الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشبهُ مَجلِسٍ مع سماحة الشّيخ محمّد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي
رئيسِ القُضاةِ في الأردن سابقًا، وعضوِ مجلسِ الوصايةِ على عرشِ الأردن، وعضوِ مجلسِ الأعيان به، ووزير سابق للمعارف، وسفيرِ المملكة الهاشمية الأردنية.
وذلك أيامَ رسالته هذه إلى الشيخ الأمين يسألُهُ عن الأمور الآتية؛ والحمد للَّه الذي جَعَل الأقلام راحة للأقدام، وتغني عن المشافهةِ بالكلام.
لقد أرسل سماحتُهُ إلى ابن عمِّه -فضيلة شيخنا الأمين- يسأله عن:
1 -
أين مَقرُّ العقل من الإنسان؟
2 -
هل يشمل لفظُ المشركين أهلَ الكتاب؟
3 -
هل يجوز دخولُ الكافرِ مساجدَ الله غير المسجد الحرام؟
وهذا نصُّ جوابِ الشَّيخ على هذه المسائل بالحرف الواحد:
"بسم الله الرحمن الرحيم" حضرة صاحب المعالي أخي الكريم الشَّيخ مُحَمَّد الأمين بن الشيخ مُحَمَّد الخضر حفظه الله ووفَّقه - السَّلامُ عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد؛ فقد وَصَلَنا خطابكم الكريم بتاريخ 23/ 4/ 1389 هـ، وفهمنا ما سألتُم عنه، والجوابُ حفظكم الله ووفقكم عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هو ما ستراه:
ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفيٌّ قديمٌ، وللفلاسفة فيه مائةُ طريق باعتبارات كثيرة مختلفة، غالبها بل كلها تخمينٌ وكذب وتخبُّطٌ في ظلام الجهل، وهم يسمُّونَ الملائكة عقولا، ويُكثِرونَ البحث في العقول العَشَرة المعروفة عندهم، ويزعمون أنَّ المؤثر في العالم هو العقل الفيَّاض، وأنَّ نورهُ ينعكس على العالم كما تنعكس الشمسُ على المرآة فتحصل تأثيراتُهُ بذلك الانعكاس، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنَّوع البسيط، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواحٍ شتَّى.
ومن تلك البحوث قولُ عامَّتهم -إلا القليل منهم-: إنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمين، ويُذكر عن
الإمام أحمد أنه جاءت عنه روايةٌ بذلك.
وعامّة المسلمين على أنّ محلّ العقل القلب وسنوضّح إن شاء اللَّه تعالى حُجج الطّرفين، ونبين ما هو الصّواب في ذلك.
اعلم وفقنا اللَّه وإياك أن العقلَ نورٌ روحانيٌّ تدرك به النَّفسُ العلوم النظرية والضَّرورية، وأَنَّ من خلقه وأبرزه من العلم إلى الوجود، وزيَّنَ به العقلاء وأكرمهم به؛ أعلمُ بمكانه الذي جعله فيه من جَهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماويٍّ وتعليم إلهي، وليس أحدٌ بعد اللَّه أعلم بمكان العقل من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وقال تعالى عن نفسه:{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 140].
والآيات القرآنية والأحاديث النَّبوية في كل منها التَّصريحُ بكثرة بأنَّ محلَّ العقل القلب، وكثرةُ ذلك وتكرارُهُ في الوَحيين لا يترك احتمالًا ولا شكًا في ذلك.
وكُلُّ نَظَرٍ عقلي صحيح يستحيل أنْ يخالفَ الوحيَ الصَّريح؛ وسنذكر طرفًا من الآيات الكثيرة الدَّالة على ذلك، وطرفًا من الأحاديث النَّبوية، ثم نُبيِّنُ حجةَ مَنْ خالفَ الوحي من الفلاسفة
ومَنْ تبعهم، ونوضِّحُ الصَّوابَ في ذلك إنْ شاء اللَّه تعالى.
واعلم أولًا: أنَّه يغلب في الكتاب والسنة إطلاقُ القلب وإرادة العقل وذلك أسلوبٌ عربيٌّ معروف؛ لأنَّ من أساليب اللُّغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه؛ والقائلون بالمجاز يُسمُّونَ ذلك الأسلوبَ العربي مجازًا مُرسَلًا، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلِّية والحاليَّة كإطلاق القلب وإرادة العقل؛ لأن القلبَ مَحَلُّ العقل، وكإطلاق النَّهر الذي هو الشَّق في الأرض على الماء الجاري فيه كما هو معلومٌ في محلِّه.
وهذه بعَضُ نصوصِ الوَحْيين:
قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآية [الأعراف: 179]، فعابهم الله بأنَّهم لا يفقهون بقلوبهم، والفقه الذي هو الفَهم لا يكون إلّا بالعقل، فدَلَّ ذلك على أن القلبَ محلُّ العقل، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها.
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46]، ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها،
ولم يقل: ولكن تعمي الأدمغة التي في الرؤوس. كما ترى، فقد صَرَّحَ في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يُعْقَل بها، وما ذاك إلا لأنَّها محلُّ العقل كما ترى، ثم أكَّدَ ذلك تأكيدًا لا يترك شبهةً ولا لَبْسًا فقال:{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ؛ فتأمَّل قوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} تفهم ما فيه من التَّأكيد والإيضاح؛ ومعناه: أن القلوب التي في الصُّدور هي التي تعمى إذا سَلَب اللهُ منها نورَ العقل فلا تُميِّز بعد عَماها بين الحق والباطل، ولا بين الحَسَن والقبيح، ولا بين النَّافع والضار، وهو صريحٌ بأَنَّ الذي يميَّز به كل ذلك هو العقل، ومحلُّه في القَلب.
وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، ولم يقل: بدماغٍ سليم.
وقال الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [البقرة: 7]، ولم يقل: على أدمغتهم.
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} الآية [الكهف: 57]، ومفهوم مخالفة الآية أنَّه لو لم يجعل الأَكنَّة على قلوبهم لفقهوهُ بقلوبهم؛ وذلك لأنَّ محلَّ العقل القلبُ كما تَرى؛ ولم يقل: إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكنَّةَ أنْ يفقهوه.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية [ق: 37]، ولم يقل: لمن كان له دماغٌ.
وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية [البقرة: 74] ولم يقل: ثم قست أدمغتكم، وكون القلب إذا قسَا لم يطع صاحبُهُ الله وإذا لانَ أطاعَ الله، دليلٌ على أن المميِّز الذي تُراد به الطاعة والمعصية محلُّهُ القلب كما ترى وهو العقل.
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22].
وقال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16]، ولم يقل: فويل للقاسية أدمغتهم، ولم يقل: فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} الآية [الجاثية: 23]، ولم يقل: وختم على سمعه ودماغه.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: 24]، ولم يقل: ودماغه.
وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} الآية [الفتح: 11]، ولم يقل: ما ليس في أدمغتهم.
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} الآية [النحل: 22]، ولم يقل: أدمغتهم منكرة.
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية [سبأ: 23]، ولم لِقل: إذا فُزِّع عن أدمغتهم.
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} الآية [محمد: 24]، ولم يقل: أم على أدمغة أقفالها؛ وانظر ما أصرح آية القتال هذه في أَنَّ التدبُّرَ وإدراك المعاني إنَّما هو بالقلب، ولو جُعل على القلب قفلٌ لم يحصل الإدراك فتبيَّن أن الدِّماغَ ليس هو محلُّ الإدراك كما ترى.
وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الآية [الصف: 5]، ولم يقل: أزاغ الله أدمغتهم.
وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الآية [الرعد: 28]، ولم يقل: تطمئن الأدمغة.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية
[الأنفال: 2]، ولم يقل: وجلت أدمغتهم، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدارك.
وقد صَرَّحت الآيات المذكورة بأنَّ محل ذلك القلب لا الدماغ، وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرة أنَّ الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محلُّ العقل لا الدِّماغ، كقوله تعالى:{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الآية [الأحزاب: 10]، وقوله تعالى:{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} الآية [النازعات: 8]، وإنْ كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [الأعراف: 100]، ولم يقل: ونطبع على أدمغتهم.
وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} الآية [الكهف: 14]، وقال تعالى:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} الآية [القصص: 10]، والآيتان المذكورتان فيهما الدَّلالة على أن محلَّ إدراك الخطر المسبِّب للخوف هو القلب كما ترى لا الدِّماغ.
والآيات الواردة في الطَّبْع على القلوب متعدّدة:
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [المنافقون: 3]، ولم يقل: فطبع على أدمغتهم، وكقوله تعالى:{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية [التوبة: 93]، ولم يقل: على أدمغتهم.
وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية [النحل: 106]، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان، وحُسْن نتائجه وعواقبه؛ وقد صرَّح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محلُّ العقل الذي هو أداة النَّفس في الإدراك، ولم يقل: ودماغُهُ مطمئن بالإيمان.
وقال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]، ولم يقل: في أدمغتكم.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} الآية [المجادلة: 22]، فقوله: ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم، وقوله: كتب في قلوبهم الإيمان، صريحٌ بأنَّ المحلَّ الذي يدخله الإيمانُ في المؤمن، وينتفي عنه دخوله في الكافر إنَّما هو القلب لا الدِّماغ، وأساس الإيمان إيمان القلب؛ لأن
الجوارح كلَّها تَبَعٌ له كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ في الجَسَد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كُلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسد كُلهُ ألا وهي القلب".
فظهر بذلك دلالة الآيتين المذكورتين على أنَّ المصدر الأول للإيمان القلب، فإذا آمنَ القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ لأنَّ القلب أمير البدن وذلك يدل دلالةً واضحةً على أن القلب ما كان كذلك إلّا لأنّه محلُّ العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى.
وقال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} الآية [البقرة: 283]، فأسند الإثم بكتم الشَّهادة للقلب، ولم يسنده للدماغ؛ وذلك يدل على أنَّ كتم الشهادة الذي هو سَبَبُ الإثم واقعٌ عن عَمد، وأن محلَّ ذلك العمد القلب، وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك، وقصْدُ الطاعة وقصْدُ المعصية كما ترى.
وقال تعالى في حَفْصة وعائشة رضي الله عنهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَ} الآية [التحريم: 4]، أي: مالت قلوبُكُما إلى أمر تعلمان أنّه صلى الله عليه وسلم يكرهه؛ سواء قلنا: إنَّه تحريم شُرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه، أو قلنا: إنّه تحريم جاريته مارية؛ فقوله: صغت
قلوبكما؛ أي: مالت. يدل على أنّ الإدراك وقصد الميل المذكور محلّهُ القلب، ولو كان الدِّماغ لقال: فقد صغت أدمغتكما كما ترى.
ولما ذكر كلُّ من اليهود والمشركين أنَّ محل عقولهم هو قلوبهم قَرَّرهم الله على ذلك؛ لأنَّ كون القلب محلَّ العقل حقٌّ، وأبطل دعواهم من جهةٍ أخرى، وذلك يدل بإيِضاح على أنَّ محل العقل القلب.
أمَّا اليهود لعنهم اللَّه فقد ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، فقال تعالى:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية [النساء: 155]، فقولهم: قلوبنا غُلْف بسكون اللَّام يعنون: أنَّ عليها غلافًا، أي: غشاءً يمنعها من فهم ما تقول؛ فقرَّرهم اللهُ على أنَّ قلوبهم هي محل الفهم والإدراك؛ لأنها محلُّ العقل، ولكن كذَّبهم في ادِّعائهم أنَّ عليها غلافًا مانعًا لها من الفهم، فقال -على سبيل الإضراب الإبطالي-:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية.
أمّا على قراءة ابن عباس: "قلوبنا غُلُفٌ" بضمتين؛ يعنون: أنَّ قلوبهم كأنها غلافٌ محشوُّ بالعُلوم والمعارف، فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه، وذلك يدلُّ على علمهم بأنّه محلَّ العلم والفهم القلوب لا الأدمغة.
وأمّا المشْركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} الآية [فصلت: 5]، فكانوا عالمين بأن محلَّ العقل القلب، ولذا قالوا: قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه، ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنَّة ممَّا تدعونا إليه، والله لم يُكذِّبهم في ذلك، ولكنه وبَّخَهم على كفرهم بقوله تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الآية [فصلت: 9].
وهذه الآيات -التي أُطْلِقَ فيها القلب مرادًا به العقل؛ لأنَّ القلب هو محلُّهُ- أوضحَ اللهُ المراد منها بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية [الحج: 46]؛ فصَرَّحَ بأنَّهم يعقلون بالقلوب، وهو يدل على أنَّ محلَّ العقل القلب دلالةً لا مطعن فيها كما ترى.
وقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} الآية [الشورى: 24]، ولم يقل: يختم على دماغك.
وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} الآية [الأنعام: 46]، ولم يقل: وختم على أدمغتكم.
وقال تعالى في النَّحل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)} الآية [النحل: 108]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية [الحجرات: 3]، ولم يقل: امتحن أدمغتهم.
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 7]، والآيات بمثل هذا كثيرة ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة.
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدَّالَّة على أنَّ محلَّ العقل القلبُ فهي كثيرة جدًا:
كالحديث الصَّحيح الذي ذُكِرَ، والذي فيه:"ألا وهي القلب"، ولم يقل فيه: ألا وهي الدِّماغ، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبت قلبي على دينك" ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبّت دماغي على دينك، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"قلبُ المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، وهو من أحاديث الصِّفاتِ، ولم يقل: دماغ المؤمن. . . . إلخ.
والأحاديث بمثل هذا كثيرةٌ جدًا، فلا نُطيل الكلام بها.
وقد تبين مما ذكرنا أنَّ خالقَ العقل وواهبَه للإنسان بَيَّن في آيات قرآنية كثيرة أنَّ محلَّ العقل القلب، وخالقُهُ أعلم بمكانه من كَفَرَةٍ الفلاسفة، وكذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما رأيت.
أما عامة الفلاسفة -إلا القليل منهم النادر- فإنّهم يقولون: إنّ محلَّ العقل الدِّماغ؛ وشَذَّت طائفةٌ من متأخريهم فزعموا: أنَّ العقل ليس له مركزٌ مكانيٌّ في الإنسان أصلًا، وإنما هو زمانيٌّ محضٌ لا مكان له، وقولُ هؤلاء أظهرُ سقوطًا من أنْ نشتغل بالكلام عليه.
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون: إنَّ محلَّ العقل الدِّماغ هو أن كلَّ شيء يؤثر في الدِّماغ يؤثر في العقل.
ونحن لا ننكر أنَّ العقل قد يتأثَّرُ بتأثرِ الدِّماغ، ولكنْ نقول بموجَبِهِ؛ فنقول:
سلَّمنا أنَّ العقلَ قد يتأثَرُ بتأثُرِ الدِّماغ، ولكن لا نُسَلم أنَّ ذلك يستلزم أن محله الدِّماغ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدِّماغ بلا نزاع، وهو يتأثر بتأثُّر الدِّماغ كما هو معلومٌ، وكم من شللٍ في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدِّماغ.
فالعقلُ خارجٌ عن الدِّماغ، ولكنَّ سلامته مشروطةٌ بسلامة الدِّماغ كالأعضاء التي تختلُّ باختلالِ الدِّماغ، فإنها خارجةٌ عنه مع أنَّ سلامتها مشروطةٌ بسلامةِ الدِّماغ كما هو معروف.
وإظهار حجة هؤلاء والردُّ عليها على الوَجْه المعروف في آداب البحث والمناظرة أنَّ حاصل دليلهم:
أنَّهم يستدلون بقياس منطقيٍّ من الشرطي المتَّصِل المركَب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي، فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي: نقيض المقدَّم، وصورتُه:
أنَّهم يقولون: لو لم يكن العقل في الدِّماغ لما تأثرَ بكلِّ مؤثر على الدِّماغ، لكنهُ يتأثَرُ بكل مؤثِّرِ على الدِّماغ، ينتجُ: العقلُ في الدِّماغ.
وهذا الاستدلال مردودٌ بالنَّقْض التَّفصيلي الذي هو المَنْع؛ وذلك بمنع كُبراه التي هي شرطيتُهُ فنقول: المانعُ مَنَعَ قولك "لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثَّر بكل مؤثر في الدماغ"، بل هو خارجٌ عن الدِّماغ مع أنهُ يتأثَرُ بكلِّ مؤثر على الدِّماغِ كغيره من الأعضاء التي تتأثَر بتأثرِ الدماغ، فالرَّبطُ بين التَّالي والمقدَّم غير صحيح، والمحلُّ الذي يتواردُ عليه الصدق والكذب في الشرطية إنَّما هو
الرَّبط بين مقدَّمها وتاليها، فإنْ لم يكن الرَّبط صحيحًا، كانت كاذبة، والربط في قضيتهم المذكورة كاذبٌ، فظهر بطلان دعواهم.
وهناك طائفةٌ ثالثة أرادت أنْ تجمع بين القولين فقالت: إن ما دَلَّ عليه الوحيُ من كون محل العقلِ هو القلبُ صحيحٌ، وما يقوله الفلاسفةُ ومَنْ وافقهم من أنَّ محله الدِّماغ صحيحٌ أيضًا، فلا منافاة بين القولين.
قالوا: ووجهُ الجمع أن العقل في القلب كما هو في القرآن والسُّنة، ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتَّصل بالدِّماغ، وبواسطة اتصاله بالدِّماغ يصدوا عليه أنَّه في الدِّماغ من غير منافاة لكون محلِّه هو القلب.
قالوا: وبهذا يندفع التعارضُ بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي.
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجَمع بالاستقراء غير التام، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب، وهو حجةٌ ظنيةٌ عند جماعة من الأصوليين، وإليه أشار صاحب مراقي السُّعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله:
وهْوَ لدى البعْضِ إلى الظن انتسبْ
…
يُسْمى لحوقَ الفردِ بالذي غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ الاستقراء: هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه [أي: الناظرٍ أن ذلك الحكم مطَردٌ في جميع الأفراد، وإيضاح هذا: أنَّ القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل؛ قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام.
وذلك أنهم قالوا: تتبَّعنا أفراد الإنسان الطَّويل العُنُقِ طولًا مفرطًا زائدًا على المعهودِ زيادةً بيّنةً، فوجدنا كلَّ طويل العنقِ طولًا مفرطًا يلزمُهُ بُغدُ المسافةِ بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدّماغ، وبُعدُ المسافةٍ بين طرفيه قد يؤدِّي إلى عدم تماسكهِ واجتماعهِ فيظهر فيه النقص.
وهذا الدليل -كما ترى- ليس فيه مَقْنَعٌ، وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرًا.
فتحصَّل من هذا أن الذي يقول: العقل في الدِّماغ وحده وليس في القلب منه شيءٌ أن قوله في غاية البُطلان؛ لأَنه مكذِبٌ لآيات وأحاديثَ كثيرة كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرَّأُ عليه مسلمٌ إلا إنْ كان لا يؤمنُ بكتابِ الله، ولا بسُنَّةِ رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم.
ومَنْ قال: إنَّه في القلب وحده، وليس في الدّماغِ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقم دليل جازمٌ قاطعٌ من نقلٍ ولا عقلٍ على خلافه.
ومَنْ جَمَعَ بين القولين فقوله جائزٌ عقلًا، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسُّنة، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإنْ قام عليه دليلٌ من عقل، أو استقراءٌ محتَجٌّ به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى، وهذا ما يتعلَّق بالمسألة الأولى.
جواب المسألة الثانية:
2 -
وأمَّا الجواب عن المسألة الثانية، فهو أنّ ما ذكرتم من أنَّ القرآن فرَّقَ بين المشركين وبين أهل الكتاب، واستشهدتم لذلك بآية المائدة:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الآية [المائدة: 82] فهو كما ذكرتم؛ لأنَّ العطف يقتضي بظاهره الفَرْقَ بين المعطوف والمعطوف عليه.
وقد تكرَّر في القرآن عطفُ بعضهم على بعض كالآية التي تفضَّلْتُمْ بذكرها، وكقوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} الآية [البينة: 1]، وقوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية [البينة: 6]، وقوله تعالى:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 105]، وقوله تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية [آل عمران: 186]، إلى غير ذلك من الآيات.
وظاهرُ العَطْف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين؛ لأنَّ عطف الشيء على نفسه يحتاج إلى دليل خاصٍّ يجبُ الرُّجوع إليه مع بيان المسوِّغ لذلك كما هو معلوم في محلِّه.
وما تفضَّلْتُمْ بذكره من أنَّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر بإلحاقِ أهل الكتاب بالمشركين في عَدَم دخول المسجد الحرام فمستندُهُ المسوِّغ له أنَّ اللَّه -جَلَّ وعلا- صَرَّحَ في سورة التوبة أن أهل الكتاب من يهودٍ ونصارى من جملة المشركين، وإذا جاء التَّصريح في القرآن العظيم بأنَّهم من المشركين، فدخولهم في عموم قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28]، لا إشكال فيه.
وآية التوبة التي بَيَّن اللهُ فيها أنَّهُم من جملة المشركين هي قوله
تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31]، فتأمّل قوله تعالى في اليهود والنصارى:{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يظهر لك صدق اسم الشِّرك عليهم، فيتَّضح إدخالهم في عموم:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} .
ووجه الفَرْق بينهم بعطف بعضهم على بعض هو: أنهم جميعًا مشركون، والمغايرة التي سوَّغت عطف بعض المشركين على بعضٍ هي اختلافهم في نوع الشِّرك.
فشِرْكُ المشركين -غير أهل الكتاب- كان شركًا في العبادة؛ لأنَّهم يعبدون الأوثان، وأهل الكتاب لا يعبدون الأوثان فلا يشركون هذا النَّوع من الشِّرك، لكنَّهم يشركون شرك ربوبية كما أشار له تعالى بقوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، ومن اتخذ أربابا من دون الله فهو مشرك به في ربوبيته، وادعاء أن عزيرًا ابنُ الله، والمسيح ابن الله من الشِّرك في الربوبية، ولَمّا كان الشرك في الربوبية يستلزم الشِّرك في العبادة؛
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
3 -
وما ذكرتم من أن عطاء رحمه الله جعل المسجد يشمل الكُلَّ، وأنَّ المسلمينَ درجوا على ذلك إلى الآن؛ فهي مسألة: هل يجوز دخول الكفار لمسجدٍ من مساجد المسلمين غير المسجد الحرام المنصوص على مَنْع دخولهم له بعد عام تسع من الهجرة في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية [التوبة: 28].
والعلماءُ مختلفون: هل يجوز دخول الكفَّار مسجدًا غير المسجد الحرام أو لا؟.
فذهب مالك وأصحابه ومَنْ وافقهم إلى أنَّه لا يجوز أنْ يدخل الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين مطلقًا.
واستدلَّ لذلك بأدلة منها آية التَّوبة، وإنْ كانت خاصّةً بالمسجد الحرام، فعِلَّةُ حُكْمِها تقتضي تعميمَه في جميع المساجد؛ وقد تقرَّر في علم الأُصول أن العلة قد تُعَمِّم معلولَها تارةً، وقد تُخَصِّصُهُ أخرى كما أشار إليه صاحب مراقي السُّعود بقوله في الكلام على العلة بقوله:
وقد تُخَصِّصُ وقَدْ تُعَمِّمُ
…
لأَصْلِها لكنَّها لا تخْرمُ
وإذا علمتَ أنَّ العلَّةَ تُعَمِّمُ معلولَها الذي لفظه خاصٌّ، فاعلم أنَّ مسلك العلة المعروف بمسلك الإيماء والتنبيه دَلَّ على علة مَنْع قربان المشركين المسجد الحرام بعد عام تسع: أنَّهُم نَجَس، وذلك واضحٌ من ترتيب الحكم بالنَّهي عن قربان المسجد بالفاء على كونهم نَجَسًا في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ثم رتَّبَ على ذلك بالفاء قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} . الآية.
ومعلومٌ أنَّ جميعَ المساجد تجبُ صيانتها عن دخول النَّجَس فيها، فكونهم نَجَسًا يقتضي تعميم الحكم في كُلِّ المساجد.
واستدل مالك ومَنْ وافَقَهُ أَيضًا على منع دخول الكفار المساجدَ مطلقًا بآية البقرة على بعض التفسيرات التي فُسِّرت بها، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} . الآية [البقرة: 114]، فقد فُسِّر قوله تعالى:{أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} ؛ أي: ليس لهم دخول المساجد إلا مسارقة خائفين من المسلمين أنْ يطلعوا عليهم فيخرجوهم منها ويُنَكِّلوا بهم، وفي تفسير الآية أقوالٌ غير هذا.
وسواء قلنا: إنَّ تخريب المساجد حِسِّيٌّ كما فعلت الرُّوم وبختنصَّر بالمسجد الأقصى المشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
أو قلنا: إنَّ تخريب المساجد المذكور في الآية تخريبٌ معنويٌّ وهو منع المسلمين من التعبد فيها كما فعل المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [الفتح: 25]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} الآية [الحج: 25]، وقوله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الآية [المائدة: 2]، وقوله تعالى:{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 217]، ومن الآيات التي تشير إلى أن عمارة المساجد هي طاعة الله فيها قوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: 18].
وأما مَنْ قال من أهل العلم: بجواز دخول الكفار جميع مساجد المسلمين غير المسجد الحرام، فقد احتجوا بأن الله إنَّما نَهى عن
ذلك في خُصوص المسجد الحرام في قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} ، وقالوا: يفهم من تخصيص المسجد الحرام بالذكر أن غيره من المساجد ليس كذلك.
واحتجُّوا لذلك بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة لما جيء به أسيرًا في ساريةٍ من سواري المسجد، وهو مشرك قبل إسلامه؛ قالوا: وقد أنزل صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمسجد في المدينة وهم نصارى، وكان قدوم وقد نصارى نجران متأخرًا لأنَّهم أعطوا الجزية لما خافوا من المباهلة، والجزية إنما نزلت في سورة بَراءة، ونزولها كان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانت سنة تسعٍ بلا خلاف.
ومَنْ قال من أهل العلم: بأنه لا يجوز دخول الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين إلَّا بأمانٍ من مسلم، فقد احتجَّ لذلك بقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} الآية [البقرة: 114].
قالوا: قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} ، يدلُّ على أن من دخلها بأمانِ مسلم فقد دخلها خائفًا، بحيث لا يتمكن من دخولها إلَّا بأمانِ مسلمٍ لخوفه لو دخلها بغير أمان.
وأمَّا مَنْ قال من أهل العلم: إن قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الآية، يشمل الحَرَمَ كلَّه ولا يختص بالمسجد الحرام المنصوص عليه في الآية، فحجتُهُ هي ما علم من إطلاق المسجد الحرام وإرادة الحرم كله كقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، ومعلومٌ أن المعاهدة كانت في غير المسجد الحرام بل كانت في طرف الحديبية الذي هو داخلٌ في الحرم كما قاله غير واحد.
وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [الإسراء: 1] ، وكان الإسراء به من بيت أم هانئ لا من نفس المسجد الحرام على القول بذلك.
وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} الآية [المائدة: 95] ، والهَدْي يُنْحَر في الحرم كله، وأكبر مَنْحرٍ منه "مِنى".
وقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} الآية [البقرة: 217] ، وهم مُخرَجون من مكة لا من نفس المسجد، ونحو ذلك من الآيات، والعلم عند الله تعالى.
فتحصَّل: أنَّ محلَّ العقل القلب، وأنَّه لا مانع من اتصالِ طرف نوره الروحاني بالدَّماغ؛ وعليه لا تخالف بين القولين وهذا إنْ قام
عليه دليلٌ، فلا مانع من القول به، ونحن لا نعلم عليه دليلًا مقنعًا.
وأن عمر بن عبد العزيز ألحق أهل الكتاب بالمشركين لآية التوبة التي ذكرنا.
وأن جَعْلَ حكم جميع الحرم المكيّ كحكم المسجد الحرام دليلُهُ استقراء الآيات التي جاءت بنحو ذلك، وقد رأيتَ حُجَجَ مَنْ منعهم دخولَ المساجد غير المسجد الحرام، ومَنْ أجاز ذلك، ومَنْ فَرَّق.
ولا يخفى أن الذين يجزمون بأن محلَّ العقل الدِّماغ ولا صلة له بالقلب أصلًا أنَّهم في جهلهم كما قالت الرّاجزة لزوجها:
شنْظيرةٌ زوَّجَنِيهِ أهلي
…
منْ جهلهِ يحسِبُ رأسي رجلي