الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجوعٌ إلى مجلس الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني
وفي انتظار رَدِّ حاكم ولاية العصابة على استفسار الغُرفة الإداريَّة للمحافظ الفرنسي لموريتانيا، كان شيخنا يجلس في مجلس أدبيِّ للشَّيخ المختار بن حامِدُنْ الدَّيماني.
فسأله أحد جلسائه عن أُدَباء المنطقة الشرقية من موريتانيا، فقال له:"أولئك قِدَّ (1) بالنسبة للأدب"، وهي عبارة بشعة في غاية البشاعة والتَّشويه.
فقال له شيخنا الأمين: يا أخي هؤلاء الذين صدرتْ منك هذه العبارةُ البشعةُ في حقهم، أنا الجالس بمجلسك أحدُ أفرادهم، وأستَطيع الدّفاع عنهم.
فقال الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ: واللَّه ما كُنْتُ أظنّ أهل الشَّرقية يدَّعون الأدب، أمّا الفقه والمقرأ فلهم السَّبق فيهما، وأمّا الأدب فما كنت أظنُّ أنَّ لهم مكْرعًا فيه.
فقال الشَّيخ محمد الأمين: تعال ائتني ببيت شعر لأحدٍ من هذه
(1) وهي تعني باللغة الصَّحراوية: الجلد اليابس.
النّاحية الشمالية الغربيّة لآتيك ببيت شعر لأحد من أهل الشّرقيّة أحسنَ منه في المعنى البلاغيّ والقريض، وخذ من عصر محمد ابن الطلبة منهم.
فقال الشَّيخ المختار بن حامِدُنْ: وحتَّى من عصر محمَّد بن الطُّلبة! والله لقد أفسحتَ في المجال، كيف أنت إذًا وبيت محمَّد بن الطلبة من قصيدته الميميَّة التي تُحاكي ميمة حُميد بن ثور، والتي يقول فيها:
ووَجْهًا كأنَّ البدرَ ليلةَ أربعٍ
…
وعَشْرٍ عليهِ ناصلًا قد تَهَمَّما
فقالَ الشَّيخُ عليه رحمة اللَّه: أتعلم أنَّ الوجه جِرمٌ متحيِّزٌ، وأن البدرَ هو الآخَرُ جِرْمٌ كذلك، وأنَّ الجرمين إذا تقابلا أقصى ما يكونُ بينهما أن يُلقي أحدهما ضوءَهُ على الآخر من غير أنْ يتحلَّلَ شيءٌ من أحدهما بالثَّاني؟
قال ابن حامِدُنْ: صدقت.
فقال الشَّيخُ محمَّد الأمين: أتعلم أنَّ الشمسَ أجملُ من البدرِ، وأنَّ أجمل أوقاتها الأصيل.
قال ابن حامِدُنْ: نعم.
قال شيخُنا: أتعلم أنَّ شمسَ الأصيلِ إذا أُذيبتْ، ودُهِنَ بها وجهٌ امتزجَتْ به امتزاجًا؟
قال ابن حامِدُنْ: نعم.
قال الشَّيخُ محمَّد الأمين: فإنَّ صاحبَ أهلِ المنطقة الشَّرقية يقول:
وكأنَّما شَمسُ الأصيلِ مُذابَةً
…
تَنْسابُ فوقَ جَبينِها الوَهَّاج
فَما كان من ابن حامِدُنْ إلا أنْ قال: يا أخي إني ابن ستًّ وخمسين سنة، ومنذ عرفت نفسي والشُّعراء والمتشاعرون يعرضون عليَّ من قيلهم؛ فأُبدي لهم استحسانًا مُجامَلةً لا أدري ما أنا قائلٌ فيه لله.
أمّا الآنَ فإني أستحسنُ هذا البيت الَّذي سمعتُهُ استحسانًا لا أخشى منه إثمًا بإذن الله. هكذا حدَّثني شيخي رحمه الله عن هذا المجلس.
وهذا البيتُ من جيميَّة شيخنا؛ التي هي آخر ما قاله من الشِّعر، ولقد سألتُهُ -عليه رحمة الله- عن أولِ بيت قالَهُ من الشِّعر، وعن آخر بيتٍ قاله؛ فقالَ:"الله يهديك، دعني من هذا"؛ فأَمَّنْتُ على دعائه وقلت: لابد لي من ذلك.
فقالَ: أَوَّلُ بيتٍ قلتهُ وأنا مُراهِقٌ، بلغني أنَّ الشَّيخَ محمدو سالم بن الشِّيْن الحسني موجود بحيِّ أهل أتفاقَهْ بغيضة الظباعية، فقصدته أريد أنْ أقرأ لاميَّةَ الأفعالِ في الصَّرفِ لابن مالكٍ، فلما قدمتُ الحيَّ، وجدتُ معه خلقًا كثيرًا من طلبة العلم فاختلطتُ بهم، وسمعتُهُ يسألُ عني، فلم يجد من يُعَرِّفُني له فقلتُ على البديهةِ مُعَرِّفًا بنفسي:
هذا فتىَ من بني جاكانَ قد نَزَلا
…
بهِ الصِّبا عن لسانِ العُرْبِ قد عَدَلا
رَمَتْ بهِ هِمَّة عَلياءُ نحوَكُمُ
…
إذْ شامَ برقَ علومٍ نورُهُ اشْتَعَلا
فجاءَ يرجو رُكامًا من سَحائِبِهِ
…
تكسو لسانَ الفتى أزهارُهُ حُلَلا
إِذْ ضاقَ ذرعًا بِجَهْلِ النَّحْوِ ثُمَّ أبى
…
أَلَّا يُمَيِّزَ شَكْلَ العَيْنِ من فَعَلا
وقد أتى اليومَ صَبًّا مُولَعًا كَلِفًا
…
بالحمدُ للَّهِ لا أَبغي بهِ بَدَلا (1)
فقالَ الشَّيخُ محمَّدو سالمَ: "نعم، وبكلِّ سرور"، أو قال قولًا معناه هذا. قال شيخنا: إلا أنَّه لم يَفِ بوعدِه حيث إنِّي طلبتُ منه التريُّثَ لي زمنًا قليلًا حتَّى أرجعَ إلى أهلي؛ فآخذ معي زادًا أتَزَوَّد به للسَّفَر معه، ولما رجعت وجدتهُ سافرَ من ذلك الحي ولا يعلمونَ أين توجَّهَ، فرجعتُ إلى أهلي، والحمد لله.
(1) أوردتُ البيتَ الرابع ثقةً بنقل أخي الشيخ عطية رحمه الله له، والعهدةُ عليه في ذلك؛ لأني لم أسمعه من الشيخ عليه رحمة الله عندما حدثني بهذه القصَّة.
قال: وأما آخر ما قلته من الشِّعر فهو الأبيات الجيميَّة.
والتي منها البيت آنف الذكر وهي هذه:
أُنْقِذْتُ مِن داءِ الهَوَى بِعلاجِ
…
شَيبٍ يَزينُ مَفارِقي كالتَّاجِ
قد صَدَّ بي حِلْمُ الأكابرِ عن لَمى
…
شَفَةِ الفَتاةِ الطَّفلةِ المغناجِ
ماءُ الشَّبيبةِ زارعٌ في صَدْرِها
…
رُمَّانَتَي رَوْضٍ كَحُقِّ العاجِ
وكأنَّها قَدْ أُدرِجَتْ في بُرقُعٍ
…
يا ويلتاهُ بها شعاعُ سِراجِ
وكأنَّما شَمْسُ الأصيلِ مُذابَةٌ
…
تَنسابُ فوقَ جَبينِها الوَهَّاجِ
يُحشى لموضِعِ جَنْبِها في خِدْرِها
…
فوقَ الحشِيَّةِ ناعِمُ الدِّيباجِ
لم يُبْكِ عَيني بَينُ حَيٍّ جيرَةِ
…
شَدُّوا المطيَّ بِأَنْسُعِ الأحداجِ
نادَتْ حُداةُ الرَّكبِ حينَ تَرَحَّلوا
…
فتَزَيَّلوا واللَّيلُ ألْيلُ داجِ
لا تطَّبيني عاتِقٌ في دَنِّها
…
رَقَّتْ فراقَتْ في رِقاقِ زُجاجِ
مخضوبةٌ منْها بَنَان مديرِها
…
إذْ لم تكنْ مقتولةً بمِزاجِ
طابَتْ نُفوسُ الشَّرْبِ حينَ أدارَها
…
رَشَأ رَنَا بلِحاظ طَرْفٍ سَاجِ
أو ذات عُودِ أنطقَتْ أَوْتارَها
…
بلُحونِ قَوْلِ للقُلوبِ شَواجِ
فَتَخالُ رنَّاتِ المثاني أحرُفًا
…
قد رُدِّدَتْ في الحَلْقِ من مُهتاجِ
وكأنَّها قد لُقِّنَتْ رنَّاتِها
…
متحيِّزاتِ حَرِيمِها الهَيَّاجِ
نعم، هذا آخر ما قاله الشَّيخ من الشِّعر.
غير أنَّه بعدما وَصَلَ الشَّيخُ البلادَ المقدَّسةَ، وحَصَلَتْ معرفةٌ بينه وبين المسؤولين بها، استدعاهُ -وليُّ العهدِ آنذاكَ- الملكُ سعود بن عبد العزيز -على الجميع رحمةُ اللَّه- لزيارته بالرياض، فاستصحب معه فردًا خادمًا يرافقه.
وكان أَنْ أنشدَ هذا الخادمُ بين يدي وَلِيِّ العهد قصيدةً فيها من البلاغة، والتزام ما لا يلزم ما يعجز عن مثله فحولُ الشُّعراءِ، وهي هذه:
صَرَفَ الفؤادُ عن المِلاحِ غَرامَهُ
…
من بَعْدِ ما كانَ الغَرامُ مَرامَهُ
كانتْ تُساقِطُهُ الفتاةُ حديثَها
…
كالدُّرِّ يَهوَى أَنْ يبينَ كلامَهُ
واليومَ يهوى أنْ يَنالَ مُبَلِّغًا
…
كَيْما يُبلِّغُ في الكلامِ سَلامَهُ
هذا سَلامٌ لائِقٌ بجَنَابِكُمْ
…
يَرْعَى لِمَجْدِكُمُ التَّلِيدِ ذِمامَهُ
إذْ أَنْتمُ تَحْمُونَ دينَ مُحَمَّدٍ
…
تَوحيدَهُ وحَلالَهُ وحَرامَهُ
أَيَّامَ كانَ الكُفْرُ ليلًا مُظْلِمًا
…
والزيغُ يَرفَعُ في الورى أَعلامَهُ
فَسَرى نسيمُ العَدْلِ في أنحائِهِ
…
كالرَّوحِ دَبَّ مشابِكًا أَجرامَهُ
مِنْ بَعدِ ما كانتْ تُباحُ دِماؤُهُمْ
…
والحُرُّ يجعلُه الظَلومُ غُلامَهُ
إذْ كانَ ضَيفُ اللهِ فيهمْ خائِفًا
…
يَجِدُ المَخافَةَ خَلْفَهُ وأمامَهُ
إلى أن قال:
دُمْ يا وليَّ العَهْدِ في شَرَفِ العُلا
…
في ظِلِّ مَنْ رَفَعَ الإِلهُ مَقامَهُ
دامَتْ مآثِرُكُمْ وَخَلَّدَ مُلْكَكُمْ
…
رَبُّ الوَرَى وأمَنَهُ وأدامَهُ
أمَّا نَحْنُ فإنَّنا على يقينٍ من أنَّ استعمالَ أنواعِ المُحَسِّناتِ المعنوية واللغوية في هذه القصيدة، ونَحْتِ معنىً بقولِ:
فَسَرى نَسِيمُ العَدْلِ في أَنحائِهِ
…
كالرَّوحِ دَبَّ مُشابِكًا أجرامَهُ
ليس من السَّهْلِ على قائلٍ قولُهُ، وأين ذلك من مستوى زَيْدٍ المستفيدِ من نسبتها إليه!!، واللهُ وحدهُ المُطلع على الحقيقة في ذلك.