يدخلون. وخرجه صاحب "الإفصاح" قولاً للشافعي – رضي الله عنه – كما حكاه في "الحاوي"، وغَلِطَ فيه.
وقال القاضي الحسين في كتاب الوصية: نص الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر"[على] أنه إذا أوصى لواحد بمثل نصيب أحد ولديه، وله بنت وبنت ابن [وعصبة- أعطى السدس، ولم أَرَ أنه مُوصىً له بالسدس؛ لأنه مثل نصيب ابنة الابن]؛ فيكون سبعًا. وهذا من كلام الشافعي – رضي الله عنه – دليل على أن اسم الولد عند الإطلاق يتناول ولد الولد، حتى لو وقف على أولاده يدخل فيه أولاد
الأولاد. انتهى.
قلت: وقد يمنع أن [في] كلام الشافعي – رضي الله عنه – دليلاً على ما ادعاه؛ لأن قوله: "أحد ولديه"- ولا ولد له من الصلب إلا واحد- قرينةٌ دالة على إرادة المجاز بإطلاق اسم الولد على ولد الولد؛ فاستعمل فيه كما سنذكره، وليس عند الإطلاق دلالة عليه. [والله أعلم].
وفي "النهاية" ترتيب أولاد البنات على الخلاف في أولاد البنين، وأولى بعدم الدخول، وهذا عند الإطلاق، وقد يقترن به ما يقتضي الجزم بخروجهم كما إذا قال: وقفت على أولادي، [فإذا انقرضوا فلأحفادي الثلث والباقي للفقراء، ولو وقف على أولاده ولم يكن له أولاد أولادٍ]، ففي "التتمة" وغيرها: أنه يحمل اللفظ عليهم؛ صيانة لكلام المُكَلَّف عن الإلغاء.
ولو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء – وقلنا بعدم دخولهم عند الإطلاق- فهلا يكون الوقف منقطع الوسط أو يدخلون بعد انقراض أولاد الصلب؟ فيه وجهان في "المهذب" وغيره، أصحهما: أولهما، والخلاف المذكور في أولاد الأولاد [مع الأولاد] يجري في دخول أولاد أولاد الأولاد عند الواقف على الأولاد وأولادهم، ولا نزاع في أنه لو قال: على نسلي وعقبي أو ذريتي، دخل فيه [أولاد البنات وإن بعدوا.
إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده ممن ينتسب إليه دخل فيه أولاد البنين، دون أولاد البنات. وحكى ابن كج وجهًا: أنهم يدخلون.
ولو وقف على البنين أو البنات لا يدخل الخنثى [المشكِل]، وفي [دخول] بني الأولاد عند الوقف على البنين وبنات الأولاد عند الوقف على البنات وجهان، [ومنهم من خصهما ببني البنين، وجزم بعدم دخول بني البنات].
ولو وقف على البنين والبنات دخل الخنثى المشكل [على أصح الوجهين]، ووجه المنع: أنه لا يُعد منهما.
والمنفي باللعان لا يستحق شيئاً.
وعن أبي إسحاق: أنه يستحق، وأن أثر اللعان مقصور على الملاعن.
إذا جُهِل شرط الوقف ولم نعرف مقادير الاستحقاق أو كيفية الترتيب، قال الإمام: إن لم نيئس من المعرفة وقفنا الأمر، وحملنا المستحق على الطلب، وإن أيسنا، فقد سمعت شيخي يقول: حق هذا أن ينزل منزلة الوقف الذي لا مصرف له إذا صححناه، وكان يحكي عن القفال فيه: أن الأصح الحمل على الجهة العامة.
قال الإمام: ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرط الواقف وأشكل، مع العلم بانحصاره في معينين، فالوجه: وقف الرَّيْع إلى أن يصطلحوا.
وغيره قال: إذا لم يكن الواقف حيًّا تقسم الغلة بينهم؛ إذ ليس بعضهم أولى بالتقديم والتفضيل من بعض، وإن كان حيًّا ففي "التهذيب" و"المهذب": أنا نرجع إليه – وكذا قال في "الحاوي" – وأنه لا يمين عليه، وأن وارثه يقوم مقامه في ذلك، وكذا عند عدم الوارث يرجع إلى الناظر من جهة الواقف دون الناظر من جهة الحاكم.
وحكى فيما إذا اختلف الوالي من جهة الواقف والوارث في الشرط وجهين في أيهما يعمل بقوله.
لو لم تُعرف الأرباب، قال الغزالي: جعلناه كوقف مطلق لم يذكر مصرفه؛ فيصرف إلى المصارف التي ذكرناها.
إذا وقف داره رباطًا أو مدرسة وشرط اختصاصها بأصحاب الشافعي – رضي الله عنه – أو أصحاب الرأي، اتبع شرطه.
ولو وقفهما مسجدًا، وشرط [أن يصلي فيه طائفة معينون دون غيرهم، فإذا
انقرضوا فعلى عامة المسلمين – ففيه وجهان:
أحدهما: أن شرطه غير متبع؛ لأن جعل البقعة مسجدًا] كالتحرير فلا معنى لاختصاصه بجماعة، وعلى هذا قال في "التتمة": يفسد الوقف؛ لفساد الشرط. وقياس ما ذكرناه عن الإمام: أنه لا يفسد.
والثاني- وبه جزم القاضي الحسين في "تعليقه"-: أنه يتبع حتى لا يجوز لغيرهم الصلاة فيه؛ لرعاية شرط الواقف، وحكى ذلك في آخر كتاب الجزيرة، وقال: إنه يكره.
قال الرافعي: ويشبه أن تكون الفتوى به.
ولو وقف مقبرة، وشرط اختصاصها بالغرباء أو بجماعة مخصوصين: فإن صححنا الشرط في المسجد فها هنا أولى، وإلا فوجهان؛ لترددها بين المسجد والمدرسة. والثاني أظهر؛ فإن المقابر للموتى كالمساكن للأحياء.
ولو أطلق وقف ذلك كان لكل أحد أن يصلي في المسجد، ويعتكف فيه، ويسكن
المدرسة بشرط الأهليَّة، وكذلك الرباط، ويدفن في المقبرة، ولا يختص واقف المسجد بالأذان فيه والإمامة، بل هو وسائر المسلمين فيه سواء.
فائدة: الصفة والاستثناء عقيب الجُمَل المعطوف بعضها على بعض يرجعان [إلى الكل]: مثال الصفة: وقفت على أولادي وإخوتي وأحفادي المحاويجِ منهم.
ومثال الاستثناء: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي إلا أن يفسق واحد منهم. ورأى الإمام تقييد ذلك بقيدين:
أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فأما إذا كان بكلمة "ثم"، قال:[فإنه] يختص الصفةُ والاستثناءُ بالجملة الأخيرة.
والثاني: ألا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، فإن تخلل كما إذا قال: وقفت على أولادي، على أن من مات منهم وأعقب فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته، فإذا انقرضوا فهو مصروف إلى إخوتي، إلا أن يفسق واحد منهم – فالاستثناء يختص بالأخيرة.
والصفة المتقدمة على جميع الجمل مثل أن يقول: وقفت على محاويج أولادي وإخوتي، كالمتأخرة عن جميعهم حتى تعتبر الحاجة في الكل.
قال: وإن وقف على الفقراء جاز أن يصرف إلى ثلاثة منهم؛ لأن عرف الشرع في هذه اللفظة: ثلاثة في الزكاة، فحمل اللفظ عليها [في الوقف]، وهل يجوز الصرف إلى فقراء غير بلده؟ فيه وجهان مرتبان على جواز نقل الصدقة، وأولى بالجواز، والحكم فيما لو وقف على المساكين كالحكم فيما لو وقف على الفقراء، وإذا وقف على أحد الصنفين جاز أن يصرف للآخر، خلافًا لأبي إسحاق؛ حيث منع الصرف إلى المساكين عند الوقف على الفقراء، ولو وقف على [أحد] الصنفين فأقلُّ ما يجزئ: الصرف إلى ثلاثة من كل صنف.
قال في "الحاوي": ولو وقف على الفقراء، فمن ادعى أنه فقير جاز الصرف إليه، ولا يكلف إقامة البينة على فقره، بخلاف ما لو وقف على الأغنياء من أقاربه؛ فإنه لا بد من إثبات الغنى بالبينة.
ولو وقف على من افتقر فلا بد في الاستحقاق من سابق الغنى، [و] في هذه الحالة لا يقبل قوله في الفقر إلا ببينة، صرح به في "البحر".
ويجوز الصرف لصغير فقير له أب غني، أو امرأة فقيرة لها زوج [غني]، أو رجل فقير له ابن غني، وهكذا لو لم يكن له مال وهو مشتغل بعمل يده كان من فقراء الوقف، وإن لم يكن من فقراء الزكاة، كذا جزم [به] في "الحاوي".
وقال في "البحر": رأيت لبعض أصحابنا وجهًا: أنه لا يدفع إليهم.
وحكى الرافعي فيما عدا الأخير أربعة أوجه عن حكاية الشيخ أبي علي في "الشرح":
أحدها – وبه قال ابن الحداد-: أنه يجوز الصرف إليهم.
والثاني- ويحكى عن أبي زيد والخضري-: المنع؛ لغنائه بالنفقة المستحقة له؛ فصار كمن حصلت [له] كفايته من كسبه أو من ضَيْعة موقوفة عليه.
والثالث – عن الأودني، فيما نقله الفقيه أبو يعقوب-: أن من نفقته على قريبه يستحق دون الزوجة، والفرق: أنها تستحق عوضًا، وهي تستقر في ذمة الزوج كدين في ذمة الفقير حالٍّ أو مؤجلٍ، بخلاف القريب؛ فإن نفقته مواساة.
والرابع: أن الزوجة يجوز الصرف لها دون من في نفقة القريب، والفرق: أن القريب يلزمه كفاية أمر القوت من كل وجه حتى الدواء وأجرة الطبيب؛ فاندفعت
حاجته بالكلية، [والزوجة] واجبها [مقدر، وربما] لا يكفيها؛ فتبقى محتاجة، والحكم في صرف الوصية [إلى من] ذكرناه حكم ريع الوقف، قاله الرافعي في قسم الصدقات.
قال: وإن وقف على قبيلة كبيرة أي: كبني تميم وبني هاشم والأنصار بطل الوقف في أحد القولين؛ لأن الموقوف عليه معينون فلا يمكن تعميمهم فبطل الوقف؛ كما لو وقف على قوم.
وصح في الآخر، ويجوز أن يصرف إلى ثلاثة منهم؛ لأن كل من صح الوقف عليهم إذا كان عددهم محصورًا [صح] ، وإن كان غير محصور، صرف إلى ثلاثة منهم كالفقراء والمساكين، فعلى هذا: هل يجوز الصرف إلى نسائهم إذا كان قد قال: وقفت على بني تميم؟ فيه وجهان.
أما القبيلة الصغيرة فيجوز الوقف عليها اتفاقًا، وحكم الوقف على عشيرته حكم الوقف على القبيلة، وإذا صح كان كالوقف على الأقارب.
وقد خرج الرافعي الخلاف في مسألة الكتاب على أن الوقف على الجهات العامة القصد فيه القربة أو التمليك، فعلى الثاني لا يصح؛ لتعذر الاستيعاب، وعلى الأول يصح.
قال: والأشبه بكلام الأكثرين: أنه تمليك، وأنه يصح هاهنا، [وهو الذي صححه النواوي].
تنبيه: القبيلة: بنو الأب.
قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": أنساب العرب ست مراتب تجمع أنسابهم، وهي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة:
فالشعب: النسب الأبعد كعدنان، سمي شعبًا؛ لأن القبائل منه تتشعب.
ثم القبيلة، وهي: ما انقسمت فيه أنساب الشعب، كربيعة ومضر، سميت قبيلة؛ لتقابل الأنساب فيها.
ثم العمارة، وهي: ما انقسمت فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة.
ثم البطن، وهو ما انقسمت فيه أنساب العمارة؛ كبني عبد مناف وبني مخزوم.
[ثم الفخذ، وهو: ما انقسمت فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية].
ثم الفصيلة، وهي: ما انقسمت فيه أنساب الفخذ، كبني العباس وبني المطلب.
فالفخذ يجمع الفصائل، والبطن تجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل، فإذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا والعمائر قبائل.
وزاد غيره العشيرة قبل الفصيلة.
قال: وإن وقف على مواليه وله موالٍ من أعلى وموالٍ من أسفل، فقد قيل: يبطل؛ لأنه وقفه على مجهول، وذلك أن المولى من أسماء الأضداد؛ لأنه يقع على المعتق [والمُعتق] ، ولا يمكن حمل اللفظ فيه على العموم؛ لاختلاف معناهما، مع أن الذي يحمل على العموم أسماء الأجناس كالمسلمين؛ فلما تعذر ذلك بطل، وهذا أرجح عند الغزالي، وقال أبو الطيب: إنه ضعيف.
وقيل: يصح، ويصرف إلى الموالي من أعلى؛ لأنهم أنعموا عليه بالإعتاق فكانوا أحق بالمكافأة، وأيضاً: فلاختصاصه بالعصوبة.
قال الجيلي: فعلى هذا يدخل فيهم أولادهم.
وقيل: يقسم بينهما، [وهو الأصح]؛ لتناول الاسم لهما بمعنى واحد على
جهة التواطؤ، وهو الموالاة والمناصرة.
قال شيخنا الشريف عماد الدين –رحمه الله: وصيغة الجمع منه تتناول الكل؛ ضرورة أنه متواطئ، وهو معنىً واحدٌ مشترك [فيه] كاشتراك اللفظ بين معنيين مختلفين لا مشترك بينهما، وهذا ما اختاره ابن القطان، وصححه القاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهم.
وحكى المتولي وجهًا آخر: أنه يختص [الأسفل]؛ لأطراد العادة بإحسان السادة إلى العتقاء.
ثم الوجوه المذكورة في الكتاب منسوبة إلى رواية الإصطخري، ولو لم يكن له إلا أحد الصنفين تعين، ولو كان له من جهة واحدٌ [ومن جهةٍ] اثنان تعين الصرف للجميع، قاله في "المحيط". [ولو كان قد قال: وقفت على مولاه، وليس له إلا مولً من أعلى وملىً من أسفل –قال في "المحيط"]: فلا ينقدح في هذه الصورة إلا أحد وجهين: إما البطلان؛ للاحتمال، وإما الصحة؛ حملًا على الأعلى، أما الجمع فلا وجه له.
قال: فإن وقف على زيد وعمرو وبكر، ثم على الفقراء – [أي]: وأطلق –فمات زيد، صرفت الغلة إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرفت الغلة للفقراء؛ لأنه لا يمكن صرفه إلى الفقراء قبل انقراضهم؛ لعدم شرط استحقاقهم، ولا يرده للواقف؛ لزوال ملكه عنه؛ فتعين صرفه لأهل الوقف، وهذا هو المنصوص في حرملة، وبه جزم القاضي الحسين.
وفي "البحر": أن صاحب "الإفصاح" حكى ذلك، وأنه يحتمل أن يرجع نصيب الميت إلى الفقراء، ثم قال صاحب "الإفصاح": وهو الأصح، وقد ذكره الصيمري أيضاً –أما إذا شرط أن من مات منهم انتقل نصيبه لولده أو لبقية أهل الوقف، فإنه
يتبع شرطه. ولو كان قد وقف على زيد، ثم على عمرو، ثم على بكر، ثم على الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، ثم مات زيد –قال في "الحاوي": فلا حق فيها لبكر، وكانت للفقراء والمساكين؛ لأن بكرًا رُتِّب بعد عمرو، وجعل له ما كان لعمرو، وعمرو بموته قبل زيد لم يستحق فيه شيئاً؛ فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئاً.
[وقال القاضي الحسين في "فتاويه": الأظهر: أنه يصرف إلى بكر، كما إذا قال: وقفت هذا على ولدي، ثم على ولد ولدي، ثم على الفقراء، فمات ولد الوالد، ثم الولد يرجع إلى الفقراء].
ولو وقف داره على زيد وعمرو: على أن لزيد [منها] النصف، ولعمرٍو الثلث –كانت بينهما على خمسة أسهم: لزيد ثلاثة أخماسها، ولعمرو خمساها.
ولو وقف على زيد نصفها، وعلى عمرو ثلثها، ولم يقل في أصل الوقف: إنها عليهما –كان لكل منهما ما سمي له، وكان السدس الفاضل إذا صح الوقف فيه للفقراء.
ولو وقف على أن لزيد جميعها، ولعمرو ثلثها –كان الموقوف على زيد ثلاثة أرباعها، وعلى عمرو الربع.
ولنختم الباب بفروع تتعلق به:
يستحب للقضاة أن [يجددوا إسجالات] الوقوف التي في ديوانهم كلما مضى زمان يخاف فيه [موت الشهود] ، كذا قاله ابن الصباغ قبيل باب نصارى العرب، من كتاب الجزية.
وحكى القاضي أبو الطيب ذلك ثم عن لفظ الشافعي –رضي الله عنهم –وأنه [علله]
فقال: [كي لا] تنقرض شهودها؛ فيؤدي ذلك إلى خفاء حالها [وبطلان الوقف].
إذا وقف على أهل بيته، صرف إلى قرابته من جهة الرجال والنساء، حكاه في "الشامل" عن "البويطي".
وفي "الحاوي" حكاية ثلاثة أوجه [فيه]:
أحدها: أنه يصرف إلى من ناسبه إلى الجد.
والثاني: من اجتمع معه في الرحم.
والثالث: إلى كل من اتصل به بنسب أو بسبب؛ قال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت".
إذا وقف على آله: ففيهم وجهان:
أحدهما: إنهم أهل بيته.
والثاني: أنهم من دان بدينه.
إذا وقف على عياله فهم من في نفقته، وإن كان فيهم والدٌ وولد.
ولو وقف على حشمه فهو على من في نفقته، سوى الوالد والولد.
ولو وقف على حاشيته فهم المتصلون بخدمته.
قال الماوردي: ولو وقف على يتامى بلد صرف إلى صغير مات أبوه، سواء كان فقيرًا أو غنيًا.
ولو وقف على [اليتامى مطلقًا فهل يصرف إلى يتيم غنيٍّ؟ فيه وجهان.
ولو وقف على] الأرامل فهن النساء [اللاتي لا أزواج] لهن، وفي اعتبار فقرهن وجهان عند الإطلاق، وهل يدخل فيهن الرجال الذين لا أزواج لهم؟ فيه وجهان.
ولو وقف على الفتيان أو الشباب فهم من احتلم ولم يبلغ ثلاثين سنة.
ولو وقف على الكهول فهم من له ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
ولو وقف على الشيوخ فهم من جاوزا الأربعين.
إذا وقف على عمارة مسجد [جاز] ، وتصرف الغلة إلى حفظ جدرانه وسقوفه، وكذا شراء سلم للصعود عليه إلى سطحه، ومكانس يكنس بها، ومساحٍ ينقل بها التراب، كما قاله أبو عاصم العبادي.
ولو كان يصيب بابه مطر ويفسده جاز بناء مظلة فيه بحيث لا تضر بالمارة.
وقال المارودي وصاحب "العدة": ويجوز أن يدفع من غلته أجور قيامه، و [لو] لم يجز أن يدفع منه أجور أئمته ومؤذنيه.
وهل يجوز أن يشتري منه دهن قناديله؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "التهذيب": المنع، وهو الأصح في "العدة"، لكنه جزم بجواز شراء البواري، وصاحب "التهذيب": جزم بالمنع فيها [أيضاً].
وفي "تعليق" القاضي الحسين أنه لو وقف على إصلاح المسجد صرفت الغلة إلى ثمن الحصر والدهن ونحوهما، ولا يجوز صرف شيء من الريع إلى تزويقه. نعم، لو صرح بذلك في الوقف فهل يجوز؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحين وغيره.
ولو صرح بأنه يصرف الريع في دهن سراجه جاز وضعه في جميع الليل، قال أبو
عاصم العبادي: لأنه أنشط للمصلين.
ولو فضل بعد ما يحتاج إليه المسجد من العمارة شيء فماذا يصنع به؟ فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما – وهو قول ابن أبي هريرة -: أنه يكون محفوظًا للمسجد.
والثاني –وهو قول ابن القطان -: أنه يشتري به عقارًا يوقف على المسجد.
ولو بطل المسجد المعين لم يبطل الوقف عليه، صرح به الماوردي، وقال: إن غلته تصرف للفقراء والمساكين، وفيه نظر؛ لأنه ممن [جزم بأن] جعل المال مسجدًا معينٍا منقطع الانتهاء، فكيف إذا جعله ابتداء وانتهاء؟!
نعم، يجوز أن يكون فرّع على الصحة مع الانقطاع.
ثم كلام المتولي الذي حكيناه من قبل مصرح بأن ريع الوقف على المسجد إذا خرب يصرف إلى عمارة مسجد آخر.
ولو وقف على المسجد مطلقًا ففي "التهذيب" التسوية بينه وبين أن يقف على عمارة المسجد.
وفي "فتاوى" الغزالي: أنه يجوز صرف غلته إلى الإمام والمؤذن وبناء منارة إذا كان بهما تتوفر الصلاة فيه، وكان السلطان يعرض على وقفه فيأخذ ما فضل عنه بشرط أن يدخر للمسجد شيء من غلته وأجرته [ليستغلها، ولتوقع] واقعة.
قال الرافعي: [ويشبه أن] يجوز بناء المنارة من الوقف على عمارة المسجد أيضاً.
[و] قال في "الجرجانيات": في جواز الصرف في هذه الحالة إلى نقش المسجد وتزويقه وجهان.
وفي "فتاوى" القفال: أنه لو قال: وقفت على [مسجد كذا، لم يصح ما لم يبين جهته فيقول: وقفت على] عمارته وهن سراجه [ونحو ذلك]، وهذا ما حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي في كتاب الوصية حيث قال: لو وقف شيئاً على مسجد، واقتصر عليه ينبغي أن يُفَصل القول في الوقف: فإن قال: نويت تمليك المسجد منافع الوقف، فالوقف باطل، وكذا إذا قال: لم يكن لي نية.
ولو قال: قصدت صرف الريع إلى مصالح المسجد، فالوقف حينئذ يصح.
قال الإمام: وينبغي ان يحمل الإطلاق على هذه الحالة؛ لأنها عمت في الاستعمال [عمومًا] ظاهرًا. وتبعه الغزالي فيما نقله [ثم].
ولو كان في البقعة التي وقفت مسجدًا شجرةٌ جاز للإمام قلعها باجتهاده، ثم ينقطع حق الواقف عن الشجرة، قاله العبادي.
وقال الغزالي في "الفتاوى": مجرد ذكر الأرض لا يخرج الشجرة عن ملكه؛ كبيع الأرض، وحينئذ فلا يكلف تفريع الأرض.
قال الرافعي: وكلام غيره محمول على ما إذا وقف المسجد ووقف الشجرة عليه، وقد سئل [الأستاذ] أبو عبد الله الحناطي عن رجل غرس شجرة في المسجد كيف يصنع بثمارها؟ قال: إن جعلها للمسجد لم يجز أكل ثمارها من غير عوض، ويجب صرف عوضها إلى مصالح المسجد، ولا ينبغي أن تغرس الأشجار في المساجد؛ لأنها تمنع الصلاة.
إذا كان في يد رجل أرض، فأقر أن غيره وقفها على زيد وعمرو، ثم على أولادهما، ثم على الفقراء، فصدقه زيد وعمرو –صارت وقفًا كذلك إن لم يسم الواقف، فإن كذبه الأولاد صرفت [الغلة] بعد وفاة زيد وعمرو للفقراء.
ولو كذبه زيد وعمرو وأولادهما صارت للفقراء، فإن عادوا بعد التكذيب وصدقوا
لم يعد الوقف إليهم، ولو صدق زيد وأولاده وكذب عمرو وأولاده –كان نصف الأرض وقفًا على زيد وأولاده والنصف الآخر للفقراء.
ولو صدقه زيد وأولاد عمرو، وكذبه عمرو وأولاد زيد –كان النصف لزيد ثم للفقراء، ونصفه لأولاد عمرو ثم للفقراء.
ولو عيّن المقر الواقف وقال: إنه والد الموقوف عليهما ولا ولد له غيرهما، فصدقاه – صارت بتصديقهما وقفًا، [لا] بالإقرار: ولو كذباه كانت لهما ميراثًا، فلو صدقه أولادهما فلا أثر لهما في حياة [زيد وعمرو] ، ولكن إن ماتا وهي باقية في تركتهما صارت وقفًا، وإن لم تكن باقية فيه أخذ من تركة أبيهما قيمة الأرض وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: [أنها] تصير وقفًا.
والثاني: يشتري بها مثل تلك الأرض، ويكون وقفًا جاريًا.
ولو صدقه أحدهما، وكذبه الآخر – [كان] نصفها وقفًا على المصدق، والنصف الآخر ملكًا للمكذب، كذا قاله الماوردي.
لو وقف دارًا، ثم أقر بأنها لشخص، وصدقه الموقوف عليه [لم يبطل الوقف، وسقط حق الموقوف عليه] من غلة الوقف، وتصرف إلى من بعده من أهل الوقف، قاله في "الحاوي" في كتاب الصلح.
وإذا وقف طنجيرًا، أو فأسًا على قوم، أو [على] مدرسة، فانكسر في يد الموقوف عليه من غير تعدٍّ –فلا ضمان.
وكذا لو وضع دنا فيه ماء على باب داره، فوقع الكوز الموضوع عليه من يد الشارب فانكسر –لا ضمان عليه، قاله القاضي الحسين.
وبعد انكسار الطنجير والفأس والمرجل لا يجوز بيعه، بل يتخذ منه أصغر منه.
إذا وقف أرضًا على معين، فأراد أن يغرس فيها: هل له ذلك؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين، وجه المنع: تغيير الوقف. ثم قال: ولا خلاف أنه لو أراد أن يجعل المُرَاح الموقوف دارًا أو حمامًا، أو البستان الموقوف موضعًا آخر – [مُنع]؛ لما فيه من تغيير شرط الواقف.
إذا أغلق إنسان المسجد، ومنع الناس من الصلاة فيه، فإن وضع فيه متاعه فهل تجب عليه الأجرة؟ فيه وجهان. أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين قبيل [باب] إقطاع المعادن: اللزوم، وهو ما جزم به المتولي في كتاب الغصب، وقال: إن الأجرة تصرف لمصالح المسلمين.
ولو غلق الباب، ومنع الناس من الصلاة فيه لا غير، لم [تلزمه أجرة]؛ لأن المسجد لا تثبت عليه اليد، ويخالف ما لو حبس حرًا؛ لأن منفعة الحر تستحق بالإجارة، بخلاف منفعة المسجد؛ [فإنها تُستحق بالإجارة] والله أعلم.
* * *