الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الكتابة
"الكتابة" لفظة وضعت لعتق معلّق على مال، منجَّم إلى وقتين معلومين فأكثر، يحل كل نجم لوقته المعلوم.
وقيل: إنها تعليق عتق بصفة ضمنت معاوضة، أو معاوضة ضمنت تعليق عتق بصفة.
وقال القاضي الحسين: هي تعليق عتق بصفةٍ ضمنت معاوضة معدولة عن القياس؛ لأنها بيع ماله بماله. وعلى ذلك جرى في "التهذيب".
وقيل: إنها معاقدة لعقد السيَّد مع عبده؛ ليحصل له الكسب عاجلاً، ويحصل له العتق [آجلاً].
وسميت كتابة؛ للعرف الجاري بكتابة ذلك في كتاب يقع فيه الإشهاد لما اشتملت عليه من تأجيل.
ويقال: كاتب يكاتب، مكاتبة وكتاباً، والمكاتب- مفتوح التاء-: العبد، [ومكسور التاء]: السيَّد.
وقيل: اشتقاقها من "الكَتْب"، وهو الضم، يقال: كتبت البغلة، إذا جمعت بين شُفْرَيها بحلقة أو سَيْرٍ، فلما اجتمع نجم مع نجم فيها سميت بذلك.
والنجم: الوقت، سواء القريب فيه والبعيد، والنجوم: الأوقات التي يحل [فيها] مال الكتابة. وسميت بذلك؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب والكتابة، وإنما تعرف الأوقات بالنجوم، وهي ثمانية وعشرون نجماً، كلما طلع منها طالع سقط قرينه، وهي التي جعلت منازل القمر، قال الله تعالى-:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، فكانوا يقولون: أعطيك إذا طلع نجم كذا، أو: سقط نجم كذا، أو في نجم كذا؛ فسميت باسمها مجازاً، وقد يطلق النجم على المال الذي يحل في الوقت.
قال: الكتابة قربة؛ لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33].
قال الشافعي- رضي الله عنه: "المراد بالخير: الاكتساب والأمانة؛ [فإنه] ورد "ألخير" في الكتاب العزيز بمعنى "المال" في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وفي قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وغيرهما. وورد بمعنى "العمل الصالح" في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه 7} [الزلزلة: 7]؛ فحمل عليهما ها هنا لجواز إرادتهما بالقصد، وتوقف المقصود عليهما؛ فإنه إذا لم يكن كسوباً لا يقدر على الأداء، وإذا لم يكن أميناً لا يوثق بوفائه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ غَازِياً أَوْ غَارِماً أَوْ مُكَاتَباً في كِتَابَتِهِ، أَظَلَّهُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ"، وغير ذلك من الأخبار.
ولا تجب الكتابة، وإن كان ظاهر الأمر الوجوب؛ لأنه عتق بعوض فلا يجب على السيد؛ كالاستسعاء، والآية محمولة على بيان الرخصة؛ فإن بيع الرجل ماله بماله محظورٌ، [أو على] الندب؛ بدليل ما ذكرناه.
وقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" قولاً عن الشافعي بوجوبها، واستغربه، وقال: لم أره لغيره، ولست أعده من المذهب.
قال: تعتبر في الصحة من رأس المال، ومن الثلث في المرض؛ لأن ما يكسبه العبد لسيده فكأنه أخرج ماله متبرعاً، فأعطى حكم التبرعات، ثم المعتبر من الثلث قيمة الرقبة، كما ذكرناه في الوصية.
قال: ولا يجوز إلّا من جائز التصرف في ماله كالهبة.
قال: ولا يجوز أن يكاتب إلا عبداً بالغاً عاقلاً:
أمَّا اعتبار العقل فبالإجماع.
وأما اعتبار البلوغ؛ فلأن الصبي غير مكلف؛ فلا يصح منه عقد الكتابة كالمجنون، وقد استدل بعضهم لذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ
…
} الآية [النور: 33] والابتغاء: الطلب، وهو إنما يعتبر من المكلف؛ فاختص بها ما دل عليه الشرع؛ لكونها على خلاف القياس. و"الأيمان" في الآية جمع "يمين"، وأضاف الله تعالى الملك إلى اليمين؛ لأنه سبب الملك غالباً.
ثم إذا كاتب الصبي أو المجنون لم يثبت لهذا العقد حكم الكتابة الفاسدة أيضاً؛ لأن قبولهما لغو. نعم، إذا أدَّيا المال عتقا بحكم وجود الصفة دون العقد، ولا يرجع [السَّيِّد عليهما بشيء، بخلاف الكتابة الفاسدة مع المكلف؛ لأنه قد تلف المعقود] عليه في يده بحكم المعاوضة؛ فاقتضى ذلك ضمانه، والسيد هنا هو الذي سلط الصبي والمجنون على الإتلاف؛ فلم يرجع عليهما؛ كما لو باع منهما شيئاً فأتلفاه، وهذه رواية المزني.
وروى الربيع أنه يثبت التراجع عند كتابة المجنون، ويتبعه ما فضل من كسبه، ووافقه عليه ابن سريج.
وأبو إسحاق صحح رواية المزني، وبعض الأصحاب أثبت اختلاف الروايتين على قولين.
ومنهم من حمل رواية الربيع على ما إذا وقع عقد الكتابة في حال غفلة بمرض، ورواية المزني على ما إذا وقع في حال الجنون، ولاشك أنَّ الخلاف يجري فيما إذا كاتب الصغير أيضاً؛ لأن المجنون أسوأ حالاً منه.
العبد الموصي بمنفعته لا يجوز كتابته على الأصح، وهل يجوز كتابة العبد المستأجر؟
قال ابن القطان: "تجوز"؛ كما حكاه الرافعي عنه في كتاب "الإجارة".
وعن القاضي ابن كج: أنه لا تجوز، وبه جزم البندنيجي هنا، وكذلك الماوردي؛ لأجل أن عقد الكتابة يتضمن ملك العبد منافعه بحكم العقد، وهي
مملوكة بعقد الإجارة؛ فيتنافيان.
قال الماوردي: والعبد المرهون لا تجوز كتابته، وإن لم تملك منافعه؛ لكونه بعقد الرهن.
معرضاً للبيع الذي تمنع منه الكتابة؛ فصارا متنافيين لهذه العلة.
قال: ولا تستحب إلَّا لمن عرف كسبه وأمانته؛ لما ذكرناه من معنى الآية.
وفي "البحر" وغيره: أن من أصحابنا من قال: إذا كان له دين وأمانة تستحب كتابته، وإن لم يكن كسوباً؛ لأنه يدفع إليه من الصدقات.
وهذا مشهور في "المهذب" وغيره وأنَّ منهم من قال: تستحب كتابة الكسوب وإن لم يكن أميناً. والأول أصح، ولا نزاع في أن ذلك لا يكره.
قالك ولا تجوز إلا على عوض في الذمة؛ إذ لا قدرة للعبد على الأعيان.
قال: معلوم الصفة كالمُسْلَم فيه، وإطلاق الشيخ يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون المال ممَّا يعم وجوده أو ممَّا يندر.
وقدم حكى القاضي الحسين فيما إذا لم يكن عام الوجود وجهين كالوجهين الآتيين فيما إذا كاتبه على مالٍ عظيمٍ في نجمين يسيرين.
[وتظهر فائدة الوجهين أيضاً فيما إذا أسلم في مال عامِّ الوجود فانقطع]، فإن قلنا: يجوز [في هذه المسألة]، لم ينفسخ العقد، وإن قلنا بمقابله فكالمسلم فيه.
قال: ولا تجوز على أقل من نجمين؛ لما روي عن عليِّ- كرّم الله وجهه- أنَّه قال: "الكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ، والإتيانُ مِنَ الثَّانِي"، وهذا يقتضي أنَّه أقلّ ما تجوز عليه الكتابة؛ لأنَّ أكثر من نجمين يجوز بالإجماع.
وقد روى عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه أنه غضب على عبد له، فقال:"لَأُعَاقِبَنَّكَ ولَأُكَاتِبَنَّكَ عَلَى نَجْمَيْنِ"، فلو جاز لما دونها لفعله؛ لكونه أشد في العقوبة.
ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنَّه كاتب على أقل من نجمين، ولو جاز ذلك لابتدروه؛ لكونه فيه تعجيل القربة.
وقد روى أبو علي بن أبي هريرة [في "تعليقه"] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكِتَابَةُ عَلَى نَجْمَيْنِ" وهذا نص إن صح.
ولأن اشتقاقها من الضم والجمع، وأقل ما يكون به الضم والجمع اثنان.
ثم إذا لم تجز على أقلّ من نجمين كان امتناع جوازها حالة من طريق الأولى.
وقد استدل على منع الحلول فيها بأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ، ومن شرطه ذكرُ العوض، فإذا عقد على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح؛ كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند محله، ويفارق البيع؛ لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض، وإن كان المشتري معسراً؛ لأنه يملك المبيع، والعبد لا يملك شيئاً، [وإنما] ما في يده لسيده.
وقد حكى الإمام عن رواية شيخه وجهاً: أن البيع من المفلس لا يصحُّ إذا كان الثمن زائداً على قيمة [المبيع، واستبعده، وكلام الغزالي في "الوسيط" يوهم جريانه وإن لم يكن الثمن زائداً على قيمة] العين.
قال: [يعلم] ما يؤدي في كل نجم أي: سواءٌ التساوي [فيه] والتفاضل؛
صوناً للعقد عن غرر الجهالة، ومن أصحابنا من صححه عند الإطلاق، وجعل العوض مقسوماً عليهما بالسَّويَّة، حكاه الماوردي، وقال: لا يشترط على الصحيح من مذهب الشافعي- رضي الله عنه تعيين ابتداء النجوم، بل يكفي الإطلاق فيها، ويكون الابتداء من حين العقد. وإن كان دليل كلامه هنا يقتضيه.
ولا يجوز أن يكاتبه على مائة في عشر نجوم على أن يؤدي قسط كل نجم في أوَّله؛ لأنَّ النجم الأوَّل يكون حالّاً، ولو جعل قسط كل نجم في وسطه ففي الصحة وجهان:
وجه المنع: أن وسط السنة ما بين طرفيها، وهو مجهول.
والقائل بالصحة يحمله على مضيّ ستة أشهر منها.
ولا فرق في جوازها على نجمين بين أن يكون المال قليلاً يمكن تحصيله فيهما عادة أو كثيراً [بحيث] لا يمكن تحصيله [عادة] فيهما؛ كما إذا كاتبه على أجل ساعتين بمال عظيم.
وقيل: في الحالة الثانية وجهان، وهما جاريان فيما لو قال: كاتبتك على خمسين ديناراً تؤديها إليَّ: في هذا اليوم [أربعين]، وعشرة بعد سنة- كما قال القاضي الحسين- وهما مبنيان على أنَّ المنع في الكتابة الحالة لأجل تحقُّق العجز، أو لكون الغالب عدم قدرته على المال في الحال.
وكذا لا فرق في امتناعها على نجم [واحد] أو حالَّةً بين ألا يمكن تحصيل ذلك كما شرط، أو يمكن تحصيله بأن يكاتب نصف عبد باقيه حرّ، [أو له] مال؛ كما هو ظاهر المذهب في "البحر"، واختاره الإمام.
وقال في "البحر": الأقيس الجواز في الحالة الثانية، وهو وجه حكاه المراوزة.
فرع: لو جعل محل النجم الأول [في] آخره، ومحل [النجم] الثاني
[في] أو له- ففي صحة ذلك وجهان، وجه المنع: أن الاتصال يصيرهما كالنجم الواحد.
قال: وإن كاتبه على عمل ومال أي: كخدمة شهر ودينار قدم العمل على المال، وجعل المال في نجم بعده أي:[بأن يقول:] كاتبتك على أن تخدمني شهراً أوّله من الآن، [ودينار] تؤديه بعد يوم من الشهر الثاني مثلاً.
وإنما اشترط تقديم العمل؛ كي لا يكون إجارة الشهر القابل، وقد تقدم أنَّ من شرط إجارة العين اتصال الشروع في الاستيفاء بالعقد.
وحكى القاضي الحسين عن ابن سريج أن هذا العقد لا يصح أيضاً؛ لأن الخدمة تكون حالة، والكتابة على عوض حالٍّ [أو بعضه] لا تجوز.
وأجاب الأصحاب عنه بجوابين:
أحدهما: أنَّ [علة] المنع من الكتابة على عوض حال عدم القدرة عليه، والعمل هو قادر عليه في الحال؛ فكان كالمال المنجم، بل أولى.
الثاني: أن الخدمة ليست حالة، وإن كان ابتداؤها من حين العقد فإنها منتظرة تنقضي حالاً بعد حال، وهذا قاله أبو إسحاق المروزي. وعلى هذا الجواب ينطبق ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والروياني في "البحر" عن ابي إسحاق أنه قال: لو جعل محل الدينار في مسألة الكتاب عقيب شهر العمل من غير فصل لم يجز؛ كي لا يصير ذلك أجلاً واحداً، وهو اختيار [القاضي] أبي حامد.
وحكى الماوردي جواز ذلك عند أبي إسحاق وابن أبي هريرة؛ لأن النجمين [ما] تغاير وقت استحقاقهما، واستحقاق الدينار في غير الوقت الذي تستحق فيه الخدمة؛ فكانا نجمين بهذا الاعتبار، وأن أبا إسحاق حكى عن بعض المتقدمين من أصحابنا أن الكتابة باطلة؛ لأن اتصال أحد النجمين بالآخر
يجعلهما نجماً واحداً فلابد بينهما من زمان لا تستحق فيه مطالبة.
ثم تعليل الوجهين يقتضي أنهما لو جعلا محل استحقاق الدينار في وسط شهر الخدمة لا يجوز.
قال الماوردي: وقد وجد ذلك منصوصاً للشافعي، وحكاه البندنيجي عن أبي إسحاق.
ثم قال: ومن أصحابنا من قال بجواز ذلك، وأنه ظاهر المذهب؛ لأن له في "الأم" كلاماً يدل على جواز هذا، وهو الذي جزم به القاضي الحسين، وحكاه الإمام عن كافة الأصحاب سوى أبي إسحاق.
ولو قدم نجم المال وأخر نجم العمل بأن قال: كاتبتك على دينار تؤديه بعد شهر من الآن، وعلى أن تخدمني الشهر الذي يليه- لم يجز؛ لما ذكرناه.
نعم، لو كان العمل في الذمَّة بأن قال: كاتبتك على دينار في ذمتك، وعلى خياطة ثوب في ذمتك صفته كذا وكذا؛ لتؤدي الدينار بعد شهر، والخياطة بعد شهرين- جاز؛ إذ لا مانع.
ويكفي في جعل الخدمة عوضاً في الكتابة [الإطلاق عند][ابن الصباغ]؛ لأنها معلومة بالعرف.
وقال في "التهذيب": [إنه يجب] بيان جهة العمل. وهو ظاهر النص، كما حكيناه في باب الإجارة.
فإذا قلنا بالصحة، فمرض العبد في أثناء الشهر، [فمن الأصحاب] من خرَّجه على أن المبيع إذا تلف بعضه قبل القبض هل ينفسخ في الباقي؟ وفيه طريقان، وهذا ما حكاه البندنيجي والبغوي.
وقال القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين: ينفسخ ها هنا قولاً واحداً. وهو ما نص عليه الشافعي في "الأم"، حيث قال-[كما حكاه البندنيجي]-: إذا انتقضت الكتابة [في النصف] انتقضت في الكل. ووجهه بعض الأصحاب بأن
عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد؛ فإذا انفسخ في بعضه انفسخ في كله.
ولا نزاع [في] أنه لو قال: "كاتبتك على منفعة" شهر، لم يجز؛ لأنها تختلف.
قال: وإن كاتبه على عملين أي: يعملهما في نفسه في شهرين، مثل أن يقول: لتخدمني هذا الشهر، ثم [الشهر] الذي يليه، ولم يذكر مالاً- لم يجز؛ لأن ذلك نجم واحد.
ووجهه ابن الصباغ والمصنف بأنه شرط تأخير التسليم في الشهر الثاني؛ لأنه أفرده عن الأول، ومقتضى هذا التعليل: أنه لو ذكر مالاً لم يجز أيضاً؛ ولأجله صور بعضهم مسألة الكتاب بما إذا قال: كاتبتك على خدمة شهرين، والصواب ما ذكرته؛ لأن خدمة الشهرين نجم واحد وعمل واحد، والشهران كالوقتين من الساعة الواحدة، ولم يعُدَّ أحد ذلك نجمين، ويكون تعليل ابن الصباغ والمصنف إذا انضاف إليه [شيء] حصل منه دليل، وهو أن يقال: لنا فيما إذا أجر الدار شهراً، ثم أجرها من المستأجر شهراً آخر في أثناء المدة- خلاف في الصحة: فمن جوزه جعل ذلك كما لو وجد في عقدٍ واحد، [وقضيته أن يكون هنا كنجم واحد فيمتنع، ومن منع في الإجارة نظر إلى أنَّ هذا عقد على منفعة زمن مستقبل]، وقضيته المنع ها هنا-[أيضاً]- فتحرّر أن المنع واقع ها هنا بكل حالٍ، والله أعلم.
وقد أبدى الإمام هنا وجهاً في صحة العقد في الصورة التي فرضناها، وضعفه لكونه جعل أصله ما إذا قال: أجرتك دارى سنة، ثم قال: إذا انقضت المدة [الأولى] فقد أجرتك شهراً آخر؛ فإنه يصح على وجه.
فرعان:
لو قال: كاتبتك لتخدمني هذا الشهر، ولتحصل لي خياطة ثوب من صفته كذا
وكذا عقيب الشهر أجاز، نصَّ عليه "الأم".
قال البندنيجي وغيره: لأنه بمنزلة قوله: كاتبك على خدمة شهرٍ ودينار بعده.
ولو قال: كاتبتك على تحصيل بناء حائط صفته كذا في رأس الشهر، وتحصيل خياطة ثوب في [رأس] الشهر الذي يليه جاز.
وكذا لو كاتبه على ضمان بناء دارينك إحداهما في وقت، والأخرى [في] وقت آخر- جاز كما نصَّ عليه في "الأم".
[قال: ولا يصح حتى يقول: كاتبتك على كذا، فإذا أدَّيت فأنت حرُّ، أي: أو ينوي بقوله: كاتبتك، الكتابة الشرعية، ويقبل العبد، وهذا نصه، وقد تقدم الكلام فيه في باب التدبير].
قال: ولا تصح إلا بالقبول، [ولا يجوز] عقدها على صفةٍ مستقبلة أي: سواء كانت معلومة كما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد كاتبتك، أو مجهولة كقوله: إذا قدم زيدٌ فقد كاتبتك؛ لأنه عقدي بطل بالجهالة فلم ينعقد بغير لفظ، ولم يصح تعليقه على شرط مستقبل؛ كالبيع.
قال: ولا على شرط خيار أي: ولا يصح اشتراط خيار فيها؛ لأن الخيار لدفع الغبن عن المال، والسيد يعلم أنَّه مغبون من جهة المال، والمكاتب مُخَيَّر بين أن يدفع المال أو لا يدفعه؛ فلا معنى للخيار في حقه.
قال: ولا يجوز على بعض عبدٍ إلا أن يكون باقيه حرّاً، هذا لفظ المزني، ووجهه: أنه مع بقاء الرّق [في نصفه] لا يتمكن من تحصيل النجوم؛ لأن لسيد النصف أن يمنعه من الاكتساب والسفر والغيبة لأجله كما هو ظاهر النص ها هنا، والصدقات [لا] تصرف إليه؛ كي لا يأخذ السيد نصفها بحق الملك، وذلك لا يجوز، وحينئذ يصير كما لو قال: كاتبتك على ألا تكتسب، ولا تأخذ من الصدقات.
وإذا كان باقية حرّاً [صح]؛ لأنه يتمكن من الاكتساب، وتصرف الصدقات
إليه، فيحصل مقصود العقد؛ ولأنه عقد الكتابة على جميع [ما فيه] من الرق؛ فأشبه ما إذا عقدها على جميعه وهو رقيق.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون مملوكاً لغير المكاتب كما سنذكره مصرحاً [به] في المسألة الثانية، أو يكون العبد مملوكاً فيكاتب بعضه، وهي المقصودة بالذكر هنا. ومن أصحابنا من قال: في الأخيرة قول مخرّج: أنه يجوز؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه قال في العبد المشترك إذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه: "فيه قولان؛ لأن شريكه وهو قد رضيا" كذا حكاه في "الشامل"، وقال في "البحر": "إن من قال بالأول فرّق بأن العبد إذا كان كاملاً له فقد تمكن من الكتابة على جميعه، بخلاف ما إذا كان مشتركاً.
وحكى الإمام أن بعض أصحابنا خرّج هذا وجهاً؛ قياساً على التعليق والتدبير، وفي تعليق القاضي الحسين أنه خرّجه من نصين للشافعي- رضي الله عنه:
أحدهما: أنه نصَّ على أنَّه لو كاتب عبداً في مرض موته ولا مال له سواه صحت الكتابة في الثلث.
والثاني: أنه قال: لو أوصى بأن يكاتب عبده بعد موته، ولا مال له سواه فتصح الكتابة [في] ثلث العبد إن رضي العبد، [فيكاتب ثلثه].
وأنه خُرِّج من النص هنا إلى مسألة الوصية والكتابة في المرض قولٌ: أن ذلك لا يصح أيضاً، وأن بعض الأصحاب أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن حالة الحياة مع الصحة تقبل من التكميل والسراية ما لا تقبله حالة الوفاة والمرض، فلو جوزنا في حال الصحة لأدَّى إلى أن تكون الكتابة على بعضه مقتضية لعتق كله، بخلاف المرض والوصية. نعم، لو كاتب في المرض بعض عبده، وكان في الثلث اتساع- كان كالكتابة في الصحة؛ فلا تصح على الأصح.
التفريع:
إن قلنا بالصحيح، فأدى المال عتق نصفه بالكتابة، ونصفه بالسراية، ثم
المكاتب يرجع [على السيد] بما دفع؛ والسيد يرجع على العبد بنصف قيمته كما قاله في "البحر"، والقياس: ألَّا يرجع عليه إلَّا بقيمة نصفه، وبينهما فرق ستعرفه في الصداق، والنصف الذي سرى إليه العتق لا يرجع السيد بقيمته على العبد؛ لأن سبب العتق جرى من سيده، فأشبه [ما لو] قال لعبده: إن دخلت الدار فنصفك حرُّ، فدخل- عتق جميعه على السيد.
وفي "الحاوي" وجه: أنَّه يرجع بجميع قيمته عليه؛ لأنه عتق في كتابة فاسدة.
قال ابن سريج: ومحل قولنا بعتق [إذا سمى] ما أدى بعد أداء حق سيده من كسبه، مثل أن يكون قد كاتبه على نصفه بعشرة، فأدى إليه من جميع كسبه عشرين، أمَّا إذا أدّى ما كوتب عليه قبل أداء حق سيده ففيه وجهان:
أحدهما: لا يعتق كما في الكتابة الصحيحة؛ لاستحقاقه بعضه بحكم الملك فلم تكمل الصفة.
والثاني: يعتقه؛ لأن في الفاسد يغلب حكم العتق بالصفة، وقد وجدت وإن لم يملك؛ كما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت حرُّ، فأعطاه، [وكان] مغصوباً.
وإن قلنا بالقول المخرَّج: فإن كان [بين العبد و] سيده مهايأة، فأدى النجوم من كسبه في نوبته- عتق النصف بالكتابة والنصف بالسراية، وإن لم تكن بينهما مهايأة، لكنه اكتسب، ووفر [على السيد] نصف كسبه، وأدّى من النصف الآخر النجوم- عتق، وإن دفع [إلى السيد] النجوم من جميع الكسب ففي عتقه وجهان في "البحر"، والسيد مخير بين أن يهايئه أو لا.
قال: وإن كان [عبداً بين] اثنين، فكاتبه أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه- لم يجز؛ لعلتين:
إحداهما: ما ذكرناه في مكاتبة بعض عبده.
والثانية: أن كتابة البعض تنقص قيمة الباقي؛ فيؤدي إلى الإضرار بالشريك.
قال البندنيجي: ولأبي العباس ما يدلُّ على الصحة. وسنذكر عن الإمام ما يوافقه.
ثم على الأول يكون الحكم في العتق عند أداء النجوم من نصف كسبه، أو من جميع كسبه، والتراجع كما ذكرناه من قبل، فإذا أدَّى المشروط من نصف كسبه، ودفع للذي لم يكاتب [النصف الآخر]-[عتق]، فإن كان قدر نصف الكسب قدر نصف قيمته فلا كلام، وإن كان أكثر قال البندنيجي: فالفاضل يكون بين المكاتب وبين سيده الذي لم يكاتبه وإن أدّى المشروط من جميع كسبه، ففي عتقه الوجهان السابقان، وهما محكيان هنا عن ابن سريج، وأضعفهما في "الشامل": حصول العتق، وقد حكاهما المراوزة قولين، ونسبوا قول المنع إلى رواية الربيع، وقول الحصول إلى نصه في كتاب ابن أبي ليلى، وأجراهما فيما لو قال: إن أعطيتني عبداً فأنت حرٌّ، فأعطاه مغصوباً، ثم إذا عتق سرى العتق إلى حصة الشريك إن كان سيد المكاتب موسراً، ولا يرجع على العبد بشيء.
قال: وإن كان بإذنه ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه من العلة الأولى، وهي امتناع صرف الصدقات إليه، وعدم قدرة العبد على الاكتساب بالمسافرة؛ فإنَّ إذن الشريك إنما يفيد رضاه بالضرر اللاحق به دون استقلاله بالتصرف والمسافرة، وهذا نصّ عليه في "الأم" واختاره المزني، فعلى هذا يكون الحكم كما لو كاتب بغير إذن شريكه.
والثاني: يصح؛ نظراً للعلة الثانية، وهي أن المنع من ذلك كان لأجل حقّ الشريك؛ فإذا رضى به فقد رضى بإسقاط حقه وإدخال الضرر على نفسه؛ فصح. وهذا ما نصَّ عليه في "الإملاء" على مسائل محمد بن الحسن، ونقله المزني مع الأول، فعلى هذا: يكون نصف العبد مكاتباً، والنصف مملوكاً للشريك، والكسب بينهما، والنفقة عليهما.
قال في "البحر": وهل يجوز صرف الزكاة إليه؟ فيه وجهان.
ولو طلب أحدهما المهايأة فهل تجب؟ فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما: نعم؛ كالقسمة. وأصل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم بين نسائه، وهذا: مهايأة قد أوجبها لنفسه وعليها.
والثاني: لا؛ لأنها تفضي إلى تأخير حقٍّ معجَّلٍ وتعجيل حقٍّ مؤخّرٍ، بخلاف القسمة، وفي قسمة الزوجات لا يمكن الجمع بينهن، ولابد من إفراد كل واحدة بحقها؛ فلزمت المهايأة.
ثم إذا وقعت المهايأة: إمَّا لزوماً أو جوازاً، وأدى النجوم من الكسب الحاصل في يومه- عتق، وإن أدّاها من نصف كسبه، ودفع إلى الشريك الذي لم يكاتبه النصف الآخر- عتق، وسرى العتق كما ذكرنا.
وإن دفع النجوم من جميع كسبه فمن الأصحاب من قال: في العتق وجهان أو قولان كما في الصورة السابقة، ومنهم من قال: لا يعتق وجهاً واحداً.
والفرق: أن الكتابة الصحيحة المغلب عليها حكم المعاوضة، بخلاف الفاسدة؛ فإن المغلب عليها حكم الصفة.
وقد حكى البندنيجي الطريقين وقال: إن الثاني هو المذهب، وبه جزم ابن الصَّبَّاغ.
وقد حكى الإمام عن بعض المحققين طرد القولين في نفوذ الكتابة بإذن الشريك، [في نفوذها بغير إذنٍ] وقال: إنه متجه منقح؛ لأن إذن الشريك لا يثبت للعبد حكم الاستقلال وجواز أخذ الصدقة؛ فإذن لا يبقى [إلا] تخيل تضرر الشريك إذا فُرِضَ نفوذ العتق.
وقد يُفرق بأن العتق المجرد له سلطان، وللكتابة يعرض الفساد والصحة، ثم الاستمرار والنقض، لكن الأول أرجح.
فرع: إذا صححنا الكتابة بإذن الشريك، فكاتبه أحدهما، ثم أراد الآخر مكاتبته- جاز من غير إذن المكاتب؛ لأنه لم يبق له حق يخشى فواته.
قال: وإن كاتباه لم يجز إلَّا على مال بينهما على قدر الملكين، فلو كان العبد
بينها نصفين، وشرطا أن يكون مال الكتابة بينهما أثلاثاً، أو كان بينهما أثلاثاً فشرطا أن يكون [المال] بينهما نصفين لم يجز؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع [أحدهما] بمال الآخر؛ فإنه إذا عجز اقتضى العقد أن يرجع أحدهما على من أخذ زائداً عن حقه بالقدر الزائد، وحينئذ يكون لانتفاع به قبل العجز بغير حق، ولا سبيل إلى ذلك، ولا فرق فيما ذكرناه بين أن [تجوز كتابة بعض العبد بإذن الشريك أو لا، كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره.
ومن أصحابنا من قال: إن المنع مبنيُّ على قولنا: لا يجوز أن يكاتب بعض عبده بإذن شريكه، أمَّا إذا قلنا: يجوز] لأحدهما أن يكاتب حصته بإذن شريكه، جاز ذلك؛ لأنَّ العقد يتعدد بتعدد البائع، وصار كما لو أفرد كل واحد منهما كتابة نصفه. وهذه الطريق اختارها القفال.
وقال الرُّويّانِي: إنها أشبه بكلام الشافعي- رضي الله عنه لأنه ذكر هذه المسألة في "الأم"، وذكر أنَّه لا يجوز، ثم قال: ولو أجزت هذا لأجزت أن ينفرد بكتابة حصته.
وذهب بعض أصحابنا [إلى] أنَّه إذا كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان فكاتباه على مال بينهما على قدر الملكين-[لم يجز؛ أخذاً بظاهر قول الشافعي- رضي الله عن-: ولا يجوز] أن يكاتباه حتى يكونا فيه سواء. وقال: إذا كان في ملكه سواء جاز أن يكاتباه على مال متفاضل بينهما.
ومنهم من قال: إذا تساويا في ملكه، وتساويا في المال، وكاتباه معاً- فهل يصح؟ فيه طريقان:
أحدهما: أن فيه قولين؛ لأن العقد إذا اجتمع في أحد طرفيه عاقدان جرى عليه حكم العقدين فصار كأنَّ كلَّ واحد منهما انفرد [به]، وفيه قولان.
والثاني: القطع بالصحة- وهو الصحيح- كما ذكره الشيخ؛ لأنه يكمل تصرفه إذا اجتمعا على الكتابة، ويجوز له الأخذ من الصدقات، بخلاف ما لو كاتبه أحدهما.
قال: وعلى نجوم واحدة؛ لأن أحدهما لو جعل نجمه الأول شهراً، والثاني شهرين مثلاً، وجعل الثاني نجمه الأول شهرين والثاني أربعة- لم يجز؛ لما ذكرناه من المعنى في الصورة قبلها، قال في "البحر": وهكذا لا يجوز أن يختلف جنس ما شرطاه من المال- وهذا بناه على الصحيح في منع التفاضل في المال [مع التساوي في العبد، أمّا إذا قلنا: يجوز التفاضل، جاز الاختلاف في النجوم وجنس المال] من طريق الأولى.
قال: وللمكاتب أن يفسخ العقد متى شاء؛ لأنه عقد لحظه فكان له فسخه متى شاء كالمرتهن، وهذا ما جزم به الماوردي، وقيل: ليس له؛ لأنه لا ضرر عليه في البقاء، وله الامتناع من الأداء؛ لأن الكتابة تعليق عتق بصفة- كما ذكرنا- والمعلق عتقه بصفة من جهته لا يكلف الإتيان بها ليترتب العتق عليها؛ فكذلك ها هنا، وهذا ما جزم به في "البحر" في موضع منه.
قال الإمام: وهذا في الحقيقة عكس الصواب؛ فإن التزام الكتابة وتجويز الامتناع من الوفاء كلام متناقض. والعراقيون وافقوه على تضعيفه، لكن برد علته، وقالوا: ما ادعاه قائله من أنَّه لا ضرر عليه في البقاء ممنوع؛ فإنه يتضرر بكون نفقته عليه، ويستفيد بالفسخ رفعها عنه، وإذا جاز له الفسخ كان له الامتناع [من [أداء المال] من طريق الأولى.
وحكى المراوزة وجهاً: أنَّه ليس له الامتناع] عند القدرة، وهو يشابه وجهاً حكيناه عن الماوردي في [أواخر] باب العتق فيما إذا علق عتق عبده على [مشيئته: أنه يجب عليه أن يشاء].
قال: وليس للسيِّد أن يفسخ إلَّا أن يعجز المكاتب عن الأداء أي: عند المحل، وإنما لم يجز له الفسخ قبل العجز؛ لأنها عقدت لحظ العبد دون
حظ السيد، وما كان هذا شأنه كان لازماً من جهة من لا حظ له كما قلنا في الرهن، بالنسبة إلى الراهن، ولأن الفسخ لو جاز له لم يبق العبد ببقائه على الكتابة، فيتكاسل في تحصيل النجوم؛ فيتعذر مقصود العقد، وإنما جاز له بعد العجز؛ قياساً على فسخ البائع بعجز المشتري عن الثمن.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع المكاتب: أنَّا إذا صححنا بيعه انفسخت الكتابة على رأي، [بناءً] على أنَّ المغلب في الكتابة حكم التعليق بالصفة، [وكذا إذا أعتقه وقلنا: إن المغلب فيها حكم التعليق بالصفة]، انفسخت الكتابة، وعادت الأكساب للسيد وجاز على هذا عتقه عن الكفارة.
وعلى المشهور: إذا أراد السيد أني فسخ الكتابة عند عجزه فالمعتبر أن يقول العبد: [قد] عجزت- كما قال الماوردي- فيترتب فسخ السيد بعده، وكما يجوز الفسخ عند عدم القدرة على أداء النجوم كذلك يجوز عند القدرة عليه، وامتناع المكاتب من الأداء، ويخالف البيع؛ لأن [العقد ثَمَّ لازم من جهة المشتري] فأمكن إجباره على الأداء، فاندفع الضرر، وها هنا العقد جائز من جهة المكاتب؛ فلا يمكن إلزامه الوفاء كما قلنا في عدم مطالبة المشتري بالثمن في زمن الخيار؛ فتعين الفسخ طريقاً لدفع الضرر.
قال الماوردي: ويشترط إذا أراد الفسخ أن يقول المكاتب: قد عجزت نفسي، ثم يقع فسخ السيد بعده، وهل يكون رضا المكاتب بأن يبيعه السيد فسخاً للكتابة؟ قال القاضي الحسين: نعم، وعليه ينطبق جواز بيع بريرة مع أنها كانت مكاتبة؛ لأنها كانت ساعية في البيع بين عائشة- رضي الله عنها ومواليها، والخيار في هذا الفسخ على التراخي، ولو صرّح بالإمهال، ثُمَّ عَنَّ له الفسخ عند حضور المكاتب، جاز، وعند غيبته سنذكره. ولا فرق في جواز الفسخ بالعجز أو الامتناع عن الأداء بين أن يكون في النجم الأخير أو الأول، [أو يتعين] أحدهما، كما صرّح به الروياني وغيره.
فروع:
إذا حلَّ النجم ومال الكتابة عرض، فسأل الإنظار إلى بيعه وجب إمهاله، وليس للسيد الفسخ، ولا يمهل أكثر من ثلاثة أيام، وكذا إذا كان ماله على مسافة لا تُقصر فيها الصلاة، وسأل الإمهال إلى إحضاره أُمهل، وكذا لو كان له مال على مَلِيءٍ وجب إمهاله ليستوفيه. ولو كان ماله على مسافة القصر، أو مؤجلاً، أو على معسر، أو لم يتمكن من بيع العروض في ثلاثة أيام- كما صرّح به القاضي الحسين والماوردي وغيرهما- لم يجب إمهاله، وللسيّد الفسخ والإنظار.
وقال الإمام: إن ظاهر ما ذكره الصَّيْدَلَانِيُّ فيما إذا لم يمكن بيع العروض لكسادها إلَّا بعد زمان: أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك. ولو كان له في ذمة السيد قدر مال الكتابة، قال القاضي الحسين: فإن كان من نوع النجوم تقاصا، وإن كان من غير جنسها فلا تقاصَّ، ولكن ليس للسيّد تعجيزه، بخلاف ما لو حلَّ النجم وعنده عروض. ولو حلَّ النجم في غيبة المكاتب، [وأراد] الفسخ فالذي حكاه البندنيجي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين، وبه قال البغداديون من أصحابنا وأبو إسحاق: أنه يرفع الأمر إلى الحاكم، وثبت عنده أنَّ له على المكاتب مال الكتابة، وأنه قد تعذّر عليه الأداء، فإذا فعل ذلك استحلفه الحاكم؛ لأنه قضاء على غائب، وهذه اليمين استظهار عند أكثر أصحابنا كما قال الماوردي.
ومنهم من قال: "إنها واجبة في فسخ الحاكم، وهو ظاهر كلام البندنيجي وابن الصباغ.
وقال البصريون من أصحابنا: للسيد أن ينفرد في حال الغيبة بالفسخ من غير حاكم كما يفعل ذلك في وجه المكاتب"، وهذا ظاهر نصه في "الأم" و"المختصر"، والمذهب في "النهاية"، وقال: إن العراقيين صححوه.
قال الأصحاب: وينبغي للسيّد أن يشهد على الفسخ في هذه الحالة حتى يأمن
عند حضور المكاتب جحوده؛ فإنه لو حضر ومعه المال، وأنكر فسخ السيد كان القول قوله، ولو كان للمكاتب في هذه الحالة مال حاضر لم يكن للحاكم أن يوفى النجوم عنه، بخلاف ما لو جُنَّ المكاتب، وله مال يفي بالنجوم وقد حلت، قال الإمام: وقلنا بعدم انفساخ الكتابة على الرأي الظاهر- وهو ما حكاه العراقيون- فإن السيد لا يفسخ الكتابة، والحاكم يوفى عنه النجوم ويعتق.
والفرق: أنه في هذه الحالة مولى عليه، وللمولى أن يفعل في مال المولى عليه ما فيه المصلحة، ومن مصلحة المكاتب العتق، بخلاف ما إذا كان غائباً؛ فإنه [لا ولاية] عليه، والحاكم إنما يقضى من حقوقه ما يجب عليه، وهو لو كان حاضراً لم يجب عليه القضاء؛ [فكذا في غيبته]، قال الإمام: وما ذكر من الوفاء عن المجنون فيه تأمّلٌ؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما [كان] يفسخ ولا يؤثر الأداء.
وقال في "الوسيط": إن المكاتب إذا جُنَّ وسلم المال إلى السيّد عتق؛ لأن فعل العبد ليس بشرط، بل إذا تعذر فعله فللسيّد أخذه.
ثم قال: هكذا أطلقه الأصحاب. واستشكل استقلال السَّيِّد بالأخذ عند إمكان مراجعة القاضي، والإشكال على مقتضى ذلك صحيح، وهو مطرد في حصول العتق بدفع المجنون؛ لأن فعله كلا فعلٍ، وما في الذمة يشترط في مُقْبِضه أن يكون ممن هو من أهله كما تقدم في البيع.
قال في "البحر" وغيره: ولا يجوز للسيّد في حال جنون المكاتب وادعائه عجزه أن يفسخ ما لم يأت الحاكم ويفعل ما ذكرناه من قبل؛ لأنَّ الحاكم قيم المجانين، ولو أن السيد لم يفسخ عند غيبة مال المكاتب في مسافة القصر، أو عند عجزه عن الأداء مطلقاً، ثم سافر العبد، [فعن للسيد] الفسخُ: فإن كان السفر بغير إذن السيّد كان له الفسخ في الحال، وإن كان عن إذن السيد قال البندنيجي: لم يكن له الفسخ في الحال إلَّا أن يحضر عند الحاكم، ويثبت عنده [الكتابة] والتبرع بالتأخير والرجوع، فإذا قامت البينة بذلك [حلف؛ لأنَّه قضاء على الغائب، فإذا قضى بما ثبت عنده كتب إلى حاكم البلد الذي [به المكاتب] بما حكم به عليه، فإذا ثبت [ذلك] عند الحاكم المكتوب إليه لم يخل المكاتب إمَّا أن يكون إذ ذاك عاجزاً عن الأداء، أو قادراً: فإن كان عاجزاً أرسل المكتوب إليه إلى المكاتب] ليعرفه بذلك، ويسلط السيد على الفسخ، وإن كان قادراً فإن كان للسيد وكيل بتلك البلدة فسلم المال إليه عتق، وإن امتنع من التسليم إليه فقد حكى الربيع أن للسيّد فسخ الكتابة قبل تمكن المكاتب من المسير إليه، وكذا إن كان الوكيل مأذوناً له في الفسخ [كان له الفسخ]، وحكى المزني أنَّه لا يتمكن السيّد من الفسخ قبل إمكان المسير إليه، وهو غلط عند الأصحاب. وقالوا: المذهب ما حكاه الربيع.
وإن لم يكن له وكيل كلفه الحاكم المسير لقضاء دينه في الأوقات التي جرت العادة فيها بالسير، [أو إنفاذه] مع غيره، فإن لم يسر، ولم ينفذ مع غيره النجوم، ومضت مدة يمكن فيها السير- كان للسيد الفسخ، ولم يكن له قبل ذلك. ثم إذا فسخ بشرطه، فحضر المكاتب، وأقام ببينة بأنه [كان] قد أدّى النجوم، أو أن السيد أبرأه- تبيناً عدم الفسخ، ويكفيه في البينة: شاهدان، ورجل وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة على قضاء الدَّيْنِ أو إبراء منه، كذا
حكاه العراقيون والقاضي الحسين.
وحكى الغزالي في النجم الأخير وجهاً: أنه لا يثبت إلَّا بشاهدين لترتب العتق عليه، والقاضي الحسين حكاه فيما إذا أقام بينة على أنه أعتقه مع وجه آخر أنّه يكفي في هذه الصورة أيضاً؛ لأن العتق في هذه الحالة أيضاً بمنزلة الإبراء عن النجوم، ولو أقام بينة أنه كان له مال ظاهر تبين فسخ الفسخ. [نعم]، لو كان مالاً خفيّاً [لا يعرفه] السيد، قال الإمام: فالفسخ نافذ.
قال: وإن مات العبد انفسخت الكتابة، أي: وإن خلف وفاء؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أَوْقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاٍق فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ". خرّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي:"إنه غريب". ولأنه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل العقد؛ كالمبيع إذا تلف قبل القبض.
وحكم قتل المكاتب حكم موته، سواء كان القاتل أجنبيّاً أو السيد. قال: وإن مات السيد لم تنفسخ؛ لأنه لازم من جهته فأشبه موت الراهن والبائع، وينتقل الملك فيه [إلى الوارث] إن قلنا بأن الملك في الرقبة للسيد- كما سنذكره- وهو الصحيح. ولو كان الوارث زوّج المكاتب انفسخ النكاح على هذا، وإن قلنا بأن ملك الرقبة ليس للسيد، قال القاضي الحسين: فلا ينفسخ.
قال: وعلى السيد أن يحط عن المكاتب بعض ما عليه؛ لقوله تعالى:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وهذا أمرُ وظاهره الوجوب.
وقد روى عن علي- كرم الله وجهه- موقوفاً [ومرفوعاً] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: "يُتْرَكُ لِلْمُكَاتَبِ، وَيُحَطُّ عَنْهُ رُبُعُ الْكِتَابَةِ" روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما أنَّه كاتب عبداً بخمسة وثلاثين ألفاً، فوضع عنه خمسة آلافٍ قال الشافعي- رضي الله عنه: أحسبه قال: "من آخر نجومه".
وروى عن ابن عمر أنَّه قال: في هذه الآية: يقول الله تعالى: ضعوا عنهم من مكاتبتهم.
وعن فضالة قال: كاتبني عمر- رضي الله عنه فاستقرض من حفصة مائتي درهم، فأعانني بها، فذكرت ذلك لعكرمة، فقال: هو قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].
فإذا ثبت هذا فلا خلاف أنَّه لا يجب عقيب العقد، ولو فعله لوقع الموقع، ويجب عند بعضهم وجوباً مضيّقاً بعد العتق، قياساً على المتعة؛ فإنها لا تجب إلَّا بعد الطلاق، وعند هذا القائل يكون وقت الوجوب الموسع من وقت وجوب الأداء إلى العتق، وما قبله وقت جواز له.
ومنهم من قال: إن وقت وجوبه المضيق بعد أداء معظم المال، وإشرافه على العتق في النجم الأخير. وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي، وبه قال أبو إسحاق وغيره، ورجحه في "البحر" أيضاً.
وعبارة بعضهم: أنَّه يجب إذا بقى عليه من مال الكتابة قدر ما يلزمه أن يدفعه إليه.
والفرق بين [ما نحن فيه] وبين المتعة: أن القصد بالدفع الإعانة على العتق، ومحلها قبل العتق؛ كما أنَّ الزكاة لمَّا كان القصد من صرفها إليه الإعانة على العتق كان محلها قبله، والقصد بالمتعة جبر كسرها بالطلاق، ومحله بعده.
وعلى هذا يكون الوجوب الموسع من [دخول] وقت وجوب الأداء إلى ذلك الوقت.
وقيل: إنما يدخل وقت الوجوب الموسع إذا استأدى منه شيئاً بعد العقد، ويكون وقت تضييقه عند آخر النجوم؛ لأن الله- تعالى- قال:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]؛ فلابد أن يحصل من جهة المكاتب شيء حتى يتناوله الأمر، وعلى هذا: وقت جواز الإيتاء من وقت العقد إلى حين الأداء، والقائل بخلاف هذا يقول: معنى قوله تعالى: {آتَاكُمْ} أي: أوجبه لكم على نفسه بالعقد، أو نعيد الضمير إلى الله تعالى.
وحكى القفال عن بعض أصحابنا أنه قال: إذا حط أو آتاه مالاً قبل آخر النجوم لا يجوز، بل يجب أن يحصل العتق بحطه [أو بإيتائه] قدر الواجب أن يؤتيه بعد العتق؛ ليحصل له كمال التمليك؛ فإن لم يحصل العتق به لا يكون قد قام بالواجب.
وفي قدر الواجب وجهان:
أحدهما- حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق-: أنَّه يعتبر قدره بقدر مال الكتابة، فيؤتيه بحسب ذلك.
وفي "الشامل" حكاية عن أبي إسحاق في "الشرح": أنَّه يختلف باختلاف الكتابة من الكثير بقدره، ومن القليل بقدره؛ كما نقول في المتعة تكون بحسب يساره وإعساره.
وهذا يفهم أن ما نحن فيه يختلف بيسار المكاتب وإعساره عند أبي إسحاق، وقد صرح بذلك الماوردي حيث حكى عنه أنه قال: إن ذلك يتقدّر بالاجتهاد من مال الكتابة كالمتعة. ثم قال: وإذا كان كذلك اعتبرت ثلاثة أمور:
أحدها: كثرة مال الكتابة وقلته؛ فيكون ما يعطى من الكثير كثيراً، ومن القليل قليلاً.
والثاني: قوة المكاتب وضعفه؛ فيعطى الضعيف الكسب أكثر، والقوي الكسب أقلّ.
والثالث: يسار السيد وإعساره؛ فيعطيه الموسر أكثر، والمعسر أقلّ.
ولو اتفقا على [أكثر من] ذلك أو أقل جاز، وإن لم يتفقا فالمرجع إلى الحاكم؛ كالمتعة.
و [الوجه] الثاني- وهو المنصوص عليه في "الأم"، والصحيح، وبه جزم القاضي الحسين-: أنّ للسيد أن يدفع إليه ما شاء مما يقع عليه اسم "المال" وإن كان حبَّة، لأنَّ الله- تعالى- لم يقدره بشيء؛ فاقتضى ذلك ما ذكرناه، بخلاف المتعة؛ فإن الله تعالى قدرها بحسب الموسر والمقتر؛ فلذلك اختلفت باليسار والإعسار.
والمستحب أن يضع ربع الكتابة؛ للخبر، وقيل: بل يستحب الثلث. وليس بشيء.
قال: فإن لم يفعل حتى قبض المال، ردّ عليه بعضه؛ لظاهر الآية.
قال بعضهم: ولأن "الإيتاء" يقع على الحط والدفع، إلَّا أنّ الحط أولى؛ لأنه أنفع له؛ لأنه لا يتكلف المشقة في تحصيله، ولأن الصحابة فسروه بالحط.
فلو لم يرد عليه بعض ما أخذ، ولكن ردّ عليه غيره، فهل [يجزئه ذلك؟] ينظر:
إن كان من غير الجنس، كما إذا كاتبه على دراهم فأعطاه دنانير، لم يلزم العبد القبول، وكذا لو أعطاه دراهم من غير التي أدَّاها إليه على رأيٍ لأصحابنا. نعم، لو رضى بذلك جاز في الصورتين.
ومن أصحابنا من قال: إذا دفع إليه من نوع ما قبض منه جاز، وإن لم يرض؛ لأنّ ذلك ليس بآكد من الزكاة، ولو عدل فيها من العين إلى جنسها جاز.
والقاضي الحسين أجاب بهذا الوجه؛ بناءً على أنَّ الإيتاء هو الأصل كما هو وجه، وقضيته: أن يكون الراجح خلافه؛ لأنّ القول بأن الإيتاء هو الأصل مرجوح- كما سنذكره- وعلى ذلك جرى البندنيجي وابن الصباغ والماوردي، وجعلوه ظاهر المذهب.
وحكى في "البحر" عن بعضهم أنَّ من قال بإجزاء الإعطاء من غير المدفوع فقد غلط؛ لأنه مخالف لظاهر الآية. ثم حكى أنّ القاضي الطبري قال: إن المشهور الإجزاء، وإن من قال بأنه لا يجزئ؛ أخذاً من قول الشافعي- رضي الله عنه:"ويعطيه ما أخذ"- فقد غلط؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه أراد: من جنسه لا من عينه، قال الروياني: وهذا أصح عندي.
وقال الإمام فيما إذا أعطى من غير الجنس: إني وجدت في بعض كلام الأئمة ما يدل على أنَّه يجزئ؛ لأن هذا يلحق بالمعاملات.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الحط هو الواجب؛ فإذا لم يفعله وجب الإيتاء، وهذا ظاهر نصَّ الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" حيث قال:"ويجبر [سيد] العبد على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئاً"، وعلى ذلك جرى بعض الأصحاب؛ فإنه لا فائدة في الأخذ منه، ثم الدفع إليه.
وبعضهم قال: الأصل في الوجوب الإيتاء، ومعناه: أنَّه إذا أدّى جميع النجوم يؤتيه السيد مالاً [يتجر فيه] أياماً، ليهيئ أمر نفسه، والحط يقوم مقامه.
وحكى القاضي الحسين وجهاً ثالثاً عن بعضهم: أنَّه يتخير: إن شاء آتى، وإن شاء حط. وهذا ما أورده البندنيجي، وكذلك الماوردي، لكنه قال: إذا أراد السيد أن يعطيه نقداً، وأراد المكاتب الحط- فقول المكاتب أولى؛ لأنه يريد تعجيل ما عليه.
قال القاضي الحسين: وفائدة الخلاف إنما تتبين في الكتابة الفاسدة؛ فإنّا إذا قلنا: إن الأصل هو الإيتاء، فهل يجب الإيتاء فيها؟ فيه وجهان. وإن قلنا: إن الأصل هو الحط، فلا خلاف أنَّه لا يجب.
فروع:
إذا أبرأ السيد المكاتب من جميع النجوم، فهل يجب أن يؤتيه شيئاً؟ فيه خلاف مأخوذ من إبراء المرأةِ الزوجَ من جملة الصداق قبل الطلاق الواقع قبل الدخول كما حكاه الرافعي [ثَمَّ؛ "وهو" إنما] يتجه إذا قلنا: إن وقت الجواز لا يدخل إلَّا بعد أداء شيء من النجوم؛ تمسكاً بظاهر الآية.
أمَّا إذا قلنا: يدخل وقته بالعقد، فالإبراء حصل في أوانه؛ فلا يتجه تغريمه شيئاً أصلاً.
إذا بقى في ذمة المكاتب أقلُّ ما يتمول، قال القاضي الحسين [في "تعليقه"]: فلا ينحط عنه من غير حطٍّ من جهة السيد، لكن إذا قلنا: إن الحط أصل والإيتاء بدل، فليس للسيد تعجيزه، وللعبد أن يرافعه إلى الحاكم حتى يحط عنه، فإن لم يحط فالقاضي يحط عنه نائباً عنه. وإن قلنا: الإيتاء [أصل، أو قلنا] بالتخيير بين الإيتاء والحط، فإذا بقي في ذمته أقل ما يتموَّلُ فللسيد تعجيزه، فإذا عجزه صار قِنّاً؛ فلا يجب الإيتاء.
وقال الإمام: هذا عندي غير صحيح، فإن المكاتب [إن] وجب عليه ما بقي، فله على السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاص.
وأيضاً: فإن الإيتاء إنما شُرع؛ حتى لا يعجز العبد بهذه البقية، وإذا شهد أخص مقاصد الحكم في أمر لم يسع مخالفته.
إذا مات السيد بعد القبض وقبل الإيتاء، قضى ذلك من تركته، فإن كان ورثته صغاراً دفع الحاكم [أو الوصي] إليه أقل ما يقع عليه الاسم. فإن كان على الميت دين زاحم المكاتب الغرماء، وقيل: إن ذلك كالوصايا؛ فيؤخر عن الديون، حكاه البندنيجي عن بعضهم؛ أخذاً من قول الشافعي: فإن مات السيد بعد قبض جميع الكتابة حاص بالذي له أهل الدين والوصايا.
وحكى أبو إسحاق المروزي [عن بعضهم] أنَّه قال: وإنما أجراه مجرى الوصايا، لأنه ليس بشيء محدود فيضرب به مع الغرماء، وإنما يمكن أن يضرب به مع الغرماء إذا كان له حد معلوم قال أبو إسحاق: والأول أشبه بمذهب الشافعي، رضي الله عنه.
ثم هذا إذا كان المال الذي آتاه المكاتب قد فُقِدَ، أما إذا كان موجوداً، أو قدر الإيتاء منه موجوداً تعين حقُّه فيه، وقُدّم على سائر الغرماء؛ كالبائع إذا وجد عين ماله قبل قبضه الثمن.
قال: ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه ما بقي عليه درهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ" خرجه أبو داود.
ولأن أحكامه إمَّا أن يغلب عليها [حكم] المعاوضات؛ فتجري مجرى البيع، أو حكم الصفات؛ فتجري مجرى العتق بالصفة.
فإن كان الأول، فالبيع لا يلزم فيه تسليم المبيع قبل تسليم جميع ثمنه، والعتق
في هذا المقام تسليم المعقود عليه.
وإن جرى مجرى العتق بالصفة لم يقع إلا بوجود جميع الصفة.
فرع: لو كاتبه على دينارين: دينار يؤديه بعدش هرٍ، ودينار يؤديه بعد شهرين، على أنَّه إذا أدَّى الدينار الأول عتق، وأدَّى الدينار الآخر وهو حرُّ- قال ابن سريج: كان فيه قولان: أحدهما: يفسد العقد؛ لأنه شرط ما ينافي مقتضاه، والثاني: يصح؛ لأنه لو كاتبه مطلقاً، وأدّى بعض المال، وأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عتقه- جاز، فإذا شرطه في الابتداء وجب أن يصح، قاله في "الشامل" و"البحر" وغيرهما.
قال: وإن كان [عبد بين] اثنين، فكاتباه [أي: معاً]، وأبرأه أحدهما عن حقّه أو مات أي: السيد المكاتب، وأبرأه أحد الوارثين عن حقّه- عتق نصيبه؛ لأنه أبرأه عن جميع ما يستحقه عليه؛ فعتق؛ كما لو كان هو المكاتب لجميعه فأبرأه عن النجوم".
قال وقوّم نصيب شريكه أي: في الحال، إن كان موسراً في أحدا لقولين؛ لأن المبرئ كان يمكنه ترك البراءة حتى يعتق الجميع أو يعجز الجميع، فلمّا عجل العتق بالإبراء قبل الأداء إلى شريكه، كان ذلك منه جناية أدّت إلى تبعيض حريّته؛ فوجب التقويم عليه، كما لو لم يكن مكاتباً.
ولأن العتق إذا تعلق بشيئين روعي أعجلهما، وهذا ما رجحه المزني في الصورة الأولى في باب من أبواب هذا الكتاب، وجزم به بعضهم في الصورة الثانية، كما حكاه في "البحر".
وقال في "الإبانة": إنَّه مخرج.
فعلى هذا يكون في وقت السراية الأقوال الثلاثة التي تقدّمت في كتاب العتق، كما صرّح به البندنيجي، وقال: إن قلنا: يسري بنفس اللفظ، قوَّمنا حصة الشريك وهو حرٌّ، وإن قلنا: لا يسري إلَّا بدفع القيمة، قوَّمناها مكاتباً.
قال دون الآخر؛ لما في التنفيذ في الحال من إبطال حقِّ الشريك
والمكاتب، كما ستعرفه.
وقد حكى البندنيجي عن بعضهم القطع به في المسألة الثانية، قال في "البحر": والصحيح طريقة القولين.
ثم على القول الثاني: لو أدَّى للشريك ما وجب عليه عتق، وكان اللواء عليه بينهما، وإذا لم يؤد وعجز وفسخت الكتابة، فقد جزم الشيخ أبو حامد وغيره في الأولى بأنه يقوم على الشريك المبرئ الآن، وهو ما نصَّ عليه في "الإملاء على مسائل مالك".
قال البندنيجي: ويكون العتق هنا يحصل بدفع القيمة قولاً واحداً، ولا يمكن أن نقول: إنه حصل باللفظ؛ لأنا قد أخّرناه عنه.
وحكى القاضي الحسين أنّا إذا قلنا: يقوم عليه بعد العجز، فهل نقول: يسري العتق في ذلك الوقت أوْ لا يسري إلَّا بدفع القيمة؟ فيه جوابان.
وما قاله أبو حامد وحكيناه عن النصِّ موافق لما حكيناه عن الروياني فيما إذا كان عبد بين اثنين، فدبراه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، وقلنا: إنه لا سري العتق عليه؛ فبطل التدبير في حصة شريكه- أنَّه "يسري"، وعلى هذا التقدير يكون ما أبداه الشيخ في "المهذب"[في هذه المسألة] احتمالاً لنفسه، وهو عين المنقول عن الأصحاب، وقد حكينا في التدبير عن رواية الإمام عن معظم الأصحاب: أنه لا يسري العتق المنجزم في الحصة [بعد بطلان التدبير في الحصة] الأخرى إذا لم نقل بسريانه في الحال؛ لأن السراية إذا لم تعمل في الحال لم تعمل في المآل؛ كما لو أعتق الشريك وهو معسر، وهذا يظهر جريانه هنا من طريق الأولى؛ لأن التدبير لا يمنع نقل الملك [في المدبر]، والكتابة تمنعه؛ فهي أقوى، وإذا منع الأضعف السراية حالاً ومآلاً، فالأقوى بذلك أوْلى.
وقد حكى الإمام أن صاحب "التقريب" حكى قول عدم السريان ها هنا مطلقاً
قولاً مخرّجاً لما ذكرناه، وقال: إنه متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب؛ فلا اعتبار به، وسأذكر عن الماوردي حكاية قول مثله في نظير المسألة.
وأمَّا في الصورة الثانية فقد حكى الأصحاب في السريان قولين:
أحدهما: المنع؛ لأن العتق في هذه الحالة وقع عن الميت بدليل أن الولاء له، وإذا وقع عن الميت لم يقوم على غيره، وهذا ما نقله المزني في "الجامع الكبير"، واختاره ونقله إلى "المختصر" في آخر باب كتابة بعض عبد، ونصره.
وقال أبو إسحاق: لا يختلف قول الشافعي- رضي الله عنه أن الولاء لأبيهما؛ فوجب ألا يقوم عليه.
والثاني- وهو الذي صححه الشيخ أبو حامد-: أنه يقوّم عليه كما قلنا في المسألة الأولى؛ لما ذكرناه من التعليل، وما ذكر من كون الولاء لأبيهما لا يدلُّ على عدم السريان والقويم؛ لأنه قد يقع [العتق] والولاء لشخص، وتكون القيمة على غيره؛ فإن أحد الشريكين لو قال لصاحبه: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه [فإنه يسري على المباشر للعتق، وكذلك لو قال أجنبي لأحدهما: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه] فإنه يسري إلى نصيب شريكه، ويكون العتق عن السائل والولاء له، والتقويم على المباشر، كذا حكاه في "البحر" وكذا ابن الصباغ في الصورة الثانية.
ثم مقتضى ما ذكره أبو إسحاق من كون الولاء لأبيهما؛ تفريعاً على عدم التقويم- أن يكون ثمرة الولاء بين الذي أبرأ وبين الذي لم يبرئ؛ لأن ثمرة ولاء أبيهما لهما، وقد حكى في "البحر" أن صاحب "التلخيص" قال في "المفتاح": "في الولاء قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يكون لمن أعتق على حكم الكتابة، يعني الابن المبرئ خاصة.
وابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين حكوا هذا الخلاف وهجين، ورجح الإمام الوجه الأول، وقال عن الوجه الثاني: إنه لا وجه له وإن كان مشهوراً.
ثم قضية ما سلمه الشيخ أبو حامد من كون الولاء يثبت لشخص وتكون السراية على غيره مع قوله بالسريان، يفهم أن جميع الولاء في جميع العبد يكون بين المشتري والذي لم يبرئ، وقد جزم ابن الصباغ والبندنيجي بأنَّ ولاء ما قوم عليه [له]، وولاء النصف الذي عتق بالإبراء فيه الوجهان السابقان، وطردا ذلك فيما إذا قلنا: إنه يقوم عليه في الحال، وفرعه الإمام على خلاف سيأتي في أنا في هذه الحالة هل نحكم بانفساخ الكتابة [أم لا؟] فإن حكمنا بانفساخها فالأمر كذلك، وإن قلنا بعدم الانفساخ فالحكم الذي يحب القطع به صرف الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدته، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقيا وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها، وهذا منه بناءً على [أن] الخلاف السابق [في الاشتراك] في فائدة ولاء النصف الذي حصل عتقه بإبراء أحد الابنين، وقد رق النصف الآخر، لعدم الوفاء، وتفريعنا على عدم السراية مأخذه خلاف حكاه البندنيجي وغيره في أن الكتابة قد انفسخت في البعض الذي رق، والكتابة إذا انفسخت في البعض مع بقاء الرق في الجميع هل تنفسخ في الباقي؟ وفيه قولان، والجمهور لم يبنوهما على هذا؛ فإن هذا البناء يقتضي عدم نفوذ العتق في نصيب الابن المبرئ، وقد اتفقوا على نفوذه فيه، كما حكاه [هو] أيضاً، وبناهما القاضي الحسين على أصل، وهو أن رق المكاتب هل يورث أم لا؟ وفيه قولان:
أحدهما: يورث؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه قال: لو زوج ابنته من مكاتبه برضاها، ومات السيد ينفسخ النكاح.
والثاني: أن رق المكاتب لا يورث.
وهذان القولان مبنيان على أصل، وهو أن الدين هل يمنع الإرث أملا؟ وفيه قولان:
أحدهما: نعم؛ لأن حق الغرماء يقدم على حق الورثة فيمنع.
والثاني: لا يمنع؛ لأن تعلق [حق] الغرماء بماله لا بعين ملكه، كما نقول في حق المجني عليه: إن تعلق حقه برقبة الجاني، لا بعدم ملك السيد في عبده، ووجه الشبه: أن الدين لما استقر في ذمته فتقدم حق الغرماء منع من جريان الميراث في المال الموروث، كذلك هنا تقدم استحقاق الموروث يمنع من جريان الملك فيه، وإذا قلنا: رق الكاتب لا يورث، فلا يسري على المبرئ العتق.
واستحسن الإمام هذا البناء، وأيده باتفاق الطرق على أن أحد الشريكين الكاتبين إذا أعتق نصيبه سرى، فلو لم يكن الخلاف في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، لما كان لترديد القول بالسراية إذا أعتق الوارث محلٌّ، والعتق في [هذا المقام] متضمن للإبراء كما صرح به الإمام وغيره، فإذا صرح بالإبراء كان من طريق الأولى أن يثبت هذا الحكم. ثم مقتضى بناء القاضي: أن الصحيح الجديد عدم السريان، كما أن الصحيح الجديد: أن الدين لا يمنع انتقال الإرث.
فرع: لا يجوز للمكاتب أن يدفع لأحد الشريكين شيئاً لم يدفع مثله للآخر في حالة دفعه إليه؛ لأنه قد يعجز فيؤدي إلى انفراد أحدهما بمال الآخر، فلو أذن أحدهما في دفع شيء للآخر يختص به فهل يجوز؟ فيه قولان منصوصان:
أحدهما- وهو اختيار المزني-: لا.
والثاني: نعم.
وحكى القفال أن بعض أصحابنا بنى القولين على جواز كتابة أحد الشريكين بإذن صاحبه، ومنهم من بناهما على جواز تبرع المكاتب بإذن سيده، وأصح القولين في "الحاوي" "والبحر": الجواز.
وعلى هذا: إذا كان المدفوع قدر نصيبه من مال الكتابة عتقت حصته [إذا
قبضها]، ولو امتنع من القبض أجبر عليه للقدرة على تحصيل العتق، ثم إذا حصل العتق عند القبض نظر: إن كان معه وفاء بنصيب الآخر دفعه وعتق، وإن لم يكن معه وفاء- قال أبو إسحاق: فلا يختلف المذهب أنه يقوم على شريكه.
وقال في "الحاوي": هل يقوم على شريكه إذا كان موسراً؟ فيه قولان.
وعلى قول التقويم هل يقوم في الحال أو بعد عجزه عن الكتابة؟ فيه الخلاف السابق، وإذا نظمت ذلك جاءك في حال التقويم ثلاثة أوجه، ثالثها: أنه لا يقوم في الحال، ويقوم بعد زوال الكتابة، وقول عدم التقويم مطلقاً في هذه المسألة هو عين الذي رواه صاحب "التقريب" فيما تقدم مخرجاً؛ إذ لا فرق بين حصول البراءة بالقبض أو بالإبراء، وعلى هذا لك أن تجري كلام الشيخ على ظاهره وتقول: إذا كاتباه، فأبرأه أحدهما عن حقه، أو مات فأبرأه أحد الوارثين عن حقه- عتق نصيبه، وقوَّم عليه نصيب شريكه في أحد القولين، ولا يقوَّم في الآخر، أي مطلقاً.
[ثم على] قول التقويم [فهل هو] في الحال أو بعد العجز عن الكتابة؟ فيه قولان.
ولو حصل القبض بالإجبار فكذلك الحكم؛ لأنه مختار في عقد الكتابة.
قلت: وكان يتجه أن يتخرج على خلافٍ ذكرناه فيما إذا ورث عيناً فاطلع بها على عيب، وكان عوضها بعض من يعتق عليه، فرد المعيب، فعاد إليه القريب هل يسري؟ وهذا لا يتقاعد عن أن يكون مثل ذلك؟
نعم، لو كان المجبر على القبول الوارث، فلا يسري العتق إليه اتفاقاً، صرح به الأصحاب.
فرع: إذا قلنا بالتقويم في الحال؛ ففي "البحر" في الأولى أن الكتابة تنفسخ، والمال الذي في يد المكاتب يسلم نصفه إلى الذي لم يعتق حصته، والنصف الآخر للمكاتب؛ لأن حصة ما عتق منه على الكتابة، وفي "الوسيط" حكاية وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني- وهو الذي [يقتضي] إيراده ترجيحه-: أنا على هذا القول نقدر انتقاله إلى المعتق من غير انفساخ في الكتابة، بل يعتق من جهة الكتابة عن المعتق؛ حتى لا يكون الولاء للشريك، ولا يؤدي إلى بطلان الكتابة.
قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ لأن السراية تتضمن انتقال الملك، و [ملك] المكاتب لا يقبل النقل على الصحيح.
قال: ويملك المكاتب بالعقد منافعه وأكسابه؛ لأن عقد الكتابة أثبت للسيد عوضاً في ذمة العبد، ومقتضاه: أن يملك في مقابلته ما وقع العقد عليه، وهو الرقبة؛ كي لا يبقى العوض والمعوض لواحدٍ، فملا تعذر ذلك؛ لكونه لو ملكها لعتق- كان تأثير العقد فيما هو أقرب إليها، وهي المنافع والأكساب؛ لكونه محجوراً عليه في استهلاكها في غير حق.
قال الماوردي: ثم هذا الملك مراعى يستقر بالأداء، ويزول بالعجز؛ كالمبيع في زمن الخيار.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنَّا لا نقول: إن المكاتب ملك أكسابه؛ بدليل أنه لا يمكنه أن يتبرع بها، وعلى ذلك جرى في "التهذيب" حيث قال: الكتابة معاقدة يتسلط بها العبد على أكسابه، فيجمعها ويؤديها إلى المولى فيعتق، ولا يملك مكاسبه ولا رقبته.
وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب "الأيمان" إيماء إلى ذلك؛ حيث قال: إذا حلف لا يركب دابة المكاتب، فركب دابة له، فإن قلنا: يملك، حنث، وإن قلنا: لا يملك، لم يحنث، وظاهر المذهب: أنه يحنث؛ لأنها في حكم ملكه، بدليل أنه يتصرف فيها دون [إذن] سيده. [انتهى]. لكن الذي دل عليه ظاهر النص الأول؛ حيث قال: إن المكاتب ممنوع من استهلاك ماله. وقد حكيت في ابن الصباغ عن كتاب "الأيمان" حكاية عن بعض الأصحاب: أن المكاتب يملك بالعقد رقبته، وإنما لا يعتق؛ لضعف الملك، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ دِرْهَمٌ" على ذلك، والمذهب خلافه.
قال: وله أن يبيعه ويشتري، ويستأجر، ويكري؛ لأنه عقد الكتابة ليحصل العتق بأداء النجوم، والأداء إنما يكون بالاكتساب، فمكن منه بجميع جهاته تحصيلاً للمقصود، واقتصر الشيخ على التمثيل بما ذكره؛ لدلالته على ما عداه من احتطاب واحتشاش [وغير ذلك] من طريق الأولى.
قال: وهو مع السيد كالأجنبي مع الأجنبي في البيع والشراء، والأخذ بالشفعة، وبذل المنافع؛ لأنه صار بعقد الكتابة كالخارج عن ملكه، وإنما له في ذمته مال.
قال: وله أن يسافر في أحد القولين، وهو الذي نص عليه في "المختصر"، وهو الأصح؛ لأمرين:
أحدهما: أن المكاتب مالك لتصرف نفسه؛ فلم يكن للسيد أن يحجر عليه بمنعه.
والثاني: أن للسيد عليه ديناً إلى أجل، وليس لصاحب الدين أن يمنع من عليه الدين المؤجل من السفر.
وليس له ذلك في الآخر، أي: من غير إذن السيد، وهو الذي نص عليه في "الإملاء" لأن فيه تعزيراً بالمال وتأخيراً لحقٍّ.
وقال أكثر الأصحاب- كما حكاه الماوردي-: إن كان السفر مما لا تقصر فيه الصلاة جاز، وإن كان مما تقصر فيه الصلاة لم يجز، وحملوا القولين على هذين الحالين.
قال: ولا يتزوج إلا بإذن المولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ" أي: زَانٍ، و"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ"، والكلام في ذلك مستوفىً في كتاب النكاح؛ فليطلب منه.
وليس له أن يطأ أمته بملك اليمين؛ لأمرين:
أحدهما: ضعف ملكه.
والثاني: خشية العلوق فتنقص قيمتها.
وقد ذكرنا [في أن] السيد [إذا ملَّك] عبده أمة أنه يجوز له أن يتسرى بها وإن لم يأذن له السيد على وجه، وملك المكاتب أقوى منه؛ فيتجه أن يجيء مثله هنا من طريق الأولى إذا نظرنا إلى المعنى الأول، وإن نظرنا إلى المعنى الثاني فينبغي أن ننظر إن كانت ممن تحبل فيمتنع عليه الوطء بدون الإذن، وبالإذن
قولان، وإن كانت ممن لا تحبل فيجيء [فيها] الخلاف المذكور في وطء الراهن، وقد حكاه الإمام عن شيخه تفريعاً على مسألة الرهن، ثم قال: وهو غير مرضي؛ من جهة أن المكاتب عبد، وهو ما لو وطئ يتصرف في نفسه بما يوهي القوة ويضعف البنية، ولا ضبط يُرْجَعُ إليه فيما يجوز من ذلك ويمنع؛ فالوجه حسم الباب.
قال: ولا يحابي ولا يهب ولا يعتق أي: ولو بثواب [ولا يكاتب ولا يضارب] أي: بماله، ولا يرهن أي: من غير ضرورة، ولا يكفر بالطعام والكسوة؛ لجريان أحكام الرق [عليه]، ولأن السيد إذا ملكه مالاً لم يكفر به، فكذلك هنا، ولأنه في ماله كالمعسر؛ بدليل عدم نفوذ تبرعاته.
قال: ولا ينفق على أقاربه غير ولده من أمته؛ لأنه مملوك [له] فنفقته عليه بحكم الملك [كغيره من] الأرقاء.
قال: ولا يشتري من يعتق عليه؛ لما في ذلك من تضرره بوجوب الإنفاق عليه، ومنعه من التصرف فيه وفي ثمنه، وضابط التبرعات المردودة: كل ما يحسب من الثلث إذا تبرع به في مرض الموت، أما إذا دعت حاجته إلى الرهن، فيجوز أن يرهن [كما يرهن] ولي اليتيم، صرح به الماوردي في كتاب الرهن، وقد ذكرناه في كتاب الحجر.
ولو أراد أن يرتهن بدين له نظر: فإن كان مستقرّاً جاز، وإن أراد أن يرتهن بدين مستحدث: فإن كان قرضاً كان كولي المحجور عليه على ما مضى، وإن كان بيعاً: فإن كان قد نُقِدَ لم يجز، وكان المبيع نفسه مرهوناً، وإن كان نسيئةً فهل يجوز أن يبيعه نسيئة أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ فعلى هذا يكون كولي المحجور [عليه] في أخذ الرهن فيه.
والثاني: لا يجوز، كذا قاله الماوردي في الرهن.
وقال البندنيجي: ثم إن المذهب جواز البيع بثمن مؤجل. وحكى ها هنا عن الشافعي- رضي الله عنه أنه لا يجوز البيع بدين، وإن كان الربح أضعاف الثمن، وسواء كان بالدين رهن أو ضمين أو لا، وكذلك حكاه الماوردي عن نصه في "الأم"، وأنه علله بأن الرهني هلك، والحميل يهلك، والغريم يفلس.
قال البندنيجي: قال الأصحاب: بلى، يجوز أن يبيع ما يساوي مائة حالة بمائة وعشرين:[مائة] حالة مقبوضة، وتبقى العشرون إلى مدة.
قال الروياني: وللمكاتب أن يشتري بمؤجل إذا كان المبيع يساوي ذلك مؤجلاً.
وقال القاضي الحسين: إنما يجوز [بشرط أن يشتريه بما يساويه حالّاً، وإنه يجوز] أن يبيع ما يساوي عشرة بعشرين إلى أجل، ويأخذ على ذلك رهناً، ويجوز أن يكون مقارضاً عن غيره. وله أن يبيع بشرط الخيار إذا قبض الثمن.
ويجوز أن يقر بالبيع والشراء والقرض ما دام مكاتباً؛ لأنه قادر على الإنشاء، صرح به البندنيجي وغيره.
وإذا جنى جناية توجب المال فسيأتي الكلام فيها، وإذا اشترى وباع لا يجوز [له تسليم] ما يبذله قبل [قبض مقابله] إلا أن يكون في المجلس؛ لأن ذلك مما يعسر ضبطه.
قال في "البحر": "ولهذا قال بعض أصحابنا: يصح منه السلم الحال ويتسلم المعوض في المجلس".
وحكى الإمام جواز السلم نسيئةً على وجه، ثم قال: "وهو هوس مع منع البيع نسيئة، وكنا نود لو وجدنا مذهباً في جواز البيع نسيئة؛ لما قررناه فيه من الغبطة، كما يجوز لولي اليتيم، فإذا لم نجده وجب طرد الباب.
وما ودَّه هو [ما] حكيناه عن الماوردي والبندنيجي من قبل.
قال: وإن أذن له السيد في شيء من ذلك؛ ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن المكاتب ناقص الملك، والسيد لا يملك ما بيده؛ فلا يصح ذلك باجتماعهما؛ كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها، ولأن الله- تعالى- له في ذلك حق فلا يفوت، وإن رضي به السيد.
وهذا [ما رواه] الربيع في مسألة الهبة.
والثاني: يصح؛ لأن المنع كان لحقه، فزال بإذنه كالمرتهن إذا رضي بسقوط حقه. وهذا ما نص عليه في "الأم"، ورواه المزني في مسألة الهبة، وهو الأصح في جميع الصور.
وحكى الإمام عن الصيدلاني طريقة أخرى، فقال: إن قلنا: إن العبد لا يملك، فلا يصح شيء من تبرعات المكاتب وإن أذن له السيد، وإن قلنا: إن العبد يملك، فهل يصح بالإذن؟ فيه القولان، قال الإمام: وهذا ضعيف؛ فإن القولين في نفوذ تبرعاته بالإذن منصوصان في الجديد.
وهذه الطريقة تقتضي أن يكونا في القديم، ثم القولان جاريان؛ سواء قلنا: إن العبد يملك، أو لا.
وحكى الروياني عن أبي إسحاق الجزم بصحة شراء القريب بالإذن؛ لأنه حصل له في مقابلته شيء، وضعف بأن هذا لو كان مقصوداً لجاز بدون الإذن، ومحل الخلاف في الهبة إذا أذن فيها وفي القبض، والقولان جاريان فيما إذا وهب من سيده شيئاً وأقبضه.
وحكى الإمام عن شيخه والعراقيين طريقة أخرى جازمة، بأنها تصح قولاً واحداً، كما لو عجل له النجم الأول؛ فإنه ينفذ ولا يعد ذلك تبرعاً، وإن كان
فعل مثله مع الأجنبي معدوداً من التبرعات.
ثم إذا قبض السيد الهبة: فإن كانت تقتضي الثواب، قال الماوردي: وجبت المكافأة فيها على السيد يدفعها إلى مكاتبه، أو يحتسب بها من مال كتابته. وإن قبل بسقوط الثواب فيها؛ رُوعي حال المكاتب: فإن أدى مال الكتابة من غيرها استقر ملك السيد على الهبة، وإن [عجز و] كان في الهبة وفاءٌ بما عليه؛ ففي رجوع المكاتب بها – ليؤديها في كتابته، ويعتق بها وجهان، ووجه الرجوع: أن مال الكتابة مستحق للسيد في كتابته، فبأي وجه صار إليه استحق به العتق، والقولان جاريان عند بعضهم فيما [إذا] أذن السيد في التكفير بالعتق، ومنهم من منع؛ لما فيه من ترتب الولاء، كما حكاه القاضي الحسين، وممن جزم بالمنع البندنيجي، مع أنه حكى القولين فيما إذا أعتق بإذن السيد عبداً لا عن الكفارة.
وفي "الشامل" أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أعتق عن سيده [أو عن غيره متبرعاً بإذن سيده] كان فيه قولان، والصحيح: الصحة، وإذا أعتق عن نفسه بإذن سيده، فالصحيح من القولين عدم النفوذ؛ لأجل الولاء. والقولان جاريان فيما إذا أذن له في وطء أمته كما ذكرناه، وبناهما الماوردي على قوليه: أن العبد هل يملك إذا مُلِّك؟ ومقتضى هذا البناء: أن يكون الصحيح المنع، وعلى هذا إذا وطئها وأحبلها لا حد عليه ولا مهر، وسيأتي بقية الأحكام.
وإذا جوزنا شراء القريب بالإذن، فهل يجوز للمكاتب قبل عتقه بيعه؟ فيه وجهان:
اختيار الشيخ أبي إسحاق: لا.
واختيار ابن أبي هريرة: نعم.
قال: وإن وصى له بمن يعتق عليه – أي: عند حريته – وله كسب يفي بنفقته – جاز أن يقبل؛ لأنه يحصل له بذلك كمال ومنفعة من غير ضرر.
قال: ويقف عتقه على عتقه؛ كولده من أمته؛ لا يجوز له بيعه، نص عليه في "الإملاء"، وبه قال أبو إسحاق، كما حكاه البندنيجي؛ لأن بيع الآباء ممنوع.
وقال ابن أبي هريرة: إنه يجوز؛ لأنه عبد قن فهو كالأخ والعم. وحكاه الإمام عن حكاية الشيخ أبي علي في "شرح الفروع"، وأنه [طرده] في بيع الولد، ثم قال: ولم أر من حكاه إلا الشيخ، وأنه لا يجوز إلا عند إذنه؛ فإنه لو صح للزم قياسه تجويز بيع الولد الذي تأتي به جاريته منه، فإن طرده كان خارقاً للإجماع، وإن لم يطرده كان ناقضاً لمذهبه، ومقتضى تفريعه: أنه يجوز شراؤهما.
فرع: إذا صار القريب الذي تملكه بالوصية زمناً أنفق عليه؛ لأنه من مصالح ماله، ولو كان زمناً في الابتداء، لم يجز أن يقبل الوصية بغير إذن السيد، وبالإذن قولان، وحكى الماوردي وجهاً: أنه يجوز من غير إذن السيد؛ لاحتمال زوال المانع من الكسب.
ولا خلاف أن هذا القريب إذا جنى، ليس للسيد فداؤه كالشراء حرفاً بحرف، وله بيع جميعه في الجناية، أو بقدر ما يفي بأرشها.
قال: وإن أحبل جاريته، فالولد مملوك يعتق بعتقه أي: وإن كان الوطء بغير الإذن؛ لأنه ولد [بين] مملوكين، والملك فيه لأبيه؛ لأنه ولد أمته وإنما عتق بعتقه؛ لما ذكرناه في باب العتق، وقد تقدم أنه لا يجوز له بيعه، ولا فرق [فيه] بين أن يخشى العجز لو لم يبعه أو لا يخشى.
وعن الإصطخري: الجواز فيما إذا خشي العجز، والمذهب في "الحاوي" قبيل باب الاستبراء: الأول.
ولو جنى جناية، تعلق الأرش برقبته، وجاز بيعه.
قال الإمام حاكياً عن العراقيين: إنه يباع جميعه وإن كان [الثمن] زائداً عن الجناية.
وحكى عن المراوزة: أنه لا يباع منه إلا بقدر أرش الجناية، وهذا ما حكاه في الزوائد عن النص في "الجامع الكبير".
وحكى عن الشيخ أبي حامد وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: أن الأرش لا يتعلق برقبته ولا يباع؛ لأن الشرع قد منع من بيع الآباء والأبناء، وفي "الشامل": أنا إنما نبيع الجميع عند تعذر بيع البعض.
قال: وفي الجارية قولان، قال أبو العباس: كما لو وطئ أمة الغير بشبهة، ثم ملكها، وسيأتي توجيههما.
وقال الشيخ أبو حامد: إن هذين القولين أصلان بأنفسهما، وليسا من غيرهما؛ لأنها علقت بمملوك في ملكه؛ [فلا تشابه] بينهما، ويجوز بيع هذه الجارية قبل العتق كما قاله في "البحر" في باب عتق أم الولد.
وحكى عن ابن أبي أحمد: أن أم الولد لا تباع إلا في ثلاث مسائل، هذه إحداها، والثانية: المرهونة، والثالثة: الجانية إذا أحبلها.
قال: وإن أنت المكاتبة بولد من نكاح أو زنى ففيه قولان:
أحدهما: أنه مملوك للمولى يتصرف فيه؛ أي: بالبيع وغيره؛ لأن الكتابة عقد يلحقه الفسخ مع بقاء الملك للسيد؛ فلا يثبت حكمه في الولد كالرهن.
والثاني: أنه موقوف على عتق الأم؛ لأن الولد يتبع الأم في سبب الحرية كما يتبعها في الحرية كولد أم الولد، ولأن الولد من كسبها فيقف على عتقها
كمالها، وهذا هو الأصح.
وقال الشافعي – رضي الله عنه: إنه أحب إليَّ.
وعلى هذا فروع.
منها: إذا قتل الولد، فإن كان القتل خطأ أو من حر، [في قيمته] قولان:
أحدهما: أنها لأمه؛ لأنه من كسبها، فكان [بدله لها]؛ كما لو قتل عبدها.
والثاني: أنه للمولى، وهو الأصح؛ لأنه تابع لأمه، والأم لو قتلت كانت قيمتها للسيد؛ فكذلك قيمة الولد. وعلله أبو إسحاق بأن الولد لم يَجْرِ عليه عتق ولا هو ملك للأم، وإنما هو ملك لسيده، وإنما هو وقف على الحرية والرق، ولأن السيد لو أعتقه عتق، فلو كان كسباً لأمه تستعين به في كتابتها لما جاز أن يعتقه [السيد].
ولو كانت الجناية عمداً توجب القصاص، فعلى الأول: لها القصاص، وهل لها العفو؟ إن قلنا: الواجب القصاص عينا، فنعم، وإن لم يأذن فيه السيد، وإن قلنا: الواجب أحد الأمرين، فلا يجوز بدون إذن السيد، وبإذنه قولان.
الثاني: لو كانت الجناية على الطرف فقولان:
أحدهما: أنه لأمه.
والثاني: أنه موقوف على عتقها.
الثالث: لو اكتسب مالاً فقولان منصوصان:
أحدهما: أنه لأمه.
والثاني: أنه موقوف.
وقيل: إنه [يكون] للسيد؛ [بناءً] على أن القيمة له، قال في "البحر": وليس بشيء.
وقال أبو إسحاق: "إن قول الشافعي لا يختلف إذا كان الولد حيًّا: أن الأم
[لا] تأخذ ما في يده، [ويكون موقوفاً]، وزعم بعض أصحابنا أنه في حياته فيه قولان:
أحدهما: للأم.
والثاني: موقوف، ولا نص فيه للشافعي –رضي الله عنه – نعلمه.
الرابع: نفقة الولد إن كان كسوبا فمن كسبه، وألا فهي متفرعة على الأقوال في كسبه لمن يكون؟ فإن قلنا: لأمه، فعليها، وإن قلنا: للسيد، فعليه، وإن قلنا: يكون موقوفاً، فوجهان:
أحدهما: على سيده؛ لأنه على ملكه.
والثاني: في بيت المال من سهم المصالح؛ لأنه محتاج إليه.
الخامس: إذا أشرفت المكاتبة على العجز، فإن لم يكن في سكب الولد وفاء بأداء مال الكتابة، وقلنا: إنه موقوف – لم يدفع إليها، وإن كان فيه وفاء فقولان.
ولو أراد السيد عتقه، فإن قلنا: كسبه له، أو موقوف، والمكاتبة إذا أشرفت على العجز لا تنتفع بكسبه – نفذ عتقه، وإن قلنا: كسبه للمكاتبة، أو قلنا: إنه موقوف، وإذا أشرفت على العجز يدفع إليها – لم ينفذ؛ لان فيه إضراراً بها وتعطيلاً لكسبها، وهذه طريقة الماوردي والبندنيجي.
قال أبو إسحاق: يعتق الولد قولاً واحداً، نص عليه في "الأم"، وقال بعض أصحابنا: لا ينفذ عتقه فيه إذا قلنا: ما في يد الولد للام. وليس بشيء.
قال في "البحر": وهذه [الطريقة] أصح، وكتابة السيد له كعتقهن وولد ولد المكاتبة حكمه حكم أمه.
قال: ولا يجوز للمولى بيع المكاتب في أصح القولين، وهو الجديد، وقد ذكرناه في البيع بفروعه، وبنى القاضي الحسين القولين على أن المغلب في الكتابة حكم الصفة أو المعاوضة؟ فإن قلنا بالثاني منعنا، وإن قلنا بالأول جوزنا.
والوصية بالرقبة مع صحة الكتابة، أطلق الأصحاب القول بفسادها، حتى لو
عجز [أو أدى] المال لم يسلم للموصي له شيء، وهذا تفريع على منع البيع، أما إذا جوزناه فالوصية أولى، صرح به القاضي الحسين، وقد تقدم فيما إذا أوصى بعبد إنسان أن الوصية تصح على رأي، ومقتضى هذا: إذا عجز المكاتب قبل موت الموصي أن تصح الوصية، وتدفع للموصى له، ويجوز أن يقول: أو صيت له برقبة المكاتب إذا عجز كما حكاه البندنيجي وصاحب "البحر" عن "الأم"، وجزم القاضي الحسين بالمنع في هذه الصورة، وذكر البندنيجي والإمام الوجهين فيما لو قال: أوصيت بهذا العبد لفلان إن ملكته يوماً.
وحكى الإمام وجهاً ثالثاً: أن الوصية تصح في المكاتب، ولا تصح في [الوصية بعبد] الغير إذا ملكه.
قال: ولا يبعُ ما في ذمته أي: من النجوم في أصح القولين؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وذلك غرر، ولأنه غير مستقر؛ لقدرة العبد على إسقاطه، فإذا لم يجز بيع المسلم فيه مع لزومه فهذا أولى، ولأن مال الكتابة غير لازم؛ فلا يجوز أن يعقد عليه بيع لازم لتنافيهما.
والقول الثاني- قال أبو إسحاق: أومأ إليه في القديم -: أنه يجوز؛ لأنه يملك ما في ذمة المكاتب؛ فصار كسائر أمواله، وعلى هذا: فالفرق بينه وبين المسلم فيه: أن هذا ثمن، والمسلم فيه مبيع، والثمن يسامح فيه، بخلاف المبيع.
والجمهور لم يثبتوا هذا قولاً، وقالوا: لا نعرف له غير الأول، وإنما نص في القديم على جواز بيع الرقبة.
التفريع:
إن قلنا بالصحة، فإذا قبض المشتري النجوم عتق المكاتب، وكان الولاء للبائع جزماً، وإن قلنا بمقابله فقبضها فهل يعتق المكاتب؟ قال في هذا الباب: إنه يعتق، وقال في باب آخر: إنه لا يعتق. فقال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: أن ذمة العبد تبرأ ويعتق؛ لأن السيد سلطه على القبض، وأطلق الإذن للمكاتب بالدفع؛ فكان بمنزلة الوكيل. وهذا ما قال الماوردي: إنه مذهبنا.
والثاني: أنه لا يبرأ ولا يحصل العتق.
ولا فرق على هذا بين أن يصرح السيد للمكاتب بالدفع أو لم يصرح كما حكاه البندنيجي.
وقال أبو إسحاق: القول الأول محمول على ما إذا صرح بالإقباض، والثاني محمول على ما إذا لم يصرح.
ثم إذا عتق العبد بذلك وجب على المشتري رداً ما أخذ – إن كان باقياً – على البائع، وبدله إن كان تالاً، فإن كان بدله من جنس الثمن، وقد أتلف البائع [الثمن] – جاءت أقوال التقاص الآتية، وإن قلنا بعدم البراءة وجب عليه رده – إن كان باقياً – على المكاتب، وبدله إن كان تالفاً، والبائع لا يطالب غير المكاتب بالنجوم.
وحكى القاضي الحسين القولين في حصول العتق بقبض النجوم عند بيعها فيما إذا باع رقبة المكاتب وقبض النجوم، وأفسد القول بحصول العتق في هذه الصورة بأنه ثم سلطه على قبضها.
فرع: إذا جوزنا بيع النجوم فالاعتياض عنها من طريق الأولى، وإن منعنا البيع فهل يجوز الاعتياض عنها؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره.
قال: ويجوز أن يوصي بما في ذمته؛ لأنه إذا جازت الوصية بما لا يملكه في الحال: كثمرة النخلة، وحمل الجارية [الذي سيحدث] [فَلأَنْ يجو هنا والملك ثابت له من طريق الأولى.
[قال]: فإن عجز المكاتب عن أداء المال على الموصى له كان للورثة فسخ الكتابة؛ لأن حقهم متعلق بالعين، وحق الموصى له متعلق بالذمة]، فكان
حقهم آكد.
قال في "الأم": وهكذا الحكم فيما لو أوصى برقبة المكاتب لشخص إذا عجز عن أداء النجوم، وبالنجوم لأخر - كان للموصى [له] بالرقبة عند العجز الفسخ، وليس للموصى له بالنجوم المنع.
قال الإمام: والمتعاطي لتعجيزه في هذه الحالة الحاكم إذا [تحققت الواقعة عنده].
وقال ابن الصباغ: في هذا نظر؛ لأن الحق للموصى له؛ بدليل أنه إذا ابره عتق، ولا حق لصاحب الرقبة فيه؛ [فكيف يقدر بتعذره] على الفسخ؟!
وفي "التهذيب" وجه: أنه لا يصح إبراء الموصى له، وهو من تخريج القاضي الحسين.
فرع: إذا دفع بعض النجوم، ثم عجز عن الباقي - كان للورثة تعجيزه، وما قبضه الموصى له يسلم له. قاله الماوردي وغيره.
قال: وإن كاتب أمة لم يملك تزويجها إلا بإذنها؛ لما ستقف عليه في كتاب النكاح، ولا يجوز له وطؤها، لأن الوطء إنما يستباح في زوجيَّة أو ملك تام، وليس هاهنا واحد منهما، ولأنه عقد عليها عقداً لا يعود إليه بسببه ارش الجناية عليها؛ فلم يكن له بعد ذلك وطؤها كما لو باعها.
قال: فإن وطئها، لزمه المهر أي: للمكاتبة؛ لأنه وطء، لا حد فيه؛ لشبهة الملك، فوجب به المهر لمستحق المنافع وهو المكاتبة، كما لو وطئ الموصى له بالرقبة دون منفعتها الجارية [المذكورة].
ولا فرق في ذلك بين [أن تكون] مكرهة أو مطاوعة. [نعم، إن كانت مكرهة لا تعزير عليها، ويجب عليه إن كان عالماً بالتحريم، ويجب عليها إن كانت مطاوعة] وعَلِما.
ومن الأصحاب من خرج قولاً في حالة الطواعية: أن المهر يسقط، وهو الذي صححه صاحب "المنهاج"، وهو مخالف لنص الشافعي – رضي الله عنه: في "الأم"، كما حكاه ابن الصباغ.
والطواعية مع الشبهة لا تقدح في وجوب المهر؛ كما في النكاح الفاسد، وهذا ما صححه المعظم.
وبنى الماوردي الخلاف على أن المرتهن إذا وطئ المرهونة بإذن الراهن، هل يجب عليه مهر؟ وفيه قولان، وقال القاضي الحسين: إن قلنا هناك: يجب، فهاهنا [أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب]، فهاهنا قولان؛ بناءً على تبرعات المكاتب.
وقال القاضي: إن قول المنع لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – في شيء من كتبه، والقائل به خرجه من قول الشافعي – رضي الله عنه – في "المختصر": إن أكرهها فلا مهر لها؛ فدل على [أنه إذا وطئها مطاوعة] لا مهر لها.
وفرق بينها وبين المنكوحة نكاحاً فاسداً بأنها لم تمكن إلا على أن لها مهراً، وهذه مكنت غير طامعة في مهر:
ثم على الصحيح: لا يجب لها إذا تكرر الوطء [منه] سوى مهر واحد، نص عليه في "الأم". نعم، لو دفعه إليها، ثم طرأ [بعده] وطء آخر وجب، وستقف على ما ذكرته في شيء يتعلق بذلك في كتاب الصداق.
ثم إذا وجب المهر، فإن كان من جنس النجوم جرت أقوال التقاص.
قال: وإن أحبلها صارت أم ولد له؛ لأنها مملوكة علقت بولد حر من مالكها، والاستيلاد فيها لا يبطل حق أحد؛ فكانت أم ولد له كما لو لم تكن مكاتبة.
واحترزنا بما ذكرناه عن وطء الجارية المرهونة والجانية بدون إذن المرتهن والمجني عليه؛ حيث لا تكون أم ولد على قولٍ.
ولا يجب عليه في هذه الحالة قيمة الولد إلا على قولنا: إن ولدها موقوف عتقه على عتقها، وإنه إذا قتل لا تكون قيمته للسيد.
قال: فإن أدت المال عتقت، وصحبها كسبها؛ لأنها عتقت بحكم الكتابة.
وإن مات السيد قبل أن تؤدي عتقت بالاستيلاد، وعاد الكسب إلى السيد"؛ لأنها عتقت [بحكم الاستيلاد].
وجزم البندنيجي وابن الصباغ والروياني بأن السيد إذا مات عتقت، وكانت الأكساب لها، وتبعها الولد؛ كما لو أعتقها في حياته، وكذا جزم به في "التهذيب" بعد أن حكى وجهين عن الأصحاب في أنها في هذه الحالة عتقت عن الاستيلاد أو عن الكتابة؟ وصحح الثاني.
وقال القاضي الحسين: إنا إذا قلنا بعتقها عن الاستيلاد عاد الكب للورثة –كما حكاه الشيخ – وبنى على الوجهين في أنها عتقت عن الكتابة أو عن الاستيلاد.
أما إذا علق عتق عبده بدخول الدار، ثم كاتبه، ثم دخل الدار – عتق.
ثم إذا قلنا بمذهب القفال، وهو أن المكاتبة إنما عتقت عند موت السيد بالكتابة، فهاهنا يعتق العبد عن الكتابة.
وإن قلنا: إن المكاتبة عتقت بالاستيلاد، إما لكونه حصل العتق بسببه، أو لكونه متقدماً – كما راعاه بعضهم – فهاهنا لا يقع العتق عن الكتابة؛ لأن من أوقعه ثم عن الاستيلاد نظر إلى كونه السبب، فهاهنا السبب التعليق، ومن [أوقعه ثم عن الاستيلاد]؛ لكونه متقدماً فالتعليق هنا متقدم [عليها]، وجزم بأنه إذا كاتبه ثم علق عتقه بدخوله الدار، فدخل – أنه يقع العتق عن الكتابة؛ كما لو نجز عتقه أو أبرأه.
فرع: لو أتت هذه المكاتبة بولد بعد الاستيلاد من نكاح أو زنَى فهو ولد أم ولد وولد مكابتة، فيتبعها [في] الاستيلاد قولاً واحداً، وهل يتبعها في العتق بالكتابة؟ فيه قولان، إن قلنا: لا يتبعها، فلا يعتق إذا أدت مال الكتابة، ويعتق بموت السيد.
آخر: إذا وطئ السيد أمة المكاتبة وجب عليه المهر جزماً، وصارت الجارية
أم ولد له، ووجب عليه قيمة الجارية للمكاتبة قال في "البحر": ولا يجب عليه قيمة الولد؛ لأنه قد ملك الأم بالتقويم، فإذا أتت بولد بعدما صارت أم ولد لم تلزمه قيمته.
قال: وإن حبس السيد المكاتب مدة، لزمه أجرة المثل في أصح القولين؛ لأن المنافع تضمن بالأجرة لا بالمثل، وتخليته مثل تلك المدة في القول الآخر"؛ لأنه دخل معه في العقد على أن يمكنه من التصرف في مدة فلزمه الوفاء بها.
والقولان جاريان فيما لو باعه السيد، وقلنا: لا يصح بيعه، واستولى عليه المشتري، [أو غصبه] واستخدمه حتى مضت مدة، كما حكاه البندنيجي والطبري عند الكلام في منع بيع المكاتب.
وكذا هما جاريان فيما إذا حبسه سلطان، أو ظالم، أو مرض، أو سبي.
وحكى الإمام عن العراقيين: أنا إذا قلنا عند حبس السيد له: يمهل، فلو حبسه غاصب، فهل يمهل على هذا القول؟ فيه وجهان.
وقد حكى البندنيجي في موضع آخر فيما إذا سبى المكاتب طريقين:
أحدهما: جريان الخلاف.
والثاني: القطع بالقول الثاني؛ إذ لا تقصير.
وحكى القاضي الحسين أن السيد إذا قهر المكاتب مدة، ثم ظفر المكاتب بالحاكم ورفع إليه القضية –كان للحاكم أن يوجب على السيد أجرة المثل:
فإن كان فيها وفاء بعتقه عتق، وإن لم يكن فيها وفاء فما حكمه؟ فيه قولان:
أحدهما: للسيد أن يعجزه.
والثاني: يضرب له مدة بقدر ما كان في يده. ثم قال: وهذا قول غريب. ثم شبه الخلاف بالخلاف المذكور فيما إذا اشترى شيئاً بشرط الخيار الثلاث، ثم مات قبل انقضائها، ولم يطلع الوارث على ذلك حتى انقضت: هل يضرب له قدر تلك المدة أم لا؟
[ثم] إذا قلنا: يضرب للعبد مدة، فالأجرة في هذه الحالة إذا كان الحبس من أجنبي تكون للسيد.
قال: وإن جنى عليه [أي]: بأن قطع طرفه مثلاً لزمه أرش الجناية؛ لأنه معه كالأجنبي، لكن هل يلزمه الأرش في الحال أو بعد الاندمال؟ فيه قولان في "الشامل" يأتي مثلهما في الكتاب – إن شاء الله تعالى – فإن قلنا: يجب في الحال، فإن كان من جنس النجوم ومال الكتابة حالٌّ جرت أقوال التقاصّ، ثم إن اندملت الجراحة [فلا كلام، وإن سرت إلى النفس فقد صار الجرح قتلاً، فإن كان الموت قبل أداء النجوم] انفسخت الكتابة؛ لان السيد لو قتله لانفسخت [الكتابة]؛ فكذلك هنا، وإن كان بعد أداء النجوم وعتقه لزم السيد كمال الدية: فإن كان [له] وارث سلمت له، وإلَاّ فهي لبيت المال، ولا يرثه السيد؛ لأنه قاتل، بخلاف ما إذا كان الموت قبل العتق؛ فإن عود المال إلى السيد ليس بطريق الإرث وإن كان لا يجب [الأداء في] الحال، فإن اندملت الجراحة وجب الأرش، وإن سرت بعد العتق وجبت الدية، وإن سرت بعد العتق وجبت الدية، وإن سرت قبل العتق انفسخت الكتابة.
فإن قيل: الرقبة ملك السيد، فإذا جنى عليها فقد جنى على ملكه؛ فوجب ألَاّ يجب [عليه] الأرش.
قيل: وجب؛ لأن ذلك عوض ما تعطل من منافعه بقطع يده، ولأن السيد يأخذ
مال الكتابة بدلاً من نفس المكاتب؛ فلا يجوز أن يجمع له [بين البدل والمبدل.
فرع: إذا جنى أجنبي على المكاتب جناية خطأ كان] الأرش له دون السيد، وإن كانت توجب القاص كان للمكاتب أن يقتص على الصحيح من المذهب.
وحكى عن الربيع: أنَّه خرج قولاً: أن للسيد منعه [؛ لأنه ربما عجز فعاد إلى السيد ناقصاً.
قال أبو إسحاق: وهذا لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – وإنما خرّجه من عنده، وليس بصحيح؛ لأن القصاص حق المكاتب؛ فلا يجوز للسيد منعه]، وإن جاز أن يتعلق به حق كما لو جنى على عبد المفلس؛ فإن له أن يقتص من غير إذن الغرماء.
قال: وإن جنى المكاتب عليه جناية خطأ فدى نفسه؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فكان له ذلك كما يبذله في طعامه وشرابه.
قال: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية في أحد القولين؛ لأن الأرش إن كان أقلّ فقد أخذ تمام حقه، وإن كانت القيمة أقل فهو في هذا المقام كالقِن، والقن إذا جنى كانت جنايته معلقة برقبته؛ فإذا منع [من] بيعها بسبب عقد الكتابة لم يلزمه أكثر من قيمتها، وبأرش الجناية بالغاص ما بلغ في [القول] الآخر؛ لأن حق السيد يتعلق بذمته؛ لامتناع تعلقه بالرقبة لكونها ملكه، وإذا كان في الذمة وجب وفاء جميعه مما في يده كدين المعاملة، وليس للسيد في هذه الحالة أن يمتنع من قبول الفداء إذا كان الأرش زائداً على قيمته، كما حكاه الشيخ أبو حامد، وهو ظاهر كلام الشيخ، وتوجيهه ما ذكرناه.
وقال القاضي أبو الطيب: إن ذلك ينبني على القولين فيما إذا وهب لسيده شيئاً هل تصح الهبة أم لا؟ فإن قلنا: لا تصح، لم يكن له أن يفدي نفسه بما زاد على القيمة، وللسيد الامتناع من قبض الزائد، واختار ابن الصباغ الأول؛ لعدم إمكان فداء نفسه إلا ببذل ذلك.
قال في "الإبانة": ولو لم يَفِد نفسه حتى عتق كان للسيد أن يبيعه بأرش
الجناية بالغاً ما بلغ، ولا يقتصر على قدر قيمته؛ لأنه وجب له في ذمته دون رقبته فأشبه مال المداينة.
قال: وإن لم يفْدِ نفسه كان للمولى أن يعجزه، أي: ويفسخ الكتابة دفعاً للضرر عنه، وهكذا الحكم فيما لو كانت الجناية عمداً، وعفا السيد على مالٍ، أمَّا إذا لم يعف وأراد القصاص فله ذلك، وكذا للورثة إن كانت الجناية على النفس خطأ أو عمداً، فإذا استوفاه بطلت الكتابة. وجزم في "الإبانة" بأن السيد ليس له أن يعجزه لأجل الجناية؛ فإنه لو عجزه لسقط أرشها؛ إذ يصير عبداً قنًّا، والسيد لا يثبت له على عبده شيء، وهذا ما جعله القاضي الحسين المذهب، وحكى عن العراقيين: أن للسيد أن يعجزه حتى يصير قِنًّا، وتنفسخ الكتابة، وأنَ نَصَّ الشافعي – رضي الله عنه – يدلُّ عليه، وحكم الوارث في ذلك حكم الموروث إذا قلنا: إن الديّة تثبت لهم ابتداءً، وإن قلنا: ثبتت تلقياً، فقد حكى القاضي على قول المراوزة فيه وجهين.
فرع: إذا كان مع المكاتب ما يوفي به الأرش، ونجوم الكتابة أدَّى [ذلك] وعتق، وإن لم يكن معه ما يفي بأحدهما فلا يخفى حكمه: أن للمولى تعجزيه، لكن التعجيز يكون بالنجوم دون الأرش، صرح به في "الإبانة" وقال: إنَّه إذا عجز ثم عتق هل يتبعه بالأرش؟ فيه وجهان، ويظهر أن وجه التتبع لا يجيء فيما إذا عجزه لأجل امتناعه عن غرامة الأرش مع قدرته عليه؛ لأن العجز ثَمَّ كان لأجله، وإن كان معه ما يفي بأحدهما فللسيد أن يقول: لا أقبضه إلا عن الأرش دون النجم، ثم أعجزه، فإن أخذه عن آخر النجوم عتق وبقي الأرش في ذمته، وليس للسيد تعجيزه به، ولو أخذ السيد المال مطلقاً، واختلفا في أن المقبوض عن مَّاذا – فالقول قول المكاتب في تعيينه كما في سائر المواضع، ذكره القفال.
وقيل: يحتمل أن يكون القول قول السيد؛ قاله بعض الخراسانيين.
قال: وإن جنى على أجنبي – فدى نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية؛ لأنه منع نفسه من البيع بالكتابة، فلزمه أقل الأمرين؛ كما أن السيد لما أن منع [من بيع] أم الولد بالاستيلاد ضمن جنايتها بأقل الأمرين، وظاهر كلام الشيخ أن القول الآخر في المسألة السابقة لا يأتي كما صرح به البندنيجي، [وكذا] صاحب "البحر" حيث قالا: فدى نفسه بأقل الأمرين قولاً واحداً: [وكان الفرق ما ذكرناه من علة القول الثاني في المسألة السابقة، بخلاف الأجنبي]؛ فإن الموجود في حقه إنما هو منع البيع، ومنع البيع لا يمنع من تعلق الحق بالرقبة، وتكون فائدته تغريم البائع قيمتها إذا كانت قدر أرشه أو دونه كما في أم الولد، لكن الروياني وغيره عللوا جريان قول الفداء عند جنايته على الأجنبي بأن المكاتب في التقدير يبتاع نفسه فلا يجوز بأكثر مما تساوي، ويفارق هذا إذا كانت الجناية على السيد؛ حيث أجزنا له أن يفدي نفسه بأرش [الجناية] إذا كان زائداً على القيمة على قول؛ لأن الزيادة تكون هبة من السيد، وهو يملك ذلك بموافقته، وهاهنا تكون هبة من الأجنبي، ولا يملك ذلك إلا بإذن السيد، فإن أذن [له] جاز. وكلام البندنيجي في الفرق بمعناه، وهذا يقتضي التسوية بين المسألتين؛ لأن قبول السيد الهبة قد ذكرنا أنه بمنزلة إذنه في الهبة من غيره، وهو ما حكاه ابن الصباغ حيث قال: إن القولين السابقين في المسألة قبلها يجريان في هذه المسألة، وإن الأرش إن كان زائداً على القيمة؛ فإن دفعه السيد من ماله فذاك، وإن أذن في دفعه من مال المكاتب خرج على القولين في تبرعاته. وسكت عما عداه. ويظهر أن يقال بعد ذلك: إن جوزناه فلا إشكال، وإن لم نجوزه فيكون كما لو امتنع المكاتب من الفداء.
قال: فإن لم يفد نفسه، بيع في الجناية أي: إن كانت قيمته بقدر أرشها [أو أنقص]، وانفسخت الكتابة؛ لأن الكتابة تمنع البيع لحق المالك، وتقبل الفسخ؛ فجاز لفسخ بالبيع لأجل [حق] المجني عليه عند تعينه طريقاً لوفاء حقه؛ كعقد الرهن.
ثم كلام الشيخ يفهم أنَّه لا حاجة إلى التعجيز، بل يتبين بالبيع انفساخ الكتابة قبله كما نقول في بيع الرهن في أرش الجناية: لا يحتاج إلى فك الرهن.
وقال القاضي الحسين: للسيد أن يعجزه ويباع في الجناية، أو يفديه. وهذا لا ينافي ما ذكرناه، ثم إذا بعنا بعضه وعتق ما بقي منه بالأداء فهل يسري على السيد إذا كان موسراً؟ فيه وجهان.
وقال في "البحر" قبيل باب كتابة بعض عبد [:إنه] لا يسري قولاً واحداً.
فرع: لو أعتق السيد المكاتب قبل أداء الأرش والنجوم، وله مال يفي بذلك هل يستحق [عليه] الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، كما لو لم يكن للمكاتب مال؛ فإن الأرش يسقط.
والثاني: له أن ستوفيه من المال الذي في يده؛ كما له ذلك قبل العتق، قاله البندنيجي.
فرع: إذا جنى المكاتب جنايات، ثم أدّى مال الكتابة وعتق، فبكم يفدي نفسه؟ فيه قولان:
أحدهما: يفديها بالنسبة إلى كل مجني عليه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية؛ لأن كل جناية اقتضت ذلك، وقد منع منها بأدائه وعتقه؛ فضمن ذلك كما لو انفردت.
والثاني- وهو الأصح في "الشامل"، واختاره المزني -: أنه يفديها بالنسبة إلى الجميع بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جميع الجنايات؛ لأن الجنايات متعلقة بالرقبة، فإذا أتلفها لم يضمن إلا الرقبة؛ كما لو كانت الجناية واحدة، فعلى هذا نَقْص القيمة على قدر الجنايات.
ولو لم يعتق والحالة هذه فبكم [يفدي نفسه؟] قال الشيخ أبو حامد حكاية عن النص: إنه يفديها بما ذكره صاحب القول الأول في المسألة قبلها.
وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي إسحاق أنَّه قال: لا يعرف للشافعي – رضي الله عنه – إلا أنه قال: "يفدي نسه بأقل الأمرين"، ثم قال أبو إسحاق: والأشبه عندي أن يكون في ذلك القولان كما [ذكرناه] في المسألة السابقة؛ لأنه منع نفسه من البيع بعدم العجز، كما منع من العتق.
ومن أصحابنا من قال: يتعين هنا ما حكاه أبو حامد.
والفرق: أن الرقبة باقية، وفي الصورة السابقة قد تلفت بالعتق؛ فوجبت قيمتها.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل بما إذا عجَّزه، وفسخ الكتابة، واختار السيد الفداء؛ فإنه مانع من البيع مع قيام الرقبة، ومع هذا لا يضمن لكل منهم إلا أقل الأمرين.
فرع: لو أعتق السيد المكاتب إمَّا بالإبراء عن نجوم الكتابة، أو بصريح العتق، وقد جنى جنايات – قال الفوراني: فهو كما لو اختار الفداء، لكن فيما يلزمه في هذه الحالة طريقان:
أحدهما: لا يلزمه إلا الأقل من قيمته مرة واحدة وأرش جميع الجنايات؛ إذ لا سبيل إلى تسليمه للبيع، فهو كمما لو قتل العبد الجاني.
والثاني: أن فيه قولين كما في اختياره الفداء، [وهذا ما حكاه البندنيجي].
وهكذا لو كانت الجناية من أبي المكاتب، ثم أبرأ السيد المكاتب أو أعتقه؛ فإن أباه يعتق بعتقه، وفيما يلزم السيد الخلاف، ولا نزاع في أن الكاتب إذا عتق بأداء النجوم لا يلزم السيد الفداء؛ لأنه مقهور [على القبض] شرعاً.
فرع: إذا أقرّ المكاتب بجناية الخطأ قبلت على الأصح في "الإبانة"، وفيه وجه: أنَّه لا تقبل. فعلى الأول: إذا رقَّ، وكان قد قال: إن أرش الجناية ألْف، فقال السيد: بل خمسمائة – فقولان فيمن القول قوله.
قال: وإن كاتب على عوض محرم أو شرط فاسد، فسدت الكتابة، وبقيت الصفة.
صُورَةُ المسألة الأولى: أن يقول: كاتبتك على خمرٍ، أو خنزير، أو ميتةٍ، أو على هذا الحر، فإذا أديت فأنت حرٌّ.
وصورة الثانية أن يقولك كاتبتك على عشرين ديناراً – مثلاً – تؤدي في رأس هذا الشهر نصفها، وفي رأس الشهر الذي يليه النصف الآخر، بشرط أن يثبت لي الخيار في الفسخ، أو: بشرط أنَّك إذا أدّيت النجوم يتأخر عتقك.
وإنما فسدت الكتابة، وهي قوله: كاتبتك على كذا، وبقيت الصفة وهي قوله: فإذا أدّيت فأنت حرٌّ؛ لأنَّ هذا عقد اشتمل على معنى المعاوضة ومعنى تعليق العتق بالصفة، والمعاوضة ينافيها ما ذكرناه؛ فبطلت، والصفة لا ينافيها فبقيت.
والمكاتب يملك بهذا العقد أكسابه، قال البندنيجي: وليس على أصلنا: يملك بعقد فاسد كما يملك بالصحيح إلا هذا.
قال: وللسيد فسخها؛ لأنه لم يرض بالصفة إلا ليسلم له العوض، [ولم يسلم له]؛ فكان له الفسخ دفعاً للضرر.
ويجوز فسخ هذه الصفة بالفعل كالبيع وغيره، وبالقول مثل أن يقول: أبطلت كتابة عبدي، أو: فسختها، ونحو ذلك؛ لأنها تثبُت في ضمن عقد، فغلب حكمه عليها، بخلاف الصفة المجردة؛ حيث لم يجز الرجوع فيها بالقول، ولا يفتقر هذا الفسخ إلى الحاكم، والأولى أن يشهد عليه.
فرع: إذا وقع عقد الكتابة في الشرك على خمرٍ أو خنزيرٍ، فقبض بعضه، ثم أسلما – وقع العتق بقبض الباقي، ورجع السيد عليه بجميع قيمته، بخلاف نظير المسألة في الصداق، والفرق بينهما مذكور ثَمَّ.
ولو كان العقد قد جرى على خمرٍ وعلى نقدٍ، فقبض الخمر جميعه في الشرك – فوجهان:
أحدهما: [أنَّه] إذا قبض النقد حصل العتق، ولا تَرَادَّ، ويجعل المقبوض في الشرك كأنّه لم يذكر.
والثاني: يحكم بالفساد؛ فإذا أدى النقد عتق وترادَّا، حكاه الماوردي.
فرع: لو قال للمكاتب كتابة صحيحة: إن أعطيتني ديناراً فأنت حرٌّ، فأعطاه ديناراً – عتق بدفعه، ويغلب حكم الكتابة فيه، ويصير العتق فيها على عوضٍ فاسدٍ؛ فيلزم المكاتب قيمته، ويرجع بما أداه من قبل مع الدينار الذي عتق به.
قال: فإن دفع المال قبل الفسخ إلى الوكيل أو الوارث لم يعتق؛ لأن العتق في هذه الكتابة إنما يحصل بالصفة، ولم توجد، بخلاف الكتابة الصحيحة؛ فإن المغلب فيها حكم المعاوضة.
ولأن في مسألة الوارث الصفة المجردة تبطل بالموت مع قوتها، فهذه مع ضعفها من طريق الأولى.
قال: وإن دفعه إلى المالك أي: في محله، عتق؛ لوجود الصفة، ويتبعه ما فضل من كسبه؛ لأن للفاسد حكم الصحيح، وصحيح هذا [العقد] يتبع الأكساب؛ فكذلك فاسده، وإن كانت جارية تبعها ولدها؛ إذا قلنا: إنه في الصحيحة يتبعها، وهذا ما جزم به العراقيون.
وقيل: إن هذه الكتابة لا تستتبع فاضل الأولاد والأكساب، أمَّا إذا دفع النجوم قبل محلها، فهل يعتق؟ فيه وجهان:
أصحهما: المنع؛ لأنَّ الصفة لم توجد.
قال: ويرجع إلى المولي عليه بالقيمة؛ لأنه أزال ملكه عنه بعوض، ولم يسلم له، وقد تعذر الرجوع إلى ملكه؛ فرجع إلى بدله وهو القيمة، كما في البيع الفاسد، وتعتبر القيمة وقت وجود الصفة؛ لأنها حالة الإتلاف.
قال: ويرجع هو على المولى بما دفع؛ لأنه دفعه عما عليه؛ فثبت له الرجوع،
وبه قال القاضي الحسين وغيره.
وهذا [العقد] يوافق الكتابة الصحيحة في أربعة أشياء، ويخالفها في عشرة أِياء، ويوافق تعليق العتق بالصفة في ثلاثة أشياء، ويخالفه في أربعة أشياء:
أمَّا موافقته للكتابة الصحيحة:
ففي العتق بالأداء.
وفي استتباع الكسب والولد على المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وبه جزم الإمام وقال: لم أر أحداً من الأصحاب [تشبث بمنع] ذلك، وكلام القاضي الحسين – كما ذكرت لك – متشبث به.
وفيما لو وطئت بشبهة وجنى عليها، فلها المهر والأرش؛ لأنَّ ذلك من الكسب.
وفي وجوب نفقته على نفسه كما صرح به الإمام وغيره.
وفي عدم انفساخها بجنون المكاتب عند العراقيين، وكذا عند المراوزة على الأصح.
وحكى القاضي الحسين وجهاً: أنها تنفسخ بجنونه؛ لجوازها كالوكالة والمضاربة.
وأما مخالفته الصحيحة:
ففي أن السيد لو مات انفسخت.
وكذا لو جن أو حجر عليه انفسخت [على الأصح]، وبه جزم العراقيون؛ لكونها جائزة؛ كالوكالة.
[ومقابله]: - حكاه القاضي الحسين -: أنها لا تنفسخ.
وفي أن للسيد فسخها متى شاء.
وفي عدم عتقه بإبرائه عن النجوم وقبض الوكيل.
وفي التراجع.
وفي عدم وجوب الإيتاء فيها على الصحيح، وفيه وجه حكاه المراوزة.
وفي كونه لا يعتق بما أداه من سهم المكاتبين على قولٍ رواه الربيع في "الأم"، ورواية المزني تخالفه، وهي التي اختارها الماوردي.
وفي كون الوطء لا يحرم على السيد إذا كانت أمة على رأيٍ.
وفي منع معاملة السيد له على أحد الوجهين.
وفي عدم وجوب الاستبراء عند فسخها على أحد الوجهين.
وأمَّا موافقته تعليق العتق بالصفة:
ففي [حصول] العتق عند وجوها.
وفي بطلانها بموت السيد.
وفي كون الإبراء لا يؤثر في تحصيل العتق.
وأمَّا مخالفته لها:
ففي استتباع الأكساب والأولاد.
وفي التراجع.
وفي القدرة على فسخها بالقول، وبطلانها [بموت] السيد [وطرآن] سفهه.
قال: فإن كانا من جنس واحد" – أي: وعلى صفة واحدة – سقط أحدهما بالآخر في أحد الأقوال؛ لأن الحقين إذا تساويا فلا فائدة في قبض كل واحد منهما ماله؛ فسقط، ألا ترى أنّه إذا كان لرجل على وارثه دين، ومات فإنه يقاص به من حقه، ولا يكلف قبضاً وإقباضاً؟! فكذلك هاهنا، فعلى هذا إن بي لأحدهما على صاحبه فضل رجع به.
ولا يسقط في الثاني، أي: سواء تراضيا بذلك أم لا؛ لأنه في معنى بيع الدين بالدين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
ولا يسقط في الثالث إلا برضا أحدهما؛ لأن من عليه الدين له أن يقبضه من حيث شاء، فإذا رضي أحدهما فقد وجد القضاء منه.
ولا يسقط في الرابع إلَاّ برضاهما؛ لأنه إبدال ذمة بذمة؛ فلم يصح إلَاّ برضاهما كالحوالة.
ومحل الخلاف كما قال في "الشامل" و"البحر" - إذا كان ما في الذمتين من الدراهم والدنانير، فلو كان من غيرهما لم يجر الخلاف.
قال البندنيجي: وأصحابنا لا يختلفون في ذلك، ولا فرق في ذلك بين أن يكون مما له مثل أو مِمَّا لا مثل له، وهم في ذلك يخالفون منصوص الشافعي رضي الله عنه في ذلك لا عن قصد، ولكن لقلة نظرهم في كتابه؛ فقد نصَّ في باب الجناية على المكاتب ورقيقه من "الأم": أن القصاص يقع في الطعام، فقال: لو حرق السيد للمكاتب مائة صاع من حنطة مثل حنطته، والحنطة التي على المكاتب حالة - كان قصاصاً، وإن كره المكاتب، [فإن كانت خيراً] لم يكن قصاصاً؛ إلَاّ أن يرضى من له الجود أن يكون قصاصاً، فقد نصَّ على الأقوال في كل ما له مثل إذا ثبت في الذمة.
وحكى في "رفع التمويه على التنبيه" وجهاً آخر: أن الأقوال تأتي في كل ما يثبت في الذمة من مثليِّ ومتقوم.
والأقوال تجري في سائر الديون المتساوية في الصفة والحلول والتأجيل.
فرع: نصَّ في "الأم" على أنه إذا كان ما على المكاتب حالا من آخر نجومه؛ فوجب [له] على السيد مثله بسبب جناية، ثم عاد السيد فجنى على المكاتب جناية أخرى - كانت الجناية جناية على حرٍّ، فإن كان في مثلها القصاص اقتصّ [من السيد]، فإن قال: لم أعلم أنه عتق لما صار له على مثل الذي بقي لي عليه؛ لم يقبل منه؛ كما لو قتل رجلاً كان عبداً فعتق، ثم قال: لم أعلم بعتقه.
قال الربيع: وفيه قول آخر: أنّه يؤخذ منه دية حرٍّ، ولا قود للشبهة.
قال: وإن أوصى بالمكاتب أي: كتابة فاسدة، وهو لا يعلم بفساد الكتابة - ففيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأن الظن لا يغير موجب الحقيقة، والكتابة الفاسدة لا تمنع
التصرف.
والثاني: لا يصح؛ لأنه إذا لم يعتق أنَّه ملكه كان متلاعباً بالوصية، والخلاف جارٍ فيما لو باعه وهو لا يعلم بفساد الكتابة – أيضاً – كما صرح به الإمام، وحكى أن منهم من صحح الوصية ومنع البيع، أمَّا إذا كان عالماً بالفساد صح ذلك وجهاً واحداً.
وقيل: على القولين، وهو ظاهر نصه في "المختصر".
ووجه المنع: أنّ الكتابة الفاسدة كالصحيحة في فروع العتق بالأداء؛ فكانت كهي في امتناع التصرف، والصحيح – وهو الذي نصّ عليه في "الأم" -: الأول.
قال: وإن أسلم عبدٌ لكافر أمرناه بإزالة الملك فيه؛ دفعاً للذل عن المسلم، وإن كاتبه ففيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه، فاكتفى بذلك في دفع الذل، كما لو كان مكاتباً ثم أسلم فإنه لا يؤمر بإزالة ملكه جزماً.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الكتابة لا تزيل الملك فلم تكف كالتزويج. وقد طرد بعض الأصحاب هذا [القول] فيما إذا كاتبه وهو كافر ثم أسلم، كما حكاه الإمام، وعلى هذا: هل نحكم بفساد الكتابة؟ قال في "الذخائر": "قد اختلف أصحابنا فيه:
منهم من قال: تفسد الكتابة ويباع العبد.
ومنهم من قال: تصح ثم تفسد من بعد، وهذا إذا قلنا بمنع بيع المكاتب، وإن قلنا بصحة بيعه صححنا الكتابة، وبعناه مكاتباً، وقد ذكرنا في باب التدبير شيئاً يتعلق بذلك.
فرع: إذا دفع العبد النجوم إلى سيده، فقال له حين الدفع: اذهب فأنت حرٌّ، ثم ظهرت النجوم مستحقة أخذها مالكها، ولم يحصل العتق إن قصد السيد بذلك
الإخبار عن حاله بعد أداء النجوم، وإن قصد إنشاء العتق برئ المكاتب وعتق، فلو ادّعى السيد أنّه أراد الأول، وادّعى المكاتب أنّه أراد الثاني – فالقول قول السيد مع يمينه، جزم به العراقيون والبغوي. وأبدى الغَزالي وجهاً خرّجه من وجهٍ محكيٍّ فيما إذا خوصم المشتري في المبيع، فقال: هو ملكي وملك من اشتريت منه، ثم ثبت بالبينة أنه مستحق فإنه لا يرجع على بائعه بالثمن، وقد أقامه الرافعي وجهاً في المذهب، ولو كان هذا القول قبل أداء النجوم نفذ العتق، ولم يقبل قول السيد؛ إذ لا ظاهر يصدقه.
إذا جاء المكاتب بنجم إلى السيد، فقال له: هذا حرام، نظر: فإن كان مع السيد بينة لم يجبر على أخذه، وإن لم يكن ثمَّ بينة فله تحليف المكاتب، فإن لم يحلف ردّت اليمين على السيَّد، فإذا حلف لم يكلف أخذه، وإذا حلف المكاتب قيل للسيد: إمَّا أن تقبض أو تبرئ، فإن ابرأه عتق، وإن لم يفعل قبضه الحاكم وبرئ المكاتب وعتق، ولو قبض السيد النجوم، وحكمنا بعتق المكاتب بناءً على ذلك، ثم ظهرت مستحقة أو معيبة؛ فردها السيد – ارتدّ العتق؛ لأنَّا تبَينَّا أن المعقود عليه لم يقبض، لكن في مسألة العيب هل نقول: عتق ثم ارتفع العتق بالرد حتى لو رضي كان العتق واقعاً من حين القبض، أو نقول: بالرد نتبين أنه لم يعتق أصلاً حتى إذا أجاز يكون العتق حاصلاً بالقبول؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الدَّين الناقص متى يملك هل بالقبض مع الرضا أم بمجرد القبض؟ وفيه وجهان، والأول منهما اختيار أبي إسحاق، والثاني اختيار الماسرجسي وبعض الأصحاب، وعلى قول أبي إسحاق إذا كان المقبوض تالفاً عاد الرِّق من يوم تلف المعيب، ويتنجز بأداء الأرش.
وفي كيفية اعتبار الأرش وجهان:
أحدهما: يُقَوّم العوض سليماً ثم معيباً، ويجب ما بينهما.
والثاني: يُقَوّم سليماً، فإذا قيل: مائة، قوم معيباً، فإذا قيل: تسعون، علم أن الفائت العشر فيرجع بعشر قيمة العبد.
ولو عجَّل المكاتب النجوم قبل محلها نظر: فإن لم يكن على السيد ضرر لكونها لا يخشى هلاكها ولا نهبها، ولا أجرة تلحقه بسببها إلى أوان محلها- أجبر على ذلك، وإلا فلا يجبر، وهكذا الحكم فيما لو أتى المكاتب بالنجوم قبل المحل للحاكم والسيد غائب: فإن كان لا ضرر على السيد قبلها، وإلا فلا.
ولو كان على رجل دين، وصاحبه غائب، فأتى به [الحاكم، ولا ضرر على مالكه] في قبضه – فهل يجوز له قبضه؟ فيه وجهان في "البحر"، ووجه المنع: أنه ليس للمؤدي غرض إلا سقوط الدين عنه، والنظر للغائب [بترك] الدين في ذمة المليء وفي الكتابة له غرض تحصيل العتق.
ولو لقي المكاتب سيده في غير البلد المشروط فيها الأداء، وأحضر إليه النجوم: فهل يجبر على قبولها؟ نظر: إن كان عليه ضرر ومؤنة في النقل لم يجبر، وإن لم يكن ضرر أُجبر، وبعض الأصحاب قال: إن كان بين البلدين دون مسافة القصر، ولا ضرر عليه في القبض ولا مؤنة كالدراهم والدنانير – أُجبر، وإن كان البلد بعيداً ففيه وجهان، قال في "الأم":"ولا يكلف المكاتب أن يؤدي النجوم في غير البلد الذي كاتبه فيه".
إذا اختلف السيد والمكاتب في مقدار النجوم، أو مقدار الكتابة، أو مقدار الأجل، أو جنس النجوم – تحالفاً كالمتبايعين، فإذا تحالفا: فإن كان قبل العتق عاد العبد رقيقاً كما كان؛ إن قلنا: ينفسخ العقد بنفس التحالف، وإلَاّ فلا يعود الرق إلا بالفسخ، وإن كان بعد الأداء وحصول العتق لم يرتد العتق، ولكنهما يتراجعان بالقيمة؛ لأنَّ العقد ينفسخ ويسقط المسمَّى؛ فيكون بمنزلة الأداء في الكتابة الفاسدة، والله أعلم.