المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة … بين يدي البحث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله - كيف دخل التتر بلاد المسلمين

[سليمان بن حمد العودة]

الفصل: ‌ ‌مقدمة … بين يدي البحث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله

‌مقدمة

بين يدي البحث

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

وبعد:

فإن دراسة التاريخ لا ينبغي أن تكون ميدانا للسلوة وتزجية الفراغ، ومهما فصل عامل الزمن بين الحدث والحديث فالفرصة قائمة لأخذ الدرس والعبرة.

وعلى دارسي التاريخ بشكل عام، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص أن يتجاوزوا سرد الحدث والإكتفاء بإحصاء القتلى أو الجرحى لهذا الحدث أو ذاك، ويغوصوا في العمق باحثين عن الأسباب ومنتهين إلى نتائج تجعل دارسة الماضي سلّماً للنجاة بإذن الله في الحاضر والمستقبل.

إن فقه المرويات، وعبر الحوادث، وتحليل الوقائع هدف كبيرٌ من أهداف دراسة التاريخ وبدونه تصبح الدارسة التاريخية تجميعا لا يسمن ولا يغني من جوع.

ص: 5

وإذ أخذ المتقدمون على عاتقهم رصد الحدث بمروياته المختلفة ورسموا الصورة بشكلها الإجمالي، ولم يسعفهم الوقت أو لم يكن في منهجيتهم تحليل هذه الرواية أو الحكم على تلك؛ فإن على المتأخرين استكمال هذا الجهد وسد هذا النقص، والخروج بنتائج تجعل من الحدث في الماضي عبرة للحاضر، ومؤشرا لاستصلاح المستقبل بإذن الله.

ودخول التتر في بلاد المسلمين نموذج لهذه الأحداث التاريخية التي تحتاج إلى جلاء على الرغم مما كتب فيها، وأرجو أن يكون منهجي في هذه الدراسة التحليلية نموذجا لما أصبو إليه وما يتطلع إليه الدارسون في دراسة أحداث التاريخ الإسلامي.

ولست بمستغن عن أي ملاحظة تسدد نقصا هو من طبيعة عمل البشر، والشكر أقدمه سلفا لكل من ساهم بملاحظة مفيدة أو لم يبخل علي بدعوة بظهر الغيب صادقة، أصلح الله أحوال المسلمين ووقاهم الشرور والفتن وصلى الله على سيدنا محمد.

الباحث

ص: 6

توطئة

كانت فاجعة "التتار"، وهمجية "المغول" من أعظم ما بلي به المسلمون. ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين.

وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين.

لقد أحجم – في البداية – العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي "ابن الأثير" ت 630هـ عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل:"فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا"1.

ويقول أيضا: "فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"2.

1 ابن الأثير: الكامل 12/358.

2 الكامل 12/358.

ص: 7

وهي عنده أعظم من فتنة الدجال1، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: "وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده

ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن"2.

هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة 656هـ وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها – وسيتضح – حين الحديث عنها – حجم مآسيها وضخامة أحداثها.

كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابع الهجري 699هـ حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه

1 الكامل 12/359.

2 المصدر نفسه 12/376،375.

ص: 8

في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.

فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه، وإذ كان لك امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه؛

ص: 9

لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.

كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.

وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الإمتحان تمييزا من الله وتقسيما؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24] 1.

1 انظر الفتاوى 28/328، 327.

ص: 10

كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام1 جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا،؛ هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت

1 يعني سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/410.

ص: 11

عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.

فلذلك استولت الخيرة على من كان متسما بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] .1

أما المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا2. وكانوا شيعا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول

1 الفتاوى 28/447،446.

2 في صفحات عدة قارن ابن تيمية بين حادثة التتر وموقف الناس منها وغزوة الأحزاب وموقف المؤمنين والمنافقين منها. انظر الفتاوى 28/464 -440.

ص: 12

تحت حكمهم1.

هذه الحادثة لهولها وشدتها وكثرة أحداثها وترابطها لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها – فذلك ميدانه الكتب المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى لدخولهم ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم "بغداد" حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية.

ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الإستفادة من كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة – موضع التركيز في هذه الدارسة -.

1 انظر الفتاوى 28/451، 450.

ص: 13