الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
َ ذو السُّوَيْقتَيْن ِ مِنَ الحبشة» رَوَاهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1591)، (1596) وَمُسْلِم (2909).
* وَفي رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 220) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عَمْرٍو رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقوْلُ: «يُخْرِبُ الكعْبَة َ ذو السُّوَيْقتيْن ِ مِنَ الحبشةِ، وَيسْلبهَا حِليتهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا، وَلكأَني أَنظرُ إليْهِ أُصَيْلِعُ أُفيْدِعُ يَضْرِبُ عَليْهَا بمِسْحاتهِ وَمِعْوَلِه» .
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ: أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعِ أَهْل ِ العِلمِ، عَلى جَوَازِ طرُوْءِ الكفرِ وَالشِّرْكِ عَلى كلِّ مُكلفٍ إلا َّ الأَنبيَاءَ، فهُمْ مَخْصُوْصُوْنَ بعِصْمَةِ اللهِ لهمْ مِنْ ذلِك َ كله.
وَلمْ يَسْتثن ِ أَهْلُ العِلمِ أَهْلَ الجزِيْرَةِ مِنْ هَذِهِ الأَحْكامِ، بَلْ هُمْ دَاخِلوْنَ فِيْهَا بلا رَيْبٍ، وَمَا قدَّمْنَاهُ في الوَجْهِ الثالِثِ وَالرّابعِ وَالخامِس ِ، مِنَ ارْتدَادِ أَحْيَاءٍ مِنَ العَرَبِ زَمَنَ أَبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَارْتِدَادِ جَمَاعَةٍ آخَرِيْنَ مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ، بإيْمَانِهمْ بمُسَيْلِمَة َ الكذّابِ، وَارْتِدَادِ آخَرِيْنَ بتأْلِيْههمْ عَليًّا رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَهُمْ جَمِيْعًا مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ: يدُلُّ عَلى ذلِك َ أَيْضًا.
هَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا، كلُّ وَجْهٍ مِنْهَا يُسْقِط ُ تَأْوِيْلَ أُوْلئِك َ المبْطِلِيْنَ بحمْدِ الله.
فصل أَمّا اسْتِدْلالُ هَؤُلاءِ المبْطِلِيْنَ، عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ
، بقوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَلكِنْ في التَّحْرِيْش ِ بَيْنَهُمْ» : فاسْتِدْلالٌ بَاطِلٌ في غيْرِ مَحَلهِ وَلا مَكانِه، وَجَوَابهُ مِنْ وُجُوْهٍ أَيضًا:
الوَجْهُ الأَوَّلُ: أَنَّ يَأْسَ المخْلوْق ِ- أَيا كانَ، وَلوْ كانَ صَالِحًا فضْلا ً عَنْ غيرِهِ -: لا يدُلُّ عَلى انتِفاءِ مَا يئِسَ مِنْهُ، بَلْ رُبمَا كانَ مَا يئِسَ مِنْهُ أَقرَبَ إليْهِ مِنْ شِرَاكِ نعْلِهِ، قالَ سُبْحَانهُ:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} .
فيَأْسُ الرُّسُل ِ لمْ يَكنْ صَحِيْحًا في حَقِيْقةِ الأَمْرِ مِنَ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ، بَلْ كانَ قرْبُ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ شَدِيْدًا، لكِنْ لِخفاءِ ذلِك َ عَنْهُمْ ظنُّوْا مَا ظنُّوْا.
وَهَذَا مِنْ قصُوْرِ البشرِ، وَعَدَمِ عِلمِهمْ باِلغيْبِ إلا َّ مَا أَظهَرَهُمُ الله ُ عَليْهِ: رَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (4/ 11 - 12) وَأَبوْ دَاوُوْدَ الطيالِسِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (ص147)(1092) وَابْنُ مَاجَهْ في «سُننِهِ» (181) كلهُمْ مِنْ طرِيْق ِ حَمّادِ بْن ِسَلمَة َ عَنْ يَعْلى بْن ِ عَطاءٍ عَنْ وَكِيْعِ بْن ِ عُدُس ٍ عَنْ عَمِّهِ أبي رَزِيْن ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ضَحِك َ رَبنا مِنْ قنوْطِ عِبَادِهِ، وَقرْبِ غِيَرِه» .
وَالقنوْط ُ: اليأْسُ. والغِيَرُ: سُقيا اللهِ عز وجل لِعِبَادِهِ باِلأَمْطار.
فلمّا كانَ العِبَادُ لا يرَوْنَ فرَجًا قرِيْبًا، وَيئسُوْا مِنْ فرَجهمْ وَقنِطوْا، وَكانَ فرَجُهُمْ في الحقِيْقةِ قرِيبا: كانَ ذلِك َ مُوْجِبًا لِضَحِكِ الرَّحْمَن ِ جَلَّ وَعَلا.
لهِذَا جَاءَ في رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (4/ 13) وَابْن ِخُزَيْمَة َ في «التَّوْحِيْدِ» (2/ 460 - 470)(271) والحاكِمِ في «مُسْتَدْرَكِهِ» (4/ 561) زَادُوْا: «يُشْرِفُ عَليْكمْ أَزِلِيْنَ مُشْفِقِيْنَ، فظلَّ يَضْحَك ُ، وَقدْ عَلِمَ أَنَّ فرَجَكمْ قرِيْبٌ» .
فيَأْسُ المخلوْق ِ لا ينفِي تَحَققَ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ وَحُصُوْله.
بَلْ رُبمَا كانَ ذلِك َ الميْؤُوْسُ مِنْهُ قرِيبا، كمَا في «آيةِ يُوْسُفَ» وَ «حَدِيْثِ أَبي رَزِيْن ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ» ، وَقدْ تقدَّما.
فيَأْسُ الشَّيْطان ِ لا يدُلُّ عَلى انتِفاءِ مَا يَئِسَ مِنْهُ، لأَنَّ ذلِك َ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوْبِ الغيْبِ، وَقدْ خَفِيَ عَنْهُ كمَا تقدَّم.
وَإنمَا يدُلُّ عَلى انتِشَارِ الخيرِ في ذلِك َ الزَّمَان ِ، حَتَّى ظنَّ الشَّيْطانُ - لِكثْرَةِ مَا يرَاهُ مِنَ الخيرِ وَانتِشَارِ الحقِّ وَالهدَى، وَظهُوْرِ أَهْلِهِ-: أَنْ لا يُضِلَّ أَحَدًا مِنَ المؤْمِنِينَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَلا يُعْبَدُ فِيْهَا شَيءٌ غيرَ اللهِ عز وجل.
الوَجْهُ الثّانِي: تقدَّمَ ذِكرُهُ في الوَجْهِ الثّانِي عَلى الحدِيْثِ السّابق ِ «لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب» .
وَالوَجْهُ الثالِثُ: تقدَّمَ ذِكرُهُ في الوَجْهِ الثالِث (ص205).
وَالوَجْهُ الرّابعُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ الرّابع (ص205).
وَالوَجْهُ الخامِسُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ الخامِس (ص205).
وَالوَجْهُ السّادِسُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ السّابع (ص206).
وَالوَجْهُ السّابعُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ الثامِن (ص206).
وَالوَجْهُ الثامِنُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ التّاسِع (ص206 - 208).
وَالوَجْهُ التّاسِعُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ العَاشِر (ص208 - 209).
وَالوَجْهُ العَاشِرُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ الحادِي عَشر (ص209).
هَذِهِ عَشَرَة ُ وُجُوْهٍ في إبْطال ِ اسْتِدْلال ِ القبوْرِيينَ بحدِيْثِ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَب» .
وَتقدَّمَ قبْلهَا أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا في إبْطال ِ اسْتِدْلالهِمْ بحدِيْثِ «لا يَجْتَمِعُ دِينان ِ في جَزِيرَةِ العَرَب» .
وَالحاصِلُ: أَنهُ لا يَصِحُّ لهمْ دَلِيْلٌ في هَذِهِ المسْأَلةِ، وَكلُّ مَا اسْتَدَلوْا بهِ لا حُجَّة َ لهمْ فِيْهِ إجْمَاعًا، كمَا تقدَّم. وَشُذُوْذهُمْ في الاسْتِدْلال ِ بهَذَيْن ِ الدَّليْليْن ِ عَلى تِلك َ المسْأَلةِ، كشذُوْذِهِمْ في اسْتِدْلالهِمْ في مَسَائِل ِ تَوْحِيْدِ العِبَادَة:
فإمّا دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ: حَرَّفوْهُ لِيَسْتَقِيْمَ بهِ لهمُ اسْتِدْلالهمْ.
أَوْ دَلِيْلٌ ضَعِيْفٌ أَوْ مَوْضُوْعٌ، لا يَصِحُّ أَوْ لا أَصْلَ له.
وَالقوْمُ ليْسَ لهمْ زِمَامٌ مِنْ نقل ٍ، وَلا خِطامٌ مِنْ عقل.
فصل في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ، وَالذَّبْحَ والنذْرَ لهمْ: شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ، بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه
قدْ بيَّنّا في فصُوْل ٍ كثِيْرَةٍ تقدَّمَتْ، حُكمَ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ، وَأَنهَا صَلاة ٌ باطِلة ٌ مُحَرَّمة ٌ غيْرُ صَحِيْحَةٍ، وَفاعِلهَا ليْسَ لهُ مِنْهَا إلا َّ الإثمُ العَظِيْمُ وَالوِزْرُ الكبيْرُ، وَلا تسْقط ُ عَنْهُ الصَّلاة ُ بفِعْلِهَا في ذلِك َ المكان ِ المحَرَّمِ، ولا تبْرَأُ ذِمَّتُه.
غيْرَ أَنَّ مَا يَفعَلهُ كثِيْرٌ مِنَ المصَلينَ عِنْدَ القبوْرِ وَالمقابرِ: أَعْظمُ بكثِيْرٍ مِنْ مُجَرَّدِ حُرْمَةِ تِلك َ الصَّلاةِ وَبُطلانِهَا.
فقدْ تَعَلقَ كثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ بأَصْحَابِ القبوْرِ، وَزَعَمُوْا لهمْ كرَامَاتٍ وَأُعْطِيَاتٍ وَهِبَاتٍ وَمَنْزِلة ً عِنْدَ اللهِ، لِذَا فقدِ اتَّخذُوْا دُعَاءَهُمْ وَسِيْلة ً إليْهِ، وَالاسْتِغاثة َ بهمْ طرِيْقا إلىَ الاسْتِغاثةِ بهِ، كمَا فعَلَ سَابقوْهُمْ مِنَ المشْرِكِينَ، باِلملائِكةِ وَالنَّبيِّينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الصّالحِينَ، صَوَّرُوْا صُوَرَهُمْ، وَجَعَلوْهَا أَصْنَامًا وَتَمَاثِيْلَ، وَدَعَوْهَا وَاسْتَغَاثوْا بهَا.
وَكمَا فعَلتِ النَّصَارَى بعِيْسَى بْن ِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ الصِّدِّيْقةِ عليهما السلام، قالَ سُبْحَانهُ -ذاكِرًا حُجَّة َ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ المتَقدِّمِينَ -:
وَحُجَّة ُ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ: هِيَ حُجَّة ُ مُشْرِكِي زَمَانِنَا فِي مَعْبُوْدِيْهمْ، مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالصّالحِينَ وَغيرِهِمْ مِنْ ضَالينَ وَمُسْلِمِين.
غيرَ أَنَّ مُتَقدِّمِيْهمْ مَثلوْا صُوَرَ الصّالحِينَ بأَحْجَارٍ وَطِين ٍ وَتَمْرٍ وَغيرِهِ، وَجَعَلوْهَا أَصْنَامًا تُذَكرُهُمْ إياهُمْ. وَمُشْرِكو زَمَانِنَا: جَعَلوْا القبوْرَ وَالأَضْرِحَة َ وَالقِبَابَ مَكانَ الأَصْنَامِ، وَأَقامُوْا عَليْهَا مَعَابدَهُمُ الشِّرْكِيَّة َ، وَسَمَّوْهَا مَشَاهِدَ، وَليْسَتْ بمسَاجِدَ، وَإنْ شَابَهَتْ بناءَهَا، وَ {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} .
وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ: أَنَّ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ المتَأَخِّرِيْنَ، يُعَظمُوْنَ مَشَاهِدَهُمْ أَكثرَ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ! وَتقدِّمُ جَمَاعَاتٌ كثِيرة ٌ مِنْهُمْ حَجَّهَا، عَلى حَجِّ بَيْتِ رَبِّهَا!
وَقدْ بَذَلوْا فِي عِمَارَتِهَا الأَمْوَالَ، وَزَيَّنُوْهَا باِلذَّهَبِ وَالحرِيْرِ وَأَمَدُّوْهَا بأَيدِي الرِّجَال. أَمّا مَسَاجِدُهُمْ: فهيَ خَالِيَة ٌ مِنَ المصَلينَ، مُعَطلة ٌ مِنْ ذلِك َ كله.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ في «رَدِّهِ عَلى البَكرِيِّ» (2/ 673 - 674): (وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يُخْرِبُوْنَ المسَاجِدَ، وَيَعْمُرُوْنَ المشَاهِدَ! فتجِدُ المسْجِدَ الذِي بُنِيَ لِلصَّلوَاتِ الخمْس ِ: مُعَطلا ً مُخْرَبًا ليْسَ لهُ كسْوَة ٌ إلا َّ مِنَ النّاس ِ، وَكأَنهُ خَانٌ مِنَ الخانات!
وَالمشْهَدَ الذِي بُنِيَ عَلى الميِّتِ: عَليْهِ السُّتُوْرُ، وَزِيْنَة ُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالرُّخَامُ؛ وَالنُّذُوْرُ تَغْدُوْ وَتَرُوْحُ إليْه!
فهَلْ هَذَا إلا َّ مِنَ اسْتِخْفافِهمْ باِللهِ تَعَالىَ وَآياتِهِ وَرَسُوْلِهِ، وَتَعْظِيْمِهمْ لِلشِّرْك؟!
فإنهُمْ اعْتقدُوْا أَنَّ دُعَاءَ الميِّتِ -الذِي بُنِيَ لهُ المشْهَدُ- وَالاسْتِغاثة َبهِ: أَنفعُ لهمْ مِنْ دُعَاءِ اللهِ تَعَالىَ، وَالاسْتِغاثةِ بهِ فِي البيْتِ الذِي بُنِيَ للهِ عز وجل!
ففضَّلوْا البيْتَ الذِي بُنِيَ لِدُعَاءِ المخْلوْق ِ، عَلى البيْتِ الذِي بُنِيَ لِدُعَاءِ الخالِق!
وَإذا كانَ لهِذَا وَقفٌ وَلهِذَا وَقفٌ: كانَ وَقفُ الشِّرْكِ أَعْظمَ عِنْدَهُمْ! مُضَاهَاة ً لِمُشْرِكِي العَرَبِ الذِيْنَ ذكرَ الله ُ تَعَالىَ حَالهُمْ فِي
كمَا يَجْعَلوْنَ للهِ زَرْعًا وَمَاشِيَة ً، وَلآلِهَتِهمْ زَرْعًا وَمَاشِيَة ً، فإذا أُصِيْبَ نَصِيْبُ آلِهَتِهمْ: أَخَذُوْا مِنْ نَصِيْبِ اللهِ تَعَالىَ، فوَضَعُوْهُ فِيْهِ، وَقالوْا:«الله ُ غنِيٌّ، وَآلِهَتنا فقرَاءُ» ! فيُفضِّلوْنَ مَا يُجْعَلُ لِغيرِ اللهِ تَعَالىَ عَلى مَا يُجْعَلُ للهِ تَعَالىَ!
وَهَكذَا الوُقوْفُ وَالنُّذُوْرُ التي تُبْذَلُ عِنْدَهُمْ لِلمَشاهِدِ أَعْظمُ عِنْدَهُمْ مِمّا تُبْذَلُ لِلمَسَاجِدِ وَلِعِمَارَةِ المسَاجِدِ وَلِلجهادِ فِي سَبيْل ِ اللهِ تَعَالىَ) اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رحمه الله.
وَأَعْرِفُ بَعْضَ وَزَارَاتِ الشُّؤُوْن ِ الإسْلامِيَّةِ فِي بَعْض ِ بلادِ المسْلِمِينَ، مِمَّن ِ ابتلوْا بهَذِهِ الأَوْثان ِ وَعبّادِهَا: مَنْ تَجْمَعُ الأَمْوَالَ مِنْ بَيْتِ المال ِ، وَمِنَ المتصَدِّقِينَ لِبناءِ المسَاجِدِ، ثمَّ تنفِقهَا عَلى بناءِ المشَاهِدِ المعَابدِ الوَثنِيَّةِ! وَالقِبَابِ وَتَشْييْدِ الأَضْرِحَةِ! وَتزْيينِهَا! وَإقامَةِ القيِّمِينَ عَليْهَا!
أَمّا المسَاجِدُ الخالِيَة ُ مِنَ القبوْرِ: فليْسَ لها نَصِيْبٌ مِنْ ذلِك َ! فتجِدُهَا مُهْمَلة ً دُوْنَ عِنَايةٍ وَلا رِعايةٍ! فإذا طلبَ عُمّارُهَا شَيْئًا مِنْ تِلك َ الوَزَارَاتِ لِعِمَارَتِهَا أَوْ كِسْوَتِهَا: اعْتَذَرُوْا لهمْ بقِلةِ ذاتِ اليدِ!
وَضَعْفِ الموَارِدِ! فسُبْحَانَ مَنْ نزَّهَ مَسَاجِدَهُ مِنْ أُوْلئِك َ المشْرِكِينَ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْهَا وَعَنْ عِمَارَتِهَا إلىَ مَشَاهِدِهِمْ وَمَعَابدِهِمْ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} .
وَقدْ قالَ جَمَاعَة ٌ مِنْهُمْ - مِنَ المنتسِبينَ إلىَ يُوْنس ِ بْن ِ يُوْسُفَ القنييِّ (ت619هـ) أَحَدِ الضُّلال ِ- قالوْا:
تعالوْا نخرِبُ الجامِعْ
…
وَنجْعَلُ فِيْهِ خمّارَهْ
وَنكسِرُ خشبة َ المنبرْ
…
وَنجْعَلُ مِنْهُ طِنبارَهْ
وَنخرِقُ وَرْقة َ المصْحَفْ
…
وَنجْعَلُ مِنْهُ زُمّارَهْ
وَننتِفُ لِحْية َ القاضِي
…
وَنجْعلُ مِنْهَا أَوْتارَهْ
وَشَيْخهُمْ هَذَا يُوْنسُ بْنُ يُوْسُفَ القنييّ (ت619هـ)، كانَ ضَالا ًّ، لهُ أَبياتٌ خَبيْثة ٌ كأَبياتهمْ، وَصَوْتٌ مُنْكرٌ كأَصْوَاتِهمْ.
وَكانتْ لهُ مَخَارِيْقُ شَيْطانِيَّة ٌ، وَأَحْوَالٌ إبْلِيْسِيَّة ٌ، جَعَلهُ لأَجْلِهَا بَعْضُ مَنْ لمْ يَعْرِفْ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَن ِ وَلِيًّا للهِ! كيُوْسُفِ بْن ِ إسْمَاعِيْلَ النَّبْهَانِيِّ (ت1350هـ)، فإنهُ عَدَّهُ وَلِيًّا مِنَ الأَوْلِيَاءِ الصّالحِينَ! ذوَي الكرَامَاتِ! في كِتَابهِ - مَجْمَعِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ، وَالخزَعْبلاتِ البُهْتَانِيَّةِ - «الجامِعِ لِكرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ» (2/ 296).
إلا َّ أَنهُ ذكرَ شيْئًا قلِيْلا ًمِنْ كرَامَاتِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابةِ وَالتابعِينَ قدْ ثبتتْ وَصَحَّتْ، غيرَ أَنَّ سَوَادَهُ الأَغلبَ أَسْوَدُ! وَأَكثرَ مَا سَاقهُ لا يُحْمَدُ لهُ وَلا يُوْجَد!
فصل وَقدْ حَرَّمَ الله ُ تَعَالىَ الإشْرَاك َبهِ، وَجَعَلهُ ذنبًا عَظِيْمًا يُحْبط ُ الأَعْمَالَ، وَيَؤُوْلُ بصَاحِبهِ إلىَ النارِ خالِدًا فِيْهَا وَبئْسَ المآلُ، قالَ سُبْحَانهُ:{مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} .
وَقالَ تَعَالىَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} .
وَقالَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} .
وَقالَ سُبْحَانهُ - بَعْدَ أَنْ ذكرَ جُمْلة ً مِنْ أَنبيَائِهِ الكِرَامِ، إبْرَاهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقوْبَ وَدَاوُوْدَ وَسُليْمَانَ وَأَيوْبَ وَيُوْسُفَ وَمُوْسَى وَهَارُوْنَ وَزَكرِيّا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَيوْنسَ وَلوْطا قالَ -:{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ثمَّ قالَ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وَمَنْ دَعَى غيْرَ اللهِ أَوِ اسْتغاثَ بهِ فِيْمَا لا يَقدِرُ عَليْهِ إلا َّ هُوَ سُبْحَانهُ، أَوْ ذبحَ أَوْ نذَرَ لهُ: كانَ مُشْرِكا كافِرًا، لا يَقبَلُ الله ُ مِنْهُ صَرْفا وَلا عَدْلا ً.
سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ المدْعُوُّ المسْتغاثُ بهِ، أَوِ المذْبوْحُ المنْذُوْرُ لِوَجْههِ: نبيًّا كرِيْمًا، أَوْ مَلكا مُقرَّبًا، أَوْ وَلِيًا صَالحا أَوْ غيرَ ذلِك.
وَإذا كانَ هَذَا حَالَ مَنْ دَعَى هَؤُلاءِ الكِرَامَ، فكيْفَ بحال ِ مَنْ دَعَى غيرَهُمْ مِنَ الزَّنادِقةِ وَالملحِدِينَ وَغيرِهِمْ مِنَ سَائِرِ اللئام؟!
ثمَّ إنَّ هَؤُلاءِ الصّالحِينَ المعْبُوْدِيْنَ، مَلائِكة ً وَنبيِّينَ وَأَوْلِيَاءَ صَالحِينَ: يتبَرَّؤُوْنَ يوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أُوْلئِك َ المشْرِكِينَ وَشِرْكِهمْ، وَيَعُوْذُوْنَ باِللهِ رَبِّهمْ مِنْ أَفعَالهِمْ تِلك َ وَشَرِّهِمْ.
قالَ سُبْحَانهُ - مُبيِّنًا حَالَ الملائِكةِ مَعَ دَاعِيْهمْ وَعَابدِيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ-: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .
وَقوْلهُ تَعَالىَ {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} : لأَنهَا هِيَ التي وَسْوَسَتْ إليْهمْ بذَلِك َ، وَزَينتهُ لهمْ، فكانتْ تتلبَّسُ باِلأَصْنَامِ وَتدَاخِلهَا وَتخاطِبُهُمْ أَحْيَانا، وَتَقضِي لهمْ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِهمْ، حَتَّى أَضَلتْهُمْ بذَلِك َ، وَزَيَّنَتْ لهمْ سُلوْك َ تِلك َ المهَالِكِ، وَسَنُبَيِّنُ - بمَشِيْئَةِ اللهِ - فِي فصُوْل ٍ قادِمةٍ (ص259 - 306) بَعْضَ تِلك َ المكائِدِ، وَشَيْئًا مِنْ تِلك
َالمرَاصِدِ وَالمصَائِد.
وَقالَ سُبْحَانهُ مُبيِّنًا حَالَ عِيْسَى بْن ِ مَرْيَمَ الصِّدِّيْقةِ عليهما السلام مَعَ مَنْ دَعَاهُمَا وَعَبَدَهُمَا يَوْمَ القِيَامَةِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} .
وَقالَ تَعَالىَ مُبيِّنًا حَالَ جَمِيْعِ مَنْ عُبدَ مِنْ دُوْنِهِ سُبْحَانهُ وَدُعِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ عَابدِيْهِ وَدَاعِيْهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
وَفِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وَقوْلِهِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} : دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ تِلك َ الأَصْنَامَ، كانتْ تمَاثِيْلَ لِرِجَال ٍ صَالحِينَ مَعْبُوْدِيْنَ، أَنبيَاءٍ وَمَلائِكةٍ، وَعُلمَاءٍ بغيرِ أَمْرِهِمْ وَلا عِلمِهمْ وَلا رِضَاهُمْ.
وَلمْ تكنْ أَحْجَارًا مُجَرَّدَة ً، يَعْبُدُوْنهَا دُوْنَ تَأْوِيْل ٍوَلا تَعْلِيْل ٍ، بَلْ كانتْ لهمْ حُجَّتُهُمْ هَذِهِ الفاسِدَة ُ، لهِذَا تبَرَّأَ هَؤُلاءِ الصّالحِوْنَ مِنْ
عَابدِيْهمْ، كمَا فِي آيةِ سَبَإ وَالمائِدَةِ حِينَ تبرَّأَ عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ وَالملائِكة ُمِنْ عَابدِيْهمْ.
فصل وَكمَا تفرَّدَ الله ُ سبحانه وتعالى بأَسْمَائِهِ وَصِفاتِهِ الكمَالِيَّةِ، فلا شَبيْهَ لهُ سُبْحَانهُ، وَلا مَثِيْلَ وَلا نِدَّ، لهُ الأَسْمَاءُ الحسْنَى وَالصِّفاتُ العُلى.
وَكمَا تفرَّدَ جَلَّ وَعَلا بأَفعَال ِ الرُّبوْبيَّةِ، فلا خَالِقَ إلا َّ هُوَ، وَلا رَازِقَ وَلا مُحْييَ وَلا مُمِيْتَ غيْرُهُ، لهُ الخلقُ كلهُ، وَهُوَ الرَّبُّ سُبْحَانهُ وَحْدَه.
فكمَا تفرَّدَ سُبْحَانهُ بذَلِك َ كلهِ: تفرَّدَ جَلَّ وَعَلا باِلأُلوْهِيَّةِ وَالعِبَادَةِ مِنْ دُعَاءٍ، وَاسْتِغاثةٍ، وَذبْحٍ، وَنذْرٍ، وَحَجٍّ، وَصِيَامٍ، وَصَلاةٍ، وَزَكاةٍ وَجِهَادٍ، وَغيْرِ ذلِك َ مِنْ سَائِرِ أَفعَال ِ العِبَادِ لِرَبِّ العِبَاد.
فلا يُسْجَدُ لأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلا يُصَلى إلا َّ لهُ، وَلا يُدْعَى إلا َّ هُوَ، وَلا يُسْتَغاثُ إلا َّ بهِ، وَلا يُنْذَرُ أَوْ يُذْبحُ لِغيْرِهِ، لا شَرِيْك َ لهُ فِي ذلِك َ مِنْ خَلقِهِ، وَلا نِدَّ لهُ مِنْ برِيتِه.
بَعَثَ أَنبيَاءَهُ إلىَ عِبَادِهِ لِيَعْبُدُوْهُ وَحْدَهُ وَيُوَحِّدُوْهُ، لا أَنْ يُشَارِكوْهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيُمَاثِلوْهُ، قالَ سُبْحَانهُ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
فصل وَلمْ يَكن ِ المشْرِكوْنَ مُشْرِكِينَ فِي تَوْحِيْدِ الرُّبوْبيَّةِ، وَإنمَا كانَ شِرْكهُمْ وَكفرُهُمْ فِي تَوْحِيْدِ العِبَادَة.
أَمّا تَوْحِيْدُ الرُّبوْبيَّةِ: فقدْ كانَ مُسْتقِرًّا عِنْدَهُمْ مُسَلمًا بَيْنَهُمْ، لا يُنَازِعُوْنَ فِيْهِ، لِذَا أَلزَمَهُمُ الله ُ وَحَجَّهُمْ بإيمَانِهمْ وَإقرَارِهِمْ باِلأَوَّل ِ (وَهُوَ الرُّبوْبيَّة ُ) عَلى تَوْحِيْدِهِ فِي الثانِي (وَهُوَ الأُلوْهِيَّة ُ)، فقالَ سُبْحَانهُ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} .
وَقالَ: {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}.
فمَا دَعَى المشْرِكوْنَ الأَوَائِلُ الأَصْنَامَ وَاسْتَغاثوْا بهَا، إلا َّ توَسُّطا وَتَشَفعًا بأَصْحَابهَا، وَمَنْ صُوِّرَتْ عَلى صُوَرِهِمْ، مِنَ الملائِكةِ وَالأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ، قالَ سُبْحَانهُ: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}.
فبيَّنَ سُبْحَانهُ: أَنَّ أُوْلئِك َ المدْعُوِّينَ هُمْ مِنْ عِبَادِهِ الصّالحِينَ المحْتَاجِينَ إليْهِ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا.
وَإنمَا يبْتَغوْنَ إلىَ رَبِّهمُ الوَسِيْلة َباِلأَعْمَال ِ الصّالحِةِ، عَسَى أَنْ ينالوْا بهَا رَحْمَتَهُ، وَأَنْ يَنْجُوْا بهَا مِنْ عَذَابهِ، فكيْفَ يُدْعَوْنَ مِنْ دُوْنِهِ! وَكأَنهُمْ يَمْلِكوْنَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا؟!
وَقدْ قالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ وَخَلِيْلِهِ وَصَفوَتِهِ مِنْ خَلقِهِ، وَأَفضَل ِ عِبَادِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فكيْفَ بمَنْ دُوْنه؟!
وَقالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لمّا أَلحَّ وَاجْتَهَدَ فِي هِدَايةِ عَمِّهِ أَبي طالِبٍ، وَعَظمَ عَليْهِ مَوْتهُ دُوْنَ تَوْحِيْدٍ وَلا شَهَادَةٍ:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
فهَذَا حَالُ سَيِّدِ وَلدِ آدَمَ صلى الله عليه وسلم وَأَكرَمِ نبيٍّ عِنْدَ اللهِ، وَأَحَبِّهمْ إليْهِ، وَأَعْظمِهمْ مَنْزِلة ً عِنْدَهُ، وَأَقرَبهمْ مَكانا مِنْهُ، فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُ صلى الله عليه وسلم؟! وَهَذَا حَالهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَنْ رَغِبَ هُوَ فِي هِدَايتِهِ، وَأَلحَّ فِي طلبهَا لهُ فِي حَيَاتِهِ، فكيْفَ بمَنْ يَتَوَسَّلُ إليْهِ وَيَدْعُوْهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِه؟!
وَلمّا طلبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَبيْعَةِ بْن ِمَالِكٍ الأَسْلمِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلهُ حَاجَتَهُ، وَكانَ قدْ خَدَمَهُ بضْعَ سِنِينَ، قالَ لهُ رَبيْعة ُ: أَسْأَلك َ مُرَافقتَك َ فِي الجنَّة.
فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَ غيرَ ذلِك؟» .
فقالَ رَبيْعة ُ: هُوَ ذاك.
فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأَعِنِّي عَلى نفسِك َ بكثرَةِ السُّجُوْدِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِه» (489).
وَالله ُ عز وجل لمْ يَقبَلْ مِنَ المشْرِكِينَ تقرُّبهُمْ إليْهِ، وَاسْتِشْفاعَهُمْ باِلملائِكةِ وَالأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ عَليْهِ، بَلْ جَعَلَ أَفعَالهُمْ تِلك َ شِرْكا وَكفرًا بهِ، وَعِبَادَة ً لِغيرِهِ وَسِوَاهُ، لا قرْبة ً وَلا وَسِيْلة ً، وَلا شُفعَاءَ إليْهِ، وَابتِغاءَ رِضَاهُ، فلعَنهُمْ وَأَحْبَط َ أَعْمَالهُمْ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المقبُوْحِينَ وَفِي النّارِ مُخلدُوْنَ.
فصل وَبيَّنَ الله ُ سبحانه وتعالى عَدَمَ اسْتِحْقاق ِ غيرِهِ باِلدُّعاءِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ، لِضَعْفِهمْ وَكوْنِهمْ مَخْلوْقِينَ مِثلهُمْ، فقالَ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} .
وَقالَ: {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً
أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}.
فصل وَبيَّنَ سُبْحَانهُ أَنهُ لا شَفاعَة َ لأَحَدٍ مِنْ خلقِهِ عِنْدَهُ إلا َّ بشَرْطين ِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْذنَ الله ُ لِلشّافِعِ فِي الشَّفاعَة.
وَالثانِي: أَنْ يَرْضَى عَن ِ المشْفوْعِ فِيْهِ، كمَا فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .
فالشَّرْط ُ الأَوَّلُ فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ {إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وَمِثْلهُ: قوْلهُ تَعَالىَ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} .
وَالشَّرْط ُ الثانِي فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: {وَيَرْضَى} ، وَمِثلهُ: قوْلهُ تَعَالىَ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
أَمّا المشْرِكوْنَ المسْتغِيْثوْنَ وَالدّاعُوْنَ غيرَ اللهِ: فلا نصِيْبَ لهمْ فِي شَفاعَةِ أَحَدٍ، وَلا يشفعُ فِيْهمْ أَحَدٌ وَلا يؤْذنُ لهُ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ
إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}.
وَالظالِمُوْنَ هُنَا: المشْرِكوْنَ، كمَا فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ:{لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
فمَنْ أَرَادَ أَنْ يشفعَ الله ُ فِيْهِ أَنبيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصّالحِينَ: فليَسْلك ْ طرِيْقَ الموَحِّدِيْنَ، فإنَّ الشَّفاعَة َ للهِ جَمِيْعًا، لا تَكوْنُ إلا َّ بإذنهِ لِلشّافِعِ، وَرِضَاهُ عَن ِ المشْفوْعِ، كمَا قالَ تَعَالىَ:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وَمَنْ سَأَلها مِنَ الأَمْوَاتِ أَنبيَاءً وَصَالحِينَ، أَوْ مَلائِكة ً مُقرَّبينَ: كانَ حَالهُ كمَنْ قالَ الله ُ فِيْهمْ مِنَ المشْرِكِينَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
فصل وَلا شَك َّ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ: عِبَادَة ٌ لهمْ، وَهُوَ شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ المِلةِ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّينَ، وَإن ِ اخْتَلفَ المعْبُوْدُ وَمَكانُ العِبَادَةِ، وَزَمَانهُ، وَأَصْحَابه.
قالَ شَيْخنا العَلامَة ُ المحَققُ صَالِحُ بْنُ فوْزَان ِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ الفوْزَانُ فِي «شَرْحِهِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ» (1/ 199 - 200) عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: (وَفِي الآيةِ السّابقةِ فائِدَة ٌ عَظِيْمَة ٌ، وَهِيَ: أَنَّ الله َ سَمَّى الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، فقالَ:{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} لأَنهُ فِي أَوَّل ِ الآيةِ قالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو} .
وَإذا كانَ الدُّعَاءُ عِبَادَة ً، فصَرْفهُ لِغيرِ اللهِ شِرْك ٌ، كمَا فِي الآيةِ الأُخْرَى:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يَعْنِي: عَنْ دُعَائِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
فسَمَّى الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، وَإذا كانَ الدُّعَاءُ عِبَادَة ً: فصَرْفهُ لِغيْرِ اللهِ شِرْك) اه كلامُ شَيْخِنَا الفوْزَان.
وَالدُّعَاءُ عِبَادَة ٌ بلا شَك َّ، كمَا تقدَّمَ فِي الآيَتَين ِ السّابقتين ِ اللتين ِ ذكرَهُمَا الشَّيْخُ صَالِح.
وَكمَا فِي:
قوْلِهِ تَعَالىَ: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
فجَعَلَ الله ُ فِي هَذِهِ الآياتِ كلهَا الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، وَمَنْ صَرَفهُ لِغيرِهِ نبيٍّ، أَوْ مَلكٍ، أَوْ صَالِحٍ، أَوْ غيرِ ذلِك َ: مُشْرِكا كافِرًا.
وَأَخْرَجَ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» (4/ 276، 271، 267) مِنْ حَدِيْثِ النُّعْمَان ِ بْن ِ بَشِيرٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقوْلُ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَة ُ، ثمَّ قرَأَ:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ).
وَرَوَاهُ:
البُخارِيُّ فِي «الأَدَبِ المفرَدِ» (714)،
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» (3247) وَقالَ: (هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ)،
وَأَبوْ دَاوُوْدَ فِي «سُننِهِ» (1479)،
وَالنَّسَائِيُّ فِي «سُننِهِ الكبرَى» (6/ 450)،
وَابْنُ مَاجَهْ فِي «سُننِهِ» (3828)،
وَابْنُ حِبّانَ فِي «صَحِيْحِهِ» (890)،
وَالحاكِمُ فِي «مُسْتَدْرَكِه» (1/ 490 - 491).
وَإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، رِجَالهُ رِجَالُ الشَّيْخَين ِ، غيرَ يُسَيْعِ بْن ِ مَعْدَانَ الحضْرَمِيِّ الكوْفِيِّ، وَهُوَ ثِقة ٌ، وَثقهُ النَّسَائِيُّ وَجَمَاعَة.
وَصَحَّحَ هَذَا الحدِيْثَ جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ:
التِّرْمِذِيُّ وَتقدَّمَ، وَابْنُ حِبّانَ، وَالحاكِمُ، وَالذَّهَبيُّ، وَالنَّوَوِيُّ فِي «الأَذكارِ» . وَجَوَّدَ إسْنَادَهُ الحافِظ ُ ابنُ حَجَرٍ فِي «فتْحِ البَارِي» ، وَصَحَّحَهُ
شَيْخُنَا العَلامَة ُ عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابنُ بازٍ رحمهم الله ُ، وَجَمَاعَة.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ (3371) مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» .
قالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ: (هَذَا حَدِيْثٌ غرِيْبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، لا نعْرِفهُ إلا َّ مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ لهيْعة).
فصل وَقدْ بيَّنَ الله ُ سُبْحَانهُ لِعِبَادِهِ أَجْمَعِينَ: أَنَّ أُوْلئِك َ المدْعُوِّينَ جَمِيْعًا، مِنْ مَلائِكةٍ، وَأَنبيَاءٍ، وَصَالحِينَ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا، وَلا غيًّا وَلا رَشَدًا، وَليْسَ لهمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ. بَلْ لايَسْمَعُوْنَ دُعَاءَهُمْ وَلا يَعْلمُوْنَ بهِ، وَلوْ سَمِعُوْا لمَا اسْتَجَابوْا لهمْ {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} .
قالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ وَصَفِيِّهِ وَخَلِيْلِهِ وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلقِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .
فإذا لمْ يَمْلِكوْا لأَنفسِهمْ شَيْئًا، فكيْفَ يَمْلِكوْنهُ لِغيرِهِمْ؟!
وَقالَ: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} .
وَقالَ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
وَقالَ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً.
وَقالَ: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ
وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
قالَ شَيْخُنَا العَلامَة ُصَالِحُ بْنُ فوْزَانَ بن ِ عَبْدِ اللهِ الفوْزَانُ فِي «شَرْحِهِ عَلى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ» عِنْدَ هَذِهِ الآيةِ الأَخِيرَةِ (1/ 207): (يشْتَرَط ُ فِي المدْعُوِّ ثلاثة ُ شُرُوْطٍ:
الأَوَّلُ: أَنْ يَكوْنَ مَالِكا لِمَا يُطلبُ مِنْه.
الثانِي: أَنْ يَكوْنَ يَسْمَعُ الدّاعِي.
الثالِثُ: أَنْ يَكوْنَ يَقدِرُ عَلى الإجَابة.
وَهَذِهِ الأُمُوْرُ لا تتفِقُ إلا َّ فِي اللهِ سبحانه وتعالى، فإنهُ المالِك ُ السَّمِيْعُ القادِرُ عَلى الإجَابة.
أَمّا هَذِهِ المعْبُوْدَاتُ: فهيَ:
أَوَّلا ً: فقِيرَة ٌ، ليْسَ لها مُلك.
ثانِيا: لا تَسْمَعُ مَنْ دَعَاهَا.
وَثالِثا: لوْ سَمِعَتْ فإنها لا تَقدِرُ عَلى الإجَابة.
- ففِي قوْلِهِ تَعَالىَ {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} : انتفى الشَّرْط ُ الأَوَّل.
- وَفِي قوْلِهِ {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} : انتفى الشَّرْط ُ الثانِي.
- وَفِي قوْلِهِ {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} : انتفى الثالِثُ، إذنْ بَطلَ دُعَاؤُهَا.
ثمَّ قالَ سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} : إذا جَاءَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَتَبَرَّؤُوْنَ مِنْكمْ. وَكلُّ المعْبُوْدَاتِ مِنْ دُوْن ِ اللهِ تتبَرَّأُ مِمَّنْ عَبَدَهَا يَوْمَ القِيَامَة) اه كلامُ شَيْخِنَا الفوْزَان.
قلتُ: وَالقِطمِيرُ: شَقُّ النَّوَاةِ، أَوِ القِشْرَة ُ التي فِيْهَا.
وَأَخْرَجَ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» (3/ 99) مِنْ حَدِيْثِ هُشَيْمٍ أَخْبرَنا حُمَيْدٌ الطوِيْلُ عَنْ أَنس ِ بْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ يوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ الغرّاءِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى سَالَ دَمُهُ الطاهِرُ عَلى وَجْههِ الكرِيْمِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذلِك َ:«كيْفَ يُفلِحُ قوْمٌ فعلوْا هَذَا بنبيِّهمْ، وَهُوَ يَدْعُوْهُمْ إلىَ رَبهمْ» ؟!
فنزَلتْ هَذِهِ الآية ُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَين ِ، وَهُوَ مِنْ ثلاثيّاتِ الإمَامِ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ ثلاثيا أَيضًا عَنْ شَيْخَيْهِ ابْن ِ أَبي عَدِيٍّ وَسَهْل ِ بْن ِ يُوْسُفَ كلاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنس ٍ به.
وَرَوَاهُ:
مُسْلِمٌ فِي «صَحِيْحِهِ» (1791)،
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» (3002).
وَعَلقهُ البُخارِيُّ فِي «صَحِيْحِهِ» مَجْزُوْمًا بهِ، فِي «كِتَابِ المغازِي» ، «بَابُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}» .
وَرَوَى البُخارِيُّ فِي «صَحِيْحِهِ» (2753)، (4771)، وَمُسْلِمٌ (206) عَنْ أَبي هُرَيْرَة َرَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ: (قامَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنزَلَ الله ُ عز وجل {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قالَ: «يَا مَعْشَرَ قرَيْش ٍ- أَوْ كلِمَة ً نَحْوَهَا - اشْتَرُوْا أَنفسَكمْ، لا أُغني عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا.
يَا بَني عَبْدِ مَنَافٍ! لا أُغني عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا.
يَا عَبّاسَ بْنَ عَبْدِ المطلِبِ! لا أُغني عَنْك َ مِنَ اللهِ شَيْئًا.
وَيَا صَفِيَّة ُ عَمَّة َ رَسُوْل ِ اللهِ! لا أُغني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا.
وَيَا فاطِمَة َ بنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِيْني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لا أُغني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا»).
وَقدْ عُلِمَ أَنَّ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شفاعَة ً لأَهْل ِ الكبَائِرِ، وَشَفاعَة ً لِغيرِهِمْ مِنَ المؤْمِنِينَ. وَإنمَا نفى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نفعهُ لِقرَابتِهِ هَؤُلاءِ، وَفِيْهمْ
بنتهُ، وَعَمُّهُ، وَعَمَّتُهُ، وَغيرُهُمْ، لا لِكوْنِهمْ كانوْا مُشْرِكِينَ! بَلْ هُمْ مِنْ كِبَارِ المؤْمِنِينَ الصّالحِينَ، وَلكِنْ لِكوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لا يَمْلِك ُ شَفاعَة ً لأَحَدٍ حَتَّى يَأْذنَ الله ُ جَلَّ وَعَلا لهُ، وَيَرْضَى سُبْحَانهُ عَن ِالمشْفوْعِ فِيْهِ، وَهُمَا الشَّرْطان ِ اللذَان ِ سَبَقَ تقرِيْرُهُمَا.
فإذا كانَ هَذَا حَالُ خَاصَّةِ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقرَبِ قرَابتِهِ مَعَهُ، لا يُغني عَنْهُمْ شَيْئًا، إلا َّ مِنْ بَعْدَ أَنْ يَأْذنَ الله ُ لهُ وَيَرْضَى: فكيْفَ بحال ِ غيرِهِمْ؟!
وَكيْفَ يسْأَلوْنهُ صلى الله عليه وسلم مَا لا يَمْلِكهُ، وَمَا نفاهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم عَنْ نفسِهِ لأَخَصِّ قرَابتِهِ في حَيَاتِه؟! «وَمَنْ بطأَ بهِ عَمَلهُ، لمْ يُسْرِعْ بهِ نسَبه» (1).
(1) - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 252و407) وَمُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (2699) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» (3643) وَالتِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ» (2945) وَابنُ مَاجَهْ (225)، كلهُمْ مِنْ طرِيْق ِ الأَعْمَش ِ عَنْ أَبي صَالِحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
فصل بَلْ إنَّ شِرْك َ هَؤُلاءِ أَعْظمُ مِنْ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ، فإنَّ شِرْك َ الجاهِلِيِّيْنَ: كانَ في رَخائِهمْ، أَمّا إذا عَظمَتْ بهمُ الخطوْبُ، وَتكالبتْ عَليْهمُ الكرُوْبُ: دَعُوْا الله َ مُخْلِصِيْنَ لهُ الدِّينَ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
أَمّا مُشْرِكوْ زَمَانِنَا: فشِرْكهُمْ مُطرِدٌ مَعَهُمْ في رَخائِهمْ وَشدَائدِهِمْ، بَلْ إنَّ كثِيْرًا مِنْهُمْ يَدْعُو الله َ وَمَعَهُ غيْرَهُ في الرَّخاءِ، فإذا اشْتدَّ بهِ البلاءُ: أَخْلصَ الدَّعَاءَ لِغيْرِ الله!
حَتَّى أَنَّ مِنْهُمْ جَمَاعَة ً رَكِبوْا سَفِيْنة ً في البحْرِ، فتلاطمَتْ بهمُ الأَمْوَاجُ، وَكادُوْا يَغرَقوْنَ: فلجُّوْا جَمِيْعًا باِلدُّعاءِ مُتضَرِّعِيْنَ قائِلِيْنَ: «يَا بْنَ عِيْسَى (1)! يَا بْنَ عِيْسَى! حُلهَا يَا عَمُوْدَ الدِّيْن» !
ثمَّ أَخَذُوْا يَتَسابَقوْنَ بنذْرِ النُّذُوْرِ لهُ، وَالتَّعَهُّدِ بتقدِيْمِهَا عِنْدَ قبْرِهِ إنْ هُمْ نجَوْا مِنَ الغرَق ِ وَنَجَّاهُمْ، عِيَاذاً باِلله.
فلمّا أَنكرَ عَليْهمْ مُوَحِّدٌ كانَ مَعَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوْا الله َ مُخْلِصِيْنَ لهُ الدِّينَ، وَيَتْرُكوْا غيْرَهُ مِنَ المخْلوْقِيْنَ: كادُوْا يَفتِكوْنَ
(1) - يَعْنُوْنَ سَعِيْدَ بْنَ عِيْسَى بْن ِ أَحْمَدَ العَمُوْدِيّ الحضْرَمِيّ (ت671هـ).
بهِ، وَيُلقوْنَ بهِ في اليمّ!
فحِيْنَ أَذِنَ الله ُ بنجَاتِهمْ، وَنجَوْا مِمّا كانوْا فِيْهِ، وَتفرَّجَتْ عَنْهُمْ كرُبَاتهُمْ: وَبَّخُوْا ذلِك َ الموَحِّدَ! وَاسْتَدَلوا بنَجَاتِهمْ عَلى صِحَّةِ فِعْلِهمْ! وَاسْتِقامَةِ أَعْمَالهِمْ! وَأَنَّ تِلك َ الأَفعَالَ القبيْحَة َ، كانتْ سَبَبَ نَجَاتِهمْ وَنَجَاتِهِ، نَسْأَلُ الله َ السَّلامَة َ مِنَ الخذْلان (1).
وَآخَرُوْنَ لجوْا باِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالاسْتِغاثةِ بعبْدِ القادِرِ الجِيْلانِيِّ، وَآخرُوْنَ باِلبدَوِيِّ، وَغيْرُهُمْ بأَبي العَبّاس ِ المرْسِيّ.
وَهَكذَا يَسِيْرُ رَكبهمْ مُتَرَسِّمًا خطى الشَّيْطان ِ، فأَوْرَدَهُمُ النارَ، فبئْسَ الوِرْدُ الموْرُوْد.
وَقدْ ذكرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ الصِّدِّيق ِ الغمارِيُّ (ت1380هـ) في كِتابهِ الفاسِدِ «إحْيَاءِ المقبوْرِ، مِنْ أَدِلةِ اسْتِحْبَابِ بناءِ المسَاجِدِ وَالقِبَابِ عَلى القبوْر» (ص21 - 22): شَيْئًا مِنْ ذلِك َ، وَكفرَ - هُوَ- فاعِلِيْهَا.
(1) - قِصَّة ٌ حَكاهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بَا شْمِيْل - شَفاهُ الله ُ وَعَافاهُ - في كِتَابهِ «لهيْبِ الصَّرَاحَةِ يُحْرِقُ المغالطات» (ص31 - 36)، ثمَّ أَفرَدَ مِنْهُ مَا يَتَعَلقُ باِلتَّوْحِيْدِ في كِتَابهِ «كيْفَ نفهَمُ التَّوْحِيْد» ، وَأَعَادَهَا فِيْه (ص15 - 19).
وَكانَ - هُوَ- مَعَ أُوْلئِك َ المفتوْنِيْنَ في تِلك َ السَّفِيْنَةِ قبْلَ نَحْوِ سِتِّينَ سَنَة ً، وَلما رَأَى مِنْهُمْ ذلِك َ وَسَمِعَهُ: أَنكرَ عَليْهمْ، فكانَ مِنْهُمْ مَا سَبَقَ، وَلهُ مَعَهُمْ قِصَّة ٌوَجِدَالٌ حَسَنٌ، ذكرَهُ في كِتَابهِ المذْكوْر.
وَمَعَ فسَادِ كِتَابهِ ذلِك َ، إلا َّ أَنهُ ذكرَ ذلِك َ، وَحَكمَ بكفرِ فاعِلِيْه.
وَهَذَا أَمْرٌ رَأَيناهُ وَسَمِعْنَا بَعْضَهُ، وَقرَأْنا بَعْضَه.
بَلْ قدْ سَمِعْتُ شَيْطانا مِنْ شَيَاطِينِهمْ، يقرِّرُ لأُوْلئِك َ المشْرِكِيْنَ صِحَّة َ أَعْمَالهِمْ، وَيزَينُ لهمْ سُوْءَ أَفعالهِمْ، فقالَ: (قدْ جَعَلَ الله ُ لِلأَوْلِيَاءِ كرَامَاتٍ وَمُعْجزَاتٍ، وَخَوَارِقَ لِلعادَاتِ. فهُمْ يجيْبُوْنَ المضْطرَّ وَيَكشِفوْنَ السُّوْءَ! وَيرْفعُوْنَ البأْسَ! وَهُمْ مَيتوْنَ في قبوْرِهِمْ! وَمَا ذاك َ إلا َّ لِعِظمِ جَاهِهمْ عِنْدَ اللهِ، وَرِفعَةِ مَنْزِلتِهمْ لدَيه.
فمَنْ رَكِبَ في الفلكِ وَخَشِيَ الغرَقَ فدَعَاهُمْ، وَنادَاهُمْ، وَاسْتغاثَ بهمْ فقالَ «يا عَبْدَ القادِرِ» أَوْ «يا جِيْلانِيّ» أَوْ غيْرَ ذلِك َ: نفعهُ ذلِك َ بلا رَيب)!
ثمَّ قالَ مُنْكِرًا مُتعَجِّبًا مِمَّنْ يُنكِرُ ذلِك َ: (وَمَنْ يَسْتَطِيْعُ أَنْ يُنْكِرَ ذلِك َوَيَجْحَدُهُ؟! أَلا يَسْتَطِيْعُ الله ُ أَنْ يَجْعَلَ لِرُوْحِ ذلِك َ الوَلِيِّ قدْرَة ً في إغاثةِ الملهُوْفِيْنَ، وَإجَابةِ المضْطرِّين؟!).
هَكذَا قالَ هَذَا المشْرِك ُ الضّالُّ، وَهَكذَا يُزَينُ لهِؤُلاءِ مِلة َ أَبي لهَبٍ وَأَبي جَهْل. وَلمّا لمْ يَجِدْ دَلِيْلا ً عَلى صِحَّةِ مَزَاعِمِهِ تِلك َ: نقلَ المسْأَلة َ مِنْ حُكمِ الاسْتِغاثةِ وَدُعَاءِ أُوْلئِك َ العِبَادِ الضُعَفاءِ المقبوْرِيْنَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ، إلىَ بيان ِ قدْرَةِ اللهِ وَاسْتِطاعَتِهِ!
وَكأَنَّ المخالِفَ لهمْ مِنَ الموَحِّدِيْنَ ينازِعُ في اسْتِطاعَةِ اللهِ وَقدْرَتهِ أَنْ يَهَبَ أَحَدًا مِنْ أُوْلئِك َ الأَمْوَاتِ قدْرَة ً عَلى إغاثةِ أَهْل ِ الكرُوْبِ، وَكشْفِ الكرْبِ عَن ِ المكرُوْب!
وَلوْ كانَ دَلِيْلُ جَوَازِ دُعَائِهمُ الأَمْوَاتَ وَالاسْتِغاثةِ بهمْ: قدْرَة َ اللهِ عَلى مَنْحِ أُوْلئِك َ الأَمْوَاتِ قدْرَة ً لإغاثةِ الملهُوْفِيْنَ وَالمضْطرِّينَ: لكانَ ذلِك َ أَيضًا دَلِيْلا ً عَلى صِحَّةِ أَفعَال ِ المشْرِكِيْنَ المتقدِّمِيْنَ، مِنْ عُبّادِ اللاتِ وَمَنَاةِ وَالعُزَّى وَغيْرِهَا، لِقدْرَةِ اللهِ عز وجل، عَلى مَنْحِ تِلك َ الأَصْنَامِ قدْرَة ً عَلى إغاثةِ المسْتَغِيثِيْنَ بهَا! وَإلا َّ لكانَ مُنْكِرًا لِقدْرَةِ اللهِ وَاسْتِطاعَتِه!
أَمّا كوْنُ مُشْرِكِي الجاهِلِيَّةِ الأُوْلىَ أَصَحَّ اعْتِقادًا مِنْ هَذَا المتكلمِ وَكثِيْرٍ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا: فلِكوْن ِ شِرْكِ هَؤُلاءِ المتأَخِّرِيْنَ مُطرِدًا مَعَهُمْ في جَمِيْعِ أَحْوَالِهمْ، رَخاءًا وَشِدَّة.
أَمّا أُوْلئِك َ المتقدِّمُوْنَ: فكانوْا مُشْرِكِيْنَ، إلا َّ في شَدَائِدِهِمْ فيُخْلِصُوْنَ الدُّعَاءَ للهِ وَحْدَهُ، كمَا في حَدِيْثِ عِمْرَان ِ بْن ِ حُصَيْن ِ بْن ِ عُبيْدٍ الخزَاعِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأَبيْهِ - وَكانَ جَاهِلِيًّا مُشْرِكا-: «يَا حُصَيْنُ كمْ تعْبُدُ اليوْمَ إلها؟» .
فقالَ حُصَيْنٌ: «سَبْعَة ً، سِتَّة ً في الأَرْض ِ، وَوَاحِدًا في السَّمَاء» .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأَيهُمْ تعِدُّ لِرَغبتِك َ وَرَهْبتِك؟» .
قالَ حُصَيْنٌ: «الذِي في السَّمَاء»
…
الحدِيْثَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ» (3483) وَجَمَاعَة ٌ، وفي رِوَايةٍ لابن ِ خزَيْمَة َ في «التَّوْحِيْدِ» (1/ 277 - 278) (177): أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: «فإذا أَصَابك َ الضُّرُّ مَنْ تدْعوْ؟
قالَ حُصَيْنٌ: «الذِي في السَّمَاءِ؟»
فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلك َ المالُ مَنْ تدْعُوْ؟»
قالَ حُصَيْنٌ: «الذِي في السَّمَاءِ» .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فيسْتجِيْبُ لك َ وَحْدَهُ، وَتشْرِكهُمْ مَعَه؟!» .
وَمِصْدَاقُ هَذَا: قوْلُ اللهِ تَعَالىَ عَنْهُمْ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
وَلا أَعَزَّ عَلى اللهِ عز وجل وَلا أَكرَمَ عَليْهِ مِنْ أَنبيَائِهِ وَرُسُلِهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهمْ وَسَلامُهُ، وَمَا بَعثهُمْ إلا َّ لِيوَحِّدُوْهُ باِلعِبَادَةِ وَيَأْمُرُوْا النّاسَ بتوْحِيْدِهِ، لا أَنْ يُشَارِكوْهُ فِيْهَا! لهذَا كانوْا أَشَدَّ النّاس ِ تَحْذِيْرًا لأُمَمِهمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالغلوِّ فِيْهمْ، حَذَرًا عليْهمْ مِنْ ذلِك.
وَلما غلتِ النَّصَارَى في عِيْسَى وَعَبَدُوْهُ، كمَا عَبَدَ هَؤُلاءِ المشْرِكوْنَ الأَوْلِيَاءَ وَالصَّالحِيْنَ وَغيْرَهُمْ مِنْ جُمْلةِ المقبوْرِيْنَ: قالَ الله ُ عز وجل لِنبيِّهِ الكرِيْمِ عِيْسَى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ}.
فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُمْ مِمَّنْ تزْعَمُ وَلايتهُمْ، وَكثِيْرٌ مِنْهُمْ مَلاحِدَة ٌ وَزَنادِقة ٌ! وَمِنْهُمْ عُصَاة ٌ وَفسَقة ٌ، أَوْ شياطِيْنُ مَرَدَة!
بَلْ إنَّ بَعْضَ أُوْلئِك َ المقبوْرِيْنَ، يَهُوْدُ، أَوْ نصَارَى، أَوْ بَاطِنِيَّة ٌ، أَوْ غيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الملاحِدَةِ وَالزَّنادِقةِ، وَقدْ ذكرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا شَيْخُ الإسْلامِ في «الاسْتِغاثة» وَغيْرُه، وَسَيَأْتِي ذِكرُ طرَفٍ مِنْهُ بمَشِيْئَةِ الله (ص307 - 326).