الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العتق
العتق في الشرع: إزالة ملك عن رقبة آدمي لا إلى مالكٍ؛ تقرباً لله تعالى.
واحترزنا بقولنا: "عن رقبة آدمي" عن عتق البهائم؛ فإنه غير نافذ على الأصح.
وقيل: إنه إخراج النسمة من ذل الرق إلى عزِّ الحريَّة، وهو عند الأزهري مأخوذ من قولهم: عتق الفرس، إذا سبق ونجا، وعتق فرخ الطائر، إذا طار واستقلَّ. فكأن العبد إذا فكت رقبته من الرق- وهو: الملك- تخلص فذهب حيث شاء.
وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: عتق فرخ الطائر، إذا قوى على الطيران؛ فكأنه بالعتق قوى على التصرفات.
قال صاحب "المحكم": يقال: عَتَقَ يعْتِقُ، عِتَقاً وعَتْقاً- بكسر العين وفتحها- وعَتَاقاً وعَتَاقة؛ فهو عَتِيق، وهم عُتَقَاء، [وأعتقته؛ فهو مُعْتَق وعتيق، وهم عتقاء]، وأمة عَتِيقٌ وعتيقة، وإماء عتائق. وحلف بالعَتَاق، أي: الإعتاق.
وزاد الجوهري فقال: عتُق، فهو عتيق وعاتق، ويقال: رَقَقْتُ العبد أَرُقُّه؛ فهو مرقوق.
قال: العتق قربة مندوب إليها.
الأصل في ذلك قبل الإجماع من الكتاب قوله- تعالى-: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ 12 فَكُّ رَقَبَةٍ 13} [البلد: 11 - 13]، وقوله- تعالى-:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [أي بالإسلام]{وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}
[الأحزاب: 37] أي: بالإعتاق، وكانت قد نزلت في شأن زيد بن حارثة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم تبناه وأعتقه، ومن ثمَّ سمى المولى المعتِق: مُنْعِماً.
ومن السنة: ما روى أبو داود عن أبي نجيح [قال] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلاً مُسْلِماً، فَإِنَّ اللهَ- عز وجل جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ عَظْماً مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِه مِنَ النَّارِ، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا [عَظْماً مِنْ عِظَامِ] مُحَرَّرِها مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ" وأخرجه النسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن [صحيح. وأبو نجيح: هو عمرو بن عبسة السلمي.
وقد جاء في حديث خرجه أبو داود والنسائي] وابن ماجة، عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة- أو مرة بن كعب- أنه صلى الله عليه وسلم قال:"وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأتَيْنِ إِلَّا كَانتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ مَكَانَ كُلِّ عَظْمَيْنِ مِنْهُمَا عَظْم مِنْ عِظَامِهِ"، وقد ضبط بعضهم "السمط" بكسر السين وإسكان الميم.
وما روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ".
وغير ذلك من الأخبار، وخصت "الرقبة" بالذكر دون سائر الأعضاء؛ لأن ملك السيد لعبده كالحبل في الرقبة، وكالغُلِّ هو [به مُحْتَبَسٌ] كما تحبس الدابة بحبل في عنقها؛ فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك، ولأن في العتق فكاكاً من ذلِّ الرق بعز الحرية، وكمال الأحكام بعد نقصانها، والتصرف في نفسه بعد المنع منه، وتملك الرقبة بعد حظره عليه، فكان من أفضل القرب من المعتق، وأجزل النعم على المعتق، ولأن الله- تعالى- كفّر به الذنوب وجبر به المأثم، ومحص به الخطايا، وما هو بهذه الحالة فهو عند الله عظيم.
ثم محل كون العتق قربة إذا كان منجزاً، أما "إذا كان معلقاً" فليس بعقد قربة، وكذلك الإيصاء ليس بعقد قربة، بخلاف التدبير؛ حكاه الرافعي في كتاب الصداق، في مسألة الرجوع بنصفه.
قال: ولا يصح [إلا] من مطلق التصرف في ماله؛ لأنه تصرف في المال في حال الحياة فأشبه الهبة، وقد تقدم حكاية قول في صحة عتق المفلس موقوفاً على فك الحجر [عنه] وبقاء المعتق في ملكه، وحكاية وجه في
صحة عتق الصبي والسفيه في مرض الموت؛ إذا صححنا وصيتهما، ولا فرق في مطلق التصرف بين أن يكون مسلماً أو كافراً، ولا في الكافر بين أن يكون ذميّاً أو حربيّاً، والمعتق مسلم أو حربي، كما صرح به ابن الصباغ وغيره. نعم، عتق الكافر ليس بقربة منه، كما حكاه الرافعي عقيب الكلام في أن الملك في الموقوف لمن يكون؟
قال: ويصح بالصريح والكناية كالطلاق.
قال: وصريحه: العتق والحرية؛ لأنه يثبت لهما عرف الشرع والاستعمال.
وصورته أن يقول: أعتقتك أو: أنت معتق، أو: عتيق، أو: حررتك، أو: أنت حر، [أو: محرر]، ولا فرق بين أن يأتي بهذه الألفاظ على قصد إيقاع العتق أو لا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ثَلاثَةٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ .. " وعد من جملتها: العتق.
فرع: لو كانت أمته تسمى حرة قبل جريان الرق عليها، فقال لها:"يا حرّة" على قصد النداء- لم تعتق، وإن أطلق، فوجهان، أشبههما: عدم العتق.
[وإن قال لها ذلك في معرض التوبيخ لم تعتق، وإن لم يكن اسمها حرة، جزم به القاضي الحسين قبل إقرار الوارث].
قال: والكناية قوله: لا ملك لي عليك، ولا سلطان لي عليك، ولا سبيل لي عليك، وأنت لله، وأنت طالق، وأنت حرامٌ، وحبلك على غاربك، وما أشبه ذلك أي: كقوله: لا رق لي عليك، أو: لا حكم لي عليك، أو: لا يد، أو: لا أمر، أو: لا خدمة، أو: أنت سائبة- كما صرّح [به] ابن الصباغ وغيره- أو: أنت مولاتي- كما قال في "التهذيب"- أو: أنت سيدتي عند الإمام دون القاضي الحسين؛ لأن ذلك يحتمل العتق وغيره، وفي قوله للجارية: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنا منك حُرٌّ- وجهان في أن ذلك كناية أو ليس بكناية، والمختار في "المرشد" في الأولى: الثاني، والأول هو الذي قال به أكثر أصحابنا في الثانية؛ كما قاله في "المهذب" في كتاب: الطلاق.
وما عدا ذلك من صرائح الطلاق وكناياته فهو كناية في العتق، قاله في "التهذيب" و"تعليق" البندنيجي، وجعل في "التتمة" في أول كتاب:"الصلح" قول السيّد لعبده: "ملكتك رقبتك" كناية، حيث قال: لا يعتق من غير نيَّة، وهو ما حكاه في "البحر" عن "الأم"، وألحق به ما إذا قال: ملكتك على نفسك، فإذا أراد العتق وقع.
وجزم في "التهذيب" و"تعليق" القاضي الحسين بأنه إذا قال: وهبتك نفسك، أو: ملكتك [نفسك]، وقبل في المجلس- بالعتق، وأنه إذا لم يقبل في المجلس لم يعتق.
واعلم أن ضابط الكناية: هو كل لفظ محتمل شيئين فصاعداً، يقال: كنيت بكذا عن كذا وكنَوت، حكاهما الجوهري وغيره، وهو كانٍ وقومٌ كانُون. ومعنى قوله: حبلك على غاربك، قد بينته في كتاب "الطلاق".
قال: وفي قوله: فككت رقبتك وجهان:
أحدهما: أنه صريح؛ لأنه قد ورد به القرآن الكريم في قوله- تعالى-: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13].
والثاني: أنه كناية؛ لأنه يستعمل في العتق وغيره، وهذا هو الأصح في "الجيلي".
والأول جزم به البندنيجي، وقال في "البحر": إنه ظاهر المذهب، نص عليه في "الأم"، لكنه صور المسألة بما إذا قال:"فككت رقبتك من الرق"، ثم حكى [عن] بعضهم الوجهين فيه أيضاً.
ومادة هذا الخلاف: [أن ما] ورد في القرآن مرة واحدة ولم يتكرر على لسان حملة الشريعة، هل يكون صريحاً أو كناية؟ وسيأتي الكلام فيه في كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى.
فرع: لو قال لعبده: "أعتقك الله"، قال القاضي الحسين: لا يعتق؛ لأنه دعاء له بالإعتاق.
وجزم العبادي في "الزيادات" بأنه يعتق، وطرده فيما إذا قال لامرأته:"طلقك الله"؛ لأن الله لا يطلق، [إلَّا وهي] طالق.
وقال القاضي: إذا قال لعبده: "أعتقك الله"، فالظاهر أن هذا صريح في العتق.
قال: [ويقع العتق] بالصريح من غير نيّة؛ لأن حقيقة الصريح في الشيء: ما لا يفهم منه غيره عند الإطلاق، مأخوذ من قولهم:"نسب صريح" أي: خالص، لا خلل فيه، وإذا كان كذلك فلا معنى لتقويته بالنيّة.
قال: ولا يقع بالكناية إلَّا بالنية؛ لأن اللفظ [فيها] محتمل للعتق وغيره، فافتقر في الصحة إلى النية؛ لأجل التمييز، كما في الإمساك في الصوم.
ولا فرق في ذلك بين أن يحتف بالكناية قرينة أم لا.
[قال] ويجوز أن يعلق العتق على الأخطار والصفات: كمجيء الأمطار، وهبوب الرياح، وغير ذلك من الصفات أي: كقدوم زيد، ومجيء الشهر، ودخول الدار، ونحو ذلك؛ لأنه تعليق قربة سارية على صفة؛ فجاز قياساً على التدبير، وقولنا:"سارية"، يخرج الوقف.
فروع:
لو قال لأمته: "إذا ولدت ولداً فهو حرٌّ"، فإن كانت حاملاً حال التعليق [فولدت ولداً حيّاً عتق، وإن ولدته ميتاً ثم حملت وولدت حيّاً لم يعتق، وإن كانت حائلاً وقت التعليق] ثم حملت ووضعت فهل تعتق؟ فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي: أنه لا تعتق، ووجه حصول العتق-[وهو الأشبه في "الرافعي"]-: أنه مالك للأصل حالة التعليق.
لو قال: إن ولدت أولاً ذكراً فهو حر، وإن ولدت أولاً أنثى فأنت حرة، فولدت ذكراً وأنثى-: فإن خرجا معاً لم يعتق واحد منهما، وكذا لو خرج ذكران معاً أو أنثيان معاً، [وإن خرج غلام وجارية] أحدهما بعد الآخر: فإن كان السابق الغلام عتق خاصة، وإن كانت الجارية عتقت الأم [والغلام؛ لأنه في حال عتق الأم كان جنيناً فيتبعها في العتق، ولا تعتق الأنثى بخروجها قبل عتق الأم]، فلو أشكل الحال: فإن كان [الإشكال في أنهما خرجا معاً، أو أحدهما قبل الآخر فلا عتق، وإن تحقق خروج] أحدهما بعد الآخر وأشكل السابق، فعن ابن الحداد: أنه يقرع بين الغلام والأم، فإن خرجت على الأم عتقت هي والغلام، وإن خرجت على الغلام رقت الأم، وقد وافقه بعض الأصحاب على ذلك،
وصححه القاضي أبو الطيب، وقد استشهد له بما [إذا] قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزوجته طالق، وإن لم يكن غراباً فعبده حرٌّ، فإنه [عند اللبس يقرع] بينهما لأجل الحريّة، وإن كانت القرعة لا تفيد في الطرف الآخر، والذي ذهب إليه الأكثرون- وهو الأصح في "التهذيب"-: أن القرعة لا معنى لها في هذه الصورة.
قال في "التهذيب": لأن القرعة إنما تكون في موضع يتحقق الوقوع، [ثم يشكل]، وهنا لم يتحقق الوقوع فلا قرعة؛ كما لو طار طائر فقال رجل: إن كان هذا غراباً فعبدي حُرٌّ، وإن لم نتبين لا يقرع للحرية.
ووجهه الإمام: بأن القرعة [إنما تجري] إذا تردد العتق بين شخصين، ورددنا العتق بينهما قصداً، وأشكل الأمر، وليس الأمر كذلك في هذه المسألة؛ فإن الغلام لم يحصل في معاوضة الجارية، فالوجه أن يقال: الغلام حُرٌّ بكل حال، والأم أشكل أمرها؛ فالأصل بقاء [الرق فيها]، وبما ذكرناه عن الإمام من العلة يظهر الفرق بين هذه المسألة، وبين ما صار إليه جمهور الأصحاب فيما إذا أشار شخص إلى أمة لها ثلاثة أولاد، وقال: أحد هؤلاء ولدي، استولدتها به في ملكي- أنه يقرع بين الأولاد الثلاثة مع أن الأصغر [حرّ] بكل حال؛ فتكون فائدة القرعة: أنها لو خرجت عليه [اقتصر العتق عليه]، وإن خرجت على غيره عتق مع غيره، وغلطوا المزني في قوله معترضاً على نص الشافعي- رضي الله عنه:"كيف يدخل الصغير في القرعة وهو حر بكل حال؟! "؛ لأجل ما أبدوه من الفائدة، على أن في النفس من تسليم ما ادعاه الإمام شيئاً.
إذا قال: أول عبد من عبيدي يدخل الدار فهو حرّ، فدخل واحد عتق، وإن لم
يدخل ثان على الأصح، وهو ما ادعى الشيخ أبو علي نفي الخلاف في نظيره، حيث قال: لو قال: [إن كان] أول ولد تلدينه من هذا الحمل ذكراً فأنت طالق، فولدت ولداً ولم تلد غيره-: إنه لا يختلف أصحابنا أنه يقع الطلاق، وليس من شرط كونه أولاً أن تلد بعده آخراً، وإنما الشرط ألَّا [يتقدمه غيره].
و [حكي في "التتمة" وجهاً: أنه لا] يقع الطلاق، [قال:] والأول يقتضي آخراً كما أن الآخر يقتضي أولاً. وهذا قد حكي مثله في مسألتنا أيضاً، وإيراد بعضهم يقتضي ترجيحه.
ولو دخل اثنان معاً، ثم دخل واحد- لم يعتق واحد منهم؛ لأن اسم الأول لمفرد حكاه في "التتمة" في الفصل الرابع من بيان القسمة من كتاب الوصية.
لو قال: آخر عبد من عبيدي يدخل الدار فهو حرُّ، [فدخل واحد ثم واحد، وهكذا]- لم يعتق أحد ما دام الحالف حيّاً؛ لجواز أن يدخل بعدهم غيرهم، فإذا مات تبيَّنّا عتق آخر من دخل منهم قبل [موت السيّد] إذا كان موجوداً حين اليمين، فلو كان آخرهم دخولاً من لم يكن في ملكه حال اليمين فالذي يظهر أن يقال: لا يعتق واحد منهم؛ لأن الموجودين لم توجد الصفة في واحد منهم، والذي وجدت فيه الصفة لم يكن حين التعليق في ملكه؛ فلم يقع.
قال: وإذا علق العتق على صفة لم يملك الرجوع فيه بالقول؛ لأنه تعليق قربة، فلم يملك الرجوع فيها بقول؛ كاليمين والنذر، فإذا وجدت الصفة نفذ العتق، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلق في تلك الحالة مجنوناً أو سفيهاً، ولو كان محجوراً عليه بفلس، قال القاضي الحسين: فالأصح [من المذهب]: أن الاعتبار بوقت وجود الصفة. ومن أصحابنا من قال: قولان؛ كما في مسألة الطلاق والعتاق.
إذا علق وكان المعلق صحيحاً، ثم وجدت الصفة في حال المرض- فأصح القولين في "التهذيب": أن الاعتبار بحال التعليق، وكذلك هو في "تعليق" القاضي في موضع آخر من كتاب العتق أو التدبير، فإن قلنا: الاعتبار بحال وجود الصفة، لم يعتق.
قال القاضي: إلَّا على قولنا: إن تصرف المحجور عليه بالفلس [يكون موقوفاً]؛ فها هنا يكون موقوفاً، وإن قلنا: الاعتبار بيوم التعليق- وهو مذهب العراقيين- فنصيبه يعتق لا محالة، وهل يسري؟ إن قلنا: إن الدين يمنع السريان، امتنع، وإلّا سرى، وضارب الشريك الغرماء.
قال: ويملك التصرف بالبيع وغيره، أي: كالهبة مع الإقباض، وجعله صداقاً، وبدلاً في الخلع، وعن دم العمد وغير ذلك؛ لأنها قربة علقت على شرط فجاز الرجوع فيها بالفعل المزيل الملك؛ كالتدبير، وقد خالف [الرجوع في] العتق الرجوع في الهبة من الولد؛ حيث لا يصح هناك بالفعل على الأصح، [ويصح بالقول].
وفرّق الأصحاب: بأن الابن ملك الموهوب ملكاً تامّاً، فكان الرجوع ابتداء تمليك؛ فاختص بما يملك به الأموال المنتقلة عن الغير، وهو اللفظ؛ فإنه لو جاز بالفعل لكان فيه بيع ملك الغير، أو تقدير انتقال الملك قبله، وذلك إنما يصار إليه للضرورة، ولا ضرورة، وهنا التصرف واقع في ملكه؛ فاكتفى فيه بالفعل.
وقد ألحق البندنيجي بما ذكرناه: الرهن مع الإقباض، وقد ذكرنا حكمه في كتاب الرهن والوقف.
إن قلنا: يزيل الملك كالبيع، وإلا فيعتق عند وجود الصفة، قاله القاضي الحسين في كتاب: الوقف، [ويتجه تخريجه على أن الاعتبار بماذا لو أخر المعلق عتقه بصفة عتق عند وجودها وانفسخت الإجارة؟ قال القاضي حسين: في كتاب الوقف] بخلاف ما لو أعتق العبد المستأجر ابتداء: لا تنفسخ [الإجارة]؛ لأن ها هنا وجد سبب الإعتاق قبل الفعل.
قال: فإن باعه ثم اشتراه لم تعد الصفة؛ لأن الملك الذي وجد فيه التعليق قد زال بآثاره، وبزواله بطلت الصفة، والملك الجديد غير مبني على الأول، والعتق علق قبله فلم يقع فيه؛ كما لو علق عتق عبد على ملكه، وما ذكرناه من الخلاف عن القديم والجديد في نظير المسألة من الطلاق مذكورٌ بعينه هنا، وقد صوّر [بعضهم محل] القول الثالث في الطلاق هنا: بأن يعلق الذمي عتق عبده [الكافر]، فيلتحق المعتق والمعتق بدار الحرب، [وكان قد نجَز عتقه قبل الإلحاق] ثم يملك السيد عبْده بالقهر والغلبة قبل وجود الصفة، ثم يؤخذ وهو في هذا الملك، [ولو باعه ثم وجدت الصفة ثم اشتراه، فقياس ما تقدم في الطلاق: ألا يعتق، وفي "البحر" في كتاب الأيمان: أن ابن أبي هريرة قال: يعتق ويقبض البيع ويرجع بثمنه؛ لاستحقاق عتقه قبل بيعه. قال: وهذا غلط؛ لأن نفوذ البيع أوجب زوال ملكه].
قال: وإن علق العتق على صفة مطلقة، فمات السيد بطلت الصفة، صورة المسألة أن يقول: إذا وقع المطر أو قدم زيد فأنت حر، ثم مات السيّد، ووجد ذلك بعد موته، وإنما بطلت الصفة؛ لأن وجودها يحتمل أن يحصل في حياته
وبعد وفاته، وتصرّف الإنسان مقصور على حال الحياة؛ فحمل إطلاق الصفة عليه.
قال: وإن علق على صفة بعد الموت، أي: مثل أن قال: إذا مت ودخلت الدار، أو خدمت فلاناً كذا، وما جانس ذلك فأنت حر، [ثم مات] السيد- لم تبطل الصفة، أي: فإذا وجدت عتق؛ لأنه يملك العتق بعد الموت من الثلث بالتدبير، فملك عقده على صفة [بعد الموت في الثلث، كما أنه لما ملك العتق] في حال الحياة من رأس المال ملك [عقده على صفة في حال الحياة من رأس المال].
قال: وإن أتت الجارية التي علق عتقها على صفة، بولد- أي: من نكاح أو زنى- تبعها الولد في أحد القولين؛ كولد أم الولد، ولا يتبعها في الآخر، وهو الأصح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد؛ كالرهن، والوصيّة، والهبة.
وحكى القاضي الحسين عن بعضهم في كتاب التدبير: القطع به، وهذا الخلاف في الولد الذي يحدث العلوق به بعد التعليق، أما إذا كان موجوداً عند التعليق فهو تابع لها، قولاً واحداً، صرّح به ابن الصباغ وغيره في كتاب التدبير.
ثم اعلم أن التبعية ها هنا تكون في العتق- إذا حصل للأم- لا في الصفة؛ إذا كانت الصفة فعلها كدخولها الدار، حتى لو ماتت قبل الدخول ثم دخل ولدها الدار لم يعتق جزماً، بخلاف ولد المدبرة إذا قلنا: إنه يتبعها؛ فإن التبعية تكون في الصفة لا في العتق، حتى لو ماتت الأم ثم مات السيد والولد في ملكه، عتق إذا خرج من الثلث.
قال ابن الصباغ: والفرق بينهما: أن ها هنا الشرط دخول الأم الدار، وإذا ماتت فات الشرط، والشرط في المدبر موت السيد، ولم يَفُتْ ذلك في حق الولد بموت أمه. نعم، لو كانت الصفة من فعل السيد، أو فعل غيرهما فيكون كولد
المدبرة سواء. هذا آخر كلامه، وغيره لم يفصل بين أن تكون الصفة من فعلها أو من فعل غيرها، بل أطلق أن ولد المعلق عتقها لا يتبعها في الصفة، ويتبعها في العتق، بخلاف ولد المدبرة؛ فإنه يتبعها، ومنهم الماوردي، وفرق بأن عتق المدبرة مستحق بالوفاة، وعتق الصفة مستحق في الحياة، وحكم ما استحق في الحياة خاص؛ كالعقود، وما استحق بالموت عام؛ كالميراث.
وحكى الإمام عن شيخه: أنه كان يقول: متى تعدى العتق إلى ولد المعلق عتقها بصفة، فدخل الدار- عتق، وأما أنه [يعتق بعتق] الأم فلا.
قال الإمام: وهذا وإن كان غريباً في الحكاية فليس بعيداً في التوجيه.
قال: ويجوز العتق في العبد؛ للخبر، وفي بعضه بالقياس عليه، ولما سنذكره من الخبر عند عتق الشريك حصته وهو معسر.
قال: فإن أعتق بعض عبده عتق جميعه؛ لما روى أبو داود عن أبي المليح عن أبيه: أن رجلاً أعتق شقصاً له من غلام، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ" وزاد ابن كثير في حديثه: "فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِتْقَهُ"، وأخرجه النسائي وابن ماجة. وروى أنه أعتق ثُلُث غلامه فقال:"هو حُرٌّ كله، ليس فيه شِرْك"، ولأنه لو أعتق بعض عبد لا يملك سواه وهو موسر عتق جميعه وإن لم يكن ملكه، ففيما إذا كان الباقي ملكه من طريق الأولى؛ لأنه موسر به. لكن هل نقول وقع العتق على ما سماه ثم سرى إلى الباقي أو وقع العتق على جميع العبد جملة واحدة، ويكون قد عبّر بالبعض عن الكل؟ فيه خلاف ذكر مثله في مسألة الكتاب في الطلاق وهو جارٍ فيما إذا أوقع العتق على عضو من
أعضاء العبد كاليد والخنصر وغيرهما، ورتب القاضي الحسين الخلاف في الصورة الثانية على الخلاف في الأولى، فقال: إن قلنا بوقوعه في الأولى على الجميع ففي الثانية أولى، وإلّا فوجهان، والفرق: أن الجزء المعيّن من العبد لا يتصور انفراده بالحرية، بخلاف الجزء الشائع، وهذا لا يجيء في الطلاق، وعلى هذا الترتيب جرى الإمام.
ومن ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أضاف العتق إلى جزء شائع: أنه لو أوصى بعتق بعض عبده بعد موته، فإن قلنا: إن عتق الباقي يقع بطريق السراية، لم يعتق عن الميت إلَّا ما أوصى بعتقه، وإن قلنا: يقع بطريق [التعبير بالبعض عن الكل]، أعتق عنه جميع العبد، قاله في "البحر".
ومن ثمرته ما إذا أضيف إلى عضو معيّن: أنه لو قال: إن دخلت الدار فخنصرك حر، ثم قطع، ثم دخل الدار- فعلى الأول: لا يعتق، وعلى الثاني يعتق، وكذا لو قال: خنصرك حرٌّ- ولا خنصر له- فعلى الأول: لا يعتق، وعلى الثاني: يعتق. واستبعد القاضي الحسين وقوع العتق في هذه الصورة؛ بأنه لم يضفْ إلى شيء متصل بها؛ فأشبه ما لو قال: يدك الثالثة، أو: رجلك الثالثة حرة؛ فإنه لا يعتق. وحكى الإمام ذلك طريقة ولم يسم الصائر إليها، وقال: إنها أفقه.
وقال القاضي الحسين في الصورة الأولى: إن قلنا: إن الاعتبار في تعليق الطلاق [بحالة العتق] عتقت، وإن قلنا: بحالة وجود الصفة، فوجهان؛ بناءً على ما ذكرناه من المأخذين.
قال: وإن عتق شركاً له في عبد أي: في الصحة، والمعتق مما يمكن أن يسري إليه العتق لو كان المعتق هو الشريك الآخر، وحصة الشريك الآخر قابلة للعتق.
قال: فإن كان معسراً عتق نصيبه ورق الباقي؛ لما روى مالك عن نافع عن ابن
عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ العَدْلِ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، [وَأَعْتَقَ عَلَيْهِ العَبْد] وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ". وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه: وزاد فيه بعضهم: "وَرَقَّ [مِنْهُ] مَا رَقَّ"، وقد خرج هذه الزيادة الدارقطني في سننه.
وقال في كتاب "الأفراد": تفرد به إسماعيل بن مرزوق عن يحيى بن أيوب عنه- يعني: عن عبد الله بن عمر- عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال الشيخ زكي الدين [عبد العظيم]: وإسماعيل هذا مرادي بصري كنيته: أبو زيد، روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن أيوب، واحتج به مسلم، واستشهد به البخاري.
فإن قيل: قد خرج أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصاً فِي مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، فَلِمَ لا عمل بموجب ذلك؟
قيل: ما ذكرناه من الأحاديث ليس فيه ذكر السعاية، والسعاية المذكورة
محمولة على أن العبد يستسعى لسيّده الذي لم يعتق [أي]: يخدمه بقدر نصيبه؛ كي لا يظن أنه يحرم عليه استخدامه، وكذلك قال:"غَيْرَ مَشْقُوقٍ [عَلَيْهِ] " أي: لا يحمل فوق ما يلزمه من الخدمة.
فإن قيل: جاء عنه في رواية أخرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَعْتَقَ شِقْصاً لَهُ أَوْ شَقِيصاً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ لِصَاحِبِهِ فِي قِيمَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، وهذا ينفي التأويل.
قيل في جوابه: إن أبا داود قد رواه عن روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة [ولم يذكر السعاية، ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة] ولم يذكرا فيه السعاية.
وقال البخاري: رواه سعيد عن قتادة ولم يذكر فيه السعاية.
وقال الترمذي: روى شعبة هذا الحديث عن قتادة ولم يذكر أمر السعاية.
وقال الخطابي: اضطرب سعيد بن أبي عروبة في السعاية يذكرها مرة، ولا يذكرها مرة؛ فَدَلَّ على أنها ليست من متن الحديث عنده، وإنما هو من كلام قتادة، وتفسيره على ما ذكره همام وبينه؛ فإن النسائي قال: إن هماماً ما روى هذا الحديث عن قتادة، فجعل الكلام الأخير- قوله:"وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"- قول قتادة، والله تعالى أعلم.
ويندرج في هذه الحالة ما إذا أوصى بعتق حصته من عبد بعد الموت، أو دبر حصته من عبده؛ لأن التركة انتقلت إلى الورثة بموته، اللهم إلَّا أن يوصي بأن يعتق حصته، ويكمل من ثلثه؛ فإن ذلك يصير كالمستثنى من مال الورثة؛ فيكون موسراً به، كذا قاله الروياني، وحكى الرافعي عن القاضي أبي الطيب أنه قال: عندي إذا أوصى بالتكميل؛ فإنما يكمل باختيار الشريك؛ لأن التقويم إذا لم يكن
مستحقًّا لا يصير مستحقًّا باختيار العتق؛ ألا ترى أن المعتق لو كان معسراً ثم أيسر وقال: قوموه عليَّ حتى أستقرض، لا يجبر الشركي عليه؟!
وحكى الإمام أن صورة الوصيّة بالتكملة أن يقول: اشتروا نصيب الشريك فأعتقوه، فأما إذا قال: أعتقوه إعتاقاً سارياً، فلا خير في هذه الوصيّة؛ لأنه لا سراية بعد الموت، وإن أعتقوا نصيبه، فالذي أتى به وصيّة بمحال.
قال: وإن كان موسراً أي: حالة العتق بقيمة نصيب الشريك مما يجب عليه توفيته الدين؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره.
قال: قوم عليه نصيب شريكه يوم العتق أي: وسرى العتق إليه؛ للحديث السابق.
ولا فرق على المذهب فيما ذكره الشيخ بين أن يكون المعتق مسلماً [أو كافراً]، [أو العبد مسلماً] أو كافراً، ولا بين أن يكون على المعتق دين يساوي ما معه من قيمة حصة الشريك، أو لا دين عليه؛ لعموم الخبر.
وقيل: إن كان العبد مسلماً والمعتق كافراً لم يقوم عليه؛ بناءً على أن الكافر لا يملك [العبد] المسلم؛ لأن السراية تتضمن نقل الملك إلى المعتق.
وحكى المصنف: أن منهم من قطع بالأول؛ لأن هذا إتلاف، والبيع إنما منع لكون فيه ذلٌّ، وهو منتفٍ هنا.
وقيل: إن كان عليه دين يستغرق ما معه لم يسر العتق، كما يمنع وجوب الزكاة على قول حكاه الفريقان.
قال القاضي الحسين: ووجه الشبه أن الزكاة إنما تجب عليه مواساة [للفقراء، وكذلك] في هذا الموضع إنما يقوم عليه نصيب شريكه على وجه المواساة حتى لا يبقى متحيّراً.
وقال الإمام: إن الجامع كون العتق حقّاً لله- تعالى- وهو متعلق بحق الآدمي في الخواص؛ فكان في معنى الزكاة، وخص الماوردي محل الخلاف بما
إذا كان الدين حالّاً، وجزم بالسريان عند تأجيله.
أما إذا كان ما باشره بالعتق لا يمكن عتقه بالسراية، كما إذا استولد الشريك الجارية المشتركة بينه وبين غيره نصفين مثلاً، وهو معسر، ثم أيسر وأعتق حصته المستولدة، فإن حصته ينفذ [العتق] فيها، ولا يسري إلى نصيب شريكه.
قال القاضي أبو الطيب في كتاب: الشفعة: لأن العتق لا يسري عند إعتاق النصف الطلق إلى النصف المحكوم بأنه أم ولد؛ فكذلك العكس، وقد حكى الماوردي وغيره فيما إذا استولد الجارية المشتركة وهو معسر، ثم استولدها الشريك الآخر وهو معسر، ثم أيسر أحدهما وأعتق نصيبه- وجهاً: أن العتق يسري إلى حصة الآخر، ويعتق على المنجز، وهذا الوجه يجري هنا من طريق الأولى، كما أجرى أيضاً فيما إذا استولد أحدهما حصته وهو معسر، ثم أعتق الشريك الآخر حصته الطلق، ولو تعلق بحصة الذي لم يعتق حق- لازم كما إذا كانت موقوفة- لم يسر العتق إليها قولاً واحداً، كما حكاه المصنف والقاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي، والقاضي الحسين، وغيرهم في كتاب الوقف، والفرق بين ذلك وبين الحصة المستولدة، حيث جرى إليها العتق على وجه: أنها قابلة للعتق المنجز؛ فلذلك قبلت عتق السراية واغتفر فيها نقل الملك الضمني، والوقف غير قابل للعتق الناجز على الأصح كما "ذكرناه" في كتاب الوقف.
ولو كان تعلق الحق بسبب الرهن، فقد تقدم ذكره في الرهن، ولو كان العتق في حال مرض الموت أو موصي به، فالنظر في اليسار بقيمة الشريك والإعسار بها [بالنظر] إلى الثلث دون جميع ماله.
تنبيه: الاعتبار في التقويم بالوقت الذي أعتق الشريك حصته فيه، على الأقوال كلها عند العراقيين والقاضي الحسين، و [هو] ما ادعاه المزني؛ لأنه وقت الإتلاف [أو وقت] سببه، وإطلاق الشيخ وغيره محمول [عليه؛ لأن الغالب] أن القيم لا تختلف في اليوم الواحد في الرقيق.
وقال بعض المراوزة: إن قلنا: يقوم في الحال، فالحكم كذلك، وإن قلنا: بالتأخير إلى الأداء، فثلاثة أوجه:
أحدها: الاعتبار بحال الإعتاق أيضاً.
والثاني: بحال الأداء.
والثالث: يعتبر أكثر الأمرين، وهذا ما نسبه الإمام إلى بعض المصنفين، وقال: إنه الصواب، وإن وجه اعتبار يوم أداء القيمة [لا اتجاه له] إلَّا على وجه من جوز [للشريك] التصرف بالبيع والعتق، كما سنذكره.
وسلك الماوردي طريقاً آخر فقال: الاعتبار بقيمة يوم الإعتاق على الأقوال كلها إن كانت أزيد قيمة من حين العتق إلى حين بذل القيمة، وإن كانت أنقص، وقلنا بسراية العتق باللفظ أو بقول الوقف- فالاعتبار بقيمة وقت العتق، وإن قلنا: بتوقف السراية على [أداء] القيمة ففيه وجهان:
أحدهما: الاعتبار بوقت العتق؛ لأنه السبب.
والثاني: الاعتبار بحال أداء القيمة؛ كالغاصب.
ثم الحصة التي سرى إليها العتق تقوّم قبل العتق، حتى لو كانت قيمة نصفه قبل العتق مائة، ووقت العتق تساوي تسعين، وكان النقص بسبب العتق- لزمته المائة، ولو كان الجميع قبل العتق يساوي ثلاثمائة، والنصف يساوي
مائة- لا يلزمه إلَّا مائة، قاله في "شرح فروع ابن الحداد" في كتاب الغصب، وكذلك حكاه في "البحر" فيه، والماوردي هنا، ووجهه بأن العتق موكس بقيمته، وهذا الوكس بعتقه الجاري مجرى جنايته.
قال: ومتى تعتق حصة الشريك؟
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: تعتق في الحال، لما روى أبو داود عن أبي هريرة- رضي الله عنه أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه، وغرمه بقيّة ثمنه. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيباً لَهُ في مَمْلُوكٍ عَتَقَ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ"، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه.
ولأن العتق إذا سرى سرى في الحال؛ كما لو كان كل العبد له.
[ولأن القيمة تعتبر] حال العتق؛ فدلّ على أن تلك الحالة حالة الإتلاف.
وهذا ما قال الماوردي: إنه المشهور من المذهب، ولم يحك في كتاب الوصايا في العتق، واختلاف الأحاديث، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى- سواه، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ فعلى هذا يكون حكمه حكم الأحرار في [شهادته وجميع] الأمور.
وهل نقول: حصلت الحرية فيه دفعة واحدة، أو حصلت في نصيب المعتق، ثم ترتب عليها عتق حصة الشريك؟ فيه وجهان في "الحاوي" هنا، و"الشامل" في كتاب الظهار ونسب الأول إلى شاذ أصحابنا.
وحكى الإمام عن الأصحاب: أن الملك ينتقل إلى المعتق، ثم يترتب عليه العتق، وذلك في وقتين وإن كانا لا يدركان بالحس، وحكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يحصل نقل الملك والعتق معاً من غير ترتيب، وأنه لما قيل له: هذا جمع بين النقيضين، قال: لا يبعد هذا في الأحكام، وإنما يمتنع اجتماع المتضادات المحسوسة، وأنه طرد مذهبه في شراء [الرجل] من يعتق عليه. وهذا كلام سخيف متروك عليه [باطل] قطعاً.
قال: فإن اختلفا في القيمة، أي: على هذا القول عند تلف المعتق أو غيبته، أو تغيّر القيمة؛ لطول المدة- "فالقول قول المعتق"؛ لأنه [غارم]، والأصل فراغ ذمته مما لم يعترف به.
قال: والثاني يعتق بدفع القيمة؛ لأنه جاء في بعض الروايات عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا كَانَ العَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ: فَإِنْ كَانَ مُوسِراً يُقَوَّمْ عَلَيْهِ قِيمة عَدْل، لا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، ثَمَّ يَعْتِقُ"، خرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. [ولأنه يعتق بعوض ورد الشرع به؛ فلا يسبق وقوع العتق دفع العوض، كالكتابة] ولأنه إزالة ملك لدفع الضرر؛ فلا يتقرر إلَّا بأداء العوض، كالشفيع يملك الأخذ بالشفعة، ولا يتقرر الملك حتى يدفع المال.
ولأنه إنما يقوّم عليه نظراً للشريك، ولا نظر له في إزالة ملكه قبل أن يصل إلى عوضه، وهذا ما نص عليه في القديم، وفي الجديد أيضاً.
قال: فإن اختلفا في القيمة، أي: على هذا القول، "فالقول قول الشريك"؛ لأن المعتق يريد نزع ملكه بما يبذله؛ فكان القول في العوض قول الشريك؛ كالمشتري مع الشفيع، وعلى هذا القول فروع أخر.
أحدها: قال الماوردي: هذا التقويم هل يجري مجرى البيع أو مجرى قيمة مستهلك؟ فيه وجهان:
أحدهما- وهو قول المزني وبعض المتأخرين-: أنه تقويم مستهلك.
والثاني- وهو قول شاذي المتأخرين-: أنه يجري مجرى البيع.
الثاني: لو مكن المعتق الشريك من قبض القيمة، فلم يقبضها- لا يحصل العتق، وعن بعض أصحابنا: أنه يحصل، [ويملك ما بذل له، كما صرّح به الماوردي وقال: إنه- على الوجهين معاً- لو أبرأ الشريك من القيمة لم يبرأ بها] المعتق؛ لأن وقوع العتق بدفع القيمة، وليس الإبراء دفعاً، ويفارق عتق المكاتب بالإبراء عن النجوم؛ لأنها تثبت عن تراضٍ فشابهت الديون، وهذا العتق عن إجبار يغلب فيه حكم العتق بالصفة.
الثالث: [للشريك مطالبة المعتق بالقيمة] فإن لم يطالبه كان للعبد مطالبته؛ لدفع القيمة [ليحصل له العتق]؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، فَعَلَيْهِ [خَلَاصُهُ] "، فلو سكت العبد [أيضاً]، قال المصنف والماوردي: كان للحاكم المطالبة بذلك؛ لما في العتق من حق الله تعالى.
وفي "تعليق" القاضي الحسين بعد حكاية ما "حكيناه" عن المذهب: أن مطالبة الشريك له تحتمل أن تتخرج على أن تصرفاته هل تنفذ أم لا؟ فإن قلنا: [لا]
[ينفذ، خيّره] وإلَّا فلا، وهذا الاحتمال اقتصر عليه الإمام.
ولو مات المعتق قبل أداء القيمة، أخذت من تركته، صرّح به الماوردي [في أوائل الكتاب.
الرابع: لو كان المعتق أمة، فوضعت قبل دفع القيمة، كان نصف ولدها حرّاً ونصفه رقيقاً، ويعتق مع أمه عند دفع القيمة كما صرّح به الماوردي] ولو ضرب بطنها فأجهضت الجنين، وجب فيه نصف دية جنين [حر ونصف دية جنين] مملوك، ويملك الشريك ما وجب برقّه، ولا يضمن المعتق حصة الشريك من الجنين وجهاً واحدأً.
الخامس: لو أعتق الشريك حصته قبل أداء القيمة عتقت عند ابن أبي هريرة؛ لأن عتقه صادف ملكه وهو من أهل العتق، والأصح- وبه قال الجمهور من أصحابنا-: لا؛ لتعلق حق السراية واستحقاق الولاء. وقاسه الماوردي وابن الصباغ على ما إذا عتقت الأمة تحت عبد، ثم طلقها زوجها قبل الفسخ- لم يقع الطلاق في الحال وإن كان مالكاً للبضع؛ لما في وقوع طلاقه من إبطال حق الزوجة من الفسخ.
قال ابن الصباغ: وهذا الدليل لا يسلمه المخالف، ويحتاج المستدل به أن يبيّنه بالخبر المروي.
قال القاضي الحسين: والخلاف في نفوذ بيعه مرتب على الخلاف في نفوذ عتقه، وأولى بالمنع، وبه جزم الشيخ أبو محمد؛ لأن العتق يحصل مقصود العبد من الحرية، [بخلاف البيع][ثم] إذا جوزنا البيع، قال القاضي: كان للمعتق أن يختار فسخ البيع؛ لأنه يستحق تملكه بالقيمة، كما قلنا فيما إذا باع المشتري الشقص المشفوع، ولو مات العبد قبل أداء القيمة ففي استحقاق الشريك القيمة وجهان، [أصحهما في "تعليق" القاضي الحسين: لا، فإن قلنا: يستحق القيمة، فهل نحكم
بحصول العتق قبل الموت؟ فيه وجهان] في "الحاوي"، المذكور منهما في "النهاية": الحصول.
قال: والثالث: أنه موقوف: فإن دفع القيمة حكمنا بأنه عتق في الحال، وإن لم يدفع حكمنا بأنه لم يعتق؛ لأنا لو قلنا [بالأول لأضررنا بالشريك؛ فإن المعتق قد يعسر أو يغيب فيتعذر على الشريك العوض، ولا مستدرك له، ولو قلنا بالثاني لأضررنا بالعبد؛ لأن أحكامه تكون أحكام الرقيق؛ فقلنا] بالوقف نظراً لهما، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب قولاً مخرجاً، وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: إنه منصوص كالقولين الأولين.
وقال في "الحاوي": إنه نَصَّ عليه في "البويطي" و"حرملة"، وهو أشبه. فعلى هذا: جميع الأحكام موقوفة أيضاً.
ولو مات العبد قبل أداء القيمة- وجب دفعها وجهاً واحداً، قال الماوردي: لأن دفعها يوجب تقدم عتقه باللفظ.
[ولو اختلفا في القيمة فالقول قول الشريك، وهذه طريقة الماوردي]، وقد أطلق بعض الأصحاب حكاية القولين فيمن القول قوله في القيمة من غير بناء.
وحكى القاضي الحسين: أن القفال بناهما على أنه: إذا اشترى عبدين، وتلف أحدهما في يده، [وأراد أن يرد الباقي بالعيب، وجوزنا تفريق الصفقة في الرد]، فاختلفا، فقال المشتري: كانت قيمة التالف خمسمائة، وقيمة الباقي ألفاً فرد على الثلثين من الثمن، وقال البائع: بل قيمة التالف [ألف]؛ فلا أرد إلَّا الثلث، وفيمن القول قوله قولان: قال الإمام: وهذا البناء ليس كما يؤثره؛ فإن تلك القيمة ليست قيمة معروفة، والقيمة فيما نحن فيه معروفة، والأصل أن يكون القول قول الغارم.
وحكى الماوردي أن الربيع قال في "الأم": وفيه قول] آخر: أنهما يتحالفان تحالف املتبايعين. وهو من تخريجه وليس بقول للشافعي- رضي الله عنه.
فرع: إذا أعسر المعتق بعد يساره كان العتق موقوفاً إلى أن يوسر، فإن أيسر ودفع القيمة تبينا نفوذ العتق، وكانت الأكساب في زمن الوقف [للعبد]، وإن مات على الإعسار تبينا بقاءه على الرق، وسلمت الأكساب للشريك الذي لم يعتق، قاله الماوردي.
وحكى في موضع آخر من هذا الكتاب: أنه إذا أعسر بعد العتق كان للشريك رفعه إلى الحاكم وطلبه بالقيمة، أو فسخ الوقف في حصته، ويكشف الحاكم عن حاله، فإن ظهر أنه معسر حكم بفسخ الوقف؛ كما يحكم للزوجة بفسخ النكاح إذا أعسر الزوج، وكان للشريك التصرف بما شاء من بيع وغيره.
وحكى الإمام عن الشيخ أبي علي: أنه إذا أعسر بعد يساره حالة العتق انطلق الحجر عن الشريك في حصته، حتى إذا أيسر بعد ذلك فلا أثر له؛ لأن الطلبة قد انقطعت عنه بتخلل إعساره، وارتفع حق العتق عن نصيب صاحبه فلا يعود بعود المال، واستصوب الإمام ما قاله من انطلاق الحجر بطرآن الإعسار مع إبداء احتمال فيه، وإلى احتمال آخر جعله أظهر في عود الحق بعود اليسار.
فرع إذا قال الشريك: كان المعتق خياراً وقد تلف، وأنكر المعتق- حكى العراقيون فيه طريقين:
أحدهما: فيمن القول قوله قولان.
والثاني: القطع بأن القول قول الغارم، وهو ما اختاره أبو إسحاق المروزي.
ولو ادعى المعتق أن المعتق كان قد تعيب قبل العتق، وأنكر الشريك ففيمن القول قوله أيضاً طريقان:
أحدهما: حكاية قولين.
والثاني: القطع بأن القول قول الشريك.
ولو قال: إنه كان ناقص الخلق فالذي ذهب إليه الأكثرون: أن المصدق الغارم.
قال الإمام: وقال العراقيون: في هذه الصورة قولان مبنيان [على القولين] فيما إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، أما إذا كان الاختلاف في القيمة، والمعتق باق بحاله لم يتغيّر، رجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة، فإن شهدا بما ذكره أحدهما اتبع من غير يمين، وإن شهدا بأزيد مما ادعاه الشريك لم يستحق سوى ما ادعاه، وإن شهدا بأقل مما ادعاه المعتق لم ينقص عما ادعاه، وإن شهدا برُتْبةٍ بين ما ادعياه عُمل بشهادتهما، كذا قاله الماوردي.
قال: وإن كان المعتق موسراً ببعض القيمة عتق منه بقدره؛ لأن ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه، كبدل المتلف، وهذا الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه كما حكاه القاضي الحسين وصححه، وهو الأصح عند الإمام، وحكى عن رواية الصيدلاني وجهاً آخر: أنه لا يسري في هذه الحالة؛ لأن السراية تقتضي نقل الملك إلى المعتق، فشابه [ذلك] استحقاق الشقص في الشفعة.
ولو أراد الشفيع أن يأخذ بعض الشقص لم يجز، وهذا ما أبداه القاضي الحسين احتمالاً.
ثم كيفية عتق الشريك حصته أن يقول: أعتقت نصيبي منك، فلو قال: أعتقت نصيب شريكي منك، لم ينفذ عتقه في شيء من العبد.
ولو قال: أعتقت نصفك، وكان يملك من العبد نصفه، فهل وقع العتق [ابتداءً على نصيبه بجملته أو انصرف إلى نصف العبد مشاعاً فيقع العتق] مباشرة على نصف نصفه، ثم يسري إلى الربع الآخر الذي يملكه لا غير إن كان معسراً، وإن كان موسراً فإلى الجميع؟ فيه وجهان.
قال الإمام: ولا يظهر لهذا الاختلاف فائدة، إلا أن يفرض تعليق عتاق أو طلاق [على ذلك]، بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأتي طالق.
قلت: وقد تظهر له فائدة في هذا الباب، وهو أن شريكه لو وكله في عتق نصيبه: فإن قلنا: إن العتق يقع شائعاً، عتق جميع العبد على الوكيل والموكل. وإن قلنا: يقع على نصيبه، لم تعتق حصة الشريك، وقد حكى ابن الصباغ في هذه الصورة وجهين:
أحدهما: أنه يتناول نصيب شريكه لا غير.
والثاني: يعتق نصيب نفسه لا غير؛ لأنه لا يحتاج إلى نيّة فيه،
ونصيب شريكه يحتاج أن يقع بالنية عنه، [ولم ينو ذلك].
وقد حكى الجيلي فيما إذا لم يكن وكيلاً، وقلنا: إن النصف يحمل على الإشاعة- أن عتقه لربع الشريك لا ينفذ، وهل ينفذ العتق في ربعه؟ فيه قولاً تفريق الصفقة.
فروع: على تعجيل السراية:
لو قال أحد الشريكين لصاحبه: أعتقت نصيبك وأنت موسر، فإن أقر الشريك بذلك فلا يخفى حكمه، وإن أنكر فالقول قول فإذا حلف عتقت حصة المدعي دون المنكر، ويكون الولاء عليه موقوفاً، وإن نكل المدعى عليه حلف المدعي، واستحق عليه قيمة نصيبه، وهل يقع الحكم بالعتق في نصيب المدعى عليه؟ قال العراقيون: لا؛ فإن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب تغريمه القيمة، وإلَّا فالدعوى على إنسان بإعتاق ملكه مردودة؛ كما لو ادعى على رجل أنه أعتق مملوكه.
نعم: لو كان هذا المدعي شاهداً، وانضم إليه آخر، وعدلاً حكم بالعتق، وحكى الإمام وجهاً آخر: أنَّا ننفذ العتق في نصيب المدعى عليه بيمين الرد تبعاً.
ولو ادعى كل من الشريكين على صاحبه أنه أعتق حصته وهو موسر، فالعبد محكوم بحريته، واللواء موقوف.
ولو فرعنا على القولين [الآخرين فلا] يعتق من العبد شيء في هذه الصورة والصورة الأولى، وهل ينفذ تصرف المقر في حصته بالبيع والعتق وغيرهما؟ فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما: يجوز؛ لاستقرار ملكه عليها بإبطال السراية إليها.
والثاني: لا؛ فإن الشريك لو عاد وصدّق المقر، وادعى القيمة- عتق؛ فلا نبطله بالتصرف.
ولو قال أحدهما لصاحبه: مهما أعتقت نصيبك فنصبي حرّ، وفرعنا على الصحيح؛ والمقول له موسر- فإذا أعتق عتق عليه الكل، ويلزمه قيمة نصف القائل موسراً كان أو معسراً، قال الإمام: وهذا مما اتفق عليه الأصحاب.
ولو فرعنا على أن السراية لا تحصل إلَّا بدفع القيمة: فإن جوزنا عتق الشريك لنصيبه بعد عتق [صاحبه عتق في هذه الحالة لكل واحد منهما نصيبه، وإن منعنا عتق الشريك حصته بعد عتق] شريكه حصته عتقت حصته المنجز، وكان الحكم في حصة المعلق كما لو لم يجر تعليق، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه وبقيّة أصحابه كما قال الماوردي، ووجهه: أن عتقه اقتضى حجراً عليه بسبب الولاء، ولم ينفذ عتق محجور عليه.
فإن قيل: لم لا خرجتم ذلك على أن الاعتبار بحال التعليق، أو بحال [وجود] الصفة كما قلتم في تعليق عتق المفلس؟
قيل: هو وإن كان غير محجور عليه في الحال، لكنه علق عتقه بصفة يعلم وجودها في حال الحجر؛ فشابه ما إذا قال في صحته: إن دخلت الدار في مرض موتي فأنت حر؛ فإن الاعتبار بحال الصفة قولاً واحداً في اعتبار ذلك من الثلث؛ لما [ذكرناه].
قال الإمام: [فإن] قيل: إذا قلنا بتعجيل السراية فهلا كان العتق المعلق أولى بالنفوذ؛ فإنه وافق وقت السريان، ومما يقويه أن الملك ينتقل إلى المعتق، ثم يترتب عليه السريان، والعتق المعلق يلاقي وقت نقل الملك، ولأجل هذا
السؤال قال المروزي: يحصل العتق متصلاً بإعتاق الشريك من غير ترتيب.
قال الإمام: وهذا لا يتجه من السؤال وغائلته؛ فإن الترتيب على نقل الملك إن ارتفع من التبين بقي مصادفة العتق المعلق للعتق بالسراية وهذا كافٍ في إشكال السؤال.
ثم الجواب في هذا أن يقال: إن منعنا عتق الشريك بعد عتق شريكه [فالمانع من نفوذ العتق ظاهر، وإن قلنا: بنفوذ عتق الشريك تنفيذاً منجزاً بعد عتق شريكه] كما صار إليه ابن أبي هريرة، فلعله هو القائل: إن الشريك إذا أعتق نصيبه وقع عتق نصيبه في حال وقوعه على [نصيب شريكه] من غير ترتيب، وحينئذ يندفع السؤال.
نعم، لو قال الشريك لشريكه: إن أعتقت نصيبك فنصبي حر حال عتقك حصتك، ففي "الشامل" حكاية وجهين:
أحدهما- وهو اختيار القاضي أبي الطيب-: أنه يعتق عليهما، وهو يستنبط من كلام القاضي الحسين- أيضاً- حيث قال: إذا قال أحدهما لشريكه: إذا أعتقت نصيبك فنصبي حر معه، فهل يقع العتق عليهما معاً، أو يقع المعلق بعد المنجز؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، وعتقت حصته عليه.
والثاني: أنه يعتق عن المباشر؛ لأنه استحق السراية، وما ذكروه لا يصح؛ لأنه [لا] يجوز أن يقع العتق المشروط قبل وجود الشرط فلا يصح وقوعه معه.
ولو قال: إن أعتقت نصيبك فنصبي حر قبل نصيبك، وقلنا بتعجيل السراية، وكان المعلق موسراً- فمقتضى ما ذكرناه من قبل يقتضي أنه يعتق جزماً على المباشر.
وقد قال الإمام: إن هذه قد تدور على مذهب الدور الذي صار إليه ابن الحداد في الطلاق، ولاشك في جريان الخلاف في قطع الدور هنا، بل قطعه هنا أولى؛
لأنه يؤدي إلى الحجر على الغير في ملكه، وهو أبعد من تصرف المرء في حقه.
ووجهه: أن الشرط في نظم الكلام ووضعه: أن يتحقق، ثم ينظر في الجزاء: فإن امتنع [امتنع، ويلزم] على مذهب الدور امتناع التصرف من الجانبين؛ إذا صدر التعليق من كل [واحد] منهما وهو موسر، قال: ثم يجب طرد هذا [المذهب] في جميع التصرفات، حتى إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: مهما بعت نصيبك فنصبي حر قبل بيعك، فلا ينفذ البيع ولا العتق، وبمثل هذا يستبين المُنْصِف بطلان المصير إلى الدور اللفظي.
ولو كان المعتق بين ثلاثة: لأحدهم نصفه، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب الثلث والسدس حصتيهما في وقت واحد وهما موسران- سرى العتق إلى النصف الباقي عليهما، وفي كيفية التقويم قولان:
أحدهما: أنه عليهما نصفين.
والثاني: [أنه] على قدر الملكين؛ فيغرم صاحب الثلث قيمة الثلث، وصاحب السدس قيمة السدس.
وبعض الأصحاب جزم بالأول؛ لأن ذلك شبيه بتغريم الجناة أرش الجراحات، والغرم في الجراحات على عدد الرءوس، وهذا ما أورده في "المهذب"، و"الشامل"، و"الحاوي"، وحكاه الرافعي، وجعله، الأظهر باتفاق طرق الأصحاب، إلَّا الإمام فإنه قال: ليس هذا بذاك؛ لأن الجراحات لها غور وضبطها غير ممكن؛ فلذلك رجعنا إلى عدد الرءوس، بخلاف ما
نحن فيه.
وقال القاضي الحسين: يحتمل أن يقال: إن [قلنا: إن] السراية تحصل بنفس العتق، فهي على عدد الرءوس، وإلَّا فقولان كما في الشفعة، ولو كان أحد الشريكين معسراً والآخر موسراً [ففي "تعليق" القاضي الحسين عند الكلام فيما إذا كان المعتق موسراً] ببعض القيمة: أنه يعتق على الموسر بالسراية ما كان يخصه لو كانا موسرين، ثم قال: وقيل: ويحتمل أن يقال: يقوّم جميع نصيب الذي لم يعتق على هذا الموسر. وهذا ما أورده ابن الصباغ والماوردي، وكذلك القاضي الحسين- أيضاً- حكاه في موضع آخر من "تعليقه"، وقال: إنه لا خلاف فيه.
ولو ملك نصفين من عبدين قيمتهما متساوية، وله ما يفي بقيمة نصف أحدهما، فأعتق حصته منهما معاً- فعن ابن الحداد: أنه يعتق من كل عبد بالسراية ربعه، لتكملة ثلاثة أرباعه، وبه جزم القاضي الحسين. وعن غيره: أنه يقرع بينهما؛ فمن خرجت عليه القرعة كملت الحرية فيه.
والخلاف المذكور يجري فيما لو كان العتق في المرض، وكان [الثلث] لا يفي إلَّا بقيمة أحد العبدين، حكاه القاضي الحسين، والإمام جزم بالقرعة في الأخيرة، وفرق بينه وبين ما إذا قال: إذا مت فأعتقوا من كل عبد نصفه- حيث لا يقرع، بل يقتصر العتق على نصف كل منهما مع خروجهما من الثلث- بأن المالك إذا ذكر العتق في العبد كان كما لو وجه العتق على كمال العبد، ولو
أعتقهما تنجيزاً وزادت قيمتهما على الثلث أقرعنا؛ فكذلك ها هنا، وليس كذلك إذا أوصى بإعتاق نصفي عبدين؛ فإن الإعتاق في الأنصاف مضاف إلى وقت لا يتصور فيه سريان.
وهذا كله في سراية العتق من بعض إلى بعض، وأما سراية العتق من شخص إلى شخص فلا شك فيها- أيضاً- وذلك بأن يعتق الأمة الحامل برقيق له؛ فإن الولد يعتق، ولكن اختلف الأصحاب في كيفية عتقه: فمنهم من جعله على جهة السراية؛ لأنه جزء من أجزائها، ومنهم من قال: إنما عتق على [جهة التبع، وعليهما]- يخرج ما لو قال: أعتقت الحمل، فعلى الأول تعتق الأم- أيضاً- وهو قول أبي إسحاق، وعلى الثاني: لا؛ لأن الأم لا تكون تبعاً للولد، وهذا ما عليه الجمهور، وهو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين، وعلى الخلاف يخرج- كما قال القاضي الحسين- ما إذا قال: أعتقت الجارية دون حملها، فعلى الأولى يعتقان، وبه جزم المتولي في كتاب الظهار، وعلى الثاني: تعتق الأم خاصة.
ولو كانت الجارية لشخص والحمل لآخر- لم يسر العتق من الولد إلى الأم بلا خلاف، وكذلك لا يسري من الأم [إلى الولد] على الأصح.
قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: يعتق الولد، ويجب على معتق الأم قيمته وقت الخروج من البطن.
واعلم أن محل نفوذ العتق في الحمل إذا أورده عليه خاصة إذا نفخت فيه الروح، أما إذا لم تنفخ فيه قال القاضي في "فتاويه": لم يعتق.
قال: وإن قال لغيره: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه- دخل في ملك السائل، وعتق عليه؛ تشوفاً للعتق، كما سرى إلى ملك الغير بغير رضاه لأجل ذلك. ولا فرق في صحة ذلك بين أن يقول: أعتقه عني مجاناً، أو بعوض، أو يطلق، لكنه إذا صرّح بنفي العوض كان الملك الحاصل هبة، وإن صرح بذكر العوض وسماه كان الملك الحاصل فيه بحكم عقد معاوضة؛ فيستحق فيه
المسمى إن كان صحيحاً.
قال الأصحاب: وكذا لو ذكر عوضاً فاسداً من خمر أو خنزير، وترتب العتق عليه- وقع العتق عن المستدعى، واستحق عليه البدل، كما سنذكره في "الخلع".
وأشار الغزالي إلى اعتراض على إلحاق ذلك بالخلع وجوابٍ عنه:
أما الاعتراض فإن الخلع ليس فيه اختلاف ملك، وإنما هو إسقاط حق يستقل به الزوج، والعتق عن المستدعى يتضمن نقل ملك؛ فوجب ألَّا يحتمل فساد العوض، كما في سائر التمليكات.
نعم، نظير الخلع ما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك فإنه غير متضمن نقل ملك.
وأما الجواب فهو أن الملك الحاصل للمستدعى يحصل في ضمن الإعتاق عنه، والملك الضمني لا تعتبر فيه الشرائط التي تعتبر في التصرفات الأصلية، وكذلك لا يعتبر القبض في الإعتاق عن الغير باستدعائه مجاناً، وإن كان ذلك يتضمن الهبة، والهبة تفتقر إلى القبض، لكن لك أن تقول: قد تقدم في باب الهبة أن الموهوب له لو أعتق الموهوب بإذن الواهب، ناب ذلك مناب القبض، وصح العتق، وإعتاق المالك هنا بإذن المستدعى أقوى من إذن الواهب في الدلالة على الرضا؛ فكذلك لم يعتبر القبض فيه، وإذا كان كذلك فهو موافق للتصرفات الأصلية؛ فلا يحصن به الاستشهاد.
نعم، يحسن الاستشهاد بما قاله القفال من أنه: إذا قال: أعتقه عني على ألف، والعبد مستأجر، أو مغصوب، فأعتقه- جاز، وإن كان المعتق عنه ممن لا يقدر على الانتزاع، فلو سلك بالتمليك الضمني مسلك التمليكات المقصودة لما صح في حال كونه مستأجراً على قول، وكونه مغصوباً جزماً، على أن ما ذكره القفال لا يبعد جريان الخلاف فيه مما سنذكره.
ولو أطلق استدعاء العتق عنه ولم يسم عوضاً ولا نفاه، فهل يحمل على الاستدعاء بعوض، أو بغير عوض؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" شبيهان بوجهين تقدم ذكرهما فيما إذا قال لغيره: اشتر لي [بثوبك هذا كذا] فاشتراه، وصححناه له- أن ذلك يكون هبة أو قرضاً.
ووجه جعله هبة يعضد جواب الغزالي ويمنع الاعتراض، وقد بنى بعضهم الوجهين على الخلاف فيما إذا قال لغيره: اقض ديني، ولم يشترط الرجوع، ومقتضاه أن يكون الصحيح ثبوت العوض؛ إذ الصحيح- في مسألة قضاء الدين- الرجوع، وخصص الإمام، وأبو الفرج هذا البناء بما إذا قال: أعتقه عن كفارتي؛ فإن العتق حق ثابت عليه كالدين، فأما إذا قال: أعتقه عني؛ ولا عتق عليه أو لم، يقصد وقوعه عنه- فقد أطلق أبو الفرج أنه: لا شيء عليه، ورأى الإمام تخريجه على أن الهبة هل تقتضي عوضاً أم لا؟ وعلى هذا يكون في قدر الغرم الخلاف المذكور في ثواب الهبة، كذا أشار إليه الإمام، ويظهر ألَّا يجيء قول الثواب إلى الرضا؛ لأن ثم إذا لم يرض كان للموهوب له رد الموهوب، وهنا قد تعذّر الرد بعتقه؛ فيؤدي إلى الإضرار بالمعتق.
نعم، قد يقال بجريانه، ويكون عند عدم الرضا للموهوب له فسخ الهبة، ويصير الواجب قيمة العبد؛ كما لو أعتق المشتري العبد المبيع، ثم فسخ العقد بسبب في الثمن، وحينئذ لا يكون أيضاً في المسألة إلَّا قولان.
وعلى كل حال، فقد اختلف الأصحاب في وقت نقل الملك للمستدعى على أربعة أوجه، ذكرها ابن الصباغ وغيره في كتاب الظهار:
أحدها: أنه يدخل في ملكه بالاستدعاء، ويعتق بالإعتاق، وليس بصحيح؛ لأن الإيجاب شرط فلا يتقدم الملك على شرطه.
والثاني: أنه إذا حصل الاستدعاء والإيجاب دخل في ملكه بشروعه في الإيجاب، وعتق بتمامه، وهذا يلزم عليه ما لزم على الأول.
والثالث: أن الملك والعتق يقعان في حالة واحدة عقيب الإيجاب، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، وهو نظير قوله في كيفية نقل الملك عند سريان العتق
وملك القريب، كما ذكرناه.
والرابع: أن الملك يقع عقيب الاستدعاء والإيجاب، ويترتب عليه العتق، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، وهو الصحيح في "الشامل"؛ لأن وقوع عتقه عنه يقتضي إثبات ولاية له، وذلك لا يكون إلا بتقدم الملك؛ فلم يقع العتق بحكم اللفظ، وليس يمتنع أن يوجد لفظ العتق، ولا يعقبه العتق؛ لعدم الشرط؛ ألا ترى أنه لو قال: أعتقه عنك بألف، فقال: قبلت- وقع العتق عقيب القبول متأخراً عن لفظه؟!
وقد حكى الإمام عن الشيخ أبي محمد وجهاً خامساً، وقال: إن غالب ظني أنه حكاه عن القفال-: أن الملك يحصل مع آخر اللفظ، ويعتق بعده.
قال الإمام: وما يُلوِّحُ به عن اتجاهه؛ لقربه من مذهب أبي حامد، ففساده من وقوعه في مذهب أبي إسحاق، وبالجملة: فقد اختلف أئمتنا في أن من طلّق أو أعتق- فحكم لفظه متى يثبت؟ فمنهم من قال: يثبت من آخر حرف من اللفظ، وهو حسن، ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال، ويعاقبه معاقبة الضد. فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه شيخي من حصول الملك مع آخر لفظ، مع استئخار العتق عنه للضرورة؛ فيئول الأمر إلى اختلاف الشيخين في أن أحكام اللفظ متى تحصل؟ فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فعلى ذلك ينطبق قول الشيخ أبي حامد، وإن قلنا: حكم اللفظ يقع [مع] آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتق استأخر للضرورة، وعلى هذا ينطبق كلام الشيخ أبي محمد لكن الملك على هذا الوجه قد حصل قبل أوانه؛ فلا فرق
بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذهب إليه ذاهبون، وقد تفهم عبارة الرافعي في الحكاية عن الإمام ما يلزم منه أن يكون قول الشيخ أبي حامد كقول أبي إسحاق، لكنك إذا تأملتها وجدتها وافية بما ذكرناه، والله أعلم.
تنبيه: محل وقوع العتق عن المستدعى وإلزامه العوض إذا اتصل الجواب بالخطاب، أما إذا طال الفصل فالعتق يقع عن المالك، ولا شيء على المستدعي، ولهذا المعنى قال الشيخ:"فأعتقه عنه"، فأتى بلفظ الفاء التي تقتضي التعقيب، وهذا عند إطلاق اللفظ، أما إذا قال: إذا جاء الغد فأعتق عبدك عني بألف، فصبر حتى جاء الغد فأعتقه عنه- فعن حكاية صاحب "التقريب" عن الأصحاب: أنه ينفذ العتق [عنه]، ويثبت المسمى عليه، ووقوع العتق عنه موافق لما صرّح به ابن الصباغ وغيره: أن العتق عن الميت يجوز من الأجنبي ومن غيره إذا كان قد وصى به، وأما لزوم المسمى فالصورة شبيهة بما إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني غداً ولك عليَّ كذا، وقد ذكر في ذلك أن الزوج إذا طلق في الغد أو قبله هل يستحق المسمى أو مهر المثل؟ فيه وجهان:
قال الرافعي: فليجيء مثله هنا أيضاً في القيمة أو ثبوت المسمى إذا أعتق في الغد، وهو ما أبداه الإمام بعد حكايته ما ذكرناه عن صاحب "التقريب".
وحكى في "الأشراف" عن الزجاجي قولين فيما إذا قال السائل: أعتق عبدك عني غداً على ألف، فقال المسئول: هو حُرٌّ [غداً] على ألف هل يستحق المسمى أو قيمة العبد؟ وأنهما شبيهان بما إذا قال: أعتق عبدك الآبق [عني] على ألف، فأعتقه [عنه]، وفيه جوابان؛ لأن التمليك [في الصورتين ضمني].
ولو قال: المالك لغيره: عبدي عنك حر على ألف إذا جاء الغد، فقال المخاطب: قبلت- حكى صاحب "التقريب": أنه كتعليق الخلع، وصورته: أن
يقول: طلقتك على ألف إذا جاء الغد، فقالت: قبلت، وقد ذكر في وقوع الطلاق وجهان، أظهرهما: الوقوع.
ثم إذا وقع فهل الواجب مهر المثل أو المسمى؟ فيه وجهان، أقربهما الثاني، فكذلك يجيء الخلاف ها هنا في وقوع العتق عن المخاطب، وإذا وقع فالخلاف في صحة المسمى وفساده.
قال الرافعي: وقد ذكر في الفرق بين الصورتين: أن في الأولى لم يوجد تعليق في العتق المتضمن للتمليك، وفي الثانية العتق معلق، ومن هنا أبديت احتمال جريان وجه على خلاف ما قاله القفال فيما إذا كان العبد المستدعى عتقه مغصوباً أو مستأجراً؛ فإن [من لم يصحح] العتق نظر إلى [كونه متضمناً للمعاوضة]، والمعاوضة المقصودة لا تقبل التعليق، وكذلك إذا كانت ضمنية، وقد يقال: إن منافاة التعليق لعقود المعاوضات أبلغ من غيره من المفسدات؛ فلا يتجه الإلحاق.
فروع:
لو قال: أعتق مستولدتك عني على ألف، أو: وعليَّ ألف، فقال: أعتقتها عنك- نفذ العتق، ولغا قوله: عنك؛ فإن المستولدة لا تقبل النقل.
وفي "التهذيب"- قبيل باب كتابة الكافر- حكاية وجه: أن العتق لا ينفذ كما لو أعتق عبده عن الغير بغير أمره لا ينفذ عن الغير ولا عنه على وجه، وقد حكاه الإمام أيضاً في أثناء فروع العتق عن رواية الشيخ أبي علي.
وفيه وجه آخر أنه: يُلْغَى قوله: عني، ويصير كقوله: أعتق [أم ولدك] على ألف؛ فإنه يكون اقتداء جزماً، وقد احتج بالأول على أنه إذا وصف العتق [بمحال] نفذ ولغت الصفة، كما أُلْغِيَ قوله: عنك، من قوله: أعتقت عنك.
ثم المذهب في "النهاية": أنه لا يستحق على المستدعى عوضاً، وبه جزم في "التهذيب" في الكتابة. وقد جزم الإمام به فيما إذا قال: طلّق زوجتك عني على
ألف؛ لأنه قد يتخيل في المستولدة الانتقال إليه، بخلاف الطلاق.
لو قال: أعتق عبدك عن نفسك وعليَّ ألفُ، ففعل- صح العتق، وهل يلزم المستدعى الغرم؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم؛ كما لو قال: أعتق أم ولدك عنك على ألف، أو: أعتق أم ولدك على ألف، ولم يقل: عنك، أو: طلق زوجتك على كذا.
والثاني- وبه قال الخضري وصاحب "التلخيص"-: [لا]؛ لأن عتقه عن المستدعى ممكن، وبذل العوض في الخلاص إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهة في العتق غير التخليص لم يصح بذل العوض على التخليص، فعلى هذا يقع العتق عن المعتق وله الولاء، وهذا ما جزم به المتولي في كتاب الخلع.
وعلى الأول العتق يقع عنه، أو عن باذل العوض؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد:
أحدهما: أنه يقع عن باذل العوض، وإلَّا فلا معنى لوجوب العوض عليه، وهذا ما حكاه أصحابنا العراقيون، وقال الإمام: إنه في نهاية الفساد والسقوط؛ فإن من صرف العتق إليه حيث يستدعيه عن نفسه على عُلالة، فكيف يصرف العتق إليه وقد نفاه عن نفسه؟!
ولأجل ذلك جزم البغوي والمتولي بمقابله كما حكاه الرافعي، وصححه.
إذا قال: أعتق عبدك ولك عليَّ كذا، ولم يقل: عني، ولا: عن نفسك- فوجهان:
أحدهما: أنه كما لو قال: أعتقه عني.
وأشبههما: أنه كما لو قال: أعتقه عن نفسك، وقد نقله في "الزوائد" عن القاضي أبي الطيب حيث قال: إن العتق ينفذ والمال يلزم المستدعي، وفي ولائه وجهان:
أحدهما: للسائل.
والثاني للمعتق.
إذا قال: أعتق عبدك عني على ألف بشرط أن يكون الولاء لك، قال المتولي في كتاب الخلع: المذهب المشهور: أنه يفسد شرط الولاء، ويقع العتق عن السائل وعليه الألف، وأنه خرّج في المسألة وجه أن العتق يقع عن المالك، والمال مردود، كذا [وقفت] عليه.
وفي "الرافعي" حكاية عنه: أنه على المشهور يلزمه القيمة.
إذا قال لمن له حصة في عبد: أعتق حصتك عني على ألف، فقبل عتقت، وكان ولاؤها للسائل، ويسري العتق إلى نصيب الشريك، ويجب تقويمه على الشريك المباشر، كذا حكاه في "البحر" وابن الصباغ وغيره في باب الكتابة، وطرده الروياني فيما [إذا] قال أحد الشريكين لشريكه: أعتق نصيبك عني، فأعتقه- سرى إلى نصيب الشريك، وكان الولاء للسائل، والغرم على الشريك المعتق بالسؤال.
قال: وإن أعتق أحد عبديه أو إحدى أمتيه، [أي]: على الإبهام- عين العتق فيمن شاء منهما؛ لأن له أن يوقع العتق معيناً، فإذا أبهمه كان له تعيينه كما في الطلاق. ثم التعيين واجب على الفور؛ [لتتميز] الحرية من غيره.
فإن قال: هو سالم، لا بل غانم- عتق سالم دون غانم، ونظيره إبهام الطلاق بين [الزوجين]، والفروع المذكورة [ثم بعينها مذكورة] هنا، والجواب فيهما واحد، وقد عبر القاضي الحسين عن الخلاف المذكور عند التعيين في أن العتق يقع من حين اللفظ أولاً يقع إلا بالتعيين؛ فإنا على الأول نقول: العتق واقع ولكن [لم يميز محله] وعلى الثاني نقول: الذي جرى التزام إعتاق في الذمة.
قال: فإن مات، أي ولم يعين قام وارثه مقامه؛ [لأنه خيار ثابت يتعلق به
الملك فقام الوارث فيه مقامه] كخيار الشفعة، والرد بالعيب، وقيل: لا يقوم؛ قياساً على تعيين الطلاق المبهم في أحد الزوجين.
وحكى المراوزة عن بعضهم القطع به، فعلى هذا يقرع بينهما.
قال: وليس بشيء؛ لأن امتناع التعيين في الطلاق كان لأجل أنه يتضمن إسقاط وارث في الظاهر، والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث، وهذا المعنى مفقود [هنا، ولأن امتناع التعيين في الطلاق لأجل أنه فيما لم ينتقل إليه، و [هو] ها هنا في المال، وهو منتقل إليه، وقد جعل القاضي الحسين هذا الخلاف مخرجاً على الخلاف فيما إذا عيّن الوارث هل يكون إيقاعاً منجزاً [عما التزمه] في الذمة، [أو يتبيّن محل العتق السابق]؟ فعلى الأول [يكون] للورثة التعيين، وعلى الثاني لا.
قال: وإن وطئ إحدى الأمتين كان ذلك تعييناً للعتق في الأخرى؛ لأنه تعيين شهوة واختيار فصح بالوطء كفسخ البيع بوطء البائع الجارية المبيعة في زمن الخيار، وهذا هو الصحيح في "البحر"، وبه قال أكثر الأصحاب كما قاله ابن الصباغ وقيل: لا يكون تعييناً؛ لأن العتق لا يقع بالفعل، فكذلك تعيينه.
وحكى القاضي الحسين الخلاف المذكور قولين، وبناهما على أن الذي [جرى عتق ناجز أو التزام] عتق فعلى الأول يكون تعييناً، وعلى الثاني لا يكون تعييناً.
قال الإمام: وهذا عندنا بالعكس، ثم إذا قلنا: إنه ليس بتعيين، فإن عيّن غير الموطوءة للحرية فلا إشكال في أنه لا يجب عليه المهر، وإن عيّن الموطوءة للحرية، قال القاضي الحسين: لا نوجب المهر؛ لأنّا إنما لا نجعل الوطء تعييناً على قولنا: إنه التزام عتق في الذمة فيكون قد وطء مملوكته، والعتق يقع بعد ذلك، ولو قبّل واحدة منهما.
فإن قلنا: إن الوطء يكون تعييناً، فها هنا وجهان؛ لأن حكم الوطء أعظم من حكم القبلة؛ فلا يقدم عليه المسلم في الغالب، قاله القاضي الحسين.
وقال: إن الاستخدام مرتب على القبلة وأولى بألّا يكون تعييناً.
قال الإمام: وهذا يوجب لا محالة طرد الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة [في زمن الخيار، وكأنه قرع سمعي هذا من الخلافيين.
فرع: إذا ماتت] إحداهما قبل البيان، قال القاضي الحسين: إن قلنا: إن الواقع التزام [عتق] في الذمة، فقد بطل النذر؛ كما لو قال: لله عليّ أن أعتق أحد هذين العبدين، فمات واحد منهما؛ فإن النذر يبطل، فإن قلنا: إنه إعتاق منجز في الحال، لكن محله غير معيّن- فيؤمر بالتعيين: فإن عين الميتة تعينت الأ×رى للرق، وإن [عيّن الحية تبيّن] موت الأخرى [على الرق].
وجزم الإمام بأنا إذا قلنا: إن العتق يقع على التعيين، فإن الباقية تتعيّن للحريّة.
ولو قتل أجنبي إحداهما فعلى الأول بطل النذر، وعلى القاتل القيمة، وعلى الثاني لا، فإن عين المقتولة للحرية وجبت دية حرة، وإن عيّن الباقية وجبت القيمة على الجاني، وعتقت الحيّة.
فرع: إذا باع إحداهما، أو وهبها، أو أجرها فهل يكون اختيار أمته للملك [في ذلك] أم لا؟ حكمه حكم الاستخدام، فإن قلنا: يكون اختياراً، صحَّ البيع، قاله القاضي الحسين وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف في نظير المسألة من بيع الأب ما وهبه لولده.
ولو أعتق إحداهما، قال: لا يكون تعييناً، ويقال له: عيّن، فإن عيَّن المعتقة رقَّت الأخرى، وإن عيّن الأخرى عتقتا.
قال: و [إن] أعتق أحدهما بعينه ثم أشكل ترك حتى يتذكر، فإن تورع في ذلك، أو عيّن وتورع [في] العتق، فالحكم فيه كما في نظير المسألة من الطلاق.
وحكى الإمام هنا عن الأصحاب أنه يحبس عند دعواه النسيان، وقال: إن غالب ظني أني ذكرته في مسائل الطلاق.
فرع: لو قتل حر أحدهما، ثم عيّنه السيد للحرية- قال القاضي الحسين: في وجوب القصاص عليه وجهان؛ كما ذكرنا فيما إذا أعتق عبيداً في مرض موته، فجاء أجنبي وقتل واحداً منهم قبل موت السيّد.
قال: وإن مات قام الوارث مقامه؛ لأن له طريقاً إلى معرفته، مع أن ما وقع فيه [من] الإشكال انتقل إليه، وبهذا خالف نظير المسألة من الطلاق حيث جرى في الرجوع [إليه] قولان، وقد أجراهما في "البحر" وبعض المراوزة [هنا][أيضاً] وبعضهم جزم بالمنع، وقال: إنه يقرع بينهما.
ويجيء من مجموع قولهم في هذه المسألة ثلاث طرق:
أحدها: طرد القولين في الحالين.
والثاني: الجزم بعدم الرجوع إليه في الصورة الأخيرة، وحكايتهما في الصورة [الأولى].
والثالث: الجزم بالمنع في الأولى وحكاية القولين في الأخيرة.
وما قاله الشيخ يكون طريقة رابعة.
قال: فإن قال الوارث: لا أعرف، أقرع بينهما في أحد القولين، فمن خرجت عليه القرعة عتق؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، [ولا مَرَدَّ] يرجع إليه، وفي البقاء على ذلك إضرار بالوارث والمعتق؛ فرجح أحدهما
بالقرعة، وهو المنصوص في "المختصر"، وفي كتاب العتق والوصايا.
قال: ووقف الأمر في القول الآخر؛ لأن القرعة قد تفضي إلى إرقاق الحر فمنع منها، وهذا نسبه بعضهم إلى ابن أبي هريرة، وبعضهم رواه قولاً منصوصاً، واتفق الأصحاب على ضعفه.
وقال القاضي الطبري: هذا القول لا أعرفه للشافعي- رضي الله عنه ولم يحكه القاضي أبو حامد في "جامعه".
قال: ومن ملك أحد الوالدين وإن علوا، أو من المولودين وإن سفلوا- عتق عليه.
أما في الأولاد؛ فلقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]؛ فدلَّ على أنهم لمّا كانوا عباداً لم يجز أن يكونوا أولاداً؛ فانتفى بذلك استقرار ملك على ولد.
وقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً 92 إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً 93} [مريم: 92، 93] يعطي هذا المعنى أيضاً.
وأما في الآباء، فلقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَ عَلَيْهِ"، وروى:"فَيعْتِقَهُ"، وهذه الرواية محمولة على الأُولى، ويكون التعبير [عن "العتق" بـ "الإعتاق] كقوله- عليه السلام:"يَا كَعْبُ، النَّاسُ غَادِيَانِ: بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، ومُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا".
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَقَدْ عَتَقَ عَلَيْهِ" كما
خرجه النسائي عن ضمرة بن سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن
عمر- رضي الله عنهم وكذلك خرجه ابن ماجه، لكن لفظه:"مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ"، وهذا نص يشمل من ذكرتم، وغيرهم من سائر المحارم، فلم اقتصرتم على بعضهم؟
قيل: هذا الحديث قد ضعفه أصحاب الحديث، وعلى تقدير سلامته عن الطعن- كما صار إليه بعض المتأخرين؛ متمسكاً بأن انفراد ضمرة بهذا الحديث لا يصلح أن يكون علة فيه؛ لأن ضمرة ثقة، والحديث صحيح، وقد أسنده ثقة؛ فلا يضره انفراده، ولا إرسال من أرسله، ولا توقيف من أوقفه- فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الحديث مقصور على الوالدين والمولودين؛ لأن حقيقة "الرحم" في اللغة مختصة بالولادة، وتطلق على غير هذا مجازاً، والأحكام الشرعية تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها؛ كذا قاله الماوردي.
الثاني: على تقدير التسليم بأن الحديث يشمل الجميع فإنَّا نخصصه بالقياس، وهو أن كل قرابة لا ترد الشهادة له لا تعتق بالملك؛ قياساً على بني الأعمام طرداً، وعلى الوالدين عكساً.
واعلم أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الولد والوالد متفقين في الدين أو مختلفين، ولا بين جهة الأم وجهة الأب، ولا بين الذكور والإناث.
وهل يندرج في الأولاد المنفيُّ باللعان؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين.
ثم وقت نفوذ العتق عند أبي إسحاق وقت دخوله في الملك؛ كما حكيناه من قبل.
وعند الإمام: أنه مرتب على الملك؛ كما حكاه ضمن فرع من الفروع المذكورة في كتاب العتق.
فإن قيل: هذا مشكل؛ لأن من القواعد المطردة أن ما منع الدوام منع الابتداء، والقرابة تقطع دوام الملك؛ فينبغي أن تمنع الابتداء.
[قلت: هذا السؤال أغلوطة]؛ لأن القرابة لا يتصور طرآنها على دوام الملك حتى تقطعه فيقال: إن ابتداءه ممنوع، بلا لا يتصور حصول فيمن يعتق عليه إلَّا والقرابة إما سابقة [عليه] أو مقارنة له، كما إذا وطئ الابن جارية أبيه فأحبلها؛ فإن الولد ينعقد رقيقاً على ملك الأب، ثم يعتق عليه، كما حكاه الإمام في الفروع المذكورة في كتاب العتق، وإذا كن كذلك لم تكن هذه المسألة مندرجة في هذه القاعدة.
نعم، قد يقال: يوجد الملك والقرابة لا تقطعه لمانع، كما إذا ملك إنسان ابن أخيه ومات ووارثه أخوه لا غير، وهو معسر وعليه دين مستغرق، وقلنا: إن الدين لا يمنع الإرث- كما هو الصحيح- بل تتعلق به التركة تعلق رهن أو جناية؛ فإن ملك ابن الأخ ينتقل إلى أبيه، ولا يعتق عليه؛ كما لو كان الوارث لا يعتق عليه ابن الأخ فأعتقه وهو معسر- والصورة كما ذكرنا- فإنه لا يعتق [عليه] وجهاً واحداً كما حكاه الإمام عن الشيخ أبي علي في كتاب العتق، وحكى عن شيخه قولاً بنفوذه كما في عتق المرهون، وقال: إن ما ذكره الشيخ أبو علي أوجه؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملك تام للراهن ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة وهي مشروطة بتقديم حق الميت، وحينئذ فإذا زال الدين بإبراء أو قضاء من غير التركة انقطع دوام الملك، وكذا إذا اشترى قريبه وقلنا: بثبوت خيار المجلس للبائع- كما حكيناه في موضعه- وأن القريب لا يعتق في زمن الخيار؛ بناءً على أن عتق المشتري المبيع في زمن الخيار لا ينفذ مع قولنا: إن الملك له؛ فإن الملك يكون للقريب على قريبه، وإذا زال الخيار قطعت القرابة دوام الملك، وحينئذ تندرج [هذه] الصورة تحت هذه القاعدة، وتحتاج إلى الجواب.
ولو قيل بأن العقد مثبت للملك والقرابة منافية للملك؛ فلا يمكن [اجتماعهما؛ فترتب] العتق على سبب الملك لا على حقيقة الملك، ويقدر الملك في حكم منقطع لا في حكم مندفع؛ كما قاله الغزالي فيما إذا زوج أمته
من عبده أن المهر لا يجب؛ فإن الرق المقارن للعقد يرفع المهر بعد جريان موجبه، ولم يكن هذا تعرية، للعقد عن المهر؛ بل جرى الموجب واقترن به المانع فاندفع، والاندفاع في معنى الانقطاع، لا في معنى الامتناع- لا ندفع هذا السؤال.
قال: وإن ملك بعضه، فإن كان يرضاه أي: كما في البيع، والهبة، وقبول الوصية وهو موسر- قوّم عليه الباقي، وعتق عليه.
هذا الكلام ينظم أمرين:
أحدهما: صريح، وهو تقويم الباقي.
والثاني: مشار إليه، وهو كون ما يملكه يعتق عليه.
والأول فرع للثاني؛ فلذلك استغنى الشيخ بالتصريح بذكر الفرع لدلالته على الأصل.
ووجه عتق ما ملكه منه: أن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به، فإذا وجد في البعض عتق به كالإعتاق.
ووجه السراية: أن الضمان يجب بالسبب، وهذا التملك سبب للعتق، ولأن اختياره لملك البعض المفضي للعتق اختيار منه لعتق الجميع؛ حيث كان العتق يسري، كما أن من جرح غيره فمات من سراية الجراحة جعل قاصداً إلى قتل النفس؛ لأن الجرح يسري.
ثم العتق متى يسري: هل في الحال أو بدفع القيمة؟ فيه قولان في "الشامل"، ويظهر مجيء القول الثالث.
وهذا إذا كان التملك في الصحة، أما إذا كان في المرض، نظر:
فإن كان سبب الملك الشراء نظر:
فإن خرج قيمة جميعه من الثلث، فالحكم كما تقدم، ولا يرث من الذي عتق عليه؛ لئلا يكون عتقه وصيّة لوارث.
وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يرث، حكاه في كتاب التدبير، وسنذكره ثم.
وإن لم يخرج من الثلث إلَّا قيمة ما اشتراه لم يسر، وإن كان لا ثلث له يفي بقيمة ما اشتراه؛ لكونه عليه دين مستغرق فهل يصح الشراء، ويباع في الدين، أو لا يصح؟ فيه وجهان مذكوران في كتاب الوصية عن ابن سريج، وبناهما القاضي الحسين هنا على خلاف سنذكره [فيما إذا ملكه بإرث] هل يحسب من رأس المال أو من الثلث؟ فإن قلنا بالأول لم يصح، وإلَّا صح، وبيع في الدين.
وإن كان سبب الملك هبة أو قبول وصية، فلا شك أن قيمة ما يسري [إليه] معتبرة من الثلث، وهل تعتبر قيمة ما وهب له أو وصى له به من الثلث أيضاً؟ فيه خلاف أصله: ما إذا ملك قريبه بالإرث؛ فإنه يعتق عليه، وهل يحسب من الثلث أو من رأس المال؟ فيه وجهان المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"التتمة" و"التهذيب" وغيرهما- كما هو مذكور في كتاب الوصية-: أنه محسوب من الثلث؛ فعلى هذا: ما اتهبه أو أوصى له به من طريق الأولى.
وعلى مقابله- وهو الأصح في "الشامل"، وبه أجاب الغزالي في كتاب الوصيّة، وإن حكى الخلاف في كتاب العتق- هل يحسب الموصي به أو الموهوب من الثلث أو من رأس المال؟ فيه وجهان ينبنيان على أن المعنى الذي لأجله حسب ما ملكه بالإرث وعتق عليه من رأس المال ماذا؟ وفيه وجهان حكاهما القاضي الحسين:
أحدهما: أنه لم يختر تملكه؛ فعلى هذا يحسب ما قبله هبة أو وصيّة من الثلث.
والثاني: أنه لم يبذل عوضاً عليه؛ فعلى هذا لا يحسب ما قبله هبة أو وصية من الثلث.
فإن قلنا: يعتبر من رأس المال، نظرنا إلى قيمة نصيب الشريك: فإن خرجت
كلها من الثلث أو بعضها سرى العتق إليها، وإلَّا فلا.
وإن اعتبرنا قيمة ما وهب له أو أوصى له به من الثلث: فإن خرج من الثلث مع قيمة الباقي سرى العتق، وإلَّا اقتصر على عتق ما يفي به الثلث.
واعلم: أن ما ذكرناه من اعتبار قيمة المشتري من الثلث مفروض فيما إذا كان الثمن قدر القيمة، أما إذا كان الثمن خمسمائة مثلاً، والقيمة ألفاً، فإن قلنا: إن الموصي به يحسب من رأس المال، لم يحتسب من الثلث في مسألتنا إلَّا الثمن. وإن قلنا: إن الموهوب يحسب من الثلث، فالمحسوب من الثلث القيمة؛ كذا قاله القاضي الحسين.
فرع: إذا أوصى لشخص ببعض من يعتق عليه، ومات الموصى له قبل القبول، فقبل وارثه، وقلنا بحصول الملك تبيناً أو بالموت- عتق على الميت. ثم إن كان للميت تركة تفي بقيمة نصيب الشريك أو بعضها سرى إليها العتق، وإلَّا اقتصر العتق على ما أوصى له به، وأبدى الإمام احتمالاً في سريان العتق عند اتساع المال؛ من جهة أن العتق حصل بغير اختياره، وقد ذكرت في باب الوصية عن الإمام شيئاً يتعلق بهذا الفرع فليطلب منه.
فرع: إذا أوصى للمكاتب ببعض من يعتق عليه، أو وهبه منه، وهو [ممن لا تلزمه] نفقته، ثم وَفَّى النجوم وعتق- فإن حصته [من قريبه] تعتق عليه أيضاً، وهل تقوَّم عليه؟
قال القفال: لا؛ لأن ما لا يسري [عليه في الحال لا يسري عليه] من بعد.
وقال ابن الحداد: [نعم]، وهو الذي صححه الإمام ثم؛ لأن عتق الحصة يحصل بأداء النجوم وهو وقت السراية.
قال: وإن كان بغير رضاه أي: كما لو ورثه، أو كان قد باعه مورثه، فرد عليه بعد موته بالعيب، أو ملكه مكاتبه، فعجز نفسه، كما قاله القاضي الحسين والإمام، ونحو ذلك- لم يقوم عليه؛ لأنه ضرر غير مرتضى به.
فروع:
إذا [كان] بعض قريبه في ملك مكاتبه، فعجزه السيد- عتق منه ما دخل في ملكه من جهة المكاتب، وهل يسري؟ فيه وجهان جاريان فيما لو باع مورثه بعض قريبه الذي يعتق عليه، ثم مات، فاطلع على عيب بالثمن؛ فردّه، وعاد بعض القريب إليه، وكذا لو أوصى لمورثه ببعض من يعتق عليه ولم يقبل، ثم مات، فقبل الوصيّة- عتق عليه ما أوصى لمورثه به، وهل يسري؟ فيه الوجهان، اختيار ابن الحداد والقاضي أبي الطيب: السريان.
ولو غنم قريبه وهو أحد الشركاء في الغنيمة، فإن لم يكن في الغنيمة غير أبيه فقد تعين حقه فيه: فإن باشر غنيمته عتق عليه سهمه منه، ويقوم عليه باقيه، وإن باشر الغنيمة غيره عتق سهمه خاصة، قاله في "البحر".
ولو قبل العبد هبة بعض من يعتق على سيّده بغير إذن السيّد، وجوزنا له القبول- عتق منه ما دخل في ملك السيد، وهل يسري؟ حكى القاضي الحسين في كتاب اللقيط فيه وجهين، وجزم الإمام في كتاب الكتابة بأن القريب إذا كان ممن يلزم السيد نفقته لا يصح قبوله من العبد، وإن كان ممن لا يلزمه نفقته جاز أن يقبل [هبة] كله على هذا القول الذي عليه يفرع، وهل يجوز أن يقبل هبة بعضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأن ملكه يقتضي السريان، وهو لم يرض به.
والثاني: يصح، ولا يعتق عليه حصة الشريك.
قال: ومن وجد من يعتق عليه مملوكاً وهو موسر استحب له أن يتملكه ليعتق عليه؛ لقوله- عليه السلام: "لن يجزي ولد والده .. " الحديث.
وفصل الماوردي فقال: أما التملك بالشراء فالحكم فيه كذلك، وكذلك بالهبة إذا قلنا: إنها تقتضي الثواب، وإن قلنا: لا تقتضي ثواباً، أو أوصى له به- ففي وجوب القبول [عليه] وجهان:
أحدهما: يجب؛ ليعتق به من هو مأخوذ بحقه، وعلى هذا لو قال لعبده: أنت حر إن شئت، يلزمه أن يشاء.
وعلى الوجه [الثاني]: لا يلزمه أن يشاء.
قال: وإن أوصى لمولى عليه بمن يعتق عليه، فإن كان معسراً لزم الناظر في أمره أي: من أب أو وصي أو قيم كما صرّح به البندنيجي أن يقبله؛ لأنه يعتق عليه فيحصل له به كمال عاجل وفوات آجل من غير إضرار، وهكذا الحكم في وجوب [قبول الهبة وقبضها في هذه الحالة، ولم أر للأصحاب ما يخالف ذلك إلَّا الإمام؛ فإنه حكى تردداً في وجوب] القبول مع قطعه بالجواب، وهو موافق للوجه الذي حكيناه عن رواية الماوردي في وجوب ذلك على الرشيد.
فإن قيل: قد تقدم وجهان في أن من وهب له قريبه في مرض موته أو أوصى له به، هل يحسب من رأس المال أو من [ثلث ماله]؟، فإذا حسب من الثلث فقد أقيم ذلك مقام التبرع، والمولى عليه ليس من أهل التبرع.
قلت: إذا لم يقبل الولي ذلك فإن على المولى عليه ما ذكرناه والمالية- أيضاً- فكان الحظ في القبول.
فإن قلت: هذا لا يقتضي جواز القبول؛ ألا ترى أنه إذا وجب على الصبي كفار القتل، فأراد الأب أن يكفر عنه بالعتق متبرعاً من ماله لا يجوز، كما حكاه الرافعي في كتاب الصداق؛ لأنه يتضمن دخول المعتق في ملكه، وإذا دخل في ملكه لا يعتق عليه؛ لأنه ليس من أهل التكفير بالعتق؛ فمنع الأصحاب ذلك لمخالفة ما تقرر في أمر المحجور عليه، وإن كان فعله للمحجور عليه أحظ؛ فإنه يفوت بالترك ملك الرقبة وحصول التكفير.
قلت: هذا معارض بما حكاه الغزالي من أن [للولي أن] يصدق من ماله عن ابنه زيادة على مهر المثل، ولا نقول:[هذا] يدخل في ملك الطفل،
ويصير متبرعاً من ماله؛ لأنه لا مصلحة للابن في إفساد هذا الصداق إذ يفوت عليه الملك، فإذا كان يحصل ضمناً فلا نبالي بالزيادة، وعلى ذلك ينطبق ما حكاه الرافعي عن القفال في كتاب الظهار، وهو إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن ابني الصغير، ففعل؛ فإنه يجوز؛ لأنه اكتساب ولاء من غير ضرر.
فإن قلت: لاشك في وجود المعارضة، لكن [يلزم] القائل بالمنع في مسألة التكفير عن الولد بالعتق أن يطرد مذهبه هنا، بل من طريق الأولى؛ لأن الملك في الهبة والوصيّة ورد العقد عليه قصداً، والملك في مسألة التكفير وقع ضمناً؛ وقد بيّنا أنه يغتفر في الملك الضمني ما لا يغتفر في الملك المقصود.
قلت: هذا بعينه هو الفرق بين مسألة التكفير وما عداها من الإصداق والإعتاق عن الابن بالسؤال وقبول هبة من يعتق عليه؛ لأن الملك الفائت في مسألة الإصداق، وقوله: أعتق عبدك عن ولدي، وقبول هبة من يعتق عليه لم يقصد تفويته، [وذلك في قبول الهبة ظاهر، وأما فيما عداه؛ فلأنه لم يقصد إثباته، وإنما حصل ضمناً؛ فتفويته بعدم القصد أولى]، والملك الحاصل في مسألة الإعتاق عنه عن الكفارة قصد تفويته، وقد قلت: إنه يغتفر في الأشياء التي تحصل ضمناً ما لا يغتفر فيما يفعل قصداً، والله أعلم.
قال: وإن كان موسراً، فإن كان ممن لا تلزمه نفقته، أي: لكون القريب كسوباً يفي [كسبه بنفقته]، أو صحيحاً غير كسوب وقلنا: لا يستحق النفقة- قال وجب قبوله؛ لما تقدم، ولا نظر إلى احتمال توقع وجوب النفقة في المستقبل لزمانة تطرأ عليه؛ لأن المنفعة محققة، والضرر مشكوك فيه، والأصل عدمه.
قال: وإن كان ممن تلزمه نفقته [أي: لكونه زمناً، أو صحيحاً غير كسوب، وقلنا بوجوب نفقته]- لم يجز قبوله؛ لأنه يعتق عليه ويطالب بنفقته، وفي
ذلك إضرار بالمولى عليه.
وفي الحاوي حكاية وجه أنه يجب القبول، قال في "البحر": وهو غريب.
قال: وإن وصَّى له ببعضه وهو معسر لزمه قبوله؛ لانتفاء ضرر التقويم والنفقة، وحصول المنفعة المشار إليها من قبل.
قال: وإن كان موسراً، وهو ممن تلزمه نفقته- لم يجز القبول؛ دفعاً للضرر الثاني من لزوم النفقة، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز القبول؛ لأن الملك يقتضي التقويم؛ لأن قبول وليّه قائم مقام قبول البالغ، فإن لم نقل به تخلّف العتق عن مقتضاه، وإن قلنا به كان فيه إضرار بالمولى عليه؛ فلذلك امتنع.
والثاني: [يلزمه، ولكن لا يقوم عليه، لأنه يعتق عليه بغير اختياره فأشبه الموروث. قال الإمام: "ولم] يصر" [أحد] إلى صحة القبول في حال كون القريب زمناً ويسار المولى عليه، ولا تجب النفقة؛ فإذا دفع النفقة لا سبيل إليه، وعتق بعض الأب قد ينفك عن التقويم في بعض الصور.
وفي "الجيلي" حكاية قول ثالث: أنه يقبل، ويسري؛ لأن قبول الناظر كقبول البالغ.
وفي "البحر": أن السفيه لو ملك بعض قريبه بهبة أو وصيّة وهو موسر فهل يعتق عليه الباقي؟ فيه وجهان.
ولنختم الباب بفروع تتعلق به:
[اعلم أنه] كما يجوز العتق محاباة وبعوض [من أجنبي] يجوز بعوض من العبد، بأن يقول: أنت حر على ألف، أو: على أن عليك ألفاً، [أو: بألف]، أو: إن أعطيتني [ألفاً فأنت حر، فإذا وجد القبول عقيب الإيجاب
حصل العتق]، ولزم المال العبد، وإن تراخي عنه بطل الإيجاب، ولم يحصل العتق، وكذا لو قال: أنت حر غداً على ألف، يشترط أن يقول العبد: قبلت.
لكن في هذه الصورة هل يستحق السيّد المسمى أو قيمة العبد؟ فيه وجهان حكاهما في "الإشراف" عن القاضي.
قال البندنيجي: وكذلك عند التعليق بالعطية يشترط الإعطاء عقيب الإيجاب. وهذا يقتضي أن العتق يحصل بدفع المغصوب؛ إذ العبد لا يملك شيئاً، ويكون العقد فاسداً.
وقد حكى الإمام في هذه الصورة التي ذكرناها في كتاب الكتابة عن رواية الشيخ أبي على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن حكم هذا العقد حكم الكتابة الفاسدة في التراجع ردّاً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب.
والثاني: أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن يغرم قيمته.
والثالث: أنه يعتق ولا يرجع عليه بالقيمة، بخلاف [المرأة إذا أتت بالمغصوب، وقلنا بوقوع الطلاق- حيث يغرم؛ لأنها من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف] القِنِّ؛ فحملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، أنه يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يعتق [العبد]؛ لأنه لم يزل ملكه عن أكسابه حتى يؤدي المال ويعتق، ولا يتصور أن يملك العبد ألفاً حتى يؤدي فيعتق، بخلاف الكتابة؛ فإنه إذا كاتبه فقد أزال ملكه عن أكسابه، والمكاتب أولى بمكاسبه من السيّد.
والوجه الثاني- وهو الأصح-: أنه يصح، فعلى هذا إنما سلطه على أن
يكتسب حتى يملك ألفاً فيؤدي فيعتق، وأنه إنما يعتق إذا كان المال المؤدى إلى السيد مالاً مملوكاً، فإذا لم يكن ملكه فلا يعتق؛ لأن قوله: إذا أديت إليَّ ألفاً فأنت حر، معناه: إذا أديت إلَيَّ ألفاً أملكه [فأنت حر]، فإذا كان مغصوباً لم توجد الصفة؛ فلا يعتق، وأنه قال- يعني القفال- في الكرة الثانية: هل يكون إذناً بالاكتساب؟ فيه وجهان، أحدهما:[نعم]، يكون كالعبد إذا أذن له سيّده في النكاح، وإذا قلنا: لا يكون إذناً، فلا يتصوّر عتقه إلَّا في مسألة واحدة، وهي إذا وهب [له مال] أو أوصى له بمال، وقلنا: لا يحتاج إلى إذن السيّد في القبول فيعتق، وإلَّا فلا يعتق، وإذا عتق لا يتراجعان.
وإذا قلنا: لا يكون إذناً في الاكتساب، فاكتسب، ودفع إلى السيّد- لا يعتق. وإن احتطب أو احتش، والفرق بينه وبين ما إذا وهب له: أن الحطب مباح لا يكون مملوكاً لأحد؛ فإذا حازه يقع الملك للسيّد، وأما الهبة عين مال مملوك للغير فإذا عاد على العبد بذلك المال، ودفعه العبد إلى السيّد فإنه يعتق.
ولو قال لعبده: أنت حر على مائة وخدمة سنة، فقبل العبد العتق، صار حُرّاً، وكان عليه ما شرطه سيّده [عليه]، فإن مات قبل أن يخدم رجع المولى بقيمة العبد في تركته إن كان له مال، حكاه في "البحر" في كتاب العتق، وكان يتجه أن يرجع فيها بقيمة الخدمة إن كانت مضبوطة، ويجوز أن يجعل عوض العتق الخدمة لا غير، ويعتق إذا قبل في الحال، ويعتبر في ذلك تقدير المدة، قاله الماوردي، ولو قال لعبده: أنت حر وعليك ألف، وقع العتق، ولا شيء "على العبد" وإن قبل؛ كما في الطلاق، ولو باع السيد عبده من نفسه بثمن في ذمته صحَّ البيع على المنصوص، سواء كان حالاً أو مؤجلاً، والإطلاق محمول على الحلول.
وقال الربيع: فيها قول آخر: [أنه [لا يصح]؛ لأن السيّد لا يملك في ذمة عبده شيئاً، وغلط فيه، لأنه] إنما لم يملك إذا لم يتعلق بعتقه، فإذا تعلق
بعتقه فإنه يملك كالكتابة.
وعن ابن أبي هريرة- كما حكاه الأصحاب في كتاب الكتابة-: أنه منع من ذلك بعوض حال؛ كما لا تصح الكتابة بعوض حال.
والأصحاب [فرقوا بأنه] إذا باعه [من] نفسه عتق في الحال؛ فحصل مقصود العقد، بخلاف الكتابة؛ فإن العوض إذا كان حالاً تمكن السيّد من المطالبة في الحال، وقد يعجزه فيفوت مقصود العقد.
ثم على المذهب في صحة البيع يعتق العبد، ويكون ولاؤه لسيّده كما في المكاتب، وهو ما جزم به البندنيجي.
وعن بعض الأصحاب، وربما نسب إلى ابن سريج: أنه لا ولاء عليه للسيّد؛ فإنه عتق على ملك نفسه، ولا يجب على السيّد أن يحط عن العبد من الثمن شيئاً على المذهب.
و [قد] حكى الإمام في كتاب الكتابة أن شيخه حكى عن بعض الأصحاب: أنه يجب الإيتاء في كل عقد عتاقةٍ فيها عوض كالكتابة.
[و] لو كان عبد بين اثنين، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غراباً فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فنصيبي حر، وطار ولم يعرف- فإن كانا موسرين وقلنا بتعجيل السراية نفذ عتق العبد على أحدهما، [لكن هو غير متعيّن؛ فلا عزم؛ وولاؤه موقوف]. وإن كان أحدهما معسراً لم يعتق منه شيء في الظاهر، ولو كانا معسرين فكذلك؛ لأن كلاً منهما يزعم أن الخائب شريكه [دونه]، والأصل بقاء ملكه على حصته؛ فلو اشترى أحدهما نصيب صاحبه نفذ عتق نصفه ظاهراً وباطناً، لكن أي النصفين؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه الثاني؛ لأنا قد حكمنا باستمرار ما كان في يده على الرق.
والثاني: أنه مبهمٌ.
ولو اشترى النصفين ثالث حكمنا بنفوذ عتق نصفه في ملكه، ولا يرد ما اشتراه- كما قاله القفال- عليهما ولا على أحدهما.
وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أن المشتري إذا لم يعلم ما جرى بينهما من التعليق، ثم تبيّن ذلك فله الرد عليهما جميعاً.
قال الإمام: وهذا هوس، ولا ينبغي أن يعد مثله من المذهب، والله أعلم.
***