المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الوصية الوصية مأخوذة - كما قال الأزهري -: من وصيت - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٢

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الوصية الوصية مأخوذة - كما قال الأزهري -: من وصيت

‌باب الوصية

الوصية مأخوذة - كما قال الأزهري -: من وصيت الشيء أصيه، إذا وصلته، وسميت وصية؛ لأنه وصل ما كان في حياته بما بعد موته.

وعبارة القاضي الحسين: لأنه يصل بها خير دنياه بخير عقباه، وقربة العاجل بقربة الآجل.

والأولى أعم؛ لأنها تدخل الوصاية، وهذه لا تدخلها.

ويقال: وصى بوصية، وأوصى إيصاء. والاسم: الوصية، والوصاة، وهي في الشرع: عبارة عن تبرع بحق، أو تفويض تصرف خاص، مضافين إلى ما بعد الموت.

وقد كانت الوصية واجبة في ابتداء الإسلام بجميع المال للأقربين؛ لقوله تعالى" {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} [البقرة:180]، نم نسخت بآية المواريث، وبقي استحبابها في حق من ليس بوارث في الثلث فما دونه.

والدليل على ذلك - قبل الإجماع - من الكتاب قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] إلى آخرها، فذكر - تعالى- الوصية فيها في أربعة مواضع.

ومن السنة: ما روى أبو داود عن ابن عمر - رضى الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه". وأخرجه البخاري ومسلم، وغيرهم.

ص: 124

[وفي لفظ لمسلم والنسائي: "يبيت ثلاث ليال".

وفي لفظ لمسلم: "يريد أن يوصي فيه] ".

وفي لفظ لمسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "وما مرت عليَّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ذلك إلا وعندي وصيتي".

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: يحتمل قوله: "ما حق امرئ مسلم": ما لامرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده، ويحتمل: ما المعروف من الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض.

وقد حكى الاحتمالين القاضي الحسين.

وقد [أجمعت الأمة] على أن ذلك محثوث عليه، ومطلوب من الشرع، ومع ذلك فالصدقة في حال الحياة أفضل منها؛ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الصدقة أفضل، فقال:"أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا؛ وقد كان لفلان".

ص: 125

كما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وأراد بقوله: "بلغت الحُلقوم": المقاربة؛ لأن من بلغت نفسه الحلقوم لا يجوز له وصية ولا صدقة.

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يتصدق المرء في حياته بدرهمين، خيرٌ من أن يتصدق بمائةٍ عند موته".

وروى الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يعتق أو يتصدق عند موته، مثل الذي يهدي إذا شبع". وقال الترمذي: إنه حديث حسن صحيح.

قال: من جاز تصرفه في ماله جازت وصيته؛ للخبر، ولا فرق في ذلك بين المسلم والذمي، ومن لا يجوز تصرفه، كالمعتوه والمبرسم لا يصح وصيته؛ لأن صحتها تتعلق بالقول، ولا قول معتبر لمن لا تمييز له ولا عقل؛ إذ البرسام والعته نوعان من اختلال العقل؛ كالجنون.

قال الجواليقي: والبرسام معرب.

وحكم الصبي غير المميز حكم المجنون.

قال: وفي الصبي المميز [والمحجور عليه بتبذيره] قولان:

أحدهما: لا تصح، كهبتهما وإعتاقهما.

والثاني: تصح، أي وصيتهما بالمال.

أما في الصبي؛ فلما روي أن غلاما لابن عباس رضي الله عنهما – حضرته الوفاة [وله عشر سنين]، فأوصى لبنت عم له، وله وارث، فرفعت القصة إلى عمر رضي الله عنه فأجاز وصيته، ولم ينكر عليه.

ص: 126

وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز وصية غلام ابن إحدى عشرة سنة.

ولأن الوصية لا تزيل الملك في الحال، وتفيد الثواب بعد الموت؛ فصحت كسائر القربات.

وأما في السفيه فبالقياس عليه، بل من طريق الأولى؛ لأنه صحيح العبارة؛ ولهذا جزم البندنيجى بصحة وصيته، وكذلك المراوزة هنا، وهو الذي صححه الرافعي.

وحكى الغزالي [في كتاب] التدبير في صحته خلافاً.

ولا فرق بينهما، وفي الحاوي أنا إذا لم نصحح وصية الصبي، ففي المبذر وجهان:

والصحيح من القولين في الصبي عند الأكثرين: البطلان، وعند الأستاذ أبي منصور وصاحب المرشد مقابله.

وعلى هذا قال في الحاوي: في صحة محاباته وهبته وعتقه في مرض موته وجهان:

وجه الصحة: أن ذلك وصية تعتبر من الثلث.

ووجه المنع: أن الوصية يقدر على الرجوع فيها إن شفي، والهبة والعتق لا يقدر على ردهما.

والعبد إذا أوصى ثم مات على الرق؛ بان فساد وصيته، وإن عتق وترك مالا فوجهان:

أصحهما في الرافعي: البطلان؛ لأنه لم يكن أهلا حينئذ.

والمفلس إذا أوصى، فإذ رد الغرماء وصيته بطلت، وإن أمضوها جازت، إن قلنا: حجره حجز المرض، وإن قلنا: حجر السفه كان على الخلاف.

والمرتد إذا أوصى، وقلنا ببقاء ملكه، ففي صحة وصيته وجهان:

أصحهما في البحر: الجواز.

ص: 127

قال: ولا تصح الوصية – أي: بالتصرف في المال وعلى الأولاد – إلا إلى حر مسلم بالغ عاقل عدل؛ لأنها تقتضي أمانة وولاية صرفة، وذلك لا يصح إلا ممن جمع هذه الشروط؛ ولأن العبد مشغول بخدمة سيده، والصبي والمجنون مولى عليهما؛ فكيف تصح توليتهما على غيرهما؟! [وفي تعليق القاضي الحسين في باب عدد الشهود: أن لو أوصى إلى عبد غيره على أطفاله جاز] ، وفي تفويض الكافر وصيته إلى كافر رشيد في دينه وجه حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة أنه يجوز، قال ابن الصباغ: لأنه يجوز أن يلي بالنسب؛ فجاز أن يلي بالوصية كالمسلم العدل، وهذا منه بناء على أنه يلي بالنسب، وقد حكينا في باب الحجر عن بعضهم المنع، وخرجه الإمام والغزالي على أن الكافر ولي في النكاح؛ ولذلك جعله الرافعي الأظهر، ويجيء في الأظهر على هذا ما ستعرفه في كتاب النكاح، ويمكن أن يكون مأخذ الخلاف في أن الكافر هل تثبت له ولاية المال على ولده الكافر؟ وقد قدمت الكلام فيه في باب الحجر.

ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي الاكتفاء بهذه الصفات؛ حتى لا يعتبر شيء وراءها، وهو موافق لما [حكاه في البحر] عن الأصحاب؛ حيث قال:[ولا تصح الوصية إلا لمن جمع شرائط، وذكر ما ذكره الشيخ، ثم قال: وقال] القاضي الطبري: إنها سبع.

والسادس: ألا يكون مغفلًا.

والسابع: ألا يكون بينه وبين المولى عليه عداوة وخصومة؛ بأن يكون من أهل الشهادة على المولى عليه.

وعن القاضي الطبري أنه عبر عن السادس بأن يكون فيه كفاية التصرف.

قال: وإن وصى إليه وهو على غير هذه الصفات فصار عند الموت على هذه الصفات – جاز؛ لأنها حالة نفوذ التصرف؛ فاعتبرت الشرائط عندها، كما أن الاعتبار في صفات الشاهد عند الأداء، وهذا هو الصحيح، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق، وبه جزم المراوزة، كما حكاه الإمام، وعلى هذا يجوز أن يوصي

ص: 128

إلى أم ولده ومدبره، وقيل: لا يجوز؛ لأنه عقد لم يوجد أهلية قابلة عند إيجابه، فلم يصح، كفقدها عند قبوله. وقيل: يعتبر أن يكون على هذه الصفات من حين الإيجاب إلى حين الموت؛ لأن ما من وقت إلا ويجوز أن يموت فيه ويستحق فيه التصرف؛ فاعتبر الشرط في الجميع، حكاه ابن الصباغ وغيره.

وقال في البحر؛ إنه المذهب الصحيح؛ لما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم، من أنه إذا أوصى لأم ولده لا يجوز.

قال: وإن أوصى إلى أعمى، فقد قيل: يجوز؛ لأنه من أهل الشهادة؛ فأشبه البصير، وهذا هو الأظهر في الرافعي، وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على البيع والشراء لنفسه؛ فلا يحسن أن يفوض أمره لغيره.

وهذا أصح في تعليق القاضي الحسين.

تنبيه: سكوت الشيخ عن اعتبار الذكورة، يعرفك أنه تجوز الوصاية للمرأة كما تجوز للرجل، روي أن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة، وقال عليه السلام لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

وقد قال الأئمة: الأولى أن يفوض الوصاية إليها في أمر الأطفال، إذا وجدت فيها الأهلية.

وعن الحناطي وجه: أنه لا تجوز الوصاية إليها، إذا قلنا: إنها لا تلي، قال الرافعي: وهذا غير بعيد من جهة المعنى؛ نظراً إلى أن في الوصاية ولاية، وأن حقه أن يطرد في جميع النساء.

وقد تكلم الشيخ رضي الله عنه في صفات الموصي بالمال، وسكت عن صفات الموصي بالتصرف إلى شخص، وقد قال الأصحاب: إن كانت الوصاية في أمر الأولاد فشرطه: أن يكون له ولاية عليهم في الابتداء من الشرع لا

ص: 129

بتفويض، وهو الأب ثم الجد ثم جده، وكذا الأم على رأي الإصطخري.

وسواء كان الولد صغيرا، أو بالغا مجنونا أو سفيها، كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره في المجنون، ومجلي في السفيه، وقول الغزالي في الوسيط: لا يجوز نصب الوصي على الأولاد البالغين؛ إذ لا ولاية له عليهم؛ مشيرٌ إليه.

وفي البحر: أن الابن إذا كان بالغا عاقلا فلا، لكن حجر عليه لسفه لا يصح من الأب أن يوصي بالولاية عليه؛ لأن حجره بالحاكم، وهذا يشير إلى حالة بلوغه رشيدًا ثم طرأ السفه.

وإن كانت الوصاية في قضاء الديون وتنفيذ الوصايا، فشرطه أن يكون حرا مكلفا.

فرع: طريان ما يمنع الوصاية على الوصي بعد موت الموصي، يقتضي العزل [قطعا]، وفي المجرد للحناطي وجه: أنها تبطل بفسق الوصي حتى يعزله القاضي، والمشهور الأول.

ولا تنفعه التوبة بعد الفسق في عوده إلى وصيته، وفيه وجه غريب. وإن أفاق بعد جنونه، ففيه وجهان مشهوران، كما في عود ولاية القاضي، والأصح في "الرافعي": عدم العود، وفي القاضي وجه إذا فسق: أنه لا ينعزل، كما قيل في الإمام على رأي الأصوليين، وقال الإمام فيه: إني لو قلت: إنه الأظهر، لكان مستقيمًا؛ لأن استمرار العصمة للإمام بعيد، وعلى ذلك جرى الرافعي فجعله الراجح، وحكى خلافه حكاية الوجوه، وأن الماوردي لم يورد سواه في الأحكام

السلطانية، وفي تعليق القاضي أبي الطيب الجزم بانعزال الإمام بفسقه؛ فما دونه من طريق الأولى، وحكم أمين الحاكم فيما ذكرناه حكم الوصي.

واعلم أن قبول الوصاية ممن علم من نفسه الأمانة والقدرة عليها مختار، كما قاله في البحر؛ لأنه روي أنه أوصى إلى الزبير سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وكان ينفق على أيتامهم من ماله ويحفظ عليهم أموالهم. وإن كان ممن علم من نفه خلاف

ص: 130

ذلك، فالمختار أن يردها؛ لما روى أبو داود عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ فلا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم". وأخرجه مسلم والنسائي.

قال: ويجوز أن يوصي إلى نفسين، كما يجوز أن يوكل إلى نفسين، فإن أشرك بينهما في النظر، لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأن تصرفه بالإذن من الموصي، ولم يوجد رضاه بنظره وتصرفه وحده.

وصورة الإشراك في التصرف - كما قال القاضي أبو الطيب-: أن يقول: "ولا ينفرد أحدهما بالتصرف"، أو يقول:"أوصيت إليكما باجتماعكما".

وعلى هذا: إذا أذن أحدهما للآخر في التصرف، أو أذنا لشخص فيه - جاز، وإن انفرد أحدهما به، لم ينفذ، وضمن، سواء كان التصرف موقوفا على اجتهاد أم لا؛ كما هو ظاهر كلام الشيخ وغيره.

وقال الرافعي: إنك ستجد في كلام الأصحاب ما هو كالتصريح به.

وقال البغوي وغيره: إذا كانت الوصية مما لا يفتقر إلى اجتهاد: كرد وديعة، أو عارية، أو مغصوب، أو وصية بشيء معين، أو قضاء دين اشتملت التركة على جنسه - فإن لكل منهما أن يتفرد به؛ لأن صاحب الحق مستقل بالأخذ في هذه الصورة؛ فلا يضير الانفراد، وعلى ذلك جرى الماوردي في مسألة الوصية، وقضاء الدين، وهو في غيرهما من طريق الأولى.

وقد اعترض معترض على ذلك بأن الوصاية في رد الوديعة والمغصوب، ودفع الموصى به إذا كان معينا - قد اختلف في صحتها: فرأى بعضهم جوازها.

وعليه يدل ما ذكرناه في كتاب الوديعة، ورأى الإمام وطائفة أنها لا تصح؛ لأنها مستحقة بأعيانها، فيأخذها أصحابها، وإنما يوصى فيما يحتاج إلى نظر واجتهاد كما سنذكره.

فمن قال بهذا استغنى عن الاستثناء.

ومن قال بالأول - وهو قضية صاحب التهذيب - يجب ألا يصح التصرف

ص: 131

إلا على الوجه المأذون فيه، وقد صرحوا بالاستقلال عند المنع منه، فهو في الحقيقة عائد إلى قول الإمام؛ فالوجه ما اقتضاه كلام الشيخ والأصحاب.

وكما لا يجوز لأحد الوصيين - إذا أشرك بينهما في النظر - أن ينفرد بالتصرف، كذا لا يجوز إذا جعل عليه مشرفا أن ينفرد به؛ لأن للمشرف أن يتعاطى التصرف؛ كما صرح به في البحر.

ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي جواز انفراد كل واحد منهما بالتصرف عند عدم الإشراك في النظر، وذلك يكون في صورتين:

إحداهما: أن يصرح بالاستقلال، مثل أن يقول:"يتصرف كل منهما على الانفراد [أو] مع الآخر"، ولا شك في جواز ذلك، ويأتي فيه بعض ما أبداه الإمام من الإشكالات في مقارضة رجلين، كما ذكرناه في باب القراض، وقد ألحق أبو الفرج الزاز بهذه الصورة ما إذا قال: أنتما وصياي بكذا.

وألحق بهما البغوي ما إذا قال: ["أوصيت إلى زيد" ثم بعد ذلك]: "أوصيت إلى عمرو" مقتصرا على ذلك، والمتولي والغزالي والماوردي ألحقوا الصورة الثانية بالصورة التي سنذكرها.

وقال الرافعي: إنه الذي عليه عامة الاعتماد.

الثانية: أن يطلق الوصاية، وقد قال القاضي أبو الطيب وغيره من الأصحاب: إن الحكم فيها كالحكم في حالة الإشراك في النظر؛ قياسا على ما إذا أطلق التوكيل بين شخصين.

فرعان:

أحدهما: إذا خرج أحد المستقلين بالتصرف عن أهليته؛ لا ينصب الحاكم مع الثاني غيره، بل يتفرد بالتصرف.

ولو ضعف أحدهما، ولم يخرج عن الأهلية بالكلية، ضم إليه من يساعده، وكذا في المنفرد إذا ضعف.

ص: 132

ولو خرج أحد المشتركين في التصرف عن الأهلية، نصب الحاكم مع الثاني من يقوم مقام الخارج. فلو أذن الحاكم للباقي في الاستقلال، فهل يكفي؟ فيه وجهان؛ حكاهما العراقيون والإمام عنهم، وأصحهما في الرافعي؛ لا، وبه جزم الماوردي؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده.

ولو مات الوصيان معا، فهل للحاكم نصب قيم واحد أم لا بد من اثنين؛

اتباعاً لرأيه في التفويض إلى اثنين؟ فيه الوجهان، واستبعد الإمام جريان وجه المنع هنا؛ لأن الوصاية قد زالت بالكلية؛ فصار كما لو لم يرض.

الثاني: إذا اختلف الوصيان، فإن كان في الحفظ، قال الشافعي رضي الله عنه: قسم المال بينهما نصفين. فحمل أبو إسحاق ذلك على الوصيين اللذين يتصرفان مجتمعين ومفترقين، وأن القسمة تكون بالتقريب؛ ليتصرف كل منهما في شيء، لا قسمة الأملاك كل شيء نصفين، وينفذ تصرف كل منهما في النصفين.

وأما المشتركان في النظر فلا ينفرد أحدهما بحفظ شيء، وهذا أظهر في البحر.

وقال ابن أبي هريرة وغيره من أصحابنا - وهم الأكثرون-: قول الشافعي رضي الله عنه: يرجع إلى حالة الاستقلال وحالة الإشراك في النظر، وقد ذكرت في باب الوكالة شيئاً يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه.

ثم على كل حال، لو اختلفا بعد القسمة في عين النصف المحفوظ، فوجهان:

أحدهما: يقرع.

والثاني: يرجع إلى تعيين القاضي.

ولو كان المال مما لا يقسم، ترك في موضع، ويقفلان عليه، أو يجعلانه تحت يد ثالث.

وهكذا الحكم إذا كان مما يقسم، ومنعنا القسمة، على رأى أبي إسحاق.

ولو امتنعا من ذلك، فعل الحاكم رأيه، وهل يضعه تحت يد أمين أو اثنين؟ فيه وجهان: أصحهما في النهاية: الأول.

وإن كان الاختلاف في التصرف، فإن كانا مستقلين، قال الشيخ أبو حامد:

ص: 133

يقسم بينهما، ويتصرف كل منهما في نصفه، فإذا كان الشيء مما لا يقسم، ترك في أيديهما حتى يتصرفا فيه.

وقال غيره: لا حاصل لهذا الاختلاف، ومن سبق نفذ تصرفه.

نعم لو اختلفا في تعيين من يصرف إليه من الفقراء فماذا يصنع؟ فيه وجهان في النهاية: أحدهما: يقرع.، واستبعده.

والثاني: يضعه الحاكم فيمن يراه أهلاً على وفق الوصية.

وإن كانا غير مستقلين، أمرهما الحاكم بما يرى فيه المصلحة، فإن امتنع أحدهما، ضم القاضي إلى الآخر أمينا، وإن امتنعا أقام الحاكم مقامهما آخرين، ولا ينعزلان بالاختلاف.

ولو اختلفا في تعيين من يصرف إليه من الفقراء، عين القاضي من يراه.

قال: وإن أوصى إليه في شيء لم يصر وصيا في غيره، كما في الوكيل والحاكم. وإذا أطلق الوصية في مال الأطفال، استفاد الوصي بها حفظ المال، وهل يستفيد التصرف؟ فيه وجهان: المذهب منهما في التتمة: نعم؛ اعتمادًا على العرف. وذكر بدل الوجه الأول وجها: أن الوصاية لا تصح حتى يتبين ما فوضه إليه؛ فحمل في المسألة

ثلاثة أوجه.

ولا نزاع في أنه لو قال: "أوصيت إليك" مقتصرا على ذلك، فهو لغو.

قال: وللوصي أن يوكل فيما لا يتولى مثله بنفسه؛ كالوكيل، ومفهوم هذا منع التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه، وهو وجه حكاه القاضي أبو الطيب هنا.

وحكى الشيخ أبو حامد عن المذهب: أنه يجوز فيه أيضاً؛ لأنه يتصرف فيما لم ينص عليه؛ فأشبه الأب، وبهذا جزم المحاملي في أواخر كتاب الوكالة، وقال: إنه يجوز أن يوكل عن نفسه وعن الموصى عليه.

قال: وليس له أن يوصي؛ لأن تصرفه مستفاد من جهة آدمي؛ فلم يجز له أن يوصي؛ كالوكيل وأمين الحاكم.

قال: جعل إليه أن يوصي، أي: عن نفسه، أو عن الموصي، ولم يعين من يوصى إليه - ففيه قولان:

أحدهما: يجوز؛ لأن نظر الوصي أقوى من نظر الوكيل، وقد جاز للوكيل أن يوكل

ص: 134

بالإذن، فيجوز للوصي أن يوصي بالإذن من طريق الأولى، وهذا ما نص عليه في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، واختاره أبو إسحاق، وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وكذلك الروياني في كتاب الوكالة: إنه الصحيح.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه ليس بكامل الشفقة؛ فلم يجز له أن يختار ناظرا بعد الموت؛ كأمين الحاكم ويخالف الوكيل؛ لأن إذن موكله باق؛ لكونه حيا؛ فلذلك عمل بموجبه، وليس كذلك الوصي؛ فإن استنابه بالتصرف في وقت ليس للمستنيب التصرف فيه، ولا أن يأذن فافترقا، وهذا ظاهر نصه في المختصر، واختاره المزني.

أما إذا جعل له أن يوصي عن الموصي صح؛ كذا حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب البحر في الصورتين في كتاب الوكالة، وإن أطلقوا الكلام هنا.

وكلام الرافعي مصرح بأن الخلاف في الصورة الثانية.

وحكى طريقة أخرى جازمة بالصحة.

ولو عين له من يوصيه؛ بأن قال: "أوصيت لك، فإن أوصيت إلى زيد فقد أوصيت إليه وهو وصيي" - فمنهم من خرجه على القولين السابقين، ومنهم من قطع بالصحة، وهذا الطريق لم يذكر الماوردي سواه، وقال: لو مات الوصي قبل أن يوصي، لم يكن زيد وصيًا ما لم ينصبه الحاكم، وهل يجوز للحاكم أن يفوض الأمر إلى غيره؟ فيه وجهان.

ولو قال له: أوص إلى من شئت، إلى فلان أو فلان، ولم يضف إلى نفسه،

ص: 135

ولا إلى الموصي، قال في التهذيب: فيحمل على الوصاية عنه حتى يجيء فيه الخلاف السابق، أو يقطع بأنه لا يوصى عنه، فيه خلاف للأصحاب والأصح الثاني، وقياس ما حكيته عن أبي الطيب وابن الصباغ أن يقال: هل يحمل على

الوصاية عن الموصي حتى يصح أو عن الوصي حتى يجيء فيه القولان؟ فيه خلاف، وقد تقدم مثله في الوكالة فيما إذا أذن له في التوكيل وأطلق.

قال: فإن وصى إلى رجل، نم من بعده إلى آخر، جاز؛ لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة في أمر الوقف، ثم من بعدها إلى ذوي الرأي من أهلها، وكذلك فاطمة أوصت في وقفها إلى علي رضي الله عنهما فإن حدث فيه حادث، فإلى ابنها.

وبالقياس على ما لو قال: أوصيت إلى سنة، أو إلى أن يقدم فلان فيكون وصيي، أو إلى أن يكبر ولدي فيكون وصيي، فإنه يصح في هاتين الصورتين الأولى والأخيرة؛ [فكذلك هاهنا].

وفي الحاوي: أن الشافعي رضي الله عنه أوصى سنة إلى شخص، ثم من بعده إلى غيره.

وقال الرافعي: إن هذا ظاهر المذهب.

وتحتمل الوصية التعليق كما تحتمل الجهالات.

وحكى أبو عبد الله الحناطي وآخرون خلافا؛ أخذا من الخلاف في تعليق الوكالة.

وأن بالمنع أجاب الروياني، فقال:"إذا مت فقد أوصيت إليك" لا يجوز، بخلاف قوله:"أوصيت لك إذا مت"، وقد استدل بعضهم على الجواز في مسألة الكتاب بما روي أنه عليه السلام بعث جيشا، وقال: "أميركم زيد بن حارثة،

فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب

ص: 136

فليرض المسلمون رجلا".

وأصيب من عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الترتيب، فارتضى المسلمون خالد بن الوليد، وفي الدلالة به نظر؛ لأن المستنيب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو [باق إذ ذاك]، وهو بالوكالة أشبه، والكلام هنا في صحة الاستتابة به بعد الموت.

قال؛ ولا تتم الوصية إلا بالقبول؛ لأنها عقد على تصرف، فافتقر إلى القبول؛ كالوكالة، ومن هذا يؤخذ أنه لا بد من الإيجاب، لأن القبول بدونه لا يعقل، وحكى الإمام عن بعضهم إشارة إلى خلاف في اشتراط القبول.

ثم صريح الإيجاب أن يقول: أوصيت إليك في كذا، أو فوضت، أو أقمتك مقامي، وما أشبه ذلك، وهل ينعقد بلفظ الولاية؛ بأن يقول: وليتك كذا بعد موتي؟ فيه وجهان عن جرجانيات الروياني.

ولا خلاف أنه إذا اعتقل لسانه، وأشار إشارة مفهمة أن ذلك كاف.

ولو قرئ عليه كتاب الوصية، وأشار برأسه - أي: نعم - صحت؛ لأنه بالعجز صار كالأخرس، وهذا مطرد في الوصية بالمال أيضاً، والقبول لا يخفى لفظه.

وحكى الأستاذ أبو منصور وجهين في أن عمل الوصي هل يقوم مقام لفظ القبول؟

قال؛ وله أن يقبل في الحال، وله أن يقبل في الثاني؛ لأنه [إذن في] تصرف لا يفوت؛ فجاز قبوله في الحال والثاني؛ كما في الوكالة.

والمراد بـ"الثاني": بعد الموت، وهذا ما جزم به أبو الطيب، وذهب ابن سريج إلى أن القبول قبل الموت لا يعتد به؛ كما لو قبل الوصية بالمال قبل الموت، وهذا أظهر في الرافعي.

وعلى الخلاف خرج ما لو رد الوصية قبل الموت، هل يؤثر؟

فعلى الأول: نعم، وعلى الثاني: لا.

وفي البحر حكاية وجه: أنا إذا اشترطنا أن يكون القبول بعد الموت أنه يشترط

ص: 137

فيه الفورية.

قال: وللموصى أن يعزله متى شاء، وللوصي أن يعزل نفسه متى شاء، أي: قبل الموت وبعده؛ لأنه تصرف بالإذن، فجاز لكل من الآذن والمأذون له قطعه، كالوكالة.

قال: ولا تجوز الوصية إلا في معروف: من قضاء دين، وأداء حج - أي: سواء كان الموصى إليه قريبا آو أجنبيًا - والنظر في أمر الصغار، وتفرقة الثلث، وما أشبه ذلك: كبناء المساجد، وقبور الأنبياء، والعلماء والصالحين، لما فيها من

إحياء الزيارة والتبرك بها، وكذا افتكاك أسارى المسلمين [وبالعكس] كما صرح به القاضي أبو الطيب، وهو في الصورة الأولى بناء على الصحيح في جواز الوصية للحربي، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، وكذا رد الودائع والعواري والغصوب، كما ذكرناه.

ووجه الجواز في أمر الأطفال، ما ذكرناه من إسناد بعض الصحابة وصيتهم إلى الزبير، مع اشتهار ذلك وعدم الإنكار.

وأما فيما عداها؛ فلأن في ذلك إعانة على واجب أو مندوب، فاندرج في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى} [المائدة: 2].

ثم الوصية في أمر الأطفال معتبرة إذا لم يكن ثم جد لأب صالح [للولاية]، أما إذا كان فالصحيح: أنه الولي، ولا تنفذ وصية الأب. وفيه وجه: أن الوصية تنفذ، ويقدم الوصي على الجد.

ولا خلاف في جواز الوصية مع وجود الجد في قضاء الديون وتنفيذ الوصايا، وكذا إذا لم يكن في الورثة صغير، جاز له الوصاية في ذلك، نعم لا يقدر الوصي على بيع العقار؛ لوفاء الدين، إلا إذا امتنع الورثة من توفيته.

قال الرافعي: هذا إذا أطلق الوصاية لقضاء الدين، فإن قال: أدفع هذا القدر إليه

ص: 138

عوضا عن دينه، فينبغي ألا يكون للورثة إمساكه؛ لأن في أعيان الأموال أغراضا.

وكذلك قيل: لو أوصى بأن تباع عين ماله من فلان، نفذت.

وهذا ما أورده في البحر وجها وصححه.

ولو قال؛ بعه، واقض ديني من ثمنه، قال الرافعي: فيجوز ألا يكون لهم الإمساك؛ لأنه قد يكون أبعد عن الشبهات، وهذا ما حكاه البندنيجى.

وحكى في البحر ذلك وجهاً.

وعن القاضي الطبري: أنه لا يقضى منه بلا خلاف، ثم حكى عن أبي عبد الله الحناطي؛ تفريعا على المذهب في اعتقاده: أنه لو باع ما عينه الموصي لوفاء الدين قبل إذن الورثة وقبل ظهور التمرد منهم عن وفاء الدين - ففي البيع وجهان:

أحدهما: أنه باطل.

والثاني: أنه موقوف.

فإن أوفوا الدين، فلهم أن ينقضوا ذلك، وإلا انبرم.

ثم قال: وكذلك إذا أوصى لرجل بقضاء دينه ولم يعينه في مال، فقبل إعلام القاضي الورثة، باع متاع البيت؛ ليصرفه في ديونه - فيه وجهان، والأظهر: أن البيع باطل ولو لم ينصب وصيا.

قال في التهذيب: فأبوه أولى بقضاء الدين وأمر الأطفال، والحاكم أولى بتنفيذ الوصايا.

وفي كلام القاضي الحسين أمر يخالف ذلك؛ فإنه قال: لو أوصى بثلث ماله للفقراء وله في ذمة رجل مال، فدفع الغريم المال إلى الوارث، فإن سلم الوارث الثلث إلى الفقراء فذاك، وإن لم يسلم الثلث إليهم، فإن الغريم لا يبرأ عن ثلث الفقراء. بخلاف ما نقول إذا كان للميت على رجل دين، ولرجل على الميت دين، فجاء الوارث فأخذ المال من الغريم وأتلفه - برئت ذمة الغريم، ويجب الحق على الوارث.

والفرق: أن حق الفقراء متعين في ماله، ليس له أن يستبد بذلك المال، ويدفع

ص: 139

بقدره إلى الفقراء، بخلاف الدين.

وأيضاً: فإن الوارث له قضاء الدين وإن لم يكن وصيا [من جهة الموروث، وليس له صرف المال إلى الفقراء؛ إذا لم يكن وصياً]، بل الحاكم يصرف المال إليهم.

فعلى هذا صرف المال إليهم يكون تبرعا من جهته، وحق الفقراء باقٍ في مال الموروث.

وحكى عقيب ذلك فيما إذا مات وعليه دين وله على رجل دين، فجاء من عليه الدين بمال ودفعه إلى الوارث - فإن [الغريم له مطالبة الوارث] بالمال، والقابض له هو الحاكم، فإذا غرم رجع بما غرمه على الوارث.

ثم قال: وهذا إنما يصح على قولنا: إن الرجل إذا مات وعليه دين وله على رجل دين، فجاء الوارث، وأقام شاهدا على ذلك الحق، ولم يحلف الوارث، أن الغريم يدعي ويحلف على قول.

وذكر أيضاً في الموضع المذكور؛ أنه إذا كان على الميت دين، وله وديعة عند رجل، ومات: أنه ليس للمودع أن يدفع المال إلى الوارث، ولو أنه [دفع المال] إلى الوارث وأتلفه، وجب على المودع الضمان، والغريم يطالبه بالمال، وهو يرجع بالغرم على الوارث. انتهى.

وهذا يدل على أن الوارث لا يسوغ له قبض مال [اليتيم] عند وجود الدين؛ إذا لم يكن له وصية بذلك. أما إذا كانت له وصية بذلك.

قال القاضي الحسين: إن الدفع للموصى مبرئ، وكذلك القاضي.

قال؛ وإن أوصى بمعصية: كبناء كنيسة، أو كتب توراة، أو بما لا قربة فيه، كالبيع من غير محاباة - لم يصح؛ لأن الشرع إنما شرعها اجتلاباً للحسنات، ولاستدراك ما فرط وفات؛ قال عليه السلام:"إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم؛ زيادة في أعمالكم".

ص: 140

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه".

وقد اتتفى المعنيان فيما ذكر، وفي الأولى والثانية ارتكاب معصية - كما صرح به الأصحاب في كتاب الجزية - فهو ضد المطلوب.

ولا فرق في ذلك بين المسلم وغيره، ولا بين أن ينفذ قاضي الكفار وقف الكنيسة؛ إذا كان الواقف ذميا، أم لا، على الصحيح.

وحكى الإمام عن صاحب التقريب احتمالا في عدم نقضه؛ إقامة لحكمه مقام التقابض فيما لو اشترى واحد منهم خمرًا وقبضه.

وألحق الماوردي بالمنع فيما ذكرناه في كتاب الجزية الوصية بكتاب [شريعة أحكام] اليهود والنصارى وحقيقة دينهم وكتب النجوم والفلسفة.

وألحق القاضي الحسين بذلك كتابة الغزل؛ لأنه محرم.

وقيل: إن أوصى بالبيع من معين صح؛ لأنه قصد تخصيصه بتلك العين، وهذا ما جزم به الغزالي، وحكى في المهذب، والشاشي في المعتمد الوجهين، وكذلك المتولي، لكنه بناهما على خلاف سنذكره فيما إذا أوصى لكل وارث بعين قدر حصته من الإرث، هل يحتاج إلى الإجازة أم لا؟

إن قلنا بالاحتياج صحت الوصية هنا، وإلا فلا، ومقتضاه: أن يكون الظاهر: [الصحة]؛ كما صرح به في البحر.

ص: 141

ثم ظاهر الكلام في الكنيسة إذا بنيت لقصد التعبد، أما إذا أوصى ببنيانها؛ لنزول المارة من أهل الذمة فيها، صحت الوصية؛ كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتاب الجزية، ونقله الأصحاب.

ثم حكى الماوردي وجها آخر: أنه لا تجوز الوصية إذا خصص بالنزول أهل الذمة، وإن جازت الوصية لهم؛ لأن في ذلك جمعا لهم؛ فيؤدي إلى التعبد.

وقال: إن محل الجزم بالصحة: إذا أوصى ببنائها؛ لينزلها أهل الذمة والمسلمون.

وإن أوصى ببنائها؛ لنزول المارة والتعبد، فوجهان:

أحدهما: تبطل فيما أسند للتعبد، وتصح فيما أسند للمارة، فيبنى بنصف الموضع الموصى به موضع للنزول خاصة.

والثاني: يبنى بجميع الموصى به موضع للنزول خاصة.

ومن هذا: ما إذا أوصى بمال يسرج في البيع والكنائس، إن قصد به تعظيما لم يجز، وإن قصد به الضوء على من يأوى إليها خاصة، قال الشيخ أبو حامد، وهو ما حكاه البندنيجي وصاحب العدة والنووي في كتاب الجزية-: صحت الوصية؛ لأن قصده منفعة الذين يأوون إليها؛ فتصح كالوصية لهم ابتداء.

قلت: وقد ذكر في الوقف أنه لو وقف على كنيسة على هذا النحو لم يصح، وإن كان الوقف يجوز على أهل الذمة، لأن في الصرف على هذا الوجه تعظيما لهم، ولا يبعد أن يجيء مثله هاهنا ويعضده الوجه الذي حكاه الماوردي.

واعلم أن هذا الفصل وإن كان دالا على امتناع الوصية في مثله، فهو أيضاً دال على امتناع صرف المال إلى مثل ذلك. وإن كان كذلك حسن أن تضاف الفروع المتعلقة بهذا إلى هذا الموضع:

فمنها: إذا أوصى لذمي بصحف، فقد نص الشافعي رضي الله عنه على أن الوصية باطلة.

وقد قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: ينبغي أن يكون فيه قول آخر: آن الوصية صحيحة، ويؤمر بإزالة الملك عنه [ويعضده أنهم حكوا فيما إذا أوصى له بعبد مسلم، هل يصح، ويوم بإزالة الملك عنه] أو لا يصح؟ قولين.

ص: 142

قال: وإن أوصى لوارث عند الموت، لم تصح الوصية في أحد القولين؛ لما روى أبو داود عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارثٍ".

وهذا في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد اختلف في الاحتجاج بحديثه، لكن قد خرجه النسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قال: وتصح قي الآخر، وتقف على الإجازة، وهو الأصح.

قال الماوردي: وهو المنصوص عليه في عامة كتبه؛ لما روى الدارقطني عن ابن عباس - رضى الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية لوارثٍ، إلا أن يشاء الورثة". وهذا [ما] قال عبد الحق; إنه حديث مقطوع،

ص: 143

وإن يونس بن راشد وصله، والمقطوع هو المشهور، وقد جزم القاضي أبو الطيب بهذا القول في أول هذا الباب، وحكى عن المزني وابن أبى هريرة طريقة قاطعة بالقول الأول؛ لما في الإجازة من تغيير الفروض التي قدرها الله تعالى للورثة واعتبار ما نسخ.

وفي "رفع التمويه": أن من أصحابنا من قال: القولان في الوصية له إذا جاوزت الثلث، أما إذا لم تجاوزه، فتصح قولا واحدا، كما في الأجنبي. قال: وهو ضعيف.

ثم على الأصح - وهو المنصوص - إذا أجاز الورثة، فهل هي تنفيذ لما فعله الوارث أو ابتداء عطية؟ فيه قولان في "الحاوي"، وفيه أنه لا يشترط على هذين القولين الإتيان ببذل وإيجاب، بخلاف ما إذا فرعنا على القول الأول. نص

عليهما في الأم، وسنعيد الكلام فيهما فيما إذا أوصى بأكثر من الثلث وأجاز الورثة.

وحكم البيع من الوارث [بالمحاباة] وفي مرض الموت بالمحاباة، وكذا الهبة - حكم الوصية وكذا ضمان الدين عنه لأجنبي، كما حكاه الإمام، وهل يكون الضمان عن الأجنبي للوارث كذلك؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب.

وأطلق القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين أن الوصية لغير الوارث كالوصية للوارث، وسنذكر [تفصيل] ما قيل فيه من بعد، إن شاء الله تعالى.

ثم لا فرق في جريان القولين بين أن يوصى إليه وهو غير وارث، ثم صار وارثا، كما إذا أوصى لأجنبية، ثم تزوجها، أو لأخ وله ابن [فمات الابن]؛ أو يوصي إليه وهو وارث، ثم يستمر على الصفة إلى موت الموصي، كما صرح به البندنيجي.

نعم، لو أوصى إليه وهو وارث، ثم صار عند الموت غير وارث، فالوصية نافذة.

ص: 144

ولا يتخرج على الخلاف المذكور في الإقرار للوارث في أن الاعتبار بالوارث بيوم الإقرار أو بيوم الموت؛ لأن استقرار الوصية بالموت، ولا ثبات لها قبله، بخلاف الإقرار.

وفي الجيلي تخريجه على ذلك ولم أره لغيره.

فروع:

إذا أوصى لكل من الورثة بقدر حصته من التركة لغت الوصية.

قال الرافعي: ويجيء فيه وجه آخر؛ لأن صاحب التتمة حكى وجهين فيما إذا لم يكن إلا وارث واحد، فأوصى له بماله.

المذهب منهما: أنه تلغو الوصية، ويأخذ التركة بالإرث.

والثاني: أنه يأخذه بالوصية إذا لم ينقصها.

وفائدة: الخلاف تظهر فيما إذا ظهر دين إن قلنا: يأخذ التركة إرثا، فله إمساكها، وقضاء الدين من موضع آخر.

وإن قلنا: إنه يأخذ بالوصية، قضاه منها، ولصاحب الدين الامتناع لو قضاه من غيرها.

ومعلوم أنه لا فرق بين [أن] يتحد الوارث أو يتعدد.

ولو أوصى لكل منهم بعين هي قدر حصته من ثوب وعبد وغيرهما، فهل تحتاج هذه الوصية [إلى الإجازة] أو لا، ويختص كل منهم بما عينه؟ فيه وجهان:

أظهرهما: الأول؛ لأن الأغراض تفاوت بأعيان الأموال والمنافع الحاصلة منها.

ووجه الثاني: أن حق الورثة يتعلق بقيمة التركة لا بعينها؛ ألا ترى لو باع المريض أعيان التركة بأثمان أمثالها، صح، وحقوقهم في القيمة موفاة، مع أنه لو باع في مرض موته من وارثه عينا بثمن مثلها لم يعترض عليه؟!

مسألة: إذا وقف دارًا في مرض موته على ابنه الحائز لتركته: فإن أبطلنا الوصية لوارث، فالوقف على الابن باطل، وإن اعتبرناها موقوفة على الإجازة، فعن ابن الحداد - وهو المشهور، وقال الإمام: إنه لم يرو في الطرق ما يخالفه - أنه ينظر:

ص: 145

فإن احتملها الثلث، لم يكن للوارث إبطال الوقف في شيء منها؛ لأن تصرف الوارث في ثلث المال نافذ، فإذا تمكن من قطع حق الوارث في الثلث، فلأن يتمكن من وقفه عليه وتعلق حق الفقراء به، كان أولى.

وإن زاد على الثلث، صح في الثلث، وما زاد عليه: إن رده بطل الوقف فيه، وإن أجازه انبنى على أن الإجازة تنفيذ أو ابتداء عطية؟ فعلى الأول: يصح، وعلى الثاني: يتخرج على الوقف على نفسه.

وعن القفال: أن للوارث رد كل الوقف؛ لأن الثلث في حق الوارث كالزائد على الثلث في حق الأجنبي؛ ألا ترى أنه لو أوصى لأحد وارثيه بأقل من الثلث، كان للآخر الرد، فإن أجاز كان الحكم كما ذكرنا في الزائد على الثلث؟!

وأجاب الشيخ أبو علي عما وجه [به] القفال بأنا إنما جوزنا لأحد الوارثين الرد؛ لأن الموروث فضله عليه، ونقص حقه عن عطية الله تعالى، وهنا لا تفضيل.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقبل الابن [الوقف] في حياة والده أو يقبل له لصغرٍ - أو لا؛ لأن الرد والإجازة إنما يعتبران في الوصية بعد الموت.

ص: 146

ثم لا يخفى أنا إذا أبطلنا الوقف على الوارث: إما ابتداء، أو بالرد، وكان الموقوف يخرج من الثلث - أنه يتخرج إبطاله على من بعده على الوقف المنقطع الأول. وكذا إذا زاد على الثلث وقدر الثلث.

وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو علي، كما حكاه الإمام في كتاب الوقف.

ولو كان الوقف على ابن وبنت، على أن للابن الثلثين وللبنت الثلث، ولا وارث له سواهما، وخرجت الدار من الثلث - فلا رد لهما على مذهب ابن الحداد.

وإن زادت على الثلث فلهما رد الزائد، وفي الإجازة ما تقدم.

وإن وقفها عليهما نصفين، والثلث يحتملها، فإن رضي الابن كانت عليهما وقفا نصفين، وإن رد قال الرافعي: فظاهر جواب ابن الحداد: أن له رد الوقف في ربع الدار؛ لأنه لما رد من عليه النصف، كان من حقه أن يقف على البنت الربع، فما زاد كان للابن رده.

ثم يكون الربع المردود مطلقا بينهما على الفريضة، أي: إذا فرعنا على بطلان الوقف المنثني الابتداء.

وقال الشيخ أبو علي: إن له رد الوقف في ثلثي الربع – وهو السدس - من الدار؛ لأنه معلق في حقه، وأما في حصتها منه - وهو نصف السدس - فلا، بل الخيرة في الرد والإجازة إليهما كما تقدم.

وهذا ما استحسنه الإمام، وقال الرافعي: إن كلام ابن الحداد في الوارث في هذا الباب يمكن تنزيله على ذلك؛ فيرتفع الخلاف، لكنه يحتاج إلى ضرب تعسفٍ.

قال: وإن أوصى للقاتل، أي: وهو حر، بطلت الوصية في أحد القولين؛ لعموم

ص: 147

قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لقاتل وصيةٌ"؛ كما خرجه الدارقطني عن رواية علي.

ولأنه مال يملك بالموت؛ فاقتضى أن يمنع منه كالميراث، على أن الميراث أقوى التمليكات، فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية.

وصحت في الآخر، وهو الأصح؛ لعموم قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 14]، ولم يفرق بين القاتل وغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارثٍ"؛ فإنه يدل على أن الوصية للأجنبي صحيحة، وسواء كان قاتلا أو غيره.

ولأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يمنع منه القتل؛ كالبيع والإجارة.

وما ذكر من الخبر، فقد قال أهل الحديث - ومنهم عبد الحق-:"وإنه ضعيف"، فيه مبشر بن عييد وغيره.

ثم إن صح، حملناه كما قال القاضي أبو الطب على الميراث؛ لأن اسم الوصية يقع عليه؛ قال الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وأراد به: الميراث.

والجواب عن القياس على الميراث؛ بعلة استحقاقه بالموت، وهو منتقض بعتق أم الولد إذا قتلت سيدها، وحلول الدين إذا قتل رب الدين المدين، وأما الجواب عن قولهم بأن الميراث أقوى من الوصية، فممنوع؛ لأن الوصية ثبتت فيما لا يثبت فيه الميراث؛ لأنها تصح من المسلم للذمي، ولا يرث الذمي من المسلم.

وفي "رفع التمويه": أن الأستاذ أبا منصور البغدادي قال في "الناسخ والمنسوخ": إنه ينظر: إن كان قتله بحق من قصاص أو غيره، صحت الوصية له، وإن كان قتله ظلما فهو محل القولين.

وهذه الطريقة حكاها الرافعي عن صاحب التلخيص.

ص: 148

وعن القفال: أنه إذا رد الوصية على الإرث، فقال؛ إن ورثنا القاتل بحق، جوزنا الوصية له، وإلا ففيها الخلاف.

أما إذا أوصى للقاتل وهو رقيق، صحت وجها واحدا؛ لأن المستحق لذلك غيره وهو السيد.

واعلم أن المسألة مصورة في تعليق القاضي أبي الطيب بما إذا جرح إنسان إنسانا، فأوصى المجروح للجارح، ثم مات المجروح، وبما إذا أوصى لإنسان، فجرح الموصى له الموصي، ومات من جراحته.

والأحسن: ما في تعليق البندنيجي، وهو تصويرها بالصورة الأولى. وفي الحكم بالصورة الثانية؛ أنها هل تبطل [بعد] صحتها أم لا؟ على قولين.

وحكى الإمام طريقين آخرين:

أحدهما: أن الوصية في الأولى صحيحة قولا واحدا، ومحل الخلاف الصورة الثانية.

والثاني: أن الوصية في الثانية تبطل قولا واحدا، ومحل الخلاف في الأولى.

ثم إذا قلنا بالبطلان، فهل تنفذ [بإجازة الورثة؟ فيه وجهان، على قولنا: إن إجازة الورثة تتفيذ].

أما إذا قلنا: ابتداء عطية، صحت جزما، كذا قاله الإمام.

وقال عند الكلام في الوصية للوارث: إن الأصح عدم النفوذ.

وبنى الماوردي الوجهين على أن الوصية للوارث تنفذ بالإجازة أم لا؟ فإن نفذناها، نفذنا الوصية للقاتل بالإجازة، وإلا فلا.

ثم قال: والأصح هنا عدم التنفيذ، وإن كان الأصح ثم: التنفيذ.

ولا خلاف في أنه إذا أوصى لمن يقتله: أن الوصية باطلة؛ لأنها معصية، وقيها إغراء بقتله.

فرع: إذا قتلت المدبرة سيدها: إن قلنا: إن التدبير عتق بصفة فهو باق بحاله، وإن قلنا: وصية، كان في البطلان القولان.

ص: 149

قال الإمام: ومنهم من أجرى القولين - وإن قلنا: إنه عتق بصفة - لكونه يخرج من الثلث وعلى هذا جرى في التهذيب.

ويعضد هذه الطريقة أن الماوردي قال فيما لو وهب في مرضه لقاتله، أو حاباه في بيع، أو أبرأه من حق-: إن ذلك مخرج على القولين؛ لأن ذلك يخرج من الثلث، ولأنهما جاريان فيما لو أعتق في مرضه عبدا، فقتله العبد حتى يكون في نفوذ عتقه قولان.

فرع: إذا أوصى لمن جرحه، ثم قتل المجروح أجنبي، استحق الموصى له قولا واحدا؛ لأنه لم يمت بجرحه.

قال: وإن [أوصى] لحري أي: بغير سلاح، فقد قيل: تصح، كما تصح الهبة منه.

وهذا ما جزم به الماوردي، وهو منصوص في عيون المسائل.

وقيل: لا تصح؛ لأن القصد يقع للموصى له، ونحن مأمورون بقتله واستئصال ماله، فأي معنى في قصد نفعه؟!

وهذا ما نقله صاحب التلخيص عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهو الظاهر عند الأستاذ أبي منصور، والشيخ في "المهذب" نسبه إلى قول صاحب التلخيص نفسه.

قال: والأول أصح؛ لأنه تمليك يصح من الذمي فصح من الحربي؛ كالبيع، ولأنه إذا لم يمنع [الشركُ الحربي الوصية] إليه كالنكاح، وقد وافق الشيخ على تصحيح الأول الأكثرون، وفرقوا بينه وبين الوقف على الحربي، حيث كان الصحيح فيه المنع: بأن الوقف صدقة جارية، فاعتبر في الموقوف عليه الدوام، كما اعتبر في الوقف، وبأن معنى التمليك في الوصية أظهر منه في الوقف؛ لأن الموصى له يملك التصرف في رقبة الموصى به ومنفعته، ولا كذلك في الوقف.

وهذا الخلاف يجري مثله فيما لو أوصى لشخص وهو مرتد، كما صرح به الماوردي.

ومنهم من بنى صحة الوقف عليه على أن المرتد هل يملك أو لا؟ ثم لا فرق في

ص: 150

الوصية للحربي بين أن يكون في دار الكفر أو دار الإسلام عند القاضي أبي الطيب.

وغيره قيد المسلم بدار الحرب.

أما إذا كان الموصى به للحربي آلة الحرب، فهو كما لو باع منه سلاحا، وقد تقدم ذكره في البيع، صرح به الإمام.

قال: ولو أوصى لقبيلة كبيرة، أو لمواليه وله موالٍ من أعلى وموالٍ من أسفل - فعلى ما ذكرناه في الوقف، وقد تقدم، والمنصوص في البويطي في مسألة الموالي: الإشراك، وقد جمع الماوردي مسائل من تصح الوصية له بقوله: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير، وكبير، وعاقل، ومجنون، وموجود، ومعدوم، إذا لم [يكن وارثا ولا قاتلا]، وهذا يقتضي أن الوصية لعبد الغير تخرج عن القولين في الوقف عليه نفسه هل يصح أم لا؟ فإن صح كان للسيد أن ينزعه منه، وكذا يقتضي أن الوصية للدابة تخرج على الوجهين في أن الوقف عليها هل يصح أم لا؟ فإذا صح كانت وصية للمالك وينفق عليها، إن كان يعتقد جريان الخلاف فيها، وسيأتي الكلام في ذلك، إن شاء الله تعالى.

قال: وإن أوصى لما تحمل هذه المرأة، فقد قيل: يصح.

كما لو أوصى لمن يدخل البلد من الحجيج أو من الغرباء، كذا قاله ابن الخل والقاضي أبو الطيب. ولأنه لو أوصى بحمل سيحدث صح، مع أنه تمليك ما لم يوجد؛ فلذلك يجوز تمليك عن لم يوجد، وهذا ما اختاره أبو إسحاق، وأورده الأستاذ أبو منصور.

وقيل: لا يصح؛ لأنه تمليك، وتمليك من لم يوجد ممتنع، ولأنه لا متعلق للعقد في الحال؛ فأشبه ما إذا وقف على مسجد سيبنى، وهذا أظهر عند الأكثرين من الأصحاب منهم المصنف، وبه جزم الماوردي.

وقد حكى القاضي الحسين أن الوجهين يبنيان على ما لو وقف داره على ولد سيحدث، أو على مسجد سيبنى، هل يصح؟

ص: 151

فيه قولان، وفيه وجه ثالث: وهو النظر إلى حال الموت: فإن كان [الحمل] موجودا حينئذ، صحت الوصية، وإلا فلا، وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالًا لنفسه، وأيده بأن الوصية تصح للحمل في حال كونه نطفة، وإن كان لا يملك.

فرع: لو أوصى لأحد الرجلين لم يصح على أظهر الوجهين، كما في سائر التمليكات، ومحل الخلاف: إذا قال: أوصيت لأحد الرجلين، أما إذا قال: أعطوا هذا العبد أحد [الرجلين، ففي] المهذب والتهذيب وغيرهما: أنه جائز؛ تشبيها بما إذا

قال لوكيله: بع من أحد الرجلين.

قال: ويستحق الوصية بالموت؛ إن كانت لغير معين: [كالفقراء، والمساكين، والعلماء، ونحوهم؛ لأنه لا يمكن اعتبار القبول منهم.

وإن كانت لمعين، ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: تملك بالموت، أي: شاء أو أبى، كما ذكره القاضي أبو الطيب والبندنيجي؛ لأنه استحقاق بالوفاة، ولم يكن من شرطه القبول، كالميراث، ولأن التدبير وصية كسائر الوصايا، [يجب] أن ينجز بالموت؛ وهذا ما حكاه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبو ثور عن الشافعي. ورأيت في نسخة من تعليق البندنيجي أن المزني نقله مع ابن عبد الحكم، فلعل ذلك غلط من الناسخ؛ فإن بعض الأصحاب قالوا: إن ابن عبد الحكم وأبا ثور تفردا بنقله عنه، وامتنع أبو إسحاق المروزي وأكثر المتقدمين من أصحابنا من إثباته قولا، ولم يثبتوا للشافعي سوى القولين الاثنين؛ لأنهما منصوصان في كتبه، وحملوا هذه الرواية على معنى أن بالقبول يحكم بدخوله بالموت في ملكه.

وابن أبي هريرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا -كما قال الماوردي - أثبتوه قولا للشافعي.

والقائلون به يقولون: له رده، ويدخل في ملك الوارث من جهة الموصى له من حين الرد؛ كما ذكره أبو الطيب والبندنيجي.

ص: 152

قال: والثاني: بالموت والقبول؛ لأنه تمليك بعقد؛ فيوقف الملك فيه على القبول؛ كما في البيع ونحوه.

ووجهه ابن الصباغ والشيخ في المهذب بأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يقع الملك قبله كالهبة.

وهذا التعليل يفهم: أنا على القول الأول نعتبر الإتيان بالقبول، وإلا لكان مصادر، وعلى هذا ينطبق قول الغزالي: أما القبول فلا بد منه، وكذلك قول الإمام: لا خلاف أن القبول لا بد منه. وقد يظهر هذا تناقضا، وليس كذلك؛ بل المراد: أن القبول لا بد منه: إما في حصول الملك على القولين الآخرين، أو في لزومه على هذا القول، كما صرح به الإمام.

فرع: لمن يكون الملك بعد الموت، وقبل القبول؟ فيه وجهان:

أصحهما - وبه قال ابن سريج وأكثر البصريين-: أنه للوارث.

والثاني - وبه قال أبو إسحاق وأكثر البغداديين-: أنه مستبقى على ملك الميت، وعليهما يخرج ما إذا كان الموصى به زوجة الوارث.

فإن قلنا بالأول انفسخ النكاح، وإن قلنا بالثاني لم ينفسخ، قاله ابن الصباغ قبيل باب التعريض بالخطبة بورقة وشيء، بعد أن حكى في صدر المسألة عن ابن الحداد إطلاق القول بعدم انفساخ النكاح؛ إذا قبل الموصى له.

قال: والثالث - وهو الأصح-: أنه موقوف، فإن قبل حكم له بالملك، أي: يقينا، من حين الموت، وإن رد حكم بأنها ملك للوارث؛ لأنه لا يملك جعله بعد الموت للموصي؛ لأنه جماد والجماد لا يملك، ولا للورثة؛ لأنهم لا يملكون إلا بعد الدين والوصية؛ للنص، ولأنه يؤدي إلى أن ينتقل الملك إلى الموصى له منهم، وذلك خلاف وضع الوصية، ولا للموصى له، وإلا لما صح رده له كالميراث، فتعين الوقف مراعاة.

قال القاضي الحسين والمتولي: وهذا الخلاف كالخلاف المذكور في حصول الملك في البيع، وعليه تتفرع مسائل:

ص: 153

منها: كسب العبد، وثمرة الشجرة، وسائر زوائد الموصى به إذا حصلت قبل الموت، فهي له ولورثته من بعده، وإن حصلت بعد القبول، فهي للموصى له، وإن حصلت بعد الموت، وقبل القبول فعلى الأول والثالث: هي للموصى له.

وعلى الثاني: هي للورثة على الصحيح.

وقيل: للميت حتى يقضى منها ديونه.

وقيل: للموصى له.

وإن رد، وقلنا: ملك بالموت فهي له أيضاً، وبه جزم البندنيجي، وقيل: لا، وحكمها كما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالقبول؛ فتكون للورثة على الصحيح، وقيل: للميت.

وحكم الحمل الحادث بعد الوصية بالجارية، حكم الزوائد الحادثة؛ فلا يدخل في الوصية، إذا كان قبل موت الموصى.

وحكى الإمام في كتاب التدبير عن شيخه إبداء احتمال في إجراء القولين في ولد المدبرة فيه، والظاهر القطع بالأول.

ومنها: نفقة الموصى به، إذا احتاج إلى نفقة، وكذا زكاة الفطر تبنى على الأقوال.

وفي الوسيط: أنها على الموصى له إن قبل على كل حال، وعلى الوارث أن يرد على كل قول، ولا يعود فيها الوجه المذكور في الزيادات، وإن كان يحتمل أن يقال:

الغرم في مقابلة الغنم، لكن إدخال شيء في المال [فهذا] أهون من التزام مؤنه قهرا، وهذه طريقة الإمام؛ فإنه قال: ولا أحد من الأصحاب يستجيز إلزام الموصى له المؤن بين الموت والرد. فإن هذا هجوم عظيم على القواعد.

ومنها: إذا كان قد زوج أمته من حر، وأوصى له بها، فإن رد الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا: إنه يملك بالموت؛ فينفسخ من يوم الموت على الأصح، وفيه وجه حكاه المتولي. وإن قبل انفسخ النكاح، ويكون من وقت الموت على قول، ومن وقت القبول على آخر.

وإن كان قد زوجها من وارثه، ثم أوصى بها لغيره، فإن قبل الموصى له الوصية استمر النكاح، إلا إذا قلنا: إن الملك يحصل بالقبول وأنه قل الموت

ص: 154

للوارث، ففيه وجهان:

أظهرهما: الانفساخ.

ووجه الثاني: أن الملك ضعيف يتعلق باختيار الغير.

وإن رد انفسخ النكاح، وفي استناده إلى حالة الموت هذا الخلاف.

وهذا إذا خرجت من الثلث، فإن لم تخرج ولم يجز الورثة، انفسخ أيضاً؛ لوجود شيء منها في ملكه.

وإن أجازوا وقلنا بحصول الملك بالموت أو بالتوقف، فهل ينفسخ؟ إن قلنا: إن إجازتهم تنفيذ، وإلا فقد انفسخ.

ومنها: إذا أوصى له بمن يعتق عليه، فإن قلنا: إنه يملك بالموت، عتق عليه من غير قبول، فإن رد فهل يرتد العتق؟

فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ كما لو اشترى من يعتق عليه بشرط الخيار، كان له فسخ العقد.

والثاني لا، وبه جزم المتولي، بخلاف الخيار في البيع.

قال القاضي الحسين: لأن الخيار شرع؛ لاستدراك الظلامة، فلو قلنا: ليس له الفسخ لرفعنا معنى الخيار، بخلاف ما نحن فيه.

وحكى الإمام الوجهين في أن العتق هل ينفذ قبل القبول أم لا؟ تفريعا على أنه ملك بالموت، وشبه الخلاف بما إذا أنشأ المشتري العتق في زمن الخيار، مع قولنا: إن الملك له، وأبدى بينهما فرقا ظاهرا؛ وعلى ذلك جرى الرافعي حيث قال: المذهب أن العتق لا ينفذ قبل القبول.

وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول إذا قلنا بالوقف، فلم يقبل، لم يعتق، والأولى له أن يقبل، وسيأتي في كتاب العتق حكاية وجه في وجوب القبول إذا لم يلزمه نفقته.

فرع: إذا أوصى بعتق عبده بعد موته، ثم مات، فلمن يكون الملك قبل اتفاق العتق؟

ص: 155

قال الرافعي والمتولي: إنه للوارث قولا واحدا، ومساق هذا أن العبد إذا اكتسب مالا قبل: العتق يكون للوارث؛ كما لو اكتسب الموصى به مالا قبل القبول، وقلنا بحصول الملك به لا قبله.

وقد حكى الروياني في "البحر" - في باب الإقراع بين العبيد - في كسبه قولين:

أحدهما: أنه للوارث. والثاني: للعبد المعتق.

وهذا كالعبد الموصى به لإنسان إذا اكتسب العبد مالًا بعد موت سيده، وقبل القبول، لمن يكون كسبه؟ وفيه قولان: أحدهما: للوارث.

والثاني: للموصى له.

وإن منهم من قال: يكون للعبد قولا واحدا، وهو الصحيح. والفرق أن العبد استحق العتق بموت السيد استحقاقا مستقرًّا لا يسقط بوجه من الوجوه، وليس كذلك الموصى له؛ فإنه بالخيار: إن شاء قبل، وإن شاء رد.

قال: فإن لم يقبل ولم يرد وطالب الورثة، أي: على القولين الآخرين – خيره الحاكم بين القبول والرد، فإن لم يفعل حكم عليه بالإبطال؛ لأن الملك متردد بينه وبين الوارث؛ فأشبه المتحجر إذا امتنع من الإحياء.

وعلى هذا؛ عليه النفقة إلى أن يختار، وهذا الكلام من الشيخ يفهم أن القبول لا يشترط أن يكون على الفور.

وقد فصل الماوردي فقال: إن لم يعلم الموصى له بحقه في القبول إلى أن يعلم، [فإن كان علمه] عند انعقاد الوصايا وقسمة التركة، فقبوله على الفور، فإن قبل وإلا بطل حقه في الوصية.

فأما بعد علمه وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي، وجمهور أصحابه: أن القبول فيه على التراخي؛ فيكون ممتدًّا ما لم يصرح بالرد، حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة.

وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا: أن القبول بعد علمه على الفور؛ كالهبة.

ص: 156

وحكى في البحر: أن منهم من جعل نهايته ثلاثة أيام.

وهل يقوم رهن الموصى له الموصى به مقام قبوله؟

فيه ثلاثة أوجه حكاها الإمام في كتاب الرهن:

أحدها: نعم، ويصح الرهن.

والثاني: لا، فلا يصح الرهن.

والثالث: يكون قبولا، ولا يصح الرهن.

ويظهر جريان هذا الخلاف في كل تصرف في معنى الرهن أو أقوى منه؛ كالبيع ونحوه، ولا خلاف في أن القبول في هذه الوصية لا يعتد به قبل الموت، وكذا الرد فيها.

قال: وإن قبل الوصية وقبض ثم رد، لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر؛ فلم يملك إبطاله؛ كالملك بعد القبض في الهبة. قال: وإن رد بعد القبول وقبل القبض، فقد قيل: يبطل - أي عقد الوصية - وهو ظاهر النص في الأم والمذهب في تعليق البندنيجي، والأصح في غيره، قياسا على الغانمين؛ فإنهم يملكون الغنيمة بالاستيلاء، ولو أعرضوا سقط حقهم لأهل الخمس؛ كذا قاله المتولي. ولأنه تمليك من جهة آدمي من غير بدل؛ فصح رده بعد القبول وقبل القبض؛ كالوقف إذا رده بعد القبول وقبل القبض فإنه يرتد، وإن كان مالكا. [كذا] قاله الماوردي، والظاهر: أنه يرتد بالنسبة إلى الريع لا بالنسبة إلى إبطال الوقف.

وقيل: لا يبطل؛ لأن المعقود عليه ليس من شرط الملك فيه القبض؛ فلم يملك رده بعد القبول؛ كالبيع، وهذا ما قطع به المراوزة، كما حكاه الإمام قبيل باب نكاح المريض، وأن العراقيين ارتضوه، وحكوا معه وجها آخر.

وأشار إلى الأول ثم قال: وهو ضعيف لا مستند له من أثر [الرد]، ولا معنى، فلست أعتد به.

ثم على القول الثاني، إذا قبل الوارث الرد، فهل يصح الرد؟ فيه وجهان:

ص: 157

أحدهما: نعم، ويكون كالإقالة؛ فيعود المال إلى التركة.

والثاني: لا، إلا أن يأتي الموصى له بإيجاب وقبول وشروط الهبة، وحينئذ يكون ملكا للوارث لا للتركة؛ [كذا] حكاه الماوردي.

واعلم أن الوصية بالمال تنعقد بالإيجاب الصريح، وهو قوله: أوصيت لك بكذا، أو أعطيتك كذا، أو أعطوه، أو جعلت هذه الدار ملكه بعد الموت.

ولو قال: "عينت هذا له"، فهو كناية تنعقد بها الوصية عند النية.

ولو قال: "وهبت هذا منه"، ففى كونه كناية وجهان:

أصحهما: لا، فلو قال:"هذه لفلان"، ثم قال: أردت الوصية، لم يقبل إلا أن يقول:"هذا من مالي لفلان".

ولو قال له إنسان: أوصيت لفلان بكذا؟ فقال: نعم.

قال المتولي: لا نجعل ذلك وصية؛ لأنه لم يأت بلفظ عقد. فهذا يشكك بما حكيناه عنه في نظر المسألة من البيع.

ولا يكفي في الوصية الكتابة، نعم لو كتب، ثم قال للشهود:[اشهدوا] أن مضمونها وصيتي، وختمها فهو ختمى - فهل يعمل به؟ فيه وجهان:

المشهور: لا.

وحكى في التتمة عن محمد بن نصر المروزي من أصحابنا أنه قال: يكفي، وتثبت الوصية بالشهادة على ذلك، وهو نظير وجه حكاه الغزالي في الباب الثالث في القضاء على الغائب، فيما إذا أسلم المقر [له] الضالة إلى الشهود، وقال:

اشهدوا بما فيها؛ فإني عالم به، وقال: لعله الأصح، لكنه علله بأنه مقر على نفسه بما لا يتعلق [بحق] الغير، والإقرار بالمجهول صحيح، وهنا قد يقال: إن ذلك يتعلق بحق الغير.

وعن بعض أصحابنا فيما رواه أبو الحسن العبادي: أنه تكفي الكتابة من غير إشهاد؛ لقوله عليه السلام: "إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه".

ص: 158

قال: وإن مات الموصى له قبل الموت، بطلت الوصية؛ لأنها قبل الموت غير لازمة، فبطلت بالموت؛ كما لو مات أحد المتعاقدين في البيع قبل القبول.

قال: وإن مات بعد موته - أي: وقبل القبول والرد - قام الوارث مقامه في القبول والرد؛ لأنه حق يملك ثبت للوارث بغير اختيار من له العين، فقام الوارث فيه مقام الموروث؛ كالآخذ بالشفعة.

قال الأصحاب: وليس لنا قبول يبقى بعد موت الموجب له [والموجب]، إلا هذا.

ووراء ذلك أمران آخران:

أحدهما: حكى الشاشي قولاً: أن الوصية تبطل بموت الموصى له قبل القبول.

الثاني: حكى الإمام وجها عن رواية الشيخ أبي علي: أن الموصى به إذا كان ممن يعتق على الموصى له: كأبيه، وابنه، لا يجوز للوارث القبول؛ فإنا لو صححنا القبول، لعتق على الميت، ولثبت له الولاء عليه، ولا سبيل لإثبات الولاء للميت، بغير إذنه؛ وهذا بناء منه على أنه يعتق على الميت. وستعرف الخلاف فيه.

ثم على الصحيح: إذا قبل الوارث، فلمن يحصل الملك في الموصى به ابتداء؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أقوال الملك: فإن قلنا: يملك بالقبول، ففيه وجهان:

أحدهما: وهو قول ابن أبى هريرة وأبى حامد المروروزي؛ كما حكاه الماوردي: أنه حاصل للورثة ابتداء، وبهذا أجاب ابن الصباغ وأبو الطيب وآخرون. وعلى هذا: فهل تقضى منه ديون الميت، وتنفذ وصاياه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في المجرد، ووجه القضاء وهو المذهب في البحر، والذي حكاه ابن الصباغ عن الأصحاب: أنهم ملكوه بما ورثوه عنه من القبول، فهو موروث بسبب من جهته؛ كما يملكون الدية إذا قتل وتقضى منها ديونه، وإن قلنا: إنها ثبتت للوارث ابتداء.

ص: 159

ومقابله اختيار أبي حامد، ولم يحك في البحر والحاوي في كتاب الأقضية واليمين مع الشاهد سواه، وقالا: إن الموصى به يكون بين الورثة على السواء؛ تفريعا على هذا وإن تفاوتوا في الميراث، دون ما إذا قلنا: إن الملك حاصل للميت.

[والثاني]- وهو الظاهر من مذهب الشافعي كما قاله الماوردي، وبه قال أكثر البصريين، وحكاه ابن كج عن شيوخه: أنه يثبت ابتداء للميت؛ لأن الموصى إنما أثبت الملك للموصى له؛ فلا يثبت لغيره، وقبول الوارث نيابة عنه، وعلى هذا قال الغزالي: يستند الملك إلى ألطف حين قبل موت الموصى له.

وإن قلنا بقول الوقف أو بقول انتقال الملك بنفس الموت - فالملك حاصل للموصى له.

وعلى ما ذكرناه ينبني ما إذا كانت الوصية بمن يعتق على الموصى له، فحيث قلنا؛ إن الملك يحصل ابتداء للوارث، فإن كان ممن يعتق عليه الموصى به أيضاً، كما إذا كان وارث الموصى له أباه والموصى به ابنه - عتق على الوارث أيضاً،

وولاؤه له. وإن كان ممن لا يعتق عليه، فلا يعتق.

وحيث قلنا: يحصل الملك للموصى له ابتداء عتق عليه، ولكن هل يرث منه؟ ينظر: إن حكمنا بحريته عند القبول، فلا. وإن حكمنا بحريته عند الموت: فإن كان ممن يحجب الوارث القابل كما إذا كان القابل أخا للموصى له أو عمه، والموصى به ولده - فلا يرث؛ لأن ثبوته يؤدي إلى نفيه.

وأبدى ابن الصباغ في هذه الصورة احتمالا موافقا لما ذكر أنه أبداه في الإقرار من توريث الابن الذي أقر به عمه.

وإن كان الوارث القابل ابنا، والموصى به ابنا آخر، فوجهان حكاهما القاضي في المجرد.

أحدهما: أنه يرث؛ لأنه ليس في إرثه سقوط إرث أخيه الذي قبل الوصية؛ فلا يؤدي توريثه إلى نفيه، وهذا ما جزم به الماوردي.

والثاني: لا يرث، وهو من تخريج ابن سريج، وصححه الروياني والغزالي.

ص: 160

وكذا هو عند الإمام كما حكاه في نفوذ نكاح العبد، ووجهه: أنا لو ورثناه لاعتبرنا قبوله، ولا يعتبر قبوله في حال رقه، ولا فائدة فيه بعد العتق.

وعلى الأول قال الداركي: محله إذا كان القبول قد ثبت للموصى له وهو صحيح، أما إذا ثبت له وهو مريض، ثم مات قبل القبول – لم يرث الموصى به؛ لأن قبول الوارث يقوم مقام قبول الموروث. ولو قبل الموروث في حال مرضه، لكانت وصية للموصى به الذي يعتق عليه ولم يرثه؛ فكذلك هاهنا؛ ألا ترى أنه إذا أوصى له بولده، فقبل الوصية وهو مريض، فإنه يعتق عليه ولا يرثه؟ وهذا منه تفريع على ما استشهد به كما هو ظاهر النص في التتمة في هذا الباب، وإلا ففي مسألة الاستشهاد وجه يأتي في العتق – إن شاء الله تعالى – أنه لا يحسب عليه من الثلث ويرثه.

ولو كان وارث الموصى له ابنان، فقبل أحدهما، ورد الثاني، قال الإمام: فالذي ذكره الأصحاب: أن القدر الذي قبله يعتق على الميت ثم إن كان نصيب القابل من التركة التي في يده تفي بالسراية، سرى، ويكون العتق عن الميت ابتداء وسراية والولاء له، ويرث الابن القابل وكذا الراد على أصح الوجهين. وإن لم يكن في يده من التركة شيء أصلا فلا يسري.

وجواب الشيخ أبي على: أنه لا يسري في الصورة الأولى أيضاً؛ فإنه لو سرى لسرى عن الميت، والعتق لا يسري على ميت؛ لأن حكمه حكم المعسرين. قال الإمام: ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ، وما سواه غلط في القياس.

قلت: وفيما قالاه نظر؛ لأنا نفرع على قولنا الوقف، فإذا حصل القبول من الوارث، تبينا حصول العتق عند موت الموصي، وذلك في حياة الموصى له، فإذا أسرينا العتق لم نسره على ميت، بل [نسره] على حي.

قال: وتجوز الوصية بثلث المال، أي: الفاضل عن وفاء الدين؛ لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: هلك وأوصى لك بثلث ماله، فقبله ورده على ورثته.

ص: 161

وقيل: إنه كان أول من أوصى بالثلث، وأول من أوصى بأن يدفن إلى القبلة، ثم صارا جميعاً سنة مشروعة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموصي جاهلا بقدر ثلثه أو عالما. ثم الاعتبار بثلث ماله حال الوصية أو حال الموت؟ فيه وجهان:

[الذي ذهب إليه أكثر البغداديين منهما: الأول؛ حتى لا يدخل فيه ما حدث له من بعد].

والذي ذهب إليه أكثر البصريين: الثاني، وهو الذي صححه البندنيجي والرافعي. وحكي عن بعضهم الجزم به.

ومساق هذا الخلاف أنه لو كان ثلث ماله عند الوصية مائة، وصار عند الموت ألفا: أن الوصية هل تكون بثلث المائة أو بثلث الألف؟

وقد حكى الإمام عند الكلام فيما إذا قال: [أعطوه] رأسا من رقيقي عن الشيخ أبي علي في شرح التلخيص، أن الأصحاب لم يختلفوا في صرف ثلث ما خلفه، وإنما اعتبرنا كون ذلك فاضلا عن الدين. وإن كانت الوصية في الآية مقدمة تلاوة، وبها عمل أبو ثور؛ فقدم الوصية على الدين؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال:"إنكم تقرءون الوصية قبل الدين، والدين مقدم عليها"، ولا يقول هذا إلا توفيقا. ولأن الدين آكد من الوصية؛ فإنه لو استغرق جميع التركة لم يكن للورثة اعتراض بخلاف الوصية.

وإذا كان أقوى وجب أن يكون مقدما على الأضعف، وعلى هذا لا نقول بأن الوصية مع وجود الدين لا تصح؛ لأنه لو حصل إبراء من الدين أو تبرع أحد فقضاه من غير التركة، نفذت الوصية في التركة.

قال: فإن كان ورثته أغنياء، أي: بمال لهم، أو بما يحصل من ثلثي التركة كما قاله القاضي أبو الطيب والبندنيجي وصاحب البحر – استحب أن يستوفى الثلث، وإن كانوا فقراء، أي: لا يغنيهم الثلثان كما قال [القاضي] أبو الطيب وغيره – استحب ألا يستوفى الثلث؛ لما روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال:

ص: 162

عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [من وجع] أشفيت منه على الموت، قلت: يا رسول الله، بلغ منى الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا"، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثيرٌ؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس. ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك".

وأراد سعد بأنه ليس من يرثه، [أي: من ذوي] الأنصباء، أو من [بني] الأولاد، وإلا فبنو عمه من بني زهرة، وفيهم كثرة. ومعنى قوله – عليه السلام:"عالة" أي: فقراء، كما قاله الأزهري، وقال الجوهري: العيلة والعالة: الفاقة. ويتكففون الناس: أي: يسألون الصدقة بأكفهم.

وقد قال ابن الصباغ: في هذه الحالة التي ذكرها الشيخ يكون الاستحباب [في الوصية] بالربع فما دونه. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ورثته لا يفضل ماله عن غيابهم، فالأفضل ألا يوصي. وفي الرافعي إطلاق القول بأن المستحب ألا يستوفي الثلث؛ للخبر، ولما روى عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أن أوصي بالثلث، فمن أوصى بالثلث فلم يترك. وهذا ما حكاه الروياني عن بعض أصحابنا بخراسان.

قال: وإن أوصى بأكثر من الثلث ولا وارث له، بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، أي: وصحت في الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم عند وفاتكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم"؛ فدل على عدم ملكه لما زاد على الثلث. ولأن

ص: 163

الأنصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم، فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعًا.

قال أصحابنا: ولو يكن له وارث؛ إذ لو كان، لوقفه على إجازته.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الزائد على الثلث لا تنفذ [الوصية فيه] بإجازة الإمام، وتوجيهه: أن مال من هذا حاله ينتقل إلى بيت مال المسلمين ميراثًا للمسلمين، والإمام نائب عنهم في التصرف فيه؛ فلا تنفذ الوصية فيما لم يجز الشرع تنفيذه بإجازته؛ كولي اليتيم.

وقد حكى المتولي وجها آخر جزم به في البحر: أنها تنفذ بإجازته؛ إقامة للإمام مقام الوارث الخاص.

وقد جعل القاضي الحسين هذا الوجه الأظهر، مع حكايته وجه المنع، وقال: إن من أصحابنا من قال: إن المال لا يصرف لبيت المال إرثًا، بل صرف المال الضائع؛ لأنا نتيقن أن له وارثا من المسلمين؛ لأنه لا يخلو عن بني أعمام وهم غير معلومين؛ فبقى ضائعا يوضع في بيت المال؛ ليصرف إلى المصارف.

وهذا فيه نظر؛ لأن الميت يجوز أن يكون من زنى؛ فلا بني أعمام له؛ وبذلك ينتفي اليقين، ووراء ذلك وجهان غريبان:

أحدهما: عن شرح أدب القضاء للشيخ أبي عاصم العبادي: أن الوصية نافذة بجميع المال، كمذهب أبي حنيفة؛ تمسكا بأنه – عليه السلام – لما منع سعدا من الزيادة على الثلث، قال: "لأن تدع ورثتك أغنياء

" الحديث، فجعل المنع من الزيادة حقا للوارث، فلما لم يكن وارثا سقط المنع، هكذا قاله الرافعي، والكتاب المذكور هو "الإشراف"، وقد رأيت هذا الوجه فيه، لكنه ذكره بصيغة تحتمل أن يراد بها الوجه الذي حكيناه من قبل، فإنه قال: وإذا لم يكن [له] وارث، صحت الوصية بجميع المال على أحد الوجهين.

ص: 164

والثاني: حكاه القاضي الحسين في تعليقه: أنه لا تصح الوصية ممن لا وارث له بشيء من ماله للمسلمين؛ بناء على أن المال يصرف لبيت المال إرثا، والوصية للوارث باطلة، وطرده في جواز شيء من مال من قتل من المسلمين – ولا وارث له – لقاتله.

والصحيح ما في الكتاب، وما ذكر في الحديث فللتنبيه على الأخص، وليس بتعليل؛ لأنه لو كان للتعليل لاقتضى جواز الزيادة على الثلث ، إذا كان الورثة أغنياء، والفرق بين الوارث المعين والواحد من المسلمين إذا قلنا: إن بيت المال وارث – أن المال في الوارث المعين واصل إليه، فيؤدي إلى اجتماع الميراث والوصية له، والشرع نهى عن ذلك، بخلاف الواحد من الأجانب؛ فإن الوصية إليه ليس من ضرورتها الاجتماع مع الميراث.

قال: فإن كان له وارث، ففيه قولان:

أحدهما: تبطل الوصية، أي بالزائد على الثلث، وتصح في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا عن الزيادة على الثلث، والنهي يقتضي الفساد، وهذا ما اختاره كثير من مشايخ خراسان؛ كما نقله في البحر، ويجيء في المسألة على هذا وجه: أن الوصية تبطل في الثلث أيضاً؛ لأن المتولي حكى وجها فيما إذا أوصى بثلثه لوارثه ولأجنبي، ولم يصحح الوصية للوارث: إن الوصية للأجنبي تبطل؛ بناء على تفريق الصفقة، وحكاه في البحر – أيضاً – نظرا إلى أن الصيغة جمعت حلالاً وحراماً، وأشار إليه البندنيجي احتمالاً؛ لأنه حكى عن شيخه عدم البطلان في نصيب الأجنبي، ثم قال: وفيه نظر.

وإذا جرى هذا الوجه ثم وجب جريانه هنا؛ لأن الأصحاب عن آخرهم جعلوا الوصية بالزائد عن الثلث في حق الأجنبي والوصية للوارث بينهما كان من المال على حد سواء في الصحة والفساد في الوصية للوارث والأجنبي؛ وامتناع تخريجه على تفريق الصفقة: بأن العقد مع شخصين ينزل منزلة العقدين، ولو فسد

ص: 165

أحد العقدين لم يفسد الآخر، وهنا قد انتفى ذلك؛ لأن الفساد في لفظ واحد جرى مع شخص واحد.

ثم على القول بالبطلان في أصل المسألة: إذا أجاز الوارث كان ابتداء عطية يشترط فيها شرائط الهبة، ولو كان ما جرى من الميت عتقا فلا بد من أن يأتي الوارث بلفظ العتق، ويكون الولاء فيه للوارث على الأصح، وفي الحاوي: أن أبا الحسن الفرضي – يعني ابن اللبان – قال الولاء [لا] يثبت للموروث بجملته إذا لم بكن للمعتق مال سوى المعتق. وفي الحر حكاية هذا الوجه، ثم قال: واختاره أبو الحسن الفرضي. وهل يكفي فيه بلفظ الإجازة؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين هنا، وفي الوسيط في كتاب القراض قال المتولي: وظاهر كلام الشافعي يدل على الاكتفاء به، وفي الحاوي: أنه يكفي مع النية؛ لأن ذلك كناية في العتق، والمجزوم به في تعليق البندنيجي: أنه لا يكفى.

قال: والثاني: يصح، ويقف على إجازة الوارث، فإن أجاز، صح، وإن رد، بطل؛ لأنها وصية صادفت ملكه، وإنما تعلق بها حق الغير؛ فأشبه بيع الشقص المشفوع؛ وهذا ما قال القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما: إنه الصحيح.

وقال البندنيجي: إنه المنصوص عليه في عامة كتبه وفي عامة أبواب الأم.

وعلى هذا إذا رد، فهل نقول: الزيادة ثبتت، ثم ردت، أو إذا ردت تبينا أنها لم تنفذ في غير ما بان؟ فيه قولان حكاهما الإمام في الفروع المذكورة في كتاب العتق.

وإذا أجاز يكفي لفظ الإجازة، وإن كان الزائد على الثلث عتقاً، ويكون الولاء فيه للميت، ولا يحتاج إلى إقباض في غير العتق.

ويجوز مع الجهالة كما القاضي أبو الطيب في تعليقه.

وقال في التتمة: [إنه] إذا أجاز مع حال الجهالة، كان كالإبراء من المجهول، وعلى ذلك جرى الرافعي، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، وعليها جرى في المهذب، والقاضيان أبو الطيب والحسين، [والماوردي]؛ حيث قالوا تفريعاً

ص: 166

على القول الأول: إنها لا تتم إلا بالقبض، وله الرجوع فيها ما لم يقبض.

وقال القاضي الحسين: إن الخلاف في الصحة وعدمها مستنبط فيها من مسألة نص فيها الشافعي على قولين، وهي: إذا أوصى بأكثر من الثلث، وأجاز الوارث الزيادة على الثلث، فهل الإجازة [ابتداء] تمليك أو عطية أو تنفيذ وصية؟ على قولين.

فعلى الأول: تكون الوصية بالزيادة باطلة.

وعلى الثاني: تكون منفذة. ثم ظاهر هذا النص يقتضي الاكتفاء بلفظ الإجازة على القولين معا، وبه قال القفال، واختاره ابن الصباغ لنفسه بعد حكاية الخلاف عن الأصحاب.

قال: ولا يصح الرد والإجازة إلا بعد الموت؛ إذ لا حق للوارث قبل الموت؛ فلا ينفذ رده وإجازته؛ كما في عتق الشفيع قبل البيع، ولأن الرد والإجازة إنما يصحان من وارث، ويجوز أن يصير هذا غير وارث؛ فلم يصح الرد والإجازة.

وهكذا الحكم فيما لو أذن لمورثه في الوصية بأكثر من الثلث.

وعن الأستاذ أبي منصور فيما إذا حصلت الإجازة بعد الموت وقبل القسمة: أنها هل تنزل منزلة الإجازة قبل الموت؟ [قال: فيه] قولان مخرجان للأصحاب، والظاهر لزومها.

قال: فإن أجاز، أي: على قولنا بأن الوصية صحيحة بالإجازة، ثم قال: أجزت؛ لأنني ظننت أن المال قليل، وقد بان خلافه – فالقول قوله مع يمينه أنه لا يعلم.

صورة المسألة: أن يوصي رجل لشخص بنصف ماله، فيجيزه الوارث بلفظ الإجازة بعد الموت، ثم يقول بعد ذلك: ظننت أن التركة ستة آلاف دينار – مثلاً – فيكون ما أجزته ألفاً، وقد ظهر لي أن التركة ستون ألفاً؛ فيكون الزائد على الثلث عشرة آلاف، ولم أرض بذلك – فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يعلم؛ لأن الأصل عدم علمه بذلك، فإذا حلف نفذت الإجازة في القدر الذي

ص: 167

ادعى علمه به – وهو ألف – وسلم للموصى له مع الثلث؛ ليكمل له أحد وعشرون ألفا، والباقي للوارث؛ لأن ذلك إسقاط حق عن أعيان، فلم يصح مع الجهل؛ كالهبة، وهذا ما نص عليه في الأم؛ كما حكاه في الشامل والبحر، وفي الإملاء؛ كما حكاه الرافعي.

وفي تعليق القاضي الحسين مع هذا وجه آخر: أنه لا تصح الإجازة في [شيء] أصلا؛ فيصح للوارث في مثالنا أربعون ألفا، وأن مثل هذا الخلاف يجري في الإبراء من المجهول، فعلى وجه: لا يصح في القدر الزائد على المحقق، ويصح في المحقق، [وعلى] وجه: لا يصح في شيء أصلا.

قلت: وعلى قياس ما حكيته عن القاضي أبي الطيب من الجزم بصحة الإجازة مع الجهالة، ألا نجعل لقول الوارث أثراً، ويسلم النصف من التركة للموصى له، وكذا إذا قلنا: إن الإبراء عن المجهول يصح، ولم أر من صرح به.

ولو أقام الموصى له بينة تعلم الوارث بمقدار التركة، لزمت الإجازة.

قال: وإن قال: ظننت أن المال كثير وقد بان خلافه، ففيه قولان:

صورة المسألة: أن يوصي إنسان لشخص بعبد معين أو نحوه، قيمته أكثر من الثلث، فيجيز الوارث الوصية، ثم يقول الوارث: ظننت أن المال كثير؛ فيكون الزائد من قيمة العبد على الثلث قدراً يسيراً، والآن فقد ظهر أن المال قليل، وأن قيمة العبد تستغرق أكثر التركة، ولم أرض بذلك. أو قال: ظهر لي دين لم أعلمه، أو: تبين لي أنه تلف بعض التركة – [فأحد القولين: أنه يقبل قوله] ، كالمسألة قبلها؛ فتثبت الوصية في الثلث، والقدر الذي اعتقده كما قاله البندنيجي، والروياني، وغيرهما، وبه جزم المتولي.

والثاني: لا يقبل، وتلزم الوصية في جميع العبد؛ لأن الإجازة هنا وقعت بمقدار معلوم، والجهل حصل في غيره؛ فلم يقدح فيها، وثم الجهل حصل فيما حصلت فيه الإجازة؛ فأثر فيها، وهذا كله تفريع على القول بصحة [انعقاد]

ص: 168

الوصية بالزائد على الثلث، [وأن إجازة الوارث تنفيذ. أما إذا قلنا بعدم انعقاد الوصية بالزائد على الثلث] وأن ما وجد من الوارث ابتداء عطية، فينظر بعد حلفه: إن كانت التركة في يد الموصى له، وقد وجد اللفظ المعتبر في ذلك كما قدمناه – لزمت في القدر الذي ادعى العلم [به] ، وفسدت في الباقي. كذا نصه.

وفي التتمة: أن الحكم كذلك فيما إذا كانت الإجازة بالزائد في العبد المعين، وأما إذا كانت الإجازة بجزء من التركة، فإنها تنفذ في الكل، وعلى ذلك جرى في الحاوي في الصورة الأخيرة.

وإن لم تكن في يده، فله الرجوع في جميع القدر الزائد؛ لعدم اتصاله بالقبض، ولا يمين عليه.

ولو أقام الموصى له بينة على علمه بمقدار التركة؛ فإن لم تكن التركة في يد الموصى له؛ فلا أثر للبينة، وإن كانت في يده كانت بمنزلة إقراره، فيخرج على أن الإذن في قبض ما وهبه له وهو في يده، هل يشترط أم لا؟

قال: وما وصى به من التبرعات، أي: كالعتق، لا في كفارة، والوقف، والهبة، وصدقة التطوع، والبيع محاباةً – يعتبر من الثلث، سواء وصى به في الصحة أو في المرض؛ لاستواء الكل في وقت اللزوم وهو حال الموت.

ثم المحسوب من الثلث في البيع محاباة: القدر الناقص عما يتغابن الناس بمثله. كما ذكره الأستاذ أبو منصور [والحناطي].

قلت: وكان لا يبعد أن يعتبر جميع النقص من الثلث؛ كما قلنا في الوكيل على رأي إذا باع مما يتغابن الناس بمثله، أو الزوج إذا أقام عند الثيب سبعا، على رأي.

ولو كان البيع بثمن مؤجل، حسبت قيمة العين بجملتها من الثلث، سواء كان البيع بثمن المثل أو بأقل أو بأكثر؛ لما فيه من تفويت اليد على الورثة، وتفويت اليد يلحق بتفويت المال؛ بدليل الغصب.

وهكذا الحكم فيما لو كان له على رجل دين حال، فأوصى بتأجيله، فإنه

ص: 169

يحسب جملته من الثلث، كما ذكرناه.

قال في البحر: ويحتمل عندي أن يقال: لا يعتبر من الثلث إلا التفاوت بين المؤجل والحال في العقود.

فرع: لو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة على ألا تتزوجي؛ فإذا مات وقبلت ذلك، عتقت، ولا بد من قبولها، وإن كان لا يلزمها الامتناع من التزويج؛ قاله صاحب التهذيب، ثم قال: ويجب أن يقع قبولها بعد الموت، ويجب عليها قيمة رقبتها.

وخص الماوردي الرجوع بالقيمة إذا لم تتزوج، وأنها لا تعود ميراثا إن تزوجت؛ لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية، ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه، نعم، لو أوصى لأم ولده بألف على ألا تتزوج، أعطيت على هذا الشرط، فإن تزوجت استرجع الألف منها.

ولو قال لأمته: إذا مت فأنت حرة إن بقيت على الإسلام، فلا تعتق بالموت ما لم تقبل.

قال صاحب التقريب: وإذا قبلت عتقت، ويلزمها [قيمتها].

قال الإمام: وما ذكره بعيد؛ فإن الإصرار على الإسلام ليس مما يتخيل مقابلته بالمال؛ فإنها في امتناعها معطلة على نفسها حقها من التمتع، فالوجه أن يجعل التعليق بالإصرار على الإسلام تعليقاً محضاً. ثم في النفس شيء من الحكم بعتقها في الحال، فإن عنى بقوله:"إن بقيت مسلمة" بقاءها على الإسلام إلى [وقت موته، فلا إشكال. وإن عنى: بقاءها على الإسلام] إلى موتها، فالحكم بالعتق [قبل تحقق] ما يكون، فيه نظر.

وما وصى به من الواجبات، أي: من قضاء دين، وأداء فرض الحج، والزكاة، فإن قيد بالثلث، اعتبر من الثلث؛ لأنه قصد الرفق بالورثة؛ فاعتبر قصده، وعلى هذا إن لم يوف الثلث بها، تممت من الثلثين.

ص: 170

وفائدة هذه الوصية – كما قال القاضي أبو الطيب -: إذا كان ثم وصية أخرى؛ فإن الثلث يقسم بينهما بالنسبة، ونكمل الواجب من رأس المال.

وحكى الشيخ أبو علي قولًا آخر: أن الفائدة تقديم الواجبات على أرباب الوصايا، فإن فضل من الثلث شيء صرف إليهم، وإلا فلا.

وقد حكاه القاضي أبو الطيب من بعد في مسألة الحج، ورواه في البحر عن حكاية أبي إسحاق وابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب، وقال: إنه المذهب.

قال: وإن أطلق، فالأظهر: أنه لا يعتبر من الثلث؛ لأنها في الأصل من رأس المال، فإذا لم يصرفها عنه، بقيت على الأصل، وكانت الوصية بها محمولة على التأكيد والتذكار بها، وهذا ما نص عليه عند الإيصاء بالحج في المناسك من كتبه الجديدة، وبه جزم أبو إسحاق وابن أبي هريرة؛ كما حكاه الماوردي وأكثر الأصحاب؛ كما قال القاضي أبو الطيب.

وقيل: يعتبر من الثلث؛ لأنها من رأس المال، فلما وصى بها كانت قرينة دالة على أنها من الثلث، والوصية مصرفها من الثلث، وهذا ما نص عليه عند الإيصاء بالحج في المختصر في هذا الموضع من الوصايا، فإنه قال:[إذا أوصى بأن يحج عنه ولم يحج حجة الإسلام، فإن بلغ ثلثه حجةً من بلده] ، حج عنه من بلده، وإن لم يبلغ، حج عنه من حيث بلغ [ثلثه].

والقائلون بالأول منهم من تأوله كما سنذكره، ومنهم من نسبه إلى الغلط، وقال: إنما قال الشافعي ذلك في حج التطوع؛ فإنه قال في عيون المسائل: إذا أوصى بأن يحج عنه تطوعا، فبلغ ثلثه الحج من بلده – حج عنه من بلده، وإن لم يبلغ حج عنه من حيث يبلغ ثلثه.

ومنهم من يقول: إنه غلط من الناسخ، ويكون [موضع قوله:"ولم يحج": و"قد حج"، وهكذا وجد في بعض النسخ.

وقيل]: إن كان قد قرن به ما يعتبر من الثلث، أي: كما لو قال: حجوا عني وتصدقوا – اعتبر من الثلث؛ عملا بالقرينة، وإن لم يقرن لم يعتبر؛ عملا بالأصل.

ص: 171

وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، كما قال في المهذب، وأبي علي الطبري كما قال القاضي أبو الطيب. ورأى الإمام تخصيص هذه الطريقة بما إذا قال: أوصيت لكم؛ لتحجوا عني، وتعتقوا، وتتصدقوا، فإن لم يجر لفظ الوصية، وقال: حجوا عني، وأعتقوا [وتصدقوا] ، فهو كما لو تجرد ذكر الحج.

وطريقة أبي علي بن خيران: حمل النص الأول على أجرة المثل من الميقات، والنص الثاني على أجرة المسير من دويرة أهله إلى الميقات.

وطريقة أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل: تخريج المسألة على قولين، وقد ألحق القاضي أبو الطيب الحج المنذور بحج الفرض، وقياسه: أن يطرد في سائر المنذورات، وكذا في الكفارات؛ لأنها لم تجب بأصل الشرع، وقد حكى ذلك القاضي الحسين قولاً في المنذورات مع قول آخر: أنه إذا أوصى بها تكون من الثلث، وإن لم يوص بها لا تقضى من تركته، وجعل أصل القولين: أن ما يوجبه الإنسان على نفسه، هل يسلك به مسلك إيجاب الشرع، أو مسلك ما تبرع به الإنسان؟ وطرد القولين في الكفارات أيضاً.

ومحل ذلك وفاقاً وخلافاً إذا كان الإلزام في الصحة، أما إذا كان في المرض، فهو محسوب من الثلث قطعا، صرح به الفوراني في كتاب الحج.

وحكى الجيلي: أن للشافعي قولا كمذهب أبي حنيفة: أنه إذا لم يوص بالحج، لا يجوز إخراجه من تركته؛ لفقد النية.

وقال: إنه في البسيط.

فرع: إذا مات من عليه الواجبات ولم يوص بها، فإن كان دين لآدمي، وجب وفاؤه من تركته، فإن لك يكن له مال، فللوارث والأجنبي أن يتبرع بأدائه عنه،

ص: 172

وتبرأ ذمة الميت بالقبض.

نعم، إن كان الدافع هو الوارث، وجب على رب الدين القبول، بخلاف الأجنبي.

قال الإمام في كتاب القسامة – في ضمن فرعٍ أوله: "ولو قتل عبدٌ لأم ولد" -: وغالب ظني أني رأيت الأصحاب خلافًا في أن الوارث أيضاً إذا لم من عليه الدين شيئاً، تنزيله منزلة الأجنبي المتبرع بقضاء الدين.

وإن كان على الميت حج، فللوارث أن يحج عنه بنفسه، وله أن يأمر أجنبيا بذلك. وهل للأجنبي أن يفعل ذلك دون إذنه؟ فيه وجهان:

أظهرهما: الجواز؛ كما لو كان عليه دين فقضاه عنه.

والثاني – وهو قول أبي إسحاق [المروزي]-: المنع؛ لأن الحج عبادة تفتقر إلى النية إلا باستنابته أو استنابة نائبه.

والزكاة في هذا المعنى كالحج، سواء فيه زكاة المال والفطر؛ فيجوز للأجنبي إخراجها عنه على الأظهر، وقد حكاه الروياني في البحر عن نصه.

وأما الكفارات، فهي مذكورة في هذا الشرح في آخر باب كفارة اليمين، وذكرنا فيه ما إذا أوصى أن يكفر عنه في الكفارة المخيرة بالعتق وكان أكثر قيمة، هل تعتبر جميع الكفارة من الثلث أو القدر الزائد؟ فليطلب منه.

وقد نص الشافعي في الإملاء على أن الصدقة عن الميت تنفعه، ويكون ثوابها للمتصدق عنه، ثم قال: وواسع في فضل الله أن يثيب المتصدق أيضاً.

ولا فرق في ذلك بين الوارث والأجنبي، وبهذا قال الصيدلاني وغيره.

وقال الإمام: وجدت في بعض المصنفات رمزا إلى شيء يدور في خلد الفقيه: أن الصدقة نرجو لحوق بركتها بالميت فإما أن تقع عن الميت، وصدورها من غير وارث وهي متطوع بها، فهذا بعيد عن القياس، وكما تجوز الصدقة عن الميت، يجوز الوقف عن الميت؛ كما صرح به صاحب العدة.

قال الرافعي: وعلى هذا القياس ينبغي جواز التضحية عن الميت؛ فإنها

ص: 173

[ضرب] من الصدقة.

قال: وقد رأيت أبا الحسن العبادي: أطلق القول بجواز التضحية عن الغير، وروى فيه حديثا، لكن في التهذيب: أنه لا يجوز بغير إذنه وأمره، وكذلك عن الميت إلا أن يكون قد أوصى به.

ولا [شك] عندنا في أن الدعاء للميت ينفعه، ويلحقه ثوابه سواء كان الداعي قريباً أو غيره؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فأثنى عليهم بدعائهم لهم.

ولا يجوز أن يعتق عنه تطوعاً، ولا ينفعه أن يصلي عنه قضاء أو غير قضاء، وكذا قراءة القرآن، واستثنى صاحب التلخيص من الصلاة ركعتي الطواف، وقال: يأتي بهما الجير عن المحجوج عنه، ووافقه بعض الأصحاب، وقال: تقع عنه تبعا للطواف.

ومنهم من قال: هما تقعان عن الأجير، وتبرأ ذمة المحجوج عنه، كما لو ارتكب محظورًا ولزمه دم أو صوم.

والظاهر: الأول.

وأما حج التطوع إذا جوزنا الاستبانة فيه، كما هو الصحيح، فلا يجوز أن يفعل عن الميت بغير إذنه؛ كما صرح به العراقيون.

وفي أمالي أبي فرج السرخسي: أن للوارث أن يستنيب فيه، وأنه إذا أوصى الميت إلى معين، فعل، ولو استقل به أجنبي، فوجهان:

أصحهما: المنع.

وأما ما يعتاد قراءته من القرآن على رأس القبر وعند الموتى؛ قصدا لرجاء الإجابة، قال في البحر: إنه مستجيب، وقد سئل القاضي أبو الطيب عمن ختم عند القبر ختمة، وأهداها للميت؟ قال: الثواب لقارئها، ويكون كأنه حاضرها ترجى له الرحمة.

ص: 174

وفي الحاوي ما يقتضي وصول ذلك إلى الميت؛ فإنه قال: إذا تقرر ما وصفناه من عود الثواب إلى الميت بفعل غيره، فما يفعل عنه أربعة أقسام:

أحدها: [ما] يجوز أن يفعل بأمره وبغير أمره، وذلك قضاء الدين، وأداء الزكوات، وفعل ما وجب عليه من حج أو عمرة، والدعاء له، والقراءة عند قبره، وكلام القاضي كما حكيناه في باب الإجازة يدل على وصول القراءة للميت؛ حيث [جوز] الاستئجار على ذلك.

قال: وما تبرع به في [حال] حياته: كالهبة – أي مع الإقباض – والوقف، والعتق، والمحاباة – أي: في البيع والشراء – والكتابة، وصدقات التطوع: إن كان قد فعله في الصحة، لم يعتبر من الثلث؛ لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لأحد فيه، واعتبر من رأس المال.

وهكذا الحكم فيما لو قال لعبده: أنت حر قبل مرض موتي بيوم أو شهر، ثم مرض ومات – لم يحسب ذلك من الثلث إذا مات بعد يوم أو شهر، وكذا لو قال: أنت حر قبل موتي بشهر، وقصر مرض موته عن شهر، وإن زاد على شهر فهو كما لو علق عتق عبده بصفة في حال الصحة، وحصلت الصفة في المرض، وفي ذلك قولان، قال المتولي الحسين وسنذكره [مرة أخرى في] باب التدبير.

فرع: لو كاتب عبده في الصحة، ثم أبرأه عن النجوم في مرض الموت أو أعتقه – فالمعتبر من الثلث أقل الأمرين من نجوم الكتابة وقيمة رقبته.

قال: وإن [كان] فعله في مرض مخوف [المرض المخوف]: كل ما يستعد الإنسان بسببه إلى ما بعد الموت، وليس من شرطه كما قال: الإمام أن تندر الحياة ويؤيس من المعالجة؛ فإن البرسام معدود من الأمراض المخوفة، والنجاة منه ليست بالنادرة، ولكن يكفي إلا يكون الهلاك منه في حكم النادر، والمرض الذي [ليس بمخوف هو الذي يليه ترتيب الموت عليه، فإن وقع الشك

ص: 175

من أنه مخوف أو غير مخوف؛] رجع فيه إلى قول شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين من أهل الطب، إلا أن تكون العلة بامرأة على وجه لا يطلع عليه الرجال غالبا. فيقبل فيه [شاهدان، وشاهد] وامرأتان، وأربع نسوة [من أهل المعرفة]. وقال الإمام: والذي أرى أنه لا تلتحق [إقامة] هذه الشهادة بالشهادات من كل وجه بل تلحق بالتقويم، وتعديل الأنصباء حتى يختلف الرأي باختلاف العدد، وعلى المذهب لو اختلفوا عمل بقول الأعلم، فإن استووا رجع إلى قول [الأكثر منهم عدا، فإن استووا رجع إلى قول] من حكم بأنه مخوف قاله الماوردي.

ومن أنواع المخوف – كما قاله الشيخ -: البرسام، وهو مرض [سببه] بخار يرتفع إلى الدماغ [يتأثر به] ويتغير به العقل، ولا فرق فيه بين [ابتدائه ودوامه، كما قاله الماوردي.

قال: والرعاف الدائم؛ لأنه يسقط القوة.

قال]: والزخير المتواتر، وهو خروج الخارج شيئاً فشيئاً بشدة [وألم] ، وقد يوهم انفصال شيء كبير، فإذا نظر كان قليلا، وفي معناه: الإسهال الدائم؛ لأنه ينشف الرطوبات، ولا نظر إلى طريانه يومًا ويومين إذا لم يدم إلا أن يحترق منه البطن فلا يمكنه الإمساك.

قال البندنيجي والقاضي الحسين: ولو ساعة واحدة، أو يخرج الطعام غير مستحيل، أو يعجل ويمنعه النوم، أو يكون معه دم من الكبد، وكذا سائر الأعضاء الشريفة، ونقل المزني انه مع خروج الدم لا يكون مخوفاً، فبعضهم خطأه، وبعضهم حمله على [دم يخرج من] البواسير ونحوها، كذا حكاه الرافعي.

وفي الوسيط: أن الموت إذا اتصل بإسهال يوم أو يومين تبين باتصال الموت

ص: 176

به كونه مخوفاً، وكذا لو ظن أن القوة تحتمل فبان خلافه، وإن جاوز الإسهال يومين، وكان ينقطع ساعة ويعود اخرى وهو كالحمى الدائمة، فيكون تبرعه في اليومين محسوباً من رأس المال، وفيما عداهما من الثلث، قاله البندنيجي.

قال: وطلق الحامل؛ لصعوبة أمر الولادة، وهذا هو الصحيح، وبه جزم في التهذيب، وفيه قول آخر ينسب إلى رواية الشيخ أبي حامد: انه ليس بمخوف؛ [لأن الغالب السلامة، وفي الحاوي أن بعض أصحابنا قال: إنه ليس بمخوف] في حق من توالت ولادتها من كبار النساء، بخلاف الأبكار والأحداث، وأبدى الإمام احتمالاً [في أن الحامل] وإن لم تطلق بعد، لا يمتنع أن تلتحق بتموج البحر ونظائره. والمنقول عن الأصحاب أنه لا أثر لذلك. وإن وضعت الحامل فالخوف باق إلى أن تنفصل المشيمة، فإذا انفصلت زال الخوف، إلا إذا حصل في الولادة جارحة أو حرقان شديد أو ورم وإلقاء المضغ والعلقة.

قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والقاضي الحسين: لا خوف فيه، وعليه يدل كلام الماوردي حيث قال: إذا وضعت الولد لدون ستة اشهر ولم يتحرك، فليس بمخوف، وإن كان بعد حركته فوجهان:

أحدهما – وهو الأظهر -: أنه مخوف.

والثاني – وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه ليس بمخوف؛ إلحاقاً بما قبل الحركة.

وفي التتمة: أن إلقاء المضغة كالولادة، وموت الولد في البطن مخوف.

قال: وما أشبه ذلك أي كالقولنج، وهو أن ينعقد أخلاط الطعام في بعض الأمعاء فلا ينزل، أو يصعد بسببه البخار إلى الدماغ؛ فيقضي إلى الهلاك.

والطاعون، وهو عند الأكثرين: هيجان الدم في جميع البدن وانتفاخه، وقيل: إنه انصباب الدم إلى عضو فيحم وينتفخ، وقد يذهب العضو إن لم يتدارك أمره في الحال، وإن سلم الشخص. وقال القاضي الحسين في تعليقه والمتولي: إنه قريب من الجذام، من أصابه تآكلت أعضاؤه وتساقط لحمه.

ص: 177

وذات الجنب: وهي قروح تحدث من داخل الجنب بقرب القلب بوجع شديد ثم ينتفخ في الجوف ويسكن الوجع وذلك وقت الهلاك.

والدق: [وهو داء يصيب القلب، ووجع الخاصرة، ووجع الصدر، والسل]: وهو داء يصيب الرئة ويأخذ البدن منه في نقصان، وإفراز [البول][هكذا] أطلق في الشامل [القول] بأنه مخوف، وأطلق في المختصر بأنه ليس بمخوف في أوله، ولا في آخره؛ فإنه وإن لم يسلم منه صاحبه غالبا فإنه لا يخشى منه الموت عاجلا؛ فيكزن بمثابة الشيخوخة والهرم، وقال الشيخ في المهذب والغزالي والماوردي: إنه في انتهائه مخوف دون ابتدائه، وعكس صاحب التهذيب ذلك فقال: ابتداؤه مخوف، فإذا استمر فليس بمخوف؛ لأن الغالب أنه إذا دام لا يقتل عاجلاً، ويبقى مدة [وهو كالهرم]؛ وبذلك يحصل في المسالة أربعة أوجه.

والفالج في ابتدائه، وهو حال السلية، وسببه غلبة البلغم والرطوبة؛ فإنه إذا هجم ربما أطفأ الحرارة الغريزية وأهلك، فإذا استمر لم يخف منه الموت عاجلاً؛ فلا يكون مخوفاً، وفيه وجه:[أنه] إذا استمر وكان معه ارتعاش، لم يكن مخوفاً، وإلا فهو مخوف.

والخراجة إذا كانت على مقتل أو نافذة إلى جوف أو موضع كثير اللحم، ولها ضربان شديد، أو حصل معها تآكل أو ورم [مخوفة] ، وهكذا الحكم إذا ضرب بعصا، كما قاله البندنيجي والقاضي الحسين، وقيل: إن الورم وحده لا يوجب كونه مخوفاً، وغنما يكون مخوفاً بالورم مع التآكل.

والقيء إن كان معه دم أو بلغم أو غيرهما من الأخلاط، فهو مخوف، إلا أن يدوم.

والحمى اللطيفة التي لا تبرح إذا جاوزت الثلاث، فالتبرع فيها محسوب من الثلث.

وفي اليوم الأول والثاني من رأس المال كما صرح به البندنيجي، وفي الحاوي

ص: 178

إلحاق الثالث بالثاني. وكلام الإمام مصرح بأنه متى جاوزت الحمى اليومين، فالتبرع في اليومين من الثلث.

وفي التهذيب والتتمة وجه: أنها من أول حدوثها مخوفة، وعلى الأول إذا اتصل الموت بحمى يوم أو يومين، ففي تعليق البندنيجي: أنه لا أثر لذلك. وفي الوسيط لنا تبين أن ذلك مخوف، وهو منطبق على ما حكاه القاضي الحسين؛ حيث قال:[إنه] إذا تبرع في مرض غير مخوف ثم مات منه، بان لنا أنه أخطأ؛ فيعتبر من الثلث.

وأما حمى الورد وهي التي تأتي كل يوم، والمثلثة وهي التي تأتي يومين وتقلع يوماً، وحمى الأخوين وهي التي تأتي يومين وتقلع يومين – فهي من الأمراض المخوفة.

وحمى الربع، وهي التي تأتي يوماً وتقلع يومين، ليست بمخوفة، وحمى الغب وهي التي تأتي يومًا وتقلع يومًا، فيها وجهان:

الذي أجاب في التهذيب منهما: أنها مخوفة.

والذي أجاب به البندنيجي والقاضيان أبو الطيب والحسين وابن الصباغ: مقابله.

والحمى اليسيرة ليست بمخوفة اتفاقا، وكذا وجع العين والضرس والجرب ونفور الطحال.

فإذا تبرع في حالة من هذه الأحوال، فتبرعه من رأس المال، وهكذا الحكم

ص: 179

في كل مرض ليس بالمخوف، ثم لا خلاف في أن المريض إذا انتهى إلى حالة شخص فيها بصره وابيضت عيناه لا تعتبر وصيته، ولا شيء من أقواله حتى الإسلام، وكذا [من] أفعاله.

وحكم من علاه وهو لا يحسن السبح، أو قطع نصفين وهو يتكلم، أو أخرجت حشوته – كذلك.

قال: واتصل بالموت، اعتبر من الثلث؛ لما روى مسلم عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم، ثم اقرع بينهم، فأعتق اثنين [ثم] أرق أربعاً، وقال له قولاً شديداً. والقول الشديد كما رواه النسائي عن الحسن عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه القصة:"لقد هممت ألا أصلي عليه". فإذا رد العتق فغيره من طريق الأولى. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم"، يشعر به، ولأن هذه الأحوال الظاهر فيها الموت؛ فكانت العطية فيها في حق الوارث بمنزلة الوصية.

فعلى هذا إن خرجت التبرعات من الثلث فلا كلام، وإن زادت عليه كان [حكم الزائد حكم الزائد] في الوصية على الثلث، فإن أجاز الورثة نفذت جميعها، وإن ردوا قُدِّم من التصرفات الأول فالأول، إلى أن يستوفى الثلث، بخلاف الوصية إذا زادت على الثلث، كما سيأتي.

ولا فرق بين أن يكون المتقدم المحاباة ولم تتصل بالقبض أو اتصلت به، وحكى الإمام في كتاب العتق فيما إذا كان ثلث ماله ألفاً، فاشترى عبداً بألفين

ص: 180

وقيمته ألف، ثم أعتق العبد المشتري، فقد قال ابن الحداد: ينظر: فإن لم يكن وفى الثمن قبل العتق نفذ العتق، وردت المحاباة، ولزم البيع في العبد بثمن المثل، وإن وفى الثمن له قبلت المحاباة، ورد العتق، قال الإمام: وقد جمع ابن الحداد بين غلطين فاحشين:

أحدهما: أنه فرق بين أن يوفي الثمن وبين ألا يوفيه.

والثاني: أنه ألزم البيع بمقدار ثمن المثل، والمذهب [خلاف] ذلك.

ثم المعتبر من الثلث في الكتابة قيمة الرقبة بجملتها، وليس للمتبرع في هذه الأحوال أن يرجع في تبرعه اللازم مثله في حال الصحة؛ لاحتمال سلامته؛ فيكون التبرع لازما، ويجوز للمتبرع عليه أن يتصرف فيما يتبرع به عليه تصرف مثله لو جرى التبرع من المتبرع في صحته، صرح به الإمام هنا.

ولو كان المنجز عتق أمة في مرض الموت، ملك قيمها تزويجها وإن لم يكن للمتبرع مال سواها؛ فإن ظهر أن العتق لم يشمل جميعها، تبين بطلان النكاح إن لم يجز الوارث، وكذا إن أجاز وقلنا: إنه ابتداء عطية، أما إذا قلنا: إنه تنفيذ، فيتبين صحة النكاح؛ كما لو برئ، أو اكتسبت مالاً تخرج من ثلثه، واعتبار الثلث بحالة الموت. ومنع ابن الحداد بعض الأصحاب التزويج في هذه الحالة؛ لأن أمر عتقها موقوف فربما لا تعتق كلها وهو ظاهر الحال، وربما تعتق كلها بأن يصح من مرضه، [أو تكتسب مالاً تخرج من ثلثه] ، وإذا كان الأمر على هذا التردد، فالنكاح على الوقف، وهو مردود عند الشافعي، رضي الله عنه.

وعلى هذا لو كانت الأمة تخرج بجملتها من الثلث ويفضل عنها، فهل يسوغ التزويج أم لا؛ لاحتمال تلف المال؟ هذا [ما أبداه الإمام احتمالاً] لنفسه، وهذه الحالة التي يشعر نظم الوسيط بذكر الخلاف فيها، وأبدى ما حكيناه في الحالة الأولى احتمالاً، والقائلون بالصحة قاسوا أمر التزويج على جواز التصرف في المتبرع به، وحكى الإمام عن الشيخ أبي علي أنه قال: ومن وافق ابن الحداد

ص: 181

يحتمل على قياس طريقه طرد ذلك في هبة المريض، حتى يقال: لو وهب هذه الجارية التي فرضنا إعتاقها وسلمها، لا ينفذ التصرف من المتهب القابض إذا كان التصرف لا يقبل الوقف ولا يحل له الإقدام على وطئها. قال: ولم يبعد أن يكون ذلك مذهباً له، يعني لأبي علي، ثم قال: ولو سلم ابن الحداد الحكم بنفوذ تصرفات المتهب في الحال لم يجد فرقاً، وإن طرد الخلاف في هذه المسائل – وهو الظن به – فلا شك أن مذهبه يقع مخالفاً لنص الشافعي، رضي الله عنه. حكى ذلك في كتاب النكاح [بعد أن جزم في باب تعجيل الصدقة بتسليط المتهب في المريض مرض الموت على التصرفات المفتقرة للملك التام؛ عملاً باستصحاب حياة الواهب].

وإيراد الرافعي هنا يقتضي منع التصرف؛ فإنه قال: إذا وجدنا المرض مخوفاً، حجرنا عليه في التبرع فيما زاد على الثلث، ولم ننفذه. وفي البحر في باب عتق العبيد: لا يخرجون من الثلث. [و] في آخر البحر: أنه إذا أعتق ستة أعبد في مرض موته لا مال له غيرهم، لا نحكم بعتقهم؛ لجواز أن يظهر عليه دين، ولا نرقهم؛ لجواز أن يستفيد مالاً يخرجون منه، [وكسبهم يكون موقوفاً] أيضاً. ولو كان للمعتق في مرض موته مال يخرجون من ثلثه لا نحكم بعتقهم قبل موته لاحتمال أن يتلف ماله؛ فلا يصل إلى مدينه.

أما إذا لم يتصل ما ذكر من الأمراض المخوفة بالموت؛ بأن برأ منها أو قتل أو مات تحت ردم – فهي معتبرة من رأس المال، صرح به الماوردي وجزم القاضي الحسين في التعليق فيما إذا قده شخص بنصفين، أو جذ رقبته، بأنه يحسب من الثلث لأن القتل لم يزل العلة بل عجل ما كان منتظراً.

فرع: إذا باع بالمحاباة بشرط الخيار، ثم مرض في زمن الخيار، وأجاز العقد، إن قلنا: إن الملك له، فقدر المحاباة من الثلث، وإلا فلا، وكذا لو اشترى بمحاباة، ثم مرض ووجد بالمبيع عيباً ولم يرد مع الإمكان – لا يعتبر قدر

ص: 182

المحاباة من الثلث، نعم لو وجده وقد تعذر الرد فأعرض عن الأرش اعتبر الأرش من الثلث.

فرع: إذا استولد في مرض موته جارية، لم تحسب من الثلث؛ كما لو استهلك شيئاً من الطعام للتلذذ به، أو الثياب النفيسة، وكذا لو تزوج بمهر المثل، وإن زاد عليه: فإن كانت الزوجة وارثة والزيادة وصية لوارث، وإلا فهي صحيحة، ولو تزوجت المريضة بدون مهر المثل فالقدر الناقص وصية، وهذا ما حكاه القاضي الحسين وجها في كتاب العتق، وادعى في التتمة في كتاب النكاح أنه ظاهر النص، وأن بعض الأصحاب خرج وجها أنه لا يكمل مهر المثل، وقال: إنه القياس.

فرع: إذا وجد التبرع في مرض ليس بمخوف، ثم حث به مرض مخوف ومات منه، فإن قال أهل الصناعة: إن سببه المرض الأول، [فإنه] يفضي إلى العلة الثانية غالباً، فالأول مخوف، وإن قالوا: يندر إفضاء الأول إلى الثاني، فالأول ليس بمخوف.

فرع: لو اختلف الوارث والمتبرع عليه في أن المرض مخوف أم لا، ولا بينة، فالقول قول المتبرع عليه مع يمينه؛ لأن الأصل سلامته، قاله البغوي والماوردي وغيرهما.

قال: وإن فعله في حال التحام الحرب، أي: والطائفتان متكافئتان، أو طائفة الموصي [له] أضعف سواء كان من المسلمين أو من المشركين، أو من مسلمين ومشركين، وكذا قاله القاضيان: أبو الطيب والحسين وغيرهما.

قال: أو تموج البحر، أو التقديم للقتل، أي: قصاصاً، أو في قطع الطريق أو بالرجم، ففيه قولان:

أحدهما: يعتبر من الثلث؛ لأنها أحوال تستعقب الهلاك غالبا، فكانت كالمرض المخوف، ولأن نفس المريض أسكن من هؤلاء؛ لما يرجو من صلاح الدواء؛ فكان هذا بالخوف أحق، وهذا هو الأظهر.

والثاني: لا يعتبر؛ لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه؛ فكان كالصحيح.

ص: 183

وهذان القولان منقولان بالنقل والتخريج؛ لأنه نصَّ في التحام القتال وتموج البحر ووقوع الشخص في اسر كفار عادتهم قتل الأسرى – على أن ذلك يلحتق بالمرض المخوف. ونص في الإملاء على أنه إذا قدم للقتل قصاصا يكون في حكم الصحيح، فأجرى بعض الأصحاب القولين بالنقل والتخريج، وهي الطريقة الظاهرة، وبها قال المزني وأبو إسحاق، وابن أبي هريرة، والقاضي أبو حامد وطائفة كبيرة [كما حكاه الماوردي، ومنهم من أجرى النصين على ظاهرهما، وفرق] بأن [عند التحام] القتال لا يرحم بعضهم بعضاً، والبحر لا يغيث، والكافر لا يرحم المسلم؛ لأنه يرى قتله ديناً، ومستحق القصاص لا تتعدى منه الرحمة والعفو بعد القدرة؛ إما طمعا في الثواب أو في المال، وهذا الفرق لا يطّرد فيمن قم للقتل بالزنى، وقطع الطريق؛ لأنه لا يرحم؛ فيلتحق على هذه الطريقة بالتحام الحرب.

ومنهم من فرق بين أن يثبت بالبينة فيكون على القولين، وبين أن يثبت بالإقرار فلا يكون مخوفاً، وعلى ذلك جرى الماوردي. وقال: إنه إذا جرى بمشاهدة الإمام كان مخوفاً جزماً، وعن صاحب التقريب: أنه إن كان هناك من يغلب على الظن أنه يقتص من شدة حنقه أو عداوة قديمة، فهو مخوف، وإلا فلا، وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن سريج.

أما إذا كانت طائفة الموصي أقوى، فهو في حكم الصحيح جزماً، وكذا إذا كان قبل التحام القتال، ولو كانا يتراميان بالنشاب والحراب.

وظهور الطاعون في بلد هل هو مخوف؟ فيه وجهان مخرجان من الخلاف في الصور السابقة، وهما جاريان فيما لو فشا الوباء فيه، وأصحهما في التهذيب: أنه مخوف، والإمام حكاه عن النص، والمجزوم به في الحاوي، مقابله.

والقولان كما قال الماوردي يجريان فيمن أدركه سيل، أو نار، أو أفعى، أو أسد، ولم يتصل ذلك به بعد، لكنه لا محالة يلحقه، وكذا فيما إذا كان في مفازة، وأيس من الطعام والشراب، واشتد جوعه وعطشه.

ص: 184

قال: وإن وصى بخدمة عبد اعتبرت قيمته من الثلث على المنصوص، لا شك في جواز الوصية بمنافع العبد والدار ون الرقبة مؤقتة ومؤبدة، وكذا بغلة الدار والحانوت؛ لأن منافع الأعيان لما جاز تملكها بعوض وبغير عوض، جازت الوصية بها كالأعيان، وقد ألحق بذلك الوصية بثمار البستان التي ستحدث، وهو ظاهر النص في المختصر كما سنذكره، وفيه وجه: أنه لا يصح، ثم للموصى له تمليك المنفعة المعتادة، والإجارة، والإعارة، والوصية؛ فهو لا فرق فيه عند الأصحاب بين: أوصيت لك بمنفعة العبد، أو بغلته، أو بكسبه، أو بخدمته، وبمنفعة الدار، وسكناها، أو غلتها.

وللرافعي احتمال في هذا الإطلاق.

وهل يملك الموصى له الأكساب النادرة؟

فيه وجهان، أصحهما في البحر والحاوي: نعم.

وفي الرافعي: مقابله، وحكى عن الحناطي وأبي الحسن العبادي الوجهين في مطلق الأكساب عند إطلاق الوصية بالمنفعة، وأيد بوجه المنع ما أبداه احتمالاً.

وإذا مات الموصى له بخدمة العبد وغلة الدار، انتقلت المنفعة إلى وارثه، وفي الإبانة والبحر حكاية وجه: أن المؤقتة لا تنتقل إلى وارث الموصى له، وحكى في البحر عن القفال أنه قال: إنه المذهب.

وإذا أراد الموصى له بالمنفعة المسافرة بالعبد، فهل له ذلك؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا. وهو اختيار أبي طاهر الروياني؛ كالأمة المزوجة لا يملك الزوج المسافرة بها.

وأصحهما: نعم. بخلاف السيد مع الزوج؛ فإن السيد يملك المنفعة [بالاستخدام وغيره سوى الوطء] ، والوارث لا يملك المنفعة، وإذا تلفت العين في يد الموصى له، لم يضمنها، وليس عليه مؤنة الرد عند الرد، [كذا هو في التهذيب].

ص: 185

ولو قال: أوصيت لك بمنافعه مدة حياتك، فهذه إباحة وليس بتمليك؛ فليس له الإجارة، وفي الإعارة وجهان، وإذا مات [الموصى له] رجع الحق إلى ورثة الموصي.

وقد ألحق القفال وغيره بهذا ما إذا قال: أوصيت لك أن يخدمك العبد، أو أن تسكن هذه الدار؛ فيكون إباحة لا تمليكا، وكذلك قال المتولي فيما إذا أوصى بأن يستخدم العبد ويسكن الدار؛ فلا يجوز له الإجارة، وله أن يستوفي المنافع بنفسه. وهل له أن يعير؟ فيه وجهان؛ بناء على أن المستعير هل يعير أم لا؟ وإذا تقرر هذا، فما المعتبر من الثلث عند تأبيد الوصية بخدمة العبد؛ لكونه صرح به أو أطلق، كما حكاه البندنيجي؟ المنصوص للشافعي في الإملاء واختلاف العراقيين: أن قيمة الرقبة والمنفعة كما قاله الشيخ، وهو ظاهر النص في المختصر فإنه قال: لو أوصى بخدمة عبده، أو بغله داره، او بثمرة بستانه والثلث يحتمله، جاز ذلك، ووجهه كما قال أبو الطيب: أن المنافع مجهولة؛ فإنه يجوز أن يبقى العبد وكذا الدار، والبستان مدة طويلة؛ فيحصل لها منافع كثيرة، ويجوز أن تتلف فتذهب منافعها، وإذا كانت مجهولة لم يكمن اعتبار قيمتها؛ فاعتبرت قيمة محلها وهي الرقبة؛ ولأن يد حالت بين الورثة و [بين] العين، والحيلولة كالإتلاف؛ بدليل أن الغاصب يضمن بها، وذكر الماوردي أن ابن سريج اختار هذا، فعلى هذا إذا قيل: قيمة الرقبة ومنفعتها مائة، فإن خرجت من الثلث فذاك، وإلا نفذ منه بقدر ما يخرج من الثلث إن لم يجز الورثة، فإن خرج منه النصف مثلا ففي كيفية استيفائه وجهان:

أحدهما: يستخدم نصف العبد.

والثاني: يتهايآن فيه. وحكى في الحاوي وجها عن المنصوص: أن [الموصى له] يملك الرقبة، وإن منع من بيعها كأم الولد، ونسبه إلى القاضي أبي حامد.

قال: وقيل: تعتبر المنفعة من الثلث؛ لأن الموصي إنما أوصى بالمنفعة، [واعتبر] خروج قيمتها من الثلث، كما لو أوصى بمنفعة عشر سنين؛ فإنا نعتبر

ص: 186

قيمة المنفعة لا قيمة الرقبة. قال الماوردي: ولأنه لو أوصى بمنفعة لرجل وبالرقبة لآخر، لم يقوم في حق صاحب المنفعة إلا المنفعة ون الرقبة باتفاق أصحابنا؛ فكذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة، وقد وافقه على ما استشهد به القاضي الحسين، وهذا ما نسبه البندنيجي إلى ابن سريج، وفي تعليق القاضي أبي الطيب: أن بعض الأصحاب خرج ذلك قولا للشافعي وجزم به، وهو جار فيما إذا أوصى بثمرة البستان [ومنافع الدار] ، كما هو في المهذب وغيره، فعلى هذا تقوم العين بمنفعتها، فإذا قيل: مائة، قومت مسلوبة على الورثة من الثلثين، فيه عشرة حسب على الثلث تسعون، وهل تحسب العشرة على الورثة من الثلثين، فيه وجهان حكاهما العراقيون والمراوزة عنهم، وأظهرهما في الرافعي هو الذي نسبه البندنيجي إلى ابن سريج، والماوري إلى أبي إسحاق: إنها تحسب عليهم، فعلى هذا يعتبر في نفاذ كل الوصية أن تكون التركة – غير العبد – مائة وثمانين، وقد طرد المتولي هذا الوجه، فيما إذا أوصى بالمنفعة لشخص وبالرقبة لآخر، أن الموصى له بالرقبة لا تحسب عليه من الثلث.

واستضعف القاضي أبو الطيب تقويم الرقبة المسلوبة، وقال: ما لا منفعة له، لا قيمة له كالحشرات التي لا منافع لها ولا يصح بيعها، واستبعده الرافعي من جهة أنا إذا قومنا الرقبة مع منافعها فلا نعتبر فيه إلا صفات الرقبة في الحال، ولا ننظر إلى تأبدها [ولا] تأقيتها كما لا ينظر في الدواب إلى مدة بقائها، والموصى به ليس مجرد المنفعة، بل منفعة مدة العمر، فإذن الطريق لو أفاد، إنما يفيد معرفة قيمة المنفعة لا قيمة المنفعة أبداً، وهي التي أوصى بها، ثم قال: لكن هذا التقويم صالح لمعرفة ما فات على الورثة؛ لأنا إذا قومناه منتفعا به ومسلوب المنفعة عرفنا أن ما نقص هو الذي فوته عليهم؛ فأمكن أن يقال إنه المعتبر من الثلث، فالذي ينبغي أن يعتبر من الثلث هو الذي نقص من قيمتها، وهذا ما قال في الوسيط: إنه الصحيح، والذي صححه القاضي أبو الطيب، والأكثرون مقابله، أما

ص: 187

إذا أوصى [له] بالخدمة منه مثلا، فالمعتبر من الثلث قيمة المنفعة لا غير عند الماوردي والقاضي أبي الطيب، وفي كيفية التقويم وجهان:

أحدهما – عن ابن سريج، وهو الأظهر عند الرافعي -: أنه يقوم الرقبة بمنفعتها، فإذا قيل: مائة قومت مسلوبة المنفعة سنة، فإذا قيل: ثمانون كانت الوصية بعشرين، والثاني: تقوم خدمة مثله سنة ولا تقوم الرقبة؛ لأن المنافع المستهلكة في العقود [والغصوب] هي المتقومة دون الأعيان؛ فكذلك الوصايا.

قال الماوردي: وهذا الذي أراه مذهبا. واستبعده في الوسيط؛ بسبب أن المنافع تحدث بعد الموت؛ فليس الموصي بها مفوتا لها من ملكه، ووراء ما ذكرناه فيما [يعتبر من الثلث في هذه الحالة طرق:

احدها – نقله بعض الشارحين -: أنه كما] إذا أوصى بالمنفعة أبدا.

والثاني – عن الخضري -: [أنا إذا اعتبرنا في المؤبدة] ما بين القيمتين فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ بناء على جواز بيع المستأجر: إن جوزناه، اعتبر قدر التفاوت من الثلث، وإن منعناه، اعتبرنا قيمة الرقبة؛ لأنها كالتالفة.

الثالث – حكاه الإمام -: أنا إن جوزنا بيع العين كان المحتسب من الثلث قيمة المنفعة قولاً واحداً، وإن لم نجوزه: فمنهم من قطع بأن المحتسب من الثلث المنفعة لا غير، ومنهم من خرج المنفعة على وجهين كالوجهين المتقدمين في الوصية بالمنفعة أبداً.

ثم عن طريق الذي حكيناه عن الماروي وغيره، ما كيفية استيفاء المدة؟ قال الماوردي: ينظر، فإن كان في التركة [مال] غير العبد، إذا أمكن الموصى له استخدام العبد سنة، أمكن الورثة أن يتصرفوا في تلك السنة بما يقابل مثلي العبد، فللموصى له أن يستخدم جميع العبد سنة متوالية، وإن لم يكن في التركة مال غير العبد ففي كيفية استخدام الموصى له [العبد] ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج:

ص: 188

أصحها: يستخدمه سنة متوالية.

والثاني: [يستخدم ثلث العبد ثلاث سنين، و] يستخدم الورثة ثلثيه، حتى يستوفي الموصى له سنة.

والثالث: أن الورثة والموصى له يتهايئون عليه، فيستخدمه الورثة يومين والموصى له يوماً، حتى يستوفى الموصى له سنة.

ولو أوصى له بثمرة بستان عشر سنين، ففي الحاوي حكاية وجه: أن الوصية لا تصح؛ لعدم إمكان تقويم الثمار، ومنهم من قال [بالصحة، وهو الصحيح]؛ كما في منافع العبد والدار، ثم على هذا ففي كيفية التقويم وجهان:

أحدهما: يقوم البستان كامل المنفعة [ومسلوب المنفعة]، ويعتبر ما بين القيمتين. والثاني: ينظر إلى ما يثمره النخل غالباً في كل عام، ثم نعتبر قيمته بالغالب من قيمة الثمرة في أول عام ولا اعتبار بما يحدث من بعد من زيادة أو نقصان.

فرع: إذا غصب العبد الموصى بمنفعته، فلمن تكون أجرة المدة التي كانت في يد الغاصب قال في التتمة: إن قلنا: المعتبر من الثلث جميع القيمة، فهي للموصى له. وإن قلنا: المعتبر التفاوت، فوجهان:

أحدهما: أنها لمالك الرقبة؛ كما لو غصب العبد المستأجر، وأطهرهما وبه جزم الإمام: إنها للموصى له؛ لأنها بدل ملكه، ويخالف المستأجر؛ لأن الإجارة تنفسخ في تلك المدة؛ فتعود المنافع إلى ملك مالك الرقبة.

فرع: إذا انهدمت الدار الموصى بمنافعها، فأعادها الوارث بآلاتها، فهل يعود حق الموصى له فيه وجهان في المعتمد والحاوي، ولو أراد الموصى له إعادتها بآلتها، فعلى وجهين.

فرع: إذا قال للورثة: استخدموا سنة بعد موتي، ثم هو بعد السنة وصية لفلان - جاز ولا تقوم خدمة السنة على الورثة؛ لأنهم استخدموا ملكهم.

ص: 189

قاله في البحر.

فرع: إذا أوصى بمنفعة عين لشخص وبرقبتها لآخر، فرد الموصى له بالمنفعة الوصية، فهل تعود المنفعة إلى الورثة؟ أو إلى الموصى له بالعين؟ فيه وجهان في التتمة هنا وفي كتاب الإجارة.

قال: وإذا عجز الثلث عن التبرعات المنجزة في حال المرض، بدئ بالأول فالأول؛ لأن الأول أقوى؛ فإنه لازم لا يفتقر إلى رضا الورثة، وما بعده مما لا يخرج من الثلث يفتقر إلى رضاهم؛ فضعف، والقوى مقدم على الضعيف.

ولا فرق بين أن يكون المتقدم والمتأخر من جنس أو من جنسين.

[ولو كان المتقدم عتق عبد يخرج من ثلثه، والمتأخر هبة جارية لا تخرج منه، ووقعت الهبة من المعتق، وقد وطئها المتهب، وولدت له، ثم مات المريض، ورد الوارث ما يزيد عن الثلث بالعتق بعين ما قررناه – يتقدم والهبة مردودة. قال الإمام في باب تعجيل الصدقة من كتاب الزكاة: فيسترد الوارث الجارية، ويسترد ولدها رقيقاً إذا كان الإعلاق على علم بحقيقة الحال وحكمها. قال: وقطع شيخي بالجواب فيه، فإن قيل: إذا حكمتم بأن الوارث إذا أجاز فهو منفذ، فليس بمبتدئ في العطاء، فهل تحتمل إذا رفع التفريع عليه أن يقال: الملك في الجارية ينقطع بالرد؟ قال: قلنا: مبنى الرد والإجازة في الوصاية على الإسناد، فإذا ردت وصيته فتبين أن الملك لم يتم فيها أصلا، وإن كنا نرى الإجازة من الوارث تنفيذًا، والقول في هذا ينزل منزلة القول في الهبة ينقض قبل القبض.

قلت: وفي هذا الجواب نظر؛ فإن المنقول فيما] إذا رد الورثة ما زاد على الثلث، [فإنا ننظر] فإن كان باقياً استرده الورثة، وإن كان تالفًا استردوا القيمة، وهل يستردون الزوائد والكسب الذي حصل فيها؟ قال القاضي الحسين في تعليقه: يحتمل وجهين، كما لو هلك المبيع قبل القبض، انفسخ العقد وعاد إلى ملك البائع، والولد والكسب لمن يكون فعلى وجهين لأصحابنا، يبنيان

ص: 190

على أن الفسخ وقع من وقته أو من أصله.

قال: وإن وقعت دفعة واحدة، ويتصور ذلك بالوكالة أو إذا قال لعبديه: أنتما حران، أو: نصف كل واحد منكما حر، وأبرأ جماعة من دين له عليهم، ونحو ذلك.

قال: أو أوصى وصايا متفرقة، أو زائدة على الثلث أو دفعة واحدة، فإن لم تكن عتقا ولا معها عتق، قسم الثلث بين الجميع، أي: كما تقسم التركة على الديون إذا ضاقت عن الوفاء؛ لتساويهم في الاستحقاق وعدم المرجح، وذلك في التبرع الناجز والوصايا المتجمعة ظاهر، ووجهه في الوصايا المتفرقة: أن لزومها في وقت واحد وهو [وقت] الموت، بخلاف التبرعات المنجزة. قال: وإن كان فيها عتق وغير [عتق] ففيه قولان:

أحدهما: يقدم العتق؛ لما روي عن ابن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: يبدأ في الوصايا بالعتق.

وعن ابن المسيب أنه قال: مضت السنة أن يبدأ بالعتاقة في الوصية، ولأن العتق أقوى؛ لأن له سراية، وحق الله تعالى وحق الآدمي يتعلقان به.

والثاني: يسوى بين الكل؛ لما روي عن عمر أنه: حكم للرجل يوصي بالعتق وغيره بالتحاصّ، ولاستوائهما في وقت اللزوم والاحتساب من الثلث.

ولا فرق في جريان القولين عند الشيخ [أبي علي] بين أن يكون الذي جاء مع العتق وصية لمعين أو للفقراء والمساكين، وفي التهذيب في الصورة الأخيرة: القطع بالتسوية؛ لأن كلا منهما قربة، وهذا ينبغي أن يبنى على أنه لو أوصى للفقراء والمساكين بشيء ولمعين بشيء، فهل يقدم الفقراء والمساكين على المعين أو يسوي بينهما؟ وفيه طريقان جاريان في تقديم الكتابة على غيرها مما هو دونها:

أحدهما: القطع بالتسوية.

ص: 191

والثاني: طرد القولين وهو الأشبه.

فإن قلنا: بالتسوية، فالأمر كما قال الشيخ أبو علي، وإن قلنا: بتقديم الفقراء، فهذا محل النظر، فيجوز أن يسوى كما قال في التهذيب، ويجوز أن يقدم العتق؛ لزيادة قوته بالسراية، وقد أجرى القفال الوجهين فيما إذا أوصى بحج التطوع وجوزناه وزاحمته الوصايا، هل يقدم عليها، أو يسوي بينهما وبينه؟ وطردهما في الإبانة فيما إذا أوصى بأن يحج عنه حج الفرض من ثلثه في أن القدر الزائد على أجرة المثل من الميقات هل [يقدم] بها، أو يزاحم بها الوصايا؟ قال الشيخ أبو علي: وما قاله القفال لم أره لغيره من أصحابنا، بل جعلوا الوصية بالحج مع سائر الوصايا على الخلاف فيما إذا اجتمع حق الله – تعالى – وحق الآدميين، وعلى ذلك جرى المتولي، ولا يخفى أن محل التسوية، وتقديم الوصية بالعتق، والوصية للفقراء والمساكين، والوصية بالكتابة على رأي – عند إطلاق الوصايا، أما إذا عين في الوصية المتقدم والمتأخر بلفظ "ثم" أو "بالفاء"، فذاك هو المتبع، كما لو حصل التنجيز مرتباً.

قال: وإن كان الجميع عتقا، [ولم تجز الورثة]، أي بأن قال في مرض موته: سالم وغانم وواثق أحرار، أو سالم حر وغانم حر وواثق حر، كما قال الرافعي، أو قال: إذا مت فهم أحرار، وإذا مت فسالم حر وغانم حر وواثق حر، وأعتقوهم عني بعد موتي، وفي البحر فيما إذا قال: سالم حر وغانم حر وواثق حر – أنه يقدم الأول فالأول، وبه جزم، وحكى عن الحاوي وجها فيما إذا قال: سالم حر بعد موتي وغانم حر بعد موتي وواثق حر بعد موتي، أنه يقدم الأول فالأول، كما في المرض، وهو قريب من قول حكاه هو والقاضي الحسين ورواه أبو الطيب وابن الصباغ والشيخ في المهذب في كتاب التدبير وجها فيما إذا دبر عبدا ثم أوصى بعتق عبد: أن المدبر يقدم، لكن المنصوص في الأم – كما قال في البحر -: يقرع بين المدبر والموصى بعتقه.

قال: جزئوا ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فيكتب ثلاث رقاع، في كل رقعة

ص: 192

اسم، ويترك في ثلاث بنادق [من] طين متساوية، أي: في الوزن والصفات، وتوضع في حجر رجل لم يحضر ذلك، ويؤمر بإخراج واحدة منها على الحرية، فيعتق من خرج اسمه ويرق الباقون؛ لما ذكرناه من حديث مسلم عن عمران بن حصين؛ وحكمته: أن المقصود من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل إلا بعتق جميع الرقبة؛ وبهذا خالف سائر التبرعات؛ لأن المقصود منها الملك، وذلك يحصل في بعض ما وصى به أو تبرع به، وقد صار بعض الأصحاب – كما حكاه الماوردي في باب الإقراع بين العبيد – إلى أن الإقراع إنما يجري فيما إذا كان العتق منجزا؛ للخبر، أما إذا كان معلقا بما دون الموت، أو موصى به، فلا يجزئ، بل يقسط الثلث عليهم. وهذا مذكور في الوسيط في كتاب العتق، ورأى بعض الأصحاب بعد وضع البنادق في الحجر أن تغطى بثوب، وحكي فيه أيضا [نص] للشافعي، رضي الله عنه. وكما يجوز الإخراج عن الحرية يجوز الإخراج على الرق، لكن الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى فصل القضاء، وكذا يجوز أن يكتب الحرية في رقعة والرق في رقعتين ويخرج على الأسماء، فمن خرج له سهم الحرية أولا عتق ورق الباقي، ومن خرج باسمه منهم الرق رق وعتق الآخر، وهذا هو المنصوص والأولى.

قال القاضي أبو الطيب: إنه قول أصحابنا وهو أخصر.

واعلم أن إخراج القرعة على هذا النعت ليس بمتعين، بل تجوز القرعة بالبعر؛ كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم في قسمة بعض الغنائم، وبالنوى، وبالأقلام، لكن الأحوط الأول.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أن المعتقين إذا زادوا على اثنين جزئوا ثلاثة أجزاء، سواء استوت قيمتهم أو اختلفت، وعلى تقدير الاختلاف سواء كان للقيمة ثلث

ص: 193

صحيح أو لا، وهو ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه، والصحيح من مذهبه في حالة. وفي حالة [هو] مجزوم به، وذلك يحتاج إلى بسط، فنقول: لذلك ستة أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون عددهم وقيمتهم متساوية، فإن كانوا ستة – مثلا – فنجعل كل اثنين جزءا، وعلى هذه الحالة حمل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبيد الحجاز متقاربو القيمة؛ لأنهم من الزنج والحبش.

الحالة الثانية: أن تختلف قيمتهم، ويمكن مع ذلك التجزئة بالعدد المتساوي، مع التساوي في القيمة، فإن كانوا ستة، وكانت قيمة اثنين أربعمائة على السواء، وقيمة اثنين على السواء مائتين فنجعل الأولين جزءا، وواحدا من الأخيرين مع واحد من المتوسطين جزءا، والباقين جزءا.

الحالة الثالثة: إذا لم يمكن التجزئة بالعدد؛ لأجل الاختلاف في القيمة، وأمكن التعديل بالقيمة، مثل أن كانت قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة ثلاثة مائةً، فنجعل الأول جزءا، والاثنين جزءا، والثلاثة جزءا، [ويعتق من الأحزاب من خرج سهم الحرية عليه.

وقال بعض أصحابنا: تجزأ على العدد دون القيمة، فنجعل اللذين قيمتهما مائةٌ سهما، ويضم أحد العبيد الثلاثة الذين قيمتهم مائة إلى العبد الذي قيمته مائة، ويجعل سهما، ويكون قيمة ذلك مائة وثلث مائة، ونجعل الباقيين سهما وقيمتهما ثلثا المائة، فإن خرج سهم العتق على اللذين قيمتهما مائة، عتقا، وإن خرج على اللذين قيمتهما مائة وثلث مائة، رق الأربعة الباقون، وأقرع بين من خرج عليهما سهم الحرية، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائة، عتق خاصة، وإن خرج على الآخر عتق خمسة ومن الآخر خمسة ثلثاه، قال في البحر: وهذا غير مرضي].

الحالة الرابعة: أن تختلف قيمتهم، وليس لها ثلث صحيح، والعدد ثلث صحيح كما فرضناه؛ وذلك بأن: تكون قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين خمسين، وقيمة ثلاثة خمسين، فنجعل الواحد جزءا، والاثنين جزءا، والثلاثة جزءا، فإن

ص: 194

خرج سهم الحرية على الواحد، [عتق ثلثاه، ورق ثلثه والأعبد الخمسة، وإن خرج على الاثنين] أو الثلاثة عتقوا، ثم أقرع بين الواحد وبين الحزب الآخر، فإن خرج على الواحد عتق منه سدسه، ورق باقيه مع الحزب الآخر، وإن خرج على الحزب الآخر، فإن كان حزب الثلاثة أقرع بينهم، فمن خرج عليه سهم العتق عتق بجملته، ورق رفيقاه مع العبد الواحد، وإن كان حزب الاثنين أقرع بينهما، فمن خرج عليه سهم الحرية عتق منه ثلثاه، ورق ثلثه وجميع رفيقه والعبد الواحد.

الحالة الخامسة: أن تختلف قيمتهم ولا توافق عدهم، ويمكن التعديل بينهم، مثل أن كان العبيد ثمانية: قيمة واحد مائة، وقيمة ثلاثة مائة، وقيمة أربعة مائة، فيجزءون على القيمة دون العدد وجها واحدا؛ لأن العد لما لم يوافق سقط اعتباره؛ فتعين الآخر.

الحالة السادسة: ألا يكون للعبيد ثلث صحيح، والقيمة مختلفة، وليس لها ثلث صحيح، كما إذا كان العبيد ثمانية، وقيمتهم سواء، ففيهم قولان:

أحدهما: يجعلون أربعة أسهم، ثم يقرع بينهم، فأي حزب خرج عليه عتق، ثم يجزأ الباقون ثلاثة أجزاء، ويقرع بينهم، فإذا خرج سهم الحرية على حزب عتق منه تتمة الثلث – وهو ثلثا عبد – ثم يقرع بين العبدين اللذين خرج سهم الحرية عليهما أجزاء، فأيهما خرج عليه سهم الحرية عتق منه ثلثان ورق ثلثه.

ولو كانوا سبعة، قال الشافعي – رضي الله عنه: جعلتهم سبعة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فإن خرج سهم العتق جزئ الباقي ثلاثة أجزاء، فمن خرج عليهما سهم العتق منهم، أقرع بينهما، فمن خرج عليه سهم الحرية عتق، وعتق من صاحبه ثلثه، ورق الباقي.

والقول الثاني: أنا نجزئهم ثلاثة أجزاء، ففي الثمانية نجعل ثلاثة جزءا، وثلاثة جزءا، واثنين جزءا، وفي السبعة نجعل ثلاثة جزءا، واثنين جزءا، واثنين جزءا، فإن خرج سهم الحرية على الأقل، عتق من فيه، ثم أقرع بين الجزأين، فإذا خرج سهم الحرية على حزب آخر، أقرع بين من فيه، فمن خرج عليه سهم الحرية عتق ثلثاه ورق الثلث وباقي العبيد، وإن خرج سهم الحرية ابتداء على الحزب الأكبر،

ص: 195

أقرع بين من فيه.

قال الشافعي – رضي الله عنه: وهذا القول أصح وأشبه بمعنى السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء، ولا يجوز عندي أبدا أن يقرع بين الرقيق قلوا أو كثروا إلا على ثلاثة، اختلفت قيمتهم أو لم تختلف.

قال الأصحاب: ولو كانوا أربعة يجب أن يكون في كيفيتها قولان:

أحدهما: يجزءون ثلاثة أجزاء، وهو الصحيح.

والثاني: يجزءون جزأين، كما قال في ثمانية: أربعة أجزاء.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا المبسوط يرجع إلى اختصار، وهو أن الاثنين يجعلان جزأين والثلاثة ثلاثة أجزاء، والأربعة فصاعدا إن أمكن تعديل الأجزاء بالقيمة حتى يكون كل جزء ثلث المال – جعل أيضا ثلاثة، وإن لم يمكن ذلك؛ لأنه لا ثلث صحيحًا لقيمهم ولا لعددهم، فالمذهب الصحيح أنهم يجزءون ثلاثة أجزاء، ويقرع بينهم حتى يستوفى الثلث.

فرع: قال في البحر: لو كان في العبيد أخوان، أو أب وابن، كان الجمع بينهما أولى من التفرقة، ولو كان فيهم أم وابن بالغ، فإن فرق بينهما، جاز، وإن كان فيهم أم وابن صغير، فلا يجوز أن يفرق بينهم؛ للنهي عنه.

قلت: وفيه نظر؛ لما تقدم أن التفرقة بالحرية غير داخلة تحت التحريم.

ولو كان فيهم زوجان، فهل تجوز التفرقة؟ فيه وجهان، وجه المنع: أن هذا يفضي إلى فسخ النكاح، وكل هذا إذا أمكن الجمع.

فرع: لو أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة لا مال له غيره، ومات العبد في حياة سيده ففيه ثلاثة أوجه:

أحدهما – وهو اختيار ابن سريج؛ كما حكاه الحاوي، وقال الرافعي حكاية عن الشيخ أبي منصور: إنه المشهور من المذهب -: أنه مات حرا وكسبه [لورثته.

والثاني: بطل العتق ومات عبدا وانتقل كسبه] إلى سيده بالملك؛ لأن العتق في مرض الموت وصية، والوصية تبطل بموت الموصى له قبل موت الموصي.

ص: 196

قال الرافعي: وهذا من تخريج ابن سريج.

والثالث: أن ثلثه حر وثلثاه رقيق، إذا لم يكن مال [سواه] وهذا، ما قال في البحر: إنه ظاهر المذهب والمعول عليه.

ولو قتل العبد المعتق في المرض قبل موت معتقه جرى فيه الخلاف، وحكى الرافعي أن الأستاذ أبا منصور قال: قياس مذهب الشافعي – رضي الله عنه: أنه يموت رقيقا، وذكر بعد ذلك بقليل أنه الأظهر.

ولو كان قد وهب العبد في مرضه ولا مال له سواه، وقبضه المتهب، ثم مات العبد قبل سيده، فهل تبطل الوصية؟ فيه وجهان، أصحهما: البطلان، فإذا قلنا به، فهل يغرم المتهب؟ فيه وجهان، الأشبه: أنه لا يضمن، وإذا قلنا: يضمن، قال الأستاذ منصور: يضمن ثلثي القيمة. قال الرافعي: وقياس بطلان الهبة في الجميع أن يغرم جميع القيمة.

فرع: إذا ظهر بعد القرعة دين مستغرق للتركة، لم ينفذ العتق. فلو قال الوارث: أنا أقضي الدين وأنفذ العتق، فهل لهم ذلك؟

فيه وجهان: قال في البحر: وأصلهما:

إذا تصرف الوارث في التركة – والدين يستغرقها – قبل قضاء الدين، ثم قبض الدين، هل يصح التصرف أم لا؟ وفيه خلاف.

وإن استغرق الدين نصف التركة [ولم تجز الورثة] ، بطل العتق في قدره، ثم إذا كان المستغرق النصف جزئت التركة نصفين، وإن كان الثلث جزئت ثلاثة أجزاء، وإن كان الربع جزئت أربعا، ثم في الصورة الأولى يكتب على رقعةٍ: تركة وعلى رقعةٍ: دين، ويوضع في حجر رجل لم يحضر ذلك على النعت الذي تقدم، فمن خرجت عليه رقعة الدين، بيع فيه وقضى منه الدين، ثم يجزأ الباقي ثلاثة أجزاء، فيعتق ثلثه ويرق الثلثان على ما بيناه، وفي الصورة الأخيرة تجزأ التركة أربعة أجزاء ويكتب في رقعة: دين، وفي ثلاث رقاع: تركة، فإذا خرج سهم الدين بيع وقضى منه الدين، ثم يقرع بين الباقين، فيكتب في رقعة: عتق، وفي رقعتين:

ص: 197

رق، وعن القفال وجه آخر: أنه يجوز أن يجمع بين سهم الدين وسهم العتق وسهمي الرق، قال الروياني: والأول أصح، وبنى على قولين للشافعي – رضي الله عنه – فيما إذا عتق ثلث المال بالقرعة، ثم ظهر على الميت دين غير مستغرق: هل يبطل أصل القرعة أم لا؟

وأحد القولين – وهو المنصوص -: تبطل. فيقرع الآن للدين، ولا يبالي أن يقع سهم الدين على الذي خرجت عليه قرعة العتق في الابتداء؛ فعلى هذا لا يجوز أن يقرع للعتق ما لم يحصل قضاء الدين.

والثاني: أنه لا ينقض القرعة الأولى، بل ينقض العتق في الذي خرجت له قرعة الحرية في الابتداء، ويبقى فيه بقدر ما يحمله الثلث.

فرع: لو قال: إن أعتقت سالما فغانم حر، ثم أعتق سالما في مرض موته، ولم يخرج من ثلثه إلا أحدهما – أعتق سالما ولا قرعة؛ لاحتمال أن تخرج على غانم؛ فيلزم إرقاق سالم، وإذا رق سالم لم يحصل شرط رق غانم، وفيه وجه: أنه يقرع، ولو قال: إن أعتقت سالما فغانم حر في حالة إعتاقي سالما، ثم أعتق سالما في مرض موته – قال الرافعي: فالجواب كذلك، وفي الحاوي: أن اختيار الشيخ أبي حامد في هذه الحالة: يقدم سالم من غير قرعة. واختيار ابن سريج: جريان القرعة.

قال: وإن كان له مال حاضر ومال غائب، أو عين ودين، دفع إلى الموصى له – أي: بالثلث مطلقا: ثلث الحاضر، وثلث العين، وللورثة من ذلك ثلثاه – وكلما نَضَّ من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء، قسم بين الورثة والموصى له؛ لأن الموصى له شريك الوارث بالثلث؛ فمان كسائر الشركاء.

وعلى هذا: إذا كان قد أوصى بعين حاضرة، وماله غائب أو دين، لا نسلم العين إلى الموصى له، بل كلما حضر من الغائب شيء أو نض من الدين شيء، سلم إلى الموصى له بقدر حصته من العين، إلى أن تستكمل.

وهذا فيما عدا الثلث من العين، أما ثلث العين، فهل يسلم له في الحال أو حتى يحضر من المال قدره مرتين؟ فيه وجهان:

ص: 198

وجه المنع – وهو الأصح في الرافعي -: أنا لو دفعنا له ذلك، لاحتجنا إلى تسليم ثلثيها إلى الورثة حتى يتصرفوا فيهما كما يتصرف الموصى له في ثلثها، وفي ذلك إبطال لحقه.

والثاني: يجوز، ويجوز للورثة التصرف في الثلثين. قال أبو الفرج السرخسي في أماليه: فإذا تصرف الورثة، ثم بان هلاك المال الغائب، تبينا نفاذ تصرفهم.

قال الرافعي: فلك أن تقول: وجب أن يخرج [ذلك] على وقف العقود، ولو سلم وعاد إليهم، [فهل يبين] بطلان التصرف أم لا؟ ويغرمون للموصى له قيمة الثلثين؟

فيه وجهان، أضعفهما الثاني.

وعلى الخلاف في الأصل يخرج ما لو أوصى بعتق عبد لا مال له حاضرًا سواه، وله مال غائب يخرج العبد من ثلثه، قال الماوردي: فالثلث محكوم بعتقه، ويوقف ثلثاه، لكن هل يمكن الورثة في حال الوقف من استخدام الثلثين، والتصرف في منفعتهما أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، وهو على قولنا: يجوز للموصى له بالعين التصرف في ثلثهما؛ طلبا للتسوية.

والثاني: يمنعون من ذلك؛ كما يمنعون من التصرف بالبيع؛ وهذا على قولنا: لا يجوز للموصى له بالعين التصرف فيها.

ولو كان السيد قد نجز عتقه في مرض الموت، فالحكم كذلك، لكن في الحاوي في كتاب العتق: أنه إذا حضر المال الغائب، وتسلمه الورثة تبينا عتق باقيه، وهل يرجع العبد على الورثة بما بقي من ثلثي كسبه عن نفقة ثلثيه؟ فيه وجهان.

وحكي أن الورثة لو أعتقوا الثلثين، لم ينفذ وإن ملكوه؛ لأنه موقوف على عتق مورثهم؛ فلم ينفذ فيه عتق غيره إلا بعد إبطال عتقه.

ولو دبروه ففيه وجهان:

ص: 199

أحدهما: أنه باطل كالعتق.

والثاني: أنه جائز؛ لتأخر العتق، وتغليب حكم الرق عليه.

فرع: لو أوصى بثلث ماله، وخلف ابنين وعشرة دنانير، على أحد الابنين دينار وعشرة ناضة، ففي كيفية ما يصنع وجهان:

أحدهما: يأخذ كل من الابنين والموصى له ثلث الناضة، ويسقط من العشرة التي [تقسم] على أحد الابنين ثلثها، ويبقى ثلثاها بين الموصى له والولد الآخر بالسوية.

والثاني: أن العشرة الناضة تقسم بين الولد الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين، ويبقى لكل منهما على الابن الذي عليه [الدين] دينار. وثلثان، وهذا ما حكاه الماوردي عن ابن سريج وبه جزم المتولي.

وعلى هذا، إن كانت الوصية بالربع والصورة كما ذكرناه، فالمسألة من أربعة: للموصى له سهم، يبقى ثلاثة على اثنين، لا يصح ولا يوافق، وقد انكسرت على مخرج النصف فبتصرف في أصل المسألة تبلغ ثمانية: للموصى له بالربع سهمان، وللابن الذي لا دين عليه ثلاثة، فتنقسم العشرة الحاضرة على خمسة ينوب كلا منهم ديناران، للموصى له سهمان بأربعة دنانير وللابن الذي لا دين عليه ثلاثة أسهم بستة دنانير، ويبقى للموصى له في ذمة من عليه الدين دينار، ولأخيه دينار ونصف؛ إذ بذلك يتم للموصى له ربع التركة وهو خمسة، وللابن الذي ليس بمدين نصف الباقي بعد الوصية وهو سبعة ونصف، وسقط عن ذمة الابن المدين نظير ذلك، وسنذكر في أثناء الباب كيفية قسمة التركة على الموصى لهم والورثة، إن شاء الله تعالى.

قال: وإن وصى بثلث عبد – أي: يملك جميعه في الظاهر – فاستحق ثلثاه، فإن احتمل ثلث المال الباقي، نفذت الوصية فيه، وإن لم يحتمل نفذت في القدر الذي يحتمل؛ لأنه وصى له بثلثه وهو يملكه، ويخرج من ثلث ماله؛ فوجب أن تصح الوصية، كما لو كان مقرًّا بأنه يملك ثلثه ووصى به، وهذا ما

ص: 200

حكاه المزني.

وقيل: لا تصح الوصية إلا في ثلثه، أي: في ثلث الثلث، وإن احتمل الثلث ثلث ماله؛ لأن الثلث الذي وصى به شائع في جميع العبد، فإذا خرج ثلثاه مستحقاً بطل منهما ما وصى به، وبقي ما كان شائعاً في الثلث وهو ثلثه، كما لو أوصى له بثلث ماله، فخرج بعضه مستحقّاً، فإن الموصى له يستحق ثلث الباقي، وهذا ما حكاه الربيع كما نقله القاضي الحسين والبغوي، وفي غيرهما: أنه قول أبي ثور، واختيار ابن سريج.

قال: وليس بشيء؛ لأن ثم لم يحتمله الثلث، وهنا احتمله الثلث.

وهكذا الخلاف فيما إذا أوصى بثوب أو دار ونحو ذلك، فاستحق ثلثاه، وشبه القاضي الحسين الخلاف بالخلاف فيما إذا [كان] يملك من عبده نصفه، فقال: بعت نصف هذا العبد، ففي وجه: يصح في النصف الذي يملكه، وفي وجه: نصف النصف.

وحكي أن من الأصحاب من نفى الخلاف في المسألة، ثم منهم من حمل ما نقله المزني على ما إذا عينه بالتسمية، وما نقله الربيع على ما إذا أطلق، ومنهم من حمل ما نقله المزني على ما إذا قال الوصي للورثة: أعطوه ثلث هذه الدار، فأقام الورثة مقام نفسه في التعيين، وهو لو عين ثم تبين الاستحقاق لم تبطل الوصية، كذلك إذا عين الورثة.

وما نقله الربيع على ما إذا قال: أوصيت بثلث الدار، ولم يجعل التعيين للورثة.

وعلى طريقة القولين الخلاف مفروض فيما إذا كان الموصي قد ملك الجميع في الظاهر بسبب واحد، وملك الثلث بسبب [ثم ملك الثلثين بسبب]، وأطلق الوصية بالثلث.

أما إذا قال: أوصيت لك بما ملكته بسبب كذا، فإن الوصية تصح به وجهاً واحداً إذا لم يكن [هو] المستحق؛ قاله المتولي والقاضي الحسين، وقالا: إنه

ص: 201

لو أوصى بثلث صبرة من طعام، فتلف ثلثاها، فإنه يسلم الثلث الباقي [للموصى له] إذا خرج من ثلث المال.

والفرق: أن المستحق غير قابل للعقد وقد وقع العقد شائعاً؛ فأبطلناه فيما لا يقبل عقده وهو الثلث من الثلث، وأما الصبرة فإن جملتها قابلة للعقد؛ فصح، وإذا صحت الوصية وأمكن الوفاء بها لا يجوز إبطالها، وهذا يعضده ما حكاه في البحر عن الأم فيما إذا أوصى بثلث شيء، فأذهب المالك ثلثيه، أن للموصى له الثلث، وللماوردي في هذه الصورة احتمال كمذهب ابن سريج في صورة الاستحقاق؛ لأن الوصية بالمشاع، والباقي بعد ما أخذه المالك مشاع؛ فوجب ألا يبقى إلا في ثلثه، ويعضده أنه لو أوصى له بدار فباع ثلثيها، لم تبق الوصية إلا في ثلث الباقي.

قال: وتجوز الوصية بالمعدوم: كالوصية بما تحمله هذه الشجرة أو الجارية؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بعقد المساقاة والقراض والإجارة؛ فجاز أن يملك [بعقد] الوصية؛ لأنها أوسع باباً من غيرها، وهذا ما حكاه البندنيجي عن النص.

ومن طريق الأولى جواز الوصية بالحمل الموجود، ولكن يشترط استحقاق الموصى [له] تحقق وجوده حالة الوصية، وطريقه ما سنذكره في الوصية للحمل، وهل يصح القبول في حال الاختيار؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن الحمل هل يعرف؟ ولو قال: أوصيت [لك] بمن تلده جاريتي، فهل يراعى وجود الحمل وقت الوصية أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، ويكون كقوله: أوصيت بحمل جاريتي.

والثاني: لا، كقول أبي إسحاق: ففي أي زمان ولدته كان للموصى له.

ولو قال: إن ولدت هذه الجارية ولداً ذكراً فهو وصية لزيد، وإن ولدت أنثى فهي وصية لعمرو- فإن ولدت ذكراً وأنثى، صرف إلى كل منهما ما أوصى له به.

ص: 202

فلو وضعت خنثى مشكلاً، ففيه وجهان:

أحدهما: لا حق فيه لواحد منهما؛ لأنه ليس بذكر؛ فيستحقه زيد، ولا بأنثى؛ فيستحقها عمرو.

والثاني: يوقف حتى يصطلحا عليه؛ حكاه الماوردي.

فرع: لو ضرب ضارب بطن الأمة الموصي بحملها، فأجهضت ميتاً، صرف الأرش للموصى له، بخلاف ما لو أوصى له بحمل بهيمة فضربها ضارب فوضعت، فإن الموصى له لا يستحق شيئاً.

قال الماوردي: والفرق: أن دية الجنين بدل منه، وما وجب في جنين البهيمة بدل ما نقص من قيمتها، وليس هو موصى له بشيء من القيمة.

قال: وبالمجهول: كالوصية بالأعيان الغائبة، وكذا بأحد العبدين أو بعبد من ماله، وبما لا يقدر على تسليمه: كالطير الطائر والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلث ماله، كما يخلفه الوارث في ثلثيه، ثم الوارث يخلفه في هذه الأشياء؛ فكذلك الموصى [له].

قال: وبما لا يملكه: كالوصية بألف [درهم] لا يملكها، أي: ثم ملكها عند الموت، سواء كانت معينة أو غير معينة؛ كما صرح به الرافعي، وكذا بعبد لا يملكه؛ لأن الوصية تملك بالموت؛ فاعتبر أن يكون الملك موجوداً إذ ذاك، وهذا قول [أكثر] البصريين، وهو الصحيح؛ بناءً على أن الاعتبار بقدر الثلث بحالة الموت، كما حكيناه من قبل.

وقيل: إن لم يملك شيئاً أصلاً، لم تصح الوصية؛ لأنها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعد، وهذا قول أكثر البغداديين؛ بناءً على أن الاعتبار في قدر الثلث بحالة الوصية، وعليه يخرج قول من منع الوصية بما تحمل الشجرة أو الجارية؛ لأن الحمل غير مملوك حال الوصية.

وبعضهم قطع في الوصية بما تحمل الشجرة بالصحة، وبإجراء هذا القول فيما

ص: 203

تحمله الجارية، وفرق بأن الثمرة تحدث بغير إحداث أمر، والولد لا يحدث إلا بإحداث أمر في الأصل؛ ولهذا تجوز المساقاة على الثمار التي ستحدث، ولا تجوز المعاملة على النتائج الذي سيحدث.

وبناه الماوردي على أن الاعتبار في الثلث بحال الموت أو بحال الوصية.

أما إذا أوصى بثلث ماله وله مال فهلك واستفاد غيره، فعلى قول البصريين: تتعلق الوصية بالمتجدد، وهو ما ادعى القاضي أبو الطيب الجزم به، وكذلك ابن الصباغ.

وقال البندنيجي في باب الرجوع عن الوصية: إنه المذهب.

وعلى مقابله: بطلت الوصية.

وقياس هذا أن يطرد فيما إذا باع المال الموجود حال الوصية، واستبدل غيره، وقد جزموا بالصحة في هذه الحالة، واستدلوا بها على فساد قول البغداديين.

وللبغداديين أن يفرقوا بأن في الاستبدال: المالية التي كانت في الأعيان الموجودة حال الوصية انتقلت إلى الأعيان الموجودة حال الموت؛ فاعتمدت الوصية المالية في الحالتين؛ كما نقول في وجوب زكاة التجارة في مثل ذلك؛ لما ذكرناه، وعند التلف فإن مالية الأعيان الموجودة حال الوصية قد زالت بالكلية، ولم تعد؛ فلذلك بطلت الوصية.

وفي النهاية في باب الطلاق قبل النكاح: أن الشيخ أبا محمد كان يقول: إذا صححنا الوصية مضافة إلى العين، فشرطه: أن يقيد بتقدير الملك، فيقول: إن ملكت هذا العبد، أما إذا وجه الوصية على عبد الغير مطلقاً من غير تقييد بالملك، فالوصية باطلة.

قال الإمام: والظاهر عندنا ما ذكره العراقيون من البندنيجي وابن الصباغ، ومن المراوزة: القاضي الحسين في كتاب المكاتبة؛ حيث قالوا: لو أوصى برقبة المكاتب على القول بامتناع بيعه، لم يصح ولا يسلم له، وإن انفسخت الكتابة قبل موت الموصى [له]؛ كما لو أوصى بعبد الغير ثم ملكه، نعم: إن وصى

ص: 204

برقبة المكاتب إن عجز، أو بهذا العبد إن عاد إليه، ففيه وجهان، حكاهما الإمام والبندنيجي، ثم حكى الإمام وجهاً ثالثاً: أنه تصح الوصية برقبة المكاتب، وهو ما حكاه في البحر عن الأم، ولا تصح بمال الغير وسنذكره ثم، إن شاء الله تعالى.

تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن القول بعدم الصحة لا يجري عند ملكه لبعض ما أوصى به، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب، ومساق البناء على قول اعتبار حال الوصية، ألا تصح إلا في قدر ما يملكه إذ ذاك.

فرع: إذا صححنا الوصية بما تحمل المرأة، فإن انفصل الولد لأقل من ستة أشهر فما فوقها ولدون أربع سنين، فإن لم تكن ذات زوج، فهو للورثة، وإن كانت ذات زوج يطؤها، فالظاهر أن الولد تجدد؛ فيكون للموصى له، قاله الماوردي.

فرع: إذا صححنا الوصية بالثمرة التي ستحدث، فلا يجب على الورثة السقي عند الحاجة؛ لأن الثمرة تحدث على ملك الموصى له، ولا يجب على الموصى له أيضاً سقيها، بخلاف نفقة العبد؛ لأن نفقة العبد مستحقة؛ لحرمة نفسه.

قال الماوردي: وكذا إن احتاجت النخل إلى سقي، لم يلزم واحداً منهما.

قال: ويجوز تعليقها على شرط في الحياة، [أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو قَدِمَ زيد، فقد أوصيت لفلان بكذا، وإن كان في بطنك ذكر فقد أوصيت به لفلان؛ لأنها تجوز بالمجهول؛ فجاز تعليقها على شرط؛ كالطلاق.

قال: وعلى شرط بعد الموت، أي: بأن يقول: إذا مت، ودخل زيد الدار بعد موتي، أو جاء المطر- فأعطوا فلاناً كذا؛ لأن ما بعد الموت في حال الوصية كحال الحياة.

قال: وتجوز بالمنافع والأعيان، أي: تجوز بالمنافع خاصة وبالأعيان خاصة، كما إذا أوصى لشخص بمنفعة عبد ولآخر برقبته.

قال: وبما يجوز الانتفاع به من النجاسات: كالسماد، والسرجين، والكلب، والزيت النجس؛ لما ذكرناه من أن الموصى له في الثلث كالورثة في الثلثين،

ص: 205

وهذه الأشياء تنتقل إلى الوارث، فكذلك الموصى له.

وفي الكلب وجه: [أنه لا تجوز الوصية به، كما لا تجوز هبته على وجه.

وفي البحر وجه]: أنه لا تجوز الوصية بكلب صيد أو زرع أو ماشية لمن لا يحسن الصيد ولا زرع له، ولا ماشية، وهو مستمد مما ذكرناه في باب الغصب: أنه لا يجوز لمن مثل هذا حاله اقتناء مثل هذا الكلب.

وفي الكلب الذي لا ينتفع به وجه: أنه تجوز الوصية به.

والأول وهذا غريبان.

نعم، المشهور الخلاف في الوصية بالجرو الصغير؛ بناءً على جواز اقتنائه، والصحيح في البحر جوازه.

وفي جواز الوصية بشحم الميتة الذي [يطلي] به السفن، إذا جوزنا الانتفاع به- وجهان.

قال: [ولا تجوز بما لا ينتفع به]: كالخمر، والخنزير؛ لأنه يحرم الانتفاع بهما، ولا تقر اليد عليهما؛ فلا يجوز نقلهما إلى الغير، وهذا ما أطلقه العراقيون؛ بناءً على الصحيح عندهم في أنه لا فرق في الخمر بين المحترمة وغيرها.

والمراوزة: فرضوا ذلك في غير المحترمة، وجزموا في المحترمة بجواز الوصية فيها؛ بناءً على اعتقادهم جواز إمساكها.

ومحل الكلام في ذلك في هذا الكتاب، [في] باب إزالة النجاسة.

قال: وإن أوصى لأقارب فلان، أي: وهم محصورون، دفع إلى من يعرف بقرابته، أي: من قبل الآباء والأمهات، ويسوي بين الأقرب والأبعد [منهم]؛ لاستوائهم في تناول اللفظ، ولا فرق فيهم بين الوارث وغيره، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين الغني والفقير، ولا بين المسلم والكافر، قال أبو إسحاق: لا يدخل الأبوان والأولاد في الوصية؛ للقرابة، ويدخل الأجداد والأحفاد، وادعى الأستاذ أبو منصور إجماع الأصحاب عليه، وقيل: لا يدخل الأصول والفروع،

ص: 206

وقيل: كل من اجتمع معه في الأب الرابع، [فهو من قرابته، ومن اجتمع بعد الرابع] خرج من القرابة؛ حكاه الماوردي.

وقد خص بعض الأصحاب الصرف إلى [القرابة] الأقاربَ من [جهة] الآباء والأمهات إذا كان الموصي غير عربي، أما إذا كان عربياً، فلا يصرف إلى الأقارب من جهة الأم؛ لأن العرب لا يعتنون إلا بالأقارب، من جهة الأب وبهم يتناصرون. قال القاضي الحسين: وهذا ما ذكره الشافعي- رضي الله عنه في أثناء الباب وصححه بعضهم، والذي ذكره في طرف الباب يدل على أنه لا فصل بين أن يكون الموصي عربياً أو غير عربي، وصححه آخرون، والصحيح ما ذكره الشيخ، وعلى هذا: إذا كان له أب أو جد يعرف به عند الناس، صرف إلى [من ينسب إلى] ذلك الذي عرف به دون من ينسب إلى أب ذلك أو على أخيه، مثاله: إذا أوصى لأقارب الشافعي- رضي الله عنه فإنه يدفع إلى من ينسب إلى شافع بن السائب بن عبد يزيد [بن هشام بن عبد المطلب بن عبد] مناف، دون من ينسب إلى السائب أو إلى علي والعباس أخوي شافع، و [لا] إلى أولادهما؛ لأنهم لا يعرفون بقربته، وهذا في زمن الشافعي.

[أما إذا أوصى موص لأقارب بعض أولاد الشافعي] دون غيرهم من أولاد شافع، وعلى هذا القياس، وهكذا الحكم في جانب الأم إذا لم تكن من قبيلة الأب فيعتبر في جنبتها ما ذكرناه في جنبة الأب، فكل من تنسب إليه الأم من الأب المشهور فإنه قرابتها، وإن كانت الأم من قبيلة الولد، قال في البحر: فنسب الجميع واحد.

والحكم فيهما إذا أوصى لذي رحم فلان أو لأرحامه، كالحكم فيما إذا أوصى لقرابته. قال الرافعي: و [في] هذا اللفظ يدخل أقارب الأم بلا خلاف.

أما إذا كان قرابته غير محصورين، فهو كما لو أوصى لقبيلة كبيرة.

ص: 207

ولو لم يكن له إلا قريب واحد، فوجهان:

أصحهما: أنه يصرف إليه الجميع؛ لأن المقصود منه الصرف إلى جهة القرابة.

والثاني: لا يصرف إليه إلا ثلث الموصي به؛ لأن أقل الجمع ثلاثة.

وحكى الأستاذ أبو منصور وجهاً آخر: أنه يكون له النصف.

فرع: لو أوصى لأقارب نفسه، فإنه لا يصرف للوارث [منهم]؛ لأن الوصية إليه غير صحيحة، قال القاضي والمتولي: ولا يقال: إنها تقسم على الجميع ثم تبطل الوصية في حصة من يرث، وغيره من المراوزة قال ذلك [وحكاه] وجهاً مع الأول، وقال الرافعي: لك أن تقول: وجب أن يختص الوجهان بقولنا: إن الوصية للوارث باطلة؛ أما إذا قلنا بأنها موقوفة على الإجازة فليقطع بالوجه الثاني.

قال: وإن وصى لأقرب الناس إليه لم يدفع إلى الأبعد مع وجود الأقرب؛ عملاً بمقتضى اللفظ. نعم: لو أوصى لجماعة من أقرب قراباته، وكان الأقرب واحداً أو اثنين، قال ابن الصباغ: اشترك معه من دونه ليتم العدد؛ أي: الذي يصدق عليه أقل الجمع وهو ثلاثة، كما صرح به المتولي، فإذا خلف ابنين وابن ابن [ابن] دُفِعَ للابنين الثلثان ولابن ابن الابن الثلث، وإن كانوا ابنا، وابن ابن، وابن ابن ابن- دفع إليهم، وإن كان له ولد وأولاد بنين، دفع إلى الأكبر الثلث، والباقي لأولاد البنين بالسوية، وكذلك لو كان له ابنان وأولاد بنين دفع للابنين الثلثان، والثلث الباقي بين أولاد الابن بالسوية، والاعتبار عند اجتماع جماعة من القرابة من أولاد الأولاد وأولاد الإخوة، وأولاد الأعمام والأخوال والخالات- بالجهة لا بقرب الدرجة، فجهة الولادة مقدمة على جهة الأخوة، وجهة الأخوة مقدمة على جهة العمومة والخئولة، نعم قرب الدرجة معتبر في الجهة الواحدة.

فرع: إذا اجتمع في الدرجة الأولى عشرة، فهل يجوز الاقتصار في الصرف إلى ثلاثة منهم، أو [يجب] بقيمتهم؟ فيه وجهان جاريان في الرتبة الوسطى

ص: 208

والسفلى، أصحهما في التتمة الأول، وهو ظاهر نصه في الأم، كما حكاه في البحر؛ حيث قال: دفع ذلك إلى ثلاثة من أقرب قراباته، واختاره، وبذلك أجاب البندنيجي في تعليقه، وشبهه بما إذا [أوصى إليه] أن يدفع للفقراء، وعليه يدل قول الإمام فيما إذا لم يكن من أقرباء الموصى له إلا واحد، أنه يجوز دفع جميع الثلث [إليه]؛ لأن الجميع ليس مقصوداً، وإنما المقصود الصرف إلى جهة القرابة.

وكلام القاضي في المجرد يدل على الثاني؛ فإنه قال: إذا كان الأخ وبنو الإخوة، فإنه يدفع إلى الأخ الثلث، والباقي يدفع لبني الإخوة ويسوي بينهم فيه؛ لأنهم استووا في القرابة، وهو الذي رجحه ابن الصباغ؛ لأن مقابله يؤدي إلى أن يكون الموصى له مجهولاً، [قال] ويخالف ما إذا أوصى للفقراء؛ لأنهم لا ينحصرون، ولأن الوصية تقع للجهة دون الأعيان، وقال الرافعي: كان الأشبه أن يقال في مثل هذه الوصية: إنها وصية لغير معين؛ لأن لفظ الجماعة منكر؛ فصار كما لو أوصى لأحد الرجلين أو الثلاثة، لا على التعيين من جماعة معينين.

قال: وإن اجتمع الأب والابن قدم الابن في أحد القولين؛ لأنه أقوى في التعصيب؛ بدليل تقديمه عليه في الإرث، وهذا هو المذهب. قال الرافعي: ولم يورد طوائف سواه، وبه جزم أكثر الأئمة في نظير المسألة من الوقف.

قال: ويسوى بينهما في الآخر؛ لاستوائهما في القرب من الميت، وهذا أصح في الجيلي. وقال ابن الصباغ: لا نظر إلى الإرث؛ ألا ترى أن الأب والابن، والأم والبنت في ذلك سواء، وإن اختلفا في الميراث، وكذلك أب الأب وأب الأم يستويان، وهذه طريقة القاضي في المجرد، وغيره حكى الخلاف في المسألة وجهين.

قال مجلي: وينبغي أن يجري الخلاف في دخول الأب والأم في دخولهما في الوصية.

قال: وإن اجتمع الجد والأخ، أي: من الأبوين أو من أحدهما، [كما صرح به] المتولي والبغوي والعراقيون- قدم الأخ في أحد القولين، وهو الأصح

ص: 209

في الرافعي، ومنهم من قطع به؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد؛ فقدم عليه كالابن، فعلى هذا يقدم ابن الأخ على الجد، والعم والعمة على أبي الجد، والخال والخالة على جد الأم وجدتها، ويسوى بينهما في الآخر؛ لاستوائهما في القرب والإدلاء بالأب، وهذا أصح في الجيلي؛ فعلى هذا يقدم الجد والجدة من الأب أو الأم على ابن الأخ، والعم والعمة وأبو الجد وأم الجد سواء، وكذا الخال والخالة وجد الأم وجدتها سواء.

وفي البحر والحاوي [حكاية] وجه ثالث: أن جد الأب أو جدة الأب أولى من العم والعمة والخال [والخالة].

قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون ها هنا الأخ من الأم مع الجد كالأخ من الأب، وبه صرح المتولي وصاحب البحر، وكذلك غيرهما في نظير المسألة من [كتاب] الوقف، وأن الأخ من الأب كالأخ من الأم، والجد للأب كالجد للأم فيما ذكرناه، وأن الأخ من الأبوين مقدم على الأخ من أحدهما، وحكى الإمام في كتاب النكاح أن بعض الأصحاب أثبت في ذلك قولين كما في ولاية النكاح.

قال الرافعي: وهذا ذكره الحناطي.

قلت: وكذلك الماوردي في نظير المسألة من الوقف، لكن الجمهور في الوقف، وهذا على الأول، وبه جزم الماوردي هنا، وسنذكر دليله في قسم الفيء، إن شاء الله تعالى. والأخت فيما ذكرناه كالأخ، صرح به في البحر، والأعمام

ص: 210

والعمات والأخوال والخالات في درجة واحدة، وكذا أولادهم مستوون، ولو كان لإحدى الجدتين قرابتان فهل تقدم بهما أم لا؟ فيه وجهان في الشامل، وقال: إنه ذكر هذين الوجهين في ميراثها، والمشهور في ميراثها من الخلاف: أنها تأخذ نصيبين، والجدة التي معها تأخذ نصيباً ويقدر كأنهما ثلاث جدات، كما ستقف عليه.

ولو اجتمع جد جد وابن عم، ففيه وجهان:

أحدهما: جد الجد أولى.

والثاني: ابن العم أولى.

فرع: [إذا] أوصى لأهله، دخل فيه الأقرباء، ولا يدخل المعتق والرضيع، وهل يدخل الزوج والزوجة؟ فيه وجهان. ولو أوصى لعصبته، دخل المعتق، ولو أوصى لمناسبه، فهم من [نزل عن درجة الموصي من أولاده الذين يرجعون إليه في نسبهم دون من علا من آبائه، وهل تدخل] أولاد بناته؟ فيه وجهان، الأشبه في البحر: عدم الدخول.

ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى من أناسبه، دخل فيهم الآباء دون الأبناء، ودخل فيهم الإخوة والأعمام، وهل يدخل الأجداد والجدات؟ فيه وجهان، ولا يدخل الأخوال والخالات وإخوة الأم. ولو أوصى لورثة زيد فالوصية موقوفة حتى يموت زيد، ثم تدفع إلى من يرثه.

قال: وإن أوصى لجيرانه صرف إلى أربعين داراً من كل جانب؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَاراً: هَكَذَا، وهَكَذَا، وهَكَذَا، وهَكَذَا؛ يَمِيناً وَشِمَالاً، وَقُدَّاماً وَخَلْفاً".

وفي الحاوي في كتاب الوقف: أن مذهب الشافعي- رضي الله عنه: أنهم من نسبوا إلى سكنى محلته، وسواء كان منهم مالكاً أو مستأجراً.

ص: 211

وعن بعض أصحابنا أن الجار هو الذي يلاصق داره [داره].

وقال الأستاذ أبو منصور: من يلاصق داره [داره][من الجوانب جار، فيمن ليس بملاصق: فالذي باب داره حذاء باب داره]، والذين هم في زقاق واحد غير نافذ، [وفيه] اختلاف للأصحاب.

فرع: لو كان للموصي داران، فإن كان سكناه فيهما واحداً، يصرف إلى جيران الدارين، وإن كان سكناه في إحداهما أكثر، كان الحكم للأكثر.

قال: وإن وصى لفقراء بلده استحب أن يعمهم؛ ليعم الفضل ويشمل، ويصرف لكل منهم قدر كفايته إن أمكن، ويجوز أن يصرف [للمساكين، كما يجوز أن يصرف] ما وصى به للمساكين إلى الفقراء.

وحكى ابن الصباغ عن أبي إسحاق المروزي حكاية قول: أنه يجوز صرف ما وصى به للمساكين إلى الفقراء دون العكس؛ لأن الفقير أشد حالاً من المسكين وكذلك رواه في الرقم عن النص، والأصح الأول.

قال: فإن اقتصر على ثلاثة منهم جاز، أي: إذا لم يكن فقراء البلد محصورين؛ لأن عرف الشرع ثبت كذلك في الزكاة؛ فحملت الوصية عليها، فلو لم يكن في البلد فقير ولا مسكين، لغت الوصية، قاله القاضي الحسين.

أما إذا كان الفقراء محصورين، اشترط استيعابهم والتسوية بينهم، واشترط قبولهم، ذكره في التهذيب وغيره، وعلى ذلك ينطبق قول الماوردي: إنه لو أوصى إلى أهل بلد: فإن كان صغيراً جاز، ووجب تعميمهم، وإن كان كبيراً كالبصرة، فهو [كالوصية للقبيلة] الكبيرة، ولو أوصى بثلثه للفقراء صرف إلى فقراء بلده.

وهل ذلك على سبيل الإيجاب أو الاستحباب؟ فيه خلاف مرتب على نقل الصدقة، وأولى بالجواز، وهذه طريقة الماوردي والغزالي وغيرهما، وأطلق القاضي الحسين الخلاف من غير ترتيب، والقاضي أبو الطيب قال: يجب الصرف إليهم كما في الزكاة، وهو الذي حكاه البندنيجي [عن نص الشافعي- رضي الله عنه.

ص: 212

وعلى هذا، يجب أن يكون قوله: أوصيت للفقراء بمائة] كقوله: أوصيت لفقراء هذه البلدة، وقد تقدم.

وقد أشار إلى ذلك الرافعي، وعضده بأن الأستاذ أبا منصور ذكر في الوصية للغارمين: أنه يعطي ثلاثة منهم، إن كانوا غير محصورين، وإن كانوا محصورين استوعبوا، فإن اقتصر [القاضي] على ثلاثة [منهم] فتجزئه أو يضمن حصة الباقين؟ جعله على جوابين، إن قلنا بالثاني، فالحساب على قدر ديونهم أو على عدد رءوسهم؟ فيه وجهان.

فرع: لو دفع الوصية إلى شخصين من الفقراء، ضمن نصيب الثالث، وفيه مثل الخلاف المذكور في الزكاة، والمنصوص عليه في الأم في هذه المسألة- كما قال الماوردي-: أنه يضمن الثلث.

قال القفال: ولا يجوز للوصي أن يدفع ما يغرمه للفقير نفسه، بل يدفعه [إلى الحاكم]؛ ليدفعه إليه، فإن دفعه إليه [بنفسه] لم يبرأ، وإن أمره الحاكم بدفعه إلى فقير فدفعه إليه برئ. قال الإمام: وهذا حسن ظاهر.

قال: وإن أوصى بالثلث لزيد وللفقراء، فهو كأحدهم؛ لأنه ألحقه بهم في الإضافة، وذلك يقتضي التسوية، وهذا نصه ها هنا؛ حيث قال:[القياس]: أنه كأحدهم.

قال الرافعي: وأراد القياس على ما إذا أوصى لزيد وأولاد عمرو، فإن زيداً يكون كأحدهم.

وقد اختلف الأصحاب في قوله: "كأحدهم" على أوجه:

أحدها: أن للموصي أن يعطي سهماً من سهام القسمة، فإن قسم المال على أربعة من الفقراء، دفع إليه الخمس، وإن قسمه على خمسة دفع إليه السدس، وعلى هذا القياس، وهذا تقرير الأستاذ أبي منصور، وقال البندنيجي: إنه المذهب.

والثاني: أنه كأحدهم: بمعنى أنه رابعهم؛ لأن أقل ما يجوز أن يصرف إليه من

ص: 213

الفقراء ثلاثة أسهم؛ فيدفع إليه الربع، والباقي يصرف للفقراء بالتساوي أو التفاضل كما يراه، وهذا ذكره في الإفصاح.

والثالث: أنه يكون كأحدهم: بمعنى أنه يعطى جزءاً وإن قل. قال في البحر: وهذا ظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه وأبي إسحاق، وهو الصحيح، ويكون فائدة ذكره: أنه لا يحرم، وأن يعطى وإن كان غنياً، ويجوز أن يعطى إلى ثلاثة منهم، وزيد أحدهم. انتهى.

وما ذكره آخراً يفهم جواز دفع الثلث إلى ثلاثة، زيد أحدهم، وإن كان غنياً، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه، وأفهمه كلام ابن الصباغ. حيث قال: وينبغي أن يقال: إذا كان غنياً لا يجوز أن يكون من جملة من يقتصر عليه من الفقراء؛ فيكون ثلاثة غيره، وهذا ما جزم به في الحاوي، وأسقط هذا القول في حال غنى زيد؛ ولأجل ذلك قال صاحب البحر: وقد قيل: إن كان [غنياً] لا يجوز أن يجعل كأحدهم؛ لأن مخالفته في صفتهم تقتضي مخالفته في حكمهم.

وعلى هذا ينطبق ما قاله المتولي: أنه ينصرف إليه الثلث إن كان فقيراً، والربع إن كان غنياً.

وعلى ما حكاه القاضي أبو الطيب: أنه لا فرق بين الغني والفقير، وعلى هذا القول يكون له الثلث، [وكذلك صرح به].

قال: وقيل: يدفع إليه نصف الثلث، كما لو أوصى لزيد وعمرو وللفقراء والمساكين، فإنه يقسم بين النوعين نصفين.

وقد روى أبو عبد الله في شرح التلخيص هذين القولين منصوصين؛ لأنه نص في كتاب اليمين مع الشاهد: أنه كأحدهم، ثم قال: وقد قيل: إنه له النصف.

وغيره نسب القول الثاني إلى أبي إسحاق.

وعن البندنيجي أنه حكى عن أبي إسحاق أنه قال في الدرس: إن كان زيد

ص: 214

فقيراً [فهو كأحدهم، وغلا] فله النصف.

وهذا كله إذا لم يصف زيداً بالفقر، أما إذا قال: لزيد الفقير وللفقراء، أجري الخلاف فيما لزيد إن كان فقيراً.

ومنهم من خصص الخلاف بهذه الحالة، وبقي القول بكونه كأحدهم عند الإطلاق، وإن كان غنياً لم يصرف إليه شيء، ويصرف للفقراء؛ إن قلنا: إنه كأحدهم، وإلا فهو لورثة الموصي.

ولو وصف زيداً بغير صفة الجماعة، فقال: لزيد الكاتب وللفقراء، فعن الأستاذ أبي منصور أن له النصف قولاً واحداً.

وفي الزوائد حكاية عن الشيخ أبي حامد في الشرح رواية وجه: أنه إذا أوصى لزيد وللفقراء، كانت الوصية لزيد باطلة؛ لجهل القدر الذي يصرف إليه.

فروع:

لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين، فإن جعلناه فيما تقدم كأحد الفقراء، فكذلك ها هنا، وإن جعلنا له النصف فله هنا الثلث، وإن جعلنا له ثَمَّ الربع، فله هنا السبع.

ولو كان له ثلاث أمهات أولاد، فأوصى بثلث ماله [لهن] وللفقراء والمساكين، فالمذهب: أن لكل صنف ثلث الثلث.

وفي التتمة: أنه حكى عن أبي علي الثقفي من أصحابنا: أنه يقسم الثلث على خمسة.

ولو أوصى لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء وزيد فقير، لم يجز أن يعطى غير الدينار، وبه جزم في الحاوي.

وفي البحر وجه آخر عن رواية الحناطي: أنه يجوز أن يجمع له بين ما أوصى له به وبين شيء آخر من الثلث.

ولو أوصى بثلث ماله لحي وميت، [ولجبريل والملائكة والشياطين والحائط والرياح]، أو لمن يملك ولمن لا يملك، [فالوصية للميت] باطلة، وفيما

ص: 215

يملكه الحي وجهان:

أحدهما: جميع الثلث.

والثاني: إن كان المسمى معه ميتاً أو جبريل أو حائطاً، فله نصف الثلث، وإن كان المسمى معه الملائكة أو الشياطين أو الرياح فله النصف أو الربع، أو للوصي أن يعطيه أقل ما يتمول فيه، [على] الخلاف المذكور فيما إذا أوصى لزيد وللفقراء.

وفي الحاوي: الجزم بأنه إذا أوصى له ولجبريل: أنه لا يستحق إلا نصف الثلث والنصف للورثة، وعلى ذلك جرى [في] المهذب.

وفيما إذا أوصى بثلثه لزيد والملائكة وجهان:

أحدهما: لزيد نصف الثلث.

والثاني: الربع ويرد الباقي إلى الورثة.

وفيما إذا أوصى لزيد والشياطين ثلاثة أوجه:

أحدها: جميع الثلث.

والثاني: النصف.

والثالث: الربع، ويرد الباقي على الورثة.

وفيما إذا أوصى بثلثه لزيد والرياح، كان فيما لزيد وجهان:

أحدهما: جميع الثلث.

والثاني: النصف، وحكاه في المهذب أيضاً.

ولو أوصى بثلثه لله تعالى ولزيد، فوجهان:

أحدهما: أن جميع الثلث لزيد.

والثاني: لزيد نصف الثلث؛ وفي النصف الآخر وجهان في الحاوي:

[أحدهما] يصرف في سبيل الله، وهم الغزاة.

والثاني: في الفقراء والمساكين.

ص: 216

وحكى الرافعي عن الأستاذ أبي منصور أنه قال: يصرف في سبيل الله، وتصرف في وجوه القرب.

وعن ابن القاص: أن النصف يرجع إلى ورثة الموصي.

ولو أوصى لزيد ولحمار عمرو بالثلث، قال ابن أبي أحمد: كان النصف لزيد، وأما النصف المسمى للحمار، فينظر: إن قصد تمليك الحمار، فالوصية به باطلة، وإن أطلق ومات قبل البيان، سئل ورثته، فإن قالوا: أراد بها تمليك الحمار، فالوصية باطلة، والقول قولهم مع أيمانهم، وإن قالوا: أوصى به؛ ليتملكه [ربه] ويصرفه في علفه والإنفاق عليه، جازت الوصية؛ إذا قبلها صاحبه بعد موت الموصي؛ وينفق عليها الوصي إن كان له وصي، وإن لم يكن فصاحب الدابة، وإن قالوا: لا ندري، حلفوا إنهم لا يعلمون ذلك، وبطلت الوصية. وفي الرافعي حكاية وجه فيما إذا أوصى لبهيمة، وصرح بأن الموصي به يصرف في علفها: أنه لا يشترط القبول، ووجهه: أنه إذا قبل مالكها، لا يجب عليه صرف ذلك إلى علفها.

[قال:] فإن قلنا بوجوب صرفه وهو الذي يقتضي إيراد الماوردي ترجيحه، فيتولى الإنفاق [عليها] الوصي، فإن لم يكن فالقاضي [أو أمين] بأمره.

قال: وإن أوصى لحمل هذه المرأة، دفع إلى من يعلم أنه كان موجوداً عند الوصية، أي بعد انفصاله حيّاً؛ إذ به يتحقق الاستحقاق، وذكر في جواز الوصية للحمل أنه لما مَلَكَ بالإرث [الذي هو] أضيق، ملك بالوصية التي هي أوسع.

ثم العلم بوجوده حالة الوصية يحصل بأن تضعه لما دون ستة أشهر من حين الوصية، وكذا إذا وضعته لأكثر منها إلى أربع سنين، و [لا] هي تحت زوج ولا مولى بعد الوصية.

ص: 217

وقيل: لا يستحق في هذه الحالة، وقد حكاه القاضي الحسين في موضع قولاً، وفي موضع آخر عن قول الربيع، وحكى الأول عن النص، والذي صححه في التهذيب الثاني.

وقال غيره: إنه ليس بشيء.

ولا نزاع في أنها إذا وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية، أو لما دونها وفوق ستة أشهر، وكانت تحت زوج أو سيد يمكن أن يطأها- أنه لا يستحق.

ثم إذا صحت الوصية: فإن خرج الحمل واحداً: صرف إليه، وإن كان أكثر: صرف الموصي به [إليهما] بالسوية، إلا أن يفضل الذكر على الأنثى أو بالعكس، فيتبع.

وكذا لو قال: إن كان حمل هذه المرأة ذكراً، [فله دينار، وإن كان أنثى فله] ديناران، فإنه يتبع شرطه، فلو وضعت في هذه الحالة ذكراً وأنثى، يستحقهما، [ولو وضعت ذكرين أو جاريتين فهل يستحقان؟] فيه وجهان:

أحدهما: لا، كما لو وضعت غلاماً وجارية.

والثاني: يستحقان، وفي كيفية الصرف لهما ثلاثة أوجه سنذكرها.

ولو قال: إن كان في بطنك ذكر فله دينار، وإن كان في بطنك أنثى فله ديناران، فخرج ذكراً وأنثى- استحقا ما شرط لهما؛ كما في مسائل الطلاق.

ولو وضعت غلامين أو جاريتين صحت الوصية، وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج:

أحدها: [أن للورثة أن يدفعوا] الدينار أو الدينارين إلى أي الغلامين أو الجاريتين شاءوا.

والثاني: أن الغلامين أو الجاريتين يشتركان فيما شرط لهما.

والثالث: أن ذلك يوقف بينهما إلى أن يصطلحا.

ولو وضعت الموصي لحملها ولداً حيّاً وآخر ميتأً: ففيه وجهان، حكاهما في

ص: 218

الزوائد [عن رواية الشيخ سهل]:

أحدهما: للحي جميع الثلث.

والثاني: نصفه.

فرع: لا يصح قبول الوصية للحمل في حال اجتنانه من وليه، كما حكاه في التهذيب عن القفال، وحكى عن غيره في صحته قولين؛ بناءً على ما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي فإذا هو ميت وأنهما جاريان فيما إذا أخذ الأب الشفعة لولده في حال اجتنانه ثم ظهر حيّاً، وبعد الوضع يصح.

ولو تداعى اثنان بسبب الحمل؛ لكونهما وطئا أمة في طهر واحد وقبلا له مع بقاء الإشكال- صح؛ لأنا نتيقن أن أحدهما أبوه، [كذا] قاله القاضي الحسين في باب العدد.

فرع: إذا أوصى لحمل هذه المرأة من زيد، فكل موضع ألحقنا الحمل بزيد، وعلمنا وجوده حالة الوصية، صرفت له الوصية.

وإن لم نلحقه به فلا يصرف له.

ولو ألحقناه به وتحققنا وجوده حالة الوصية، فنفاه؛ إما بدعوى الاستبراء أو باللعان، قال أبو إسحاق المروزي: يصرف الموصي به إليه.

قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور، بعد أن حكى عن باقي الأصحاب: أنه لا يستحق شيئاً من الوصية.

ووجَّه قول أبي إسحاق بأن حكم لعانه مقصور عليه، لا يتعداه إلى غيره؛ ألا ترى أن عدة الأمة تنقضي بوضعه.

وقد نسب الماوردي قول البطلان إلى ابن سريج.

قال: وإن وصى للرقاب، صرف إلى المكاتبين، وإن وصى لسبيل الله، صرف إلى الغزاة من أهل الصدقات؛ لأنه المفهوم من عرف الشرع؛ فحمل عليه.

وأقل من يجوز الصرف لهم ثلاثة.

ولو لم يكن في الدنيا مكاتب، حكى القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الشافعي: أنه يوقف الثلث؛ لجواز أن يُكاتَب عبيدٌ بعد ذلك؛ فيدفع إليهم.

ص: 219

وأبدى في البحر احتمالاً في بطلان الوصية، وكلامه يفهم أن الاحتمال لأبي الطيب.

فرع: إذا قال: أعتقوا بثلثي رقاباً، فإن كان ثلث ماله يبلغ ثمن ثلاث رقاب، اشتُرُوا وعتقوا، وإن كان لا يبلغ إلا ثمن رقبتين اشتريتا وأعتقتا، وإن كان يبلغ ثمن رقبتين ويفضل: فإن كان الفاضل لا يبلغ أن يشتري به شقصاً من رقبة، [وأمكن أن يَشترِي رقبتين غاليتين- فعل، فإن فضل عن ثمن أغلى رقبتين، بطلت الوصية فيه، وفيه وجه: أنه يوقف إلى أن يوجد شقص يشتري به، وإن لم يمكن أن يشتري بجميع الثلث رقبتين غاليتين] وأمكن أن يشتري [به] رقبتين وشقصاً من رقبة- فعل، وفيه وجه: أنه لا يشتري وتبطل الوصية بتلك الزيادة، وهذا يحكى عن أبي إسحاق [وجعله الغزالي أظهر.

وإن أمكن الأمران جميعاً، فأيهما يفعل؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق] والأظهر عند الغزالي-: أنه يشتري به شقصاً من آخر.

والثاني- وبه قال ابن سريج وهو الأظهر عند عامة الأصحاب، وظاهر النص-: أن يُشْتَرىَ به رقبتان نفيستان.

فرع: لو أوصى للخيرات أو البر أو الثواب، فالحكم كما لو وقف على هذه الجهات، وقد ذكرناه في الوقف.

قال: وإن أوصى لعبد فقبل، دفع إلى سيده، كما لو اصطاد أو احتطب أو احتش.

وهل يستقل العبد بقبولها دون إذن السيد؟ فيه وجهان:

المذهب منهما في تعليق البندنيجي: نعم.

واختيار الإصطخري: لا.

قال في البحر: وعليهما ينبغي الاكتفاء بقبول السيد دون العبد: فإن قلنا بالأول، لم يجز، وبه جزم البندنيجي، وإن قلنا بالثاني، جاز ولا ترد الوصية برد

ص: 220

العبد، كما حكاه الإمام.

ثم على الصحيح: لو منع السيد العبد من القبول فقبل، قال الإمام: الظاهر عندي الصحة وحصول الملك للسيد؛ كما لو نهاه عن الخلع فخالع، وإن قلنا: لا يصح من غير إذنه، فلو رد السيد فهو أولى من عدم الإذن، فلو بدا له أن يأذن في القبول [بعد ذلك، فالذي يظهر أنه لا أثر لذلك؛ فإنا على قول اعتبار الإذن في القبول نقيم قبول السيد] مقام قبول العبد، فكذلك، ينبغي أن يقام رده مقام رده.

ثم السيد الذي يدفع الموصي به إليه، [هو مالكه عند الموت أو القبول، فلو أوصى له وهو ملك زيد فباعه، ثم مات الوصي] وقبل العبد- كان الموصي به للمشتري دون البائع؛ كذا حكاه الرافعي عن القاضي أبي الطيب في الركن الرابع من القسامة، وحكاه في البحر هنا، وألحق به ما لو أوصى لعبد وارثه، فباعه الوارث، ثم مات الموصي، كانت الوصية صحيحة، ويسلم الموصي به للمشتري إذا قبل العبد، بخلاف ما لو أوصى لعبد نفسه، ثم باعه من أجنبي، ثم مات الموصي، فإن الوصية لا تصح؛ لأنها لم تنعقد لعبد نفسه أصلاً.

وفيما قاله نظر من وجهين:

أحدهما: أن البندنيجي قال: الوصية لعبد نفسه وصية لعبد وارثه في الحقيقة؛ لأنه يكون لوارثه بعد الموت، فأي فرق بينهما؟!

والثاني: أن الرافعي حكى عنه في الركن الرابع من القسامة: أنه لو أوصى لعبد نفسه، ثم أعتقه قبل أن يموت، تصح الوصية، والبيع من الأجنبي كالعتق.

وقد صرح الرافعي: بأن الموصي إذا باع عبده الموصى له قبل موته، كانت الوصية للمشتري، [وإن] أعتقه، كانت الوصية للعتيق، ولو باع الأجنبي العبد الموصي به أو أعتقه بعد موت الموصي وقبل القبول، فإن قلنا: الملك لا يحصل إلا بالقبول، فالملك للمشتري أو للمعتق، وإن قلنا: يحصل بالموت

ص: 221

ناجزاً، أو تَبَيُّنَاً، فهو للبائع أو للمعتق إذا لم يكن وارثاً، وإن كان وارثاً فهي كالوصية للقاتل، كذا أبداه الغزالي لنفسه.

فروع:

الوصية لأم الولد صحيحة، وكذا للعبد بنفسه أو بعضها، وهل يفتقر عتقه بعد الموت إلى القبول؟ المشهور: نعم، وللإمام احتمال في عدم اشتراطه.

وفي البحر في آخر باب الكتابة: أنه لو أوصى لعبده بثلث ماله، قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: لا يصح.

والثاني: يصح بثلث نفسه فقط.

والثالث: يصح بجميع ثلثه، وتُقَدَّمُ نفْسُهُ عليه.

وفي الرافعي وجه آخر عزاه إلى ابن الحداد وجعله الأظهر: أن رقبته تدخل في الوصية، ويكون الحكم كما لو قال: أوصيت له بثلث رقبته وثلث سائر أموالي.

والحكم في هذا كما لو أوصى لمن بعضه حر وبعضه رقيق لوارثه، وسنذكره.

والوصية للمدبر إن خرج كله من الثلث، صحيحة، ولو خرج بعضه قال في الحاوي: صح من الوصية له بقدر ما عتق منه، وبطل منها بقدر ما رق منه.

وقال في البحر: قال سائر أصحابنا: إذا رق بعضه، بطلت الوصية، وعلى ذلك جرى البندنيجي.

وقال الرافعي: إن وفى الثلث بقدر الأمرين من الوصية والرقبة؛ بأن كانت الوصية بمائة ورقبة المدبر بمائة، وهو [يملك مائة أخرى- فوجهان:

أحدهما- وبه أجاب الشيخ أبو علي]-: أنه يقدم رقبته؛ فيعتق كله، ولا شيء له من الوصية.

الثاني- وهو أصح في التهذيب-: يعتق نصفه، والوصية [وصية] لمن بعضه حر وبعضه رقيق للوارث.

وإن لم يف الثلث بالمدبر، عتق منه بقدر الثلث، وصارت الوصية وصية لمن

ص: 222

بعضه حر وبعضه رقيق للوارث، والحكم فيه: أنه إن لم يكن بينهما مهايأة، أو كانت وقلنا: لا تدخل الوصية فيها، فهي وصية لوارث؛ لأن ما ثبت له بالوصية يكون نصفه للوارث؛ ولهذا قلنا: لا يرث؛ لأنه لو ورث شيئاً لملك [السيد] بعضه وهو أجنبي عن الميت، قال الإمام: وكان يحتمل أن تتبعض الوصية، كما لو أوصى بأكثر من الثلث.

وإن جرت بينهما مهايأة، وقلنا بدخول الوصية فيها: فإن قلنا: الاعتبار بيوم الوصية، فإن كان في يوم السيد فهو وصية لوارث، وإن كان في يوم العبد فهي صحيحة.

وهكذا إن قلنا: الاعتبار بيوم الموت، كما هو الظاهر من المذهب، ووجد [الموت] في يوم أحدهما.

ولو أوصى لمن نصفه رقيق لأجنبي ونصفه حر، فإن لم يكن بينهما مهايأة، وقبل بإذن السيد فالموصي به بينهما بالسوية، وكذا إن كان بغير إذنه، وقلنا: لا يفتقر العبد في قبولها إلى إذن السيد، وإن قلنا: يفتقر، بطل في نصف السيد، وفي نصفه وجهان، وجه المنع: أن ما يملكه ينقسم على نصفيه، فيلزم دخول نصفه في ملك السيد بغير رضاه.

ولو كانت بينهما مهايأة وقلنا: لا تدخل فيها الأكساب النادرة، فالحكم كما تقدم، وإن قلنا: تدخل، فلا حاجة إلى إذن السيد في القبول.

ثم الاعتبار بأي وقت؟ قد سبق الكلام فيه في باب اللقيط، وهذا إذا أطلق الوصية [له]، أما إذا قال: أوصيت لنفسك الرقيق أو الحر خاصة، فعن القفال: أن الوصية باطلة، ولا يجوز أن يوصي لبعض شخص، كما لا يجوز أن يرث بعض شخص.

وعن غيره: أنها تصح، ويتبع شرطه.

ولو أوصى لمكاتب نفسه أو لمكاتب وارثه، صح، جزم به البندنيجي.

ص: 223

وحكى في البحر عن ابن أبي أحمد في التلخيص: أنه لا تجوز الوصية لمكاتب وارثه، وأن القفال قال: إنه غلط، بل تجوز؛ كما تجوز لمكاتب نفسه، فلو عجز المكاتب نفسه قبل موت الموصي بطلت الوصية، بخلاف مكاتب الأجنبي إذا أوصى له وعجز نفسه، فإنها [لا] تبطل.

قال في البحر: وكانت لمولاه.

وقال في الحاوي: إن لم يكن أخذها فهي مردودة؛ لأنه صار عبداً.

قال: وإن أوصى بعتق عبد، عتق عنه ما يقع عليه الاسم؛ لعموم اللفظ، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وبه جزم القاضي الحسين.

وقيل: لا يجزيه إلا ما يجزئ في الكفارة؛ لأنه عرف الشرع، وهذا ما اختاره أبو الحسن الماسرجسي والقاضي الطبري، كما حكاه عنه في البحر. وهل يجوز على هذا أن يعتق الخنثى؟ فيه وجهان في الحاوي، ويجوز للموصي أن يعتق عنه [أبا] نفسه سواء كان العتق تطوعاً [أو واجباً.

ص: 224

قال الماوردي: ولو اشترى أبا الموصي وأعتقه فإن كان عن واجب، لم يجز، وإن كان تطوعاً أجزأ و] المستحب أن يشتري العبد المأذون المترفه عند مالكه والعبد الضعيف أولى من غيره، ولو أوصى بشراء جارية وتعتق عليه، ففعل الوصي ذلك، ثم ظهر دين مستغرق للتركة، فإن وقع الشراء بعين المال، فالعقد باطل، وإن وقع في الذمة ولم يسم الموصي في العقد وقع الشراء للمشتري.

قال في البحر: وعتق عليه، كما لو أعتق مملوكه؛ ظاناً أنه مملوك غيره، وجزم في الشامل وتعليق البندنيجي والقاضي أبي الطيب والحسين، بأن عتقه عن الميت [لأنه أعتقه عن الميت]، وإن كان يملكه، فكل من أعتق عبد نفسه عن غيره بإذنه، كان العتق واقعاً عن ذلك الغير. قال في البحر: وهذا عندي خطأ؛ لأنه أمره بالإعتاق عنه فيما يشتريه له ويصح الشراء له، وها هنا لم يصح الشراء له؛ فلا يتناوله إذن الميت، ومن أعتق عن غيره بغير إذنه لا يعتق عنه عندنا.

ولو أوصى ببيع عبد من تركته، وأن يشتري بثمنه جارية ويعتقها عنه، ففعل الوصي ذلك، ثم اطلع مشتري العبد على عيب قديم فرده- فللوصي أن يبيع ذلك العبد المردود على الأصح، ويؤدي من ثمنه ما قبضه ثمناً عنه أولاً، وفيه وجه: أنه لا يجوز له البيع، فعلى الأول:[إن وفى ثمنه الثاني الأول فلا] كلام، وإن كان الأول ألفاً والثمن الثاني تسعمائة؛ لمكان العيب، فعلى من يكون النقصان؟ فيه وجهان:

أحدهما: على الوصي؛ لتفريطه.

والثاني: أنه على ذمة الميت.

ولو زاد الثمن الثاني على الأول، بأن بلغ [ألفاً ومائة]: فإن كان لأجل ارتفاع الأسواق، ولا لحدوث ديون، فقد بان لنا أن البيع الأول جرى بالغبن؛ فكان باطلاً.

وحينئذ فإن كان شراء الجارية واقعاً في الذمة، فينصرف إلى الوصي، والعتق

ص: 225

واقع [عليه]، وعليه ألَّا يشتري بتمام ثمن العبد جارية فيعتقها عن الموصي، وإن كان شراء الجارية وقع بعين ما قبض، فلا يصح العقد ولا ينفذ العتق. كذا حكاه الإمام في أواخر باب بيع الكلاب. قبل كتاب السلم.

قال: وإن قال: أعطوه رأساً من رقيقي، ولا رقيق له عند الموت، أي: إما لموتهم أو قتلهم، مع وجودهم [في] حال الوصية، أو لعدم وجودهم [حال الوصية]، واستمرار ذلك إلى الموت.

قال: بطلت الوصية؛ لعدم إمكان الوفاء بها، وما يوجد من القيمة عند الإتلاف، فليس بموصى به، ولا هو بُدل ما تعلق به حق لازم.

وفي الحاوي [وجه]: أنهم إذا قتلوا تعلق حقه بقيمة أحدهم، ولو كان له رقيق صحت الوصية؛ لأن غاية الأمر أنها وصية بمجهول، وللوارث أن يدفع إليه ما ينطلق عليه الاسم من: صغير وكبير، وذكر وأنثى، وسليم ومعيب، ومسلم وكافر.

وهل يجوز أن يعطي خنثى؟ حكى القاضي الحسين عن المزني: أنه يعطي، وعن باقي الأصحاب: لا؛ لأن العرف لا يقتضيه، وهذا ما حكاه الماوردي عن الربيع، وحكاه الإمام وجهاً عن رواية صاحب التقريب، وأنه عرى عن التحصيل، لا اعتداد به، وجعل مقابله المذهب الصحيح، وعلى ذلك جرى الرافعي والروياني في البحر، وهذا إذا كان الرقيق موجوداً عند الوصية أيضاً.

ولو لم يكن ففيه الخلاف السابق فيما إذا أوصى بألف أو عبد لا يملكه، وإيراد ابن الصباغ يفهم حكاية خلاف فيه، وإن صححنا ثم؛ لأنه قاس وجه الصحة على [ذلك].

وقال في وجه المنع: لأن ذلك يقتضي وجود الرقيق له في حالة الوصية.

وعلى الخلاف يخرج ما إذا كان له رقيق عند الوصية، وتجدد له رقيق عند

ص: 226

الموت، هل يجوز أن يعطى من الثاني؟

وحكى الإمام عن بعض أصحابنا وجهاً آخر: أن للورثة الخيار في أن يعطوه العبد.

ولو لم يكن له إلا رأس واحد وقال: أعطوه رأساً من رقيقي، ففيه وجهان في التتمة:

أحدهما: البطلان.

والمذكور منهما في تعليق البندنيجي: صحة الوصية، وتعين العبد، وهو المذهب؛ كما حكاه من تلقى عن الإمام.

وفي كلام الشيخ إشارة إليه من بعد، والحكم عند القاضي أبي الطيب، فيما [إذا قال: أعطوه رأساً من عندي، كالحكم فيما لو قال: رأساً من رقيقي.

وعند القفال وغيره: لا يجوز أن] يعطى جارية، وهل يجوز أن يعطى خنثى قد بانت ذكورته؟ فيه وجهان؛ كذا حكاه في البحر.

قال: وإن قال: أعطوه عبداً من مالي اشْتُرِي [أي: إن لم يكن له عبد] ودفع إليه؛ لاقتضاء اللفظ ذلك.

أما إذا كان له عبيد، فالورثة مخيرون بين أن يعطوه عبداً منهم، وبين أن يشتروا له عبداً ولو [كان] معيباً؛ كما قاله القاضي الحسين.

وحكى الإمام عن بعض أصحابنا أنه لم يُجوِّز أن يُشتَرى له معيبٌ إذا كان الموصي قد قال: اشتروا له عبداً من مالي؛ لأن لفظ الشراء يقتضي سلامة المشتري.

ثم قال: ورأيت في بعض التصانيف رمزاً إلى أنه يتعين تسليم عبد من الموجودين؛ إذا كانوا في التركة، وهذا غير معتد به.

ولو قال: أعطوه عبداً، ولم يقل: من مالي، فالمذهب أن الوصية تصح، ويكون كما لو قال: من مالي.

ص: 227

وفي التتمة وجه: أنها لا تصح.

قال: وإن قال: أعطوه رأساً من رقيقي، فماتوا كلهم، أي [في حياة] الموصي، أو قتلوا إلا واحداً- تعينت فيه الوصية، أي: وإن كان أكثرهم قيمة؛ كما قاله القاضي الحسين؛ لأن الوصية تعلقت بالرقبة؛ فلم يكن للورثة العدول عنها مع القدرة عليها، ولأن حقه تعلق بواحد لا بعينه؛ فأشبه ما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصبرة فتلفت إلا قدر صاع؛ فإنه يتعين البيع فيه؛ فكذلك ها هنا، وهذا ما نسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق، وبه جزم ابن الصباغ والمتولي والقاضي الحسين والإمام، وحكى عن [بعض] الأصحاب نفى خلافه، وجعل صاحب البحر محله في مسألة القتل إذا وجد القتل بعد موت الموصي، وقاسه على ما إذا قُتِلوا [إلا واحداً] قبل موت الموصي.

وحكى عن بعض أصحابنا وجهاً آخر: أن للورثة الخيار بين أن يعطوه العبد الباقي أو قيمة أحد العبيد المذكورين؛ كما لهم الخيار إذا قتلوا جميعاً، وهذا اختيار القفال، وحكاه الإمام عن طرق أئمتهم، وبه جزم الفوراني، وكذا الرافعي؛ إذا كان القتل بعد القبول أو قبله وقلنا بقول الوقف أوب أنه ملك بالموت، والحكم فيما لو أعتقهم إلا واحداً، كالحكم فيما إذا ماتوا إلا واحداً.

فإن قيل: قد حكيتم فيما إذا لم يكن [له] إلا واحد عند الموت [هل تبطل الوصية] أو تصح وتتعين؟ فيه وجهان، وجزمتم فيما إذا ماتوا أو قتلوا إلا واحداً: أن الوصية تتعين فيه، [فهلا جرى] الخلاف السابق.

قلنا: اللفظ في هذه المسألة كان صحيحاً عند الوصية؛ لأنه قال: "من رقيقي" وكان له رقيق، وهناك اللفظ فاسد؛ لكونه لا رقيق له يصرف منه رأساً.

أما إذا مات واحد منهم بعد موت الموصي وقبول الموصى له، فللوارث التعيين فيه؛ حتى يجب تجهيزه على الموصى له.

ص: 228

وإن كان ذلك بعد الموت وقبل القبول، فكذلك الحكم إن قلنا بحصول الملك بالموت أو بالقبول تبيَّن حصوله بالموت وإن قلنا: يملك بالقبول، فيعطى [واحداً] من الباقين؛ كما لو كان ذلك قبل موت الموصي؛ كذا حكاه الرافعي، وهو بناءً على ما حكاه أولاً.

وعند الأصحاب- كما حكاه الإمام-: أنه لا فرق بين أن يكون موتهم إلا واحداً، قبل موت الموصي أو بعده في أن الوصية تنفذ في الواحد.

قال: وإن قتلوا كلهم، أي: بعد موت الموصي، قتلاً يوجب الضمان، دفعت إليه قيمة أحدهم؛ لأن القيمة بدل ما وجب له، ثم للورثة التعيين.

وفي الشامل: أن للموصى له قيمة أحدهم.

وفي تعليق [البندنيجي أن على الوارث أن يعطي قيمة أقلهم، وبين عبارة الشيخ وما عداها فرق؛ لأن عبارة] الشيخ مقتضى أنه إذا عين له أكثرهم قيمة كانت هي الواجبة [له]، وعبارة غيره مقتضى أنه إذا دفع إليه قيمة أكثرهم كان متبرعاً بالزائد على قيمة أقلهم، قال القاضي الحسين: ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إنه يملك يوم الموت أو بالقبول.

وفي الرافعي: أن هذا فيما إذا [قلنا: إنه] ملك بالموت أو بالقبول.

أما إذا قلنا: [إنه] لا يملك إلا بالقبول، فإن الوصية تبطل، وهذا احتمال أبداه الإمام، وقال: إنه لم يصر إليه أحد من الأصحاب، والذي أطلقوه الأول، والممكن [فيه]: أنا وإن حكمنا بأن الملك يحصل بالقبول، فللموصى له حق في الموصي به قبل القبول، وآية ذلك أنه يستبد بتملكه، ولا يقدر أحد على إبطال هذا الحق عليه، وليس كحق القبول في البيع والهبة بعد الإيجاب، والحقوق

ص: 229

اللازمة المالية إذا تعلقت بالأعيان لم يمتنع الانتقال إلى أبدالها: كحق المرتهن.

وأطلق في الحاوي حكاية قولين، فيما إذا قتل العبد الموصي به قتلاً مضموناً بالقيمة، هل تبطل الوصية أم لا؟ [وقال: إنهما مأخوذان من اختلاف قوليه في العبد المبيع إذا قتل في يد بائعه، هل يبطل البيع بقتله أم لا]؟

فأحدهما: تبطل الوصية؛ لأن القيمة لا تكون عبداً، وكما لو قطعت يده [لا يكون] أرشها له.

والثاني: لا تبطل؛ لأن الوصية بدل من رقبته فأقيمت مُقامها، وخالفت قيمة رقبته أرش يده؛ لأن اسم العبد ينطلق عليه بعد قطعها؛ فلم يستحق أرش يده؛ لأنه حصل له ما ينطلق عليه اسم العبد، وليس كذلك بعد قتله، ولكن لو قتله السيد، بطلت الوصية به قولاً واحداً؛ لأنه لا يضمن قيمة عبده في حق غيره؛ كما لو أوصى له بحنطة فطحنها.

وهذا منه يدل على أن الخلاف في قتله [لا يضمن] في حياة الموصي.

ولو ماتوا كلهم من غير تفريط من الوارث، أو قتلوا قتلاً لا يوجب الضمان: كما إذا قتله حربي أو سبع- سقط حق الوصية؛ لأنه لا متعلق لها.

فرع: لو أوصى بعتق عبد، فقتل قبل موت الموصي، بطلت الوصية، ولو قتل بعد موته وقبل العتق، قال الماوردي: فقد حكى المزني أن الوصية لا تبطل بموته.

ويشتري بقيمته عبد يعتق مكانه، كمن نذر أضحية فأتلفها متلف، قال: ويحتمل أن تبطل الوصية بخروج القيمة عن أن تكون عبداً، بخلاف نذر الأضحية؛ لاستقرار حكمها، والعبد لا يستقر حكمه إلا بالعتق.

فرع: لو شهد شاهدان: أنه أوصى له بعبده سالم الحبشي، وكان له عبدان حبشيان اسم كل منهما سالم: فإن عينا الموصي به منهما، صحت الشهادة، وإلا

ص: 230

فوجهان، ذكرهما ابن سريج:

أحدهما: الوصية باطلة؛ للجهل بها.

وعلى وجه الصحة وجهان:

أحدهما: يوقف العبدان إلى أن يصطلح الورثة والموصى له.

والثاني: يرجع إلى بيان الورثة، قاله في البحر.

قال: وإن أوصى برقبة عبد دون منفعته، أعطى الرقبة، أي: خالية عن المنفعة؛ عملاً بالأصل.

قال: [فإن أراد عتقها، أي: تبرعاً، جاز؛ لأنها ملكه]، ولو أراد عتقها عن الكفارة لم يجز.

وفيه وجه: أنها تجزئ.

قال: وعن ابن [القطان وجه: أن عتقها لا ينفذ مطلقاً؛ حكاه ابن يونس.

وفي الحاوي حكاية وجه عن أبي الحسين بن] القطان فيما إذا أوصى بمنفعته دون رقبته: أن الوارث لا ينفذ عتقه، ثم قال الماوردي: وهذا على الوجه الذي يجعل الرقبة داخلة في ملك الموصى له، وإذا كان هذا مأخذ الوجه لم يحسن جريان مثله في مسألة الكتاب؛ لأن الموصى له ملك الرقبة، والصحيح الأول، وتبقى المنافع على ملك الورثة، ولا يرجع المعتق على المعتق بشيء؛ لأنه لم يفوِّت عليه شيئاً، وإنما المفوِّت لذلك الموصي؛ فأشبه ما إذا أجر مورثه [عبداً] وأعتقه الوارث؛ فإنه لا يرجع عليه بشيء، بخلاف عتق العبد الذي أجره؛ فإنه يغرم على أحد القولين؛ لأنه المفوت.

وفي تعليق أبي الطيب: أنه إذا أوصى بالمنفعة فأعتق صاحب الرقبة الرقبة، فهل يسقط حق صاحب المنفعة من منفعته؟ فيه وجهان:

وحكى الرافعي: وجه البطلان عن حكاية أبي الفرج الزاز؛ إذ يبعد أن يكون الحر مستحق المنفعة أبد الدهر.

ص: 231

وعلى هذا، فهل يرجع الموصى له على المعتق ببدل المنافع؟ فيه وجهان.

وهذا بعينه يتجه جريانه في مسألتنا.

قال: وإن أراد بيعها لم يجز؛ لأنها [عين] مسلوبة المنفعة؛ فلم يجز بيعها، كالأعيان التي لا منفعة لها، وهذا الصحيح من المذهب عند القاضي أبي الطيب، وقال: إن به قال أكثر الأصحاب.

وقيل: يجوز؛ لأنه يملكها ملكاً تاماً، وفيها منفعة الإعتاق، وهذا هو المذهب في تعليق البندنيجي والبحر، وعلى هذا لو كان الموصي بمنفعته غير آدمي فهل يجوز [بيعه]؟ فيه وجهان.

وقيل: إن أراد بيعها من [مالك] المنفعة، جاز؛ لأنه يتكامل له الرقبة والمنفعة؛ فيكون كبيع ما فيه منفعة.

وإن أراد بيعها من مالك غيره، لم يجز؛ لأن يد صاحب المنفعة تمنع من تسليمها إلى غيره.

قال الرافعي: وهذا أرجح [على] ما يدل عليه كلام الأئمة.

فرع: هل تجوز كتابة مثل هذا العبد؟

المذهب في النهاية: لا.

وفيه وجه: أنها تصح؛ اعتماداً على الصدقات.

ولا يجوز للموصى له تزويج الأمة الموصي برقبتها، وكذلك مالك المنفعة، فلو اتفقا على التزويج: جاز؛ قاله ابن الصباغ والقاضي الطبري. وهذا [ما] حكاه في الحاوي وجهاً، وحكى [معه] وجهين آخرين:

أحدهما: قال في البحر: وهو الصحيح أن لمالك المنفعة تزويجها؛ لأن المهر له.

والثاني: [أن] لمالك الرقبة التزويج.

وقال في التتمة: إن قلنا: يجوز للموصى له وطؤها، فيجوز له تزويجها،

ص: 232

[وإن قلنا: لا يجوز له وطؤها؛ فلا يجوز له تزويجها].

قال: وفي نفقته وجهان:

أحدهما: [أنها] على الموصى له بالرقبة؛ لأن النفقة على الرقبة؛ فكانت على مالكها، وهذا هو المذهب في تعليق البندنيجي، والأصح في النهاية وبه جزم الفوراني. وقال في البحر: إنه نص عليه في زكاة الفطر.

والثاني: أنها على مالك المنفعة؛ لأن المنافع له على التأبيد؛ فكانت عليه النفقة؛ كنفقة الزوجة؛ وهذا قول الإصطخري، واستضعفه الإمام.

وفيه وجه حكاه العراقيون: أنها في كسبه، فإن لم يكن له كسب، ففي بيت المال.

قال الإمام: وما ذكرناه في النفقة يطرد في الكسوة وجميع المؤن اللازمة للمالك في مملوكه.

التفريع:

إن قلنا بوجوب النفقة على مالك الرقبة، فله أن يسقطها بالبيع على رأي، أو بالعتق إن قلنا: إن العتق يبطل حق صاحب المنفعة منها، وتكون نفقته إذ ذاك في كسبه.

وكذا إن قلنا: إن حق صاحب المنفعة لا يسقط منها [بالعتق]، تسقط نفقته عنه أيضاً بعتقه على المذهب الصحيح، وتكون في [بيت] المال.

قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: ومن أصحابنا من قال: على هذا له الرجوع على المعتق بأقل الأمرين: من أجرته التي هي قيمة منافعه، أو نفقته، وهذا لا وجه له.

فرع: إذا كان الموصي برقبته أمة، فأتت بولد من نكاح أو زنى، ففيه وجهان:

أحدهما: أنه لمالك المنفعة؛ لأنه من جملة الفوائد؛ كالكسب.

ص: 233

والثاني: أن حكمه حكم الأم.

وفي الحاوي وجه ثالث فيما إذا كانت الرقبة للورثة والمنفعة للموصى له: أن الولد يكون للورثة؛ لأنه غير معهود من كسبها، وأنه تابع لرقبتها، وهذه العلة قد تمنع جريانه في مسألتنا.

[أما] المهر: [فقد][جزم] البندنيجي وغيره من العراقيين والروياني وصاحب التهذيب بأنه لمالك المنفعة، وهو متفق عليه، إذا كان مالك المنفعة الوارث.

فأما إذا كان الموصى له بها، فهو كذلك عند العراقيين، وقال المراوزة: يكون للورثة إذا كانت الرقبة على ملكهم؛ لأن بدل منفعة [البُضع لا تجوز الوصية بها، فبدلها لا يستحق بالوصية.

قال الرافعي: وهذا أشبه]، وبه جزم المتولي.

قلت: ما قالوه منتقض بمهر الموقوفة؛ فإنه مصروف لمالك منفعتها، وهو الموقوف عليه، وإن كان لا يصح وقف منفعة البضع.

ولو كان الوطء بشبهة فحكم المهر ما تقدم، والولد حر، وعليه قيمته.

وفيما يصنع بها الخلاف السابق فيما لو كان الولد رقيقاً لمن يكون؟ ولا خلاف أنه لا يحل لمالك المنفعة دون الرقبة وطؤها، فلو وطئها فلا حد ولا مهر عند الجمهور؛ ومنهم القاضي الحسين.

وقيل: يجب الحد، وهو ما جعله في التتمة المذهب؛ إذا كان عالماً بالتحريم وجعل الأول مبنياً على قول من أوجب النفقة عليه؛ فيصير كالنكاح، وإذا كانت المنفعة منتقلة إليه بالوصية يجب عليه المهر على قياس [قول] المراوزة، وعلى الصحيح إذا أتت بولد فهو حر.

وقيل: رقيق.

فإن قلنا بحريته، لم تصر الجارية أم ولد [له]، وقيمة الولد ما حكمها؟ فيها

ص: 234

الخلاف السابق.

وهل يجوز لمالك الرقبة وطؤها؟

قال العراقيون: لا.

وفصل غيرهم، فقال: إن كانت ممن تحبل، فلا يجوز له الوطء، وإن كانت ممن لا تحبل [جاز، وإلا] فوجهان؛ كما في وطء الراهن الجارية المرهونة.

وعكس المتولي [ذلك]، فقال: إن كانت ممن لا تحبل، جاز [الوطء]، وإلا فوجهان؛ فبذلك يجتمع ثلاثة أوجه.

فإن حرمنا الوطء فلا حد للشبهة، ووجب عليه المهر لمالك المنفعة؛ إذا قلنا: هو له، وولده حر، وفيما يصنع بقيمته الخلاف السابق، والجارية أم ولد [له] على المذهب، فتعتق بموته.

وفيه وجه حكاه العراقيون: أنها لا تصير أم ولد [له].

قال: وإن قتل العبد اشتري بقيمته- أي: كامل المنفعة- ما يقوم مقامه؛ جمعاً بين الحقين، وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد والروياني والإمام والقاضي الحسين، وهو [اختيار] أبي الحسن الماسرجسي، وشبهه بالعبد الموقوف.

وقيل: قيمته للموصى له بالرقبة؛ لأن القيمة بدل الرقبة.

وفي المسألة وجهان آخران حكاهما الماوردي:

أحدهما: أنها لمالك المنفعة.

والثاني: توزع على الرقبة مسلوبة المنفعة، وعلى المنفعة وحدها. وطريقه: أن يقوم العبد بمنافعه، فإذا قيل: مائة، قوم بدون منفعته، فإذا قيل: عشرة، سلم لمالك المنفعة تسعة أعشار القيمة، ولمالك الرقبة عشرها.

ولو كان الواجب قصاصاً، اشتركا فيه على الوجه الأول، واختص باستيفائه مالك الرقبة على الوجه الثاني، وبه جزم الماوردي والرافعي، وكذا الروياني. ثم حكى الأول عن بعض المراوزة.

ص: 235

قال الماوردي: ولو عفا مالك الرقبة [عن القصاص] إلى مال، سقط القصاص، وإن عفا عن القصاص والمال، صح عفوه عن القصاص، وفي صحته عن المال وجهان.

ولو جنى على طرف من أطرافه، فمن الأصحاب من طرد الأوجه في الأرش، وذكر أنه يشتري به على الوجه الأول، ومنهم من قطع بكون الأرش لمالك الرقبة.

قال الرافعي: واتفقوا على ترجيحه، وإن ثبت الخلاف.

وقال صاحب البحر والقاضي الحسين: الصحيح: أن ما يقابل ما نقص من قيمة الرقبة لمالك الرقبة، وما قابل ما نقص من قيمة المنفعة لمالك المنفعة.

فإن لم ينقص الفائت من المنفعة شيئاً، قال الماوردي وابن الصباغ: فالأرش كله لمالك الرقبة.

واعلم أن ما ذكرناه فيما إذا كانت الرقبة موصى بها يجري فيما إذا كانت المنفعة موصي بها خاصة، وهي التي فرض الأصحاب الكلام فيها، ويكون الوارث في هذه الحالة كالموصى له بالرقبة في مسألة الكتاب.

وقد حكى الإمام فيما إذا كانت الوصية بالمنفعة مؤقتة: أن قيمة المقتول تصرف إلى الموصى له بالمنفعة؛ بناءً على [أن] المعتبر نم الثلث قيمة الرقبة بمنفعتها.

فرع: إذا جنى العبد الموصي برقبته أو بمنفعته جناية، نظر: فإن كانت توجب القصاص في النفس واستوفى منه، [بطلت الوصية.

وإن كانت توجبه في اليدين والرجلين واستوفى منه].

قال في الحاوي: بطلت الوصية بمنفعته.

وإن كانت جنايته خطأ، تعلقت برقبته، فإن لم يتبرع أحد بفدائه، بيع في الجناية، فإن زاد الثمن على الأرش.

ص: 236

قال أبو الفرج السرخسي: يقسم الزائد بينهما [على قدر] حقهما.

قال الرافعي: وينبغي أن يجيء فيه الخلاف السابق.

قلت: وينبغي أن يقتصر على بيع قدر أرش الجناية؛ فإن به يحصل الغرض، اللهم إلا ألا يمكن بيع البعض؛ فيباع الكل.

وإذا فداه مالك الرقبة بقي مالك المنفعة على حقه، وهل لمالك المنفعة بسبب الوصية فداؤه إجباراً كما لمالك الرقبة ذلك؟ فيه وجهان:

المذكور منهما في الحاوي: أن له [أن يفديه]، ويبقى حق مالك الرقبة فيه، وهو نظير ما ذكرناه فيما إذا جنى العبد الموهوب من الابن وأراد الأب أن يفديه، بل ها هنا أولى؛ لأن الأب يطلب الفداء؛ ليثبت لنفسه حق الرجوع، والموصى له يطلب حتى لا يفوت حقه، وذا فيما إذا فدى أحدهما العبد بمنافعه، فلو أراد أحدهما أن يفدي ماله، قال أبو عبد الله الحناطي: يباع نصيب صاحبه.

قال الرافعي: وفيه إشكال؛ لأنه إن فدى مالك الرقبة، فكيف يمكن بيع المنافع وحدها.

وإن فدى صاحب المنفعة، فاستمر حقه؛ فبيع الرقبة يكون على الخلاف السابق.

قال: وإن قال أعطوه شاة، أي من مالي أو من غنمي، وكانت غنمه ذكوراً وإناثاً، لم يعط ذكراً على المنصوص، أي: في الأم. وإليه أشار في المختصر؛ لأن الشاة في العرف تنصرف إلى الأنثى دون الذكر؛ فحمل لفظ الموصى عليه دون

ص: 237

حقيقته في اللغة.

وقيلك يعطى؛ لأن لفظ الشاة اسم جنس؛ فيتناول الذكر والأنثى؛ ولهذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً: شَاةٌ" على الذكر والأنثى، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وبه جزم في التهذيب.

وذكر الحناطي مصير أكثر الأصحاب إليه، [وهو قضية كلام] المتولي، حيث جعل الخلاف كالخلاف في الشاة المخرجة عن خمس من الإبل.

وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه: إنه ليس بصحيح.

ويجوز أن يعطى من الضأن والمعز، إلا أن يقول: شاة ينتفع بصوفها؛ فإنه لا يعطى المعز، أو يقول: شاة ينتفع بشعرها؛ فإنه لا يعطى [من] الضأن.

وهكذا الحكم في كل وصية تحتمل أشياء؛ إذا قرن بها ما يدل على أحدها؛ فإنه يتعين ذلك.

ولا يتعين على الوارث إذا قال: أعطوه شاة من مالي، وله أغنام: أن يعطى شاة منها، ويتجه أن يأتي فيه ما حكاه الإمام فيما إذا قال: رأساً من مالي، وكان له رقيق.

فأما لو قال: [أعطوه] شاة من غنمي، وكانت غنمه كلها إناثاً أو ذكوراً لم يعط من غيرها.

قال الرافعي: وكان قياس من يقول: اسم الشاة لا يطلق على الذكر، أن تبطل الوصية؛ إذا كانت غنمه كلها ذكوراً.

ولو قال: أعطوه شاة من شياهي، ولم يكن له إلا ظباء، فالوصية باطلة على الأصح.

وفيه وجه: أنه يعطى منها؛ لأن ذلك يطلق عليها مجازاً، فإنه يقال لها: شِيَاه البَرِّ، وقد انحصر الأمر فيها.

ولا فرق فيما يعطى بين أن يكون صغيراً أو كبيراً؛ نص عليه في المختصر بقوله: أُعطِيَ شاة صغيرة كانت أو كبيرة.

ص: 238

قال في البحر: وبعض أصحابنا بخراسان حمل النص على صغير الجثة وكبيرها دون السخلة والعناق؛ لأن الاسم لا يطلق عليها، كاسم البقرة لا يقع على العجلة، وهذا ما صححه الرافعي، وجزم به المتولي.

فرع: لو أراد أن يعطيه عن ذلك ظبية، لم يجز له القبول، قال المتولي: لأنه غير ما أوصى [له] به، ولأن حقه ثابت في ذمة الوارث حتى يأخذ عنه على سبيل الاعتياض.

قال: وإن قال: أعطوه ثوراً، لم يعط بقرة، وإن قال: أعطوه جملاً، لم يعط ناقة؛ لأن اللفظ موضوع للذكر.

وقيل: في الأولى، يعطى بقرة؛ حكاه ابن يونس.

ولو قال: أعطوه [بقرة] أو ناقة، لم يعط جملاً ولا ثوراً.

قال في البحر: ومن أصحابنا من خرج وجهاً: [أنه يعطى]؛ كما قال في الشاة.

وهو جار فيما إذا قال: أعطوه بغلة؛ فإنه يجوز أن يعطى بغلاً، وتكون الهاء فيها للتوحيد لا للتأنيث؛ كما يقال: سخلة وسخل، ولا يعطى عند الوصية بالبقرة: الجواميس، [بخلاف الشاة التي تطلق على الضأن والمعز، اللهُمَّ إلا أن يقول: من بقري، وليس له إلا الجواميس].

قال الماوردي: ولو لم يكن له إلا بقر الوحش، فوجهان، كما ذكرنا في الظباء.

قال: وإن قال: أعطوه بعيراً، لم يعط ناقة على المنصوص؛ لما تقدم.

وقيل: يعطى.

وادعى الرافعي أنه الأظهر عند الأصحاب، والقاضي أبو الطيب أنه الذي قال به أصحابنا، وأن أبا علي الطبري قال: إنه الصحيح، ووجهه: أن العرب تقول: حلبت بعيري، وإنما تحلب الأنثى، وقال أهل اللغة: سمت العرب ذلك على

ص: 239

ترتيب تسمية الآدميين، فقالوا: الجمل كالرجل، والناقة كالمرأة، والبَكْرَة والقَلُوص كالفتاة، والبَكْر كالفتى من الناس، والبعير بمنزلة الإنسان، والإبل بمنزلة الناس.

والقائلون بالأول تمسكوا بما قاله الأزهري: أن هذا كلام العرب العاربة المحض، ولا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة، وإذا كان كذلك، فالوجه أنا نجري حكمها على العرف لا على الأسماء التي تحتمل المعاني، وما قاله الشافعي- رضي الله عنه هو المعروف من كلام الناس.

ولو قال: أعطوه رأساً من الإبل أو البقر أو الغنم، جاز الذكر والأنثى؛ قاله في التتمة.

ولا يجوز عند الإيصاء بالإبل أن يعطى فصيلاً ولا ابن مخاض؛ لأنها لا تسمى إبلاً.

ولو قال: أعطوه عشراً من الإبل، قال بعض أصحابنا: إن أثبت الهاء في العقد لم يعط إلا من الذكور؛ لأن العدد في الذكور بإثبات الهاء، وإن أسقط الهاء في العدد لم يعط إلا من الإناث؛ لأن عددها بإسقاط الهاء.

قال في الحاوي والبحر: وهذا لا وجه له؛ لأن اسم الإبل إذا كان يتناول الذكور والإناث تناولاً واحداً، صار العدد فيها محمولاً على القدر دون النوع، وبهذا أجاب البندنيجي وابن الصباغ.

قال: وإن قال: أعطوه دابة، دفع إليه فرس أو بغل أو حمار على المنصوص، وهو الأظهر، وبه جزم الفوراني؛ لأن لفظ الدابة وإن كان يطلق لغة على ما دب ودرج، فهو لا يستعمل إلا في هذه الأجناس الثلاثة عرفاً بمصر، وإذا ثبت للفظ عرف [في] موضع، عَمَّ حكمه؛ كما لو حلف: لا يأكل خبزاً، حنث بأكل خبز الأرز، [وإن كان في غير طبرستان].

ولو حلف الحضري لا يدخل بيتاً، فدخل بيتاً من أدم أو شعر، حنث عند الشافعي- رضي الله عنه نظراً لهذا المعنى.

وقيل: إن قال هذا في غير مصر، لم يدفع إليه إلا فرساً؛ لأن في غير مصر

ص: 240

من البلاد لا يفهم منه إلا الفرس؛ فحملت الوصية على ما يفهمونه، وهذا ما صار إليه أبو إسحاق وابن سريج، وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، فإنه قال ردًّ على الأول بأن العرف لو كان إذا ثبت في موضع لعمّ في سائر المواضع- لوجب أن يثبت عرف سائر البلاد في مصر؛ ولا يدفع [لمن وصى] له بدابة إلا الفرس خاصة، [وليس كذلك].

وأما الحنث بدخول بيت الشعر والأدم؛ فإنما لزم لأن عرف الشرع اقترن به؛ فكان أولى من عرف العادة؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80]، وكذلك اسم الخبز هو حقيقة في خبز الأرز كما هو حقيقة في خبز البر لا فرق بينهما.

وقال البندنيجي: إن هذا القول ليس بشيء.

وقيل: [إن قال] ذلك في مصر، لم يعط إلا حماراً؛ لأنهم لا يطلقون اسم الدابة إلا عليه؛ حكاه في البحر.

ومحل الخلاف عند الإطلاق، أما إذا قال: أعطوه دابة تصلح للكر والفر والقتال والنسل؛ [فيحمل على الخيل، ولو قال: دابة تصلح للنسل، حمل على الخيل والحمير، وإن قال: تصلح للحمل]، فتحمل على البغال والحمير، إلا أن يكون قد جرت العادة في تلك البلدة بالحمل على البراذين، فيجوز أن يعطى برذونا.

قال المتولي: حتى لو كان المعهود في تلك البلدة الحمل على الجمال والبقر، يجوز أن يعطى جملاً أو بقرة، وناقشه الرافعي في ذلك.

ولا فرق فيما يعطى من ذلك؛ كما قال في البحر بين أن يكون صغيراً أو كبيراً، سميناً أو مهزولاً، ذكراً أو أنثى.

وفي التتمة: لا يعطى ما لا يمكن ركوبه؛ لأنه لا يسمى دابة.

قال في البحر والقاضي الحسين [في التعليق]: تخير الوارث بين الأنواع

ص: 241

الثلاثة- على المنصوص، محمول على ما إذا كانت في ملكه، أما إذا لم يكن في ملكه إلا نوعان، دفع إليه أحدهما، وكذا إذا لم يكن في ملكه إلا نوع واحد دفع إليه منه، وما قالا لعله محمول على ما إذا قال: دابة من دوابِّي، كما قاله في الحاوي، أما إذا أطلق، أو قال: من مالي، كما هو لفظ المختصر- فقياس ما ذكرناه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من مالي، أنه لا يتعين، ولا خلاف أنه لا يعطى مع ذلك سرج ولا إكاف ولا لجام.

وكذا لو أوصى له بعبد، لم يجب على الورثة تسليم ثيابه، وإنما يجب على الموصى له أن يستره بثوب من عنده. [قال: وإن قال: أعطوه كلباً من كلابي، وله ثلاثة أكلب، دفع إليه أحدهم؛ أي: إذا كانت مما ينتفع بها؛ دابة من دوابِّي، كما قاله في الحاوي، أما إذا أطلق، أو قال: من مالي، كما هو لفظ المختصر- فقياس ما ذكرناه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من مالي، أنه لا يتعين، ولا خلاف أنه لا يعطى مع ذلك سرج ولا إكاف ولا لجام.

وكذا لو أوصى له بعبد، لم يجب على الورثة تسليم ثيابه، وإنما يجب على الموصى له أن يستره بثوب من عنده. [قال: وإن قال: أعطوه كلباً من كلابي، وله ثلاثة أكلب، دفع إليه أحدهم؛ أي: إذا كانت مما ينتفع بها؛ لما ذكرنا من قبل؛ ويجوز للوارث أن يعطيه ما شاء منها، وإن اختلفت منافعها، اللهم إلا أن يكون الموصى له صائداً أو له ماشية، أو زرع، وفي الكلاب ما يصلح لذلك؛ فإنه يجب أن يعطى ذلك على وجه].

قال: وإن كان له كلب واحد دفع إليه ثلثه؛ أي: إذا لم تجز الورثة؛ ليحصل للورثة مِثْلَا ما حصل للموصى له.

قال القاضي أبو الطيب: فينتفع به الموصى له يوماً، والورثة يومين.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون للموصى له مال غيره أو لا، وهو وجه للإصطخري؛ لأنه لا يمكن اعتباره من ثلث المال، ولا قيمة له؛ فاعتبر بنفسه.

ومنهم من خص ذلك بما إذا لم يكن له مالٌ غيره.

[أما إذا كان له مال غيره] فيدفع إليه جميعه؛ لأن أقل المال خير من الكلب، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وأبي علي [الطبري] وبه جزم القاضي الحسين والفوراني، وقال: إن الدانق خير من الكلب.

وقد حكينا عن المتولي [من قبل] حكاية وجه فيما إذا قال: أعطوه رأساً من

ص: 242

رقيقي ولم يكن له إلا رقيق واحد أن الوصية باطلة، وذلك الوجه يتجه جريانه هنا.

فرع: لو كان [له] ثلاثة كلاب ولا شيء له غيرها؛ فأوصى بها لرجل، وردت الوصية إلى ثلثها، ففي الكيفية ثلاثة أوجه:

أحدها: قاله أبو إسحاق: يعتبر العدد؛ فيدفع إليه واحد، وإلى الورثة اثنان بالتراضي، فإن [لم يتفقوا على] التعيين، أقرع.

وحكى [في البحر] عن القاضي أبي الطيب أنه قال: ما ذكر من القرعة لا يصح؛ لأن الخيار إلى الورثة في إعطاء أي كلب شاءوه.

والثاني: أنه يستحق من كل كلب ثلثه.

والثالث- وهو اختيار ابن أبي أحمد ابن صاحب التلخيص-: يقدر أنها لو كانت متقومة، [كم] كانت قيمة كل واحد؛ فيراعى استخراج الثلث على هذا الاعتبار.

وفيه وجه رابع: اختاره بعض مشايخ خراسان: أنه يعتبر فيها قيمة منافعها؛ لأنه يصح إجارتها على الصحيح من المذهب؛ كذا حكاه في البحر، وإن كان للموصي مال غير الكلاب، فنفاذ الوصية في جميع الكلاب أو ثلثها يخرج على الخلاف السابق.

فرع: إذا أوصى بثلث ماله لزيد، و [بكلابه الثلاثة] لعمرو، فالوصية بثلث المال صحيحة، وأما الوصية بالكلاب، فعلى قول الإصطخري تلزم في الثلث.

قال القاضي أبو الطيب: وعلى قول غيره، يدفع للموصى له الكلاب الثلاثة؛ لأن ما حصل للورثة من ثلثي المال خير من ضعف الكلاب، واستبعده ابن الصباغ؛ لأن ما يحصل للوارث من الثلثين هو حصتهم مما نفذت فيه الوصية، وهو الثلث؛ فلا يجوز أن يحسب عليهم مرة أخرى في الوصية بالكلاب.

قال: وإن قال: أعطوه كلباً، ولا كلب له، بطلت الوصية؛ لأنه لا يمكن أن

ص: 243

يشتري له، بخلاف ما لو قال: أعطوه عبداً.

قال: وإن قال [أعطوه] طبلاً، أي من طبولي، وليس له إلا طبل لهو، وهي التي تعرف بالكوبة: طبل المخنثين، ضيق الوسط واسع الطرفين.

قال: أو عوداً أو مزماراً فإن كان ما يصلح منه للهو يصلح لمنفعة مباحة؛ أي: من غير زوال، [ما سمي] في الوصية عنه- دفع إليه؛ لأنه وصى بما يمكن الانتفاع به.

وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة إلا بزوال اسم ما نطق به في الوصية- لم يصح؛ لأنه على تلك الهيئة لا منفعة فيه، وعلى غيرها لم تتناوله الوصية؛ كذا أطلقه الجمهور، ومنهم القاضي الحسين، والشيخ في المهذب، ووافق الإمام على ذلك في مسألة الطبل إذا لم يكن من شيء نفيس.

وقال فيما إذا كان من شيء نفيس، كذهب أو عود: إن الوصية تنزل عليه، وكان أوصى برضاضِ إذا كسر، والوصية قابلة للتعليق، وقياس هذا أن يطلق في باقي الصور، وفي الحاوي في مسألة العود: إذا كان لا يصلح لغير اللهو إلا بعد تفصيله وتخليعه، فصل ودفع إليه.

وقال: إن الكلام في المزمار كذلك، وقياسه: أن يطرد في الطبل أيضاً، وحينئذ يجتمع من مجموع منا نقلناه ثلاثة أوجه؛ كما [هي مذكورة] في البيع.

أما إذا لم يقل عند الوصية: بطبل من طبولي، بل أطلق لفظ الإعطاء، أعطي طبل حرب، وهي التي تضرب للتهويل، أو طبل لهو تصلح لمنفعة مباحة.

ولو قال: من طبولي، وله طبول حرب لا غير، أعطي واحداً منها، وكذا ما هو في معناه كما سنذكره.

وإن كان [له] طبول لهو وحرب، أعطي طبل حرب، إذا لم يكن في طبول اللهو ما يصلح لمنفعة مباحة، ويقدر كأنه لم يكن سواها، وإن كان فيها ما يصلح [لمنفعة مباحة] تخير الوارث بين أن يعطيه ذلك أن يعطيه طبل حرب [منها]؛ صرح به الماوردي، والقاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وغيرهم،

ص: 244

وكذلك الفوراني، وقال: إن كان في طبوله طبل حرب وطبل العطار، وهو الذي يوضع فيه العطر، [كالسَّفَطِ]: يخير الوارث في إعطاء أحدها.

قال الرافعي والمتولي: وكذلك إذا كان فيها طبل الحجيج والقوافل، وهو الذي يضرب؛ لإعلام النزول والارتحال.

قال القاضي الحسين: وكذلك طبل البان.

وعند الإطلاق للوارث أن يشتري أحدها ويدفعه إليه.

ثم إذا صحت الوصية بالطبل، قال الشافعي- رضي الله عنه: فإن لم يقع اسم الطبل عليه إلا وجلده عليه، لم يجز أن يعطيه إلا وجلده عليه، بخلاف العود إذا صحت الوصية به؛ فإنه لا يعطى الوتر؛ لأن اسم العود يقع عليه بغير وتر؛ كذا حكاه البندنيجي عنه، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: العلة غير هذا، وهو أن الوتر لا يصلح لغير الضرب.

وكما لا يعطيه [الوتر؛ لا يعطيه] ما عداه مما هو من توابعه؛ كالملاوي التي يكون عليها الأوتار، والمضارب، والحمار وهو: الخشبة التي يركب الوتر عليها ويحز فيها مواضع الوتر.

وكذا لا يعطى عند صحة الوصية بالمزمار المجمع، وهو الأبيض الذي يجعله الزامر بين شفتيه ويزمر به.

ثم لا فرق فيما ذكره الشيخ في الوصية بالعود بين أن يطلق أو يقول: من عيداني، وليس له إلا عود لهو، أو له عود لهو وعود بناء، وهو الذي لا يصلح إلا للبناء، وعود قسى ونبال، وهو الواحد من الخشب، الذي يصلح لأن يتخذ منه القسي أو النبال؛ لأن المفهوم من العود عند الإطلاق الذي يضرب به.

وأطلق في التتمة فيما إذا قال: أعطوه عوداً، ولا عود له: أنه يشتري له ما لو كان موجوداً في ماله أمكن تنفيذ الوصية بالعود فيه، وعن بعض العراقيين من أصحابنا: أنه كالوصية بالطبل على التفصيل الذي ذكرناه.

قال الرافعي: وللقائل به أن يقول للأولين: إذا كان الاستعمال في عود اللهو

ص: 245

أظهر، وجب أن يصرفوا [قوله:] أعطوه عوداً من عيداني، وليس له إلا عود بناء وقسي- إلى عود اللهو، وتلغو الوصية، وقد قلتم بالصحة.

قال: وإن قال: أعطوه قوساً، دفع إليه قوس ندف أو قوس رمي؛ لأن اسم القوس يطلق عليهما، إلا أن يقرن به ما يدل على أحدهما؛ فيحمل عليه؛ للقرينة.

ثم قوس الرمي [الذي] يطلق على قوس النبل، [وهو قوس العرب، وعلى قوس النشاب]، وهو الذي يرمى بالسهام، وعلى قوس الحسبان، وهو الذي يرمى بالسهام أيضاً، لكن سهامه صغار لا يراها الإنسان حتى تقع فيه، وهما للعجم، وعلى قوس الجلاهق، وهو قوس البندق، ثم ما ذكره الشيخ هو ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق المروزي، حيث قال: إن اسم القوس يطلق على الأنواع الثلاثة، ما لم يكن في كلامه ما يدل على أحد الأنواع الثلاثة، وعني بالأنواع: الجلاهق، والندف، وما عداها.

ثم قال: فإن كان في كلامه ما يدل على نوع منها، أعطي ما دلت القرينة عليه، فإن قال: قوساً يرمى عنها، أعطي من الثلاث؛ يعني: قوس النبال، وقوس السهام الكبار، والصغار، وإن قال: يندف بها، أعطي قوس ندف.

والجمهور على أنه عند الإطلاق يدفع إليه قوس النبال أو النشاب، أو الحسبان؛ كما يراه الوارث؛ لأنه السابق إلى الفهم، ولا يعطى الجلاهق وقوس الندف.

وهذا ما جرى عليه في المهذب، وهو ظاهر النص في المختصر.

قال الإمام: وقوس النداف إنما سمي قوساً؛ لكونه شبيهاً بالقسيِّ؛ لمكان أوتارها، لا يوضع الاسم عليه، وكذا [قوس] الجلاهق، هكذا ذكره الشافعي- رضي الله عنه وأطبق عليه الأئمة.

ولو جرت الوصية في ناحية لا يعرف فيها إلا نوع واحد من هذه الأنواع، فهذا يخرج على التردد، والمذكور في الوصية بالدابة.

ص: 246

فرع: إذا قال: أعطوه أي قوس الرماة شئتم انطلق على ما ذكرناه، ولو قال: أعطوه أي قوس يقع عليه اسم قوس، قال في الأم: كان لهم أن يعطوه ما يقع عليه الاسم، سواء كان قوس نداف أو غيره، ولو قال: أعطوه قوساً من قسي، وليس له إلا جلاهق وقسي نداف.

قال البندنيجي: أعطى أيها شاء الوارث، وجزم الماوردي والمصنف والرافعي: أنه يعطى في هذه الحالة الجلاهق؛ لأنها أخص بالاسم.

واعلم أنه يجب إعطاء الموصى له القوس معمولة يمكن الرمي عنها، فلو بذلها الوارث قبل الفراغ منها، لم يجبر على قبولها، وهل يجب له الوتر؟ حكى العراقيون فيه وجهين، أصحهما وبه جزم الماوردي: لا؛ لخروجه عن مسمى القوس.

وذكر الإمام عنهم حكاية الخلاف، فيما إذا أوصى بقوس وكان عليها الوتر، أو أوصى بقوس من قسي كلها موتورة، ثم قال: أما إذا لم يكن على القسي أوتار، وقال: اشتروا قوساً وسلموها إليه- فلا يجوز أن يتخيل خلاف في أنه لا يجب ضم وتر إلى القوس الموصي بها، وإن ما ذكر من الخلاف في خول الوتر تحت الوصية بالقوس، يجب طرده في بيع القوس الموتورة.

قال: وإن أوصى بأن يحج عنه، أي: حجة الإسلام، فإن كان من رأس المال، أي: إما بتصريحه، أو بحملنا الوصية عليه- حج عنه من الميقات؛ لأنه الواجب عليه في حياته بالشرع.

قال: وإن كان من الثلث، أي: إما بتصريحه [به] أو بحملنا الوصية عليه، فقد قيل: يحج عنه من الميقات، كما لو جعله من رأس المال، وهذا ما ادعى القاضي الحسين أنه الذي عليه [عامة] الأصحاب في الصورتين، والشيخ في المهذب في الصورة الأولى، وفي الثانية [يكون ذلك] من طريق الأولى.

وفي المسألة وجه آخر: حكاه الماوردي: أنه يحج عنه من بلده؛ لأنه كان الواجب في الأصل هكذا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال

ص: 247

عمر وعلي وابن عباس- رضي الله عنهم كما حكاه القاضي أبو الطيب: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإذا أوصى به عاد إلى الأصل.

قال: وقيل: إن كان قد صرح بأنه من الثلث حج [عنه] من بلده؛ لما ذكرناه.

وإن لم يصرح حج عنه من الميقات؛ لأن المؤنة تكون من رأس المال، وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن من مذهبه عند تقييد الوصية بالثلث: أن يحج عنه من بلده، وعند الإطلاق [أن] يكون من رأس المال جزماً؛ فيكون من الميقات.

قال الماوردي: وما قاله أبو إسحاق عند التصريح بأنه من الثلث، وهو الظاهر من كلام الشافعي، رضي الله عنه.

فإن قلت: لا يحسن أن يحمل [قول] الشيخ: وإن لم يصرح حج عنه من الميقات، على ما ذكرت؛ لأن الشيخ فرع على ما إذا كان الحج من الثلث وهذا يؤدي إلى التفريع على أنه من رأس المال.

قلت: الشيخ ذكر أولاً: ما إذا كان الحج من رأس المال، وفرع عليه، وذكر ثانياً: ما إذا كان الحج من الثلث وفرع عليه، ونهاية التفريع [قوله] فقد قيل: يحج عنه من الميقات، وأشار إلى قول من ذهب إلى أنه يحج عنه من بلده كما ذكرنا، وهو خلاف ما عليه الأكثر، ثم عاد وذكر قول أبي إسحاق في الحالتين، ولا بدع في ذلك، وهو أولى من أن يحمل على شيء لم يقل به غيره، نعم حكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق، زيادة [على] ما ذكرته، وهو أنه عند إطلاق الوصية تكون مؤنة الحج من بلده إلى الميقات من الثلث، وباقي المؤنة من رأس المال، وهذا ما حكيته عن أبي علي بن خيران في تقدير النصين، وقد رأيت في تعليق القاضي الحسين، عند الكلام في وجوب الحط عن المكاتب، أن

ص: 248

المزني قال بمثل ذلك فيما إذا أوصى بأن يحج عنه من بلده.

وحكى في الإبانة فيما إذا أوصى بأن يحج عنه حجة الإسلام من بلده، وكان ثلث ماله يفي بمؤنة الحج من بلده إلى الميقات بعد إخراج مؤنة الحج [من الميقات]- وجهين كالوجهين فيما إذا أوصى بأن يعتق عنه في كفارة اليمين، وكان ثلث ماله بعد إخراج الطعام أو الكسوة يفي بذلك:

أحدهما: تبطل الوصية.

وأصحهما: أنه يعتق عنه كسائر أنواع التبرعات، ويحج عنه من بلده:

فروع:

إذا أوصى بحج التطوع وجوزناه، فإنه محسوب من الثلث، ويحج عنه من الميقات، أو من بلده إن قيد، وإن أطلق فوجهان:

أحدهما: من الميقات؛ حملاً على أقل الدرجات.

والثاني: من بلده؛ لأن الغالب التجهز من البلد، وهذا ما جزم به الماوردي، ونص عليه الشافعي- رضي الله عنه في عيون المسائل، حيث قال: إذا أوصى بأن يحج عنه متطوعاً، فبلغ ثلثه الحج [من بلده- حج] عنه من بلده.

وإن لم يبلغ، حج عنه من حيث بلغ، قال الماوردي: فإن لم يوجد من يحج عنه من الميقات، ولا فوقه بطلت الوصية وعادت ميراثاً.

وميل الأكثرين إلى الأول، وربما حملوا النص على ما إذا قيد به، إذا قال: أحجوا عني بثلثي، صرف ثلثه إلى ما يمكن من حجتين وثلاث فصاعدا، فإن فضل ما لا يمكن أن يحج به فهو للورثة، وإن لم يُوف ثلثه بحجةٍ، بطلت الوصية.

وكذلك إذا قال: أحجوا عني من ثلثي بمائة، فلم يوجد من يحج بها.

[بطلت الوصية، وعادت ميراثاً، قال الماوردي: ولا تعود إلى الثلث، وفي الإبانة حكاية قول: أنها] لا تبطل ويتصدق بها عنه، حكاه الإمام [عند

ص: 249

الكلام] فيما إذا أوصى أن يشتري بثلثه رقاب وتعتق عنه، ولو قال: أحجوا عني بثلثي حجة، صرف إلى حجة واحدة. قال في الحاوي: ولا فرق بين أن يسمى من يحج عنه أولاً، ثم إن كان الثلث قدر أجرة المثل أو دونها، جاز أن يعطى ذلك للوارث وغيره، وإن كان أكثر من أجرة المثل، لم يستأجر به إلا أجنبي؛ لأن الزيادة محاباة فلا تجوز للوارث، وحكى في الإبانة: أنه إذا لم يعين أحداً وجهين.

[أحدهما]: لا يحج عنه إلا بأجرة المثل والزيادة للورثة.

والثاني: الصحة، وتكون الزيادة لشخص موصوف بصفة، وهي: أن يحج عنه ذلك الشخص.

وعن القفال أنه قال: وقعت مسألة اختلف فيها فتوى مشايخنا، وهي أن رجلاً أوصى بأن يشتري عشرة أقفزةٍ حنطةً بمائة درهم، ويتصدق بها، فوجدت عشرة أقفزة من أجود حنطة بما دونها.

فمنهم من أجاز أن الزيادة ترد إلى الورثة.

ومنهم من قال: هي وصية لبائع الحنطة.

ومنهم من قال: يشتري بالزيادة حنطة بهذا السعر ويتصدق بها، وهذا الوجه لا يتصور في الحج.

ولو أوصى بأن يحج زيد عنه بألف؛ نظر فإن كان الألف قدر أجرة المثل أعطيت له، سواء كان وارثاً أو غير وارث.

وكذلك إن كان أقل، وإن كان الألف أكثر من أجرة المثل: فإن كان الموصى له أجنبيّاً أعطيت له. وإن كان وارثاً، فالزيادة على أجرة المثل وصية لوارث، فإن رضي بقدر أجرة المثل دفع إليه، وردت الزيادة للورثة، وإن لم يرض إلا بالألف [كله] استؤجر غيره بأجرة المثل، كما لو امتنع الأجنبي من الحج؛ فإنه يستأجر عنه بأجرة المثل، ويعود الفاضل ميراثاً، وكذا إذا رغب متطوع بغير جعل جاز، ولا يجوز استئجار المعين، وهذا إذا كان الحج فرضاً، فإن كان الحج تطوعاً، وامتنع المعين من الحج، فهل يجوز أن يحج عنه غيره؟ فيه وجهان في

ص: 250

الإبانة، والماوردي أطلق الجواز.

فرع: إذا [استأجر] الوصي أو الوارث زيدا المعين على الحج بخمسمائة، وهو غير وارث، ولم يعلم [المستأجر] بالوصية، فما الحكم؟

هذه المسألة لم أقف فيها على نقل، لكن في الحاوي ما يمكن أن يخرج عليه، وهو [ما] إذا أوصى بشراء عبد [زيد] بألف ويعتقه عنه، فاشتراه الموصي بخمسمائة، وأعتقه عنه والبائع غير عالم بالوصية، فإن [كان] العبد يساوي ألفاً، فيعود الباقي من ثمنه إلى الورثة، وإن كان يساوي خمسمائة، عاد الباقي إلى زيد البائع؛ لأنها وصية له، وإن كان يساوي سبعمائة فالوصية بثلاثمائة فتدفع إلى البائع، وترد المائتان إلى الورثة ميراثاً.

قال: وإن قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو سهماً من مالي، أعْطي أقل جزء؛ لأن ذلك لا حد له في اللغة، ولا في الشرع، فأجزأ الأقل؛ لأنه المحقق.

وهكذا لو قال: أعطوه قسطاً من مالي، أو نصيباً من مالي، أو حظّاً من مالي، أو قليلاً أو كثيراً من مالي.

وعن ابن سريج، إبداء احتمال فيما إذا قال: أعطوه سهماً من مالي، أنه يعطى [أقل] الأمرين من نصيب أحد الورثة أو الثلث، كما رواه أبو الفرج الزاز، وعلى المذهب: المرجع إلى تعيين الوارث.

فإن ادعى الموصى له أن الموصي أراد شيئاً مقدراً، وأن الوارث يعرفه، حلف الوارث- إن أنكر- على نفي العلم بإرادة الزيادة؛ كما ذكره الأستاذ أبو منصور، والحناطي، والمسعودي، وغيرهم.

وإن لم يدع علم الوارث به، لم تسمع الدعوى.

قال القاضي الحسين: لأنه لو أقر بجهالته سقطت الدعوى.

وفي التهذيب: أنه لا يتعرض- للإرادة، وإنما يحلف: إنه لا يعلم استحقاقه الزيادة.

ولو ادعى الوارث أن عنده بيان ما أوصى به مورثه، ولم يبين، قال في البحر:

ص: 251

فيه وجهان بناءً على القولين: إذا أقر بمجمل ولم يبين:

أحدهما: يحبس حتى يبين.

والثاني: يرجع إلى بيان الموصى له.

فرع: لو قال: أعطوه ثلث مالي إلا شيئاً، فللوارث أن يعطيه أقل ما يتموَّل.

وعن الأستاذ أبي منصور: أن هذه الوصية وصية بنصف الثلث وشيء، وكذا لو قال: أعطوه ثلث مالي إلا قليلاً؛ والمشهور الأول.

قال: وإن قال: أعطوه مثل نصيب أحد وُرَّاثي، أعطي مثل نصيب أقلهم؛ لأنه نصيب، وهو محقق، والزائد مشكوك فيه.

مثال ذلك: إذا كان له ابنان وبنت، أعطي مثل نصيب بنت، فيجعل كأن للميت ابنان وبنتان، فتكون المسألة من ستة: للموصى له: سهم، وللبنت: سهم، ولكل [واحد من الابنين] سهمان.

ولو كان له بنت، وبنت ابن، وأخت، أعطي مثل نصيب بنت الابن، وهو: سدس؛ [فتكون المسألة] من ستة، وتعول إلى سبعة: للبنت: ثلاثة، ولبنت الابن: سهم، وللأخت: سهمان، وللموصى له: سهم.

ولو كان معهن زوجة، أعطي مثل نصيبها، وتكون المسألة من أربعة وعشرين، وينضاف إليها نصيب زوجة وهو: ثلاثة، تبلغ سبعة وعشرين: للبنت: اثنا عشر، ولبنت الابن: أربعة، وللزوجة: ثلاثة، وللأخت: خمسة، وللموصى له: ثلاثة، فلو كانت الزوجات أربعة، أعطي مثل نصيب واحدة منهن، فالمسألة من أربعة وعشرين، وتصح من ستة وتسعين، [ينضاف إليها مثل نصيب زوجة- وهو: ثلاثة- تبلغ تسعة وتسعين]: للبنت: ثمانية وأربعون، ولبنت الابن: ستة عشر، وللأخت: عشرون، وللزوجات: اثنا عشر: لكل واحدة منهن ثلاثة، وللموصى له: ثلاثة، وعلى هذا فَقِسْ.

وقال البندنيجي في هذه الصورة: إننا ننظر إلى عدد، لثُمُنِه ربعٌ صحيح، وأقله

ص: 252

اثنان وثلاثون، فنجعل المسألة منه، ويُضَمُّ إليه مثل نصيب زوجة وهو: سهم، يبلغ ثلاثة وثلاثين، فيعطى الموصى له سهماً منها، انتهى.

وما قاله لا يصحح المسألة؛ لأن نصيب بنت الابن يبقى منكسراً، وهو من مخرج السدس، وبينه وبين الاثنين والثلاثين موافقة بالنصف، فنحتاج لضرب ثلاثة في ثلاثة وثلاثين، تبلغ تسعة وتسعين، ومنها تصح كما ذكرناه.

وطريق التصحيح في مسألة الكتاب: أن نصحح مسألة الميراث بضرب وغير ضرب، وعول وغير عول، ثم ننظر إلى أقل نصيب، فنزيد على فريضة الميراث ذلك القدر.

وهكذا يفعل فيما إذا [أوصى] بمثل نصيب واحد معين.

ولو كان في مسألتنا أنصباء الورثة متساوية، مثل: إن خلف ثلاثة أولاد:

فلكل ابن ثلث، فتعول المسألة بالثلث، ويقسم المال عليها؛ فيعطي الموصى له الربع؛ لأنا نجعله بمنزلة ولد رابع.

وإن كان للميت أربعة أولاد، فلكل ابن ربع، فيجعل الموصى له بمنزلة ولد خامس؛ فيعطى الخمس.

ولو كانت المسألة بحالها، وأوصى له بمثل نصيب ابن خامس لو كان- أعطى السدس، ويقسم الباقي بين الأولاد الأربعة.

وعن أبي إسحاق: أنه يعطى الخمس، ويقدر الموصى له كأنه الابن الخامس، وهكذا في كل صورة من هذا النوع يفعل.

فرع: لو كان له ابن وبنت، فوصى لواحد بمثل نصيب الابن، ولآخر بمثل نصيب البنت، فإن أراد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية [عليها]، كان للموصى له بمثل نصيبها الربع؛ فتكون الوصية حينئذ بالخُمُسين والربع.

وإن أراد بمثل نصيبها بعد دخول الوصية عليها، كانت الوصية له بالسدس؛ فتصير الوصيتان بخمسي المال وسدسه، وتوقف على إجازتهم.

ص: 253

قال: فإن قال: أعطوه مثل نصيب ابني، ولا وارث له غيره، كانت الوصية بالنصف؛ لأن الوصية بمثل نصيب الابن تقتضي أن يكون النصيبان مثلين؛ فيلزم التسوية، ولأن الابن يأخذ الكل لولا الوصية، فإذا نزل الموصى له منزلته، فقد أثبت له الكل أيضاً، والمبلغ إذا عال بمثله، كان الزائد مثل المزيد عليه.

ولو قال: بمثل نصيب ابني، وابنه غير وارث؛ لرق أو غيره- فالوصية باطلة؛ لأنه لا نصيب للابن.

ولو قال: بمثل نصيب ابني، وله ابن وبنت، فإن أجازا، قسمت التركة على خمسة: للابن سهمان، وللموصى له سهمان، وللبنت سهم.

وإن ردا، أعطى الثلث، فيقسم المال على تسعة: للموصى له ثلاثة، وللابن أربعة، وللبنت سهمان.

وإن أجاز أحدهما، ومنع الآخر، فسيأتي الكلام في طريق تصحيح ذلك.

وقد نقل المزني فيما إذا قال: أوصيت بمثل نصيب ابني، ولا وارث له غيره- فله النصف، إلا أن يجيز الوارث ذلك.

قال البندنيجي: وهو سهو في النقل والفقه.

وإن قال: بمثل نصيب ابني لو لم أوص لأحد، كانت الوصية بكل المال؛ قاله البندنيجي.

فرع: إذا كانت له بنت، وأخت لأب، أو شقيقة، فأوصى له بمثل نصيب البنت، قال في البحر: ففي قدر ما يستحق الموصى له، وجهان:

أحدهما: الربع، نصف حصة البنت؛ لأنه لَمَّا استحق مع الابن الواحد إذا أوصى له بمثل نصيبه النصفَ؛ لأنه نصف نصيب الابن- وجب أن يستحق مع البنت الواحدة نصف نصيبها، وهو الربع.

والثاني- وهو الأصح وبه جزم الرافعي-: أن له الثلث؛ لأنه يصير مع البنت الواحدة كبنت ثانية؛ كما يصير مع الابن [الواحد] كابن ثانٍ، وللواحدة من البنتين الثلث؛ كذلك للموصى له بمثل نصيب البنت الواحدة: الثلث، وهذا لو

ص: 254

لم يرث مع البنت أو الأخت غيرهما؛ لأن لكل واحدة الانفراد بالنصف، والباقي لبيت المال.

قال الروياني: وعلى هذا، لو أوصى بمثل نصيب أخ لأم، فله في أحد الوجهين:[نصف] السدس، وفي الآخر: السدس، ومقتضى هذا التعليل: أنه لو أوصى بمثل نصيب ابنته وله بنتان، أن يعطى ثلث الثلثين؛ لأنه لو كان له ثلاث [بنات]، لكان لكل منهن ثلث الثلثين.

لكن الرافعي جعل المأخذ فيما إذا أوصى [بمثل نصيب ابنته ولا ابنة له سواها: أن المسألة من اثنين لو لم يكن] وصية، فنزيد على الاثنين سهماً، ونعطيه سهماً من ثلاثة.

وأنه إذا أوصى بمثل نصيب ابنته وله ابنتان، فالوصية بالربع؛ لأن المسألة من ثلاثة لولا الوصية: لكل من البنتين سهم، فنزيد للموصى له سهماً تبلغ أربعة.

وأنه لو أوصى بمثل نصيبهما معاً، فالوصية بخمسي المال لأنها من ثلاثة، ولهما سهمان [من الثلاثة] فنزيد على الثلاثة سهمين تبلغ خمسة.

ولو أوصى [بمثل] نصيب ابنته وله ثلاث بنات، فالوصية بسهمين من أحد عشر سهماً؛ لأن المسألة تصح من تسعة لولا الوصية، ونصيب كل بنت منهن سهمان؛ فنزيد على التسعة سهمين تكون أحد عشر.

وعلى هذا [أبَداً، وهذا مقتضى] الضابط الذي ذكرناه من قبل.

قال: وإن قال: أعطوه ضعف نصيب ابني، [ولا وارث له غيره،] كانت الوصية بالثلثين؛ لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله، كما قاله الفراء وأكثر أهل اللغة، ويعضده ما روى أن عمر- رضي الله عنه صالح نصارى [بني] تغلب وتنوخ وبهراء، على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وأن يضاعف الجزية؛ فكان يأخذ منهم مثلى ما يأخذ من المسلمين، من كل مائتين: عشرة دراهم، ومن كل عشرين: ديناراً: [ديناراً].

ص: 255

ويقال: أضعفت الثوب: إذا طويته باثنين.

قال: وإن قال: [أعطوه] ضعفي نصيب ابني، كانت الوصية بثلاثة أرباعه؛ لأن الضعف إذا كان عبارة عن الشيء ومثله، كان الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه؛ لأن الضعف ليس شيئاً مستقلاً بنفسه؛ فلا يكون اسماً لمنقول معلوم، وإنما هو من أسماء الإضافة؛ فيقتضي أصلاً ينضاف إليه؛ ألا ترى أنه يقال للضعف في العربية: تضعيفاً؛ [لما يركب] منه حرفان، وانضم أحدهما إلى الآخر، وإذا كان كذلك فقد وجد ما ينضاف إليه؛ فلا حاجة إلى تكرار المضاف إليه.

وقال أبو ثور: تكون الوصية بأربعة أخماسه؛ لأن الضعف إذا كان عبارة عن الشيء ومثله، كان الضعفان عبارة عن أربعة أمثال الشيء؛ وهذا ما حكى الإمام عن الأستاذ أبي منصور أنه قال: إنه القياس، وأنه حكى أن الموصي لو قال: ضاعفوا لفلان ضعف نصيب ولدي، فالضعف أربعة أمثال بلا خلاف، وإنما قال الشافعي- رضي الله عنه ما قال إذا قال الموصي: أوصيت لفلان بضعف نصيب ولدي، فإذا صرح بتضعيف الضعف، كان كل ضعف ضعفين، ثم قال الإمام: وما قاله سديد، لا يجوز غيره.

وقال في البحر: ما قاله أبو ثور لا يصح؛ لما ذكرناه، ألا ترى أنه لو كان معه مائة، فقال لغلامه: أضعفها، لزمه أن يزيد عليها مائة أخرى، ولو قال: أضعفها مرتين، لزمه أن يزيد عليها مائتين.

وعلى المذهب لو قال: ثلاثة أضعاف نصيب ابني، أعطي أربعة أخماس المال، وعلى هذا القياس.

قال: وإن قال: أعطوه نصيب ابني، فالوصية باطلة؛ لأنه وصى بما هو حق الابن؛ فأشبه ما لو قال: أعطوه دار ابني.

قال الشيخ أبو حامد: وليست هذه المسألة منصوصة، وهذا ما أورده ابن الصباغ، وعزاه القاضي إلى ابن القاص، وأنه قال: قلته تخريجاً، وحكاه الداركي عن أبي إسحاق؛ كما قاله في البحر، ولم يحك القاضي الحسين عن العراقيين

ص: 256

سواه.

قال: وقيل: هو كما لو قال بمثل نصيب ابني؛ لأن الوصية واردة على مال الموصي، فليس للابن نصيب قبل موته، وإنما الغرض من التقدير بما يستحقه من بعد، كما يقال: للمرأة مهر مثلها، ومهر مثلها لا يكون لها؛ وإنما يكون لها مثل مهر مثلها.

وهذا ما أورده الأستاذ أبو منصور، واختاره القفال، والقاضي الحسين، والإمام، والروياني؛ كما حكاه الرافعي؛ فعلى هذا تكون الوصية بالنصف.

وفي التهذيب وجه: أنه يكون موصى له بالكل.

قال: وإن وصى لرجل بالنصف، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة، أخذ كل واحد منهما وصيته؛ لما تقدم.

وإن لم يجيزوا كان للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم من خمسة أسهم، أي: هي جملة الثلث، وللآخر سهمان؛ لأن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال، قسم على التفاضل عند ضيق المال؛ كالمواريث والديون.

واعلم أن الضابط في تصحيح مسائل الوصايا، مع تصحيح مسائل الورثة: أن تصحح فريضة الميراث بضرب وغير ضرب، وعول وغير عول، ثم ننظر إلى مجيز الوصية، ويعطى نصيب الموصى له، ثم نقسم الباقي على فريضة الميراث، فإن انقسمت عليها فبها ونعمت.

مثاله: أوصى لواحد بربع ماله، وله ثلاثة من البنين، مخرج الوصية من أربعة: الربع للموصى له وهو سهم، والباقي يقسم على البنين الثلاثة.

وإن لم ينقسم الباقي على الفريضة، فللحساب طريقان:

أحدهما: طريق يعرف بطريق النسبة، وهو: أن ننظر إلى نسبة المقدر للوصية من مخرجها من الباقي، ثم نزيد على فريضة الميراث تلك النسبة، فإن كان المقدر للوصية مثل ثلث الباقي، زدت فريضة الميراث مثل ثلثها، وإن كان مثل نصف الباقي [زدت على فريضة الميراث] مثل نصفها، وهكذا، فإن لم يكن

ص: 257

لمسألة الفريضة نصف صحيح، والنسبة النصف مثلاً، [فتضرب] الفريضة في مخرج النسبة، ثم تزيد عليها تلك النسبة.

والطريق الثاني: يعرف بطريق القسمة، وهو: أن يقابل بين الباقي من مخرج مسألة الوصية بعد إقرار الوصية وبين فريضة الميراث، فإن وجدتَ [بينهما] وفقاً صحيحاً، تضرب أقل جزء الوفق من فريضة الميراث في مخرج الوصية، وإن لم تجد بينهما موافقة بجزء صحيح، اضرب جميع فريضة الميراث في مخرج الوصية، فما بلغ قيمته تصح الوصية.

مثال ذلك: إذا أوصى بالثلث وله ثلاثة بنين، فمسألة الوصية من ثلاثة، للموصى له سهم، وهو مثل نصف ما بقي، ومسألة الفريضة من ثلاثة، فعلى طريق النسبة نزيد على فريضة الميراث مثل نصفها، وليس لها نصف صحيح، فنضربها في مخرج النصف، فتصير ستة، ثم نزيد عليها مثل نصفها، وهو ثلاثة، تصير تسعة، ومنها تصح للموصى له ثلاثة، ولكل ابن سهمان.

وعلى طريق القسمة: نقابل بين الباقي من مخرج الوصية بعد إقرار الوصية، وهو سهمان، وبين فريضة الميراث وهي ثلاثة، وليس بينهما موافقة، فنضرب ثلاثة في مخرج الوصية، وهي ثلاثة تبلغ تسعة، ومنها تصح.

ولو كان البنون أربعة، فعلى طريق النسبة: تكون مسألة الفريضة من أربعة، فنزيد عليها مثل نصفها وهو اثنان تبلغ ستة، ومنها تصح: للموصى له سهمان، ولكل ابن سهم.

وعلى طريق القسمة، نقابل بين الباقي بعد إخراج نصيب الموصى له وهو سهمان، وبين مسألة الورثة وهي أربعة، [فإذا كان] بينهما موافقة بالنصف، فنضرب نصف الأربعة في مسألة الوصية تبلغ ستة.

ولو ترك الموصي ثلاث بنات وعصبة، فمسألة الفريضة أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة.

فعلى طريق النسبة: الباقي بعد إخراج نصيب الموصى له سهمان، فنزيد على

ص: 258

مسألة الفريضة مثل نصفها، وليس للتسعة نصف صحيح، فنضربها في مخرج النصف تبلغ ثمانية عشر، ثم نزيد عليها مثل نصفها تبلغ سبعة وعشرين.

وعلى هذا فَقِسِ الزيادة والنقص.

ولو أوصى لواحد بالنصف، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة، فالمسألة من ستة؛ لأن مخرج النصف والثلث من خمسة، فيعطى للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان [وللورثة سهم].

وإن ردوا الزيادة على الثلث، فالثلث للموصى لهما وهو سهم من ثلاثة، لا ينقسم على خمسة، فيضرب مخرج الثلث في مخرج الخمسة، فيصير خمسة عشر، للموصى لهما خمسة وللورثة عشرة.

ولو كانت المسألة بحالها- لكن كان الورثة ابناً وثلاث بنات، وأجازوا- فمسألة الوصية من ستة كما ذكرناه، ومسألة الفريضة من خمسة.

[فعلى طريق النسبة، الباقي بعد نصيب الموصى لهما سهم، والموصي به قدر السهم خمس مرات]، تبلغ ثلاثين: للموصى له بالنصف ثلاثة مضروبة في خمسة [بخمسة] عشر، وللموصى له بالثلث سهمان مضروبان في خمسة بعشرة، والباقي خمسة: للابن سهمان، ولكل بنت سهم.

وعلى طريق القسمة: الباقي بعد نصيب الموصى لهما سهم، ولا وفق له، فنضرب مسألة الفريضة في مسألة الوصية تبلغ ثلاثين، ومنها تصح.

ص: 259

وأما إذا ردوا الوصية بالزائد، فالثلث بين الموصى لهما على النسبة التي كانت تخصهما عند الإجازة، وهي خمسة أسهم، وإذا كان ثلث المال خمسة، فجملته خمسة عشر، للموصى لهما خمسة، وللورثة عشرة، فهي منقسمة عليهم.

وإن أجازوا البعض وردوا البعض، فالطريق في التصحيح: أن تصحح المسألة على تقدير الإجازة، ثم على تقدير الرد، ثم نضرب مسألة الإجازة في مسألة الرد؛ إن لم يكن بينهما وفق، وإن كان بينهما وفق، فنضرب جزء الوفق من أحدهما في كل الآخر، ثم من له شيء من الإجازة- إذا أجاز- أخذه مضروباً في مسألة الإجازة أو في وفقها، [ومن له من مسألة الرد شيء- إذا رد- أخذه مضروباً في مسألة الإجازة أو وفقها].

ومسألة الإجازة هنا قد صحت من ثلاثين، ومسألة الرد صحت من خمسة عشر، وبينهما موافقة [بالثلث]، فنضرب خمسة عشر في عشرة، أو خمسة في ثلاثين تبلغ مائة وخمسين، فإذا كان الابن مثلاً الذي أجاز، فنصيبه من مسألة الإجازة سهمان، نضربهما في خمسة، تبلغ عشرة، وللبنات من مسألة الرد ستة مضروبة في عشرة تبلغ ستين، والباقي وهو ثمانون بين الموصى لهما مقسومة على خمسة: للموصى له بالنصف ثمانية وأربعون، وللموصى له بالثلث اثنان وثلاثون.

وإن كان الذي رد الابن، فله من مسألة الرد أربعة مضروبة في خمسة بعشرين، وللبنات من مسألة الرد ثلاثة أسهم مضروبة في خمسة بخمسة عشر، والباقي بعد ذلك، وهو مائة وخمسة [عشر] بين الموصى لهما مقسوم على خمسة: للموصى له بالنصف تسعة وستون، وللموصى له بالثلث ستة وأربعون.

ولو أجاز الورثة وصية صاحب النصف، وردوا وصية صاحب الثلث، فالموصى له بالنصف يسلم له ما كان يستحقه في مسألة [الإجازة، والموصى له بالثلث يستحق ما كان يسلم له في مسألة] الرد.

ص: 260

وكذلك الحكم فيما إذا أجازوا وصية صاحب الثلث، وردوا وصية صاحب النصف، يكون لصاحب النصف ما كان له في حالة الرد، ولصاحب الثلث ما كان له في حالة الإجازة، والباقي يقسم بين الورثة.

ولو كانت الوصية لواحد بالثلث، ولآخر بالربع، وأجاز الورثة وهم: بنتان وأبوانِ، فمسألة الوصية من اثني عشر؛ لأن أقل ما يخرج الثلث والربع منها، ومسألة الفريضة من ستة، فعلى طريق النسبة: الحاصل للموصى لهما من الاثني عشر سبعة، وهي مثل ما بقي ومثل خمسيه، فنزيد على مسألة الفريضة مثلها ومثل خمسيها، وليس للسبعة خمس صحيح، فنضرب مسألة الفريضة في مخرج الخمس تبلغ ثلاثين، ثم نزيد عليها مثلها ومثل خمسيها، وهو اثنان وأربعون، تبلغ اثنين وسبعين، ومنها تصح: للموصى له [بالثلث] من مسألة الوصية أربعة مضروبة في مسألة الفريضة، وهي ستة، تبلغ أربعة وعشرين، وهي ثلث الجملة، وللموصى له بالربع من مسألة الوصية ثلاثة مضروبة في مسألة الفريضة، وهي ستة، تبلغ ثمانية عشر، والباقي بعد ذلك ثلاثون [للورثة] للأبوين السدسان، عشرة، وللبنتين الثلثان: عشرون.

وعلى طريق القسمة: الباقي بعد الموصى به خمسة، وليس لها وفق، فنضرب مسألة الميراث في مخرج الوصية تبلغ اثنين وسبعين، ومنها تصح.

وإن رد الورثة الزائد على الثلث، فاقسم الثلث على الموصى لهما على النسبة التي كانت تخصهما عند الإجازة، وهي سبعة، وإذا كان ثلث المال سبعة، فجملته إحدى وعشرون، [للموصى لهما] سبعة، وللورثة أربعة عشرة [وأربعة عشرة] لا تنقسم على مسألة الفريضة، لكن بينهما وفق بالنصف، فنضرب نصف الستة في أصل المسألة، وهي إحدى وعشرون، تبلغ ثلاثة وستين، ومنها تصح: للموصى لهما سبعة مضروبة في ثلاثة بإحدى وعشرين: للموصى له بالثلث اثنا عشر، وللآخر تسعة، وللورثة اثنان وأربعون: للأبوين السدسان: أربعة عشر، وللبنتين الثلثان: ثمانية وعشرون.

ص: 261

[وهذا على] طريق القسمة.

فإن أردت أن تصحح المسألة على طريق النسبة: فأصل المسألة كما ذكرنا من إحدى وعشرين: للموصى لهما سبعة؛ وهي مثل نصف ما بقي، فنزيد على فريضة الميراث مثل نصفها، فتصير تسعة، ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على سبعة، فنضرب التسعة في مخرج السعة تبلغ ثلاثة وستين، ومنها تصح.

وإن أجاز بعض [الورثة] ورد البعض، فمسألة الإجازة تصح من اثنين وسبعين، [ومسألة الرد من ثلاثة وستين، وبينهما موافقة بالثلث، فنضرب إحدى وعشرين في اثنين وسبعين] أو ثلاثة وستين في أربعة وعشرين، تبلغ [ألفاً] وخمسمائة واثني عشر، ومنها تصح، فإن [كان] الذي أجاز الأم خاصة مثلاً، من مسألة الإجازة خمسة مضروبة في وفق مسألة الرد، وهو [إحدى] وعشرون، [تبلغ مائة وخمسة، وللأب من مسألة الرد سبعة مضروبة في وفق مسألة الإجازة، وهو أربعة وعشرون، تبلغ مائة وثمانية وستين، وللبنتين من مسألة الرد ثمانية وعشرون مضروبة في وفق مسألة الإجازة، وهو أربعة وعشرون]، تبلغ ستمائة واثنين وسبعين، والباقي بعد ذلك، وهو خمسمائة وسبعة وستون، مقسوماً على سبعة بين الموصى لهما: للموصى له بالثلث: ثلاثمائة وأربعة وعشرون، وللموصى له بالربع: مائتان وثلاثة وأربعون.

ولو كانت الوصية لواحد بالكل، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة وهم: أب وابنان، فالمسألة من أربعة: للموصى له بالكل ثلاثة أرباع، وللموصى له بالثلث الربع.

[وإن ردوا الزائد على الثلث، فاقسم الثلث على أربعة، وإذا كان ثلث المال أربعة فجملته اثنا عشر، لهما منها أربعة: للموصى له بالكل ثلاثة، وللموصى له بالثلث سهم]، والباقي وهو ثمانية بين الورثة، ومسألتهم من ستة، وتصح من اثني عشر، وثمانية على اثني عشر، [لا تصح، ولكن توافق بالربع، فاضرب ربع الاثني عشر

ص: 262

في أصل المسألة وهو اثنا عشر تبلغ ستة وثلاثين، ومنها يصح للموصى لهما اثنا عشر].

والباقي وهو أربعة وعشرون للورثة منقسمة عليهم، وعلى هذا طريق القسمة.

وإن أردت أن تصحح المسألة على طريق النسبة: فأصل المسألة كما قلنا من اثني عشر: للموصى لهما أربعة، وهي مثل نصف ما بقى، فنزيد على مسألة الفريضة مثل نصفها، تبلغ ثمانية عشر، ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على أربعة، وبين الثمانية عشر والأربعة موافقة بالنصف، فنضرب الثمانية عشر في نصف الأربعة تبلغ ستة وثلاثين، ومنها تصح.

ولو رد الأب خاصة، فكيفية التصحيح تؤخذ مما تقدم.

ولو كانت الوصية لواحد بالنصف، ولآخر بالثلث، ولآخر بالربع، فإن أجاز الورثة وهم: زوجة وأبوان، قسم المال على ثلاثة عشر سهماً، وأعطى صاحب النصف ستة، وصاحب الثلث أربعة، وصاحب الربع ثلاثة.

وإن ردوا، قسمت الثلث على ثلاثة عشر، وإذا كان الثلث ثلاثة عشر سهماً، فالجملة تسعة وثلاثون: للموصى لهم ثلاثة عشر، وللورثة ستة وعشرون، ومسألتهم من اثني عشر، وستة وعشرون على اثني عشر لا تصح، ولكن توافق بالنصف، فنضرب نصف الاثني عشر في مسألة الوصية وهي تسعة وثلاثون تبلغ مائتين وأربعة وثلاثين: للموصى لهم ثمانية وسبعون مقسومة على ثلاثة عشر: للموصى له بالنصف ستة وثلاثون، وللموصى له بالثلث أربعة وعشرون، وللموصى له بالربع ثمانية عشر، والباقي [وهو مائة] وستة وخمسون بين الورثة: للزوجة ربعها: تسعة وثلاثون، وللأم [ثلث الباقي]: تسعة وثلاثون، والباقي للأب، وهذا على طريق القسمة.

وعلى طريق النسبة: نقول: أصل مسألة الوصية من تسعة وثلاثين، ثلثها ثلاثة

ص: 263

عشر، وهي مثل نصف الباقي، فزد على فريضة الميراث مثل نصفها، تبلغ ثمانية عشر، [ثم نحتاج إلى قسمة الثلث على ثلاثة عشر، فنضرب ثمانية عشر] في مخرج ثلاثة عشر، تبلغ مائتين وأربعة وثلاثين، ومنها تصح.

وإن أجاز بعض الورثة ورد البعض، فطريق التصحيح ما تقدم.

وعلى هذا فقس. ولنكتف بما ذكرناه؛ فإن الكلام في هذا الباب ومسائله متسع، ولو أنفذت العمر فيه لما بلغت مد ما ذكر الأئمة في ذلك ولا نصيفه.

قال: وإن أوصى [له] بشيء ثم رجع في وصيته، صح الرجوع؛ لأنها عطية لم يَزُلْ عنها ملك معطيها؛ فأشبهت الهبات قبل القبض، وصريح الرجوع: رجعت في وصيتي، أو أبطلتها، أو فسختها، أو نقضتها، وما أشبه ذلك.

وكما يحصل الفسخ بصريح الرجوع، يحصل بما يدل عليه مما ذكره الشيخ.

قال: وإن أوصى لزيد بجميع ماله، أو بثلثه، أو بعبد، ثم وصى بذلك لعمرو، سوى بينهما، أي: ولا يكون رجوعاً فيما أوصى به لزيد، ولا في بعضه: أما في الثانية، فللإجماع كما نقله الماوردي، وأما في الأولى والثالثة؛ فبالقياس على الثانية.

ولأنه لما كان قوله في وقت واحد: أوصيت بعبدي هذا لزيد، وأوصيت به لعمرو، لا يكون رجوعاً، ويجعل بينهما إجماعاً- وجب إذا تراخى [ما] بين الوصيتين [أن يكون بينهما، ولا يكون رجوعاً؛ إذ لا فرق بين اقتران الوصيتين] وافتراقهما.

ولأن الوصية الثانية يجوز أن يكون أراد بها الرجوع، ويجوز أن يكون [فعلها لنسيان الأولى، ويجوز أن يكون] أراد بها التشريك بين الأول والثاني؛ فوجب أن يحمل مع هذا الاحتمال على التشريك بينهما؛ لاستوائهما في الوصية.

وفي البحر حكاية عن أبي عبد الرحمن بن بنت الشافعي- رضي الله عنه: أن الوصية لهما قد بطلت؛ لإشكال حالهما.

والمذهب الأول، وإنما قلنا: إن ذلك لا يكون رجوعاً عن شيء من الموصي

ص: 264

به؛ لأنه لو كان رجوعاً لما كان لأحدهما الاستقلال بالجميع عند رد الآخر.

وقد صرح القاضيان: أبو الطيب والحسين، والإمام بأن الجميع يسلم لمن قبل الوصية إذا رد الآخر، وحينئذ فيكون تسليم النصف كما قال القاضي الحسين؛ لأن لما وصى بذلك لزيد ثم وصى به لعمرو وقبلا، فقد اجتمع كلان، ولا يكون للشيء الواحد كلان، فازدحما؛ فجعل بينهما نصفين، واستشكل الإمام كونه لا يكون رجوعاً؛ لأنا نقول: العرض على البيع رجوع؛ لدلالته [على إرادة إبطال التملك]، وهذا في الدلالة أقوى، ثم محل الكلام في الصورة الثانية إذا رد الورثة، أما إذا أجازوا سلم الثلث كاملاً لكل [واحد] منهما، وهذا أيضاً مما يدل على أن وصيته للثاني لا تتضمن رجوعاً، وهذا هو المذهب.

وفي التتمة حكاية وجه: أنه بالوصية الثانية راجع عن الوصية الأولى؛ كما لو وهب شيئاً لإنسان، ثم وهبه لآخر قبل القبض.

فرع: لو أوصى لرجل بجارية حامل، وقلنا بدخول الحمل في الوصية مكا هو أحد الوجهين، ثم وصى بحملها لعمرو، فالجارية تكون للأول، والولد يكون بين الأول والثاني.

ولو أوصى بالجارية لشخص وبحملها لآخر، [صح ذلك] اتفاقاً.

ولو أوصى لشخص بدار أو بخاتم، ثم أوصى بأبنية الدار أو بفص الخاتم لآخر، فعرصة الدار والخاتم للأول، والأبنية والفص بينهما؛ تفريعاً على المذهب.

ولو أوصى لزيد بدار، ثم لعمرو بسكناها، فعن الأستاذ أبي منصور: أن الرقبة للأول، وأن المنفعة للثاني.

قال الرافعي: وكان يجوز أن يشتركا في المنفعة، كما في الأبنية والفص.

[قال]: وإن قال: أوصيت لعمرو بما وصيت به لزيد، جعل ذلك [رجوعاً عن] وصية زيد؛ لأن ذلك صريح في الرجوع، وقد انتفى احتمال النسيان،

ص: 265

وهذا ما جزم به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ.

وعن المزني: أنه لا يكون رجوعاً، ويجعل بينهما، ووافقه عليه بعض الأصحاب، واحتج له بأنه لو وكل زيداً ببيع سلعة سماها له، ثم قال: قد وكلت عمراً بما وكلت به زيداً، أنهما يكونان معاً وكيلين في بيعها، ولا يكون توكيل الثاني رجوعاً عن الأول.

قال الماوردي: وهذا فاسد، وحكي أن من أصحابنا من ضاق عليه الفرق، فجعل ذلك رجوعاً عن توكيل الأول.

ومنهم من فرق بأن الوكالة نيابة؛ فيصح أن ينوب كل واحد من الجماعة في كل البيع، والوصية تمليك، ولا يصح أن يملك كل واحد من الموصى لهما كل الموصى به.

قال: وإن أوصى لزيد بشيء، ثم أزال الملك فيه ببيع أو هبة، أو ما في معناهما من عتق وغيره، أو عرضه لزوال الملك؛ بأن دبره، أي: ولم يتعرض في لفظه بذكر الوصية الأولى- كما قال الإمام- أو كاتبه، أو عرضه على البيع، أو أوصى ببيعه، كان ذلك رجوعاً؛ لأن القصد من الوصية حصول الموصي به للموصى له، وهذه الأشياء تنافى المقصود؛ لأنه لا يمكن حصوله بعد وجودها؛ فأبطلت الوصية.

وفائدة القول بأنه رجوع فيما إذا باعه أو وهبه وأقبضه: أنه لو ملكه بعد ذلك، ومات وهو في ملكه، لا يعود حق الموصى له فيه، بخلاف ما إذا وهب من ولده شيئاً، فانتقل عن ملك الابن، ثم عاد إليه فإن له الرجوع على أحد الوجهين، وكذلك إذا باع عيناً، ثم خرجت عن ملك المشتري، ثم اشتراها أيضاً وأفلس، فإن للبائع الرجوع فيها على أحد الوجهين.

قال الماوردي: والفرق أن رجوع الأب والبائع حق لهما، ليس للابن ولا للمفلس إبطاله [عليهما]؛ فكذلك لم يكن بيعهما وعوده إلى ملكهما مانعاً من الرجوع، وليس كذلك الوصية؛ لأن للموصي إبطالها، فإذا بطلت بالبيع لم تعد بالشراء.

ص: 266

أما إذا لم يَزُلِ الملك بالهبة، كما إذا لم يتصل بها [قبض]، فكلام الشيخ الأول يفهم أنه لا يكون رجوعاً، وقوله: أو عرضه على [البيع]، يفهم منه أنه يكون رجوعاً، وقد حكى الأصحاب ذلك وجهين:

الأول منهما: قول بعض المتأخرين من البغداديين؛ لأنه لم يؤثر في ملكه؛ فلم يؤثر في رجوعه.

والثاني: قول ابن أبي هريرة، وأبي إسحاق؛ لأنه قد عقد فيه عقداً يفضي إلى الزوال؛ فصار مخالفاً لما قصده من قبل، وهو ما رجحه الإمام، وقال: إنه يجب القطع به.

وزاد القاضي الحسين على ذلك، فقال: قال أصحابنا: إذا وهبه، فلم يقبل الموهوب [له]، كان له رجوعاً، وهو مطرد في إيجاب الهبة والبيع.

ثم قضية تعليل الوجه الأول: أن العرض على البيع لا يكون رجوعاً، وقد صرح به الماوردي وغيره؛ إذا كان في حياة الموصي، وهو جار كما حكاه الرافعي، فيما إذا وكل في البيع.

وهل تكون الهبة الفاسدة رجوعاً؟

[حكى الماوردي فيها ثلاثة أوجه: ثالثها: إن أقبض كان رجوعاً]، وإلا فلا.

ولا فرق في [بطلانها بالإيصاء] بالبيع [بين أن يفسخ في زمن الخيار أم لا.

وعن الأستاذ أبي منصور: أنه إذا فسخ، وقلنا: لا ينتقل الملك إلا بانقضاء الخيار، لا يكون رجوعاً.

وكذا لا فرق في بطلانها بالإيصاء بالبيع] بين أن يعين من يباع منه أَوْ لا، ومع التعيين لا فرق بين أن ينص على قدر الثمن أَوْ لا.

وحكى الماوردي عن بعض أصحابنا أنه قال: إذا عين من يبيع منه، وقدر الثمن، وكان دون ثمن المثل، فهو كما لو أوصى به لزيد، ثم أوصى به لعمرو، فيكون ما حصلت فيه المحاباة بينهما، فإن كانت المحاباة [بينهما] بنصف

ص: 267

الثمن؛ فيكون كأنه أوصى بجميعه لزيد، ثم أوصى بنصفه لعمرو؛ فيكون بينهما أثلاثاً.

وإن كانت المحاباة بثلث الثمن، كان بينهما أرباعاً.

قلت: ولو قيل على هذا الوجه بأن للموصى له ثانياً: الربع في المثال الأول، وله في المثال الثاني []؛ لكان الوجه أحداً مما ذكرناه في أوائل الفصل.

وأطلق في الرافعي حكاية وجه عن أبي الفرج الزاز: أنه إذا أوصى بالبيع وغيره مما هو رجوع، يكون كما لو أوصى لزيد ثم أوصى به لعمرو؛ لأن كليهما وصيه، وحكاه عن المعتمد فيما إذا أوصى بعبده لإنسان ثم أوصى بعتقه، حتى يعتق نصفه ويدفع للموصى له نصفه.

وقيل في التدبير: إن قلنا: إنه وصية، لم يكن رجوعاً؛ حكاه ابن الصباغ.

[والذي أورده] الماوردي: أنا إن قلنا: إنه عتق بصفةٍ فهو رجوع، وإن قلنا: إنه وصية: فإن قلنا بتقديم الوصية بالعتق على الوصية بالتمليك، كان رجوعاً في الوصية. وإن قلنا باستوائهما، ففيه وجهان:

أحدهما- عن أبي علي الطبري-: [أنه يكون] نصفه وصية ونصفه مدبراً.

والثاني- عن أبي إسحاق-: أنه يكون جميعه مدبراً، ويتضمن ذلك الرجوع عن الوصية؛ لأن عتق المدبر تأخر بالموت، فقُدِّم على الوصايا، كالناجز من العطايا.

قال الإمام حكاية عن الأصحاب: ولأن مقصود التدبير العتق؛ وهو مخالف لمقصود الوصية بملك الرقبة، وإذا اختلف المقصودان ظهر بالثاني قصد الرجوع في الأول، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد والقفال، وعليه ينطبق كلام الشيخ، وحكى الإمام في باب وطء المدبرة عن صاحب التقريب رواية قول: في أن الكتابة هل تكون رجوعاً عن الوصية أم لا؟ لكن كلامه يرشد إلى أن محلها إذا كانت الوصية بعتق؛ فإنه قال: ومبنى التردد: أن مقصود الكتابة العتق

ص: 268

أيضاً، وأن الأصحاب أطبقوا على أن ذلك رجوع عن الوصية للغير.

فرع: لو دبره ثم أوصى به، فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفةٍ، كانت الوصية باطلة، وإن قلنا: إنه كالوصايا؛ نظر: فإن قال: العبد الذي [قد] دبرته قد أوصيت به لزيد، كان رجوعاً في تدبيره وموصى بجميعه، ويتجه أن يجيء فيه وجه المزني، وإن لم يقل [في] ذلك.

وفي النهاية: إن الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب: أن ذلك رجوع عن التدبير؛ فإن الوصية مع التدبير متناقضان، وأشار بذلك إلى ما حكيناه عن حكايته من الفرق بين التدبير والوصية.

وفي الحاوي: أن في ذلك وجهين:

قول ابن أبي هريرة منهما: أن نصفه باق على التدبير، ونصفه موصي به. وهذا [ما] أبداه الإمام أيضاً.

وقول أبي إسحاق: أن تدبيره أقوى من الوصية؛ فتبطل الوصية، ويكون على التدبير.

ثم قال: وهذان الوجهان جاريان فيما لو أوصى بعتقه بعد أن أوصى به، أو أوصى بعتقه ثم أوصى به.

فرع: لو أوصى ببيع شيء وصَرْف ثمنه للفقراء، ثم أوصى ببيعه وصَرْف ثمنه إلى المساكين، [لم يكن] رجوعاً، [وصُرِفَ الثمن للفقراء والمساكين نصفين، بخلاف ما لو أوصى بشيء للفقراء، ثم أوصى ببيعه وصَرْف ثمنه للمساكين؛ فإنه يكون رجوعاً].

تنبيه: قول الشيخ: وإن أوصى بشيء؛ احترز به عما إذا أوصى بثلث ماله ثم باعه؛ فإن الوصية لا تبطل، قال البندنيجي: لأن الاعتبار بماله حين الوفاة، وقد تقدم الكلام في ذلك.

قال: وإن أوصى به، ثم رهنه، فقد قيل: هو رجوع؛ لأنه عرضه للبيع؛ لما تعلق به من حق المرتهن، وهذا ما صححه ابن يونس والجيلي.

ص: 269

وقيل: ليس برجوع؛ لأن الرهن ليس بإزالة ملك في الحال ولا في ثاني الحال؛ فلم يكن رجوعاً.

قال الإمام: ولست أرى في ذلك فرقاً بين أن يتصل به القبض أم لا؛ فإنا إنما جعلناه رجوعاً؛ لدلالته على القصد، وهذا لا يختلف بوجود الإقباض وعدمه.

وفي البحر حكاية وجه ثالث: أنه إن اتصل به القبض كان رجوعاً، وإلا فلا.

والمجزوم به في التهذيب عند القبض: أنه يكون رجوعاً، وحكاية الخلاف قبله.

ولو كان الرهن فاسداً، فكلام الماوردي يفهم جريان الخلاف السابق في الهبة الفاسدة.

قال: وإن أجره، أو كاتب جارية فزوجها، لم يكن رجوعاً؛ لأن ذلك لا ينافي الوصية؛ لأنه لا يزيل الملك.

وهكذا الحكم فيما إذا أوصى بعبد، ثم زوجه؛ لأن ذلك من مصالحه، ونفقة الزوجة ومهرها في كسبه.

وكذلك إذا عَلَّمَ الموصي به صنعة لم يكن رجوعاً؛ لأنه زاده خيراً، فهو كما لو كساه.

ولا فرق في كون الإجارة لا تكون رجوعاً بين أن يوصي له بالدار فيسكنها، أو بسكنى دار فيؤجرها، لاحتمال انقضاء مدة الإجارة قبل موته.

نعم، لو مات قبل انقضاء المدة، لزم الموصى له إذا قبل تمكينُ المستأجر من الاستيفاء.

ثم إن [كانت الوصية بالسكنى] مقيدة بمدة، فهل يستوفى بعد انقضاء مدة الإجارة جميع مدة الوصية، أو ما بقي منها؟ فيه وجهان في المهذب وغيره: أرجحهما كما يقتضيه كلام الغزالي: الثاني. حتى لو لم تنقض مدة الإجارة إلا بعد فراغ السنة الموصي بها بطلت الوصية.

ولو وطئ الجارية الموصي بها، لم يكن رجوعاً إلا أن يحبلها.

ص: 270

وقال ابن الحداد: إن عزل عنها لم يكن رجوعاً، وإن لم يعزل كان رجوعاً، وزعم أنه أخذ ذلك من قول الشافعي- رضي الله عنه في الإملاء: لو حلف لا يتسرى، فوطئ جارية له، فإن كان يعزل عنها، فهو غير مُتَسَرٍّ ولا حنث عليه، وإلا فهو متسر، وقد حنث.

قال: فلما جعل التسري طلب الولد لا الاستمتاع، دل ذلك على الفرق بينهما، وكان طلب الولد رجوعاً في الوصية دون الاستمتاع، وهذا ما حكاه الإمام والقاضي الحسين، والبغوي في باب وطء المدبرة، وقال الإمام هنا: إن من أصحابنا من قال: إن الوطء رجوع كيف فُرِضَ، وهذا أضعف الوجوه، وإن قول ابن الحداد، هو الطريقة المستقيمة.

قال: وإن أوصى بشيء، ثم أزال اسمه؛ بأن كان قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فعجنه، وعجيناً فخبزه، كان ذلك رجوعاً؛ لأنه زال عنه الاسم؛ فلم يبق متناولاً لوصيته.

ولأنه قصد استهلاكه بالأكل، وذلك دليل على قصد الرجوع.

وهكذا لو قلا الحنطة سويقاً، أو عمل منها شيئاً، أو بلها بالماء، أو بذرها.

ولو كان الموصي به خبزاً يابساً، فدقه فتيتا، ففي كونه رجوعاً وجهان، في تعليق أبي الطيب وغيره.

قال: وإن كان غزلاً فنسجه، أو نُقْرَة فضربها دراهم، أو ساجاً فجعله باباً- فقد قيل: هو رجوع؛ لزوال الاسم، وهذا أصح في الشامل، وبه جزم الماوردي في مسألة نسج الغزل وطبع النقرة دراهم.

وقيل: ليس برجوع؛ لأن الاسم باقٍ عليه مع التقييد.

قال بعضهم: وهذا الوجه غريب في مسألة نسج الغزل. وكأنه لم يقف على تعليق القاضي أبي الطيب والشامل؛ فإنهما حكيا الخلاف في الصور الثلاث، كما حكاه الشيخ وهو جار في تجفيف الثمار عند خشية الفساد.

وقد أجرى وجه الرجوع في تقديد اللحم، والمذهب خلافه.

كما أن المذهب: أن شَيَّهُ رجوع، وخلافه وجه بعيد حكاه في البحر.

ص: 271

والرافعي ادعى نفي الخلاف فيه، وألحقه بما إذا كانت شاة فذبحها.

وفي الحاوي: الجزم بأنه لو كان قطناً فغزله، أو ثوباً فقطعه قميصاً، أنه يكون رجوعاً، وفي المذهب وجه فيه كما لو كان الثوب مقطوعاً فخاطه.

ولو حشا بالقطن مخدة أو مضربة أو جبة، ففي كونه رجوعاً- تفريعاً على الأول- وجهان: أصحهما في النهاية والرافعي: أنه رجوع.

وكذا لو قصر الثوب، هل يكون رجوعاً؟ فيه وجهان:

وجه الرجوع: القياس على ما لو صبغه.

ووجه مقابله: القياس على ما لو غسله.

وقد حكى هذا أيضاً فيما لو صنعه؛ كما في عمارة الدار.

ولو لبس الثوب الموصي به، قال القفال: يحتمل أن يكون رجوعاً، قال في البحر: وهو المذهب عندي؛ لأنه عرضة للإتلاق، كما لو عجن الدقيق.

فرع: إذا عرض الموصي به لشيء من الأحوال المذكورة: كنسج الغزل، وطحن القمح، ونحو ذلك، قال الرافعي: فقد نص الأصحاب على وجهين في بعضهما، والباقي ملحق به.

قال: وإن أوصى بدار فانهدمت، أي في حياة الموصي، بحيث زال [عنها] اسم الدار، وبقيت عرصتها- فقد قيل: تبطل؛ لأنه زال عنها الاسم؛ فبطلت الوصية، كما لو هدمها الموصي، وهذا هو الأصح في الحاوي، [والمذهب في] تعليق البندنيجي.

وقيل: لا تبطل؛ لأنه لم يوجد منه شيء يدل على الرجوع، وظاهر كلام الشيخ يدل على أن الخلاف في بطلان الوصية في العرصة.

أما النقض فقد بطلت الوصية [فيه] لا محالة.

والمذكور في التتمة: حكاية الخلاف في أن الوصية هل تبطل بالنقض أم لا؟ وتبقى الوصية فيها على المنصوص.

وعلى طريقة: أنها تبطل فيها أيضاً.

ص: 272

وحكى وجهاً فيما إذا هدم الدار: أن الوصية لا تبطل في العرصة.

قال في البحر: وهذا وهذا غلط؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه نص على أنه إذا أوصى بدار، فذهب السيل بها: أن الوصية تبطل؛ لأن العرصة [لا] تسمى داراً، أما إذا بقي عليها اسم الدار، فالوصية باقية.

ولمن تكون الآلة؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه وبه قال جمهور أصحابنا-: أنها خارجة من الوصية؛ لأنها لا تسمى داراً.

والثاني- حكاه القاضي ابن كج عن بعض أصحابنا-: أنها تكون للموصى له، وحمل نص الشافعي- رضي الله عنه على ما إذا هدمها بنفسه.

وجعل في الحاوي الخلاف في مسألة الكتاب مفرعاً على هذا الخلاف، وقال: إن من قال بأن النقض للموصي، قال: تبطل الوصية، ومن قال بأنه للموصى له، لا يقول بالبطلان، وهذا يوافق ما حكيناه عن المتولي من تصوير محل الخلاف.

وإن كان الانهدام بعد موت الموصى له: فإن كان بعد القبول، فالوصية ممضاة، وجميع ما انفصل من آلتها للموصى له، وإن كان قبل القبول: فإن لم يَزُلِ اسم الدار عنها، فالوصية بحالها.

ثم إذا قبل، وقلنا: يتبين الملك بالموت، أو قلنا: يملك بالموت، فالنقض للموصى له. وإن قلنا: إن القبول هو المملِّك، فله الدار، وفي المنفصل وجهان:

أحدهما: للموصى له، وهو الأصح في البحر.

والثاني: للورثة.

وإن لم يبقى مسمى الدار بعد الانهدام، فإن قلنا: إن القبول [مبين، فالوصية جائزة، وله العرصة والنقض. وإن قلنا: القبول] مملك، ففي بطلان الوصية وجهان:

أحدهما: نعم.

والثاني: لا، وله العرصة وما اتصل.

ص: 273

وفي المنفصل وجهان.

وفي تعليق البندنيجي: أن الانهدام إذا وجد بعد الموت وقبل القبول ثم قبل، وفرعنا على أن القبول مبين للملك، فالمذهب: أن العرصة والنقض [ملك] للموصى له.

ومن أصحابنا من قال: النقض لا يكون له، وهو فاسد.

ولم يفصل البندنيجي في الانهدام بين أن يزيل اسم الدار أم لا.

فرع: إذا أوصى بأرض، فبنى فيها أو غرس، ففيه وجهان، أصحهما في الرافعي: أن ذلك رجوع.

قال الماوردي: فعلى هذا إن كان البناء والغراس في جميعها كان رجوعاً في الجميع، وإن كان في بعضها كان رجوعاً فيه، وليس رجوعاً فيما لم يغرس فيه أو يبني.

والثاني: أنه لا يكون رجوعاً؛ لأن ذلك من استيفاء منافعها.

قال الماوردي والمصنف: فعلى هذا تكون الوصية فيما بين البناء والغراس من بياض الأرض بحالها، فأما أساس البناء وقرار الغراس، ففيه وجهان:

أحدهما: يكون راجعاً فيه.

والثاني: لا.

ولو عمر الدار الموصي بها، نظر: فإن غير اسمها؛ بأن جعلها حَمَّاماً، كان رجوعاً، وإن لم يغير اسمها لم يكن رجوعاً، لكن الزيادة لا تدخل في الوصية [الأولى] على الأصح.

وفي الإبانة وغيرها وجهٌ: أن الزيادة تدخل.

وفي التتمة حكاية وجه: أن العمارة تكون رجوعاً.

ولو جعل على الدار ساباطا، لم [يكن داخلاً] في الوصية، وهل يكون رجوعاً فيما وضع عليه الساباط من حيطانها؟ فيه وجهان.

قال: وإن كان طعاماً بعينه فخلطه بغيره، أي: بحيث لا يمكن تمييزه، كان رجوعاً؛ لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه بعينه.

ص: 274

وعن رواية أبي الفرج الزاز: أن الشيخ أبا زيد قال: إن خلطه بأجود منه كان رجوعاً، وإلا فلا.

قال: وإن كان قفيزاً من صبرة، فخلطه بأجود منه، كان [ذلك] رجوعاً؛ لأنه بالخلط أحدث زيادة لم يرض بتمليكها.

قال: وإن خلطه بمثله أو بما دونه، لم يكن رجوعاً؛ لأن القدر الموصي به كان مختلطاً بغيره، فإذا خلطه بالمثل لم يحدث صفة زائدة، وإذا خلطه بما دونه تنزل منزلة إتلاف بعضه، وإتلاف بعضه ليس رجوعاً في الباقي، وهذا يخالف الصورة السابقة؛ لأن الموصي به لم يكن مختلطاً بغيره.

وقيل: إذا خلطه بما هو دونه يكون رجوعاً، وإذا خلطه بالأجود لا يكون رجوعاً، حكاه ابن يونس، وأبداه الرافعي تخريجاً لنفسه من قولنا: إنه إذا استجد في الدار بناء، أنه يدخل في الوصية، ثم قال: وهو أقرب هنا وإن لم يذكروه.

ولو اختلطت الصبرة بنفسها، فهو على الخلاف في نظائره، صرح به المتولي.

قال الرافعي: وإذا أبقينا الوصية فالزيادة الحاصلة بالجودة غير متميزة، فتدخل في الوصية.

ولو جحد الموصي الوصية، كان رجوعاً على ظاهر المذهب.

وقال الإمام: يتجه فيه نوع من الاحتمال من جهة أنه قد ينسى الوصية فينكرها، والإنكار إخبار وليس بإنشاء.

وحكى في باب التدبير وجهين في أن الإنكار هل يبطلها؟ وكلام البندنيجي فيها يقتضي ترجيح عدم البطلان؛ فإنه حكى وجهين فيما إذا ادعى عبد على سيده أنه دبره، وأنكر التدبير، وقلنا: إنه وصية، هل يكون إنكاره رجوعاً أم لا؟ والمذهب: أنه ليس برجوع.

ولو قال الموصي: هي عليه حرام، كان رجوعاً، جزم به في البحر، وقال الإمام فيما إذا قال: حَرَّمْتُ هذه العين على فلان، يعني [العين] الموصي بها على الموصى له، فظاهر المذهب: أنه رجوع، ولو قال: هي لوارثي، كان رجوعاً، ولو قال: هي من تركتي، فوجهان في الحاوي.

ص: 275

ولو نقل الموصى به من بلد إلى بلد، [فإن كان المنقول إليه أقرب إلى الموصى له، لم يكن رجوعاً، وكذا إن كان أبعد وكان لعذر]، فإن كان لغير عذر، فوجهان في البحر.

ولو أوصى له بألف وأشهد بها شاهدين، وأوصى له بألف وأشهد بها شاهدين، نظر: إن كان الثاني من جنس آخر، فهما وصيتان، وإن كان مثله، فهما وصية واحدة، وإن كان ما أوصى به ثانياً أكثر في القدر من الأول كما إذا أوصى له بألفين، لغت وصيته الأولى وثبتت الثانية.

ولو كانت الثانية أقل، كما إذا أوصى له بخمسمائة، ففيه وجهان [يبنيان]:

[أحدهما: يثبت كلاهما].

والثاني: تلغو الأولى وتثبت الثانية، قاله القاضي الحسين، وقال الرافعي: إن الوجه الثاني أشبه؛ لأنه يحتمل أنه قصد تقليل حقه والرجوع عن بعض الوصية الأولى، فلا يعطى إلا اليقين.

ولنختم الباب بفروع يسيرة تتعلق به:

- إذا أوفى في مرض موته دين بعض الغرماء، وعجز ماله عن وفاء باقي الديون، فأصح الوجهين وبه جزم الفوراني: أنه لا يعترض عليه.

وفيه وجه: أنه يسترجع منه ما يزيد على ما يخصه عند التوزيع.

- إذا ادعى شخص على أحد الوارثَيْن أن مورثهما أوصى له بكذا، فصدقه أحدهما وكذبه الآخر، فماذا يلزم المصدق؟ فيه وجهان، كما لو أقر بدين فكذبه [الآخر]، حكاه في البحر.

-[إذا أجاز الورثة بالثلث والأجنبي بالثلث]، فإن أجاز الورثة الوصيتين سُلِّم لكل منهما الثلث، وإن ردوا، فلا شيء للوارث، ثم ينظر في كيفية الرد: إن ردوا وصية الوارث، سلم للأجنبي الثلث تماماً.

وفيه وجه: أنه لا يسلم له إلا السدس، وإن قالوا: رددنا ما زاد على الثلث من الوصيتين، فوجهان:

ص: 276

أحدهما- وهو الذي ذكره أبو حامد، ونسبه أبو الفرج الزاز إلى اختيار القفال والشيخ أبي علي والقاضي [الطبري]، كما حكاه في البحر-: أنه ليس للأجنبي إلا السدس.

والثاني: أن له تمام الثلث؛ لأن القائل بالرد في حق الأجنبي الزائد على الثلث، وفي حق الوارث الجميع؛ فكان الانصراف إلى نصيب الوارث [أولى]، وهذا ما رجحه الإمام وجزم به في التهذيب، وقال في البحر: إن الشيخ أبا حامد قال: كنت أحكي أن له السدس، ثم رأيت [في] ظاهر كلام الشافعي في الأم أن له الثلث. قال الروياني: وهذا أقيس.

إذا أجر المريض نفسه بدون أجرة المثل، لا يحتسب [القدر] الناقص من الثلث على الأصح، بخلاف المرأة إذا تزوجت في مرض موتها بدون مهر المثل؛ فإن ذلك التفاوت يحسب من الثلث على الأصح، وفرق المتولي بينهما بفرقين:

أحدهما: أن النكاح من غير مهر المثل يقتضي مهر المثل، فإذا قال الولي: زوجتكها، وذكر ما دون مهر المثل، فكأنه أسقط العوض بعد ثبوته؛ فكان كالإبراء، وأما الإجارة فإنها لا تنعقد من غير ذكر العوض.

والثاني: أن المحاباة في المهر تلحق نوع عار بالورثة؛ فأثبت لهم ولاية الدفع، بخلاف المحاباة في الإجارة.

والوجه المذكور في اعتبار القدر الناقص عن أجرة المثل في الإجارة، [جار]- كما حكاه القاضي الحسين- فيما إذا أعار نفسه في مرض موته، إذا باع بثمن مؤجل ولم يكن له مال غير المبيع، قال صاحب شرح فروع ابن الحداد: للورثة إبطال البيع في الثلثين، وكذلك إذا رهن جميع ماله لهم فَسْخُ الرهن في الثلثين.

- إذا أوصى بأمة لولدها من غيره، إن خرجت من الثلث وقبل الموصى له الوصية، عتقت عليه وإن رد بقية الورثة، وإن لم تخرج من الثلث، فالجواب في قدر الثلث كذلك، وأما الزائد عليه فإن أعتقه الوارث وهو موسر عتق عليه، ثم إن لم يقبل انتهاء الوصية فقد تبينا أن جميعها للوارث؛ فيسري العتق من البعض الذي أعتقه إلى الباقي، وإن قبل عتق عليه ما قبل.

ص: 277

قال ابن الحداد: ولا يكون نصيب الوارث عليه، ولا نصيبه على الوارث.

أما الأول: فلأنه أعتق نصيبه قبل قبوله.

وأما الثاني: فلأنا نتبين بالقبول حصول ملكه بالموت، وتقدمه على إعتاق الوارث الزيادة.

قال الشيخ أبو علي: والصواب عند الأصحاب أن يقال: إن قلنا بحصول الملك [بالموت] ابتداء، وتبينا، فنقوم نصيب الوارث؛ لأنا تبينا استناد عتقه إلى وقت الموت، وعتق الوارث متأخر عنه، وإن قلنا بحصوله بالقبول فيعتق الكل على الوارث؛ لأنه يسري من نصيبه إلى قدر الثلث، والقبول بعده كإعتاق الشريك الثاني بعد الأول وهو موسر، هذا إذا حكمنا بحصول السراية بنفس الإعتاق، فإن قلنا: لا يحصل إلا بعد أداء القيمة فقبوله كإعتاق الشريك الثاني نصيبه قبل أخذ القيمة، وفيه وجهان:

أحدهما: النفوذ؛ لأنه ملكه ما لم يأخذ القيمة.

وأصحهما: المنع؛ لأن الأول [استحق تقويمه عليه بالإعتاق] وفي ذلك تفويت حق وجب له.

قلت: وقد يتجه أن يقال في المسألة، إذا قلنا بأن الملك لا يحصل إلا بالقبول، وقد نفذنا عتق الوارث: تبطل الوصية؛ لأن العتق إتلاف شرعي؛ فكان كالحس، وقد ذكرنا في الإتلاف الحسي أنه إذا وجد قبل القبول [وقلنا]: لا يحصل الملك إلا بالقبول: أن الوصية تبطل.

إذا أوصى لرجل بدينار كل شهرين من غلة داره، أو من كسب عبده، وجعله بعده لوارثه أو للفقراء، والغلة والكسب عشرة مثلاً، فاعتبار هذه الوصية من الثلث كاعتبار الوصية بالمنافع مدة معلومة؛ لبقاء بعض المنافع لمالك الرقبة، قال ابن الحداد: وليس للورثة بيع بعض الدار [إلا قدر] ما يحصل منه دينار؛ لأن الأجرة قد تتفاوت فتعود كل الأجرة إلى دينار أو أنقص منه؛ فيكون الجميع [للموصى له].

ولو أوصى بعشر الغلة في كل سنة، صح منهم بيع ما عدا عشر الدار.

ص: 278

ولو أوصى لإنسان بدينار كل سنة من ماله، قال الإمام: صحت الوصية في السنة الأولى بدينار، وفيما بعدها قولان:

أحدهما: الصحة، وبمثله جزم في الإشراف فيما إذا قال: أعطوه كل يوم من الطعام مُدُّا بعد موتي.

وأظهرهما: البطلان؛ لأنه لا يعرف قدر الموصي به حتى يخرج من الثلث، وعلى الأول إذا لم يكن ثم وصية أخرى، فللورثة التصرف في الثلثين، وفي الثلث وجهان:

أحدهما: ينفذ تصرفهم فيه بعد إخراج الدينار؛ لأنا لا ندري استحقاق الموصى له شيئاً سواه.

والثاني: أنه يوقف، [وهما كذلك في الوصية بالطعام، كما حكاه في الإشراف، وحكى وجهين آخرين:

أحدهما: أنه يوقف له لتتمة سبعين سنة.

وقيل: يعطى سنة.

ومثلهما يظهر مجيئه في مسألة الدينار، والذي اقتضاه إيراده: ترجيح قول الوقف مطلقاً]؛ فعلى هذا: إن بقي الموصى له حتى نفدت التركة فذاك، وإن مات قبل نفاذها، قال الأصحاب: عاد الفاضل في مسألة الدينار لورثة الموصي، وقال الإمام: فيه نظر؛ لأن هذه الوصية إذا صححناها كالوصية بالثمار بلا نهاية؛ فوجب أن ينتقل الحق إلى الورثة، وإن نفذنا تصرف الوارث فيما عدا الدينار، فكلما مضت سنة طلب الموصى له الورثة بدينار، وكان ذلك لوصية تظهر بعد القسمة.

وإن كان هناك وصايا أخر، قال صاحب التهذيب: يُفَضُّ الثلث بعد الدينار على أرباب الوصايا ولا يوقف، فإذا انقضت سنة أخرى، استرد منهم بدينار ما يقتضيه التقسيط.

قال الإمام: وهذا [بين] إذا كانت الوصية مقيدة بحال حياة الموصى له، أما إذا لم تقيد وأقمنا ورثته بعد موته مقامه، فهذا مشكل [لا يهتدي إليه]، والله- عز وجل أعلم.

ص: 279