المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ومجالس متتالية ببيت فضيلة شيخنا عليه رحمة الله تفسيرا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79 - مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

[أحمد بن محمد الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌نبذة عن حياة الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار

- ‌مع الشَّيخ مُحمَّد الأمين

- ‌مَجلسٌ مع الشَّيخ المختار بن حامدن الدَّيماني

- ‌رجوعٌ إلى مجلس الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني

- ‌ومَجلسٌ في بيت سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم

- ‌ومَجلسٌ في إدارة المعاهد والكليَّات بالرِّياض

- ‌ومجلس مع الشّيخ عبد الله السَّعدوان

- ‌ومَجلس معه في المسجد الحرام

- ‌وشبهُ مَجلِسٍ مع سماحة الشّيخ محمّد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي

- ‌ومَجلسٌ كان داخل المسجد النَّبوي لَمَّا زارَ مَلِكُ المَغْرِب الأقصى مولاي محمَّد بن يوسف المعروف بمحمد الخامس

- ‌وفي مَجلسٍ آخر معه

- ‌ومَجالسُ متتالية ببيتِ فضيلةِ شيخنا عليه رحمةُ الله تفسيرًا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79

- ‌وبعدَ وفاة الشَّيخ

- ‌الموضوعات التي حاوَرْتُ الشَّيخ حولها

- ‌واوُ العطْفِ ليستْ للمُغايَرَةِ دائمًا

- ‌الإسراف في ادِّعاءِ النَّسخ

- ‌الردُّ على ما نَشَّرتهُ جريدة النَّدوة بقلم الأستاذ أحمد محمَّد جَمال

- ‌بين الشَّيخ الشَّنقيِطي والأستاذ أحمد مُحَمَّد جمال يكتبه أحمد بن أحمد الشنقيطي

- ‌دَعْ عنك العلماء يا جَمَال

- ‌الدَّليلُ على تَفْنيد هذه الفقرة

- ‌ذِكْرُ مَنْ أنكرَ النَّسخ

- ‌لا تُغالِطْ يا أُستاذ

- ‌كلامُ أحمد جَمَال في أهليَّة النَّسَب والدِّين

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ومجالس متتالية ببيت فضيلة شيخنا عليه رحمة الله تفسيرا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79

‌ومَجالسُ متتالية ببيتِ فضيلةِ شيخنا عليه رحمةُ الله تفسيرًا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79

بسم الله الرحمن الرحيم

قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم، يقول الله جلَّ وعلا:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46]، استعينوا: استفعال من العون، وياؤه مبدلةٌ عن واوٍ، أصله استعوِنوا تحرَّكت الواو بعد ساكن صحيح، فوجب نقل حركتها إلى الساكن الصحيح على حد قوله في الخلاصة:

لِساكنٍ صحَّ انقلِ التحريكَ منْ

ذي لينٍ آتٍ عينَ فعلٍ كأبنْ

والسّيْنُ والتَّاء للطلب، فمعنى استعينوا اطلبوا العون على أموركم الدُّنيوية والأخروية بالصَّبر والصَّلاة.

الصَّبر مصدر صَبَر صبرًا، وهذه المادة تتعدَّى وتلزم؛ فمن تعديها في القرآن:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية [الكهف: 28] ،

ص: 140

ومن لزومها في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} الآية [آل عمران: 200]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] ، وقال بعض العلماء: هي متعدية دائمًا إلَّا أنها يكثر حذف مفعولها، ومن تعديتها من كلام العرب قول عنترة وقيل أبو ذؤيب:

فصبرتُ عارفةً لذلك حرّةً

ترسو إذا نفسُ الجبانِ تطلَّعُ

والصَّبر خصلةٌ من خصال الخير عظيمة، صَرَّح الله في سورة فصلت أنَّه لا يعطيها لكلِّ النَّاس، وإنَّما يعطيها لصاحب الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، وذلك في قوله:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الآية [فصلت: 35]، وهذه الخصلة التي هي الصَّبر لا يعلم جزاءها إلَّا الله كما قال جلَّ وعلا:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية [الزمر: 10]، والصَّائمون من خيار الصَّابرينَ ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:"إلَّا الصَّوم فهو لي وأنا أجزي به".

والصَّبر يتناول الصَّبر على طاعة الله وإن كنتَ كالقابض على الجمر، والصَّبر عن معصية الله وإن اشتعلت نار الشهوات، يدخل في ذلك الصبر على المصائب عند الصدمة الأولى والصبر على الموت تحت ظلال السيوف.

ص: 141

وقوله: {وَالصَّلَاةِ} أي: واستعينوا بالصلاة، والصلاة نعم المعين على نوائب الدَّهر، وعلى خير الدنيا والآخرة كما قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [العنكبوت: 45]، وقال جلَّ وعلا:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر صَلَّى، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه نُعي له أخوهُ قثم فأناخ راحلته وصلى وتلا:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] واستعانَ بالصلاة على صبر مصيبة أخيه.

ولا شك أنَّ لطالب العلم هنا سؤالًا وهو أنْ يقول: أما الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة فهو أمر واضحٌ لا إشكال فيه؛ لأن من حَبَس نفسه على مكروهها في طاعة الله كان ذلك أكبر معينٍ على الطاعة، ولكن ما وجه الاستعانة بالصلاة على أمور الدنيا والآخرة؟

والجواب: أنَّ الصلاة هي أكبر معينِ على ذلك لأن العبد إذا وقف بين يدي ربه، يناجي ربّه ويتلو كتابه، تذكر ما عند الله من الثواب، وما لديه من العقاب، فهان في عينه كل شيء، وهانت عليه مصائب الدنيا، واستحقر لذاتها رغبةً فيما عند الله، ورهبةً مما عند الله، ثم إن الله جلَّ وعلا قال:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] للعلماء في مرجع الضمير: {وَإِنَّهَا} أقوال كثيرة.

ص: 142

منها: أنَّه راجع إلى الاستعانة المفهومة من قوله: {وَاسْتَعِينُوا} ، ومنها: أنَّه راجع إلى المذكورات في الآية قبل هذا، والتحقيق: أنَّه راجع إلى الصلاة، وإنَّ المعنى:{وَإِنَّهَا} أي: الصلاة لكبيرة شاقة على كلِّ أحد إلَّا على الخاشعين، والصَّبر كذلك على المصائب، وعلى طاعة الله، وعن معاصي الله كبير جدًا إلَّا على الخاشعين، والظَّاهر أن الضمير إنَّما رجع على أحد المتعاطفين اكتفاء به عن الآخر؛ لأن مثل ذلك يفهم في الآخر، وهذا يكثر في القرآن وفي كلام العرب.

فمنه في القرآن قوله هنا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا} ، ونظيره:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34]، وقوله:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، ولم يقل يرضوهما، وقوله جلَّ وعلا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] ، ولم يقل عنهما.

ونظيره من كلام العرب قول حَسَّان بن ثابت:

إنَّ شرخَ الشَّبابِ والشعرَ الأسـ

ـودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا

ولم يقل: ما لم يعاصيا، وقول: نابغة ذبيان:

ص: 143

فقد أُراني ونعمًا لاهيين بها

والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرارِ

وقول الأضبط بن قريع، وقيل كعب بن زهير:

لكلٍّ همِّ من الهمومِ سَعَه

والمُسْيُ والصبحُ لا فلاحَ مَعَهْ

ولم يقل: لا فلاح معهما.

و {لَكَبِيرَةٌ} هنا وصفٌ من كبُرَ بضم الباء يكبُر بضمِّها إذا عَظُمَ وشَق وثقل، ومنه قوله:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] ، وهذا النوع في المعاني إذا كبر الأمر إذ شقَّ وثقل، أو كبر بمعنى عظم كقوله:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ، يكبُر الأمر، فهو كبير مضمومٌ في الماضي، تقول: كبُر يكبُر فهو كبير، كما بَيَّنا، أما كبر السِّن ففعله كبِر بكسر الباء يكبَر وبفتحها على القياس، وهو معروف وهو بفتح الباء، ومنه قول قيس بن الملوح:

تعشَّقتُ ليلى وهي ذاتُ ذوائبٍ

ولم يَبْدُ للعينينِ من ثديِها حَجْمُ

صغيرينِ نرعى البَهْمَ ياليت أنّنا

إلى اليومِ لم نكبَرْ ولم تكبَرِ البَهْمُ

والاستثناءُ في قوله: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} استثناء مفرَّغ، وأصل تقرير المعنى: وإنها لكبيرة؛ أي: ثقيلة عظيمةٌ شاقة على كل أحد إلا على الخاشعين.

ص: 144

والخاشعون جمع الخاشع، وهو الوصف من خَشَعَ، وأصل الخشوع في لغة العرب الانخفاض في طمأنينة، فكل منخفضٍ مطمئن تسميهِ العربُ خاشعًا، ومنه قول نابغة ذبيان:

توهَّمتُ آيات لها فعرفتُها

لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

رمادٌ ككحْلِ العينِ لَأْيًا أبينُهُ

ونؤيٌ كجذمِ الحوضِ أثلمُ خاشعُ

أي: منخفض مطمئن، هذا أصل الخشوع في لغة العرب، وهو في اصطلاح الشَّرع: خشية تداخل القلوب تظهر آثارها على الجوارح، فتنخفض وتطمئن خوفًا من خالق السماوات والأرض، والمعنى أن الصلاة صعبة شاقَّة على غير مَنْ في قلوبهم الخوف من الله.

ويدل لذلك شدة عظمها على المنافقين كما قال جلَّ وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، وقال جلَّ وعلا:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] الذين في محل خفض نعت للخاضعين؛ أي: (إلَّا على الخاشعين الذين يظنون أنَّهم).

والظن هنا معناه: اليقين على التَّحقيق، خلافًا لمن شذَّ وزعم أنَّه

ص: 145

الظن المعروف، وأنَّ المتعلق محذوف، والمعنى: هم الذين يظنون أنَّهم ملاقو ربهم بذنوب فهم وجلون من تلك الذنوب.

فهذا غيرُ ظاهر ولا يجوز حملُ القرآن عليه -وإنْ قال به بعض العلماء- والتحقيق أنَّ معنى يظنون: يوقنون، وقد تقرَّر في علم العربية أن الظن يطلق في العربية وفي القرآن إطلاقين:

يطلق الظن بمعنى اليقين، ومنه قوله هنا:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} ؛ أي: يوقنون، ومنه بهذا المعنى:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20]؛ أي: أيقنت أني ملاق حسابيهْ، ومنه قوله تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]؛ أي: أيقنوا أنهم ملاقوها إلى غير ذلك من الآيات.

ومن أمثلة إطلاق العرب الظن على اليقين قول دُريد ابن الصمة:

فقلتُ لهمْ ظنُّوا بألفيْ مُدَجَّجٍ

سَراتُهُمُ في الفارسيِّ المسرَّدِ

فقوله ظنوا: أي أيقنوا.

وقول عميرة بن طارق:

بأنْ تغتزوا قومي وأقعد فيكمُ

وأجعل مني الظَّنَّ غيبًا مُرَجَّما

أي: أجعل مني اليقين غيبًا مُرجَّمًا.

ص: 146

فمعنى يظنون؛ أي: يوقنون أنَّهم ملاقوا ربهم، وملاقو أصله: ملاقيون مفاعلون منقوص، والمنقوص تحذف ياؤه عند التصحيح، وحذفت نون ملاقون المضافة، أي ملاقوا ربهم.

والمراد بهذه الملاقاة؛ أي: يعرضون على ربهم يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم، كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وقال جلَّ وعلا:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5].

وقوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]؛ أي: يوقنون أنَّهم أَيضًا إليه راجعون جل وعلا يوم القيامة فمجازيهم على أعمالهم، وقدَّم المعمول الذي هو الجار والمجرور في قوله:{إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} لأمرين؛ أحدهما: المحافظة على رؤوس الآي.

والثَّاني: الحصر، والمقرَّر في علم الأصول في مبحث دليل الخَطَّاب -وهو مفهوم المخالفة- أن تقديم المعمول يدل على الحصر، وكذلك تقرر في فن المعاني في مبحث القصر أنَّ تقديم المعمول من أدوات الحصر، وهذا معنى قوله:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46].

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}

ص: 147

[البقرة: 47] يا بني إسرائيل معناه: يَا أولاد يعقوب، وإسرائيل معناه بالعبرية: عبد الله، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإنَّما ناداهم بهذا النداء يا بني إسرائيل ونسبهم إلى هذا النَّبِيّ الكريم ليبعثهم بذلك على امتثال الأمر واجتناب النهي، كما تقول العرب لمن يستحثونه للأمر: يَا ابن الكرام افعل كذا.

وقوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} المرادُ بالذكر هنا: ذكرٌ يحمل على الشكر، ومن شكر تلك النعمة المأمور به تصديقُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، واتباعه فيما جاء به؛ ونعمتي اسمُ جنسِ مضاف إلى معرفة فهو من صيغ العموم كما تقرَّر في الأصول، فمعنى نعمتي؛ أي: نِعَمي، كقوله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]؛ أي: نعم الله، وكقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]؛ أي: أوامره، ومن هذه النِّعم التي ذكَّرهم بها حملًا على شكرها إنجاؤهم من عدوِّهم فرعون، وإغراق عَدُوِّهِم وهم ينظرون، ومنها تظليل الغمام عليهم، وإنزال المنّ والسلوى، وتفجير الماء من الحجر؛ إلى غير ذلك مما قص الله في كتابه.

وجرت العادة في القرآن أنَّ الله يمتنُّ على الموجودين في زمن

ص: 148

النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالنعم التي أنعمها على أسلافهم الماضين، وكذلك يعيبهم بالمعائب التي صدرت من أسلافهم الماضين، لأنهم أمةٌ واحدة، ولأن الأبناء يتشرفون بفضائل الآباء فكأنهم شيء واحد، ولذلك كان جَلَّ وعلا يمتن على هؤلاء بنعمه على الأسلاف، وكذلك يعيبهم بما صَدَرَ من الأسلاف لأنَّهم جماعة واحدة.

وقوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: التي أنعمتها عليكم كإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام، والإنجاء من فرعون إلى غير ذلك.

و {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} المصدر المُنْسبك من أن وصلتها في محل نصب عطف على: نعمتي؛ أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم على العالمين، والعالمين: جمع عالم، وهو يطلق على ما سوى الله، والدليل على أنَّه يشمل أهل السماء والأرض من المخلوقين قوله جَلَّ وعلا:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} الآية [الشعراء: 23 - 24].

والعالَم: اسم جنس يُعرب إعراب الجمع المذكر السالم.

وقوله هنا: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ؛ أي: على عالمي زمانكم الذي أنتم فيه، فلا ينافي أن هذه الأمة التي هي أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، كما نصَّ الله على ذلك بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

ص: 149

لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 110]، وفي حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"أنتم تُوفون سبعين أمةً أنتم خيرها وأكرمها على الله".

ومن الآيات المبيِّنة لفضل أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على أمة موسى أنَّه قال في أمة موسى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] ، فجعل أعلى مراتبهم الأمة المقتصدة، بخلاف أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فقسَّمهم إلى ثلاث طوائف، وجعل فيهم طائفة أكمل من الطائفة المقتصدة وذلك في قوله في فاطر:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الآية [فاطر: 32] ، فجعل سابقًا بالخيرات وهو أعلى من المقتصد، وواعد الجميع بظالمهم ومقتصدهم وسابقهم بجنات عدنٍ بقوله:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} الآية [فاطر: 33] وقال بعض العلماء: حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين؛ يعني واو يدخلونها لأنه وعْدٌ من الله، صادقٌ شامل للظالم والمقتصد والسابق.

وفي الآية سؤال معروف وهو أنْ يقال: ما الحكمة من تقديم الظالم لنفسه بالوعد بجنات عدن وتأخير السابق؟

ص: 150

وللعلماء عن هذا أجوبة معروفة؛ منها: أنَّه قدَّم الظالم لئلا يقنط، وأخَّرَ السابق بالخيرات لئلا يعجب بأعماله فيحبط.

وقال بعض العلماء: أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم فبدأ بهم نظرًا لأكثريَّتهم؛ ومما يدل على أفضلية أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل أنَّ الابتلاء الذي يظهر به الفضل وعدمه إنَّما يكون بخوفٍ أو طمع، وقد ابتلى أصحابَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بخوف وابتلاهم بطمع، وابتلى بني إسرائيل بخوف وابتلاهم بطمع.

أما الخوف الذي ابتلى به الله أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فهو أنَّهم لمَّا غزوا غزاة بدر، وساحَلَ أبو سفيان بالعير واستنفر لهم النفير، وجاءهم الخبر بأنَّ العير سلمت، وأنَّ الجيش أقبل إليهم، وأخبرهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له المقداد بن عمرو رضي الله عنه: واللهِ لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا مَن دونَه معك، ولو خُضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، بل إنَّا معك مقاتلون، ولمَّا أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: كأنك تعنينا معاشر الْأَنصار؟ لأنَّهم اشترطوا عليه ليلة العقبة أنْ يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم بشرط أنْ يكون بداخل المدينة ولم يشترط عليهم خارج المدينة، فأخبره

ص: 151

النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّه يعنيهم، فقال كلامه المعروف المأثور، قال: والله إنَّا لقوم صبر في الحرب، صدق عند اللقاء، والله ما نكره أنْ تلقى بنا عدوك حتَّى ترى منا ما يُقرّ عينك، والله لقد تخلف عنك أقوامٌ لو علموا أنك تلقى كيدًا ما تخلف عنك منهم رجل.

بخلاف بني إسرائيل لما امتحنوا بخوف كهذا صدر منهم ما ذكره الله في سورة المائدة في قوله: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، وقالوا له:{قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] كذلك ابتلى بني إسرائيل بصيدِ وهو صيد السَّمك المذكور في الأعراف المشار له في البقرة: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] ، فحداهم القَرَمُ والطمع في أكل الحوت إلى أن اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردة.

وقد امتحن الله جلّ وعلا أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية بالصيد وهم محرمون فهيَّأ لهم جميع أنواع الصيد من الوحوش والطير من كبارها وصغارها، ولم يعتدِ رجل منهم ولم يصد في الإحرام كما بينه جلَّ وعلا بقوله:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] ،

ص: 152

فما مَدَّ منهم رجلٌ يده إلى صيد.

فظهر بهذا أن كلتا الأمتين امتُحنت بصيد وأنَّ هؤلاء اعتدوا على ذلك الصَّيد فمسخوا قردة وأنَّ أولئك اتَّقوا الله، كذلك امتُحنوا بخوف من عدوٍّ فصبر هؤلاء وثبتوا، وخاف هؤلاء وجبنوا فدلَّ هذا على أنَّهم أفضل منهم، وهذا مما لا خلاف فيه، وهذا مما يبين أن قوله:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أن المراد عالمو زمانهم.

وقال بعض العلماء: هو نوع من التفضيل آخر لا يعارض أشرفية هذه الأمة وأفضليتها عليهم، وهو كثرة الرسل فيهم، وأن الأنبياء أكثر فيهم منهم في غيرهم، وكثرة الأنبياء فيهم لا تجعلهم أفضل من هذه الأمة، بل هذه الأمة أفضل منهم وإنْ كانت الأنبياء فيها إنّما جاءها نبي واحدٌ صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الآية [البقرة: 48] ، معنى الاتقاء في اللغة العربية، هو أنْ تجعل بينك وبين ما يضرُّك وقاية، وأصل مادته وَقَى، دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب اقترب، وفي كسب اكتسب، وفي وقى اتَّقى.

ص: 153

والقاعدة المقرَّرة في التصريف أنَّ تاء الافتعال إذا دخلت على مادةٍ واوها فاء، وجب إبدال الواو تاءً وإدغامها في تاء الافتعال، فمعنى اتقوا: اجعلوا بينكم وبين ذلك اليوم وقايةً تقيكم مما يقع فيه من الأهوال والأوجال، والاتقاء: هو جعل الوقاية دون ما يضر، وهو معنى معروف في كلام العرب ومنه قول نابغة ذبيان:

سقطَ النصيفُ ولم تُردْ إسقاطَهُ

فتناولتْهُ واتَّقتنا باليدِ

يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية بيننا وبين رؤية وجهها، والاتقاء في اصطلاح الشرع: هو جعل الوقاية دون سخط الله وعذابه، تلك الوقاية هي امتثال أمره واجتناب نهيه جلَّ وعلا، والمراد باتقاء اليوم: اتِّقاء ما يكون فيه من الأهوال والأوجال؛ لأنَّ القرآن بلسان عربي مبين، والعرب تعبِّر بالأيام عما يقع فيها من الشدائد، ومنه:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]؛ أي: بما فيه من الشدة، وهذا معنى قوله:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] أي ومعنى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} واليوم مفعولٌ به لاتَّقوا، وقيل المفعول محذوف واليوم ظرف؛ أي: اتقوا العذاب يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئًا.

وقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الجملةُ نعت ليوم، وقد تقرَّر في العربية أنَّ الجمل تُنعت بها النكرات كما عقده في الخلاصة بقوله:

ص: 154

ونعَتُوا بجملةٍ منكَّرا

فأُعطِيتْ ما أُعطيتْهُ خبَرا

ولطالب العلم أنْ يقول: أين الرَّابط الذي يربط بين الجملة التي هي وصف وبين المنعوت؟ الجواب: أنَّه اختلف في تقديره على قولين:

أحدهما: أنَّ العائد {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} أي: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا، فالعائد هو المجرور المحذوف هو وحرف الجر.

وقال بعض العلماء: حذف حرف الجرّ فوصل العامل إلى الضمير بعد حذف حرف الجرّ المحذوف، وعليه فالتقدير: واتقوا يومًا لا تجزيه نفسٌ عن نفس شيئًا بحذف الفاء، وعلى كلِّ حال فحذف الضمير الرابط للجملة التي هي وصف للنكرة الموصوفة موجودٌ في كلام العرب، ومن أمثلته في كلام العرب

قول الشَّاعر:

وما أدري أغيَّرَهُم تناءٍ

وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا

فجملة "أصابوا" نعت للنكرة التي هي مال والعائد محذوف، وتقرير المعنى: أم مال أصابوه، وقوله:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ؛ أي: لا تقضي عنها حقًا وجب عليها، ولا تدفع عنها

ص: 155

عذابًا حَقَّ عليها، أما تفسير من فَسَّر تجزي: بتغني، فهو إنَّما يتمشَّى على قراءة من قرأ "تُجْزي" بصيغة الرباعي؛ لأنها هي التي تأتي بمعنى الإغناء، وتقرير المعنى: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا، أي لا تقضي نفسٌ عن نفس حقًا وجب عليها، ولا تدفع عنها عذابًا حق عليها.

والرَّابط المحذوف محذوفٌ من الجمل المعطوفة على الجملة النَّعتية، وتقرير المعنى: لا تجزي فيه نفسٌ عن نفس شيئًا، ولا يُقبل فيه شفاعة ولا يؤخذ فيه عدل ولا هم ينصرون فيه، فالرابط محذوف من الجمل المعطوفة على الجملة التي هي وصف، وتقرير المعنى: واتقوا يومًا لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئًا، أي لا تقضي نفس عن نفس شيئًا؛ أي: حقًا وجب عليها ولا تدفع عنها عذابًا حقَّ عليها، وعلى هذا التقرير (فشيئًا) مفعولٌ به لتجزي، وقال بعض العلماء:(شيئًا) في محل المصدر أي لا تجزي عنها شيئًا أي جزاءً قليلًا ولا كثيرًا.

وقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} فيه قراءتان سبعيتان.

قرأهُ أكثر السبعة: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} والتذكير في قوله {يُقْبَلُ} لأمرين؛ أحدهما: أن تأنيث الشفاعة تأنيثٌ غيرُ

ص: 156

حقيقي، الثَّاني: الفصل الذي فَصَلَ بين الفعل وفاعله، والفصلُ يُبيح ترك التاء كما عقده في الخلاصة بقوله:

وقد يبيحُ الفصلُ تركَ التَّاءِ في

نحوِ أتى القاضيَ بنتُ الواقفِ

والشَّفاعة في الاصطلاح: هي التوسط للغير لجلب مصلحة أو دفع مضرة. وأصلها من الشَّفع الذي هو ضدُّ الوتر؛ لأن صاحب الحاجة كان فردًا في حاجته فلما جاءَهُ الشفيع صارا شفعًا؛ أي اثنان: صاحب الحاجة، ومن يتوسط له فيها. هذا هو أصل معنى الشَّفاعة، والشَّفاعة في الدُّنيا إذا كانت في حق واجب فللشافع أجرٌ، وإذا كانت في حرام فعليه وِزْرٌ كما صَرَّحَ تعالى بذلك في قوله:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85].

وقال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تُؤجروا ويقضي اللهُ على لسانِ نبيِّهِ ما شاء".

وقد دلَّ الكتاب والسُّنَّةُ أن نفيَ الشَّفاعَةِ المذكور هنا ليس على عمومه وأن في الشَّفاعة تفصيلًا: منها ما هو ثابت شرعًا ومنها ما هو منفي شرعًا.

أمَّ المنفي شرعًا الذي أجمعَ عليه المسلمون فهو الشفاعة للكفار. وأن الكفارَ لا تنفعهم شفاعة البتة، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ

ص: 157

الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقال عنهم:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء: 100]، وقال جلَّ وعلا:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، مع أنَّه قال في الكافر:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] ، فالشَّفاعة للكفار ممنوعة شرعًا بإجماع المسملين، ولم يقع في هذا استثناء البتة إلَّا شفاعة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب؛ فإنَّها نفعته بأنْ نُقل بسببها من محلِّ من النَّار إلى محل أسهل منه، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لعلهُ تنفعُهُ شفاعتي فيُجعل في ضَحْضَاحٍ من النَّارِ، يبلغُ كعبيه، له نعلانِ يغلي منهما دماغُهُ".

أمَّا غير هذا من الشفاعة للكفار فهو ممنوعٌ إجماعًا، وإنما نفعت شفاعة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عمَّه أَبا طالب في النَّقل من محلِّ من النَّارِ إلى محل آخر، والشفاعة المنفية الأخرى هي الشَّفاعة بدون إذن ربِّ السماوات والأرض فهذه ممنوعة بتاتًا بإجماع المسلمين، وبدلالة القرآن العظيم كقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

وادِّعاء هذه الشفاعة شركٌ بالله وكُفْر به، كما قال جَلَّ وعلا:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ،

ص: 158

ووجه كون هذه الشفاعة من أنواع الشِّرك -وللهِ المثل الأعلى-: أن ملوك الدنيا قد يتمكنون من مجرم يتقطعون عليه غيظًا، ويريدون أن يُقَطعوه عضوًا عضوًا، فيأتي بعض أهل الجاه والشرف فيشفع عندهم له فيضطرون إلى قبول شفاعته؛ لأنهم لو رَدُّوا شفاعته لصار عدوًا لهم، وترقَّبوهم بعض النوائب، فيضطرون إلى أنْ يشفعوهُ وهم كارهون خوفًا من سوئه، ورب السماوات والأرض لا يخاف أحدًا، ولا يمكن أنْ يضره أحدٌ، ولا يمكن أنْ يتجاسر أحدٌ عليه بمثل هذا وله المثل الأعلى، ولذا قال جلَّ وعلا:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

أما الشَّفاعة للمؤمنين بإذن ربِّ السماوات والأرض فجائزةٌ شرعًا وواقعة، كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة كما في قوله:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله جلَّ وعلا:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث، والشفاعةُ الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي إيضاحه في سورة بني إسرائيل في قوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، وقد يشفع الله مَنْ شاء مِنْ خلقه من الأنبياء والمرسلين والصَّالحين، وقد تكون الشَّفاعة بإخراج من دخل النَّار، وقد تكون الشفاعة بأنْ يشفع لمن عليه ذنوب

ص: 159

فيُنقذ من النَّار، وقد تكون لرفع الدرجات، والشفاعة الكبرى في فصل القضاء بين الخلق، فمعنى قوله إذًا:{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذا إذا كانت كافرة على الإطلاق ولو كانت مؤمنة لا تقبل الشفاعة إلَّا بإذن ربِّ السماوات والأرض.

وقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} العدل: الفداء، وإنَّما سمي الفداء عدلًا لأنَّ فداء الشيء كأنَّه قيمة معادلة له ومماثلة له تكون عوضًا وبدلًا منه، قال بعض علماء العربية: ما يعادل الشيء ويُماثله إنْ كان من جنسه قيل له: عِدل بكسر العين، ومنه عدلا البعير أي عكماه لأنَّهما متماثلان، أما إن يماثله ويساويه وليس من جنسه قيل فيه عَدل بفتح العين، ولذا سمي الفداء عدلًا لأنه شيءٌ مُماثلٌ للمفدي ليس من جنسه، ومن هذا المعنى قوله جلَّ وعلا:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، لأن ما يعادل الإطعام من الصِّيام ليس من جنسه، فإذا كان من جنسه قيل فيه عِدْلٌ، وهو معروف في كلام العرب وقد كَرَّره مهَلْهِلُ بنُ ربيعة في قصيدته المشهورة في قوله:

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ

إذا طُردَ اليتيمُ عن الجزورِ

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ

إذا ما ضيمَ جيرانُ المجيرِ

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ

غداةَ بلابلِ الأمرِ الكبيرِ

ص: 160

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ

إذا برزتْ مخبَّأةُ الخدورِ

على أنْ ليس عِدْلًا من كليبٍ

إذا اضطربَ العضاهُ من الدَّبورِ

يعني أنَّ القتلى التي قتلها بكليب من بني بكر بن وائل لا تماثله في الشَّرع ولا تساويه، وإنَّما كَسَرَ العين لأنهم من جنس واحد، وهذا معنى قوله:{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48]، أصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، ومعنى "ولا هم ينصرون"؛ أي: ليس لهم معين يدفع عنهم عذاب الله، وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف وهو أنْ يقول طالب العلم: أفرد الضمير في لا يؤخذ منها، لا يقبل منها، أفرده مؤنثًا وجَمَعَهُ مذكرًا في قوله {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} مع أن مرجع هذه الضمائر واحد.

والجواب ظاهر لأن قوله {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} نكرةٌ في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تعمّ، وعمومها يجعلها شاملة لكثير من أفراد النفوس، فأنَّثَ الضمير وأفرده في قوله {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} نظرًا إلى لفظ النفس، وجَمَعَ الضمير المذكر في قوله {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} نظرًا إلى النكرة في سياق النفي، وأنها شاملة لكثير من الأنفس، وهذا معنى قوله:{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} .

ص: 161

وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49]؛ أي: واذكروا إذ نَجَّيناكم من آل فرعون، يعني من فرعون وقومه القبط، لأنهم كانوا يهينون بني إسرائيل، قال بعض العلماء: أصل الآل: أهل؛ بدليل تصغيره على أُهَيل، وبعضهم صغره على أُوَّيْل، ولا يطلق الآل على الأهل إلَّا إذا كان مضافًا لمن له شرف وقدر، فلا تقول آل الحجام ولا آل الإسكاف.

وفرعون ملكُ مصر المعروف، وهو يطلق على مَنْ ملك مصر، وقال بعضهم: كلُّ من ملك العمالقة يقال له فرعون، واختُلف في لفظ فرعون هل هو عربي أو عجمي، قيل: هو اسم عجمي مُنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقال بعض العلماء هو عربي من تفرعن الرَّجل إذا كان ذا مَكْرٍ ودهاء، والأول أظهر، وعلى أنَّه عربي فوزنه فِعْلول بلامَين، لا فعلون بالنُّون.

وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] تقول العرب: سامه خسفًا إذا أولاه ظلمًا وأذاقه عذابًا، ومن هذا المعنى قول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا ما الملْكُ سامَ النَّاسَ خسْفًا

أبَينا أنْ نُقرَّ الذلَّ فينا

ص: 162

وقوله: {سُوءَ الْعَذَابِ} ؛ أي: يذيقونكم ويولونكم سوء العذاب؛ أي: أصعب العذاب، وأشده، وأفظعه؛ لأنَّهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب شاقةٍ ذكر الله بعضًا منها هنا حيث قال:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} فالفعل المضارع الذي هو يذبِّحون بدلٌ من المضارع الذي قبله، الذي هو يسومونكم على حدِّ قوله في الخلاصة:

ويُبدلُ الفعلُ من الفعلِ كمنْ

يصلْ إلينا يستعِنْ بنا يُعَنْ

وإنَّما عبَّر بالتشديد في قراءة الجمهور في قوله: {يُذَبِّحُونَ} دلالة على الكثرة؛ لأنَّهم ذبحوا كثيرًا من أبنائهم، يذبحون أبناءكم؛ أي: الذكور، ويستحيون نساءكم؛ أي: بناتكم الإناث يُبقوهن حَيَّاتِ، والنساء على التحقيق: اسمُ جمع لا واحدَ له من لفظه، واحدته امرأة، وفي هذه الآية سؤالٌ معروف؛ لأنَّ الله لما ذكر أنَّهم ساموهم سوء العذاب فسَّر قوله:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بالبدل بعده، وبَيَّنَ أن من ذلك العذاب العظيم السيء تذبيح الأبناء، واستحياء البنات.

وفي هذا سؤالٌ، وهو أنْ يُقال: تذبيح الأبناء ظاهر أنَّه من ذلك العذاب الذي يسومونهم، أما استحياء البنات وهو قوله:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ، فأين وجهُ كون هذا من سوء العذاب، مع أنَّ إبقاء البعض

ص: 163

قد يظهر للناظر أنَّه أحسن من تذبيح الكل، كما قال الهذلي:

حمدتُ إلاهي بعد عروةَ إذ نجا

خراشٌ وبعُض الشرِّ أهونُ من بعضِ

والجواب عن هذا: أنَّ استحياءهم للنساء استحياء هو من جملة العذاب؛ لأنهم يستحيونهن ليُعملوهنَّ في الأعمال الشاقة، وليفعلوا بهن ما لا يليق من العار والشَّنار، وبقاء البنت وهي عورة تحت يدِ عدوٍّ لا يشفق عليها، يفعل بها ما لا يليق، ويكلِّفها ما لا تطيق، هو من سوء العذاب بلا شك. وقد قال جلَّ وعلا:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] ، والعرب كانوا ربما قتلوا بناتهم خوفًا وشفقة عليهن مما يلاقينه؛ مما لا يليق بعد موت الآباء، وهو كثير في شعرهم، وقد قال رجلٌ منهم في ابنة له تسمى مودَّة:

مودةُ تهوى عمرَ شيخٍ يسرُّهُ

لها الموتُ قبلَ الليلِ لو أنَّها تدري

يخافُ عليها جفوةَ الناسِ بعدَهُ

ولا ختنٌ يُرجى أودُّ من القبرِ

ولما خطبت عند عقيل بن علَّفة المري ابنته الجرباء أنشد:

إنِّي وإنْ سِيقَ إليَّ المهرُ

عبدٌ وألفان وذودٌ عشْرُ

أحبُّ أصهاري إليَّ القبرُ

ص: 164

وقد قال الشَّاعر:

تهوى حياتي وأهوى موتَها شَفَقًا

والموتُ أكرمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ

وهذا هو وجه كون استحياء النساء من ذلك العذاب الذي يسومونهم.

وقوله جلَّ وعلا: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في الإشارة بقوله ذلكم وجهان لا يكذب أحدهما الآخر، مبنيان على المراد بالبلاء؛ لأن البلاء في لغة العرب الاختبار، والاختبار قد يقع بالخير وقد يقع بالشر كما قال جلَّ وعلا:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال جلَّ وعلا:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] ، والله ذكر في الآية الماضية أنَّه ابتلى بني إسرائيل بخيرٍ وشرٍّ، أما الشر الذي ابتلاهم به فهو ما كان يسومهم فرعون من سوء العذاب، وأما الخير الذي ابتلاهم به فهو إنجاؤه إياهم من ذلك العذاب، قال بعض العلماء:{وَفِي ذَلِكُمْ} أي: في ذلكم العذاب الذي كان يسومكم فرعون بلاءٌ بالشر من ربكم عظيم، وقال بعض العلماء: في ذلك الإنجاء الذي أنجاكم الله به من عذاب فرعون بلاءٌ بالخير من ربكم عظيم، وكلما كان الشر أكبر كان الإنقاذ منه مماثلًا له في الكبر.

ص: 165

ولا شك أنَّ العرب تطلق البلاء على الاختبار بالشَّر والاختبار بالخير، خلافًا لمن منعه في الاختبار بالخير وهو معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في الخير قول زهير:

جزى اللهُ بالإحسانِ ما فَعَلا بكمْ

وأبلاهما خيرَ البلاءِ الذي يَبْلو

وهذا معنى قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} .

وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]؛ أي: واذكروا إذ فرقنا بكم البحر؛ أي: فلقناه بدليل قوله: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، وأصل الفرق: الفصل بين أجزاء الشيء، فمعنى فرقنا بكم البحر؛ أي: فصلنا بين بعضه وبعض حتَّى كان بينه مسالك تسلكون فيها، ومن هذا المعنى قوله:{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]؛ أي: افصل بيننا وبينهم: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات: 4] ، على القول بأنَّها الملائكة تنزل بالوحي الذي يفصل بين الحق والباطل، وهذا معنى قوله:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} ؛ أي: فصلنا بين أجزائه عن بعض حتَّى كانت بينه مسالك تسلكون فيها في طرق يابسة كما قال جلَّ وعلا: {طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77].

ص: 166

والباء في قوله: {بِكُمُ} فيها لعلماء التفسير أوجهٌ: أظهرها أنَّها سببية، والمعنى: فصلنا بعض أجزاء البحر عن بعض بسبب دخولكم فيه ليمكنكم المرور سالكين بين أجزائه كما قال تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، وقال بعض العلماء: والباء بمعنى اللام فمعنى فرقنا بكم؛ أي: فرقنا لكم، وهو عائدٌ إلى معنى الأول؛ لأن اللام للتعليل والباء للسبب، والمعنى متقارب، وقال بعض العلماء: الجار والمجرور في محلِّ حال؛ أي: فرقنا البحر في حال كونه متلبسًا بكم، وقال بعض العلماء: فرقنا بكم البحر؛ أي: جعلناكم كأنكم حاجز بعضه وبعض، كما تقول فصلت بين أجزاء الشيء بكذا.

والبحرُ معروف، قال بعض العلماء: اشتقاقه من الشَّق؛ لأنَّه شقٌّ في الأرض كبير، ومنه البَحيرة لأنها مشقوقة الأذن، وقال بعضٌ: هو من البحر بمعنى الاتساع.

وقوله: {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} ؛ أي: أنجيناكم من فرعون، وما كان يسومكم من العذاب، والأصل الإنجاء والتنجية، أصل اشتقاقه من النجوة، وهي المرتفع من الأرض. فكأن الإنسان إذا سَلِمَ من هلاكٍ ونجا من أمر خطر ارتفع عن نجوة الهلاك إلى نجوة السلام، وهذا معنى قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا

ص: 167

آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} والهمزة في أغرقنا للتعدية، وأصل الفعل الثلاثي قبل أنْ تدخل عليه همزة التعدية غَرِقَ يَغْرقُ غَرَقًا ومنه قول ذي الرُّمة:

وإنسانُ عيني يحسرُ الماءَ تارةً

فيبدو وتاراتٍ يجمُّ فيغرَقُ

والعرب تعدِّيه بالهمزة والتضعيف. فتقول: أغرقه اللهُ وغرَّقه. إذا جعله يغرق، ومن هذا المعنى قول الشَّاعر:

. . . . . .

ألا ليتَ قيسًا غرَّقتْها القوابلُ

فالهمزة في أغرقنا همزة التعدية، والمعروف أن همزة التعدية لو دخلت على فعل لازم أكسبته مفعولًا، وإذا دخلت على فعلٍ متعدٍّ لمفعول أكسبته مفعولين، وإذا دخلت على فعلٍ متعدٍّ لمفعولين أكسبته ثالثًا كما قال في الخلاصة:

إلى ثلاثةٍ رأى وعَلِما

عدَّوا إذا صارا أرى وأعلما

وآل فرعون قدّمنا معناه.

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملةٌ حاليَّةٌ ظاهرةٌ أنَّه نظرٌ بالأبصار؛ لأن الله أراهم ما أحلَّ بفرعون وقومه من الغرق في البحر، وهو البحر الأحمر ليكون ذلك أقرَّ لأعينهم، وهذا لأن هلاك العدو وعدوُّهُ ينظر إليه أقر لعينه، وهذا معنى قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ

ص: 168

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.

وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]"إذ" منصوبٌ بـ "اذكر" مقدرًا على أحد الأقوال، وهو معطوف على المذكورات قبله، وقرأ هذا الحرف جميع القراء ما عدا البَصْرِيّ أَبا عمرو:{وَاعَدْنَا} بصيغة المفاعلة، وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة:{وَإِذْ وَعَدْنَا} ثلاثيًا مجرَّدًا من الوعد، أما على قراءة أبي عمرو فلا إشكال، فصيغة الجمع للتعظيم، والله وعد نبيَّهُ موسى أنْ ينزل كتابًا فيه الحلال والحرام، وكل ما يحتاجون إليه بعد أربعين ليلة.

أما على قراءة الجمهور: {وَإِذْ وَاعَدْنَا} بصيغة المفاعلة فإن المقرَّر في فنِّ التصريف أنَّ المفاعلة تقتضي الطرفين، أعني اشتراك الفعل بين فاعلين، ولذا استشكل بعض العلماء التعبير بالمواعدة هنا، قال: إن الله يعدُ وحده ولا يعدُهُ غيره.

والجواب عن هذا: أنَّ المفاعلة باعتبار أنَّ الله وعد موسى بوحي يدوِّن له فيه الأمور، وموسى وعد ربه بالإتيان للميقات المعين لتلقي الوحي، ومن هنا صارت المفاعلة معقولة.

وقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال بعض العلماء: هو على حذف مضاف؛ أي: تمام أربعين ليلة، وقد بيَّن تعالى في سورة الأعراف أنَّ الوعد بهذه

ص: 169

الأربعين: كان مفرَّقًا، بأنْ وعد ثلاثين أولًا ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].

قال بعض العلماء: هذه الأربعين ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، واليوم الذي أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه بني إسرائيل هو يوم عاشوراء، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم:"نحن أولى بموسى منهم، فكان يصومه حتَّى نزل صيام رمضان".

وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا كانوا يصومون يوم عاشوراء في الجاهلية، وأنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان يصومه، ولا تعارض بين الأحاديث؛ لأنه لا مانع من أنْ يكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان يصومه لأن قريشًا في الجاهلية كانوا يصومونه، ولما جاء وجد اليهود يصومونه تمادى على صومه، ولا مانع من كون الواحد أو النصِّ الواحد له سببان فأكثر، وعلى كل حال فصوم يوم عاشوراء وجوبه منسوخ بإجماع العلماء.

ص: 170

وقوله جلَّ وعلا {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} عَبَّر بالليالي لأنها قبل الأيام، والمقرَّر في فنِّ العربية أن التاريخ بالليالي لأنَّها قبل الأيام، فلما انتهى هذا الميعاد أنزل عليه التوراة، وكتبها له في الألواح كما يأتي تفصيله في سورة الأعراف.

وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} قرأه بعض السبعة: {ثُمَّ تخَذْتم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} ، وقرأه بعضهم:{ثُمَّ اتخذتُّم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} بالإدغام، وأصل الاتخاذ على التحقيق -عند علماء العربية- افتعالٌ من الأخذ أصله ائتخاذ، وإبدال الهمزة تاءً يحفظ ولا يُقاس عليه، وإنَّما المقيس إبدال فاء المثال أعني واويَّ الفاء، أو يائيَّ الفاء كالاتّجاه، والاتّسار، إبدال الواو فيه تاء. أمّا إبدال الهمزة تاءً فهو شاذٌ يحفظ ولا يقاس عليه، كاتَّكل، واتَّزر، واتَّخذ، بناء على الصحيح بأنَّها افتعل من الأخذ.

وأصل العجل ولد البقرة، ويجمع على عجاجيل على غير قياس كما عقد مثله في الخلاصة بقوله:

وحائدٌ عن القياسِ كلُّ ما

خالفَ في البابينِ حكمًا رُسما

وهذا العجل هو العجل الذي صاغه لهم السامري من حلي القبط المذكور في قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا

ص: 171

لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]، وبيَّنه في سورة طه بقوله:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] ، وحَذَف مفعول الاتخاذ الثاني، وهو محذوفٌ في جميع القرآن وتقرير المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده؛ أي: من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات، أي: اتخذتم العجل إلهًا.

وهذا المفعول الثاني محذوفٌ في جميع القرآن: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} ؛ أي: إلهًا، و {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا}؛ أي: إلهًا، وهذا المفعول الثاني الذي تقديره إلهًا محذوفٌ في جميع القرآن؛ قال بعض العلماء: النكتة في حذفه التَّنبيه بأنه لا ينبغي لعاقل أنْ يتلفظ بأن عجلًا مصطنعًا من حلي أنَّه إله.

وقوله: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} جملة حالية؛ يعني اتخذتم العجل، والحال أنكم ظالمون باتخاذكم العجل إلهًا، وأصل الظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير محله، فكل مَنْ وضع شيئًا في غير محله فقد ظلم في لغة العرب، وأكبر أنواع الظلم -أيْ وضع الشيء في غيرِ محلِّه- وضعُ العبادة في غير محلها، فمَنْ عَبَدَ غير خالق السماوات والأرض فقد وضع العبادة في غير موضعها، ولذا هو ظالم في اللغة.

ص: 172

ولأجل هذا البيان فإن القرآن يُكثِرُ اللهُ جلَّ وعلا فيه إطلاق الظلم على الشِّرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وقد ثبت في صحيح البُخَارِي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّه فَسَّر قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]؛ أي: بشرك.

وقالَ جلَّ وعلا عن العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، هذا معنى الظلم في لغة العرب، ومنه قيل لمن يضرب لبنه قبل أنْ يروب: ظالم؛ لأنه وَضَعَ الضَّرب في غير موضعه؛ لأن ضربه قبل أنْ يروب يضيِّع زبده، وفي لغز الحريري:

هل تجوز شهادة الظالم، قال: نعم، إن كان عالمًا. يعني بالظالم الذي يضرب لبنه قبل أنْ يروب، ومن هذا المعنى قول الشَّاعر:

وصاحب صدقٍ لم تربني شكاته

ظلمتُ وفي ظَلْمي لهُ عامدًا أجرُ

يعني بصاحب الصدق الذي لم تربه شكاته: سقاءٌ له ضربه قبل أنْ يروب. ومن هذا المعنى قول الشَّاعر:

وقائلة ظلمتُ لكم سقائي

وهل يخفى على العَكِدِ الظليمُ

ص: 173

فقولها: ظلمت لكم سقائي أي: سقيتكموه قبل أن يروب، ولأجل هذا قيل في الأرض التي حفر فيها ولم تحفر من قبل: مظلومة؛ لأنَّ الحفر وقع في غير موضعه، ومن هذا المعنى على التحقيق قول نابغة ذبيان:

إلَّا ألأواريَّ لأْيًا ما أبيِّنها

والنؤيُ كالحوضِ في المظلومةِ الجَلَدِ

خلافًا لمن زعم: أن المظلومة: التي أبطأ عنها المطر، ومن هنا قيل للقبر: الظليم؛ لأنه حفر في محل لم يحفر من قبل، ومن ذلك وهو بهذا المعنى قول الشَّاعر:

فأصبحَ في غبراءَ بعد إشاحةٍ

على العيشِ مردودٍ عليها ظليمُها

هذا أصل معنى الظلم في لغة العرب وشواهده العربية، وهو يطلق في القرآن إطلاقين:

يُطلَق بمعناه الأعظم، وهو وضع العبادةَ في غير مَنْ خَلَق، وهذا أكبر أنواع الظلم، ومنه بهذا المعنى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] ، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وقد يُطلَق الظلم في القرآن أيضًا على ظلم الإنسان نفسه ببعض

ص: 174

المعاصي التي لا تبلغ به الكفر، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [فاطر: 32]،بدليل قوله في الجميع:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية [فاطر: 33]؛ لأن هذا أطاع الشيطان وعصى ربه؛ فقد وضع الطاعة في غير موضعها كما قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [لكهف: 50].

وقوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} عفونا أصله من العفو من عفت الريح الأثر إذا طمسته، فالعفو هو: طمس الله أثر الذنب بتجاوزه حتَّى لا يبقى له أثر يتضرر به العبد، والإشارة في قوله {ذَلِكَ} إلى اتخاذهم العجل إلهًا، وهو ذلك الذنب العظيم، وأشار إليه إشارةَ البعيد؛ لأن مثل ذلك الفعل يجب أنْ يتباعد منه تباعدًا كليًا.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال بعض العلماء: يغلب إتيان "لعلَّ" في القرآن مُشمَّةَ معنى التعليل إلَّا التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]، وإتيان "لعل" حرف تعليل مسموعٌ في كلام العرب، ومن إتيان لعلَّ للتعليل قول الشَّاعر:

ص: 175

فقلتُمْ لنا كفُّوا الحروبَ لعلَّنا

نكفُّ ووثَّقتُمْ لنا كلَّ موثَقِ

فلمّا كفَفْنا الحربَ كانت عهوُدكُمْ

كشِبْهِ سراب بالملا متألِّقِ

فهذه ليست للتَّرجي بتاتًا؛ لأنه قال: ووثقتم لنا كلَّ موثق، وقوله:"ووثقتم لنا كل موثق" دلَّ على أنَ المراد: فقلتم لنا كفوا الحروب من أَجل أنْ نكف، ووثقتم لنا كل موثق في وعدكم بالكف المعلل بكفنا، هذا هو التحقيق.

وقال بعض العلماء المراد بلعلَّ: اجعلوا ما أمرناكم به من الترجي إنْ وقع ما بعد لعل، وتقريره في هذا المعنى: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك، وذلك العفو الذي عفونا عنكم يُرجى من مثلكم فيه أنْ تشكروا ذلك العفو، فتكون للترجي على بابها، والأول لا ينافي الثاني لأنَّا إن قلنا: إنَّها للتعليل، فالمعلّل مرجو الحصول عند وجود علته.

وأصل الشكر في لغة العرب: الظهور، ومنه الشكير وهو العُسْلوج الذي يظهر في جذع الجرة التي قطعت إذا أصابها الماء، فظهر فيها عسلوجٌ يسمَى شكيرًا لأنه ظهر بعد أنْ لم يكن، ومنه ناقةٌ شكور يظهر عليها أثر السمن، والشكر يطلق في القرآن من الله لعبده، ومن العبد لربه، ومن إطلاق شكر الربِّ

ص: 176

لعبده قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ومعنى شكر الرب لعبده هو: إثابته له الثواب الجزيل على عمله القليل.

ويطلق الشُّكر من العبد كما في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى شكر العبد لربه هو أنْ يستعمل نعمه في طاعاته، فهذه الباصرة التي أنعم عليه بها؛ شكرها أنْ لا ينظر بها إلَّا ما يُرضي الله، وهذه اليد الباطشة التي أنعم عليه بها؛ شكرها أنْ لا يبطش إلَّا فيما يرضي الله، وهذا اللسان الذي أعطي له ويفصح عمَّا في ضميره؛ شكره أنْ لا ينطق به إلَّا فيما يرضي، وهكذا في سائر النعم البدنية، والمالية إلى غير ذلك، وهذا معنى قوله:{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} "إذْ" معطوف على ما قبله، والأكثر على أنَّه منصوبٌ (باذكر) مقدرةً، وقد بينا مرارًا أن الدليل على عمل هذا العامل -الذي هو اذكر- أنَّه مفهومٌ باستقراء القرآن؛ لكثرة إعمال (اذكر) فيه نحو:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21]، و {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 26] ، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وهكذا.

ص: 177

وآتينا معناه أعطينا، والألف فيه مبدلةٌ من همزة فاء الفعل فوزنه أفعلنا، وأصله أَأْتينا، فأبدلت همزة فاءِ الفعل مدًّا مجانسًا لحركة فاء أفعل، على القاعدة التصريفية المجمع عليها المشهورة التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله:

ومدًّا ابدلْ ثانيَ الهمزين منْ

كلْمةٍ انْ يسكنْ كآثِرْ وائتمنْ

وصيغة الجمع للتعظيم، ومعنى آتينا: أعطينا، وهي تطلب مفعولين، والمفعول الأول لآتينا موسى هو موسى، والثاني الكتاب، وهذه من باب كسا، ومعلومٌ عند علماء العربية أن الفرق الواضح بين باب ظن وباب كسا -مع أنَّ كلًّا منهما تنصب مفعولين- هو أنْ تحذف الفعل من كلا البابين، ثم تجعل المفعولين مبتدأ وخبرًا فإنْ صدقت القضية فهي من باب ظن وإنْ كذبت فهي من باب كسا، وهذا ضابطٌ مطردٌ مفيدٌ لطالبِ العلم، فلو قلت مثلًا ظننت زيدًا قائمًا، وجعلت المفعولين مبتدأً وخبرًا فقلت: زيدٌ قائمٌ كان كلامًا مستقيمًا، هذا من باب ظن بخلاف: كسوتُ زيدًا ثوبًا، وسقيتُ عمروًا ماءً، {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} لو حذفت الفعل منها، وقلت: زيدٌ ثوبٌ، وعمرو ماءٌ، وموسى الكتابُ فهذه القضيةٌ كاذبة، فدل على أنها من باب كسا، والمراد بالكتاب التوراة بإجماع العلماء، والتحقيق أن المراد بالفرقان هو التوراة أَيضًا.

ص: 178

وقد تقرَّر في فنّ العربية أنَّ الشيءَ الواحد إذا وُصِفَ بصفاتٍ مختلفة يجوز عطفه على نفسه نظرًا لاختلافِ صفاته، وتنزيلا لتغاير الصفات منزلةَ تغاير الذوات، ومن أمثلته في القرآن قوله جل وعلا:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [لأعلى: 1 - 4] فالمتعاطفات بالواو مدلولها واحدٌ إلَّا أنها عطفت بحسب تغاير الصفات، ونظيرها من كلام العرب قول الشَّاعر:

إلى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ

ولَيثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ

فعطف هذه الصفات بعضها على بعض مع أنَّ الموصوف بها واحدٌ نظرًا إلى تغاير الصفات، والدليل على أن الفرقان كتاب موسى، وأنَّ من زعم: أن المعنى آتينا موسى الكتاب، ومحمدًا الفرقان أنَّه قولٌ باطلٌ؛ بدليل قوله جل وعلا في الأنبياء:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48].

وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ؛ أي: لأجل أنْ تهتدوا كما بينا، أو على أنَّ إنزال هذا الكتاب يرجى منه أنْ تهتدوا، ومنه مظنة لذلك، ومحل الرَّجاء في هداكم بهذا الكتاب، وتهتدون معناه: تسلكون طريق الهدى من طاعة الله جل وعلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ

ص: 179

بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}؛ أي: واذكروا حين قال موسى لقومه بني إسرائيل: يَا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، أصله يا قومي منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت ياء المتكلم اكتفاء عنها بالكسرة، وفي المنادى المضاف إلى ياء المتكلم إنْ كان صحيحَ الآخر خمسُ لغاتٍ كلها صحيحة أكثرها حذف ياء المتكلم كما في هذه الآية، وتلك اللغات عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله:

واجعل منادىً صحَّ إنْ يُضَف ليا

كعبدِ عبدي عبْدَ عبدًا عَبْديا

أصله: يَا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، قدمنا معنى الظلم بشواهده العربية ومعناه في القرآن، وقد جاء في القرآن في موضع واحد مرادًا به النقص في قوله:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا.

وهذه الآية تدل على أنَّ من خالف أمر الله إنه إنَّما ظلم بذلك نفسه حيث عَرَّضها لسخط الله وعذابه، فضرر فعله عائدٌ إليه وحده، وذلك أكبر باعث على الانزجار والكف، لأنّ الإنسان لا يحب أنْ يضرَّ نفسه، ولا أنْ يجني عليها فإذا عرف الإنسان أنَّ ضرر فعله إنما هو عائد إليه حاسب.

ص: 180

والباءُ في قوله: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} سببيةٌ يعني: أن اتخاذَهم العجل هو السبب الذي ظلموا به أنفسهم، وقد قدمنا أنَّ الاتِّخاذَ مصدر اتَّخذ، وأنَّ الظاهر أنَّ أصله افتعال من الأخذ، إلَّا أنَّ الهمزة التي هي في محل فائه أبدلت تاءً وأُدغمتْ في تاء الافتعال، وهذا يُحفظ ولا يقاس عليه كما عقده في الخلاصة بقوله:

ذو اللينِ فا تا في افتعالِ أبدلا

وشذَّ في ذي الهمزِ نحوُ ائتكلا

واتخاذكم مصدرٌ من فعل يطلب مفعولين، والمصدر هنا مضاف إلى فاعله، والمفعول الأول: العجل، والمفعول الثاني محذوفٌ دائمًا في القرآن، وتقرير المعنى: في اتخاذكم العجل إلهًا محذوفٌ في جميع القرآن، وأن بعض العلماء قال: النكتة في حذفه دائمًا هي التّنبيه على أنَّه لا ينبغي أن يتلفظ بأنَّ عجلًا مصطنعًا من حَلْي إلهٌ.

وقوله جلَّ وعلا: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} الفاء سببيَّة، وقد تقرَّر في فن الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف التعليل، وأنَّ ما قبلها علةٌ لما بعدها، فقوله سها فسجد؛ أي لعلَّة سهوه، وسرق فقطعت يده؛ أي: لعلة سرقته، وظلمتم أنفسكم فتوبوا؛ أي: لعلة ظلمكم {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} قد قدمنا معنى التوبة واشتقاقها عند أول هذه السورة الكريمة.

ص: 181

وقوله: {إِلَى بَارِئِكُمْ} ؛ أي: خالقكم ومخرجكم من العدم إلى الوجود، وقد ذكر جلَّ وعلا أن الخالق البارئ من صفاته، كما قال في أخريات الحشر:{الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24] والخالق اسم فاعل الخلق، والخلق في اللغة: التقدير، والبارئ: هو الذي يفري ما خلق، فمعنى خلَق: قَدَّرَ، ومعنى برأ: أنفذ ما قدَّر، وأبرزه من العدم إلى الوجود، والعرب تسمِّي التقدير خلقًا ومنه قولُ زهير بن أبي سُلمى:

ولأنتَ تفري ما خلقتَ وبَعْـ

ـضُ القومِ يخلقُ ثمَّ لا يفري

وكثيرًا ما يطلق الخلق على الإبراز من العدم إلى الوجود، وعلى كل حال فمعنى البارئ: المبدع الذي يبرأ الأشياء أي يبرزها من العدم إلى الوجود، وفي الآية سرٌّ لطيف وهو أنَّ مَنْ أبرز من العدم إلى الوجود هو الذي يستحق أنْ يُعبَد، وأن يتابَ إليه من الأمور؛ لأن عنوان استحقاق العبادة إنَّما هو الخلق فمن يخلق ويُبرز من العدم إلى الوجود هو المعبود الذي يعبد وحده، ويُتنصَّل إليه من الذنوب، ومَنْ لا يخلق فهو مربوبٌ محتاجٌ إلى خالق يخلقه.

ولذا كثر في القرآن الإشارة إلى أن ضابط من يستحق العبادة هو الخالق الذي يبرز من العدم إلى الوجود كما تقدم في قوله: {يَاأَيُّهَا

ص: 182

النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]، وكما في قوله {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]، وخالق كل شيء هو المعبود وحده، وكقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17]، الجواب: لا، وهذا معنى قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} ، وقرأ هذا الحرف جمهور القُرّاء:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} وعن أبي عمرو فيه روايتان، عنه قراءة:(إلى بارئْكُم) بإسكان الهمزة، وعنه رواية أخرى رواها عنه الدُّوري باختلاس الهمزة، واختلاس الهمزة هو: تخفيف حركتها حتَّى يأتي ببعض الحركة ولا يأتي بها كاملة، وهذه الرواية الأخيرة أعني رواية الدُّوري عن أبي عمرو هي التي بها الأخذ والمشهورة عند القراء.

وما زعمه بعض علماء العربية من أن الرواية الأخرى عن أبي عمرو بإسكان الهمزة في "بارئكم" أنها لحنٌ، وأن حركة الإعراب لا يجوز تسكينها فهو غلطٌ، ولا شك أنَّها لغةٌ صحيحةٌ وقراءةٌ ثابتةٌ عن أبي عمرو، وتخفيف الحركة بالإسكان لغة تميم وبني أسد، ويكثر في كلام العرب إسكانُ الحركة للتخفيف ولاسيما إذا توالت ثلاثُ حركات كما في قراءة الجمهور "بارِئِكُم" بثلاث حركات، ومن تسكين الحركة للتخفيف قولُ امرئ القيس:

ص: 183

فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقبٍ

إثمًا من الله ولا واغِلِ

وعلى هذا التَّخفيف قراءة أبي عمرو: {أَرِنَا اللَّذَيْنِ} [فصلت: 29] وقراءة حفص: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] وإنَّ هذا السّكونَ إنّما هو تخفيف؛ لأنَّ المحلَّ ليس محل سكون؛ لأنَّ الأصل يتَّقيه، {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، ومنه قول الشَّاعر:

أرْنا إداوةَ عبدِ اللهِ نملؤُها

من ماءِ زمزمَ إنَّ القومَ قد ظمئوا

وقول الآخر:

ومَنْ يتَقْ فإنَّ اللَهَ مَعْهُ

ورزقُ الله مؤتابٌ وغادِ

وقول الراجز:

قالتْ سليمى اشترْ لنا سَويقا

وهاتِ خَبْزَ البُّرِّ أو دقيقا

وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كأنَّهم قالوا: بِمَ نتوب إلى بارئنا توبةً يقبلها منا؟ قيل لهم: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أو الفاء للتعقيب لأنّ هذا القتل -عقب الذنب- هو الذي حصلت به التوبة، وأصل القتل في لغة العرب: إزهاق الروح بشرط أنْ يكون من فعل فاعل كالطعن، والضرب، والخنق، وما جرى مجرى ذلك، أما إزهاق الروح بلا سبب من شربٍ أو نحوه، فهو: موت وهلاك،

ص: 184

وقال بعض العلماء: القتل إماتة الحركة، وقد تطلق العرب مادة القاف والتاء والسلام على غير إزهاق الروح، فتطلقه على التذليل، فالتقتيل: التذليل، وتطلق القتل أَيضًا على: إضعاف الشدة.

فمن إطلاق التقتيل على التذليل قول امرئ القيس:

وما ذرفتْ عيناكِ إلَّا لتَضْربي

بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مقتَّلِ

أي مذلَّل، وقول زهير:

كأنَّ عينيَّ في غَرْبَيْ مقتَلَةٍ

من النواضحِ تَسقي جنةً سُحُقا

أي مذلَّلة، وكذلك يطلق القتل على: كسر الشدة، ومنه قتل الخمر بالماء؛ أي: كَسْرُ شدتها بالماء، كما قال حَسَّان رضي الله عنه:

إن التي ناولتَني فردَدْتُها

قُتِلَتْ قُتِلْتَ فهاتها لم تُقْتَلِ

يعني بقتلها: إضعاف شدتها بمزاجها بالماء.

وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أنفسكم جمع قِلَّة؛ لأنَّ الأفعلة من صيغ جموع القلة، وما يزعمه بعض النحويين والمفسرين من أن مثل هذه الآية جيء فيه بجمع القلة موضع جمع الكثرة؛ هو خلاف التحقيق؛ لأنَّ أنفسكم أضيف إلى معرفة، واسم الجنس مفردا كان أو جمعًا إذا أضيف إلى معرفة اكتسب العموم، والشيء الذي يعم جميع الأفراد

ص: 185

لا يُعقَلُ أنْ يقال فيه: إنَّهُ جمع قلة؛ لأن جمع القلة لا يتعدى العشرة، وهو بعمومه يشمل آلاف الأفراد.

فالتَّحقيق الذي حرَّره علماء الأصول في مبحث التخصيص أنَّ جموع القلة وجموع الكثرة لا يكون الفرق بينها البتة إلَّا في التنكير، أما في التعريف فإن الألف واللام تفيد العموم، والإضافة إلى المعارف تفيد العموم، وما صار عامًّا استحال أنْ يقال هو جمع قلة؛ لأن العموم يستغرق جميع الأفراد، هذا هو التحقيق، وهذا معنى قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} وفي مرجع الإشارة في قوله: {ذَلِكُمْ} وجهان للعلماء لا يكذب أحدُهما الآخر.

أحدهما: أنَّه راجع إلى مصدر القتل المفهوم من قوله: {فَاقْتُلُوا} ؛ أي: ذلك القتل لأنفسكم خير لكم عند بارئكم، وقد قرَّر علماء العربية أن الفعل الصناعي أعني فعل الأمر أو الفعل المضارع أو الماضي ينحلُّ عن مصدرٍ وزمنٍ، فالمصدر كامنٌ في مفهومه إجماعًا، قال في الخلاصة:

المصدرُ اسمُ ما سوى الزمانِ منْ

مدلوليِ الفعلِ كأمْنٍ مِنْ أمنْ

ونحن نرى القرآن يلاحظ المصدر تارةً، ويلاحظ الزمان تارةً،

ص: 186

فمن أمثلة ملاحظته للمصدر: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ أي: العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، وتارة يلاحظ الزمن، ومن أمثلة ملاحظته لزمان الفعل الصِّناعي قوله جلَّ وعلا في "ق":{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: 20]، فالإشارة بقوله "ذلك" لزمن النفخ المفهوم من بناء الفعل في قوله:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} .

وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: {ذَلِكُم} راجعة إلى شيئين هما: التوبةُ المفهومة من قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} ، والقتلُ المفهوم من قوله:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ؛ وعلى هذا القول فالمعنى ذلكم المذكور من التوبة والقتل، ونظير هذا في القرآن -أي: بأن يكون لفظ الإشارة مفردًا ومعناه مثنّى- قولُهُ جل وعلا في هذه السورة الكريمة: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]؛ أي: ذلك المذكور في الفارض والبكر، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عبد الله بن الزِّبعرى

إن للشرِّ وللخيرِ مدىً

وكلا ذلك وجهٌ وقَبَلْ

أي كلا ذلك المذكور، ولما قال رؤبة بن العجَّاج في رَجزه المشهور:

ص: 187

فيها خُطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ

كأنَّه في الجلدِ توليعُ البَهَقْ

فقيل له: ما معنى قولك كأنه بالتذكير؛ إنْ كنت تريد الخطوط لزم أنْ تقول: كأنَّها، وإنْ كنت تريد السواد والبلق لزم أنْ تقول: كأنهما فلم قلت كأنَّه؟ قال: كأنَّه أي ما ذكر من سواد وبلق.

وقوله: {خَيْرٌ لَكُمْ} الظَّاهر أنها هنا صيغة تفضيل، وقد تقرر في فن العربية أن لفظة خير وشر حَذَفَتْ العرب منها الهمزة في صيغة التفضيل لكثرة الاستعمال في الأغلب كما عقده ابن مالك في الكافية بقوله:

وغالبًا أغناهمُ خيرٌ وشرٌّ

عن قولِهِمْ أخيرُ منْهُ وأَشَرّ

ووجه كونها هنا صيغة تفضيل أن هذا القتل بهذه التوبة يقطع حياتهم الدنيوية ولكنَّه يُكسبهم حياةً أخروية، وهذه الحياة الأخروية خيرٌ من الحياة الدنيوية، وهذا هو معنى قوله:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} ؛ أي: ذلك المذكور من توبتكم وقتلكم أنفسكم خيرٌ لكم عند بارئكم من عدمه؛ أي: عند خالقكم ومبرزكم من العدم إلى الوجود.

وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} معطوف على محذوف دلَّ المقام عليه؛ أي: فامتثلتم ما أُمرتم به وقدمتم أنفسكم للقتل فتاب عليكم،

ص: 188

واختلف العلماء في كيفية هذا القتل الذي أمروا به، قال بعض العلماء: كيفية هذا القتل الذي أمروا به أنَّ مَنْ لم يعبد العجل منهم أمر بأنْ يقتل مَنْ عَبَدَ العجل، وقيل: أُمروا أنْ يقتل بعضهم بعضًا، مَنْ عَبَدَ العجل ومَنْ لم يعبده، وعلى هذا القول فذنب مَنْ لم يعبد العجل أنَّه لم ينههم ولم يغير منكرًا لأنَّ المنكر إذا وقع ولم يغير عَمَّ العذاب، وأظهرُ القولين أن البريء منهم أمر بقتل الذي عَبَدَ العجل.

ذكر المفسِّرونَ في قصتهم أنَّهم لما كان الرَّجل ينظر إلى قريبه وأخيه لا يقدر أنْ يتجاسر على قتله، فأنزل الله ضبابًا حتَّى صاروا لا يرى بعضهم بعضًا فوضعوا فيهم السيف حتَّى قتلوا منهم نحو سبعين ألفًا، فدعى موسى وهارون ربَّهما فقبل الله توبتهم، ورفع القتل عن بقيتهم، هذا هو معنى قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وقد أوضحنا معنى التواب الرَّحِيم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] بما أغنى عن إعادته هنا.

وقوله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ؛ أي اذكروا أيضًا حين قلتم لنبي الله موسى: يا موسى

ص: 189

لن نؤمن لك؛ أي: لن نصدّقك فيما ذكرت من أنَّ الله كلمك به، قال بعض العلماء: هم السبعون الذين اختارهم موسى سمعوا الله يكلِّم موسى، فقالوا: لن نصدقك في أن هذا كلام الله حتَّى نرى الله جهرة، والقاعدة باستقراء القرآن: أنَّ لفظ الإيمان إذا عُدي باللَّام معناه عدم التصديق كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، أي: بمصدِّقنا، وقوله:{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]؛ أي: يصدِّق المُؤْمنين، فالمعنى على هذا لن نؤمن لك أي نصدّقك بما ذكرت من أن الله كلّمك، وأمرك، ونهاك، وهذا نفيهم للتصديق غيَّوهُ بغاية يتمادى إليها هي:{حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ؛ أي: إلى رؤيتنا الله جهرة.

وقوله: {جَهْرَةً} فيه وجهان من التَّفسير: أحدهما أنَّه متعلق بنرى، والمعنى نرى الله جهرة أي عَيانًا، وانتصابه على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لعامله يزيل توهم أنها رؤية منام، أو رؤية علم بالقلب، وقال بعض العلماء هو متعلق بقوله:{قُلْتُمْ} ؛ أي: قلتم جهارًا من غير مواربة هذا القول العظيم الشَنيع، وعلى هذا فأظهر القولين فيها أنَّه مصدر منكر حال؛ أي: قلتم هذا القول جهرةً؛ أي: في حال كونكم جاهرين بهذا الأمر العظيم.

وقوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الفاء سببية دلت على أنَّ أخذ

ص: 190

الصاعقة إياهم سببُهُ هذا الافتراء العظيم، وامتناعهم من تصديق نبيهم حتَّى يروا الله عيانًا كما قال جلَّ وعلا:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، والصَّاعقة تُطلق إطلاقين: تطلق على النَّار المحرقة وعلى الصوت المزعج المهلك، وأكثر إطلاقاتها عليهما معًا: صوت مزعجٌ مشتملٌ على نار مهلكةٍ، وعلى كلِّ حالِ فعلى أنَّهم السبعون المذكورون في الأعراف، فقد بَينَ أنَّ هذه الصاعقة رجفةٌ كما في قوله:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155].

وعلى كل حال فإنَّ هذه الصاعقة سواء قلنا إنَّها نارٌ محرقة، أو صوتٌ مزعجٌ أهلكهم، أو هما معًا: صوتٌ مزعج أرجف بهم الأرض، فالتحقيق أنَّهم ماتوا، وأنَّه صَعْقُ موتٍ كما صرَّح الله بذلك في قوله:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أماتهم الله عقابًا لمقالتهم هذه الشنعاء، ثم أحياهم بدعاء نبيهم صلى الله عليه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم، خلافًا لمن زعم أن صعقهم هذا صعقُ غشيةٍ قائلًا: إنَّ الصعقَ قد يطلقُ على غير الموت، وذكروا منه قول جرير يهجو الفرزدق:

ص: 191

وهل كان الفرزدقُ غيرَ قرْدٍ

أصابتْهُ الصواعقُ فاستدارا

فقوله: أصابته الصواعق ليس معناه أنَّه مات.

والتحقيق أنَّه صعق موتٍ لأنَّه لا أحد أصدق من الله، والله صَرَّحَ أنَّه صعقُ موتٍ في قوله:{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} البعث بعد الموت معناه: الإحياء بعد الموت؛ أي: بعد أنْ متم أحياكم الله عز وجل إحياء، وعامةُ المفسرين يقولون: إنَّ الزمن الذي مكثوه في هذا الموت أو الغشية على القول الباطل عند مَنْ يزعم أنَّه صعق غشيةٍ لا صعق موت -مدة هذا الصعق الذي في التحقيق أنَّه موت- يومٌ وليلةٌ كما عليه عامة المفسرين إلَّا من شذَّ.

وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة حالية، وأصل هذه الجملة فيها إشكال معروف، وهو أنْ يقول طالب العلم: كيف ينظرون أو ينظر بعضهم إلى بعض مع إصابة الصاعقة إياهم؟

وللعلماء عن هذا أجوبة: أظهرها أنّ الصاعقة أصابتهم غير دفعة بل تصيب البعض والبعض ينظر إلى هلاكه، لأنَّ ظاهر القرآن يجب الحمل عليه إلَّا لدليل جازم من كتاب أو سنة، وظاهر القرآن أن هنالك نظرًا لوقوع هذه الصاعقة، وأنَّ الصاعقة وقعت حال نظرهم، ولهذا قال بعض العلماء وهو الأظهر؛ لأنَّه يتمشى مع

ص: 192

ظاهر القرآن، ولا مانع من أنْ تصيب الصاعقة بعضَهُم والبعضُ الآخر ينظر إليه، ثم تصيب بعضًا والبعض الآخر ينظر إليه، وكذلك قال بعض العلماء: إنَّ الله أحياهم متفرقين في غير دفعة واحدة يُحيي بعضهم والبعض الآخر ينظر إليه حين يحييه الله، وهذا معنى قوله:{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

قد قدمنا معنى لعل ومعنى الشكر في درس البارحة، وهذه الآية الكريمة فيها دليل جازم على البعث؛ لأنَّ بني إسرائيل هؤلاء هذه الطائفة منهم التي أماتها الله ثم أحياها دليل قاطع على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة خمسة أمثلة لإحيائه الموتى في دار الدنيا هذا أولها.

الموضوع الثاني قولُهُ في قتيل بني إسرائيل: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: 73]، وقوله:{كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} بَيَّنَ به أنَّ إحياءه قتيل بني إسرائيل في دار الدنيا دليل على البعث، وإحيائه الموتى، وبعثه إياهم بعد أنْ صاروا عظامًا.

والموضع الثالث قولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ

ص: 193

دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243].

والموضع الرابع قولُهُ في عُزيرٍ وحمارِهِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259]. وفي القراءة الأخرى: {نَنْشُرُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

الموضع الخامس طيور إبراهيم المذكورة في قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

قوله جل وعلا: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمّا كان بنو إسرائيل في التِّيه، واشتكوا الحرَّ، دعا نبي الله موسى ربه

ص: 194

لهم فظلل الله عليهم الغمام، والغمام: اسم جنس واحدهُ غمامة، وهو غمام أبيض رقيق يظلهم من الشَّمس، وفي قصتهم: أنَّه إذا كان في الليل ارتفع ليستضيئوا بضوء القمر، وصيغة الجمع في قوله: ظللنا للتعظيم، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ولما اشتكوا في التيه من الجوع دعا الله نبيهم فأنزل عليهم المنَّ والسلوى، وأكثر علماء التفسير على أن المنَّ: الترنجبيل، وهو شيءٌ ينزل كالندى، ثم يجتمع أبيض حلوًا يشبه العسل الأبيض، هذا قول أكثر المفسرين في المراد بالمن.

قال بعض العلماء: ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيح عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "الكمأةُ من المنِّ وماؤها شفاءٌ للعَيْن" قالوا: فمراده صلى الله عليه وسلم بقوله: (من المنِّ)؛ أي: من جنس ما منَّ الله به علي بني إسرائيل حيث إنهُ طعام يوجد فضلًا من الله تعالى من غير تعب، وظاهر الحديث أن الكمأة من نفس ما منَّ الله به علي بني إسرائيل في التيه.

وقوله: {وَالسَّلْوَى} جمهور المفسرين أو عامة المفسرين على أن السلوى: طير، قال بعضهم: هو السماني، وقال بعضهم: طائر يشبه السماني، وتفسير من فسَّر السلوى بأنه العسل غير صواب، وكذلك ادعاء أنَّ السلوى لا يطلق على العسل في لغة العرب غير

ص: 195

صواب، والتحقيق أنَّ السلوى يطلق في لغة العرب على العسل، ومنه قول الهذلي:

وقاسمتُها باللَّهِ جهدًا لأنتمُ

ألذُّ من السلوى إذا ما نشُورها

والشَّورُ: استخراج العسل خاصة، لكن ليس المراد بالسلوى في الآية العسل، وإنما المراد به طائر كما عليه عامة المفسرين هو السماني، أو طائر يشبه السماني.

وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} محكيُّ قولٍ محذوف؛ أي: وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم كهذا المن والسلوى، وهما طيبان حسًّا ومعنى للذاذة طعمهما، وحِلِّيتهما شرعًا لأنهما من وفضل من الله جل وعلا.

{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هنا محذوفٌ دل المقام عليه؛ أي: أنعمنا عليهم هذه النعم، فقابلوا نعمنا بعدم الشكر وارتكاب المعاصي، وما ظلمونا بتلك المعاصي التي قابلوا بها نعمنا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وقال بعض العلماء: أمروا أنْ لا يدخروا من المنِّ والسلوى فخالفوا أمر الله وادَّخروا وما ظلمونا بذلك الادِّخار المنهي عنه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، والقول الأول أشمل وهو الصواب.

ص: 196

وقوله جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا ظَلَمُونَا} فيه الدليل الواضح على أن نفي الفعل لا يستلزم إمكانه؛ لأنَّ الله نفى عنه أنَّهم ظلموه ونفيه جلَّ وعَلا عن نفسه أنَّهم ظلموه لا يدل على أنَّه يمكن أنْ يظلموه، بل نفي الفعل لا يدل على إمكانه.

وقوله جلَّ وعَلا: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لكن واقعةٌ في موقعها، والمعنى أن هذا الظلم واقع على أنفسهم حيثما عرَّضوها به لسخط الله جل وعلا وعقابه، فضرر فعلهم عائد إليهم، والله جل وعلا لا تضره معاصي خلقه ولا تنفعه طاعاتهم {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6].

وقد بيَّنَ القرآن في آيات كثيرة أن الله جلَّ وعلا لا يتضرر بمعاصي خلقه ولا ينتفع بطاعاتهم كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقوله:{فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: "يَا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يَا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ

ص: 197

منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" الحديث، هذا معنى قوله:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ؛ أي: قابلوا نعمنا بالمعاصي وما ظلمونا بذلك ولكن ظلموا أنفسهم بذلك.

وقوله جلَّ وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} ؛ أي؛ اذكر إذ قلنا، أي: حين قلنا، وصيغة الجمع للتعظيم:{ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} الصواب الذي عليه أكثر المفسرين أن هذه القرية هي بيت المقدس، وقال جماعة من العلماء: هي أريحا، وعن الضحاك: أنها الرملة، وفلسطين، وتدمر، ونحو ذلك، والتحقيق الذي عليه جمهور المفسىرين أنها بيت المقدس، ويدل عليه قوله تعالى في المائدة:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} .

هذه القرية لما زال عنهم التِّيه، ومات موسى وهارون، وكان الخليفة بعدهما يوشع بن نون، وجاءوا وجاهدوهم الجهاد المعروف في التاريخ الذي ردَّ الله فيه الشَّمس ليوشع بن نون، وفتحوا البلد أَمَرَهم الله جلَّ وعلا أنْ يشكروا هذه النعمة بقولٍ يقولونه وفعلٍ يفعلونه، فبدَّلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدَّلوا أَيضًا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره، وتقرير المعنى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} فكلوا من هذه

ص: 198

القرية حيث شئتم، "حيث": كلمة تدلُّ على المكان كما تدل "حين" على الزمان ربما ضمنت معنى الشرط، وهي تعمُّ؛ أي: في أيِّ مكان من أمكنة هذه القرية شئتم.

وقوله: {رَغَدًا} نعتٌ لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا رغدًا واسعًا لذيذًا لا عناء فيه ولا تعب، وهذا الذي أبيح لهم هنا الذي يظهر أنَّه يدخل فيه ما طلبوه؛ أي: طلبوا نبيهم موسى أنْ يدعو الله لهم أنْ يعطيهم إياه الآتي في قوله: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61]، الظاهر أن الله لما قال لهم:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} وفتح عليهم هذه القرية قال لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58] ، وأنّه يدخل في ذلك ما طلبوه أيام التيه من البقول، والفوم، والعدس وما ذكر معها.

ثم إنَّ الله جلَّ وعلا أمرهم بفعل وقول شُكرًا لنعمة الفتح وهو قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ؛ أي: ادخلوه حال كونكم سُجَّدًا والسُّجد جمع ساجد، والفاعل إذا كان وصفًا من جموع تكسيره المعروفة جموع الكثرة أنْ يجمع على فُعَّل كساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع، قال بعض العلماء هو سجود على

ص: 199

الجبهة، والمعنى إذا دخلوا الباب سجدوا؛ أيِ: ادخلوه في حال كونكم سجدًا، أي: عندما تدخلون تتصفون بحالة السجود.

وقال بعض العلماء: هو سجود ركوع وانحناء؛ تواضعًا لله، وشكرًا على نعمة الفتح، وقد يفهم من هذا أن نعمة الفتح ينبغي أن تشكر لله تعالى، ولمَّا فتح النَّبِي صلى الله عليه وسلم مكة صلى الضحى ثمان ركعات، وكان العلماء يرونها صلاة شكر على ما أنعم عليه به من الفتح والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله:{وَادْخُلُوا الْبَابَ} ؛ الباب واحد الأبواب، وألفه الكائنة في موضع العين مبدلة من واو بدليل تصغيره على بُوَيْب وجمعه على أبواب، وسجَّدًا: حال من الواو في ادخلوا؛ أي: حال كونكم سجدًا لله شكرًا على نعمة الفتح، وقال بعض العلماء: هو سجود انحناء وتواضع، ومنهم مَنْ شذَّ فزعم أنَّه مطلق التواضع لله، والسجودُ وإنْ كان في لغة العرب قد يطلق على مطلق التواضع فليس هو المراد في الآية.

وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} هذا القول الذي قيل لهم أَيضًا، وحطّة: فِعْلة من الحط، والحط معناه: الوضع، وهي خبر مبتدأ محذوف ومتعلقها محذوف، وتقرير المعنى للإيضاح: وقولوا مسألتنا لربنا حطة؛ أي: غفران لذنوبنا، وحطٌّ؛ أي: وضعٌ لأوزارنا عن

ص: 200

ظهورنا، فهو لفظ عربي فصيح، هذا هو القول الذي قيل لهم، أمرهم الله أنْ يدخلوا سجّدًا متواضعين، وأنْ يقولوا قولًا هو استغفار وطلب لحطِّ الذنوب، وهذا معنى قوله:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} .

وقوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} فيه ثلاث قراءات سبعيّات؛ قَرَأَهُ نافع المدني: {يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بالياء المضمومة، وفتح الفاء مبنيَّة للمفعول، وإنّما جاز تذكيره والإتيان بالياء؛ لأن تأنيث الخطايا غير حقيقي؛ ولأنه فصل بينه وبين الفعل فاصل وهو لكم، والفصل يبيح ترك التاء كما تقدم، وقرأه الشامي ابن عامر:{تُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} بضم التاء، وفتح الفاء مبنية للمفعول، وخطاياكم نائب عن الفاعل في كلتا القراءتين، وقرأه غيرهما من القراء:{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} خطاياكم في محلِّ نصب على المفعول به، ونغفِر بكسر الفاء مبنية للفاعل، وقراءة الجمهور أشدُّ انسجامًا بالسياق لأنَّ الله قال قبلها {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} وقال بعدها:{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} بصيغة التَّعظيم فقراءة الجمهور أشدُّ انسجامًا بالسياق من قراءة نافع وقراءة ابن عامر.

والخطايا جمع الخطيئة، والخطيئة الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه التنكيل؛ أي: نغفر لكم ذنوبكم العظيمة،، ثم قال جلَّ وعلا:{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} .

ص: 201

للعلماء في تفسير المحسنين هنا أقوال، والحقُّ الذي لا ينبغي العدول عنه أنْ لا يُعدل بتفسيرها عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله لمَّا سأله جبريل عن الإحسان:"هو أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك" يعني الذين كانوا أشدَّ مراقبةً لله في أعمالهم سيزيدهم الله إيمانًا لأن الإنسان كلما ازدادت تقواه لله جلَّ وعلا زاده الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، معناه: وسنزيد المحسنين منكم؛ أي: الذين هم أشد مراقبة لله سنزيدهم من الخير والإيمان، وقال بعض العلماء: سنزيد في جزاء أعمال المحسنين؛ لأن العمل الذي يراقب صاحبُهُ الله قد يكون ثوابه أكثر ممن هو أقل منه مراقبة.

ثم قال جلَّ وعلا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وفي الكلام حذف الواو وما عطفت، وحذف المتعلق، وتقرير المعنى: فبدَّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم بقول غيره، وبدَّلوا فعلًا غير الذي قيل لهم بفعل غيره، القول الذي قيل لهم هو:{حِطَّةُ} فبدلوه بقول غيره وقالوا: حبّة في شعرة، وقال بعض العلماء: قالوا حنطة في شعيرة، وثبت في الصحيح أن القول الذي بدلوه حبة في شعرة، وفي بعض روايات الحديث: حنطة في شعيرة، وعلى كلٍّ فقد بدَّلوا هذا القول الذي

ص: 202

قيل لهم بقولٍ غيره كما بدَّلوا الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره؛ لأنَّ الفعل الذي أمروا هو: ادخلوا الباب سجَّدًا فبدلوه بفعل غيره، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهذا من كفرهم عياذًا بالله، وما قاله بعض العلماء: من أنَّ هذه الآية الكريمة يؤخذ منها عدم نقل الحديث بالمعنى لأنَّ الله ذمَّ من بدل قولًا بقولٍ غيره، فيلزم أنْ يكون القول هو نفس ما أمر به لا قولا آخر، غير صواب.

ويجاب عنه: بأنَّ القول المأمور به له حالتان: إمّا أنْ يكون متعبدًا بلفظه كالله أكبر في الصلاة، وما جرى على ذلك من العبادات القولية، فمثل هذا لا يجوز تبديله ومَنْ بدّله يلحقه من الوعيد ما لحقه بقدر ما ارتكب في قوله:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ولا يجوز تبديله.

أمّا الذي لم يتعبد بلفظه فلا مانع من أنْ يبدَّل بلفظ يؤدِّي معناه إذا لم يكن هناك تفاوتٌ في المعنى، وجماهير العلماء من المسلمين قديمًا وحديثًا على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا كان ناقله بالمعنى عارفًا باللسان متبحرًا فيه، لا تخفى عليه النكت والتفاوت الذي يكون بين الألفاظ، ونَقَلَه بعبارةٍ ليست أخفى من نص الحديث، ولا أظهر من نص الحديث، فلا يجوز نقله بلفظ أظهر منه، قال بعض العلماء: لأنَّه قد يعارضه حديث آخر والظهور من

ص: 203

المرجحات بين النصوص المتعارضة، فيظن المجتهد أنَّ لفظ الراوي الظاهر الذي بَدّله بلفظ هو أقل منه ظهورًا أنه من لفظ النبي فيرجِّحه بهذا الظهور على حديث آخر، فيكون استناد هذا الترجيح مستندًا لتصرف الراوي، وهذا مما لا ينبغي.

وعلى كلِّ حال فمسألة نقل الحديث بالمعنى مسألة معروفة في الأصول وعلوم الحديث، منعها قومٌ واستدلوا بالحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الرجل قال:"ورسولك الذىِ أرسلت" ردَّ عليه وقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولا شك في أنَّ اللفظ لا يقوم مقامه اللفظ الذي تصرف به الراوي لأنَّ (ونبيك الذي أرسلت) واضحٌ بليغ لا تكْرير فيه؛ لأنَّ النبي قد يكون مرسلا، وقد يكون غير مرسل، والرسول مرسلُ قطعًا فيكون:(ورسولك الذي أرسلت) تكرارًا يعني لأنَّ الذي أرسلت معناه يؤديه: (رسولك)، أما (ونبيك الذي أرسلت) فيكون كلُّ من الكلمتين عمدة وتأسيسًا لا لغوًا، والحاصل أنَّ المعروف أنَّ الجمهور من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا وثق الراوي أنه لم يزد في معناه ولم ينقص، وأنَّ قومًا منعوا ذلك، وأنَّ الآية لا دليل فيها لذلك البتة، لأنَّهم إنَّما بدَّلوا قولا منافيًا في المعنى ممنوع بإجماع المسلمين، وليس مما فيه الخلاف، إنَّما الخلاف في تبديل

ص: 204

الألفاظ مع بقاء المعنى، وإنْ بدَّلوا اللفظ بلفظ لا يؤدي معناه ونريد أن يقولوا حطة، فقالوا: حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة، فالقول الذي بدَّلوا به ليس معناه معنى القول الذي أُمروا به، فكأنهم رفضوه بتاتًا وعصوا الله، وجاءوا بما لم يؤمروا لا لفظًا ولا معنى، فإن الذي بدلوا به أنهم أُمروا بالسجود فدخلوا يزحفون على أستاههم.

وقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الفاء سببية وصيغة الجمع للتعظيم؛ أي: فبسبب تبْدليهم القول الذي قيل لهم بقول غيره والفعل الذي قيل لهم بفعل غيره أنزلنا عليهم، وانَّما أظهر في محل الإضمار، قال:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل فأنزلنا عليهم؛ ليسجِّل عليهم موجب هذا العذاب وأنه الظلم، ولذا عدل عن الضمير إلى الظاهر قال:{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ليبين أنَّ هذا الرجز منزل عليهم بسبب ظلمهم، والضمير لا يعطي هذا وإنْ كان معناه يؤدي المعنى في الجملة، وهذا معنى فأنزلنا على الذين ظلموا؛ أي: ظلموا أنفسهم بتبديل القول بقول غيره والفعل بفعل غيره {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} الرجز: العذاب، وهذا العذاب طاعون أنزله الله عليهم. قال العلماء: أهلك الله به منهم سبعين ألفًا.

ص: 205

وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] الباء سببيةٌ وما مصدريةٌ؛ أي: بسبب كونهم فاسقين، والفسق في لغة العرب: الخروج، ومنه قوله جلَّ وعلا:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]؛ أي: فخرج عن طاعة ربه، والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرتها إذا خرجت، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها للإفساد.

وكون الفسق يطلق على الخروج معروفٌ في كلام العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج:

يهوينَ في نجدٍ وغورًا غائرًا

فواسقًا عن قصدِها جوائرا

قوله: فواسقًا عن قصدها؛ أي: خوارج عن طريق القصد إلى طريق آخر، وقال بعض العلماء: إنَّما كرَّر لفظ الظلم في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لأنَّ هذا الفعل الذي هو ظلمهم ذكْرُهُ له أهمية في السِّياق؛ لأنَّهم ظلموا في الوقت الذي أنعم الله عليهم، وعصوا أمر ربِّهم، ومن عادة العرب إذا كان الأمر له أهمية أنْ تكرره، سواء كانت أهميتُهُ من جهة خَيْرٍ أو أهميتُهُ من جهة شَرٍّ، كما قال الشاعر:

ليتَ الغرابَ غداةَ ينعبُ دائمًا

كان الغرابُ مقطَّعَ الأوداجِ

ص: 206

لأنَّ الغُرابَ لما نعب ببَيْنِ أحبته صار الغراب له أهمية عنده فكرَّر لفظه، ومنه قول الآخر:

لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ

نَغَّصَ الموتُ والغنى والفقيرا

لمّا كان له أهمية بقطع الحياة كرَّره، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب.

وعلماء البلاغة يقولون: إنَّ إعادة قوله: ظلموا في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليسجِّل عليهم الذنب الذي بسببه أنزل عليهم العذاب كما قدمنا والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قرأ هذا الحرف جمهور القراء: {هزُؤًا} بضَمِّ الزاي والهمزة، وقَرَأَهُ حمزة:{هُزْءًا} فهي لغةُ تميم وأسد وقيس، وقرأه حفص عن عاصم:{هُزُوًا} بإبدال الهمزة واوًا.

ومعنى قوله جَلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} كما ذكره المفسرون: أنه قُتِلَ في بني إسرائيل قتيلٌ كما يأتي في قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} يزعمون اسم القتيل عاميل، قال بعضهم: كان له قرباء فقراء، وهو غني فقتلوه ليرثوه،

ص: 207

وقيل: كانت تحته امرأةٌ جميلةٌ فقتله بعض الناس ليتزوجها، والأول أكثر قائلًا.

وعلى كلِّ حال الذين قتلوا القتيل ادَّعوه على غيرهم، وسألوا من نبي الله موسى أنْ يسأل الله لهم ليُبيِّنَ لهم قاتل القتيل، فأمرهم الله جلَّ وعلا على لسان نبيه أنْ يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل بجزءٍ منها فيحيا القتيل ويخبرهم بقاتِلهِ، وهذا معنى قوله:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى} أي: حين قال موسى لقومه لمَّا ادَّارؤوا في القتيل وتدافعوه - كلٌّ يدفع قتله عن نفسه إلى غيره: إن الله جلَّ وعلا يأمركم أنْ تذبحوا بقرة، وتضربوا القتيل ببعضها فيحيا ويخبركم بقاتله، وقرأ هذا الحرف جماهير القُرَّاء:{يَأْمُرُكُمْ} بضمّةٍ مشبعة على القياس، وَقَرَأَهُ أبو عمرو:{يأمُرْكم} بإسكان الراء، وزاد عنه الدُّوري باختلاس الضمّة، وقد قدمنا وجه ذلك في قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} .

وقوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} المصدر المنسبك من أنْ وصلتها هو متعلق الأمر وأصل أمر تتعدى بالباء، والأصل يأمركم بأنْ تذبحوا بقرة؛ أي: بذبح بقرة وضرب القتيل بجزء منها، كما عُدِّيَ بالباء في قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، والمصدر المُنسبك من أنْ وصلتها مجرورٌ بحرف محذوف، وحذف هذا الحرف قياسٌ مطردٌ كما عقده في الخلاصة بقوله:

ص: 208

وعَدِّ لازما بحرفِ جَرِّ

وإنْ حُذفْ فالنصبُ للمُنْجَرِّ

نقلا وفي أنَّ وأنْ يطردُ

مَعْ أمنِ لبسٍ كعجبتُ أنْ يَدوا

ولطالب العلم هنا سؤالٌ، وهو أنْ يقول: عرفنا أنَّ المصدر المنسبك من أنْ وصلتها المجرور بالباء المحذوفة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ؛ أي: يأمركم بأنْ تذبحوا بقرة، فهذا المصدر بعد حذف الباء هل محله الجر بالباء المحذوفة أو محله النصب لمّا نُزع الخافض؟.

الجواب: أنَّ جماهير النحويين على أنَّه في محلِّ نصب، وأنه لو عُطف عليه لنصب على اللغة الفصحى، وخالف في هذا الأخفش فقال: إنَّ محله الجر، واستدل على أنَّ محله الجر بأنه سُمع عن العرب خفض المعطوف عليه في قول الشاعر

وما زُرتُ ليلى أنْ تكونَ حبيبةً

إليَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ

فخفض قوله: (ولا دينٍ) بالعطف على المصدر المنسبك من أَنْ وصلتها المجرور بحرف محذوف، وتقرير المعنى: وما زرت ليلى أن تكون حبيبةً أي لكونها حبيبةً ولا لدينٍ بها أنا طالبه.

وأجاز سيبويه الوجهين: أنَّ محله الكسر والعطف عليه بالخفض، وأنَّ محله النصب والعطف عليه بالنصب.

ص: 209

وأجاب الجمهور عن البيت الذي أورده الأخفش: بأنَّ الخفض فيه من عطف التوهم، وعطف التوهم يكفي فيه مطلقُ توهم جواز الخفض، وعطف التوهم مسموعٌ في كلام العرب ومن أمثلته قول زهير:

بَدَا ليَ أَني لستُ مدركَ ما مضى

ولا سابقٍ شيئًا إذا كانَ جائيا فالرواية نصبُ مدرك وخفضُ سابقٍ، والمخفوض معطوفٌ على المنصوب وهو عطف توهم، أعني توهم الباء في خبر ليس؛ لأنَّ قوله:(لست مدرك) يجوز فيه لست بمدرك ولا سابق، كما قال:

وبعدَ ما وليس جَرَّ البا الخَبَرْ

. . . . .

فتوهم الباء بمطلق الجواز وعطف عليه خفضًا عطف توهم ونظيره قول الآخر:

مشائيمُ ليسوا مصلحينَ عشيرةً

ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرابُها

بخفض ناعبٍ عطفًا على مصلحين، لتوهُّم جواز دخول الباء، قالوا من ذلك:

وما زرتُ ليلى أنْ تكون حبيبةً

إليَّ ولا دينٍ بها أنا طالبُهْ

لتوهم اللام.

ص: 210

وقوله جلَّ وعلا: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الذبح معروفٌ، وبقرة قال بعض العلماء: تاؤه للتأنيث وذكره يسمى ثورًا، وقال بعض العلماء: هي تاء الوحدة، والبقر يطلق على ذكره وأنثاه، وهذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أنهم لو ذبحوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم.

وقوله جلَّ وعلا: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} ؛ أي: قال قوم موسى لموسى -لمَّا قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة-: أتتخذنا هزؤًا، أي مهزوءًا منَّا من قبلك؛ لأن قولنا لك: ادع لنا ربك يبين لنا قاتل القتيل، فتجيبنا بقولك: إنَّ الله يأمركم أنْ تذبحوا بقرة، فهذا الجواب غير مطابق للسؤال!! فكأنك تستهزئ بنا وتسخر منا، ولم يفهموا أن المراد بذبح البقرة أن القتيل يُضْرَبُ بجزءٍ منها فيحيا بإذن الله، فيخبرهم بقاتله.

فقال نبي الله موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أعتصم وأتمنع بربي أنْ أكون من الجاهلين، الجاهلون جمع جاهل وهو الوصف من جَهِل، وأحسنُ تعاريف الجهل عند علماء الأصول أنه: انتفاءُ العلم بما من شأنه أن يُقصد ويعلم، وللعلماء فيه أقوال متعددةٌ ومحلُّ ذكرها في فن الأصول.

ص: 211

والمعنى أن نبي الله استعاذَ بربِّه جلَّ وعلا من أنْ يكون معدودًا في عداد الجاهلين، وهذه الآية تدلُّ على أن مَنْ يستهزئ من الناس أنه جاهل لأن نبي الله موسى استعاذ بالله من أن يكون اتخذهم هزؤًا كما قالوا، ولذا قال: أعوذ بالله أنْ أكون من الجاهلين، ولمّا علموا أنَّ الأمر من الله جِدُّ، وأن الجواب مطابقٌ لسؤالهم، وأن المراد بذبح البقرة أنْ يُضْرَبَ القتيل بجزء منها فيحيا ويخبرهم بقاتله، تعنتوا وأكثروا الأسئلة فشددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم.

قالوا مخاطبين نبيهم: يا موسى {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} ؛ أي: اسألْ لنا ربك يبين لنا ما هي، المراد بقولهم {مَا هِيَ} هنا يعنون ما سِنُّها؛ لأنَّ السؤال يوضحُهُ الجواب حيث قال لهم نبي الله موسى:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} ؛ أي: البقرة التي سألتم عنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان خبر مبتدأ محذوف، والمعنى لا فارضٌ ولا بكر هي عوانٌ بين ذلك.

الفارض المسنَّة التي طعنتْ في السنِّ، وكلُّ طاعنٍ في السنِّ تسميهِ العربُ: فارضًا، وكل قديم تسمِّيه: فارضًا، ومن أمثلته في كلام العرب قول خفاف بن ندبة السُّلمي يهجو العباس بن مرداس، وقيل القائل علقمة بن عَوْف:

لَعَمْري لقد أعطيتَ جارَكَ فارضًا

تُساقُ إليهِ ما تقومُ على رجْلِ

ص: 212

ولم تعطهِ بكرًا فيرضى سمينةً

فكيفَ تُجازى بالمودةِ والفضلِ

ومن إطلاق العرب الفارض على ما تقادم عهدُهُ قول الراجز:

يا رُبَّ ذي ضِغْنٍ علي فارضِ

لهُ قروءٌ كقروءِ الحائضِ

يعني بالضغن الفارض أنه تقادم وطالت سنُّهُ، قال بعض العلماء: ومنه قول الآخر:

شَيبَ أصداغي فَرأسي أبيضُ

محافلٌ فيها رجالٌ فُرَّضُ

أي طاعنون في السِّن، والأظهر أن قول هذا الراجز: بها رجال فرض؛ أي: ضخامُ الأبدان؛ لأن العرب تطلق الفارض أيضًا على الضخم العظيم جدًا.

وقوله: {وَلَا بِكْرٌ} البكر هي التي لم يفتحلها الفحل لصغرها، وقال بعض العلماء: البكر التي وَلَدت مرة، ولكن المراد هنا التي لم يفتحلها الفحل لصغر سنها، والمعنى: ليست هذه البقرة التي أُمرتم بذبحها بطاعنة في السن فارض ولا بصغيرة جدًا لم يفتحلها الفحل، بل هي عوانٌ بين ذلك.

والعوان النصَف؛ أي: لا طاعنة في السن ولا صغيرة جدًّا، والعوان النصَف، وأصل النّصف التي انتصف عمرها وهي

ص: 213

متوسطة في السن ليست كبيرة جدًا ولا صغيرة جدًا، وكل متوسطة في السن نصف تسميها العرب عوانًا، وهذا معنى معروف في كلام العرب ومنه قول الطرِمَّاح: قال:

حَصَانُ مواضعِ النُّقبِ الأعالي

مواعنُ بينَ أبكارٍ وعُونِ

يعني بالأبكار جمع بكر، وهي الصغيرة التي لم تتزوج، والعون جمع عوان وهي النصف، والنصف التي انتصف عمرها فهي في وسط سنها ليست بكبيرة جدًا ولا بصغيرة جدًا، ومنه قول كعب بن زهير:

شَدَّ النهارُ ذراعا عيطلِ نصفٍ

قامتْ فجاوبها نُكْدٌ مثاكيلُ

وفَسَّرَ بعض الأدباء في شعره النصف بالتي انتصف عمرها حيث قال:

وإنْ أتوكَ وقالوا إنها نَصَفٌ

فإن أطيبَ نصفَيها الذي ذَهَبا

وقوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} فيه سؤالٌ معروف، وهو أن (ذلك) إشارةٌ إلى مفردٍ مذكرِ كما قال في الخلاصة:

بذا لمفردٍ مذكرِ أشرْ

. . . . .

و {بَيْنَ} لا تضاف للمفرد إلَّا إذا أُريدت أجزاؤه، والجواب: أنَّ ذلك وإنْ كان لفظه مفردًا فمعناه مثنّى؛ لأنَّ الإشارة راجعة إلى ما

ص: 214

ذكر من الفارض والبكر أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر: لأنَّ العوان أصْغر من الفارض وأكبر من البكر، ونظير هذا من كلام العرب قول ابن الزبعرى كما تقدم:

إنَّ للشَّرِّ وللخيرِ مَدىً

وكلا ذلك وجهٌ وقَبَلْ

أي: وكلا ذلك المذكور من خير وشر؛ لأن كلا لا تضاف إلا لمثنى لفظًا أو معنى وهذا معنى قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الأصل ما تؤمرون به فحذف الباء فوصل الفعل إلى الضمير فحُذف.

وهذا الذي يؤمرون به هو ذبح البقرة فيضرب القتيل ببعضها فيحيا، وهذا معنى قوله:{فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فزادوا تعنُّتًا وسؤالًا وتشديدًا فشدَّد اللهُ عليهم أيضًا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} ادع لنا ربك يُبَيِن، {يُبَيِّنْ} بهذه المواضع مجزومٌ بجزاء الأمر، والفعل المضارع المجزوم بجزاء الطلب يقول المحققون من علماء العربية: إنَّه مجزوم بشرط مقدر دَلَّ عليه الأمر، وتقرير المعنى: إنْ تدع لنا ربك يبين لنا ما لونها، اللون: هي إحدى الكيفيات التي يكون عليها الجِرْمُ كالسَّواد والبَياض، يعني ما اللون الذي هي متلَوِّنَةٌ به.

ص: 215

{قَالَ إِنَّهُ} ؛ أي: ربكم جلَّ وعلا يقول: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} ؛ أي: متلونة بلون الصُّفرة، والتحقيق أنَّ المراد بالصُّفرة هنا: الصفرة المعروفة، وما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنَّ المراد بالصفرة: السَّواد؛ مردودٌ من وجهين:

أحدهما: أئه أكَّدَ الصفرة بقوله: فاقعٌ لونُها والفُقوع لا يوصف به إلّا الصفرة الخالصة تمامًا.

ثانيهما: أنَّ العرب لا تطلق الصُّفرة وتُريد السَّواد إلَّا في الإبل خاصة دون غيرها كما يأتي في تفسير قوله: {أنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] والجمالة جمع جمل، والمراد بالصفر هناك السود؛ لأن شَرَرَ نار الآخرة أسود، والعرب إنَّما تطلق الصفرة على السَّواد في الإبل خاصة دون غيرها من سائر الحيوانات، ومن إطلاق العرب الصفرة على سواد الإبل قول الأعشى:

تلك خَيلي منهُ وتلك ركابي

هُن صفرٌ أولادها كالزَّبيبِ

يعني بقوله: (صفر) سودًا، والتحقيق أنَّ المراد بالصفرة هنا هو الصفرة المعروفة.

ص: 216

وقوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} هذا نعتٌ سببي، والتحقيق في إعراب {لَوْنُهَا} أنه فاعل لقوله: فاقعٌ، وأنَّ فاقعٌ نعتٌ سببي لقوله:{بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ، ولونها فاعلٌ لقوله: فاقع، وقال بعض العلماء: لونها مبتدأ مؤخر، وفاقع خبرٌ مقدم، وجملة المبتدأ والخبر في محل النعت؛ أي: بقرة صفراء لونها فاقع؛ أي: صفرتها خالصة جدًا.

وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي يدخل السرور على من نظر إليها لكمالِ حُسنها، وذكروا في قصتها أنَّ الشمس تتوضح في جلدها لشدة حسنها، وعادةً إذا نظر الإنسان إلى شيء جميل سَرَّهُ النظر إلى ذلك الشيء الجميل، ولذا قال جلَّ وعلا:{تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .

وقوله: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} فالسؤال الأول: عن سنها وهل هي كبيرة أو صغيرة أو متوسطة، والسؤال الثاني: عن لونها وقد تقدم الجواب فيهما، والسؤال الثَّالث: عن صفتها هل هي مُذَلَّلَة مُرَوَّضة عاملة، أو هي صعبة غير مروضة، وهل فيها لون يخالف لون جلدها الآخر، ولذا أجابه بما يأتي:{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} يعنون: هذه الأوصاف كثيرةٌ في البقر، فيكثر في البقر الصفرة والفقوع والتوسط في السِّن، فلم تتميز لنا هذه البقرة من غيرها من البقر للاشتراك في الصفات.

ص: 217

وأفرد الضمير في {تَشَابَهَ} وذلك يدل على أن أسماء الأجناس يجوز تذكيرها وتأنيثها، وقراءة الجمهور هنا {تَشَابَهَ} هو أي: البقر بصيغة الماضي وتذكير الضمير لأن البقر جنسٌ يجوز تذكيره وتأنيثه، وفي بعض القراءات:{تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ، وأصله تتشابه هي؛ أي: البقر فأَدغم التاء في التاء، وهذه قراءةُ شاذة، والبقر يجوز تذكيره وتأنيثه، وهو اسم جنسٍ يقال فيه باقر، وبيقور، وفيه لغاتٌ غير ذلك ومن إطلاقه على البَيْقور قول الشاعر:

أجاعلٌ أنت بيقورًا مسلَّعة

ذريعة لك بينَ اللهِ والمَطَرِ

قيل سُمِّيَ البقر بقرًا لأنه يبقر الأرض يعني بحيث يشقها للحرث.

وهذا معنى قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} مفعول المشيئة محذوف، وتقرير المعنى: وإنَّا لمهتدون إنْ شاء الله هدايتنا، ففصل بين اسم إن وخبرها، وحذف مفعول (إنْ شاء) لدلالة المقام عليه، وتقرير المعنى: وإنا لمهتدون إلى نفس البقرة المطلوبة إنْ شاء اللهُ هدايتنا إليها، وذكر عن ابن عباس أنَه قال: لو لم يقولوا إنْ شاء الله لما اهتدوا إليها أبدًا.

{قَالَ إِنَّهُ} أي: ربكم جَلَّ وعلا يقول: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ}

ص: 218

الذلول هي التي ذُلِّلَت بالرياضة حتى صار يعمل عليها؛ أي: يحرث عليها ويُستقى، تقول العرب مثلًا: هذه دابة ذلول بينة الذِّل بالكسر، ورجلٌ ذليل بيِّنُ الذُّل بالضم، إنَّها بقرة لا ذلول؛ أي: لم تذلل بالرياضة بلْ هي صعبة متوحِّشة.

وقوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} يعني لم تذلل ليست بذلول مُرَوَّضة، ولا تثير الأرض أي لا يحرث عليها لأن البقر تثارُ عليها الأرض للحرث، وهذه البقرة لم تذلل بالرياضة ولم تثر أرض الحرث لصعوبتها وتوحشها، فليست مروضة يعني ليست ممَّا يحرث عليه ولا مما يُستنى عليه لسقي الزرع لأنها صعبة متوحشة، وهذا هو التحقيق أن تثير وتَسقي كلها معطوفاتٌ على النفي فهي منتفية، والمعنى لا ذلول ليست مذلَّلة مروَّضة تثير الأرض للحرث، ولا تسقي الحرث أيضًا لأنها صعبةٌ متوحشة، خلافًا لمن زعم أنَّ تثير الأرض مستأنفٌ، والذين قالوا تثير الأرض يرد قولهم أنَّه قال: لا ذلول، والمروضة للحرث ذلول.

وأجاب بعضهم: أن المراد بتثير الحرث تثير الأرض؛ أي: تثيرها بشدة وطء أظلافها لنشاطها وقوتها، وهذا خلاف الظاهر بل معنى الآية أن من صفات هذه البقرة: أنها غير مروضة وغير مذللة فليست تثير الأرض لأنها لم تذلل لذلك ولا تسقي الحرث ولا

ص: 219

يُستنى عليها لأنها لم تُروَّض، ولم تذلَّل لذلك، وهذا معنى الآية.

وقوله: {مُسَلَّمَةٌ} ؛ أي: من جميع العيوب ليس بها عَرَجٌ ولا عَوَرٌ ولا كسر قرن، ولا أي عيب: أي: مسلمةٌ من جميع العيوب.

وقوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا} وزن الشِّيَة علة، وأصل مادتها: وَشَى، والمعروف أن المثال -أعني: واويَّ الفاء- يَطَّردُ حذفُ فائه في المصدر إذا كان على علَةِ، وكذلك في المضارع، والأمر كما عقده في الخلاصة بقوله:

فا أمرٍ أوْ مُضارع مِنْ كَوَعَدْ

أحْذف وفي كعِدةٍ ذاك اطَّردْ

فأصل الشِّيَة وشْيَة من الوَشْي، والوشيُ هو مثلًا أن يكون في الشيء لونانِ مختلفان، فكلُّ شيء فيه لونان مختلفان تقول العرب: فيه وشيٌ، وإذا كان مثلًا حمار الوحش أو الثور فيه خطوطٌ تخالف لونه في أرجله يقولون له: موشى، ومن هذا قول نابغة ذبيان:

كأنَّ رحلي وقد زالَ النهارُ بنا

بذي الجليلِ على مستأنسٍ وَحَدِ

من وحشِ وجرةَ موشىًّ أكارعُهُ

طاوي المصيرِ كسيفِ الصَّيقلِ الفَرَدِ

موشى أكارعه يعني أنها فيها شيٌ؛ أي: خطوط تخالف لونه، فمعنى:{لَا شِيَةَ فِيهَا} ؛ أي: لا وَشْيَ للخطوط المخالفة

ص: 220

للونها، بل لونها كله أصفر فاقع على وتيرة واحدة، حتى قال بعض العلماء: إن أظلافها وقرونها صفر، وهذا معنى قوله:{لَا شِيَةَ فِيهَا} .

{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} الألف واللام زائدتان لزومًا في {الْآنَ} ويعَبَّرُ عنها بالوقت الحاضر، وبعض العلماء يقول: هو مبني على الفتح لأنه خولفت به نظائره، وعلى كل حال فالمراد بالآن الوقت الحاضر، في هذا الوقت الحاضر جئتَ في صفات هذه البقرة المطلوبة بالحق، ويتعيَّن هنا حذف الصفة لأنَّه لو لم تقدَّر الصفة لكانوا كفارًا؛ لأنهم لو قالوا: لم يأت بالحق إلا في هذا الوقت -فقبل هذا الوقت لم يكن آتيًا بالحق-، كانوا مكذبين لنبي كريم، ومن كذَّب نبيًا كريمًا فهو كافر، ولذلك يتعين تقديم النعت هنا، والمعنى جئتَ بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبْسًا لإيضاحها بصفاتها الكاشفة تمامًا، وتقرَّرَ في علم العربية أنَّ حذف الصفة إذا دَلَّ المقام عليه موجودٌ في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن:

{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] حُذف نعتها؛ أي: كل سفينة صحيحة، إذ لو كان يأخذ المعيبة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدةٌ ولما قال:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} .

ص: 221

قال بعض العلماء: ومنه: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء: 58] قالوا حذف وصفهُ؛ أي: وإن من قرية ظالمة بدليل قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

ومن شواهد حذف النعت في لغة العرب قول الشاعر وهو المرقّش الأكبر:

ورُبَّ أسيلةِ الخدَّينِ بكرٍ

مُهَفْهَفَةٍ لها فرعٌ وجيدُ

أي: لها فرع فاحِمْ وجيدٌ طويل، ومن هذا القبيل قول عَبيد بنِ الأبرص الأسدي:

مَنْ قولُهُ قولٌ ومَنْ فعلُهُ

فعلٌ ومَنْ نائلُهُ نائلُ

يعني: مَن قولُهُ قولٌ فَصْلٌ، ومَن فعله فعل جميلٌ، ومن نائلُهُ نائلٌ جزلٌ، فحذف النعوت بدلالة المقام عليها، وهذا كثير في كلام العرب، وإنْ ذكر ابن مالك في الخلاصة أنَّ حذف النعت قليلٌ حيث قال:

وما من المنعوتِ والنَّعتِ عُقِلْ

يجوزُ حذفُهُ وفي النَّعتِ يَقِلْ

وهذا معنى قوله: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} ؛ أي: جئت في الوقت الأخير بالحق الذي لا يترك في هذه البقرة لبسًا، ولا

ص: 222

يتركها تتشابه مع غيرها من البقر لأنها بُيِّنَتْ بصفاتها الكاشفة التي تفصلها وتميزها عن غيرها.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة جواز السَّلَم في الحيوانات؛ لأنَّها تنضبط بصفاتها الكاشفة حتى تصير كالمرئية؛ لأنَّ هؤلاء الناس لا يوجد ناس أشدُّ منهم تعنتًا فاضطرتهم الصفات الكاشفة إلى أن اعترفوا بأن هذه البقرة ظهرت صفاتها، وتميَّزت عن غيرها، ويدلُّ لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الصفات الكاشفة تقوم مقام النظر لأنها تُعَين الموصوف.

وهذا دليلٌ واضحٌ لما ذهب إليه جمهور العلماء من السَّلَف في الحيوانات إذا بُيِّنَت صفاتها؛ لأنَّ الوصف يجعلها كالمرئية ويثبتها؛ خلافًا للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي منع السَّلَم في الحيوانات بناءً على أنها لا تنضبط صفاتها، ومما يؤيد السلم فيها خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه استسلف بكرًا وردَّ رَباعيًا، وكما دلت عليه هذه النصوص.

قال بعض العلماء: ويؤخذ من هذه القصة أيضًا جواز النسخ قبل التمكن من الفعل لأن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} نكرة

ص: 223

في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات إطلاقٌ، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت لصدقت باسم تلك البقرة المطلقة ولأجزأتهم، ولمّا شدَّدوا نَسَخَ اللهُ الاكتفاء ببقرة مجرَّدة أيَّة كانت إلى بقرة موصوفة بصفاتٍ منعوتةٍ بنعوتِ كثيرة شديدة، ومن هنا قال بعض العلماء: هذه من الأدلة على النسخ قبل التمكن من الفعل، وقال بعض العلماء: هذا لا يصلح مثالًا لجواز النسخ قبل التمكن من الفعل؛ لأنَّ هذا حكم زيدت فيه صفات ولم ينسخ ذبح البقرة بالكليَّة بل بقي محكمًا، وإنما زيدت في البقرة صفات، وأجاب القائلون بأنَّه نسخ قالوا: زيادة هذه الصفات تضمَّن نسخًا في الجملة، لأن مضمون النصِّ الأول يدل على أن كل بقرة ذُبِحَتْ كائنة ما كانت ولو مجردة عن تلك الصفات لأجزأت، فوصْفُها بالصفات الجديدة نسخٌ للاكتفاء بأي بقرة كانت.

وعلى كل حال فهذه مسألة أصولية هي مثلًا: هل يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل أو لا يجوز؟ والجماهير من العلماء على أنَّه جائز وواقع، ومن أمثلته نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء بعد أنْ فرضت خمسين، ونُسخ منها خمس وأربعون بينما أُقرت خمسًا، ومن أمثلته قوله جل وعلا في قصة ذبح إبراهيم لولده:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]؛ لأنَّه

ص: 224

أمره أنْ يذبح ولده، ونسخ هذا الأمر قبل التمكن من الفعل، والتحقيق أنَّ هذا جائز وواقع، ولا شك أن فيه سؤالا معروفًا وهو أن يقول طالب العلم: إذا كان الحكم يشرع ويُنسخ قبل العمل فما الحكمة في تشريعه الأول إذا كان ينسخ قبل العمل به؟

فالجواب: أنَّ التحقيق أن حكمة التشريع منقسمة قسمة ثنائية فهي دائرة بين الامتثال والابتلاء، فإذا نسخ الحكم بعد العمل به فحكمته الامتثال، وقد امتُثِل، وإذا نسخ قبل العمل به فحكمة تشريعه الأول الابتلاء، وهو اختبار الخلق هل يتهيَّؤون للامتثال وقد وقع الابتلاء، وقد نص اللَّه عز وجل في قصة إبراهيم على أن الحكمة في أمره بذبح ولده -مع أنَّ الله يعلم أنه لا يمكِّنُهُ من ذلك- هي الابتلاء هل يتهيَّأ ويطيع ربَّه فيذبح ثمرة قلبه كما قال جلَّ وعلا:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ؛ أي: تَلَّه للجبين لينفذ فيه الذبح حتى قال له ربه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105]، وقال:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، ثم إنَ الله نصَّ على أنَّ الحكمة الابتلاء بقوله:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106].

وقوله عز وجل: {فَذَبَحُوهَا} ؛ أي: فذبحوا البقرة وضربوه بجزء منها، فحيي وأخبرهم بقاتله كما يأتي، وقوله: {وَمَا كَادُوا

ص: 225

يَفْعَلُونَ} يعني وما كادوا يذبحونها إلا بعد جهد جهيدٍ لِمَا جاءوا به دون ذبحها من السؤالات والتعنتات.

وقول بعض العلماء: إن {كَادَ} إذا كانت في الإثبات دلت على النفي وإذا كانت في النفي دلت على الإثبات، وأن هذا يلغز به هو في الواقع غير صحيح، وإذا نُفيت نفيت المقاربة، يعني ما قاربوا أنْ يذبحوا يعني زمن التعنت والأسئلة حتى انقضى زمن التعنت والأسئلة في آخر الأمر ذبحوها، والقرينة على أن هذا هو المراد أنه صَرَّحَ بأنَّهم ذبحوها أي فذبحوها في الآونة الأخيرة، وما كادوا قبل ذلك يفعلون لتعنتهم وكثرة سؤالاتهم وعدم امتثالهم، وهذا معنى قوله:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} وإذ قتلتم معطوف على قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} ، وقوله:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ} هو أول القصة في الوقوع ولكنه متأخر في النزول وترتيب القرآن، هذا هو الظاهر؛ أي: واذكروا إذ قتلتم نفسًا، هو القتيل المتقدم، قيل اسمه (عامي) والعرب تعبِّر عن الشخص بالنفس تقول قتل نفسًا أي شخصًا ذكرًا كان أو أنثى، والظاهر أن هذا القتيل كان ذكرًا بدليل تذكير الضمير العائد عليه في قوله:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} ؛ أي: القتيل الذي فيه النِّزاع،

ص: 226

وهنا سؤال: هو أنْ يقال ما المُسَوِّغ في إسناد قَتْلِ هذا القتيل إلى جميعهم في قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} .

والجواب: أن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبين، ومن أساليب اللغة العربية إسناد الأمر إلى جميع القبيلة إذا فعله واحد منها، ونظيره في القرآن قراءة حمزة والكسائي:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، لأنَّه ليس من المعقول أمر مَنْ قُتِلَ بالفعل أن يَقْتُلَ قاتله، ولكن إنْ قتلوا بعضكم فليقتلهم البعض الآخر، أسند الفعل إلى الجميع وهو واقع من البعض، وهذا أسلوبٌ معروفُ في لغة العرب، ومنه قول الشاعر:

فإنْ تقتلونا عندَ حَرّةِ واقم

فإنَّا على الإسلامِ أولُ من قُتِلْ

ونحنُ قتلناكمْ ببدرِ أذلَّةً

وجئنا بأسلابٍ لنا منكمُ نفلْ

أي تقتلوا بعضنا.

وقوله: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أصله فتدارأتم فيها وهو تفاعل من الدَّرء بمعنى الدَّفع، والقاعدة المقرّرة في علم العربية أن تَفاعَل وتفعَّل. مثلًا إذا أريد فيهما الإدغام استبدلت همزة الوصل إذ لم يمكن النطق بالسّاكن؛ لأنَّ العرب لا تبدأ بالساكن.

ص: 227

أصله تدارأتم فأريد إدغام تاء التفاعل في الدّال التي هي فاءُ الكلمة، فسكن لأجل الإدغام، واستبدلت همزة الوصل توصُّلًا للنطق بالساكن، وهذا كثيرٌ في القرآن في تفاعل وتفعَّل نحو:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، أصله تثاقلتم، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ} [النمل: 47]، أصله تطيَّرنا، {وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا} [يونس: 24]، أصله تزينت إلى غير ذلك، ونظير هذا الإدغام في تفاعل ونحوها من كلام العرب قول الشاعر:

تُولي الضجيعَ إذا ما التذَّها خَصِرًا

عَذْبَ المذاقِ إذا ما اتَّابعَ القُبَلُ

يعني إذا ما تتابع القبل.

ومعنى: {فَادَّارَأْتُمْ} تدارأتم من الدَّرء، والدَّرء معناه الدفع، والمعنى تدافعتم قتل القتيل؛ أي: كلٌّ منكم يَدْفع قتله عن نفسه إلى صاحبه، بأنْ يقول هؤلاء: قتلهُ هؤلاء، وهؤلاء يقولون: بل أنتم الذين قتلتموه ونحن لم نقتله، واختلاف العلماء في معنى فادَّارأتم؛ أي: تنازعتم، وقول بعضهم: فادارأتم اختلفتم، كلُّهُ عائدُ إلى ما ذكرنا. وقوله:{فِيهَا} أنَّث الضمير لأنه راجعٌ إلى النفس من قوله: {فِيهَا} ؛ أي: في النفس المقتولة كلُّكم يدفع قتلها عن نفسه إلى صاحبه: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} مخرجٌ

ص: 228

اسم فاعل أخرج؛ أي: مظهرٌ ما كنتم تكتمون، وما موصولة، والعائد محذوف لأنه منصوب بفعل على حدِّ قوله في الخلاصة:

. . . . . .

والحذفُ عندهم كثيرٌ مُنْجل

في عائدٍ متصل إن انتصبْ

بفعل أو وصْفٍ كمَنْ نرجو يهبْ

وتقريره: والله مخرج الذي كنتم تكتمونه من أمر القتيل، وكذلك أسند الكتم هنا للجميع والكاتم هو القاتل، وقال بعض العلماء: القتلة جماعة تمالؤوا على قتله فقتلوه ليرثوه.

ومعنى قوله: {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ؛ أي: مخرج الذي كنتم تكتمونه، أسند الكتم إلى الكل، وأراد بعضهم سواء قلنا إنَّ القاتل واحد أو جماعة.

وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي وهو أنَّ {مَا} مفعول به لاسم الفاعل الذي هو مخرج، والقصة التي هي هذه قصة ماضية قبل نزول الآية الكريمة لأنها واقعة في زمن موسى، فهي في وقت نزول الآية ماضية مضتْ لها أزمان كثيرة، والمقرَّر في علم العربية أن اسم الفاعل إذا لم يُحَلَّ بالألف واللام لا يعمل إلا إذا كان مقترنًا بالحال أو الاستقبال، فلا يعمل مقترنًا بالماضي، وهنا

ص: 229

عَمِلَ وهو مقترنٌ بزمن الماضي، هذا وجه السؤال.

والجواب: أنَّه إنَّما أعمل اسم الفاعل في هذا المفعول لأن هذه حكاية حال ماضية في وقتها، وإنَّما حكيتْ الحال في وقتها فكأنها في وقتها؛ لأن الحكاية تحكى فيها الأحوال في حال وقتها، ونظيرُ هذا يُجاب به عن قوله جَلَّ وعلا:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18] لأنها أيضًا حكايهُ حالٍ ماضيةٌ، وهي في وقتها حالية مطابقة للزمن الحالي.

والآية تدل على أنَّ مَنْ فعل سوءًا وكتمه أنَّ الله يظهره، وغالبًا لا يُسِرُّ الإنسان سريرةٌ إلا ألبسَهُ الله رداءَها، وكان بعض العلماء يقول: لو عمل الإنسان الشرَّ في غاية الخفاء لابد أن يظهره الله كما يفهم من قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} صيغة الجمع للتعظيم، والفاء عاطفة للجملة على ما قبلها، أعني: تدارأتم في القتيل فقلنا لكم اضربوه ببعض البقرة لنبين لكم الواقع، وتعرفون القاتل، وينتهي النزاع، {فَقُلْنَا} صيغة الجمع للتعظيم، {اضْرِبُوهُ}؛ أي: القتيل، فالضمير راجع للقتيل المفهوم من النفس في قوله:{نَفْسًا} فأنَّثَ الضمير باعتباره لفظ النفس، وذكَّرهُ باعتبار معناها

ص: 230

لأن القتيل ذكر، وقد يكون الذكر يُعَبَّرُ عنه بلفظ المؤنث ليكون التأنيث مراعاةً للفظ، والتذكير مراعاةً للمعنى ومنه في كلام العرب قولُ الشاعر:

أبوكَ خليفةٌ ولدَتْهُ أخرى

وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكمالُ

فأنَّثَ خليفة، وأطلق عليه لفظ أخرى نظرًا إلى تأنيث لفظه، مع أنه يجوز تذكيره لأنَّهُ رجل، فقلنا لهم: اضربوا القتيل ببعض هذه البقرة، فضربوه ببعضها فحيي، وهذا البعض الذي ضربوه به منها اختلف فيه المفسِّرون منهم مَنْ يقول هو لسانها، ومنهم مَنْ يقول فخذها، ومنهم مَنْ يقول عجب ذنبها، ومنهم مَنْ يقول غضروف أذنها.

والحق أن هذا البعض الذي ضربوه به منها لا دليل عليه ولا جدوى في تعيينه وكثيرًا ما يولع المفسِّرون بالتعيين لأشياء لم يرد فيها دليل من كتاب ولا سنة، ولا جدوى تحت تعيينها، فيتعبون بما لا طائل تحته، كاختلافهم في خشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم كان عرض السفينة وطولها، وكم فيها من الطبقات، وكاختلافهم في الشجرة التي نُهِيَ عنها آدم وحواء أيُّ شجرة هي، وكاختلافهم في كلب أصحاب الكهف ما لونه هل هو أسود أو أصفر، وكثيرًا من هذه الأمور التي يختلفون فيها، ولا طائل

ص: 231

تحتها، ولا دليل عليها من كتابٍ أو سنة، وغاية ما دلَّ عليه القرآن أنهم ضربوه ببعض تلك البقرة غير معين، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}؛ أي: ضربوه ببعضها فحيي بإذن الله فأخبرهم بقاتله ثم عاد ميتًا، ولم يرثه قاتله الذي قتله.

قال بعض العلماء: ومن ذلك اليوم لم يرث قاتل عمدًا، وعامة العلماء على أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدًا أو خطأً لا من المال ولا من الدية، وعن مالك بن أنس رحمه الله التفصيل بين الدِّية والمال في خصوص القتل خطأ، قال: إنَّ القاتل خطأ يرث من المال، ولا يرث من الدِّية، والجمهور على خلافه، وشذَّ قوم فوَرَّثوه من المال والدية في القتل خطأً.

وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} يعني كما أحيا الله هذا القتيل، وهذا الجمُّ الغفير من النّاس ينظرون، كذلك الإحياء المشاهَد يحيي الله الموتى يوم القيامة، فهو دليل قرآني على البعث؛ لأنَّ مَنْ أحيا نفسًا واحدة فهو قادر على إحياء جميع النُّفوس؛ لأن ما جاز على المثل يجوز على مماثله، فاللَّه جلَّ وعلا يقول:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وهذه الآية الكريمة تؤخذ منها فوائد:

ص: 232

منها أن الخالق الفاعل كيف يشاء هو رب السماوات والأرض، وأنَّ الأسباب لا تأثير لها إلا بمشيئة الله، وأن الله يسبِّب ما شاء من الأسباب، ولو لم تكن بين السَّبَب والمسبَّب مناسبة، وهذا القتيل لو ضرب بالبقرة وهي حية لقال قائل جاهل اكتسب الحياة من حياتها، فالله -جلَّ وعَلا- أمرهم أنْ يذبحوها فتكون ميتة، وأنْ يأخذوا قطعة ميتة منها لا حياة فيها فيضربوا بها هذا القتيل فيحيا، فضربُهُ بهذه القطعة الميتة من هذه البقرة المذبوحة كان سببًا لوجود حياته، وهذا السَّبب لا مناسبة بينه وبين المسبَّب، فدلَّ على أن خالق السماوات والأرض يفعل ما يشاء كيف يشاء، ويرتِّب ما شاء من الأسباب باختياره وقدرته ومشيئته، ولو لم تكن هناك مناسبة بين السَّبَب والمسبَّب.

أخذ مالك رحمه الله دون عامَّة العلماء من هذه الآية حكمًا هو أنَّه يُثبت القَسامة بقول المقتول: دَمي عند فلان؛ لأنَّ هذا المقتول لما حيي أخبرهم أن قاتله فلان، وأنَّهم عملوا بقوله، قال مالك: فعملهم بقوله الذي دلَّ عليه القرآن دليلٌ على أنَّ مَنْ قال قتلني فلان أنَّه يعمل بقوله، ومن هنا جَعَلَ قول المقتول إذا أُدرك وبه رَمَقٌ وقيل له مَنْ ضربك؟ فقال لهم: قتلني فلان، أو دمي عند فلان، فهذا لوث عند مالك تُحلف معه أيمان القسامة، ويستحق

ص: 233

به الدَّم أو الدية على التفصيل المعروف فيما يستحق به القسامة من عمد أو خطأ.

وخالف مالكًا في هذا الفرع عامَّةُ العلماء، فقالوا: قول القتيل دمي عند فلان لا يمكن أن يُسوِّغ القسامة؛ لأنَّه لو قال: لي درهم على فلان، أو أطالب فلانًا بكذا لا يثبت بذلك شيءٌ فكيف يثبت به القَتْل والدَّم المعصوم، ومالك استدل بهذه القصة، واستدل أيضًا بأن الإنسان إذا كان في آخر عَهْد من الدُّنيا زال غرضه من الكذب، وصار منتقلًا إلى دار الآخرة، وصارت الدَّواعي إلى الكذب بعيدة جدًا في حقه، فالذي يغلب على الظن أنَّه لا يخبر إلا بواقع.

وأجاب الجمهور عن هذه القصة قالوا: لا يُقاس عليها غيرها؛ لأنَ هذا قتيل أحياهُ الله معجزةً لنبي أخبرهم مثلًا أنه يحييه، وأنَّه يخبرهم بمن قتله، وهذا الإخبار مستندٌ إلى دليل قطعي، فليس كإخبار قتيل آخر، وأجاب ابن العربي في أحكامه عن هذا قال: المعجزة إنما هي في إحياء القتيل أمّا كلام القتيل، فهو كسائر كلام الناس يجوز في حقه أنْ يكون حقًا، وأنْ يكون كذبًا، وعلى كل حال فهذا الفرع خالف فيه مالكًا جمهورُ العلماء.

ص: 234

وقوله جل وعلا: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} فيه دليل على أنَّ قصَّة إحياء هذا القتيل من الأدلة على البعث، وقد بينا فيما مضى خمسة أمثله منها في هذه السُّورة الكريمة. وقوله:{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يريكم مضارعُ أرى أصلها يُرْئيكم آياته؛ أي: يبينها لكم حتى ترونها. {آيَاتِهِ} : الآية تطلق في اللغة إطلاقين، وتطلق في القرآن إطلاقين، وجمهور علماء العربية أنَّ أصل وزن الآية أيية فهي وَزْنُها فَعَلَة فاؤها همزة، وعينها ياء، ولامها ياء، اجتمع فيها موجبًا إعلال على القاعدة المقرَّرة في التَّصريف التي عقدها في الخلاصة بقوله:

من واوٍ أو ياءٍ بتحريكٍ أصلْ

ألفًا ابْدلْ بعد فتحٍ متَّصِلْ

والأصل المشهور أنْ يكون الإعلال في الأخير، فالجاري على القياس أنْ يُقال: أياه، فتبدل الياء الأخيرِة ألفًا إلا أنّه أبدلت هنا الياء الأولى.

وإعلال الأول من الحرفين اللذين اجتمعا فيهما موجبا إعلال موجود في القرآن، وفي كلام العَرَب كآية وغاية، والآية تطلق في لغة العرب إطلاقين؛ تطلق الآية على العلامة، وهذا إطلاقها المشهور، ومنه قول نابغة ذبيان:

ص: 235

توهَّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها

لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

ثمَّ صَرَّحَ بأنَّ مراده بالآيات علامات الدَّار بقوله:

رمادٌ ككُحلِ العينِ لَأْيًا أبينُهُ

ونؤيٌ كجذمِ الحوضِ أثلمُ خاشعُ

ومن هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} ؛ أي: علامة مُلْكِهِ {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248].

وتطلق الآية على الجماعة، تقول العرب: جاء القوم بآيتهم أي بجماعتهم، ومنه قول البرج بن مُسَهَّر:

خرجنا من النِّقبين لا حيَّ مثلنا

بآيتنا نُزجي اللِّقاحَ المطافِلا

والآية تطلق في القرآن إطلاقين: آية كونية قدرية كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وهذه الآية الكونية القدرية من الآية بمعنى العلامة بالاتفاق؛ أي: لعلامات على كمال قدرة مَن وضعها، وأنَّه الربُّ وحده المعبودُ وحده، وتطلق الآية في القرآن بمعناها الشرعي الدِّيني كقوله:{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: 11]؛ أي: آياته الدِّينية الشرعية، والآية الدِّينية الشرعية قيل من العلامة؛ لأنَّها علامات على صدق من جاء بها بما فيها من الإعجاز، ولأن لها مبادئ ومقاطع علامات على انتهاء هذه الآية وابتداء

ص: 236

الأخرى، وقال بعض العلماء: هي من الآية بمعنى الجماعة، لأنَّ الآية كأنَّها نبذة وجماعة من كلمات القرآن تتضمن بعض ما في القرآن من الإعجاز، والأحكام، والعقائد، والحلال، والحرام، وعلى هذا {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يعني: يجعلكم ترونها واضحة؛ أي: علامات واضحة على كمال قدرته، وإحيائه للموتى، وأنه يبعث الناس بعد أنْ يموتوا.

{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يعني لأجل أنْ تدركوا بعقولكم أنه جلَّ وعلا يُحيي النَّاسَ بعد الموت، ويبعثهم من قبورهم، وأنَّه القادر على كل شيء، وأنَّه المعبود وحده، وتعقلون: معناه: تدركون بعقولكم.

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قال بعض العلماء: {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} للاستبعاد؛ لأنَّ هذا الذي نظروه من آيات الله وعبره، وإحيائه للقتيل سببٌ عظيمٌ لإحياء القلوب، فقسوة القلوب بعد المشاهدة من الأمر المستبعَد، ولذا قال:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الأمر الذي عاينتموه، وهو إحياء القتيل الذي هو أعظمُ سببٍ

ص: 237

للين القلوب، فثُم هنا للاستبعاد كما قاله بعض العلماء، ونظيره من إتيان {ثُمَّ} للاستبعاد قوله تعالى في أول سورة الأنعام:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ لأن مَنْ خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور يُستبعَد جدًّا أنْ يُجعَل له عديلٌ ونظير.

ونظير {ثُمَّ} للاستبعاد من كلام العرب قولُ الشاعر:

ولا يكشفُ الغمَّاءَ إلا ابنُ حُرَّةٍ

يرى غمراتِ الموتِ ثم يَزُورها

لأنَّ مَنْ رأى غمرات الموت تُستبعد منه زيارتها.

والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} عائدة إلى ما ذكر من إحياء القتيل لمَّا ضُرب بالجزء من البقرة الميتة، ومعنى قسوة القلوب: شِدَّتها وصلابتها حتى لا يدخلها خير؛ لأن الشيءَ القاسي ليس بقابلٍ لدخول شيء فيه، فقلوبهم صلبة شديدة نابية عن الخير لا يدخلها وعظ ولا ينجح فيها خير، والسَّبب الذي قست به قلوبُهُم نَهَى الله عن ارتكابه المسلمين في قوله:{وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

ص: 238

وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} ؛ أي: في شدَّة القسوة والصلابة، فكما أنك لو أردت أن تدخل ماءً أو دهنًا في جوف حجر صلب أصم لا يمكن لك ذلك، أي: لا يمكن أنْ تدخل في قلوبهم خيرًا، ولا موعظة، ولا شيئًا ينفعهم لقساوتها عياذًا بالله.

وقوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أو أشد: مرفوعٌ عطفًا على الكاف من قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أي: فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة؛ لأن الكاف بمعنى مثل، وقيل عطف على محلِّ الجار والمجرور لأنَّه محل رفع خبر مبتدأ؛ أي: فهي كالحجارة أو فهي أشد قسوة، وقسوة تمييز محوَّل عن الفاعل؛ لأنَّه بعد صيغة التفضيل على حدِّ قوله في الخلاصة:

والفاعلَ المعنى انصبنْ بأَفعلا

مفضلًا كانتَ أعلى منزلًا

لأنَّ قسوةً تمييز فاعل في المعنى، فنصب بأفعل مفضَّلا تمييزًا محوَّلًا عن الفاعل.

ثم الله جلَّ وعلا بَيَّنَ أنَّ قلوبهم أشد قسوةً من الحجارة قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} يعني: أنَّ بعض الحجارة ربما لانَ: بعضها يتفجَّر منه الماء، وبعضها ربما لانَ فتشقق فخرج منه الماء، وقلوبهم لا تلين ولا ينفجر منها خير لا قليل ولا كثير.

ص: 239

وفي هذه الآية الكريمة سؤالٌ معروفُ وهو أنْ يقول طالب العلم: ما معنى {أَوْ} في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، والمخبر بهذا الكلام جلَّ وعَلا يستحيل في حقِّهِ الشك، فما معنى {أَو} في قوله: كالحجارة أو أشد قسوة؟.

وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفةٌ أظهرها أنَّ "أوْ" للتنويع، و"أوْ" التي هي للتَّنويع تدلُّ على نوع، والمعنى أن منهم نوعًا قلوبهم كالحجارة، وهنالك نوع آخر دَلَّت عليه "أوْ" التَّنويعية أقسى قلوبًا من هؤلاء.

قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على إيمان اليهود وغيرهم من أهل الكتاب؛ لأنَّ عندهم علمًا من الكتب السَّماوية المتقدِّمة، ولو آمنوا لكان ذلك داعيًا إلى إيمان غيرهم لما عندهم من العلم فقنَّطه الله في هذه الآية الكريمة من إيمان اليهود، وأنكر عليه أنْ يعلِّقَ طَمَعَهُ بشيء لا مَطْمَع فيه قال:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أتعلِّقون الطمع بما لا طمع فيه، {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أَنْ يتَّصفوا بالإيمان لكم؛ أي: لأجل دعوتكم وطلبكم منهم الإيمان، والعادة في القرآن أن الإيمان إذا كان تصديقًا بالله جلَّ وعلا عُدِّيَ بالباء، فنقول: يؤمنون بالله،

ص: 240

آمنت بالله، وإذا كان تصديقًا للبشر عُدِّيَ باللَّام، وهذا معروفٌ من استقراء القرآن كقوله هنا:{أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} ؛ أي: يصدقوكم، ويتبعوكم في هذا الدين الحنيف، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]؛ أي: بمصدِّقنا في أن يوسف أكله الذئب: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، وقوله:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، وجمَعَ المثالين قوله:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، والمعنى أنَّ الله أنكر عليهم الطَّمع بإيمانهم؛ لأنَّهم لا مطمع في إيمانهم، ثم بيَّن صعوبة الإيمان عليهم وبُعدَهُم منه، قال:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} يعني أتطمعون بإيمان قوم هم بهذه المثابة من العناد، واللَّجاج، وعدم امتثال الأوامر، والحال:

{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الفريق: الطائفة من الناس، ويجوز انقسام النَّاس إلى جماعات متعدِّدَة، ولا يلزم أنْ يكونوا فريقين فقط، بل يجوز أنْ يكونوا فريقين أو أكثر، ومن هذا المعنى قول نُصيب:

وقال فريقُ القومِ لا وفريقُهُمْ

نعمْ وفريقٌ قالَ ويحكَ لا نَدْري

اختلف العلماء في المراد بهذا الفريق الذين سمعوا كلام الله،

ص: 241

وحرَّفوه بعدما عقلوه، قال جماعة: هذا الفريق هم علماؤهم، ومعنى يسمعون كلام الله: يسمعون كلام الله يُتلى في كتابه التوراة، ويفهمونه، ثُم يُحَرِّفونه من بعد ما عقلوه، أي: من بعد ما أدركوه بعقولهم، فيجدون فيه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم أبيض فيحرِّفونها إلى أسمر، ويجدون من صفاته رَبْعة فيحرِّفونها إلى أنَّه طويل مشذّب، ونحو ذلك من تغيير الصفات.

وعلى هذا الوجه فالفريق الذين يسمعون كلام الله هم العلماء؛ يسمعون كتاب الله التوراةَ يُتلى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} يعني: يبدلونه ويُحَرِّفونه، ويجعلون فيه ما ليس فيه؛ لأنَهم يحلُّون حرامه، ويُحرِّمون حلاله، ويُغيِّرون فيه صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وينكرون بعض آياته كآية الرجم وما جرى مجرى ذلك من التحريف، وعلى هذا القول فالفريق: العلماء منهم بالتوراة، وتحريفهم له معروف.

فإذا كان خيارهم وعلماؤهم يعقلون عن الله كلامَهُ في كتابه ثم يُغيرونه، ويُحرِّفونه، ويحملونه على غير محمله فما بالكم تطمعون في أنَّ مثل هؤلاء يؤمنون لكم ويهتدون إلى خير.

الوجه الثَّاني: أن هذا الفريق هم السَّبعون الذين اختارهم موسى؛

ص: 242

المذكورون في سورة الأعراف في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155]، ومَنْ قال هذا القول قال: إنَّهم لَمَّا خرجوا مع موسى للميقات، سألوه أنْ يسأل الله أنْ يُسمعهم كلامه، فسأل لهم نبيهم ذلك، وأنَّه أمرهم أنْ يصوموا.

ولمَّا أراد الله أن يكلِّم موسى، وألقى عليه الضَّباب سمعوا كلام الله يأمر موسى وينهاه، فبعد أنْ سمعوا كلام الله وعقلوه حَرَّفوه، قالوا: سمعناه يقول في آخر الكلام: إنْ شئتم فافعلوا، وإنْ شئتم لا تفعلوا، فإذا كانوا يسمعون من الله كلامه، هذه السَّبعون المختارة منهم تسمع كلام الله وتُحَرِّفه وتُغَيِّره، فما بالكم تطمعون في إيمان مَنْ هذه صفتُهم، هذان الوجهان في قوله:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} .

وبيَّنا مرارًا أنَّ همزة الاستفهام الإنكاري إذا جاء بعدها حرفُ عطف (كالفاء) كما في قوله هنا: أفتطمعون، و (الواو)، أو (ثمَّ)، أن فيها للعلماء وجهين معروفين:

أحدهما: أنَّ همزة الاستفهام تتعلق بمحذوف دلَّ المقامُ عليه، والفاء تعطف الجملة التي بعدها على الجملة المحذوفة التي دلَّ المقام عليها، والمعنى: أتطمعون فيما لا طمع فيه، فتطمعون أنْ

ص: 243

يؤمنوا لكم ونحو هذا، أو ألا تعرفون الحقائق فتطمعون بما لا طمع فيه، والأحوال متقاربة، وإلى هذا الوجه مَيْلُ ابنِ مالكٍ في الخلاصة في قوله:

وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنا استبِحْ

وعطفُكَ الفعلَ على الفعلِ يصحْ

الوجه الثاني: أنَّ همزة الاستفهام مزحلقةٌ عن محلِّها، وأنَّها متأخرةٌ بعد الفاء إلا أنَّها قُدِّمت عن محلِّها؛ لأن للاستفهام صدر الكلام، وعلى هذا فالمعنى: فأتطمعون، فتكون الجملة معطوفة بالفاء على ما قبلها كأن المعنى: فأعطف على ذلك إنكار طمعكم في ما لا طمع فيه فيكون المعنى: فأتطمعون أنْ يؤمنوا لكم، والحال قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، التَّحريف يعني: وضعُ الشَيء في غير موضعه يسبقه أنْ يبدلوه بما ليس منه، وأنْ يُغَيِّروه، وأنْ يحملوه على غير محمله إلى غير ذلك من أنواع التَّحريف.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} ؛ أي: أدركوه بعقولهم، العَرَب تقول: عقلتُ الأمر أعقله إذا أدركتُهُ بعقلي، والعقل: نورٌ روحاني تُدرك به النفس العلوم الضَّرورية والنظرية، ومحلُّهُ القلب كما نَصَّ عليه الكتاب والسُّنة لا الدِّماغ كما يزعمه الفلاسفة، وبحوث العقل بحوث فلسفية لا طائل تحتها، فللفلاسفة في

ص: 244

بحث العقل ما يزيد على مائة طريق من جهة البحث في العقل هل هو جوهرٌ أو عرضٌ، والكلام على العقول العشرة، والعقل الفَيَّاض كله بحثٌ فلسفي لا طائل تحته.

وإنما قال عز وجل: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ؛ أي: تدركون بعقولكم؛ لأن العقل نورٌ روحاني تُدْرِكُ به النَّفسُ العلومَ الضَّرورية والنَّظرية، ودلَّ القرآن على أنَّ محله القلب لا الدِّماغ لأن الله يقول:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، ولم يقل: أدمغة يعقلون بها، ويقول:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولم يقل: لمن كان له دماغ، وفي الحديث الصَّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن في الجَسَدِ مضغة إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَت فَسد الجسدُ كُلُّهُ، ألا وهي القلب"، ولم يقل: ألا وهي الدِّماغ.

وجَمَعَ بعض العلماء بين قول أهل السُّنة وقول الفلاسفة بأنْ قال: إنَّ أصل العقل في القلب كما في الكتاب والسُّنة إلا أن نورَهُ يتَّصل شُعاعُهُ بالدِّماغ، واستدلوا على هذا بدليل استقرائيِّ عاديِّ، قالوا: في العادة المطّردة والاستقراء أنَّك لا تجد رجلا طويلَ العُنُقِ طولًا مفرطًا إلا كان في عقله بعضُ الدَّخَن لبعد ما بين طرفي شعاع نور عقله.

ص: 245

والتحقيق أن العقل في القلب كما دَلَّ عليه الوحي، واستدلوا بأن كلَّ ما يؤثِّر على الدّماغ يُؤثّر على العقل، وهذا لا دليل فيه لإمكان أنْ يكون العقل في القلب كما هو الحق، وسلامتُهُ مشروطة بسلامة الدِّماغ، وهذا لا إشكال فيه، والعقل الصَّحيح هو الذي يعقلُ صاحبَهُ عن الوقوع فيما لا ينبغي، كما قال جلَّ وعلا عن الكفّار:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] أمّا العقل الذي لا يزجر عما لا ينبغي فهو عقلٌ دنيويٌّ يعيش به صاحبه، وليس هو العقل بمعنى الكلمة.

وقوله جلَّ وعلا: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية يعني أنَّهم سمعوا كلام الله، وحرَّفوه بعد أنْ أدركوه بعقولهم وفهموه، والحال أنَّهم يعلمون أنَّهم حرَّفوه، وافتروا على الله (1). . . . فمن كان بهذه المثابة لا يطمع أحد في إيمانه. ثم إنَّ الله جلَّ وعلا ذكر طائفةً أخرى من اليهود هم منافقون في قوله:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 76 - 77]

(1) هذه العبارة غير واضحة في الشريط.

ص: 246

إذا: ظرف في معنى الشَّرط، العامل فيه دائمًا جزاءُ الشرط لا فعلُ الشَّرط، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة إلى الجمل؛ إلى جمل الأفعال خاصَّة كما قال في الخلاصة:

وألزموا إذا إضافةَ إلى

جُمَلِ الأفعالِ كهنْ إذا اعتلى

و {لَقُوا} أصله: لقيوا فَعِلوا، والقاعدة المقرَّرة في التصريف: أن كلَّ فعل ناقص أعني معتلَّ اللَّام سواء كان واويَّ اللَّام أو يائيَّ اللَّام، إذا أُسنِد إلى واو الجماعةِ أو ياء المؤنَّثة المخاطبة، وجب حذفُ لامه المعتلَّة بقياس مطَّرد، فحُذفتْ هذه الياء التي هي لام الكلمة، وأُبدلت كسرةُ القاف ضمَّةً لمجانسةِ الواو، فأصله: لقيوا على وزن فَعِلوا، ووزنه الحالي:{وَإِذَا لَقُوا} فَعُوا؛ لأنَ الياء التي في موضع اللَّام حذفت لإسناد الفعل النَّاقص إلى واو الجماعة كما هو مقرَّرٌ في التّصريف.

و {الَّذِينَ آمَنُوا} في محل نصب مفعول به لقوا، والمعنى أنَّ هؤلاء الطائفة من المنافقين إذا اجتمعوا بالمؤمنين -النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- قالوا آمنا أي ذكروا لهم أنَّهم آمنوا نفاقًا، وبينوا لهم أنَّ النبيَّ المنتظر والمبشر به أنَّ صفاته في كتبهم منطبقة على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا معنى قوله:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} .

ص: 247

{وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يعني: إذا رجعوا إلى أصحابهم وكان الموضع خاليًا من المؤمنين بأنْ كان الموجود فيه هم فيما بينهم {قَالُوا} يعني أصحابهم الذين لم ينافقوا منكرين على المنافقين، وموبِّخين لهم:{أَتُحَدِّثُونَهُمْ} ؛ أي: أتحدِّثون المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بما فَتَحَ عليكم علمه في التَّوراة بأن هذا هو النبي المنتظر، وأنَّ هذه صفاته، وأنَّها منطبقة، وأنَّه هو لا شك فيه، وأنكم مؤمنون به لما علمتم أنَّه هو النبي الموعودُ به المنتظر.

{لِيُحَاجُّوكُمْ} بهذا الإقرار {عِنْدَ رَبِّكُمْ} أنَّكم أقررتم بأنكم تعرفون أنَّه الحقُّ، وأن صفاته منطبقة على صفات النبي المنتظر، فإنَّ هذا يحاجونكم به يوم القيامة، أنكم عرفتم الحقَّ وتركتموه، وهذا يدلُّ على أنَّهم في غاية الجهل، لأنهم لو كتموا أليس اللهُ عالمًا بما في ضمائرهم، وما الفرق بين ما لو أقرُّوا بأنَّهم عرفوا الحقَّ وكتموه، أو كتموه ولم يقولوا، ولذا وبَّخهم اللهُ بقوله:{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

أيقولون مثلَ هذا ولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يُسرونَ وما يعلنون، يُسرُّون: فعل مضارع من الإسرار، ويعلنون: المضارع من الإعلان، والفعل إذا كان ماضيه على وزن أفعل تحذف همزته

ص: 248

في المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول بقياس مطَّردٍ، فالأصل يؤسرون ويؤعلنون إلَّا أنَّ حذف همزة أفعل مطَّردٌ في المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول كما عَقَدَهُ في الخلاصة بقوله:

وحَذْفُ هَمْزِ أَفعلَ استمرَّ في

مضارعٍ وبنْيتي مُتَّصفِ

والمعنى أن إسرارهم وإعلانهم عند الله جلَّ وعلا سواءٌ؛ لأنَّ الله يعلم السِّرَّ وأخفى، والسرُّ عنده علانية ويعلم ما تخفيه الضَّمائر:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وعلى هذا الذي قرَّرنا فمعنى {فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني عَلَّمكم إيَّاه وأزال عنكم الحجاب دونه من العلم مما في التوراة.

وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} أصله: ليحاجِجُوكم (يفاعلون) من المُحاجَجَة: يقتضي الطرفين، والحجة كلُّ ما أدلى به الخصم باطلًا كان أو حقا، بدليل قوله:{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].

وقال بعض العلماء: المراد بالفتح في هذه الآية الحكمُ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قال لهم يوم خيبر (1) ذكرَ لهم القردة، قال

(1) لعله يوم بني قريظة.

ص: 249

بعضهم: ما علموا أن أوائلكم وقع فيهم المسخ إلا منكم بعضكم أخبرهم بهذا، وعلى هذا فالمراد {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}؛ أي: ما حكَمَ اللهُ عليكم به من المسخ، والعرب تطلق الفتح على الحكم، وقد جاء في القرآن العظيم، ومنه على التحقيق:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، يعني إنْ تطلبوا الحكم من الله على الظالم بالهلاك: فقد جاءكم ذلك، وهلك الظالم أبو جهل وأصحابه.

ومن هذا المعنى قول الله جلَّ وعَلا حاكيًا عن شعيب:

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]؛ أي: احكم بيننا بالحق، وأنت خير الحاكمين، وهذه لغة حِمْيَرِيَّة يُسمُّون الحاكمَ فَتَّاحًا والحكمَ فُتاحة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

ألا أبلغْ بني عمرو رسولًا

بأنِّي عن فُتاحَتِكُمْ غنيُّ

أي: عن حكمكم غني، وهذا قيل به في الآية، ولكنَّه قولٌ مرجوحٌ غير ظاهر؛ والتحقيق إنْ شاء الله هو الأول، ثم إنَّهم قالوا لهم:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أتقولون قول مَنْ لا يعقل، فلا تعقلون أنَّه لا ينبغي لكم أنْ تخبروهم وتحدِّثوهم بما فتح الله عليكم من

ص: 250

علم التوراة، ممَّا خَفِي عليهم ليكون حجةً لهم عليكم عند الله يوم القيامة أنَّكم أقررتم بأنَّهم على حق وخالفتموهم ولم تتبعوهم.

ثم إن الله ذكر طائفةً ثالثةً، وهي الطائفة الجاهلة التي لا تدري، وإنما تسمع كلامًا فتقلد فيه تقليد الأعمى، قال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} الأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، أي: طائفة جاهلية لا يكتبون الكتب، ولا يقرأون ما في الكتب لا يعلمون الكتاب الذي هو التَّوراة ولا غيره من الكتب.

وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} فيه وجهان معلومان عند أهل التفسير؛ أحدهما: تبعدُهُ قرينةٌ في نفس الآية، أمَّا القولان المعروفان أنَّ المراد بالأماني هنا: جمعُ أمنية بمعنى القراءة، والعرب تطلق الأمنية على القراءة، وهو معنى معروفٌ في كلام العرب، تقول العرب: تمنَّى إذا قرأ، ومنه قول حسَّان:

تمنَّى كتابَ اللَّهِ آخرَ ليلهِ

تَمَنَّيَ داودَ الزَّبورَ على رسْلِ

وقول كعب بن مالك أو حَسَّان:

تمنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ ليلةٍ

وآخرَها لاقى حِمامَ المقادرِ

فمعنى تمنَّى قرأ، وعلى هذا فالاستثناء متصلٌ، وتقرير المعنى: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءةَ ألفاظٍ ليس معها تفهُّمٌ وتدبُّرٌ لما

ص: 251

تحويه الألفاظ من المعاني، ومَنْ لم يكن عنده من علم الكتاب إلا قراءة الألفاظ، لا يفهم ما تحتها من المعاني فهو جاهلٌ لا علم عنده، هذا وجهٌ في الآية وهو الذي قلنا إن في الآية قرينةً تبعده؛ لأنَّ هذا يدل على أنَّهم يقرأون التوراة قراءةَ ألفاظ لا يعلمون ما تحتها من المعاني والعبر، وقوله في أوّل الآية:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} يدلُّ على أنَّهم لا يقرأون فكأن حَمْل التمني على القراءة فيه شِبْهُ تناقض مع قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} .

الوجه الثاني في الآية: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، وأن الأماني جمعُ أمنية، وهي الأمنية المعروفة وهي أنْ يتمنَّى الإنسان حصولَ ما ليس بحاصل، وعلى هذا القول فتقريرُ المعنى: لا يعلمون الكتاب، لكنْ يتمنَّونَ أمانيَ باطلةً صادرةً عن جَهْل لا مبدأ لها من علم بأنْ يقولوا: ما عليه محمدٌ وأصحابه ليس بحق، ونحن أبناء الله وأحبَّاؤه، {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، والدَّليل على أنَّ هذا من أمانيهم الباطلة وأن خير ما يفسَّر به القرآنُ القرآنُ قولُهُ تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]، فصَرَّح جلَّ وعلا بأن أمانيَّهم، من هذا القبيل، كما قال جلَّ وعلا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

ص: 252

وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وهذان الوجهان في قوله:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} إن: هي النَّافية، والمعنى ما هم إلا يظنون؛ يسمعون عند علمائهم قولًا فيقولونه تقليدًا وظنًّا وجهلًا.

والظنُّ قد قَدَّمنا أنَّه يُطلق إطلاقين، يُطلق على الشَّك وهو المراد هنا، وهو المراد في قوله:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إيّاكم والظنَّ فإن الظَّن أكذبُ الحديث"، ومنه قوله عن الكفَّار:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، واصطلاحُ الأصوليِّين: أنَّ الظنَّ لا يطلق على الشكِّ وأن الشك نصفُ الاعتقاد، والظنُّ عندهم جُلُّ الاعتقاد، وما بقي عن الظنِّ من الاعتقاد يسمّونه وَهْمًا، هذا اصطلاحٌ أصولي. أمَّا على اللُّغة العربية فإنّهم يطلقون اسم الظن على الشك.

وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} وَيْلٌ: كلمة عذاب، وهو مصدرٌ لا فعل له من لفظه؛ معناه: هلاكٌ عظيمٌ هائلٌ كائن لهم، وقال بعض العلماء: وَيْلٌ: وادٍ في جهنَّم تستعيذ جهنم من حَرِّهِ ولو فرضنا

ص: 253

صحةَ هذا القول لكان راجعًا إلى الأول.

ولفظة (ويل) تتعدَّى بالَّلام، ولذا عَدَّاه به في قوله:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} ، وهو مبتدأٌ خبرُهُ جملة للذين، وإنما سُوِّغَ الابتداء بهذه النكرة؛ لأنَّها مشمَّةٌ معنى الدُّعاء، وقد تقرّر في علم العربيَّة أن النَّكرة إذا كانتْ مشمَّةٌ معنى الدُّعاء بخير أو بشرِّ كان ذلك مُسوِّغا للابتداء بها، ومثالُهُ في الدُّعاء بالخير:{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، سلامٌ عليكم مبتدأٌ سَوِّغَ الابتداءً به أنَّهُ في مَعْرِض الدُّعاء، والدُّعاء في الشَّرِّ كقوله هنا: فويل؛ أي: هلاكٌ عظيمٌ لا خلاص منه للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وهؤلاء اليهود -قبَّحهم الله- كانوا يأخذون أوراقًا وقراطيس ينقلون فيها من التَّوراة، يقولون مثلًا في المحل الفلاني من التَّوراة كذا، وكذا، ويكتبون أمورًا باطلة ليست في كتاب الله كما يأتي في قوله:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]، وهذا الذي يكتبونَهُ بأيديهم في هذه القراطيس كذبٌ مختلَقٌ على الله جلَّ وعلا، وهذا الاختلاقُ والتحريف إنّما فعلوه ليتعوَّضوا به عَرَضًا من عَرَضِ الدُّنيا، ذلك أنَّهم لو أخبروا بالواقع لآمنَ كلُّ الناس فيكونون تَبَعًا لا متبوعين، وضاعت عليهم رئاسةُ الدِّين والأموال التي كانوا يأخذونها عن

ص: 254

طريق الرئاسة الدِّينية، فصاروا يكتبون أمورًا مُحَرَّفةَ مزَوَّرَةٌ، منها تغييرُ صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فقال الله فيهم:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} يكتبون الكتاب في تلك القراطيس بأيديهم.

وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} هذا نوعٌ من التأكيد جرى على ألسنةِ العرب، ونَزَل به القرآن؛ لأنَّه بلسان عربي مبين، نحو:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، ومعلومٌ أنَّه لا يطير إلا بجناحيه، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167]، ومعروفٌ أنَّهم إنَّما يقولون بأفواههم.

{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {ثُمَّ} -هذه- كلامٌ يَدُلُ على الاستبعاد؛ لأن الكتاب إذا كان مختلقًا على الله يبعد كلَّ البُعْد أنْ يقول الإنسان إنَّه من عند الله، ثم بَيَّن علةَ افترائهم وتزويرهم، ودعواهم أنَّ الكتاب من عند الله، وهو ليس من عند الله، بيَّنَ علة ذلك، والعلَّةَ الغائيةَ المقصودة عندهم بقوله:{لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الاشتراء في لغة العرب: الاستبدال، فكلُّ شيء استبدلته بشيءٍ فقد اشتريته، ومن هذا المعنى قول علقمة بن عَبَدة التَّميمي:

والحَمْدُ لا يُشترى إلا لهُ ثَمَنٌ

ممّا تضنُّ بهِ النُّفوسُ معلومُ

ص: 255

وقول الراجز:

بُدِّلت بالجمَّةِ راسًا أَزْعَرا

وبالثَّنايا الواضحاتِ الدَّرْدَرا

كلما اشترى المسلمُ إذ تَنَصَّرا

. . . . . .

- أي: كما استبدل.

والثمن: تطلقهُ العرب على كلِّ عِوَض مبذول في شيء تُسمِّيه العرب ثمنًا، ومنه بيت علقمة المذكور آنفًا في قوله: والحمد لا يُشترى إلا لهُ ثمنٌ، وقول عُمَر بن أبي ربيعة:

إنْ كنتَ حاولتَ دُنيًا أو أقمتَ لها

ماذا أخذتَ بتركِ الحَج منْ ثَمَنِ

ومعنى الآية الكريمة: أنَهم يغيِّرون كلامَ الله ويكتبون على الله ما لم يقل، {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]؛ لأجل أنْ يَعْتاضوا بذلك ثمنًا قليلًا من عَرَضِ الدُّنيا، وهو ما ينالونه من المال على رئاستهم الدِّينية، ثم إنَّ اللَّه تعالى قال:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} فهلاكٌ عظيمٌ لا خلاص منه كائنٌ لهم مبدؤُهُ وسببُهُ مما كتبت أيديهم مزوَّرًا على اللَّه أنه من عند الله، وليس من عند الله، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}؛ أي: من الرِّشا والأَموال عِوَضًا عن ذلك التَّزوير والافتراء على ربِّ السماوات والأرض، وهذا

ص: 256

غايةُ التَّهديد والوعيد العظيم حيث قال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ؛ أي: من المال عوضًا عن ذلك، وهذا هو معنى قوله:{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} .

انتهى ما سُجِّلَ بصوتِ شيخنا، وأخبرني ولدُهُ الشَّيخُ مُحمَّد المختار أنَّهُ سُجِّلَ ببيته، ونقلتُهُ من صوتِهِ عليه رحمةُ الله وأولاه المثوبة.

وكتبَهُ:

أحمد بن محمَّد الأمين بن أحمد المختار

ص: 257