الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع الشَّيخ مُحمَّد الأمين
إنَّ هذا الحبر الجليل الَّذي عجزت النِّساء في هذه القرون أَنْ تلدَ مثله هو الشَّيخ مُحمَّد الأمين بن مُحَمَّد المُخْتار بن عَبْد القادِر بن أحْمد نُوح بن محَمَّد بن سِيدي أَحْمَد بن المُخْتار من أولادِ أولادِ الطَّالب أوبك من أولادِ أولادِ إِكْرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكان، هكذا ذكر الشَّيخ عطية بن محمَّد سالم رحمه الله أنَّهُ سمع هذا النَّسب هكذا من فضيلة الشَّيخ مباشرة.
يتحصَّل منه أَنِّي ألتقي معه نَسَبًا في جاكان بن علي جدِّ قبائل بني جاكان الَّذي يجمعها وتلتقي به أصولها.
وقد أخبرني شيخي عليه رحمة الله: أن جدَّهُ الأعلى يعقوب بن جاكان أخ شقيق لجدِّنا الأعلى إكرير بن جكان الَّذي تلتقي به أصولُ ثلاث قبائل من بني جاكان هي: أولاد اعْمر أقلال، وأولاد يوسف، وأولاد إبراهيم الَّذي إليه نِسْبَتي.
كما أخبرني -عليه رحمة الله-: أنَّ جَدَّهُ يعقوب بن جاكان تربَّى في حجره ابنُ أخيه إبراهيم بن إكرير، وذلك ما جعل رابطةَ بني يعقوب بأولاد إبراهيم أوثقَ من رابطتهم معَ إخوانهم الآخرين
على الرَّغم من أنهم سواسيةٌ في النَّسَب؛ وذلك لأن يعقوب اعتنى بتربية إبراهيم، وبتعليمه دون إخوته، ومعلومٌ الآن ما بين أولاد إبراهيم وأولاد يعقوب من الرَّوابط الوثيقة.
وإني أمُتُّ إلى فضيلة الشَّيخ أيضًا بخؤولةٍ أتشرَّف بها، ذلك أن جدي أعني جدَّ والدتي محمد محمود بن سيدي إبراهيم أُمُّه أُمُّ المؤمنين بنت السّيد من نفس الفصيلة اليعقوبية التي منها آلُ أحمد نوح رهطُ فضيلة الشيخ، وقد أفادني فضيلتُهُ -عليه رحمة الله- ذلك لما سألته، فهذه علاقتي النسبيَّة به، يجمعنا جاكان بن علي الَّذي يرجع نسبه -فيما يظهر- إلى غالب بن فهر من قريش الظواهر.
وقد شاع في القُطْرِ الموريتاني أنَّ بني جاكان قبيلةٌ حِمْيَريَّة، وقد لا يكون مخطئًا كلَّ الخطأ من نَسَبَ هذه القبيلة إلى حِمْيَر؛ لأنها كانت من ضمن قبائل الدولة اللمتونية الحميرية.
وفعلًا قد كان جدُّنا جاكان بن علي أحد ملوك هذه الدولة الصحراوية، ذلك أنهم بايعوا له -فيما يظهر- بناء على أن المذهب المالكىِ الَّذي تعتنقه هذه الدولة المغربية يوجب أن لا تكون الإمامة الكبرى إلا لقرشيِّ.
قال خليل بن إسحاق في مختصره -بعدما عَدَّدَ أوصاف القاضي التىِ يجب أنْ يتَّصف بها- قال: "وزِيدَ في الإمام الأعظم قرشي". اهـ.
قال العلامة الشَّيخ محمد الحسن بن الإمام الجكني ثُمَّ العمري الحاجي منهم، قال في قصيدته الرائية التي يُسميها الجكنيّة:
نحنُ الكرامُ بني جاكانَ من مُضَرا
…
مِن غالبٍ جد مَنْ فاق الورى خَبَرا
. . . . إلخ.
والقصيدة معروفةٌ، وسبب إنشائه لها معروفٌ أيضًا.
وأخبرني من أثق به: أنَّ العلامة الشيخ محمد العاقب بن ما يابي اليوسفي من بني جاكان انتَسَبَ في شرحه لرسْم الطالب عبد الله وضبطه إلى قريش، وقال:"إنما حملني على الانتساب كون كل مؤلَّف لم ينتسب صاحبهُ يعتبر كاللقيط" أو عبارة نحو هذه.
وأما علاقتي الشَّخصية به عليه رحمة الله، فإني لم أحظَ بلقائه في موريتانيا، على الرغم من شهرته وارتفاع صيته إلَّا مرتين:
أولاهما بتجمُّعِ لأولادِ إبراهيم وبني يعقوب حمل عليه المستعمر الفرنسي، وكان الحاكم الفرنسي استدعى الشيخ فجاءهُ، وكنتُ
حاضرًا وقت حضوره عنده فترجمتُ بينهما.
وكان غرض المستعمر منه -فيما يظهر- عرضَ وظيفةٍ في مدرسة المستعمر!، فرفض الشَّيخُ العرض.
وإنَّ لقائي الثَّاني به لمَّا كُنْتُ بمدرسة الشَّيخ سيدي جعفر بن ديدي بمنزل سيدي محمَّد بن سيدي جعفر عندما كان الشيخ ضيفًا عنده يومًا التفَّ حوله طلبة هذه المحظرة يسألونه عن مسائل من العلم من شتَّى الفنون، ولا أتذكر من تلك المسائل إلا أن سائلًا سأله عن حكمة رفع المصلي يديه عند الإحرام في الصَّلاة، فأذكُرُ -ولا أستطيع الجزم- بأنَّهُ أجاب: أَنَّ ذلك إيذانًا من المصلي بأنَّهُ نَبَذَ الدنيا ذلك الوقت إلى الوراء، والله أعلم.
وهكذا فإنَّ اللَّه تعالى حكَمَ بعدم لقائي به في البلاد الموريتانية لأمورِ منها: تباعد منازلنا البدوية نوعًا ما، ومنها: أن الشيخ محمَّد الأمين عليه رحمة الله لم يشتهر هناك بمدرسة راكدة مستقرة يقصدها الطلبة إلى أنْ سافر إلى البلاد المقدَّسة عام 1947 م.
وبعد أنْ انتهيتُ من دراسة مختصر خليل في الفقه المالكي، ومن دراسة المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب، اشتقتُ إلى دراسة
أصول الفقه، وإلى دراسة مراقي السُّعود بالذات، ولمَّا تأمَّلتُ مَنْ حولي ممَّن يُدَرْسُ هذا الفن، رأيتُ أنَّه لا يشبع رغبتي فيه إلا دراستُهُ على فضيلة الشيخ محمَّد الأمين الموجود في ذلك الوقت مدرسًا بالرِّياض في المعاهدِ والكليات.
فكتبتُ إليه أخبره برغبتي هذه، وأخبرته أنِّي مستعدٌّ لتكلُّف أعباء السَّفَر لطلب العلم، وأني غيرُ مخاطبِ بالسَّفر لأداء الحج لفقري، وقلتُ في كتابي إليه:"فهل أنا إن تحملتُ أعباء السَّفر على الرَّغم من حالتي الاقتصادية، ووصلتُ إلى فضيلتكم تخصِّصون لي بعضًا من وقتكم الثَّمين تُعلِّمونَ أخاكم فيه هذا الفن؟ ".
فكتب إلَيّ: أنْ تَوَجَّه حالًا، فستجدني عند ظَنِّكَ بي. ولمَّا وصلني خطابه -وأنا بمدينة (داكار) السِّنغالية كنت أزاولُ فيها تجارةً خفيفة- صَفَّيْتُ ما كان عندي من تجارة، وأرسلتُ إلى من يطالبني حقَّه بالحوالة البريديَّة، وبقيت عندي بقيةٌ طفيفة، وتوجَّهتُ حالًا بسكة الحديد إلى (باماكو) عاصمة مالي، ومنها كتبتُ للشَيخ أخبرهُ أنِّي توخهتُ فعلا، وأنه إنْ كانَ يريد أنْ يكتب لي يأمرني بشيء فعلى عنوان الأخ محمَّد محمود بن الدَّاه بمدينة (كانو):[ص. ب: 81].
ولما وصلتُ (كانو) سألتُ الأخ محمَّد محمود هل عهدُهُ بصندوق البريد قريب؟ فأرسلَ إليه رسولًا جاءني بخطاب من شيخي يقول فيه: "يا ابني حصلتُ لك على مساعدة شهريَّة من أحد المحسنين تساعدك على الدِّراسة، ولا تتجاوز (فورلامي) (1) إلّا وأنت تحمل جوازًا دوليّا لَعَلِّي أحصلُ لك على الجنسية السُّعودية".
وفعلًا حصلتُ على الجواز الفرنسي من عاصمة تشاد، لأننا وإيّاها من المستعمرات الفرنسيَّة.
ولقد وصلتُ مدينة جدَّة في رجب 1374 هـ، وأرسلتُ برقيةً إلى الشَّيخ وهو بالرِّياض أخبرهُ بوصولي، فردَّ بأنَه سيتوجَّهُ في شعبان ليصومَ رمضان بالمدينةِ المنوَّرة، وفعلًا حصلَ ذلك فاجتمعتُ به بحمد الله بالمدينة المنورة ولازمته كاتبًا له، وخادمًا، ومتعلمًا، وكان لي الشَّرفُ بذلك كلِّه.
وفي أول السُّنَّةِ الدِّراسية لعام 1375 هـ سافرتُ معه إلى الرِّياض، وعَرَضَ علي الالتحاقَ بالسنة الثَّالثة من كلية الشَّريعة، وقال: "يا ابني أرى أنَّ هذا التَيار الجارف للناس مَنْ لم يحصلْ فيه على
(1) فورلامي: هي عاصمة "تشاد" الآن التي تُدعى "انجامينا"، كان هذا اسمها أيام الاستعمار الفرنسي [Fort Lamy].
شهادةٍ رسميَّةٍ ضائع المستقبل"؛ فرفضتُ الكليَّة حرصًا على دراستي الخاصَّة، والأمور تسير بقدر الله، فقد ضاعت عَلَيَّ هذه الفرصة الذهبيَّة.
ومرة أخرى لمَّا أنهيتُ مراقي السُّعود قال لي شيخي عليه رحمة الله: "إنَّكَ تخصصتَ في فن صعبٍ رائج، تعالَ أطلبُ لك المسؤولين أن تُعَيَّن مدرِّسًا بكلية الشريعة لتخفِّفَ عني من جدول الأصول، وتأخذَ في البيتِ عندي ما تريد من الدُّروس"؛ فرفضتُ أيضًا، والأمر بيدِ اللهِ.
يقولونَ إنَّ الفرصةَ لا تدقُّ بابَ المرء غير مَرَّةٍ واحدة في العمر، وها هي دقت بأبي مرتين في عام واحد، ويأبى اللهُ إلا ما أراد، وما يفعل اللهُ بعبدهِ المؤمن إلا خيرًا.
والحاصل أني عندما وصلتُ الرياض، واستقرَّ بنا الحال في البيت الَّذي أجَّرَهُ الشَّيخ للسكنى، دعاني إلى أنْ أبتدئ في دروسي التي جئتُ من أجلها.
فقلتُ له: إنَّ عندي شرطين أشترطُهما للدراسة فإنْ حققتَهما وإلَّا فلستُ بدارسٍ وأرجعُ إلى بلدي، فقال: وما شرطاك؟ قلت: أنْ لا تُعلمني علمًا استفدتَهُ بعد تجاوزك البحر الأحمر مشرِّقًا!!
فضحك من هذه عليه رحمة الله، وقال: أنت وذاك، ما هو الشَّرط الثَّاني؟ قلت: أنْ لا آخذ درسًا جديدًا حتَّى أقيّدَ على سابقه إملاء من فضيلتكم شرحًا لذلك الدرس.
فقال: أما هذا الشَّرط فلا أستطيعه: لعدم الوقت له عندي.
فقلت: إنَّ هذا الشرط هو الرئيسي عندي، فإنْ لم يتحقق لا أدرسُ وأرجعُ إلى حيث كنت.
قال: ومَنْ تعاند بامتناعك هذا من الدِّراسة؟ فقلتُ: أنت!!. . . أوجّه عنادي إليك!! قال: وأيّ ضرر يصلني إذا امتنعت أنت عن الدِّراسة؟ فقلت: هي فضيحة يا شيخي أنْ تبعث إلى ابن عمَّك وابن أختك من المشرق إلى المغرب لتعلِّمه، فلما يتكلَّف أعباء السفر ووعثاءه ويصلك، تمتنع من تعليمه.
فضحك -عليه رحمةُ الله- وقال: الله يعلم ضيقَ الوقت عندي لكنه لما كان الأمر كما تقول، فلابد من النزول عند رغبتك.
هذا، وقد كنْتُ ابتدأتُ في ترجمة الكتاب دراسةً بدون أخذ إملاء حتَّى وصلتُ قولَ المؤلف: كلامُ ربي إنْ تعلَّق بما. . . إلخ وما تلاه بخمسة أبيات، بعده دعاني الشَّيخ لأخذ حصَّتي اليومية، فدار
الحوار المتقدم ذكره.
وقد جمعتُ من أماليه -عليه رحمةُ الله- كتابًا شرحًا لمراقي السُّعود أحسب أنَّه من أفضل ما أُلِّفَ في هذا الفن أسميتُهُ: "نثر الورود على مراقي السُّعود"(1)، وكان الشيخ يتولَّى كتابة الدروس بنفسه أحيانًا إذا رأى أني مشتغل ببعض شؤونه التي يكلِّفني بها.
ولمَّا وصلتُ الكلامَ على المجاز اشتغلتُ عن أخذ الإملاء بتصحيح ملازم دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب -لأنه آنذاك تحت الطبع- فاشتغلتُ عن أخذ الإملاء حتَّى نهاية مبحث العام، وتركتُ الكتابة على نحوٍ من مائةٍ وستين بيتًا بالإضافة إلى ترجمة الكتاب.
وقد كُنْتُ عازمًا على إكمالِ الكتاب بشرح هذا المحلِّ منه الَّذي لم آخذ عليه إملاءً من الشيخ، غير أَنه تغلبَ عليَّ كُلٌّ من الكسلِ وعدمِ الجدة لِما يُطبع به الكتاب إذا أكملتُه؛ حتَّى انتهز أحد إخواني -ممن يعزُّ عليَّ- فرصة وجود صور دفاتري عند الأستاذ عبد الرحمن السُّديس؛ لأنَّه طلب مني الإذن في تصوير هذه
(1) وكنتُ قد أسميته أيام شبابي بـ"ورد الخدود"! فلما أخبرت الشيخ الأمين به ما زاد على أن تبسَّم. ثم إني غيرته بعد ذلك إلى "نثر الورود".
الدفاتر مساعدةً له على رسألته التي أعدها حول منهج الشيخ، وما شعرتُ في إحدى رجعاتي إلى مكة المكرمة إلَّا وفضيلة الدكتور محمد ابن سيدي الحبيب -عليه أمانُ الله- يكتبُ شَرْحَ المحلَّ الباقي منه الَّذي لم يُشْرَح.
ولم أُبْدِ اعتراضًا على الرَّغم منِّي؛ لأنَّ هذا الشخص مني بمكانٍ، والغرضُ المطلوب من الكتاب هو وصولُهُ إلى أيدي طلبة العلم، وقد حصل ذلك والحمد للَّه.
غيرَ أنَّ جامعه لا يوجد له ذكرٌ في مظهر من مظاهر الكتاب: مؤلفه، ومحقّقه، ومتمِّمه، وحتى حقوق الطبع والتوزيع والإذن في نشره، تمامًا مثل فَرَح الجماعة المحتفلة بقتل أسدٍ لا هُمْ يملكونَ البندقيَّة التي قُتِلَ الأسدُ بها، ولا الَّذي قَتَلَهُ منهم، وحتَّى الجيفة التي كمن عندها الصَّيَّادُ ليست لهم كذلك، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهذا أوان الشُّروع في هذه المجالس.