الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، سيظهر من بعضهم تشدد، أو فتور، أو يقعون في أخطاء .. وهنا تبرز قيمة المتابعة في ضبط هذه الأمور، وتصحيح المسار، فينتج عن ذلك الوصول إلى الأهداف المرجوة من خلال الأفراد أنفسهم، لا من خلال سير المربي معهم خطوة بخطوة، ومثال ذلك: لو أن إدارة مدرسة من المدارس طلبت من المدرسين أن يوجهوا تلاميذهم لعمل بحث في موضوع ما .. فذهب أحد المدرسين إلى فصله وأخبر تلاميذه بالبحث المطلوب وبدأ في كتابة البحث مع كل واحد منهم .. يراجع معهم كل كلمة، ويضع لهم العناصر، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة فيه، وظل على ذلك حتى انتهوا جميعا من أبحاثهم في الموعد المحدد.
ومدرس آخر ذهب إلى فصله وأخبر تلاميذه بالبحث المطلوب، بين لهم عناصر البحث، ودلهم على مراجعه، ثم تركهم، ليطالبهم عند نهاية المدة المحددة بالأبحاث التي كتبوها.
ومدرس ثالث بعد أن أخبر تلاميذه بالبحث المطلوب، بين لهم عناصر البحث، والخطط المقترحة لتنفيذه، والمراجع التي تخدمه، ولم يكتفِ بذلك، بل كان كل فترة من الزمن يقرأ ما كتبوه بأنفسهم، فيرفع واقعهم، ويتعرف على من يسير في الطريق الصحيح، ومن توسع في بعض النقاط أكثر من اللازم، ومن انحرف بالكتابة في غير موضوع البحث، ومن تسرع في الكتابة دون سبر أغوار العناصر، و
…
.
فيقوم من خلال هذا الواقع بحسن توجيه كل فرد على حدة بما يتناسب مع واقعه ليصل الجميع إلى الهدف المنشود.
أي النماذج أصح
؟
مما لا شك فيه أن تلاميذ المدرس الأول سينجحون في تقديم أبحاثهم في الوقت المحدد، وستكون أبحاثا قيمة، لكنهم كأفراد لم يكتسبوا مهارة جديدة، بل سيصبحون بحاجة إلى من يسير معهم خطوة بخطوة كلما هموا للقيام بعمل ما.
وبالنسبة لتلاميذ المدرس الثاني فنتائجهم غير مضمونة واحتمالية وقوعهم في أخطاء كبيرة، فلقد تركهم مدرسهم يجتهدون بمفردهم دون أن يعمل على تقويم مسارهم.
أما تلاميذ المدرس الثالث فقد نجحوا في تقديم أبحاث قسمة مع اكتسابهم خبرة كيفية البحث بمفردهم والوصول إلى معلومة ووضعها في مكانها الصحيح .. كل ذلك حدث لأن مدرسهم تركهم يقومون بأداء العمل بمفردهم مع متابعتهم كل فترة وتقييمه لأعمالهم، وتوجيههم لكيفية تصويبها وتقويمها.
وهذا هو المطلوب من المربي .. عليه أن يُحسن التوجيه وعرض المطلوب في البداية ثم يترك من معه ليقوموا بتنفيذ ما طُلب منهم، مع رفع واقعهم كل فترة وتقييمه وإرشادهم لكيفية تصويبه، وهكذا حتى يصلوا على أهدافهم، ويكونوا قد تعودوا الاعتماد على أنفسهم.
فإن كان هدف المربي تعريف من معه بربهم، وربطهم به سبحانه من خلال القرآن، ومن خلال الكون المحيط، فعليه أولا أن يشرح لهم كيفية استخراج جوانب المعرفة من القرآن، بصفة عامة، ثم يأخذ جانبا من الجوانب كالتعرف على الله المنعم، فيبسط فيه القول، ويُعدد لهم بعضا من نعم الله، ويدلل على ذلك بالآيات المناسبة، ثم يطلب منهم استخراج النعم من سور من سور القرآن، ويتأكد من حُسن تطبيقهم للمعنى المطلوب، ثم يتركهم - عدة أيام - بعد أن يطلب منهم استخراج الآيات الدالة على النعم من وردهم القرآني، وكذلك النعم التي اجتباهم الله بها بصورة شخصية، وعندما يلتقي معهم بعد ذلك ينظر ما استخرجوه من القرآن، ومن تفكُرهم في الكون والنفس، فيصوب ما يحتاج إلى تصويب، وينبه على ما لم يُنتبه إليه، ويؤكد على المعنى مرة أخرى، مع شحذ هممهم وتفقد أحوالهم.
ويكرر ذلك معهم مرة ومرة حتى يتأكد من حُسن تعاملهم مع القرآن ونجاحهم في استخراج جوانب المعرفة منه، وكذلك حُسن تعاملهم مع أحداث الحياة .. فإذا انتقل بعد ذلك إلى جانب آخر من جوانب المعرفة كان تطبيقه أيسر من السابق، وعندما يترك هذا الموضوع وينتقل إلى موضوع آخر، يتركه وقد تأكد من إجادتهم للتعامل معه من خلال القرآن، ومن خلال الكون المحيط، واستطاعتهم استخراج جوانب المعرفة من الآيات وربطها بأحداث الحياة.
ومع ذلك فعليه كل فترة من الزمن أن يتأكد من استمرار نهلهم من منبع القرآن وظهور آثار ذلك على أعمالهم.
والملاحظ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يوجه أصحابه إلى منابع الإيمان، ثم يتفقدهم ويتابعهم ويطمئن على مدى تعاملهم معها .. ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما:" من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:" فمن تبع منكم جنازة؟ "، قال أبو بكر: أنا، قال:" فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ "، قال أبو بكر: أنا. قال: " فمن عاد منكم مريضا؟ "، قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ".
انتبه!!
ومع هذا الدور المهم للمربي إلا أنه يأتي مصاحبا لعملية التغيير الحقيقية التي يقوم بها القرآن، فلا بديل لدخول الأفراد إلى المصنع القرآني ليباشر المربي بعد ذلك عمله في تجويد وتحسين الثمار الناتجة عن عملية التغيير.
من هنا يتضح لنا أن المربي الناجح هو الذي يدل الناس على الله ويدعوهم إلى الدخول لمأدبة القرآن، ويأخذ بأيديهم إليها، ويتركهم أمامها ليذوقوا حلاوتها بأنفسهم.
فالمربي إذن دلال يدل من حوله على منابع الإيمان وعلى ما تذوَّقه من القرآن، ففيوضات القرآن لا حدود لها، وتسع جميع الخلق. بل إن من علامة صدق المربي: انطلاق الأفراد في التعامل مع القرآن وتعرفهم على أشياء لم يعرفها ولم يسبق له هو معرفتها.
أما المربي الذي يقف في منتصف الطريق بين من معه من ناحية، وبين القرآن ومنابع الإيمان من ناحية أخرى - بمعنى أنه يسقيهم بيده بعضا مما استفاده هو من القرآن - فهذا المربي قد جانبه الصواب في أدائه لوظيفته، ولن يكون له تأثر كبير وجوهري ومستمر على من معه، لأنه قد ربطهم به، ولم يعلمهم كيف يستطيعون الانتفاع بالقرآن بمفردهم.
أما إذا أفسح لهم الطريق وأخذ بأيديهم حتى يجدوا أنفسهم وجها لوجه مع القرآن ينهلون من نبعه، ويتمتعون بحلاوته، ويدخلون إلى دائرة تأثيره .. كل ذلك يحدث لهم، وهو بينهم يوجه الطاقات، ويضبط الفهم ويشحذ الهمم .. فإنه عن فعل ذلك فقد قام بمهمته خير قيام، وأنتج للأمة نواة الجيل القرآني الذي انتظرته طويلا، فتجتمع حوله، وتسير وراءه تحرر الأوطان، وتعيد الخلافة وتسود العالم، وما ذلك على الله بعزيز:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء/105، 106].