الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهبة
الهبة، والهدية، وصدقة التطوع: أنواع من البر، يجمعها: تمليك العين من غير عوض، فإن تمَّحض فيها طلب الثواب من الله تعالى بإعطاء محتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدي إليه؛ إعظامًا [له] وإكرامًا وتوددًا فهي هدية، وإلا فهبة.
وبعضهم اشترط في الهدية: أن يكون بين المهدي والمهدى إليه رسول، كما حكاه الزبيري وجهًا فيما إذا حلف: لا يهدى إليه، فوهب منه خاتمًا أو نحوه يدًا بيد -لا يحنث، والشبه الول، وعلى هذا: فكل هديةٍ وصدقة تطوعٍ هبةٌ، ولا عكس.
وقد قيل: إن الهدية مشتقة من الهداية؛ لأنه اهتدي بها إلى الخير والتالف.
وقال أهل اللغة: يقال: وهبت له شيئاً، وهبًا ووهبًا -بإسكان الهاء وفتحها -وهبة، والاسم: الموهب، الموهبة، بكسر الهاء فيهما.
والاتهاب: قبول الهبة، الاستيهاب: سؤالها، ووهّاب ووهابة: كثير الهبة.
قال: الهبة منوب إليها؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، قيل: المراد منه الهبة، [وقوله:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] والهبة بر] ، وقوله تعالى:{وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] الآية، يعني الهبة والصدقة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا؛ فغن الهدية تذهب وحر الصدر، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاةٍ" خرجه الترمذي.
وقد وردت أخبار كثيرة تدل على ذلك، مع أن الأمة مجمعة على ذلك.
قال: وللأقارب أفضل؛ لأن فيها صلة الرحم، وقد حث صلى الله عليه وسلم عليها بقوله:"من سره أن يُنسأ في أجله ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه"، وغير ذلك من الأخبار.
قال: ويستحب لمن وهب لأولاده [شيئاً] أن يسوي بينهم، أي: فيعطي الأنثى مثل الذكر؛ لما روى عكرمة عن ابن عباس –رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سوُّوا بين أولادكم في العطية"، وفي رواية:"لو كنت مفضلًا لفضلت البنات"، ولما روى مسلم بألفاظ مطولة: أن النعمان بن بشير قال: وهبني أبي هبة، ثم أتى [بي] النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال النبي:"يا بشير، ألك ولدٌ غير هذا؟ " قال: نعم، قال:"كلهم وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا، قال:"فلا تشهدني إذن؛ فلا تشهدني على الجور"، وفي طريق آخر:"فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ " قال: لا، قال:"فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد غلا على حق"، وفي طريق آخر:"أشهد على هذا غيري" ثم قال: "أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ " قال: بلى، قال:"فلا إذن"، وفي أخرى:"أفعلت هذا بولدك كلهم؟ " قال: لا، قال:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فرجع، أي: فرد تلك
الصدقة. وفي أخرى: أنه –عليه السلام – أمره بردها.
ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، فلو فاضل، قال ابن الصباغ والقاضي الحسين: فقد فعل مكروهًا، ولا إثم عليه.
وفي "الرافعي" وجه: أن المستحب أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
قال: ولا يصح إلا من جائز التصرف في ماله غير محجور عليه؛ لأنه تصرفٌ في المال.
واحترز بقوله: غير محجور عليه عن المكاتب يهب بغير إذن سيده.
وفي "الحاوي": أن المفلس هل تصح هبته؟ فيه قولان. وكأنه يشير إلى القول الذي حكيناه في باب المفلس: أن تصرفاته تكون موقوفة، وهو بعينه يجري في هبة المكاتب، كما به الأئمة في كتاب الكتابة، وهذه صفة الواهب.
وأما الموهوب له، قال الماوردي: فهو من صح أن يحكم له بالملك من مكلفٍ وغيره، ثم المكلف يقبل لنفسه وإن كان سفيهًا، وكذا حكم قبضه، وغير المكلف يقبل ويقبض له وليه في المال.
ولو وكل في قبول الهبة، قال القاضي الحسين: فالشرط فيها أن يصرح الوكيل بالسفارة؛ كالقبول في النكاح.
وأما من لا يحكم له بالملك كالجمل والبهيمة فلا يصح أن يكون موهوبًا منه، وقد ألحق بهما الهبة من المسجد عند إرادة تمليكه دون الصرف في مصالحه، كما حكاه الغزالي في الوصية. وهكذا الحكم إذا أطلقت الهبة له عند الشيخ أبي علي واستبعده الغزالي، وقال: الإطلاق محمول عرفًا على مصالحه.
وأما العبد ففي صحة كونه موهوبًا له قولان مأخوذان –كما قال الماوردي –من اختلاف قوليه: هل يملك إذا ملك أم لا؟ وهذا إذا ملك العبد نفسه، أما إذا أطلق الهبة فهي لسيده. وهل يصح قبولها بدون إذنه؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم، وهل يقوم قبول السيد مقام قبوله؟ فيه وجهان جاريان في قبول الوصية، وصار الإمام في باب الوصية إلى أنه لا يعتد بقبول السيد في الهبة؛ لأن القبول فيها كالقبول في سائر العقود، وقبول الوصية بخلافه؛ ألا ترى أنه يعتد به منفصلًا عن الإيجاب، واقعًا بعد خروج الموجب عن أهلية الإيجاب، وصادرًا من وارث [الموصي له] مع أنه لم يخاطب؟!
ثم إذا جوزنا للعبد القبول بدون الإذن، فهل يجوز أن يقبل ما يلحق سيده منه ضرر كالعبد الزمن والدابة الزمنة؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحين في كتاب اللقيط، وسنذكر عن الإمام في كتاب العتق ما يقتضي الجزم بالمنع.
والهبة من اللقطاء صحيحة وإن كانوا مجهولين، كما صرح [به] في "الوجيز" في باب اللقطة، وعلى هذا يقبل لهم القاضي. وقد استبعده الرافعي، [ثم] قال: ويجوز أن تنزل الجهة العامة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة كما يجوز الوقف عليها. وهذا منه تصريح بأن الهبة بقصد التمليك للمسجد جائزة، ولعله محمول على هبة المسجد شيئاً يصرف في مصالحه كما صوره الأصحاب، وقالوا: يجوز أن يؤخذ ما اشترى له بالشفعة، ويجوز أن يأخذ له بالشفعة لهذا الغرض، كما صرح به القاضي الحسين وغيره في كتاب الوقف والشفعة، وقالوا: إن قيِّم المسجد يقبل له الهبة.
وتصبح الهبة من الحربي على الأصح، وفي "الذخائر" حكاية وجه في كتاب الوصية: انها لا تصح منه؛ كما لا تصح [له] الوصية على وجه.
قال: ولا تجوز هبة المجهول أي: العين أو القدر أو الصفة، ولا [تجوز] هبة ما لا يقدر على تسليمه أي: حسًّا أو شرعًا؛ لتعلق حق الغير به، و [لا] ما لم يتم ملكه كالمبيع قبل القبض؛ لأنه عقدُ يقصد به تمليك المال في حال الحياة فأشبه البيع.
وضابطه: أن كل ما جاز بيعه من الأعيان جازت هبته، وما لا فلا، وهذا على الصحيح، وقد يأتي في بعض المسائل جواز هبة ما لا يصح بيعه على وجهٍ:
فمنها: الآبق: هبته صحيحة عند ابن سريج –كما دل عليه كلام الماوردي –حيث قال عند الكلام في كيفية القبض للابن من كتاب البيع حكايةً عن محمد بن الحسن أنه قال أثناء كلامه: ألا ترى أنه لو وهب لابنه الصغير عبدًا آبقًا، جاز، ولو باعه لم يجز؟! وأن ابن سريج قال: إنما جازت هذه الهبة، ولم يجز البيع؛ لأن الآباق عذر يجوز في الهبة، ولا يجوز في البيع.
ومنها: المرهون تصح هبته على وجهٍ، وفائدة صحتها: أنه إذا انفك الرهن يجبر الواهب على الإقباض، ولا يحتاج إلى تجديد عقد، وخالفت الهبة على هذا البيع؛ لأنها لا تفيد الملك في الحال، بل يشترط فيه التسليم، وهي ليست بموجبة للتسليم، بخلاف البيع.
وهذا الوجه يجري في هبة المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه.
ومنها: هبة الأرض المزروعة دون الزرع، تصح على وجه، لكنه جزم به الأكثرون، والوجه الآخر محكي في "زوائد" العمراني.
ومنها: هبة الكلب المنتفع به، تصح على وجه، وهو جارٍ في جلد الميتة قبل الدباغ، وفي الخمور المحترمة.
قال الإمام: وحق من جوًز الهبة فيها أن يجوزها في المجاهيل، وفي الآبق؛ [كالوصية].
ومنها: هبة الدين المستقرض من غير من هو عليه، لا تصح [إلا] على وجه، وإن جاز بيعه، وبه جزم الماوردي، لكن نص الشافعي –رضي الله عنه –على الجواز، واختاره في "المرشد".
وهبته ممن هو عليه جائزة قطعًا، وتبرأ بها الذمة.
ومنها: [هبة] المنافع، قال في "الجرجانيات": فيها وجهان؛ بناء على أن ذلك إعارة أم لا؟ وبيعها صحيح.
وقد احترزنا بقولنا: "ما جاز بيعه من العيان جازت هبته، وما لا فلا" عن الدين [و] عن بيع الأوصاف سلمًا في الذمة؛ فإنه جائز، ولا تجوز الهبة على نحوه، مثل أن يقول وهبتك ألفًا في ذمتي، ثم يعينه في المجلس ويقبضه، كما صرح به الإمام في كتاب الصلح، والقاضي الحسين [هنا]، وقد ذكرنا في باب القرض عن "المهذب" أنه [إذا] قال: أقرضتك عشرة دراهم، ووصفها، ثم اقبضها في المجلس – صح وأنه لو عينها بعد مفارقة المجلس جاز، وإن طال لم يجز حتى يعيد لفظ القرض.
وكان يتجه أن يجيء مثله هاهنا، وإن فرق بأن في القرض شائبة المعاوضة.
قلت: فليخرج على الخلاف المذكور في نظير المسألة في القرض.
قال: ولا يجوز تعليقه على شرط مستقبل، أي: مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد وهبتك [، ولا على شرط ينافي مقتضاه، أي: مثل أن يقول: وهبتك سنة]، أو: بشرط ألا أقبضك، أو:[أن] أقبضك، ولا تنتفع به؛ لأنه عقد يبطل بالجهالة؛ فبطل بذلك كالبيع.
وقيل: تصح الهبة إذا اقترن بها شرط فاسد، ويلغو الشرط.
وقيل: يختص بإلغاء الشرط بما إذا كان من قبيل التأقيت، [كما إذا قال]: وهبتك سنة، وهو مخرج مما سنذكره في "العمرى".
وحكى في "الزوائد" عن صاحب "العدة": أنا إذا لم نبطل الهبة [بالشروط الفاسدة] ، فوهب له جاملًا، واستثنى حملها –بقى الحمل للواهب.
قال: وإن قال: أعمرتك هذه الدار، وجعلتها لك حياتك ولعقبك من بعدك –
صح؛ لما روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر رجلاً عمري له ولعقبه، فقال: أعطيتكما وعقبك، ما بقى منكم أحد، فهي لمن أعطيها وعقبه، لا ترجع لصاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث".
ولأن هذه عين الهبة ولكنه طوّل على نفسه.
وفي معنى قوله: مدة حياتك، [قوله: ما] حييت، أو: ما عشت، أو: ما بقيت.
قال: وإن لم يذكر العقب، أي: بأن قال: أعمرتك هذه الدار حياتك [صح] أيضاً، وتكون له في حياته ولعقبه [من] بعد موته؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:["العمري جائزة" أخرجه البخاري ومسلم، وروى أبو داود أنه قال]: "من أعمر عمري، فهي له، ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه"
وخرجه النسائي.
ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بالحياة، وتنتقل إلى الورثة؛ فلم يكن ما جعل له في حياته منافيًا لحكم الأملاك، و [هذا] هو الجديد [و] الصحيح، و [به قال في] القديم، وفي بعضه أنه ليس كذلك، وقد اختلف في كيفيته على طريقين مذكورين في الكتابة.
قال: وقيل: فيه قول آخر: أنه باطل؛ لما روي عن جابر أنه قال: "إنما العمري التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها" خرجه أبو داود ومسلم.
ومراد جابر عند هذا القائل: الرجوع في الحال، ولأنه تمليك عين إلى مدة؛ فهو كقولك: أعمرتك سنة، أو: عمري، أو: عمر زيد، وهذا رواه الزعفراني، [وبه] قال في "البحر"، وقد كان بعض أصحابنا يغلب في قوله: جعلتها لك عمري، [أو]: عمر زيد – حكم العمري، ويجعلها أيضاً على قولين، وهو اختيار البغوي وجماعة من أصحابنا بـ"خراسان"، ومن القول بالصحة [فيه] خرج إلغاء الشرط الفاسد في الهبة، والوقف كما ذكرناه، لكن الأكثرون على المنع في الصورة المذكورة.
قال: وقيل: فيه قول آخر: أنه يصح، ويكون للمعمر في حياته، فإذا مات رجعت إلى المعمر، [أو إلى ورثته؛ تمسكًا بقول جابر، فإن المفهوم منه أنها تدفع إلى المعمر] بعد موت المعمر لا في الحال، وهذا تفسير أبي إسحاق القول القديم كما قاله الرافعي والقاضي أبو الطيب، ونسبه في "الحاوي" إلى ابن أبي هريرة، وهو أضعف من الذي قبله؛ لمخالفته القياس؛ فإن الإنسان لا يملك مؤقتًا، وقال
القاضي أبو الطيب: إنه أشبه [الوجوه] بالسنة.
وفي "التهذيب": أن أبا إسحاق قال في القديم: إنها تكون عارية متى شاء استردها، فإذا مات عادت إلى المعمر، وهو قريب من وجه حكاه الروياني تفريعًا على القول الأخير في أن المعمر لا يملك الانتفاع بها مدة حياته مع وجه آخر: أنه يملك، وصحح الأول، وعلى هذا [يجتمع في المسألة] أربعة أوجه.
قال: وإن قال: جعلتها لك حياتك، فإذا مت رجعت إليَّ –بطل في أحد القولين؛ لمنافاة الشرط لها؛ فإن مقتضى الملك أن تنتقل بعد الموت إلى ورثة المالك، وصح في لآخر، وترجع إليه بعد موته، أي: على قولنا بالقول الأخير من القولين في القديم؛ لأن هذا مؤكد لمقتضى العقد، وقد بنى القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والبندنيجي وابن الصباغ القولين على قولنا: إن العقد باطل في الصورة السابقة، كما قلنا: إن الوجه الثاني مبنيٌّ على القول بالصحة في الصورة السابقة، وتكون للمعمر في حياته، وترجع إلى المعمر أو إلى ورثته [إن كان قد مات بعد الموت]. وقالوا: إنا إذا فرعنا على الجديد في الصورة السابقة، فالعقد صحيح [ها] هنا أيضاً، وتكون له ولورثته من بعده؛ لعموم الحديث والشرط الذي ذكره، فليس هو المعمر الذي يملك العمري، وإنما هو شرط على إنسان آخر غيره وهو الوارث، ولا حق له في الحال؛ فكان وجوده وعدمه سواء، [وقد حكى المراوزة في هذه الحالة وجهًا: أن العقد باطل، ورجحه ابن كج [والمتولي]] ، وبه جزم الماوردي، مع حكايته الخلاف عند الإطلاق في الصورة السابقة؛ كما ذكرناه، ولمن اختار هذا الوجه تفريعًا على الجديد [في الصورة السابقة، أن يقول: في المسألة وجهان:
أحدهما: البطلان؛ بناء] على الجديد، وأحد قولي القديم.
والثاني –وهو القديم -: أنه يصح، ويكون للمعمر في حياته، فإذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان قد مات –كما حكاه الشيخ –ولا يقال له: إنك ما فرعت على الجديد، بل ذكرت التفريع على القديم خاصة، كما أورد على الشيخ، على [أني سأبين] في كلام الشيخ ما يعرفك الحكم في هذه المسألة على الجديد كما ذكره الجمهور، والله أعلم.
فرع: إذا أثبتنا الملك للمعمر، وقيدناه بالحياة، فلو باع ما ملكه، ثم مات والعين مبيعة –قال الإمام: يحتمل أن يقال: لا ينفذ بيعه؛ فإن مقتضى البيع إذا صح التأبيد، وهذا لا يسعه الملك المؤقت، وليس له أن يملك غيره ما لا يملكه في نفسه؛ فإذن له الانتفاع، وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها، وليس له أن يبيع.
ويجوز أن يقال: بيعه نافذ محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع.
ولعل الأصح الأول، والذي أجاب به ابن كج الثاني.
وعلى هذا قال الرافعي: ويشبه أن يرجع المعمر في تركته بالغرم، رجوع الزوج إذا طلق وقد خرج الصداق عن ملكها.
فرع: لو قال: ملكتك هذه الدار بمائة دينار [عمرك]، قال في "الإفصاح": لا يصح. وبه قال ابن سريج.
وحكى [عن] ابن خيران: أنه يصح؛ قاله في "البحر".
وأبدى ابن كج قول ابن خيران احتمالًا لنفسه.
تنبيه: العمرى مأخوذة من العمر، والرقبى من المراقبة؛ كأن كل واحد منهما يراقب موت صاحبه، وقد كانا عقدين في الجاهلية، ويقال: عُمُر: بضم العين والميم، وعمر: بضم العين وإسكان الميم، وعمر: بفتح العين.
قال: وإن قال: أرقبتك هذه الدار: فإن مت قبلي عادت إليَّ، وإن مت قبلك استقرت لك –صح، أي: على الجديد، ويكون حكمه حكم العمرى، لما روى أبو
داود عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ["العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها" وأخرجه ابن ماجه والنسائي، وقال الترمذي: إنه حسن. وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]: "من أعمر شيئاً لمعمره، محياه ومماته، ولا ترقبوا، ومن أرقب فهو سبيله".
ومراد الشيخ بالعمري المذكورة في هذا الفصل: الصورة الأخيرة، لا العمري المشروط فيها أن تكون لوارث المعمر بعد موته، ولا المطلقة؛ لأن ما ذكره من صورة الرقبى وجد فيها شرط العود بعد الموت، بخلافهما، وإذا كان كذلك كان كلام الشيخ هاهنا مفهمًا لأمرين:
أحدهما: أن العمري في الصورة السابقة يكون الصحيح فيها الصحة، كالخالية عن الشرط، كما صرح به [غيره]، وذلك مستنبط من قوله هنا: صح.
والثاني: أن الخلاف المفرع على القولين في صورة العمري [يجري هاهنا] أيضاً، كما صرح به الأصحاب؛ لقوله: ويكون حكمه حكم العمري.
[لكن] قال الأصحاب: إنا إذا قلنا ثم: يرجع إلى المعمر بعد وفاة المعمر، [نقول هاهنا: إن مات المرقب أولًا عادت إلى المرقب، وإن مات المرقب أولًا استقرت على] ملك المرقب، وتكون لورثته من بعده، وبهذه الحالة فارقت الرقبى العمرى، كما قاله القاضي أبو الطيب وصاحب" البحر"، والمذكور في "الحاوي" في
صورة مسألة الكتاب من الرقبى: الجزم بالبطلان، وحكاية الخلاف فيما إذا قال: جعلت الدار رقبى، فالجديد الصحة، والقديم: البطلان، كما حكى مثله فيما إذا قال: جعلت هذه الدار [لك] عمري.
قال: ولا يصح شيء من الهبات إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك ناجز؛ فافتقر إلى الإيجاب والقبول؛ كالبيع والنكاح.
وعن ابن سريج: أن القبول في الهبة يجوز تأخيره عن الإيجاب؛ كالوصية؛ كذا حكاه ابن الصباغ، وكذا الرافعي عن كثير من أصحابنا.
وفي "تعليق" البندنيجي حكايته عن ابن سريج في قبول الهدية؛ لأن ذلك عادة الهدايا، وكذلك قال في "التتمة": ومنع التأخير في الهبة جزمًا.
وجمع الشيخ الهبة؛ لتنوعها إلى: هبة يقصد بها التقرب إلى الله –تعالى –وهي الصدقة، وإلى هبة تحمل إلى الموهوب؛ منه لقصد تعظيمه وهي الهدية، وإلى هبة خالية عن ذلك وهي المفهومة عند الإطلاق من هذا اللفظ، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، كما صرح بها المحاملي في "المجموع"، وكذا القاضي أبو الطيب حيث قال في "التعليق": إن صدقة التطوع لا بد فيها من الإيجاب والقبول.
وحكى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: إذا أراد [أن يملك] الهدية، وكل الرسول الحامل لها حتى يوجب، فيقبل المهدي إليه.
وجزم في "الحاوي" بأن الهبة تفتقر إلى إيجاب وقبول، وفي الهدية بعدم ذلك، ويكفي فيها الأخذ والدفع بالرضا، سواء كان الدافع المهدي، أو رسوله، إذا غلب على ظن المهدي إليه صدقه، ويجوز له التصرف فيها، وبهذا أجاب الفوراني والمتولي والبغوي، وكذا القاضي الحسين، وصرح بمثله في الصدقة أيضاً، [وقال
الإمام في باب الزكاة: إن الظاهر في صدقة التطوع: أنه لا حاجة إلى اللفظ فيها؛ تشبيهًا بصدقة الفرض، وأنه الذي عمل به الكافة] واختار ابن الصباغ أنه لا يفتقر في الهبات المذكورة إلى إيجاب وقبول، بل إذا وجد ما يدل على ذلك كفى.
واستشهد له في كتاب النفقات بأن الشافعي –رضي الله عنه –قال فيما إذا دفع الوثني إلى زوجته نفقة مدة، ثم اسلم، وتخلفت حتى انقضت عدتها، [وطالبها بالنفقة] فقالت: إنما دفعت لي هبة، وقال: بل سلفًا في النفقة –ينظر: إن كان حين دفع شرط أنها نفقة مستقبلة كان عليها ردها، وإن أطلق لم يكن عليها الرد؛ لأنه متطوع، وهذا يقتضي أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الهبة والإيجاب والقبول؛ فإنه جعله متطوعًا عند الإطلاق.
ثم قال: وما قاله الشيخ أبو حامد والقاضي فغير مستقيم؛ لأنه خلاف ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم وما اجمع المسلمون عليه، فإنه كان يهدى إليه –عليه السلام –وكان يقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل في [شيء من] ذلك إيجاب ولا قبول ونقل أنه صلى الله عليه وسلم تصدق، ولم ينقل عنه التلفظ، ولا يمكن حمل ما فعله السلف على الإباحة؛ لأن الإباحة تختص بالمباح له، وقد كان –عليه السلام –يتصرف فيما يهدى إليه.
ثم صريح الإيجاب: وهبتك، وأعمرتك، وأرقبتك، ومنحتك، وكذا ملكتك بلا ثمن، وفي قوله: أطعمتك هذا الطعام فاقبضه، وجهان، أحدهما: أنه ليس بصريح حتى لو قبضه ثم قال: لم أرد به الهبة، [قبل قوله] ، كما حكاه في "الزوائد" عن الطبري.
فروع:
إذا وهب الأب لولده الذي في حجره شيئاً، فهل يفتقر إلى الإتيان باللفظ أم يكفي فيه النية؟
وإذا افتقر، فهل يحتاج إلى إيجاب وقبول، أم يكفي أحدهما؟ فيه [وجهان تقدم
ذكرهما] في البيع.
قال الإمام: ومحل الخلاف في الاكتفاء بالقبول [إذا كان يمكن الابتداء به: كقوله: اشتريت، واتهبت لولدي.
وفي "فتاوى" القاضي] الحسين: أنه إذا قال لولده الصغير: وهبت هذا منك، حكاية وجهين:
أحدهما: لا يصح، حتى لو قبل [له] الأب بعد ذلك لم يصح.
والثاني: أنه يصح.
وعلى هذا: هل يحتاج إلى القبول؟ فيه وجهان.
إذا وهب رب الدين من الذي عليه الدين ما له من دين، فهل يفتقر إلى القبول؟ إن قلنا: إن الإبراء يفتقر إليه –كما حكى عن ابن سريج –فنعم، وإلا فوجهان حكاهما البندنيجي عن ابن سريج:
أحدهما –ويحكى عن ابن أبي هريرة أيضاً: نعم، وهو ما قال الإمام في كتاب الرهن في آخر مسألة استعارة العبد ليرهن بدين: إنه الأصح.
والثاني –وهو المذهب في "الشامل" -: لا.
قال البندنيجي: ويبرأ بنفس الهبة؛ كصدقة التطوع. وكأنه يشير بذلك إلى ما ذكره ابن سريج وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه إذا قال: تصدقت عليك بما لي من دين –فأنه يصح، وتبرأ ذمته، كما لو أبرأه.
فرع: [إذا ختن ولده] واتخذ دعوة، فحملت إليه الهدايا، ولم يسم أصحابها الأب ولا ولده –حكى العبادي في "زياداته" وجهين:
أحدهما: أنها للأب.
والثاني: أنها للابن، وبه أجاب القاضي الحسين في "فتاويه"، وفيها أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتى بالأول.
وفي "فتاوى" الغزالي: أن خادم الصوفية الذي يتردد في الأسواق ويجمع لهم شيئاً، يملكه دونهم؛ لأنه ليس بولي ولا وكيل عنهم، سيما وهم غير محصورين، لكن الأولى به الصرف إليهم، فإن لم يفعل كان لهم منعه من أن يأخذ على اسمهم [شيئاً].
[إذا سيرت الهدية] في ظرف جرت العادة بتركه، ملك مع الهدية، وإلا فلا يملك، قاله الماوردي.
وقال القاضي الحسين: إن الوعاء يكون في يده أمانة، ويستحب رده في الحال؛ لقوله –عليه السلام:"استديموا الهدايا برد الظروف".
فإن استعمله نظر: [فإن كانت] تلك الهدية مما جرت العادة بإخراجها عن الظرف في الحال، مثل: الحبوب، ونحوها –ضمن، وإن كانت مثل المرقة ونحوها، وجرت العادة بأن تؤكل في ذلك الوعاء –فلا ضمان.
نعم: إذا استعمله في غير الهدية ضمن.
وفي "التهذيب" فيما إذا كانت العادة جارية بأكل [المهدي] في الظرف، كان في يده كالمستعار.
وإذا نفذ كتابًا إلى حاضر أو غائب، قال المتولي: إن استدعى منه الجواب على ظهره، فلا يملك الكاغد، وعليه رده، وإلا فهو هدية يملكها المكتوب إليه.
وذكر غيره: أنه يبقى على ملك الكاتب، وللمكتوب إليه الانتفاع [به] على سبيل الإباحة؛ وهذا تخريج على طريقة الشيخ أبي حامد.
قال: ولا يملك المال فيه إلا بالقبض؛ لما روى مالك عن الزهري عن عروة عن
عائشة –رضي الله عنهم –أن أبا بكر – رضي الله عنه –نحلها عشرين وسقًا [من ماله؛ أي: قدرًا من النخل تجد منه] عشرين وسقًا –كما بينه القاضي الحسين – فلما مرض قال: يا بنية، ما أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك، ولا أحد أعز علي [فقرًا منك] ، وإني كنت نحلتك [جداد] عشرين وسقًا وددت أنك خزنته أو قبضته وهو اليوم مال الوارث، وهما أخواك وأختاك، فاقتسماه على كتاب الله، فقلت: عرفت أخوي محمد وعبد الرحمن وأختي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال: ألقى [الله] في روعي – وفي رواية: إن روح القدس نفث في روعي -: أن ذات بطن [بنت خارجة] جارية.
فلو كانت الهبة تلزم بنفسها قبل القبض لم يكن لقوله: "وددت لو خزنته [أو قبضته"] معنىً، ولما كان تركةً.
وقد روى عن عمر –رضي الله عنه –أنه قال: لا تتم النحلة حتى [يحوزها المنحول] له.
وروي مثل ذلك عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومعاذ الغزي، وعائشة، ولا يعرف لهم مخالف، ولأنه عقد إرفاق مفتقر إلى القبول؛ فافتقر إلى القبض كالقرض، ولأنه هبة غير مقبوضة فلا تلزم؛ كما لو مات وقد، وافق الخصم – وهو الإمام مالك، رضي الله عنه – على عدم لزوم ذلك الوارث.
ولا فرق في ذلك بين سائر الهبات بالاتفاق من أصحابنا، حتى قالوا: لو أرسل إلى شخص هدية، ثم استرجعها قبل أن تصل إليه، أو مات –لم يملكها المهدى إليه؛ استدلالًا بما روى أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا، فمات قبل أن تصل
إليه، فردت إليه –عليه السلام –فأعطى كل واحدة من نسائه أوقيةً، ودفع لأم سلمة سائره.
ولا يشترط في القبض الفور، بل يجوز على الفور وعلى التراخي.
[ثم] اعلم أن ما ذكره الشيخ من كون المال لا يملك إلا بالقبض هو ظاهر المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وهو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب وغيره، ووراءه قولان:
أحدهما –حكى عن القديم -: أن الملك يحصل بنفس العقد، كمذهب مالك، ويحكى عن رواية عيسى بن أبان.
والثاني –حكاه العراقيون والمراوزة -: أن الملك موقوف على أن يوجد القبض، فإذا وجد تبينًا حصول الملك من وقت العقد، وهذا مخرج مما ذكره فيما إذا وهب عبدًا في آخر رمضان، وأقبضه بعد الغروب –كانت زكاة الفطر على الموهوب له.
قال البندنيجي: وهذا غلط؛ لأن الشافعي –رضي الله عنه –فرَّع مسألة [زكاة] الفطر على مذهب مالك، وثمرة الخلاف تظهر في الزوائد والفوائد.
ثم كيفية القبض في العقار والمنقول كما قدمناه في البيع، وقد حكيناه ثم قولًا أن التخلية في المنقولات قبض.
قال في التتمة: ولا جريان لذلك القول هنا، والفرق: أن القبض في المبيع مستحق، والمشتري مطالب [به]؛ فجاز أن يجعل قابضًا بالتمكين، وفي الهبة القبض غير مستحق؛ فاعتبر تحقيقه، ولم يكتف بالوضع بين يديه؛ ولهذا لو أتلف المتهب الموهوب لم يصر قابضًا، بخلاف المشتري [إذا أتلف] المبيع.
وما ذكره قد حكيناه مثله عن القاضي الحين، وحكينا عن الإمام ثم أن الأصحاب طردوا قول الاكتفاء بالتخلية في الهبة أيضاً؛ مصيرًا إلى أن صورة القبض لا تختلف، ولو أمر الواهب المتهب بإعتاق العبد الموهوب فأعتقه نفذ، وكان قبضًا.
فرع: إذا صححنا هبة الدين المستقرض من غير من هو عليه، فهل يلزم بغير القبض أو لا بد منه؟ فيه وجهان:
المختار في "المرشد": الافتقار.
وإذا قلنا بمقابله فوجهان:
أحدهما: أنه يلزم بمجرد الإيجاب والقبول.
والثاني: لا بد من تسليط بعد العقد وإذن مجدد، ويكون ذلك كالتخلية في الأعيان التي لا يمكن نقلها.
قال: ولا يصح القبض إلا بإذن الواهب؛ لأنه سبب ينتقل به الملك فلا يجوز من غير رضا المالك، وبالقياس على الرهن، ولأن القبض في البيع آكد من القبض في الهبة، ثم يثبت أنه لو قبض المبيع قبل تسليم الثمن كان القبض فاسدًا، ويلزمه رده، فهذا أولى. فإن قبضه بغير إذن كان عاصيًا.
ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه إذا أذن له في القبض فقبض كفى، و [به] صرح القاضي الحسين غيره.
وفي "الحاوي" في كتاب العارية: أن الهبة لا تصح إلا بإقباض من الواهب أو وكيله فيه، ولا يصح الإذن في القبض من غير إقباض، وتصح العارية بالإقباض والإذن فيه من غير إقباض. والفرق: أن قبض المستعير لا يزيل ملك الغير؛ فجاز أن يأذن بالتصرف فيه، والقبض في الهبة مزيل للملك؛ فلم يتم إلا بإقباض الواهب.
وما قاله من الفرق قد ينازع فيه؛ فإن القاضي أبا الطيب عدَّ من جملة أنواع الهبة
العارية؛ فإنها هبة المنافع، وقبضها يكون باستيفائها؛ فقد صار القبض في العارية مملكًا أيضاً، وهذا ما أورده ابن الصباغ في كتاب العارية في ضمن مسائل الاختلاف، لكن الإمام ضعفه واستبعده.
فرع: ذكر القاضي أبو الطيب في "المنهاج": لو قال: وهبتك هذه الدار وسلطتك على قبضها، فقال الموهوب له: قبلت –صحت الهبة.
قال العمراني في "زوائده": وأشار الشيخ أبو إسحاق في "تعليقه" في الخلاف إلى ذلك.
وقال الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي: إنه لا يصح؛ لأنه فصل بين الإيجاب والقبول؛ ولأن الإذن بالقبض وجد قبل تمام العقد؛ فهو كما لو أذن له بالقبض قبل الإيجاب.
قال: فإن وهب منه شيئاً في يده أو رهنه عنده، لم يصح القبض [حتى يأذن][الواهب] فيه، ويمضي زمان يتأنى فيه القبض.
أما افتقاره إلى الإذن؛ فلأنه عقد يفتقر لزومه إلى القبض، فافتقر القبض فيه إلى الإذن كما لو لم تكن العين في يده.
وأما افتقاره إلى مضي زمان يتأتى فيه القبض؛ فلأن القبض حقيقةً يحصل بالاستيفاء، وبمضي الزمان يتأتى فيه الاستيفاء؛ فإذا لم يتحقق واحد منهما لم يكن القبض محققًا حقيقة ولا حكمًا.
وقيل: في الرهن لا يصح إلا بإذن، وفي الهبة يصح من غير إذن، وهذا نصه
فيهما؛ لأن الهبة عقد يزيل فلم يفتقر إلى الإذن لقوته، والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الإذن لضعفه، وهذا ضعيف؛ بدليل استوائها في الافتقار إلى الإذن إذا لم تكن العين في يده.
وقيل: فيهما قولان، [و] وجه عدم الافتقار: أنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف [لم يفتقر إلى إذن مستأنف]، ووجه الافتقار –وهو الصحيح -: ما تقدم. والفرق بين الاحتياج إلى [الإذن دون النقل] أن النقل يراد ليصير في يده وذلك موجود، والإذن يراد ليتميز قبض الهبة والرهن من قبض الوديعة والعارية والغصب، وذلك لا يحصل إلا بالإذن، وهذه طريقة أبي إسحاق، وأكثر الأصحاب –كما حكاه الماوردي –وقد تقدم في الرهن تفاريع ذلك؛ فليطلب منه.
قال: وإن مات الواهب قبل القبض قام الوارث مقامه: إن شاء أقبض، وإن شاء لم يقبض يعني: ولا يبطل العقد؛ لأن الهبة عقد يئول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت؛ كالمبيع المشروط فيه الخيار، وهذا ما عليه أكثر الأصحاب، وحكاه القاضي الحسين عن النص.
وقيل: ينفسخ العقد؛ لأنها جائزة قبل القبض فانفسخت بالموت كالوكالة والشركة.
قال: وليس بشيء؛ لما ذكرناه، ويخالف الوكالة الشركة؛ لأنهما لا يئولان إلى اللزوم.
وقال بعض أصحابنا: محل جريان الخلاف إذا قلنا: بحصول الملك بنفس العقد إذا وجد القبض، أما إذا قلنا: لا يحصل الملك إلا عقيب القبض، بطل بلا خلاف؛ كما لو مات بين الإيجاب والقبول.
[و] قال الرافعي: والخلاف في الأصل يجري فيما لو مات الموهوب له قبل
القبض، وفيما إذا جُنَّ أحدهما أو أغمي عليه.
وقد ذكرت في باب الرهن فروعًا مشابهة لما نحن فيه؛ [فلتطلب منه].
فرع: ذكره الشافعي – رضي الله عنه – في الإقرار والمواهب، كما صرح به ابن الصباغ والبندنيجي [والقاضي] وغيرهم:
إذا قال: وهبت لفلان هذه الدار وخرجت إليه منها، لم يكن ذلك إقرارًا بالقبض، [وكذا إذا قال: وهبت هذا فلان وملكه لم يكن إقرارًا بالقبض]؛ لأنه قد يكون مالكها يعتقد أن الملك يحصل بالعقد؛ فلا يكون هذا إقرارًا بالقبض؛ فيرجع في التفسير إليه.
قال: وإن وهب الأب أو الأم أو أبوهما أو جدهما شيئاً للولد وأقبضه – جاز له أن يرجع فيه، أي: إذا كان خاليًا عن تعلق حق الغير [به].
أما في الأب؛ فلما روى أبو داود عن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد [فيما] يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية، ثم يرجع فيها كالكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه". وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأما فيمن عداه؛ فلأنهم كهو في حصول العتق، ووجوب النفقة، وسقوط
القصاص؛ فكانوا كهو هاهنا أيضاً، وهذا هو الصحيح، وبه جزم ابن الصباغ، ووراءه أمور [أُخر]:
[أحدها]: حكى الماوردي وغيره عن ابن سريج أن الأب لا يثبت له الرجوع إلا إذا قصد بهبته استجلاب بر أو دفع عقوق، ولم يحصل غرضه.
أما إذا لم يقصد ذلك وأطلق الهبة فلا رجوع له. وخُطئ فيه.
الثاني: لا يثبت لغير الأب الرجوع على قولٍ؛ اقتصارًا على مورد النص.
الثالث: قطع قاطعون بثبوت الرجوع للأم مع الأب خاصة؛ لأنها كالأب في كون الولد منها، بل ولادتها متيقنة، وانتسابه إلى الأب ظاهر.
الرابع: قطع آخرون بثبوت الرجوع [للجد أب الأب] ، وخصص الخلاف بالأم [وأقاربها] وأمهاتها وأمهات الأب، وهذا ما أورده المتولي.
ولا فرق في جواز الرجوع بين أن يكون الوالد والولد متفقين في الدين أو مختلفين ولا بين الهبة والهدية.
فروع:
إذا وهب من غلام ولده، ثبت له الرجوع، بخلاف ما لو وهب من مكاتبه.
إذا [ادعى اثنان] مولودًا أو وهبا منه شيئاً فلا رجوع [لواحدٍ منهما، ويحتاج إلى أن يقبلا له هبة كل واحد منهما؛ كما سنذكره في الوصية] ، فإن ألحق بأحدهما ففي جواز الرجوع له وجهان، وجه المنع: أن الرجوع لم يكن ثابتا في الابتداء، حكاه الماوردي وغيره.
إذا أبرأ ابنه من دين له عليه، فلا رجوع [له] إن قلنا: إن الإبراء إسقاط، وإن
قلنا: تمليك، ثبت؛ ذكره المتولي، وعلى هذا ينبغي أن يتخرج ما إذا وهب من فقيرٍ ما له عليه [من] دين بنية الزكاة، وإن كان صاحب "التهذيب" قد جزم بعدم الإجزاء.
إذا وهب من ولده شيئاً بشرط الثواب، ولم يعين الثواب، فأثابه الابن – قال القاضي الحسين: ينبغي ألا ينقطع الرجوع؛ لأن الرجوع إنما يثبت بالبعضية، والبدل لا يقطعها، وتصير هبة الابن للأب ابتداء عطية من جهته.
إذا وهب لأولاده، وأراد الرجوع في هبة بعضهم: فهل يكره؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ كما تكره هبة بعضهم دون بعض.
والثاني: لا؛ لأن الخبر إنما ورد في التسوية في العطاء [لا] في المنع، قاله الماوردي.
قال: وإن تصدق عليه أي: صدقة [تطوع]، فالمنصوص أي: في "حرملة" – كما قاله القاضي أبو الطيب -: أن له أن يرجع؛ لما ذكرناه من أن صدقة التطوع نوع من الهبة فاندرجت تحت الخبر.
وقيل: لا يرجع؛ لأن القصد بالصدقة إنما هو التقرب إلى الله تعالى فلم يمكن من الرجوع فيه كالعتق، والقصد بالهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الإصلاح في الاسترجاع.
قال: وإن زاد الموهوب [له] زيادة متميزة رجع فيه دون الزيادة؛ لأنها حدثت على ملك الولد فلم تكن موهوبة، وهذا إذا لم يكن الولد مجيبًا حالة الهبة، أما إذا كان [مجيبًا] فقولان.
ولو كانت الزيادة متصلة لم تمنع الرجوع، وكانت للواهب.
وحكى صاحب "العدة" عن شيخه حكاية وجه: أن الزيادة المتصلة تمنع الرجوع في الهبة.
وعلى هذا: لو اختلفنا فالقول قول المتهب، قاله في "الزوائد".
ولو كان الحيوان الموهوب حاملًا حين الرجوع فهل يكون الحمل للواهب أو للولد؟ فيه خلاف في "الحاوي" هنا، وقد قدمت ذكره من قبل.
ثم إذا قلنا: الحمل للولد، فهل يرجع الواهب في الحال، [أو يصبر إلى أن ينفصل؟ فيه وجهان في "التهذيب"، أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: أن يرجع في الحال] ، وبه جزم ابن الصباغ.
قال: وإن أفلس الموهوب له وحجر عليه فقد قيل: يرجع؛ لبقائها على ملك الولد وسبق حقه؛ فإن الغرماء إنما يثبت حقهم بالحجر، وحق الرجوع بنفس الإقباض، وقيل: لا يرجع كما لو رهنه، وهذا هو الأصح في "الرافعي" و"تعليق" القاضي الحسين و"الشامل".
قال: وإن كاتب الموهوب [له] أو رهنه لم يرجع فيه؛ لتعلق حق الغير به قبل الرجوع فأشبه البيع، ومنهم من خرج الرجوع في الكتابة على جواز بيع المكاتب.
قال في "الذخائر": والمذهب الرجوع، فإذا جوزنا لا تبطل الكتابة.
ثم قال بعض أصحابنا: إذا جوزنا بيع المكاتب يبقى مكاتبًا في حق المشتري حتى يعتق بأداء النجوم إليه، وأما في [حق] الرجوع، ففيه احتمال من حيث إن الرجوع يعتمد رقبة العبد؛ فيكاد أن يكون رجوعًا في نجومه، وحكى الإمام وجهًا في جواز الرجوع مع بقاء الرهن، كما حكيناه في جواز الهبة مع وجوده، لكنه يكون موقوفًا.
قال: حتى تنفسخ الكتابة وينفك الرهن؛ لصفاء الملك عن الحقوق المانعة، وقد ادعى الماوردي نفي الخلاف في جواز الرجوع بعد زوال الكتابة.
وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب حكاية وجه: أنه لا يجوز الرجوع، وطرده الإمام فيما لو انفك الرهن أيضاً.
وتعلق الجناية برقبة العبد الموهوب كرهنه في امتناع الرجوع، لكن له أن يفدي الجاني ثم يرجع فيه، كذا حكاه ابن الصباغ عن أبي الطيب في "المجرد"، وأنه قال: وهذا بخلاف ما لو أراد الواهب أن يفك الرهن ببدل ما عليه لم يكن له، والفرق: أن فك الرهن فسخ لعقدٍ عقده الموهوب له فلم يملك ذلك، وهنا لم يتعلق الحق به من جهة العقد؛ فافترقا.
وفي تعليق القاضي الحسين: أن له الرجوع في الجاني، ولا يصير بالرجوع مختارًا للفداء، بل هو بالخيار إن شاء فداه، وإن شاء سلمه ليباع في الجناية.
قال: فإن باعه أو وهبه؛ أي: وأقبضه – لم يرجع في الحال؛ صيانة لحق الغير، وقيل: إن وهب ممن يملك الواهب الرجوع في هبته جاز له أن يرجع عليه؛ لأنه ممن يمكن الرجوع عليه فهو كما لو وهب منه. والصحيح الأول؛ لأن الملك لم ينتقل إليه منه فأشبه ما لو وهبه لأجنبي ثم وهبه الأجنبي لولده، والوجهان جاريان فيما لو انتقلت العين إلى ابن الابن بالإرث – كما حكاه ابن الصباغ – وفيما إذا باعها [ابنه] لابنه كما حكاه المتولي، وكلام صاحب "التهذيب" يقتضي الجزم بالمنع في الصورتين.
فرع: لو وهب لولده، ثم مات الواهب ووارثه أبوه؛ لكون الولد مخالفًا [له] في الدين – قاله المتولي: فلا رجوع [للجد الوارث]؛ لأن الحقوق لا تورث وحدها، وإنما تورث بتبعية الأموال، وهو لا يرث [هذا] المال.
قال: فإن عاد المبيع أو الموهوب إليه، أي: بأي جهة كانت من إرث أو شراء أو فسخٍ، فقد قيل: لا يرجع؛ لأن ذلك حصل في يده الآن من غير جهة الأب فهو كما لو وهب له دراهم فاشترى بها سلعة لم يكن [له] الرجوع [فيها] ، وهذا
أصح عند الشيخ أبي حامد والقاضي الحسين وغيرهما.
وقيل: يرجع؛ لوجود العين على صفتها لم تتغير في ملك الابن، فعلى هذا: لو كان الابن قد اشتراها ولم يوف الثمن كان البائع أولى بالرجوع في عينها، قاله ابن الصباغ.
وق بنى الغزالي هذا الخلاف على أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد؟
ولو ارتد الولد وقلنا: الردة لا تزيل الملك، ثبت له الرجوع، وإن قلنا: تزيله، فلا رجوع.
ثم إذا رجع إلى الإسلام ثبت الرجوع، ومنهم من جعله على الخلاف السابق.
ولو وهب منه عصيرًا، فصار خمرًا، ثم صار خلًا – فله الرجوع؛ لأن الملك الثابت في الخل سببه ملك العصير؛ فكأنه الملك الأول بعينه.
وذكر بعضهم وجهين في أن الملك هل يزول بالتخمير، ووجهين في عود الرجوع؛ تفريعًا على القول بالزوال.
فروع:
إذا وهب منه حبًا، فبذره فنبت، أو بيضة فصارت فرخًا – فلا رجوع؛ لأن ماله [صار] مستهلكًا؛ قاله القاضي الحسين.
وقال في "المهذب": هذا إذا [ضمناها الغاصب] بذلك، وإلا فقد وجد عين ماله، فيرجع فيها.
ولو كان الموهوب ثوبًا، فصبغه الابن، رجع في الثوب، والابن شريك له بالصبغ.
ولو قصره، أو كان الموهوب حنطةً فطحنها، أو غزلًا فنسجه -: فإن لم تزد قيمته، فللأب الرجوع، وإن زادت، قال القاضي الحسين: فالظاهر أنه يرجع، ولا شيء للابن كالسمن.
ويحتمل أن يقال: الابن [يصير] شريكًا؛ كما قلنا في التفليس، خصوصًا إذا قلنا: القصارة عين.
وفي "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب: أنا إن قلنا: القصارة عين، فالابن شريك؛ كالمفلس، وإن قلنا: أثر، فلا شيء له.
ولو كان الموهوب أرضًا، فبنى فيها أو غرس، رجع الأب، ويجبر كالمعير.
وقال القاضي الحسين: فيه قولان كما في التفليس:
أحدهما: لا يرجع.
والثاني: يرجع في العرصة دون البناء والغراس.
وإذا وطئ الابن الجارية الموهوبة ولم يُحبلها، لم يمتنع الرجوع على الأصح.
ولو دبر الولد [العبد] الموهوب لم يمتنع بسبب ذلك الرجوع على أظهر الوجهين، حكاه في "الوسيط" في كتاب الصداق.
فإذا فسخ الأب ولم تزد العين فهي أمانة في يد الولد.
قال: وإن وطئ الواهب الجارية الموهوبة كان ذلك رجوعًا كوطء البائع الجارية المبيعة في زمن الخيار، وقيل: لا يكون رجوعًا؛ لأن ملك الولد ثابت من كل وجه فلا يسقط إلا بصريح الرجوع، بخلاف مسألة البيع؛ فإن الملك ثم ضعيف، وهذا هو الأصح في "الشامل" و"تعليق" القاضي الحسين، وأشار الإمام إلى وجه ثالث، وهو أن مجرد الوطء ليس برجوع، لكن إذا أحبلها كان رجوعًا.
ثم الخلاف المذكور [في الكتاب] يجري فيما إذا باع الواهب الموهوب، أو وهبه من غيره وأقبضه، أو أعتقه، أو أتلف الطعام الموهوب.
وفي "التتمة": أن الإتلاف لا يكون رجوعًا.
وإذا قلنا: إن البيع والهبة رجوع، فهل يصح البيع والهبة؟ فيه وجهان.
وحكى الإمام في أن العتق [هل] يصح ويضمن الرجوع، وجهين عن العراقيين في باب الخيار.
وحكى الفوراني في مسألة البيع ثلاثة أوجه:
أصحها: صحة البيع، وأنه رجوع.
والثاني: لا يصح [البيع] ، ولا يكون رجوعًا.
والثالث: لا يصح البيع، ويكون رجوعًا.
وهذه الأوجه تقدم نظيرها في البيع في زمن الخيار.
ولا نزاع في أن الأب لا يحل له وطء الجارية الموهوبة، ولو جعلنا وطأه رجوعًا، بخلاف الجارية المبيعة، والفرق: أنا لو أحللناه له، لكانت الأمة في وقت واحد حلالًا لشخصين: الأب، والابن، وذلك ممتنع.
واعلم أن الشيخ تكلم فيما يتضمن الرجوع وسكت عن صريح الرجوع؛ لأنه واضح، [فلنذكره الآن] وهو قوله: رجعت فيما وهبه وارتجعت، واسترددت المال، أو رددته إليَّ، وأبطلت الهبة، ونقضتها.
وعن الروياني في "أبطلت الهبة، وفسختها" أنها كناية.
قال الماوردي: [ولا بد من اللفظ فيه وإن كان الولد صغيرًا، واكتفينا في الهبة منه بالنية].
ولا يصح تعليق الرجوع على شرط، وإن جاز تعليق الرجوع في الوصية في أحد الوجهين، كما قاله الماوردي.
فرع تعم به البلوى:
إذا أقر الأب بأن هذه العين ملك ابني، وهي في يدي أمانة، ثم ادعى بعد ذلك بأن المقر به كان نحلةً، وقد رجعت فيه، وكذبه الولد – جزم القاضي الحسين في
"التعليق" هنا بأن القول قول الولد.
وقال في "فتاويه": الظاهر: أن القول قوله أيضاً.
وفي "الإشراف" أن القاضي أبا سعد أفتى في هذه المسألة [بـ"هراة"] بإثبات الرجوع؛ لأن الإقرار المطلق ينزل من السببين أو [الملكين على أضعفهما] كما ينزل من المقدارين على [أقلهما؛ اسبقاءً] للأصل القديم، والسبب الضعيف هنا كون ذلك عن هبة.
و [أن] الشيخ أبا الحسن العبادي، والقاضي أبا الطيب والماوردي أقتوا بمنع الرجوع؛ لأن الأصل بقاء الملك له.
قلت: وهذا الذي يترجح في ظني؛ نظرًا لما ذكره الأكثرون غير القاضي
[فيه] ، وإن كان النواوي قد صحح الرجوع، فإن مرادهم بأقل المقدارين: ما إذا قال: له عليَّ مال عظيم أو دراهم، نزل على أقل ما يتمول، وأقل الجمع، وإنما كان ذلك؛ لأن الأقل اعتضد بالأصل، وهو براءة الذمة مما زاد على ذلك.
وهاهنا أضعف السببين عارضه أن الأصل بقاء الملك؛ فكما عمل [به] ثم بأضعف السببين؛ لأجل اعتضاده بالأصل – وجب أن يعمل هاهنا أقوى السببين؛ لقوته واعتضاده بالأصل من طريق الأولى.
ومما يؤيد ذلك: أن الإقرار للوارث بالعين والدين معمول به على الصحيح باتفاق، وقياس تنزيل الإقرار على أضعف السببين مطلقًا تنزيله على الهبة، وهو إذا نزل على الهبة فأضعف الحالتين فيها حالة المرض مع أن الأصل [عدم] تقدم الهبة عليه؛ فكان مقتضى ذلك: أن يكون الصحيح رد الإقرار للوارث، خصوصًا إذا نازعه بقية الورثة أو الغرماء، ولم يعرف من قال به.
وقد رأيت للنووي التسوية بين الأب والأم والجدة في ذلك، والتصحيح في الكل لقبول التفسير.
وعندي في ذلك نظر؛ فإن الأب يقدر على النقل من غير واسطة، ولا كذلك الأم والجدة إذا لم [تثبت لهما] الولاية، فإن كان ما قاله نقلًا وجب اتباعه، وإن كان تخريجًا، ففيه ما ذكرناه.
والرافعي في "الشرح" لم يتعرض للكلام إلا في الأب، ولا [غيره مما] ذكرناه إلا فيه، والله أعلم.
قال: وإن وهب شيئاً ممن هو أعلى منه؛ أي: كهبة بعض الرعية للسلطان، والغلام لأستاذه، والفقير للغني - ففيه قولان أي: في الجديد، كما حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي عن نصه في كتاب النفقات، والرافعي عن نصه في اخلاف العراقيين:
أحدهما: لا يلزمه الثواب؛ لأن ما صح تملكه من غير ذكر بدل لم يستحق فيه البدل، كالوصية، ولأنه تمليك [مال] لا يعوض فلا يوجب المكافأة [بعوض] كهبة النظير للنظير وهذا هو الصحيح عند المعظم ومنهم القاضي الحسين.
والثاني: يلزمه؛ [لقوله صلى الله عليه وسلم لسلمان: "إنا نقبل الهدية، ونكافئ عليها"، وقوله عليه السلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها"، ولأن العرف يقتضي ذلك فاتبع. وهذا ما اقتصر [بعضهم] على حكايته عن القديم، ورجحه الشيخ أبو محمد والروياني وصاحب "المرشد"، وطرده بعض المراوزة في الهبة للمساوي، وطرده صاحب "التهذيب" في هبة الأعلى للأدنى، والصحيح - وهو المذكور في طريق العراقيين -: الأول، وقرب القاضي الحسين الخلاف من الخلاف في مسألة الغسال والقصار والمزين. ثم محل الخلاف عند بعض الأصحاب فيما إذا نوى
الثواب [عند الهبة]، أما إذا لم ينوه لم يستحقه وجها واحدًا، وقد يستدل له بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"من وهب هبةً يرجو ثوابها فهي ردٌّ على صاحبها [ما] لم يثب عليها".
وعلى هذا: فلو اختلفا في النية فمن القول قوله؟ فيه قولان، ومنهم من طرد القولين سواء نوى أو لم ينو، وهو الأظهر.
ثم الخلاف في الهبة بعينه يجري في الهدية، كما صرح به البندنيجي في كتاب الشفعة، بل من طريق الأولى؛ لأن العرف الغالب اقتضى الثواب فيها دون الهبة.
تنبيه: الثواب: العوض، وأصله من: ثاب، إذا رجع، وكأن المثيب يرجع إلى المثاب مثل ما دفع.
قال: وفي قدر الثواب، أي: إذا أوجبناه - ثلاثة أقوال؛ أي: منصوصة في التفليس - كما قال البندنيجي -:
أحدها: يشبه إلى أن يرضى؛ لما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه – قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة - وفي رواية: بكرةً - فعوضه منها بعض العوض - وفي رواية: بست بكرات - فسخطه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر:"إن رجالًا من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه، فيظل يتسخط فيه عليَّ، وايم الله، لا أقبل – بعد مقامي هذا – من رجل من العرب هديةً، إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي"، زاد أبو داود:"مهاجري"، وفي رواية:
"لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي أو أنصاري أو أوسي".
قال الأصحاب: وإنما خص من ذكر؛ لأنهم مشهورون بسماحة النفوس وقلة الطمع، وعلى هذا يكون للموهوب له الرد إن لم يرض الواهب بالبدل".
والثاني: يلزمه قدر الموهوب؛ لأن العقد إذا اقتضى العوض ولم يستمر فيه وجبت فيه القيمة؛ كالنكاح، وهذا ما رجحه الإمام [والقاضي] الروياني.
فعلى هذا: أي وقت تعتبر القيمة؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب":
أحدهما: يوم القبض، وهو الأظهر.
والثاني: يوم الثواب، و [للموهوب] له ردها على هذا القول إذا طلب الواهب قيمتها، وإن لم يطلب وترك الثواب فليس له الرد، صرح به البندنيجي، وإذا أثابته قدر قيمتها لم يكن للواهب الرجوع.
و [القول] الثالث: يلزمه ما يكون ثوابًا لمثله في العادة؛ لأن العوض ثبت بالعرف فرجع [في قدره] إلى العرف، وهذا ما اختاره في "المرشد".
ومن الأصحاب من أوجب إثابة ما ينطلق عليه الاسم، وفي "الوجيز": أنه يلزمه - على قول - ما يزيد عن القيمة ولو بقليل.
قال الرافعي: ولم أره بهذه العبارة لغيره، ولا له في غير هذا الكتاب، فلعله محمول على ما يكون ثوابًا لمثله في العادة؛ إذ العادة تقتضي زيادة عن القيمة.
و [على] الأقوال كلها: لا يتعين للثواب جنس من الأموال، بل الخيرة فيه إلى المتَّهب.
قال: فإن لم يثبه ثبت للواهب الرجوع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الواهب أحق بهبته ما لم يثب عليها"، ولأنه لم يرض بزوال ملكه بغير عوض، ولا فرق في ذلك بين أن تكون
العين قد زادت في يده زيادة متصلة أم لا.
وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي وجه: [أن] للمتهب أن يمسكها في حال زيادتها ويبذل قيمتها دون الزيادة، ولو تلفت قبل الثواب مع الامتناع من الإثابة رجع في قيمتها على أحد القولين في "الحاوي"، [وهو الأصح في غيره.
ولو نقصت: فإن كان يفعله ضمنه، وكذا بغير فعله على أحد الوجهين في "الحاوي"].
وقيل: للواهب في مثل هذه الحالة أن يترك العين ويطلب القيمة.
وحكى الماوردي: أن غير الموهوب له لو أثاب الواهب جاز، ولم يكن للواهب الرجوع في الهبة - ولا للدافع [أيضاً]- بمثل ما دفع على الموهوب له لينزعه.
قال: فإن قلنا: لا يلزمه الثواب، فشرط [له] ثوابًا مجهولًا بطل؛ لأنه خالف موجب الهبة وإثبات العوض و [موجب] البيع بجهالة العوض فبطل، لكن هل يضمن العين في هذه الحالة إذا تلفت في يده؟ المفهوم من كلام الشيخ الآتي من بعدُ: أنه يضمن؛ تغليبًا لشائبة البيع.
وكان يتجه أن يقال يتغلب شائبة [الهبة]؛ لأن اللفظ لها كما سنذكره في الفصل بعده.
وعلى هذا يكون في الضمان وجهان أو قولان؛ كما في الهبة الفاسدة.
قال: وإن شرط ثوابًا معلومًا ففيه قولان:
أحدهما: يبطل؛ نظرًا إلى اللفظ، وذلك منافٍ له على هذا القول، وهذا ما رواه الربيع، وقال البندنيجي [في كتاب الشفعة] إنه ليس بشيء.
والثاني: يصح؛ نظرًا إلى المعنى، وهذا ما نص عليه في "المختصر"؛ في كتاب الشفعة، وصححه الرافعى.
فعلى هذا: لو اختلفا، فقال: وهبت منك بثواب، وقال المتهب: بل بغير ثواب –
فمن القول قوله؟ فيه وجهان:
الذي أجاب به ابن كج: أنه قول الواهب.
وفي "الجيلي"؛ تفريعًا على هذا القول: أنه يكون هبة. وهذا لا يفهم.
قال: وإن قلنا: يلزمه الثواب، فشرط ثوابًا مجهولًا جاز؛ لأنه أكد مقتضى العقد بالشرط، وحكى الغزالي وجهًا: أنها تبطل؛ بناء على ما سنذكره من أن ذكر العوض يلحقه بالبيع، وإذا كان ييعًا بطل؛ لجهالة العوض.
والقائلون بالصحة يقولون: إنما نجعله ييعًا إذا تعذر جعله هبة، وهاهنا اللفظ والمعنى متطابقان؛ فلا معنى لجعله ييعًا، قال الماوردي: وعلى هذا إذا لم يثبه وتلفت العين لزمه أن يثيب أو يغرم القيمة قولًا واحدًا.
قال: وأن شرط ثوابا معلومًا فقيه قولان:
أحدهما: [أنه] ييطل؛ نظرًا إلى اللفظ، وهذا شرط ينافي مقتضاه، فعلى هذا قال الشيخ:[ويكون] حكمه حكم البيع الباطل؛ لأنه لم يرض بإزالة ملكه لا ببدلٍ، ولم يسلم له، فإذا تلف ضمن قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف على أصح الوجوه، ولو نقصت ضمن النقص.
والثاني: يصح، ويكون حكمه حكم البيع الصحيح؛ نظرًا إلى المعنى، وهذا ما صححه الرافعي، فعلى هذا يثبت خيار المجلس، والشرط، والرد بالغيب، والشفعة.
ومقتضى ما ذكره الشيخ: أن يلزم هذا العقد بمجرده، وتثبت هذه الأحكام.
وحكى المراوزة وجهًا: أنه ينعقد هبة؛ نظرًا إلى اللفظ، ويتعين الثواب لا يفسد العقد؛ لأنه إذا صح مع جهالة الثواب فمع معرفته أولى.
فعلى هذا: لا يثبت [فيه] خيار ولا شفعة، ولا يلزم إلا بالقبض؛ وهذا ما أفهمه كلام الماوردي حيث قال: وعلى هذا القول يكون الفرق بينه وبين البيع: [أنه في
الهبة إذا شرط الثواب المعلوم يكون مخيرًا بين دفع الثواب وبين رد الهبة] ، وفي البيع يلزم دفع الثمن، ولا خيار.
ولو كافأه على هذا بدون المشروط، إلا أنه قريب منه، ففي "شرح" القاضي ابن كج وجهان في أنه هل يجبر على القبول؛ لأن العادة فيه المسامحة، أم لا؟ ولو شرط على قولنا باقتضاء الهبة [الثواب] نفيه صح على الأصح، وفيه وجه: أنه لا يصح؛ لمخالفته وضع العقد.
وإذا أطلقا عقد الهبة، وقلنا باقتضائها الثواب فهل يثبت فيه الخياران؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي في كتاب البيوع.
وإذا خرج الموهوب مستحقًا [رجع المتهب بما بذل، وليس للواهب أن يقول: أهدي إليك غيره. ولو خرج الثواب مستحقًا]، وقلنا بوجوبه كان للمتهب أن يثيبه غيره ويمسك العين، قاله الماوردي.
ولو خرج بعضه مستحقًا فهو بالخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب وبين [أن يرد] الباقي ويرجع بجميع الثواب، وقيل: تبطل الهبة في الكل كما في نظيره من البيع.
ولو وجد المتهب أو الواهب بما قبض عيبًا - كان له رده والرجوع على صاحبه بما أخذ منه، قاله القاضي الحسين. وقضية ما حكينا عن الماوردي: أن الواهب إذا ردَّ ما قبضه لا يمكن من أخذ ما بذله إلا أن يمتنع المتهب من بذل عوضه.
فرع: إذا وهب من شخصين، فرد أحدهما، وقبل الآخر - صحت في حق من قبل، جزم به العراقيون.
وحكى في "التتمة" وجهين فيما إذا وهب [له] عينًا، فقبل نصفها.
وإذا دفع إنسان لآخر دراهم، وقال: ادخل بها الحمام، أو اشتر [بها] لنفسك
عمامة - ففي "فتاوى" القفال: أنه إن كان ذلك على سبيل البسط المعتاد، ملكه، وتصرف فيه كيف شاء. وإن كان غرضه تحصيل ما عينه؛ لما رأى به من الوسخ والشعث، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس - لم يجز صرفه إلى غير ما عينه [له].
وفي "فتاوى" القاضي الحسين: أنه لو دفع دينارًا إلى رجل، وقال: اشتر بهذا سمكًا لنفسك، هل يجوز صرفه إلى شيء آخر؟ يحتمل وجهان.
وسئل الشيخ أبو زيد عن رجل مات أبوه، فبعث له إنسان ثوبًا؛ ليكفنه فيه: فهل يملكه حتى يمسكه، ويكفنه في غيره؟ فقال: إن كان الميت يتبرك بتكفينه؛ لفقه أو ورع؛ فلا، ولو كفنه في غيره وجب رده إلى مالكه.
وفي [كتاب]"الوسيط" في كتاب الوصية: أن للوارث إبداله، وأن الصحيح [أن] هذه عارية في حق الميت، والله أعلم.