المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب التدبير التدبير في اللغة: النظر في عواقب الأمور. وفي الشرع: اسم - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٢

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب التدبير التدبير في اللغة: النظر في عواقب الأمور. وفي الشرع: اسم

‌باب التدبير

التدبير في اللغة: النظر في عواقب الأمور.

وفي الشرع: اسم لتعليق عتق يقع على العبد بعد الموت.

مأخوذ من "الدبر"؛ لأن السيد أعتقه بعد موته، والموت دبر الحياة.

وقيل: لأنه لم يجعل تدبيره إلى غيره، وقيل: لأنه دبر أمر حياته باستخدامه وأمر آخرته بعتقه.

ويقال: دابر الرجل-[و] تدابر- مدابرة: إذا مات. ودبر عبده، يدبره تدبيراً: إذا علّق عتقه بوفاته.

وقد كان التدبير معروفاً في الجاهلية، فأقره الشرع على كان عليه، كذا حكاه الإمام والقاضي الحسين.

وقيل: إنه مبتدأ في الإسلام بنصّ ورد فيه، عمل به المسلمون فاستغنوا عن نقل النص؛ فصار بالنص شرعاً، وصار العمل على النص دليلاً، فدبر المهاجرون والأنصار عبيداً، ودبرت عائشة- رضي الله عنها أمة.

قال الماوردي: وقد أجمع المسلمون على جوازه، وما المغلب عليه؟ فيه قولان في الجديد:

ص: 338

أحدهما: حكم تعليق العتق بالصفات؛ لأن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها، والصيغة صيغة تعليق؛ فشابه ما لو علق عتقه بموت غيره، وهذا هو الأشبه في "تعليق" البندنيجي، واختاره أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي- رضي الله عنه كما قاله الماوردي، وإليه يرشد نصه في أكثر كتبه الجديدة: أنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول.

والثاني: تغليب حكم الوصيّة؛ لأنه جعله لنفسه بعد الموت، وهو محسوب من الثلث؛ فكان وصيّة كما لو جعله لغيره بعد الموت، وهذا ما اختاره المزني والقاضي أبو الطيّب وغيره، وعليه نص في القديم. وللقولين فوائد تظهر من بعد.

وقد حَدّ بعض الشارحين التدبير: بأنه اسم لتعليق عتق العبد بالموت. وهو غير مانع؛ لأنه يدخل [فيه] ما إذا قال لعبده: إذا مت فأنت حر قبل موتي بشهر مثلاً، وكان موته فجأة؛ فإن هذا تعليق عتق بالموت، وليس بتدبير؛ لأنه يعتق من رأس المال.

قال: التدبير قربة؛ لأن القصد به العتق والعتق قربة، وهذه العلة تفهم أن تعليق العتق قربة، وقد حكينا من قبل أنه ليس بقربة.

قال: يعتبر من الثلث؛ لأنه تبرع يتنجز بالموت فأشبه الوصية، وقد روى عن ابن عمر- رضي الله عنهما أنه قال: المدبر من الثلث. فعلى هذا: إن خرج المدبر من الثلث فذاك، و [قد] حصل عتقه بمجرد الموت، وإن لم يخرج كله من الثلث عتق منه بقدر ما يخرج إن لم يجز الورثة، ويتبع ذلك من كسبه قبل الإجازة والرد بقدره، ويكون باقي الكسب للورثة؛ لأنه حصل على ملكهم، ولا يحتاج في هذا إلى معرفة الخبر، بخلاف ما لو نجز عتق عبده في مرض موته، وخرج البعض من

ص: 339

الثلث، واكتسب العبد مالاً قبل موت معتقه ولم يجز الورثة؛ فإنه يحتاج إلى معرفة قدر ما عتق منه إلى معرفة الجبر والمقابلة: فإذا كانت قيمة العبد مائة، ولا مال له غيره، ثم اكتسب مائة: ففي هذه الصورة يعتق من العبد نصفه ويتبعه نصفه كسبه، وطريق معرفة ذلك أن يقال: عتق من العبد شيء بحكم الوصيّة، ولحقه من كسبه بقدر ما عتق منه وهو شيء؛ لأن قدر الكسب قدر القيمة، ويكون للورثة منه شيئان في مقابلة ما عتق منه؛ لأن لهما ثلثي المال، وحينئذٍ يجتمع أربعة أشياء، فاقسم قيمه العبد وكسبه عليها، فينوب كل شيء خمسون، فيعتق منه ما قيمته خمسون وهو نصفه، ويتبعه نصف الكسب؛ فيبقى في يد الورثة مائة، وهي مثلاً ما عتق من العبد.

مثال آخر: إذا كان ما اكتسبه العبد ثلاثمائة، فنقول: عتق منه شيء، وتبعه من كسبه ثلاثة أشياء؛ لأن الكسب قدر القيمة ثلاث مرات، وبقى في يد الورثة شيئان وهما مثلاً ما عتق من العبد، وحينئذٍ يجتمع ستة أشياء، فتقسم القيمة والكسب عليها، ينوب كل شيء ستة وستون وثلثان، وذلك ثلثا قيمة العبد، فيعتق منه الثلثان، ويتبعه من كسبه ثلثاه، ويبقى في يد الورثة مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهي مثلاً ما عتق من العبد.

مثال آخر: إذا كان ما اكتسبه العبد خمسين: فنقول: عتق منه شيء وتبعه من كسبه نصف شيء؛ لأن الكسب قدر نصف قيمته، ويبقى في يد الورثة شيئان، وذلك ثلاثة أشياء ونصف، أبسطها بنسبة ما انكسر تبلغ سبعة، والكسب والقيمة مائة وخمسون، وإذا قسمتها على سبعة، ناب كل "سهم أحد" وعشرون وثلاثة أسباع؛ فيعتق من العبد ما قيمته اثنان وأربعون وستة أسباع وهو ثلاثة أسباعه، ويتبعه من كسبه أحد وعشرون وثلاثة أسباع، والباقي للورثة وهو مثلاً ما عتق من العبد، وعلى هذا فقس.

فرع: إذا كان المدبر يخرج من الثلث لو لم يكن على المدبر دين، لكنه [كان] عليه دين يستغرق تركته- فلا نحكم بعتق المدبر، لكن لو حصل إبراء

ص: 340

من الدين عتق، وهل نتبين وقوع العتق من حين الموت أو من حين الإبراء؟ أبدى الإمام فيه تردداً وقال: إن الظاهر الثاني.

فرع: إذا كانت قيمة المدبر مائة، ولسيده مائتان [لا غير] في بلد آخر أو في ذمة معسر- فلا يختلف المذهب في أن المدبر لا نحكم بعتقه [كله] في الحال، وهل نحكم بعتق ثلثه؟ فيه وجهان؛ اختار القاضي أبو حامد منهما حصول العتق، وهو الذي ذهب إليه الأكثرون كما قال الماوردي.

وقال الإمام: الذي نص عليه الشافعي مقابله، وهو المذهب عند البندنيجي، والأصح في "التهذيب".

وقال الماوردي: إن الشيخ أبا حامد اختاره.

فعلى هذا: إن حضر من الغائب أو الدين نصفه عتق من المدبر نصفه، وإن حضر كله عتق جميع المدبر، وإن تلف كله عتق ثلث المدبر، وعلى الأول قال القفال: للورثة التصرف في الثلثين، فإن تلف المال استقر تصرفهم، وإن حضر المال الغائب نقض تصرفهم، فلو كان تصرفهم عتقاً قال ابن سريج: ولاء الثلثين للوارث؛ لأن عتقه كان نافذاً. وفيه وجه آخر عن الصيدلاني: أن كل الولاء للموروث.

قال الإمام: وهذا في نهاية الإشكال، بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا [سبيل إلى] رده بسبب غيبة المال؛ فلا وجه إلَّا التوقف إلى عود المال.

قال القفال: وعلى هذا لو أوصى لرجل بعين وما سواها من المال غائب، فهل يسلم ثلث العين [للموصى له] أو لا يسلم له شيء حتى يحضر من المال قدره مرتين؟ فيه الوجهان، ومحلهما: إذا لم يقدر الوارث على التصرف في الحال في حال غيبته، فأما إذا كان قادراً عليه فالمعتبر مُضِّي زمان القدرة.

فرع: قال القاضي الحسين: إذا كان لإنسان عبد لا مال له غيره، وأراد ألا يكون لأحد عليه سبيل بعد موته [بيوم] ويحصل له العتق- فطريقه أن يقول:

ص: 341

هذا حُرٌّ قبل مرض موتي بيوم إن مرضت ومت فيه، وإن لم أمرض ومت فجأة أو سقطت من شاهق فهو حر قبله بيوم؛ فإن هذا يصح، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ويعتق كله من رأس المال، وعلى هذا ينطبق ما قاله الماوردي فيما إذا قال لأخيه: أنت حر في آخر أجزاء صحتي المتصل بأول أسباب موتي، ثم مات- أنه يعتق من رأس المال، ويرثه؛ لتقدم عتقه في الصحة. وحكى فيما لو قال: أنت حر في آخر أجزاء حياتي المتصل بموتي، ثم مات- أنه يعتق من الثلث، وهل يرثه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لأنها وصيّة لوارث.

والثاني: نعم؛ لأن الوصية ما ملكت عن الموصي، وهو لم يملك نفسه عنه.

وذكر القاضي الحسين فيما لو قال: أنت حر قبل مرض موتي بيوم، فمات فجأة- أنه يعتق من الثلث.

قلت: وفي عتقه نظر؛ لأن الشرط لم يوجد، ونظيره مسألة الطلاق التي ستأتي.

قال: ويصح ممن يجوز تصرفه [في المال]؛ لأنه تصرف في المال.

قال: وفي الصبي [المميز] والمبذر قولان تقدم توجيههما في باب الوصيّة.

ومن العراقيين من جزم في المبذر بالصحة كما حكيناه طريقة في الوصيّة، وعلى ذلك جرى البندنيجي والمصنف في "المهذب".

قال المحاملي: والأول أشبه بكلام الشافعي- رضي الله عنه وكذلك قاله في "البحر" بعد أن نسب ذلك إلى قول بعض الخراسانيين.

والظاهر من القولين في الصبي- كما قال القاضي أبو حامد-: الصحة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه منع من التصرف لحظه، والحظ ها هنا في جوازه؛ لأنه إن عاش لا يلزمه ذلك، وإن مات بقي له الأجر والثواب.

وقال القاضي الحسين: إن أصحابنا استرذلوا هذا القول؛ فإنه لو باع ما يساوي درهماً بألف لم يصح وإن كان نفعه يعود إليه.

فروع:

السكران هل يصح تدبيره؟ قال بعض أصحابنا: فيه قولان كما في طلاقه، وقيل:

ص: 342

إذا لم يكن عاصياً لم يصح تدبيره ولا وصيته، وإن كان عاصياً بالشرب، خرج على الخلاف في وقوع طلاقه.

المرتد هل يصح منه أن يدبر عبده؟ فيه ثلاثة أقوال منصوصة في "المختصر"، ثالثها: أنه موقوف، قال في "البحر": ومحلها إذا لم يحجر عليه الحاكم، أما إذا حجر عليه فهو باطلٌ قولاً واحداً، وحكى عن أبي إسحاق أن تصرفه بعد الحجر باطل إلَّا الوصية؛ فإنها تصح من المحجور عليه، والتدبير في أحد القولين كالوصيّة.

المفلس يصح تدبيره قولاً واحداً.

قال: والتدبير- أي: الصريح- أن يقول: أنت حر بعد موتي"، أو: إن مت من مرضي هذا، أو: في هذا البلد فأنت حر، والأول يسمى: تدبيراً مطلقاً، والثاني والثالث: تدبيراً مقيداً، حتى إذا لم يمت من ذلك المرض أو في ذلك البلد لم يعتق.

وفي "البحر" أنه قال في "البويطي": لو قال: "أنت حر إن مت من مرضي هذا، أو: في سفري هذا" فهذه وصيته وليست بتدبير؛ فإن مات من مرضه أو في سفره كان حُرّاً من الثلث.

والكناية في التدبير أن يقول: "إذا مت فأنت حر"، أو:"لا ملك لي عليك"، وكنايات العتق كنايات فيه.

قال: فإن قال: دبرتك، أو: أنت مدبر- ففيه قولان أي: بالنقل والتخريج؛

ص: 343

لأنه نص فيما إذا قال: "دبرتك"، أنه صريح فيه، ونص فيما إذا قال لعبده:"كاتبتك على كذا"، لم يصح حتى يقول:"فإذا أديت إليّ كذا فأنت حر"[وينوي] ذلك.

فمن الأصحاب من قال: لا فصل بينهما، وجعل المسألتين على قولين.

أحدهما: أن لفظ "دبرتك" و"كاتبتك" صريحان؛ لأنهما لفظان موضوعان لهذين العقدين، فلا يفتقران إلى أمر آخر؛ كلفظ البيع في البيع.

والثاني: يفتقران إلى النية؛ لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما؛ فيفتقران إلى النية كسائر الكنايات.

والأكثرون من الأصحاب- كما قال الماوردي، ومنهم ابن أبي هريرة- أقروا النصين، وأجروهما على ظاهرهما، وفرقوا بوجهين:

أحدهما: أن التدبير لفظ ظاهر مشهور يعرفه عوام الناس؛ فاستغنى عن النية، والكتابة لا يعرفها إلَّا الخواص؛ فافتقرت إلى النية.

والثاني: أن التدبير لا يحتمل العتق بعد الموت، والكتابة لفظ مشترك؛ لأنه يحتمل أن يريد به المخارجة فيقول: كاتبتك كل شهر بكذا، ويحتمل أن يريد به كتابة المراسلة، ويحتمل أن يريد به الكتابة الشرعية التي تتضمن العتق؛ فلا ينصرف إلى إحداهن إلّا بنيّة.

والفرقان ضعيفان.

ومنهم من قال: التدبير صريح، وفي الكتابة قولان.

وحكى الماوردي وابن الصباغ في كتاب الكتابة أن بعض أصحابنا قال: إن كان اللافظ من فقهاء الأمصار [فلا يفتقر] إلى النية [فيهما]، وإن لم يكن فقيهاً احتاج إليها فيهما؛ فتحصلنا على أربع طرق في المسألتين،

والصحيح الأول، والذي حكاه المراوزة- كما قال الإمام- الثاني: وهو تقرير النصين. [قال]: ويجوز أن يعلق التدبير على صفة بأن يقول: "إن

ص: 344

دخلت الدار فأنت حر بعد موتي؛ لأنه دائر بين أن يكون وصيّة وهي جائزة التعليق، أو عتقاً بصفة وهو- أيضاً- يقبله، فإنه يجوز أن يقول لعبده: إذا دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت حر، فإن دخل الدار في حياة السيد انعقد التدبير، وإن دخلها بعد موته لم ينعقد؛ لأن إطلاق الصفة يقتضي وجودها في حال الحياة كما ذكرناه في العتق.

ولو قال: إذا مت فأنت حر بعد موتي [بيوم]، لا يحتاج إلى إنشاء العتق؛ كالمدبر سواء.

فروع:

لو قال: إن شئت فأنت حر متى مت، فالمشيئة فيه كالمشيئة في الطلاق، وستقف على ما قيل فيها.

فلو قال: شئت، ثم قال: لست أشاء- انعقد التدبير بالأولى، ولم يبطل بما قاله ثانياً.

ولو قال ابتداء: لست أشاء، ثم قال: شئت- بطل التدبير، ولم تؤثر المشيئة الثانية.

لو قال: متى شئت فأنت حر بعد موتي، فلا يشترط أن تكون المشيئة في المجلس، ويحتاج إلى وجودها في حال الحياة، فلو قال: لا أشاء، ثم قال: شئت- ثبت التدبير [بهذه المشيئة] المتأخرة، ولم يبطل بقوله المتقدم.

لو قال: إذا مت فأنت حر إن شئت، فهذا يحتمل إرادة المشيئة بعد الموت، ويحتمل إرادتها في الحال كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو: أنت مدبر إن شئت، فيرجع إليه، فإذا بيّن شيئاً عمل بموجبه، وهل يتعيّن القبول على الفور إذا قال: أردت حصول المشيئة بعد الموت، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين، والمذكور في "النهاية": الثاني.

ص: 345

وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد شيئاً- قال الإمام: فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: لا يحكم بالعتق حتى توجد المشيئة في الحياة وبعد الموت.

ومنهم من حمله على مشيئته بعد الموت، وقال: إنه الذي صححه العراقيون. وعلى هذا لا يشترط أن كون المشيئة عقيب الموت، ويجيء فيه ما حكاه القاضي.

ومنهم من قال: نحمله على مشيئته في الحال، قال الإمام: وهو متجه لا بُعْدَ فيه. وبهذا جزم القاضي الحسين.

إذا قال: إذا مت فشئت فأنت حر، فهذا ليس بتدبير، وإنما هو تعليق عتق بصفة، وهل يشترط فيه المشيئة عقيب الموت؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم [أنه أراد] إيقاع المشيئة بعد الموت.

والثاني: أنه لابد من اتصال المشيئة بالموت، هكذا حكاه الإمام، وبه جزم القاضي الحسين.

وقال في "الزوائد": إن أبا حامد لم يقل بغيره، وظاهره [أن المشيئة على الأول] متى وجدت بعد الموت حصل العتق، وكلام البندنيجي وكذا ابن الصباغ مصرِّح بأنه إذا أخر المشيئة بعد الموت ومفارقة مجلس بلوغ الخبر [فيه-] أنه لا أثر للمشيئة. وإن وقعت المشيئة بعد الموت متراخية عنه، لكنها في المجلس- ففي الاعتداد بها الوجهان المذكوران فيما إذا قال:[أنت حر بعد موتي، وهما مذكوران في الطلاق، وأجرى ما ذكره في هذه الحالة فيما] إذا قال: إذا مت فأنت حر إذا شئت، أو: إن شئت.

وإذا جمعت بين ما حكاه [هو و] البندنيجي وبين ما أفهمه كلام الإمام

ص: 346

جاء في المسألة ثلاثة أوجه، قال الإمام: والذي أرى أن الوجهين يجريان فيما لو قال: إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت طالق، حتى إذا دخلت الدار وانفصل التكليم عنه انفصالاً معتدّاً به وقع على وجه.

إذا قال: إذا مت فأنت حر متى شئت، لا يشترط في المشيئة أن تقع في المجلس، بل أي وقت شاء عتق، وتكون نفقته في كسبه إلى أن يشاء، فإن فضل عنها شيء فالفاضل هل يوقف حتى إذا شاء [و] عتق يكون له أو يسلم للورثة.

قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان؛ كما إذا أوصى بعبد ومات، واكتسب مالاً، وقبل الوصية: فلمن يكون الكسب؟ وفيه قولان كما ذكرنا.

قال ابن الصباغ: والفرق بينهما ظاهر، وينبغي أن يكون الكسب ها هنا للورثة وجهاً واحداً؛ لأن العبد قبل مشيئته مملوك قولاً واحداً؛ فلا يثبت له كسبه، والعبد الموصي به إذا قبله تبيناً أنه ملكه بموت الموصي في أحد القولين؛ فلهذا جعل له كسبه في أحد القولين.

قلت: ما ذكره ابن الصباغ ظاهر إن كان القاضي قد فرّع القولين في مسألة الوصيّة على القولين في أن الموصى له يملك بالقبول، أو به يتبين أنه ملك بالموت، لكن قد ذكرنا فيما إذا فرعنا على أنه يملك بالقبول: فالكسب الماضي لمن يكون؟ وفيه خلاف كما في نظير المسألة في الزوائد" الحاصلة في زمن الخيار إذا أجيز العقد، وقلنا: الملك للبائع، فيجوز أن يكون القاضي أشار إليه، وإذا كان كذلك فهو نظير مسألة العتق بلا فرق.

قال: ويجوز في بعض العبد كالعتق، فإن دبر البعض، أي: وكان ملكه بجملته- لم يسر إلى الباقي؛ لأنه ليس بإتلاف ولا بسبب يوجب الإتلاف؛ بدليل جواز بيعه؛ فلم يقتض السراية، قال في "المهذب" وغيره: ومن أصحابنا من حكى قولاً آخر: أنه يسري.

فعلى الأول إذا مات عتق ما دبره بلفظه، وهل يسري إلى الباقي؟ فيه وجهان

ص: 347

ينبنيان على ما إذا أعتق بعض عبده في حال الحياة؛ فإنه يعتق كله لكن بطريق التعبير بالبعض عن الكل، أو بالسراية؟ فإن قلنا بالأول عتق الجميع هنا، وإلَّا فلا، وهو الذي حكاه الماوردي عن النص، وقد ذكرت هذا الفرع في الباب قبله.

فرع: لو قال: دبرت يدك أو رجلك، وجعلناه صريحاً، أو نوى به التدبير- فهل يصح؟ فيه قولان.

قال القاضي الحسين: ينبنيان على ما لو قال لامرأته: زنت يدك ورجلك، هل يكون قاذفاً؟ فإن جعلناه قاذفاً صح التدبير، وإلَّا فلا، والفرق بينه وبين العتق: أن [للعتق غلبة وسراية] والتدبير [لا سراية له].

قال: وإن دبر شركا له في عبد لم يقوّم عليه على ظاهر المذهب؛ لما ذكرناه؛ لأنه لا يمنع جواز البيع فلا يسري؛ كتعليق العتق بصفة.

قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على المذهب سواه.

فعلى هذا إذا مات السيّد وعتقت الحصة لم يقوم عليه؛ لأنه معسر.

وقيل: يقوم عليه [أي] إذا كان موسراً وهو قول ثان في المسألة؛ لأنه أثبت له سبباً يستحق به العتق بموته فسرى؛ كالاستيلاد. وفعلى هذا: إذا قوّم عليه صار الجميع مدبراً وعتق بموت سيّده، وقد نسب هذا القول إلى اختيار الشيخ أبي حامد.

وقال: ابن أبي هريرة، إذا قلنا به، وقوم [عليه] فلا يصير نصيب شريكه مدبراً حتى يتلفظ بتدبيره، فإن لم يتلفظ ومات [فهل يسري] العتق من حصته إلى الحصة المقومة عليه؟ فيه وجهان، والمشهور الأول.

قال: وإن كان عبد بين اثنين، فدبراه، ثم أعتق أحدهما نصيبه- لم يقوم

ص: 348

عليه نصيب شريكه في أصح القولين؛ لما فيه من إبطال الولاء على الشريك الذي انعقد سببه بالتدبير؛ كما لا يملك الشريك عتق حصته من العبد الذي أعتق شريكه حصته منه قبله وهو موسر، وقلنا: لا يسري إلّا بدفع القيمة.

قال في "البحر": فعلى هذا إذا رجع المدبر في التدبير ولو بعد زمان سرى العتق قولاً واحداً؛ لزوال المانع. وهذا ما حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي محمد بعد أن قال: قال الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العق فلا يسري بعده؛ كما لو أعتق وهو معسر ثم أيسر.

فإن قلنا بما حكاه في "البحر" فهل يتبين السريان من حين العتق، أو نقول: يسري عند الرجوع في التدبير؟ حكى الإمام عن شيخه فيه وجهين.

قال: [ويقوم في الآخر؛ لأن المدبر يجوز بيعه، فإذا أعتق أحد الشريكين حصته سرى إلى الأخرى كالقن]، وهذا ما نص عليه في "البويطي"، وهو الصحيح في "البحر".

قال ابن الصباغ: وما ذكره الأول، يبطل بالعبد المعلق عتقه [على صفة].

قلت: ويمكن أن يحترز عن هذا النقض؛ بأن يضيف لما ذكرناه: مع كون العقد قربة، والخلاف جارٍ فيما إذا دبر أحدهما نصيبه، وقلنا بعدم السراية، فأعتق الآخر حصته وهو موسر.

قال: ويجوز الرجوع في التدبير بالتصرف بالبيع وغيره، أي: من الأمور الناقلة للملك، كالإصداق، وجعله عوضاً في خلع، أو عفو عن قصاص، أو أجرة في إجارة، أو رأس المال في السَّلم، أو هبة، أو تصدق به وأقبضه، أو وقفه، ونحو ذلك.

ووجهه في البيع: ما روى أبو داود عن عطاء- وهو ابن أبي رباح- عن جابر بن عبد الله أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة. وأخرجه البخاري [ومسلم]

ص: 349

والنسائي وابن ماجة بنحوه مختصراً ومطولاً.

وفي رواية لأبي داود: قال- يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ، وَاللهُ أَغْنَى مِنْهُ". وقد روى أبو داود عن أبي الزبير: [أن رجلاً من الأنصار، يقال له أبو مذكور، أعتق غلاماً له يقال له يعقوب، عن دبر، لم يكن له مال] غيره، [فدعا به] النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"مَنْ يَشْتَرِيهِ؟ "، فاشتراه نعيم بن [عبد الله النَّحَّام]، بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، [ثم] قال:"إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيراً فَلْيَبْدَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعَلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ، فَعَلَى ذِي قَرَابَتِهِ- أَوْ قَالَ: عَلَى ذِي رَحِمِهِ- فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ، فَهَا هُنَا وَهَا هُنَا" وأخرجه مسلم والنسائي، فثبت في البيع بالنص، وقيس باقي ما ذكرناه عليه؛ لأنه في معناه.

قال في "التهذيب": ولا فرق في البيع بين أن يكون بشرط خيار أو دونه، في أنه رجوع على قولنا: إن التدبير وصية أو عتق بصفة. نعم، لو فسخ العقد هل يعود التدبير؟ سنذكر عن الإمام فيه تردداً.

قال: وهل يجوز بالقول؟، أي: كقوله: فسخت التدبير، أو نقضته، أو أبطلته، أو رجعت فيه؟ فيه قولان [أي]: في الجديد:

أصحهما: أنه لا يجوز، قال البندنيجي وغيره: هما مبنيان على قولين، في أنالتدبير عتق بصفة أو وصية؟ فالأول مبني على الأول، والثاني على الثاني.

ص: 350

وعن القديم: أنه يجوز الرجوع بالقول، وخص بعض الأصحاب هذا الخلاف بالتدبير المطلق، وقال في التدبير المقيد: لا يجوز الرجوع فيه بالقول قولاً واحداً؛ لأنه لم يعلق بمطلق الموت، فكان بالتعليق أشبه.

والأول أصح، كذا قاله في "التهذيب".

وفي "الجيلي": أن بعضهم قال: محلهما في المقيد، أما المطلق، فلا يصح الرجوع فيه بالقول، قولاً واحداً.

فرعان:

إذا صححنا تدبير الصبي، وأراد الرجوع فيه، فإن قلنا: يجوز الرجوع فيه بالقول، كان له ذلك، وأبدى القاضي الحسين احتمال وجهٍ في منعه؛ لأن جواز التدبير كان لأجل حظه، ولا حظ له في الرجوع.

وإن لم نجوز [الرجوع بالقول فلا يجوز منه الرجوع، ويقوم وليّهُ فيه مقامه، إذا رأى في] بيعه حظّاً، كما قاله الشافعي- رضي الله عنه فيبيعه، ويبطل إذ ذاك التدبير، ولو أراد الولي بيعه لا لأجل الحظ، بل لأجل إبطال التدبير- لم يجز؛ لأنه لا حجر فيه عليه؛ كما لا يجوز أن يرجع فيه بالقول، إذا جوزناه، قولاً واحداً.

نعم، لو أذن [له] الصبي في البيع، كان بيع الولي عن إذنه رجوعاً بكل حال، ذكره الماوردي.

لو دبر عبداً، ثم خرس: فإن كان له إشارة معقولة كان له الرجوع بالإشارة [بالبيع ونحوه أو بها، وإن لم تكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة، لم يصح رجوعه]، ولا يجوز أن يولى عليه، فيبقى العبد مدبراً حتى تحصل له إشارة مفهمة فرجع فيه؛ لأنه مكلف رشيد، فلا يولى عليه.

قال: وإن وهبه ولم يقبضه بطل التدبير، وقيل: لا يبطل. هذا الخلاف بناه

ص: 351

بعض الأصحاب على القولين- أيضاً-[فقال]: إن قلنا: [إن] التدبير وصيّة، فالرجوع يجوز فيها بالهبة وإن لم يقبض، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، فالرجوع إنما يكون بنقل الملك ولم يوجد.

وحكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي: أنا إن جعلنا التدبير وصية، كانت الهبة من غير قبض رجوعاً، وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فهل يكون رجوعاً أم لا؟ فيه وجهان. [ثم قال]: ولست أعرف لهذا وجهاً.

وقال في "البحر": إن بعض الأصحاب، جزم بكون ذلك رجوعاً على القولين معاً؛ لأن الهبة قبل القبض، إن لم تُزل الملك في الحال، فهي تفضي إلى زوال الملك. وإن هذا اختيار القاضي أبي حامد؛ حيث قال في "الجامع": ولا يصح الرجوع عن التدبير إلَّا بإخراجه من ملكه، في أظهر قوليه في الجديد، وينتقض التدبير على هذا القول بكل عقد يؤدي [إلى] خروجه من ملكه، وإن لم يتم، فإذا وهبه هبة يثاب، قبضه الموهوب أو لم يقبضه، رجع في الهبة أو لم يرجع، أوصى به لرجلٍ أو تصدق به عليه، أو قال: إن أدى بعد موتى كذا فهو حر، فهذا كله رجوع في التدبير.

قال: وهذا [ما] نقله بعينه من كتاب التدبير من "الأم"؛ فبطل بذلك، القول [ببناء الخلاف على القولين].

فروع:

إذا وهبه، ثم أقبضه، وقلنا: مجرد الهبة لا يقطع التدبير- فانقطاع التدبير يكون حالة الإقباض، إن جعلناه الملك فيها يحصل [إذ ذاك]، وإن قلنا: يثبت الملك بالهبة، فهل نتبيّن انقطاع التدبير؟

قال الإمام: [هذا] فيه تردد، وأثره يظهر فيما إذا زال الملك [فيه] على

ص: 352

الجواز ثم عاد، فهل يحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بين: يجوز أن يقال: ينقطع؛ لزوال الملك؛ كما لو زال الملك لازماً، ويجوز أن يقال: لا ينقطع؛ كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة. وهذا منه يشعر بأنا إذا حكمنا بأن القبض في الهبة مبين للملك من حين العقد، يكون الملك فيه جائزاً؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما حسن التخريج الذي ذكره، والله أعلم.

العرض على البيع هل يكون كالتصريح بالرجوع؟ فيه وجهان، وقيل:[إن] ذلك ينبني على أن التدبير وصيّة فيكون رجوعاً، أو عتق بصفة، فلا يكون رجوعاً.

إذا قال: رجعت في تدبير رأسك، ففي قيامه مقام التصريح بالرجوع في كله وجهان، أحدهما: نعم؛ لأنه يعبر عن الجملة بالرأس؛ يقال: له رأس [من] الرقيق.

إذا قلنا: لا يحصل الرجوع إلَّا بزوال الملك، فرهنه، فهل يصح ويكون رجوعاً أم لا؟ [قد] تقدم الكلام فيه في الرهن.

قال: وإن دبر جارية، ثم أحبلها، بطل التدبير؛ لأن العتق بالسببين يقع في زمن واحد، ولم يظهر للعتق بأحدهما فائدة لا تحصل في العتق بالآخر، والاستيلاد أقوى؛ لكونه لا سبيل إلى إلغائه بعد ثبوته، فَقُدِّم، وإن لم يكن بين التدبير والاستيلاد منافاة؛ كي لا يعلل الحكم الواحد بعلتين.

وبقولنا: "إن العتق بهما يحصل في زمن واحد

" إلى آخره، يخرج ما إذا كانت أمته، ثم استولدها؛ فإن الكتابة لا تبطل، كما سنذكره. وفي "تعليق" القاضي الحسين: الجزم في هذا الكتاب بأن الاستيلاد لا يبطل التدبير، حتى لو قال السيد: مدَبَّرِيَّ أحرار، تعتق هي.

تنبيه: قول الشيخ: إن التدبير يبطل بالإحبال، فيه إشارة إلى أن الوطء لو وجد دون الإحبال لا يكون رجوعاً فيه، وهو ما صرّح به القاضي الحسين، سواء عزل أو لم يعزل؛ لأنه إذا لم يعزل فقد قصد تأكيد الحرية بالاستيلاد، وهذا بناء على ما ذكره من أن الاستيلاد لا يبطل التدبير، ووافقه الإمام على ذلك.

ص: 353

قال: وإن كاتب عبداً، ثم دبره، صح التدبير، كما يصح أن يعلق عتقه بعد تدبيره على صفة، فإن أدى المال عتق أي: بالكتابة وبطل التدبير، وإن لم يؤد حتى مات السيد عتق أي: بالتدبير وبطلت الكتابة، فإن لم يحتمل الثلث جميعه، عتق الثلث، أي: عتق منه بقدر الثلث "بسبب التدبير، وبقي ما زاد على الكتابة؛ لأن كلاً منهما سبب للعتق، فيعلق العتق بالسابق، ويسقط عنه من النجوم بقدر ما عتق منه: إن كان النصف، فنصف النجوم، [وإن كان] النصف والربع، فالنصف والربع، وهكذا.

واعلم: أن قول الشيخ: وإن لم يؤد حتى مات السيد عتق وبطلت الكتابة، اتبع فيه الشيخ أبا حامد؛ فإن هذه عبارته، وهي تفهم [أن] أكساب العبد وولده يعود رقّاً للسيد؛ لأن هذا شأن الكتابة إذا بطلت، ويقوي هذا الإفهام ما ذكره الشيخ في باب الكتابة: أن السيد إذا أحبل المكاتبة صارت أم ولد، فإذا مات عتقت بالاستيلاد، وعاد الكسب إلى السيد.

وقد قال ابن الصباغ في مسألتنا: إنه ينبغي أن يعتق المدبر ويتبعه ولده وكسبه؛ كما إذا أعتق السيد مكاتبه قبل الأداء؛ لأن السيد لا يملك إبطال الكتابة بالعتق المباشر فلا يملكه بالتدبير. ثم قال: ويحتمل أن يريد- يعني الشيخ أبا حامد- بالبطلان زوال العقد، دون سقوط أحكامه، وعلى ذلك جرى في البحر، وينطبق [على] ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه ما أورده هو والبندنيجي [والإمام هنا] في مسألة إحبال المكاتبة بأن السيد إذا مات عتقت بموته عن الكتابة وتبعها كسبها؛ لأن العتق إذا وقع في الكتابة لا يبطل حكمها كما لو باشرها به، وغذا كان الاستيلاد القوى لا يبطل أحكام الكتابة إذا حصل العتق بسببه فالتدبير الذي هو ضعيف بذلك أولى.

قال: وإن دبر عبداً ثم كاتبه بطل التدبير في أحد القولين، ولم يبطل في الآخر، ويكون مدبراً مكاتباً. أي: فيكون حكمه ما ذكرناه من قبل، ومأخذ القولين: البناء على أن التدبير وصية أم عتق بصفة؟

ص: 354

فإن قلنا: إنه وصية، بطل؛ كما تبطل الوصية بالكتابة على الصحيح، وبه جزم بعضهم كما ذكرناه.

وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فالكتابة لا تزيل الملك عن الرقبة؛ فلا يكون رجوعاً؛ كالعتق المعلق بصفة، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.

وحكى الإمام القولين عن رواية صاحب "التقريب" فيما إذا قلنا: إن التدبير وصية، فهل تكون الكتابة رجوعاً أم لا؟ وكان على قياس ما حكاه القاضي أبو حامد في "الجامع" أن تكون رجوعاً قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه [تعليق بصفة]؛ لأنها عقد يفضي إلى زوال الملك، كالهبة قبل القبض.

وقد حكي عنه أنه قال: يسأل عن قصده بالكتابة، فإن أراد بها رجوعاً في التدبير كان راجعاً في أحد قوليه دون الآخر، وإن قال: أردت إثباته على التدبير، فهو مدبر مُكاتب في القولين معاً، وكان الفرق بين ما ذكره في الهبة ونحوها وبين الكتابة: أن الهبة إذا تمت بالقبض فات التدبير؛ فلذلك جعلت مبطلة له، وإن لم تتصل بالقبض؛ نظراً إلى آخر الأمر، والكتابة في ابتدائها لا تزيل الملك، وإذا تمت بأداء النجوم حصَّلت مقصود التدبير وهو العتق؛ فلم تكن منافية له حالاً ومآلاً، بل مناسبة له، والرجوع إنما يكون بالمنافي لا بالمناسب والمماثل، وبهذا رد القاضي الماوردي على الشيخ أبي حامد تخريج المسألة على قولين، وإن جرى مجرى الوصية.

فرع: إذا علق عتق عبده بصفة مطلقة، ثم دبَّره- صح التدبير. فإن وجدت الصفة قبل الموت، عتق وبطل التدبير، وإن لم توجد حتى مات السيد، عتق بالتدبير. ولو دبره ثم علق عتقه على صفة، قال في "التهذيب": صح، وكان التدبير باقياً بحاله، وأبدى الإمام في كونه رجوعاً تردداً، مأخوذاً من الخلاف الذي رواه عن صاحب "التقريب" من قبل.

فرع: إذا دبر حمل الجارية دونها صح.

فإذا قلنا: لا يصح الرجوع في التدبير بالقول، فالحمل لا يمكن بيعه على الانفراد، فطريقه: أن يبيع الأم بقصد الرجوع، فلو باعها من غير قصد الرجوع

ص: 355

فهل يصح البيع ويكون رجوعاً في التدبير، أو يبطل البيع؟ فيه قولان، الذي حكاه [المسعودي: الثاني، وهو ظاهر النص، كما حكاه] البندنيجي و [قال: إن] الشيخ أبا حامد اختار مقابله، وحمل ما قاله الشافعي- رضي الله عنه على ما إذا استثنى حملها في البيع.

فرع: لو دبر عبده ثم ارتد، فهل يبطل التدبير؟

قال بعضهم: بطلانه مخرج على الأقوال في تصرف المرتد.

وقال بعضهم: بل يبطل مطلقاً؛ لأن المدبر إنما يعتق إذا حصل للورثة مِثْلاه وها هنا لا يحصل للورثة شيء؛ فلم يعتق.

وقال أبو إسحاق: لا يبطل قولاً واحداً على الأقوال كلها؛ كما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه هنا.

قال ابن الصباغ: وهو الأصح.

وفي "الحاوي": أنا إن حكمنا ببقاء ملكه فالتدبير بحاله، فإن مات أو قتل مرتدّاً عتق بموته إن كان يخرج من الثلث، وإن لم يكن له مال سواه ففيما يعتق منه وجهان:

أحدهما: ثلثه، ويرق ثلثاه، وهو قول البصريين.

والثاني- وهو قول البغداديين-: يعتق جميعه. قال الماوردي: وهو الأظهر عندي، وإن لم يصل إلى المسلمين مثلاه؛ لأن باقي المرتد ينتقل إليهم فيئاً لا إرثاً، والثلث معتبر في الميراث دون الفيء.

وإن قلنا بزوال ملكه ففي تدبيره وجهان:

فإن قلنا: يبطل، فإن قتل في الردة لم يعتق منه شيء، وإن عاد إلى الإسلام عاد المدبر إلى ملكه.

وهل يعود إلى التدبير؟ إن قلنا: إنه وصية، لم يعد، وإن قلنا: تعليق عتق بصفة، خرج على الخلاف في عود الحنث.

ص: 356

وإن قلنا: لا يبطل، فإن مات أو قتل على ردته عتق بجملته إن خرج من الثلث، وإلا فالحكم كما تقدم.

قال: وإن أتت المدبرة بولد من نكاح أو زنى لم يتبعها [الولد] في أصح القولين؛ لأن عتقها معلق بصفة ثبتت بقول المعتق وحده؛ فلا يتبع فيه الولد؛ كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. وهذا ما صححه [المزني] أيضاً، وقال البندنيجي: إنه أضعف القولين.

قال: ويتبعها في الآخر، أي: في التدبير؛ حتى إذا ماتت وبقي الولد عتق بموت السيد؛ لأنها أمة تعتق بموت سيدها؛ فوجب أن يتبعها ولدها في صفتها، كولد أم الولد.

ولا فرق في جريان القولين عند بعضهم بين أن نقول: إن التدبير وصية أو عتق بصفة، وهذا الطريق يدل عليه نص الشافعي- رضي الله عنه وبعضهم بنى القولين على أن التدبير وصية أو عتق بصفة؟ فالأول مبني على أنه وصية، والثاني مبني على أنه عتق بصفة.

وبعضهم قال: إن قلنا: إنه وصية، لم يتبعها، وإن قلنا: إنه عتق بصفة، فهو محل القولين.

ثم محل جريان الخلاف فيما إذا حصل العُلوق بالولد بعد التدبير، أما إذا كان الحمل موجوداً حالة التدبير؛ بأن وضعته لدون ستة أشهر من وقت التدبير- فالولد يكون مدبراً قولاً واحداً؛ لأنه كالجزء منها، صرح به ابن الصباغ وغيره، وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أن ذلك بناءً على قولنا: إن الحمل يعرف، أما إذا قلنا: لا يعرف، فيكون على القولين في الحمل الحادث بعد التدبير.

فروع:

قال العراقيون وصاحب "التهذيب": لو قال: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين، فأتت بولد في حياة السيد- فهو على الخلاف السابق، وإن أتت به بعد موته وقبل انقضاء العشر سنين ففيه طريقان:

ص: 357

أحدهما: القطع بأنه مدبر.

والثاني: أنه على القولين.

إذا دبَّر عبده، ثم وهب له جارية فوطئها، وأتت منه بولد، فإن قلنا: العبد لا يملك، فالولد قِنٌّ للمولى، ولا حد على العبد؛ للشبهة، وإن قلنا: يملك، فالولد ملك للعبد؛ لأنه من أمته، ولا يعتق عليه؛ لأن ملكه غير تام، كالمكاتب، لكن هل يتبعه الولد في التدبير؟ فيه وجهان عن ابن سريج:

أحدهما: لا؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية دون أبيه.

والثاني: يتبعه؛ لأن الأم إذا كانت مملوكة للواطئ كان الولد تابعاً لأبيه دون أمه؛ كالحر إذا وطئ أمته واستولدها؛ فإن الولد يتبعه في الحرية دون أمه.

[ثم] إذا قلنا: إن الولد يتبع أمه في التدبير، فقالت بعد موت سيدها: ولدته بعد التدبير وقد عتق معي، وقال الورثة: بل قبل التدبير- فالقول قولهم؛ لأن الأصل بقاء ملكهم، ويد المدبرة لا تحتوي على ولدها حتى يكون القول قولها، بخلاف ما لو وجد في يدها مال بعد موت السيد، فقال الوارث: إنه من كسبها قبل موت السيد، وقالت: بل بعده- فإن القول قولها؛ لأن اليد تثبت على المال، ولا فرق بين أن يكون الاختلاف وقد مضى زمن يمكن فيه اكتساب ذلك عادة، أو زمن يسير، كما قاله البندنيجي.

وكذلك القول قولها فيما لو أقام الوارث بينة على أن ذلك المال كان في يدها قبل موت سيدها، وادعت أنه كان في يدها لغيرها، وأنها ملكته بعد موته من جهة مالكه، كما صرح به البندنيجي عن نص الشافعي- رضي الله عنه.

وفي "الحاوي" حكاية قولين في هذه الصورة.

ثم إذا جعلنا القول قول الورثة في الولد فلابد من اليمين، فلو نكلوا عنها، قال في "الحلية": حلفت الأم وعتق ولدها معها إذا خرجا من الثلث، وإن نكلت فهل يحكم برق الولد أو يوقف أمره حتى يبلغ فيحلف؟ فيه وجهان.

إذا ادعت المدبرة أنها ولدت بعد موت سيدها- وقلنا: الولد لا يتبع أمه في التدبير-

ص: 358

وقال الورثة: بل قبل موته- قال الإمام: فالقول قول الورثة أيضاً؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه.

وفي "حلية" الشاشي: أن القول قولها، فإن نكلت عن اليمين فهل ترد اليمين على الوارث أم يوقف [الأمر] على ما ذكرناه؟ فيه وجهان.

وفي "الحاوي": أنها إن اعترفت بأنها علقت به في حياة السيد؛ لكونها أتت به لدون ستة أشهر من حين وفاته- فالقول قول الورثة. وإن ادعت أنها علقت به بعد موت السيد فالقول قولها مع اليمين، فإن حلفت حكم بحرية الولد، وإن نكلت فهل ترد اليمين على الوارث، أو يوقف الأمر إلى بلوغ الولد ليحلف؟ فيه وجهان.

وهذا الذي قاله حسن، ويتعين حمل كلام الإمام على الحالة الأولى، وحمل كلام الشاشي على الثانية.

إذا لم يف الثلث بعتق المدبرة وولدها، قال ابن الحداد: يقرع بينهما، كما لو دبر عبدين، وحكى الإمام عن بعض الأصحاب: أن العتق يقسم بينهما؛ فإنا إذا أقرعنا فقد تخرج القرعة على الولد فترق الأم، ومنها يُعدَّى التدبير إليه، وهذا ليس بشيء.

إذا ادعى على سيده أنه دبره، فالنص أن الدعوى مسموعة، قال الإمام: وهذا مشكل؛ لأن المدبر لا يستحق في الحال شيئاً، وعماد الدعوى: أن يستحق المدعي [على المدعى] عليه حقّاً يملك المطالبة به في الحال، وليس يملك المدبر على مولاه شيئاً في الحال، وقد نص على أن الدعوى بالدين المؤجل لا تسمع، والتدبير كالدين المؤجل؛ فاتفق الأصحاب على إجراء خلاف في المسألتين، فإن سمعنا الدعوى بالتدبير، فأقر به السيد- ثبت، وإن أنكر، فإن قلنا: إنه عتق بصفة، لم تسقط عنه المطالبة باليمين، وإن قلنا: إنه وصية، فهل يكون الإنكار رجوعاً؟ فيه وجهان، المذهب منهما في "تعليق" البندنيجي و"المهذب" والمنصوص عليه للشافعي- كما قاله الماوردي-: أنه ليس برجوع؛ فيقال له: إن شئت فارجع، وأسقط اليمين عن نفسك، وحكى الإمام عن الأصحاب: أنا إذا جعلنا الإنكار رجوعاً فلا تسمع الدعوى، وقال:[إن] فيه نظراً.

ص: 359

قال: وإن دبر الكافر عبده الكافر صح؛ كما يصح عتقه، وسواء في ذلك الذمي والمعاهد والحربي.

فإن أسلم العبد، فإن رجع في التدبير بيع عليه بالقول وجوزناه، بيع عليه؛ لأنه قد رجع فيئاً، والكافر مأمور بإزالة ملكه عن العبد المسلم.

قال: وإن لم يرجع لم يقر في يده؛ لما في ذلك من الإذلال [له].

قال: فإن خارجه جاز، وإن لم يخارجه سلم إلى عدل؛ لأن ذلك ينفي الذل عنه، وأنفق عليه، أي: من كسبه إن كان له كسب، وإلا فمن ماله؛ لبقاء ملكه عليه.

قال: إلى أن يرجع عن التدبير فيباع، أو يموت فيعتق، أي: إن خرج من الثلث، وإن خرج بعضه بيع الباقي، ولا يكلف المدبر بيعه قبل الرجوع في التدبير؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق العبد من العتق، وهذا هو الأصح.

وقيل: يكلف البيع؛ لأن المدبر باق على ملكه؛ فكان كغيره، وهذا ما اختاره المزني، كما حكاه المصنف.

[و] قال الإمام في باب كتابة النصراني: إنه الأصح في القياس، والخلاف جار- كما قاله الماوردي- فيما إذا علق عتق عبده بصفة ثم أسلم.

وجزم في "الشامل" في هذه الصورة بالإجبار على البيع.

ولو أوصى بعتقه بعد الموت، ثم أسلم ففي "البحر" طريقان:

أحدهما: حكاية قولين، كما في المدبر.

والثاني: يباع قولاً واحداً.

قال القاضي الحسين: ولا خلاف أنه لو أسلم عبد الكافر فدبره، أو اشترى عبداً مسلماً فدبره- أنه يباع عليه.

وحكى مجلِّي أن في الاكتفاء بالتدبير وجهين، وأنه لو علق عتقه بصفة فطريقان:

أحدهما: طرد القولين المذكورين في التدبير [فيه].

ص: 360

والثاني: القطع بعدم بالاكتفاء به.

وهذا الفرع إن لم يوجد في "الذخائر" في باب التدبير، فليطلب في كتاب البيع، وهو في أواخر كتاب الجزية من "النهاية" هكذا، ونسبه إلى رواية صاحب "التقريب".

تنبيه: المخارجة: أن يشارطه على خراج معلوم يؤديه إلى السيد كل يوم، ويكون باقي الكسب للعبد، ويستقل بالتكسب، ولهما الفسخ كل وقت، ولا يختص جوازها بهذه الحالة، بل تجوز لكل سيد مع رقيقه إذا تراضيا عليها.

وهل تجوز بدون رضا العبد؟ حكى الأصحاب في كتاب الكتابة فيها قولين، ووجه الإجبار مخصوص بما إذا كان [العبد] مُطِيقاً للكسب، وكان ذا صنعة، وبعضهم جزم بهذا القول، ذكره القاضي الطبري.

فرع: لو كان عبد بين اثنين، فقالا [له]: متى متنا فأنت حر- لم تعتق حصة واحد منهما إلا بموتهما، سواء اتفقا على القول في حال واحد أو تقدم قول أحدهما على الآخر، فإن اتفق موتهما في حالة واحدة عتق عليهما، وفي حكم عتقه عليهما وجهان:

أحدهما: عتق بحكم التدبير.

والثاني: عتق عليهما وصيةً لا تدبيراً؛ لأن التدبير ما نفذ عتقه بموته، ولم يقرن بغيره.

وإن مات أحدهما قبل الآخر [لم] تعتق منه حصته بالوصية، وكان عتقها موقوفاً على موت شريكه، وتعين العتق في حصة [الباقي منهما] بالتدبير؛ لوقوع العتق بموته، وليس [لورثته المتقدم] التصرف في حصته بالبيع، وإن كانت باقية على ملكهم وأكسابهم لهم، ولو أراد الشريك الباقي [بيع] حصته قبل موته، جاز، وتعتق بموته حصة الشريك المتقدم. والله أعلم.

ص: 361