المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خاتمة رحمَ اللهُ شيخَنا الأمين، وجَمَعَنا به في مستقرِّ رحمته، ما - مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

[أحمد بن محمد الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌نبذة عن حياة الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار

- ‌مع الشَّيخ مُحمَّد الأمين

- ‌مَجلسٌ مع الشَّيخ المختار بن حامدن الدَّيماني

- ‌رجوعٌ إلى مجلس الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني

- ‌ومَجلسٌ في بيت سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم

- ‌ومَجلسٌ في إدارة المعاهد والكليَّات بالرِّياض

- ‌ومجلس مع الشّيخ عبد الله السَّعدوان

- ‌ومَجلس معه في المسجد الحرام

- ‌وشبهُ مَجلِسٍ مع سماحة الشّيخ محمّد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي

- ‌ومَجلسٌ كان داخل المسجد النَّبوي لَمَّا زارَ مَلِكُ المَغْرِب الأقصى مولاي محمَّد بن يوسف المعروف بمحمد الخامس

- ‌وفي مَجلسٍ آخر معه

- ‌ومَجالسُ متتالية ببيتِ فضيلةِ شيخنا عليه رحمةُ الله تفسيرًا للآيات من سورة البقرة من الآية 45 إلى الآية 79

- ‌وبعدَ وفاة الشَّيخ

- ‌الموضوعات التي حاوَرْتُ الشَّيخ حولها

- ‌واوُ العطْفِ ليستْ للمُغايَرَةِ دائمًا

- ‌الإسراف في ادِّعاءِ النَّسخ

- ‌الردُّ على ما نَشَّرتهُ جريدة النَّدوة بقلم الأستاذ أحمد محمَّد جَمال

- ‌بين الشَّيخ الشَّنقيِطي والأستاذ أحمد مُحَمَّد جمال يكتبه أحمد بن أحمد الشنقيطي

- ‌دَعْ عنك العلماء يا جَمَال

- ‌الدَّليلُ على تَفْنيد هذه الفقرة

- ‌ذِكْرُ مَنْ أنكرَ النَّسخ

- ‌لا تُغالِطْ يا أُستاذ

- ‌كلامُ أحمد جَمَال في أهليَّة النَّسَب والدِّين

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌خاتمة رحمَ اللهُ شيخَنا الأمين، وجَمَعَنا به في مستقرِّ رحمته، ما

‌خاتمة

رحمَ اللهُ شيخَنا الأمين، وجَمَعَنا به في مستقرِّ رحمته، ما أحلاها أيَّامًا عشناها، نغترفُ من فائض علومه، فقد كان بيته مدرسةً ننعم فيها بدراسة ما نبتغي من شتَّى فنون العلم؛ من تفسيرٍ، وفقهٍ، وأصولِ فقهٍ، ولغةٍ، وقواعدَ نحويَّةِ، وصرفيةٍ، وبلاغة.

غير أنَّهُ عَوَّدنا -عليه رحمةُ الله- من سلاسةِ التعبيرِ، وحلاوة البيان، ووضوح العبارة ما جعلنا نَمُجُّ بعده كلَّ عبارةٍ لآخر من بعده.

الأمر الذي جعل مصيبتنا به نحن تلاميذَهُ كارثةً بالنَّسبة لنا دون من لم يأخذ عنه مباشرة من الناس، غير أنَّ لنا أحسن العَزاء فيه بمصابنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

ولكنَّنا نحمدُ الله تعالى أنْ تَفَضَّلَ به علينا ومَتَّعنا به مُدَّةَ من الزَّمنِ، تَمَكَّنَ فيها من تصحيح عقائدنا مما كُنَّا نَتَشَبَّث به من عقيدة الأشعريَّة، وما كان فيها من رواسب مذاهب الشَّيخ أبي الحَسَنُ الأشعري الأوَّل، أيامَ كان النَّاطِق باسمِ زوجِ أُمِّهِ الجبَّائي شيخ المعتزلة.

ص: 306

ومن المعلوم أن أطوار الشيخ أبي الحسن الأشعري العقديَّة كانت ثلاثة (1):

فقد كان أولًا على مذهب المعتزلة أربعين سنةً من عمره، حتَّى مَنَّ اللهُ تعالى عليه بتوفيقِهِ لترك هذا المذهب، حين وَجَدَ شيخه يُقرِّر عقيدة وجوب الصَّلاح والأصلح على الله -تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًا كبيرًا-.

فسأله عن مصير ثلاثةٍ: مُسْلمٍ مات كبيرًا، وكافرٍ ماتَ كذلك، وصبيٍّ كافرٍ ماتَ صبيًّا.

فقالَ الجُبَّائي: أمَّا المسلم، ففي الجنّةِ بحسب عمله، وأمَّا الكافر الكبير، ففي النَّار في دَركاتها بحسب طغيانه، وأما الصبيُّ الكافر، ففي النَّار في أدنى دركاتها.

فقال الشَّيخ أبو الحَسَنُ: فما بالُ الصَّغير في النَّار؟

قال الجُبَّائي: يقول اللهُ له: علمتُ في سابق علمي أنَّكَ إنْ كبرت كفرت، فرأيتُ أن الأصلحَ لك أنْ أقتلكَ في الصِّغر؛ لتكونَ في أدنى دَرَكات النَّار.

(1) راجع طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 205) ط. دار المدار الإِسلامي.

ص: 307

قال أبو الحَسَن: لِمَ لا يقول هذا الكافر الكبير، وكذا كلُّ كَبيرٍ في النَّار: يا ربِّ لقد علمتَ في سابقِ علمكَ أنِّي إنْ كبرتُ كفرت، وأنا أرضى بأقل من مصير هذا الغلام، فلِمَ لَمْ تُمِتْني صَبيًّا؟

فقال الجُبَّائي: أَبِكَ جنون؟

قال أبو الحسن: لا، ولكن وقفَ حمارُ الشَّيخ بالعَقَبة.

وهذه القصَّة هي التي يشير إليها المقَّري بقوله في الإضاءة:

وقِصَّةُ الشّيخِ مَعَ الجَّباءِ

ترُدُّ قولَ الآفِكِ الأبَّاءِ

وما اعترى الأطفالَ من آلامِ

يَقْضي لأهلِ السُّنَّةِ الأَعلامِ

ثم إنَّ الشَّيخ أبا الحسن ترك مذهبَ الاعتزال، وقال برؤيةِ الله يومَ القيامَةِ، وقالَ بعدم وجوبِ الصَّلاحِ والأصلح على الله، لكنَّهُ بقيتْ معه في هذه الفترة من الزمن رواسبُ اعتزالية، منها ما يعتقدونه في كلام الله تعالى من نفي الحرف والصَّوت، ومن نفي التَّقديم والتَّأخير، ومن نفي الكلِّ والبعض، والإعراب وضدِّه وغيرها من أمثلة النَّفي المفضَّل، قال المقّري في الإضاءة:

وإنَّما كلامُهُ القديمُ

ما فيهِ تأخيرٌ ولا تقديمُ

نعمْ ولا لحنٌ ولا إعرابُ

أو كلٌّ أو بعضٌ أو اضطرابُ

إذ كلُّها إلى الحدوثِ انتسبا

ص: 308

وُيقرِّرون في صفةِ الكلام أنَّهُ الصِّفَة النَّفسية القائمة بالذَّات، وأنَّ هذا المتلوَّ المتعبّد به مدلولُ كلامِ الله تعالى، والعياذُ بالله تعالى.

ولقد وقعتْ مُشادَّةٌ بيني وبين شيخي محمَّد الأمين -عليه رحمةُ الله- حين درستُ عليه مبحث الأمر من مراقي السُّعود، حيث يقول النَّاظم:

هذا الذي حُدَّ بِه النَّفْسيُّ

وما عليهِ دلَّ قُلْ لفظيُّ

فشَرَحَ الشَّيخُ ألفاظَ النَّاظم، وقال:"هذا مذهبٌ باطل"!، وتقدَّمَ يُبَيِّنُ المذهبَ الحقَّ، وُيبَيِّنُ أن اعتقادَ مثلِ ما قرَّرهُ النَّاظم خطأٌ فاحِشٌ يُفضي إلى نفي كلام الله.

وقد كنتُ آنذاكَ مُتَشَبِّعًا بهذا المذهب الباطل فكتَبَ الله لي الهداية إلى السُّنة على يدي شيخي، فاللهَ نرجو أنْ يجزي عنَّا فضيلةَ الشَّيخ محمد الأمين خيرًا، فقد تكلَّفَ في تصحيح عقائدنا المشقَّةَ العظيمة.

ولقد استضافني (1) أيامَ كنتُ مدرِّسًا بالمسجدِ الحرام أحدُ أعلام قبيلتنا بداري في مكة، حافظٌ لكلِّ المتونِ العلميةِ التي تُدَرَّسُ

(1) طلَبَ ضيافتي.

ص: 309

بذلك القطر الإِسلامي الذي هو منه، فكان أوَّل ما خاطبني به أنْ قال: أَيْ فلان، أنتم كُفَّار، أنتم حَشَوِيَّة، أنتم مُجَسِّمَة.

فقلتُ: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسول الله، اسمع عقيدتي.

فأصَمَّ أُذنيه بأصبعيه، وقال: أخافُ أنْ تُشَبِّهَ عَلَيَّ.

فقلتُ: لابدَّ أنْ تسمع معتقدي ثم احكم عليَّ بِما شئتَ بعد ذلك:

أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسول الله، وأشهد أنَّ الذي جاءَ به محمدٌ حقٌ، وأنَّ الجنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، وأنَّ الساعةَ آتيَةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَنْ في القبور، وأشهدُ أنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُهُ، وكلمته ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه.

وأشهدٌ أنَّ الله موصوفٌ بكلِّ صفة كمالٍ وجلالٍ وصفَ بها نفسه في كتابه العزيز ووصفهُ بها نبيُّه صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِهِ الصَّحيحة، على غرار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وأُقِرُّ بِكَمالِ عَجْزي عن إدراكِ كُنْهِ هذه الذَّات المقدَّسة، وصفاتها العلية، ثم قلتُ: احكم عليَّ بما شئتَ.

ص: 310

فقالَ: هذه ليست عقيدةَ كافر.

ثم بعدَ هُنيهة دعاني وسألني: ما تقولُ في القرآنِ؟

قلتُ: كلامُ الله، منزلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود.

قال: ما عن هذا أسألك، هل تعتقد أنَّ في القرآن حرفًا؟

قلتُ: نعم، الذي أدينُ الله به أنَّ هذا القرآنَ فيه توحيدٌ، وقصصٌ، وأحكامٌ، ومواعِظُ وعبرٌ، وفيه إنشاءٌ وخَبَرٌ، وجملٌ وكلماتٌ تتألَّفُ من حروف.

فقالَ: أنت كافرٌ، وصفتَ كلامَ الله بما لازمُهُ البَكَم، والبَكَمُ مستحيلٌ على الله؛ لأنَّ الكلمة التي تتألَّف من حروف لا يُستطاع النُّطقُ بالحرف الثَّاني منها مثلًا.

قبل النُّطق بالأوَّل، وهذا عجزٌ وهو مستحيلٌ على الله.

فقُلتُ: بالنسبةِ للمخلوقِ فإنَّ قولكَ صادقٌ، وأمَّا القادر على كلِّ شيء، فهو يتكلَّم كيفَ شاء لا يعجزه شيء، ثم قلتُ: مَنْ جاءنا بالقرآن؟

قالَ: رسولُ الله جاءنا به.

ص: 311

فقلتُ: أأنتَ أعلمُ به أم هو؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه أنَّهُ قال: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن: ألفٌ حرفٌ، ولام حرفٌ، وميمٌ حرفٌ"(1) وتقول أنت ليس فيه حرف؟

فتكلَّم كلمة تدلُّ على التَّضجُّر بدارجته المحليَّة وسكتَ، ثم بعد هنيهة سألني قائلًا: ما تقولُ في القرآن؟

فقلتُ: ألم أجبك؟

فقال: ما عن ذلك أسأل، إنما سؤالي عن هذا المتْلُوِّ.

فقلتُ: الذي أدين الله به أنَّ هذا القرآن المتلوَّ بأفواهنا وألسنتنا، المحفوظ في صدورنا، المرقوم في مصاحفنا هو الذي نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبَلَّغهُ رسول الله عن الله أنَّه: كلامُ الله، تكلَّمَ به كما أُنزل علينا، ويَسَّرَه الله للذكر؛ فلو لم يُيِّسرهُ الله للذكر ما استطاع أحدٌ أنْ يتكلَّمَ به:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].

فقالَ لِلمرَّةِ الثَّالثة في مَجْلسٍ واحدٍ!: أنت كافرٌ، إن كلامَ الله

(1) أخرجه أبو داود والترمذي.

ص: 312

هو: الصفة النَّفسية القائمة بالذات المقدَّسة لا تفارقها، وهذا المتلوُّ مدلولُها.

فقلتُ للشَّيخ: أنا لا أستحقُّ أَنْ أبلغَ مرتبةَ طالبٍ في حلقتك، لكنني على مكانتي منك أسمعُ آيةً من كتابِ الله تعالى توعد مَنْ يقول مثلَ ما قلتَ بالنَّار.

فتعجَّب وقال: كيف ذلك؛ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أين هذه الآية؟ فقرأتُ من سورة المدثر قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 - 25]، فقلتُ: وماذا رتَّبَ الله على هذا الزَّعم؟ رتبَ عليه قولَه تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر: 26 - 27].

فعندها كَبَّرَ الشَّيخُ رافعًا يديه بيني وبينَهُ يكرِّر: الله الله! حتى استلقى على قفاه، وتكلَّم كلامًا يُعرِبُ عن تَضَجُّرٍ بلهجته المحليَّة.

ولم يُورِد سؤالًا بعدها حتىَّ سافر إلى بلده، لكنَّني رجوتُ أنْ يكون رجعَ عن هذا المذهب؛ لأنَّني سمعتُهُ بعد ذلك يذكُرني لبعض أهل قرابتي، ويصفُني بصحَّة العقيدة فتفاءلتُ له خيرًا.

والحاصل أنَّه لولا فضل الله علينا بلقاء الشَّيخ محمَّد الأمين بن

ص: 313

محمد المختار الجكني، وصحبتنا له ودراستنا عليه تفسير كتاب الله العزيز، وبعض المصنَّفات الفقهيَّة، والأصوليَّة، والعربية لهَلكنا مع الهالكين ولكنَّ الله سَلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين، نرجو الله تعالى أنْ يتولَّى جزاءهُ عنَّا بما هو أهلُهُ إنَّهُ أهل التَّقوى وأهل المغفرة.

ومعلومٌ أن الطَّور الثَّالث لأبي الحَسَن الأشعري هو الذي أَلَّفَ فيه "الإبانة في أصول الدِّيانة"، وألَّفَ كتابَهُ "مقالاتِ الإِسلاميين"، وفي هذا الطَّور الثَّالث سارَ الشَّيخُ أبو الحَسَنُ الأشعري مسارَ أهل السُّنَّةِ والجَماعَة.

وهنا أنهيتُ ما رُمْتُ تقييدَهُ راجيًا أنْ يُقَيِّدَ كُلُّ تلاميذه ما يحضرهم من مجالسه، ومحاضراته، تعميمًا للفائدة؛ فقد بَثَّ عليه رحمةُ الله علمًا كثيرًا، أثابه الله، وجمعنا به في مستقرِّ رحمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين، وكتَبَهُ جامعُهُ في تسعَ عشرةَ خلت من ذي القعدة الحرام سنة 1421 هـ.

أحمد بن محمّد الأمين بن أحمد المختار الشنقيطي

ص: 314