الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ العَلامَةِ الدّكتورِ صَالِحِ بن ِفوْزَان بن ِعَبْدِ اللهِ الفوْزَان
عُضْوِ هَيْئةِ كِبَارِ العُلمَاءِ، وَعُضْوِ اللجْنةِ الدّائِمَةِ للإفتَاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمْدُ للهِ، وَالصَّلاة ُوَالسَّلامُ عَلى رَسُوْل ِ اللهِ نبينا محمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَصَحْبهِ وَمَنْ وَالاه، وَتَمَسَّك َ بسنتهِ وَاتبعَ هُدَاه، أَمّا بَعْدُ:
فقدِ اطلعْتُ عَلى رِسَالةٍ لِلأَخِ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيزِ بن ِ فيْصَل الرّاجِحِيّ، بعنوَان ِ «مُجَانبة ُ أَهْل ِ الثبوْر، المصَليْنَ في المشاهِدِ وَعِنْدَ القبوْر» .
وَهِيَ رَدٌّ عَلى مَنْ أَجَازَ الصَّلاة َ في المقابرِ وَعِندَ القبوْر.
وَلمّا تأَملتها: وَجَدْتها رِسَالة ًجَيِّدَة ً في مَوْضُوْعِهَا، تدْحَضُ شبهَاتِ القبوْرِيِّيْنَ، وَتسُدُّ وَسِيْلة ً مِنْ وَسَائِل ِ الشِّرْكِ المشِيْن.
فجزَاهُ الله ُ خيْرَ الجزَاءِ، وَنفعَ بهَذِهِ الرِّسَالةِ وَغيْرِهَا مِنَ الكتبِ المفِيْدَةِ، وَالأَجْوِبةِ السَّدِيدَةِ،
وَصَلى الله ُ وَسَلمَ عَلى نبينا محمَّدٍ، وَآلِهِ وَصَحْبه،،،
كتبهُ
صَالح بن فوْزان بن عَبْدِ الله الفوْزان
عُضْو هَيْئَةِ كِبارِ العُلمَاء
(التَّوقيع)
في 25/ 3/1424هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمْدُ للهِ رَبِّ العالمِيْنَ، وَالصَّلاة ُوَالسَّلامُ عَلى إمَامِ وَخَاتَمِ الأَنبيَاءِ وَالمرْسَلِيْنَ، نبيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِيْنَ، وَبعْدُ:
فقدْ قبضَ الله ُسُبْحَانهُ نبيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَلم يَتْرُك ْ خَيْرًا إلا َّ دَلَّ الأُمَّة َعَليْهِ، وَحَثهَا إليْهِ، وَلا شرًّا إلا َّحَذّرَهَا مِنْهُ، وَأَبعَدَهَا عَنْه.
بَلْ وَمَا مِنْ سَبيْل ٍ وَلا ذرِيْعَةٍ إلىَ شَرٍّ إلا َّ وَقدْ حَذَّرَ مِنْهَا، مَخافة َ أَنْ يَنْتَهيَ الحالُ بسَالِكِهَا إلىَ مَغبَّةٍ لا يَحْمَدُ عُقبَاهَا.
خاصّة ً مَا كانَ خَطرُهُ عَلى مَعاقِدِ الإيْمَان ِ، وَمَعَاصِمِ الإسْلامِ، كالشرْكِ باِللهِ تَعَالىَ، وَذرَائِعِهِ وَوَسَائِلِه.
بَلْ حَذَّرَ صلى الله عليه وسلم مِنْ مُشَابَهَةِ المشْرِكِيْنَ، وَمُحَاكاةِ الكافِرِيْنَ، وَلوْ كانَ ذلك فِي اللبْس ِ وَالهيْئَةِ، فكيْفَ باِلعِبَادَةِ وَالطاعَة؟!
فأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بتَغْييرِ الشَّيْبِ، وَحَفِّ الشَّوَارِبِ، وَإيْفاءِ اللحَى، مُخالفة ً لِلكافِرِيْن.
وقالَ صلى الله عليه وسلم: «فصْلُ مَا بيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْل ِ الكِتابِ: أَكلة ُ السَّحَر» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِه» (1096) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاص ِ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ بَعْدَهُ في «اقتِضَاءِ الصِّرَاطِ المسْتَقِيْمِ» (1/ 186 - 187): (وَهَذَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الفصْلَ بَيْنَ العِبَادَتيْن ِ: أَمْرٌ مَقصُوْدٌ لِلشّارِعِ، وَقدْ صَرَّحَ بذَلِك َ فِيْمَا رَوَاهُ أَبو دَاوُوْدَ (2353) عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ الدِّينُ ظاهِرًا، مَا عَجَّلَ الناسُ الفِطرَ، لأَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُوْن» .
وَهَذا نصٌّ في أَنَّ ظهُوْرَ الدِّين ِ، الحاصِلَ بتَعْجِيْل ِ الفِطرِ، لأَجْل ِ مُخالفةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى.
وَإذا كانَ مُخالفتهُمْ سَبَبًا لِظهُوْرِ الدِّين ِ، فإنمَا المقصُوْدُ بإرْسَال ِالرُّسُل ِ: أَنْ يَظهرَ دِيْنُ اللهِ عَلى الدِّين ِ كلهِ، فيَكوْنُ نفسُ مُخالفتهمْ، مِنْ أَكبَرِ مَقاصِدِ البعْثة) اه.
وَكانَ مِنْ أَشَدِّ مَا خَشِيَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى أُمَّتِهِ: الشِّرْك ُ باِللهِ، وَمَا يُفضِي إليْه.
وَلمّا مَرِضَ صلى الله عليه وسلم مَرَضَ مَوْتهِ، وَكانَ وَعْكهُ شَدِيْدًا: لمْ يَشْغلهُ مَرَضُهُ الشَّدِيْدُ، وَلا مَا كانَ فِيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَحْذِيْرِ أُمَّتِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَوَسَائِلِهِ قبْلَ قبْض ِ رُوْحِهِ الطاهِرَةِ بخمْس ِ ليَال ٍ، فقالَ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ كذَلِك َ-:«أَلا وَإِنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ، أَلا فلا تتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجدَ، فإني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك) رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (532) عَنْ جُنْدُبِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
فصل
وَقدْ رَأَيْتُ كاتِبا قبْلَ أَيامٍ، أُعْجِمَ قلبُهُ عَنْ هَذَا، فلمْ يُدْرِكِ المُرَادَ، فرَجَّحَ مَا ليْسَ عَليْهِ اعْتِمَادٌ، وَلا لهُ عِمَادٌ، وَكتبَ مَقالا ً يَعِيْبُ فِيْهِ عَلى الناس ِ في بلادِنا وفي بلادٍ أُخْرَى، مَا رَآهُمْ فِيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ، وَبُعْدٍ عَنْ مَوَاطِن ِ الشرِّ وَالنِّقمَةِ، فقالَ:(يتلقى أَكثرُ النّاس ِحُكمَ حُرْمَةِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ باِلتَّسْلِيْمِ، وَكأَنهُ مِنَ المتفق ِ عَليْهِ، أَوْ كأَنَّ نصًّا مُحْكمًا وَرَدَ فِيْه!).
ثمَّ زَادَ فقالَ: (وَالحقِيْقة ُ أَنَّ المسْأَلة َخِلافُ ذلِك َ، وَمَذْهَبَ السَّلفِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ: الجوَازُ، إلا َّ مَا كانَ مِنَ الإمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله.
فالصَّلاة ُ فِي المقبَرَةِ إذنْ جَائِزَة ٌ لِلأَدِلةِ التالِيَةِ:
قوْلُ رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَطهُوْرًا» ، وَهَذَا يعُمُّ الأَرْضَ كلهَا.
بنَاءُ رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُوْرٌ، وَهُوَ فِي «الصَّحِيْحَيْن» .
صَلاة ُ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى المِسْكِيْنَةِ، التي كانتْ تقمُّ المسْجِدَ فِي المقبَرَةِ مَعَ أَصْحَابهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ.
صَلاة ُ الصَّحَابَةِ فِي المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْر.
عَدَمُ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ فِي النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَة.
هَذَهِ بَعْضُ الأَدِلةِ عَلى جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ عَلى وَجْهِ الاخْتِصَار) اه كلامُ المعْتَرِض.
ثمَّ أَحَالَ عَلى رِسَالةِ «الجوْهَرَة، فِي جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبرَة» ، وَليْسَ فِيْهَا شَيْءٌ يُحْتَجُّ بهِ، غيْرُ مَا ذكرَ هُوَ، وَسَيَأْتِي (ص109 - 125) إبْطالهُ بمَشِيْئَةِ الله (1)
(1) - بَعْدَ إتْمَامِي كِتَابي هَذَا بزِيادَاتِهِ الملحَقةِ: رَأَيتُ كِتَابًا طبعَ حَدِيثا باِسْمِ «كشْفِ السُّتُوْرِ، عَمّا أَشْكلَ مِنْ أَحْكامِ القبوْر» لِمَحْمُوْدِ بن ِ سَعِيْدِ بن ِ مَمْدُوْحٍ، نشَرَتهُ دَارُ الفقِيْهِ عَامَ (1423هـ)، في (361) صَفحَة.
قرَّرَ فِيْهِ أُمُوْرًا فاسِدَة ً كثِيرَة ً، مِنْ جَوَازِ البنَاءِ عَلى القبوْرِ، وَالصَّلاةِ في المقابرِ، وَالسَّفرِ إلىَ زِيارَتِهَا، وَاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا، وَجَوَازِ النَّذْرِ لِلأَمْوَاتِ! وَعِنْدَ القبوْرِ! وَالذَّبحِ لها! وَالتَّبرُّكِ بهَا! وَغيرِ ذلِك َ مِمّا سَيَأْتِي تفصِيْلُ بطلانِه.
وَطعَنَ في شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ رحمه الله ُ، لِحُكمِهِ بخِلافِ مَا قرَّرَهُ هَذَا المبْطِلُ! وَرَمَاهُ بأُمُوْرٍ باطِلةٍ كثِيرَةٍ قدْ رُدَّتْ عَليْهِ! وَانصَرَفتْ إليْهِ!
وَنالَ مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رحمه الله ُ، وَذكرَ جَهَالاتٍ كثِيرَة ً سُقوْطهَا يغْني عَنْ إسْقاطِهَا. وَمَا كانَ مِنْ جَهَالاتِهِ قدْ يرُوْجُ عَلى بَعْض ِ العَامَّةِ وَمَنْ في حُكمِهمْ: فقدْ بَيَّنْتُ حَالهُ في هَذَا الرَّدِّ في مَوْضِعِه. أَمّا المسَائِلُ الأُخْرَى التي تَعَرَّضَ لها وَلمْ أَتعَرَّضْ لها في كِتَابي هَذَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا: فهيَ قلِيْلة ٌ، وَليْسَ هَذَا مَوْضِعَ الرَّدِّ عَليْهَا، مَعَ أَنَّ أَهَمِّيَتَهَا أَقلُّ مِنْ سَابقاتِهَا، وَوُضُوْحَهَا لِلنّاس ِ أَكثرُ، وَالحمْدُ لله.
فصل في تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ في هَذِهِ المسْأَلةِ، وَبيان ِ مَا أَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى تَحْرِيْمِهِ فِيْهَا، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَهُمْ
قبْلَ الجوَابِ عَمّا أَوْرَدَهُ المعْترِضُ، أُبيِّنُ مَسْأَلتَيْن ِ:
إحْدَاهُمَا:
أَنَّ بنَاءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، بدْعة ٌ مُحَرَّمَة ٌ باِتفاق ِ الأَئِمَّة.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/ 488): (فإنَّ بناءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، ليْسَ مِنْ دِيْن ِ المسْلِمِيْن.
بَلْ هُوَ مَنْهيٌّ عَنْهُ باِلنُّصُوْص ِالثابتَةِ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاتفاق ِ أَئِمَّةِ الدِّين.
بَلْ لا يَجُوْزُ اتِّخاذ ُ القبوْرِ مَسَاجِدَ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ ببناءِ المسْجدِ عَليْهَا، أَوْ بقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا. بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفِقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلك).
ثمَّ قالَ رحمه الله ُ (27/ 488): (بلْ ليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُصَليَ فِي المسَاجِدِ التي بُنِيَتْ عَلى القبوْرِ، وَلوْ لم يَقصِدِ الصَّلاة َ عِنْدَهَا، فلا يُقبَلُ ذلِك َ، لا اتفاقا، وَلا ابْتغاءًا، لِمَا فِي ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ باِلمشْرِكِيْنَ، وَالذَّرِيْعَةِ إلىَ الشِّرْك).
ثمَّ قالَ رحمه الله ُ (27/ 489): (وَأَمّا المسَاجِدُ المبْنِيَّة ُ عَلى القبوْرِ: فقدْ نهَوْا عَنْهُ، مُعَللِيْنَ بخوْفِ الفِتْنَةِ بتَعْظِيْمِ المخْلوْق ِ، كمَا ذكرَ ذلِك َ الشّافِعِيُّ وَغيْرُهُ مِنْ سَائِرِ أَئِمَّةِ المسْلِمِيْن).
وَقالَ رحمه الله ُفِي مَوْضِعٍ آخَرَ (24/ 318): (وَأَمّا بنَاءُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، وَتسَمَّى «مَشَاهِدَ»: فهَذَا غيْرُ سَائِغٍ، بَلْ جَمِيْعُ الأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذلك)، ثمَّ ذكرَ رحمه الله ُ بَعْضَ الأَدِلة.
المسْأَلة ُ الثانية ُ:
أَنَّ مَنْ ظنَّ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَ أَيِّ قبَرٍ كانَ، لهَا فضِيْلة ٌ تخصُّهَا، أَوْ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهُ مُسْتَحَبَّة ٌ: فهُوَ ضَالّ.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ رحمه الله ُ (27/ 488): (بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ، وَأَنهُ ليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يقصِدَ الصَّلاة َ عِنْدَ قبْرِ أَحَدٍ، لا نبيٍّ وَلا غيْرِ نبيّ.
وَكلُّ مَنْ قالَ: «إنَّ قصْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرِ أَحَدٍ، أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غيْرِ ذلِك َ: أَمْرٌ مَشْرُوْعٌ» ، بحيْثُ يَسْتَحِبُّ ذلِك َ، وَيَكوْنُ أَفضَلَ مِنَ الصَّلاةِ فِي المسْجِدِ الذِي لا قبَرَ فِيْهِ: فقدْ مَرَقَ مِنَ الدِّين ِ، وَخَالفَ إجْمَاعَ المسْلِمِيْنَ، وَالوَاجِبُ أَنْ يُسْتتَابَ قائِلُ هَذَا وَمُعْتَقِدُهُ، فإنْ تابَ وَإلا َّ قتِل).
وَقالَ رحمه الله ُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (24/ 318): (فمَن ِ اعْتقدَ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهَا، فِيْهَا فضْلٌ عَلى الصَّلاةِ عَلى غيْرِهَا، أَوْ أَنها أَفضَلُ
مِنَ الصَّلاةِ فِي بَعْض ِالمسَاجِدِ: فقدْ فارَقَ جَمَاعَة َ المسْلِمِيْنَ، وَمَرَقَ مِنَ الدِّين. بَلْ الذِي عَليْهِ الأُمَّة ُ: أَنَّ الصَّلاة َ فِيْهَا، مَنْهيٌّ عَنْهَا نهْيَ تَحْرِيْم) اه.
وَقدْ قدَّمْتُ هَاتيْن ِ المسْأَلتيْن ِ، لِيظهَرَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَأَنهُمَا ليْسَتَا دَاخِلتَيْن ِ فِيْهِ، وَأَنَّ حُرْمَتَهُمَا بإجْمَاعٍ لا نِزَاعَ فِيْه.
وَالمعْتَرِضُ لا يُنَازِعُ كذَلِك َ فِي تَحْرِيْمِهمَا.
أَمّا مَحَلُّ النزَاعِ، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَ أَهْل ِ العِلمِ: فهُوَ حُكمُ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ، مِنْ غيْرِ قصْدٍ لِلصَّلاةِ فِيْهَا، وَلا تَعْظِيْمِ مَقبوْر.
وَهَذِهِ المسْأَلة ُ، هِيَ التي أَجَازَهَا المعْتَرِضُ، وَرَجَّحَهَا، وَضَعَّفَ قوْلَ مُحَرِّمِيْهَا!
وَهَذِهِ المسْأَلة ُ- أَعْنِي حُكمَ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ، مِنْ غيْرِ قصْدِ قبْرٍ، وَلا تَعْظِيْمِ مَقبوْرٍ: فِيهَا خِلافٌ بيْنَ أَهْل ِالعِلمِ:
* فحَرَّمَهَا جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الخطابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاس ٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَطاءُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ المنذِر.
وَإليْهِ ذهَبَ الإمَامُ أَحْمَدُ، وَإسْحَاقُ، وَأَبوْ ثوْر.
* وَأَباحَ الصَّلاة َ في المقبرَةِ، أَوْ كرِهَهَا مِنْ غيْرِ تَحْرِيْمٍ: آخَرُوْن.
قالَ البَغوِيُّ في «شَرْحِ السُّنَّةِ» (2/ 411): (اِخْتَلفَ أَهْلُ العِلمِ في الصَّلاةِ في المقبرَةِ وَالحمّامِ: فرُوِيَتِ الكرَاهِيَة ُ فِيْهمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلف. وَإليْهِ ذهَبَ أَحْمَدُ، وَإسْحَاقُ، وَأَبوْ ثوْرٍ، لِظاهِرِ الحدِيْثِ، وَإنْ كانتِ الترْبة ُ طاهِرَة ً، وَالمكانُ نظِيْفا. وَقالوْا: قدْ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اِجْعَلوْا فِي بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ، وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» . فدَلَّ عَلى أَنَّ مَحَلَّ القبْرِ ليْسَ بمَحَلٍّ لِلصَّلاة.
وَمِنْهُمْ: مَنْ ذهَبَ إلىَ أَنَّ الصَّلاة َ فِيْهمَا جَائِزَة ٌ، إذا صَلى في مَوْضِعٍ نظِيْفٍ مِنْه.
وَرُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلي عِنْدَ قبْرٍ فقالَ: «القبْرَ القبْرَ» (1)، وَلمْ يَأْمُرْهُ باِلإعادَة.
وَحُكِيَ عَن ِالحسَن ِ: أَنهُ صَلى في المقابر.
وَعَنْ مَالِكٍ: «لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر» ) اه.
قلتُ: وَقوْلُ البَغوِيِّ: (وَعَنْ مَالِكٍ: «لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر»): غيْرُ مُسَلمٍ، فقدِ اخْتَلفتِ الرِّوَايَة ُ عَنْ مَالِكٍ في ذلك.
(1) - صَحِيْحٌ، عَلقهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1/ 437)، وَرَوَاهُ مَوْصُوْلا ً: أَبوْ بَكرٍ ابْنُ أَبي شيبة َ في «مُصَنَّفِهِ» (2/ 379)، وَعَبْدُ الرَّزّاق ِفي «مُصَنَّفِهِ» أَيْضًا (1/ 404 - 405)، وَأَبوْ بَكرٍ ابْنُ المنذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 186) وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبرَى» (2/ 435).
وَسَيَأْتِي الكلامُ عَليْهِ - بمشِيْئَةِ اللهِ - في «فصْل ِ نقض ِ دَلِيْل ِ المعْترِض ِ الرّابعِ، وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابَةِ في المقبرَةِ مِنْ غيرِ نكير» (ص121 - 122).
قالَ أَبوْ بكرٍ ابْنُ المنْذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 185): (وَاخْتُلِفَ في هَذِهِ المسْأَلةِ عَنْ مَالِكٍ: فحَكى ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ أَنهُ قالَ: «لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر» .
وَحُكِيَ عَنْ أَبي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنهُ قالَ: «لا أُحِبُّ الصَّلاة َ في المقابر» ) اه.
قلتُ: وَالذِي يَظهَرُ لِي: أَنْ لا نِزَاعَ وَلا اخْتِلافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْن ِ، فالأُوْلىَ: يُرِيْدُ بهَا الصَّلاة َ في المقابرِ عَلى الجنائِزِ، وَالأُخْرَى: أَرَادَ بهَا الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُود.
وَقدْ أَطلقَ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، جَوَازَ الصَّلاةِ في المقابرِ، أَوْ كرَاهَتَهَا، وَهُمْ يَعْنُوْنَ صَلاة َ الجنازَةِ فِيْهَا، لا الصَّلاة َ المعْهُوْدَة َ، ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْد.
وَمَنْ مَنَعَ مِنْ هَؤُلاءِ الصَّلاة َ عَلى الجنازَةِ في المقبَرَةِ: فهُوَ يَمْنَعُ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِيْهَا مِنْ بابِ أَوْلىَ.
أَمّا مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ صَلاة َ الجنازَةِ بهَا: فلا يَلزَمُ مِنْ ذلِك َ تَجْوِيْزُهُ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُودِ بهَا. بَلْ إنَّ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلفِ، قدْ أَجَازُوْا الصَّلاة َ عَلى الجنازَةِ في المقبَرَةِ، وَحَرَّمُوْا غيْرَهَا مِنَ الصَّلوَاتِ، وَقدْ جَاءَتْ بذَلِك َ السُّنَّة.
وَالذِي عَليْهِ المحَققوْنَ مِنْ أَهْل ِالعِلمِ: أَنَّ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ، مُحَرَّمَة ٌ بلا شَكٍّ وَلا رَيْبٍ، لِكثْرَةِ الأَحَادِيْثِ
النّاهِيَةِ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا، وَاتخاذِهَا مَسَاجِدَ، وَلعْن ِ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم لِليهُوْدِ وَالنَّصَارَى لاتخاذِهِمْ إياهَا مَسَاجِدَ يُصَلوْنَ فِيْهَا، وَتَغْلِيْظِهِ فِي التَّحْذِيْرِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذلِك َ، حَتَّى قبيْلَ وَفاتِهِ بليَال ٍ، وَسَيَأْتِي ذِكرُ طرَفٍ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيْث.
إلا َّ أَنهُمْ اخْتَلفوْا في صِحَّةِ صَلاةِ المصَلي فِيْهَا، فقالَ جَمَاعَة ٌ مِنْهُمْ: هِيَ بَاطِلة ٌ، لأَنَّ النَّهْيَ يَقتضِي التَّحْرِيْمَ وَالفسَاد. وَقالَ آخَرُوْنَ: هُوَ آثِمٌ عَاص ٍ، إلا َّ أَنَّ صَلاتهُ صَحِيْحَة ٌمَعَ إثمِهِ، وَسَيَأْتِي تفصِيْلهُ (ص45 - 65) بمشِيْئَةِ الله.
قالَ ابنُ المنذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 185): (وَالذِي عَليْهِ الأَكثرُ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ: كرَاهِيَة ُ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ، لحدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَكذَلِك َ نقوْل) اه.
قلتُ: مُرَادُ ابْن ِ المنذِرِ رحمه الله ُ باِلكرَاهَةِ هُنَا: كرَاهَة َ التَّحْرِيْمِ، لِذَا قالَ قبْلَ ذلِك َ (2/ 183) عَلى حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا «اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ، وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» قالَ: (ففِي قوْلِهِ: «وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» : دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ المقبَرَة َ ليْسَتْ بمَوْضِعِ صَلاةٍ، لأَنَّ في قوْلِهِ «اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ»: حَثا عَلى الصَّلوَاتِ في البيوْت.
وَقوْلِهِ «وَلا تَجْعَلوْهَا قبوْرًا» : يدُلُّ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ غيْرُ جَائِزَةٍ في المقبَرَة).
وَقالَ ابنُ المنْذِرِ في مَوْضِعٍ آخَرَ (5/ 417 - 418): (وَفي حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنهُ قالَ: «اِجْعَلوْا في بُيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ، وَلا تتخِذُوْهَا قبوْرًا»: أَبيَنُ البيان ِ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ في المقبَرَةِ غيْرُ جَائِزَة) اه.
وَقدْ أَطلقَ ابْنُ المنْذِرِ هُنَا الكرَاهَة َ، وَأَرَادَ بهَا التَّحْرِيْمَ، كإطلاق ِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الأَئِمَّةِ ذلِك َ، وَهُمْ لا يُرِيْدُوْنَ بهِ إلا َّ ذلك.
وَوَهِمَ مَنْ ظنَّهُمْ أَرَادُوْا كرَاهَة َ التَّنْزِيْهِ التي اصْطلحَ عَليْهَا الأُصُوْلِيُّوْنَ بَعْدَهُمْ! وَسَيَأْتِي تقرِيْرُ هَذَا في فصْل ٍ قادِمٍ (ص179 - 191) بمشِيْئَةِ الله.