الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثانِي، وَهُوَ بنَاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ للمُشْرِكِيْن
أَمّا دَلِيْلهُ الثانِي: فقالَ: (بناءُ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُوْرٌ وَهُوَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ» (1)) انتهَى كلامُه.
وَهَذَا فِيْهِ تَلبيْسٌ وَتَدْلِيْسٌ، فإنَّ بناءَ الرَّسُوْل ِ صلى الله عليه وسلم لِمَسْجِدِهِ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ، كانَ بَعْدَ نبْش ِ قبوْرِهِمْ وَإزَالتِها. وَهذَا ليْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَإنمَا النِّزَاعُ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبرَةِ قبْلَ النَّبْش.
لِهَذَا لمْ يَذْكرِ المعْتَرِضُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الصَّحَابة َ بنَبْش ِ قبوْرِ المشْرِكِيْنَ وَإزَالتِهَا، لِيسْلمَ لهُ اعْتِرَاضُه!
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ-كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتاوَى» (21/ 321) -: (ومَسْجِدُ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ كانَ مَقبَرَة ً لِلمُشْرِكِيْنَ، وَفِيْهِ نخلٌ وَخِرَبٌ، فأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم باِلنَّخل ِ فقطِعَتْ، وجُعِلتْ قِبلة َ المسْجدِ، وَأَمَرَ باِلخِرَبِ فسُوِّيتْ، وأَمَرَ باِلقبوْرِ فنبشتْ، فهَذِهِ مَقبَرَة ٌ مَنْبُوْشَة ٌ، كانَ فِيْهَا المشْرِكوْن) انتهَى، وَهَذَا فِي «الصَّحِيْحَيْن» (1) وَتقدَّم.
(1) - رَوَاهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (3932) وَمُسْلِم (524).
كمَا أَنَّ دَلِيْلَ المعْترِض ِ هَذَا: دَلِيْلٌ عَليْهِ لا لهُ، وَبَيَانهُ: أَنهُ لوْ كانتِ الصَّلاة ُفِي المقبَرَةِ جَائِزَة ً تصحُّ، لمَا نبشَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبوْرَ المشْرِكِيْنَ وَأَخْرَجَهَا، وَلصَلوْا عَليْهَا دُوْنَ نبْش.
وَلكِنْ لمّا أَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنَبْشِهَا: دَلَّ ذلِك َ عَلى حُرْمَةِ الصَّلاةِ فِيْهَا قبْلَ النَّبش ِ، وَعَدَمِ صِحَّتِهَا.
يُضَافُ إلىَ ذلك:
أَنَّ اخْتِيَارَ تِلك َ الأَرْض ِ لِتَكوْنَ مَسْجِدًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَالمسْلِمِيْنَ، كانَ بوَحْيٍ مِنَ اللهِ سُبْحَانهُ، كمَا فِي قِصَّةِ ناقةِ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم، وبرُوْكِهَا فِي ذلِك َ المكان.
فوَجَبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ اللهِ عز وجل لهَا: إصْلاحُهَا وتهْيئَتُهَا للمُصَلينَ، وَإزَالة ُ مَا يُفسِدُ ذلك.
فلا يجُوْزُ لِغيْرِهِمْ مِنَ المسْلِمِيْنَ أَنْ يَعْمَدُوْا إلىَ مَقبَرَةِ مُشْرِكِيْنَ أَوْ مُسْلِمِيْنَ، فينبشُوْهَا دُوْنَ حَاجَةٍ، لِيصَلوْا فِيْهَا لِما سَبَق.
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثالِثِ، وَهُوَ صَلاة ُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابهِ، عَلى قبْرِ امْرَأَةٍ كانتْ تقمُّ المسْجد
أَمّا دَلِيْلُ المعْتَرِض ِالثالِثِ: فقوْلهُ: (صَلاة ُ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم عَلى المِسْكِيْنَةِ التِي كانتْ تقمُّ المسْجدَ، فِي المقبَرَةِ مَعَ أَصْحَابهِ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ) انتهَى كلامُه.
وَهَذَا فِيْهِ خَلط ٌوخَبْط ٌ، فإنَّ نِزَاعَ أَهْل ِالعِلمِ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ المطلقةِ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ، لا فِي صَلاةِ الجنازَة!
وَقِياسُ صَلاةِ الجنازَةِ باِلصَّلاةِ المطلقةِ: قِياسٌ مَعَ الفارِق ِ، وَهُوَ فاسِد.
فإنْ كانتِ الصَّلاة ُ المطلقة ُوَصَلاة ُ الجنازَةِ، اتفقتا فِي اسْمِ الصَّلاةِ: فقدِ اخْتَلفتا فِي الشُّرُوْطِ وَالصِّفة.
وَصَلاة ُالجنازَةِ فِيْهَا إظهَارُ ضَعْفِ الميِّتِ وَعَجْزِهِ، وَحَاجَتِهِ هُوَ إلىَ إخْوَانِهِ الأَحْيَاءِ مِنَ المسْلِمِيْنَ لِيدْعُوْا الله َ لهُ، وَيصَلوْا عَليْهِ، عَلَّ الله ُ أَنْ يَرْحَمَهُ ويَنفعَهُ بدُعَائِهمْ. وَليْسَ فِي هَذَا مَظِنة ٌ لِشرْكٍ، وَلا ذرِيْعَة ٌ لهُ وَلا فتْحٌ لِبابه.
بخلافِ الصَّلاةِ المطلقةِ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ، وَهِيَ التِي خَصَّهَا الشّارِعُ باِلتَّحْرِيْمِ باِلأَحَادِيْثِ السّابقةِ جَمِيْعًا، وَلعَنَ
رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ، يصَلوْنَ فِيْهَا الصَّلاة َ المطلقة َ، لا صَلاة َ الجنازَة!
فاسْتِدْلالهُ بهَذَا الدَّلِيْل ِ: اسْتِدْلالٌ في غيْرِ مَحَلهِ، في مَسْأَلةٍ نقوْلُ بهَا، وَلا ننازِعُ فِيْهَا، وَلا تعَلقَ لهِذَا الدَّلِيْل ِ بمَسْأَلةِ النِّزَاع.
وَباعِثهُ عَلى الاسْتِدْلال ِ بهِ أَحَدُ أَمْرَيْن ِ: إمّا جَهْلهُ باِلفرْق ِ بَيْنَ الأَمْرَين ِ، أَوْ إرَادُتهُ التَّلبيْس. وَعَلى كِلا الحاليْن ِ: لا يُعْتَدُّ بصَاحِبِ هَذَيْن.
فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الرّابعِ، وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ في المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْر
أَمّا دَلِيْلهُ الرّابعُ: فقوْلهُ: (صَلاة ُ الصَّحَابةِ فِي المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْرٍ) انتهَى كلامُه.
وَهَذَا إنْ قصَدَ بهِ: صَلاتهُمْ صَلاة َ الجنازَةِ: فتقدَّمَ جَوَابه.
وَإنْ كانَ قصْدُهُ الصَّلاة َ المطلقة َ: فعَليْهِ البيَانُ وَالدَّلِيْلُ، وَعَدَمُ الإجْمَال. وَحَدِيْثُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّة ٌ عَلى مَنْ خَالف.
كمَا أَنَّ المعْلوْمَ مِنْ حَالهِمْ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ، خِلافُ مَا ذكرَ: فقدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الخطابِ أَنسَ بْنَ مالكٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُما يُصَلي عِنْدَ قبرٍ فقالَ عُمَرُ منبهًا لهُ وَمُحَذِّرًا إياهُ: «القبْرَ القبْرَ!» وَهَذَا فِي «صَحِيْحِ البخارِيِّ» مُعَلقا (1/ 437)، وَوَصَلهُ ابْنُ أَبي شَيْبَة َ في «مُصَنَّفِهِ» (2/ 379) مِنْ طرِيْقيْن ِ:
أَحَدِهِمَا: حَدَّثنا حَفصٌ عَنْ حُجَيَّة َ عَنْ أَنس ٍ،
وَالآخَرِ: حَدَّثنا وَكِيْعٌ حَدَّثنا سُفيَانُ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس ٍ، بنَحْوِه.
وَرَوَاهُ مَوْصُوْلا ً أَيْضًا:
عَبْدُ الرَّزّاق ِالصَّنْعَانِيُّ في «مُصَنَّفِهِ» (1/ 404 - 405): (عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثابتٍ البُنَانِيِّ عَنْ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه).
وَمِنْ طرِيقِهِ: أَبو بكرٍ ابْنُ المنذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 186): (حَدَّثنا إسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزّاق).
وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبْرَى» (2/ 435): (أَخْبَرَنا محمَّدُ بْنُ مُوْسَى بْن ِ الفضْل ِحَدَّثنا أَبوْ العَبّاس ِ محمَّدُ بْنُ يَعْقوْبَ حَدَّثنا محمَّدُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَة َ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس) بنَحْوِه.
وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ حَدِيْثَ عُمَرَ هَذَا، وَقالَ عَقِبَهُ: (وَهَذَا يَدُلُّ عَلى أَنهُ كانَ مِنَ المسْتقِرِّ عِنْدَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ: مَا نهَاهُمْ عَنْهُ نبيهُمْ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر.
وَفِعْلُ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ: لا يدُلُّ عَلى اعْتِقادِهِ جَوَازَهُ، فإنهُ لعَلهُ لمْ يرَهُ، أَوْ لمْ يَعْلمْ أَنهُ قبْرٌ، أَوْ ذهَلَ عَنْهُ، فلمّا نبَّهَهُ عُمَرُ رَضِيَ الله ُ تعَالىَ عَنْهُ تنبه) اه، نقلهُ عَنْهُ ابْنُ القيمِ في «إغاثةِ اللهْفان» (1/ 186).
بَلْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ رحمه الله ُ فِي «شَرْحِ العُمْدَةِ» (2/ 437): نوْعَ إجْمَاعٍ لِلصَّحَابةِ فِي تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ فِي المقابرِ، فقالَ: (وَأَصْرَحُ مِنَ النَّهْيِّ الصَّرِيْحِ، وَالاسْتِثْنَاءِ القاطِعِ، مَعَ كوْنهِ أَصَحَّ وَأَشْهَرَ،
وَهُوَ عَن ِ السَّلفِ أَظهَرُ وَأَكثرُ، وَأَوْلىَ أَنْ يُعْتَمَدَ عَليْهِ، فإنَّ هَذَا كالإجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابة).
ثمَّ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ أَثرَ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ في تنْبيْههِ وَنهْيهِ أَنسًا عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ، وَأَثرَ عَلِيِّ بْن ِ أَبي طالِبٍ في النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ وَغيْرِهِمْ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ.
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ (2/ 438) بَعْدَ ذِكرِهِ جَمَاعَة ً مِنَ الصَّحَابةِ: (وَكذَلِك َ رُوِيَ عَن ِ ابن ِعُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا، ذكرَ ذلِك َ ابنُ حَامِدٍ، وَعَن ِ ابْن ِ عُمَرَ وَابْن ِ عَبّاس ٍ كرَاهَة َ الصَّلاةِ في المقبَرَة.
وَهَذَا أَوْلىَ أَنْ يَكوْنَ صَحِيْحًا، مِمّا ذكرَهُ الخطابيُّ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ «أَنهُ رَخَّصَ في الصَّلاةِ فِي المقابر» ، فلعلَّ ذلِك َ- إنْ صَحَّ - أَرَادَ بهِ صَلاة َ الجنازَة).
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ (2/ 439): (وَهَذِهِ مَقالاتٌ انتشرَتْ، وَلمْ يُعْرَفْ لها مُخالِفٌ، إلا َّ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ أَبي مَالِكٍ قالَ:«كانَ وَاثِلة ُ بْنُ الأَسْقعِ يُصَلي بنا صَلاة َ الفرِيْضَةِ فِي المقبَرَةِ، غيْرَ أَنهُ لا يَسْتَتِرُ بقبْر» رَوَاهُ سَعِيْد.
وَهَذَا مَحْمُوْلٌ عَلى أَنهُ تنحَّى عَنْهَا بَعْضَ التَّنَحِّي، وَلِذَلِك َ قالَ:«لا يَسْتَتِرُ بقبْرٍ» . أَوْ لمْ يَبْلغْهُ نهْيُ رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا، فلمّا سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَن ِ الصَّلاةِ إليْهَا، تنَحَّى عَنْهَا، لأَنهُ هُوَ رَاوِي هَذَا الحدِيْثِ، وَلمْ يَبْلغْهُ النَّهْيُ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا، عَمِلَ بمَا بَلغهُ
دُوْنَ مَا لمْ يَبْلغْه) (1) اه.
وَقالَ العَلامَة ُ الشَّرِيْفُ الحسَنُ بْنُ خَالِدٍ الحازِمِيُّ الحسَنيُّ رحمه الله ُ (ت1234هـ) في «قوْتِ القلوْبِ، في تَوْحِيْدِ عَلامِ الغيوْب» (ص131 - 132): (وَاعْلمْ أَنَّ المنْعَ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبْرِ: هُوَ مِمّا اسْتقرَّ عِنْدَ الصَّحَابةِ، سَوَاءٌ كانَ مِنْ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ أَوْ غيْرِهِمْ، وَعَلِمُوْهُ مِنْ نهْيِّ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر) اه.
وَذكرَ أَبوْ محمَّدٍ ابْنُ قدَامَة َ فِي «المغني» (2/ 468): أَنَّ مِمَّنْ كرِهَ الصَّلاة َفِي المقبَرَةِ: عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَبّاس ٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ. وَهَؤُلاءِ كلهُمْ صَحَابَة ٌ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ، وَزَادَ مِنْ غيْرِهِمْ: عَطاءًا وَالنَّخعِيَّ وَابْنَ المنْذِرِ رحمهم الله.
(1) - وَهَذَا عَلى التَّسْلِيْمِ بصِحَّةِ أَثرِ وَاثِلة َرَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَإلا َّ فالأَصْلُ عَدَمُ صِحَّتِهِ، لِمُخالفتِهِ أَمْرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإتيانِهِ نهْيَهُ، وَمُخالفتِهِ المعْلوْمَ مِنْ حَال ِ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ كمَا تقدَّم. فإنْ صَحَّ: حُمِلَ عَلى مَا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ رحمه الله ُ آنفا.
فصل فِي نقض ِ دَلِيْلِهِ الخامِس، وَهُوَ زَعْمُهُ عَدَمَ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍ صَحِيْحٍ صَرِيْحٍ في النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ في المقبَرَة
أَمّا دَلِيْلهُ الخامِسُ: فقوْلهُ: (عَدَمُ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ فِي النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقبَرَة) انتهَى كلامُه.
وَجَوَابُ هَذَا تقدَّمَ بحمْدِ اللهِ،
وَليْسَ يصِحُّ فِي الأَذهَان ِ شَيْءٌ إذا احْتَاجَ النَّهَارُ إلىَ دَلِيل ِ
فصل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ عُبّادِ القبوْرِ عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بقوْلِهِ تَعَالىَ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} وَنقضِهِ وَبيان ِ بُطلانِه
قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُبّادِ القبوْرِ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا وَغيْرِهِمْ، عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، بقوْلِهِ تَعَالىَ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} .
بَلْ ذهَبَ بَعْضُ هَؤُلاءِ المرَدَةِ إلىَ القوْل ِ باِستِحْبَابِ اتخاذِهَا عَلى القبوْر.
وَالجوَابُ مِنْ وُجُوْهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أُوْلئِك َ القائِلِيْنَ كانوْا كفارًا، وَليْسُوْا بمُؤْمِنِينَ، قدْ لعنهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى أَفعَالهِمْ تِلك َ، وَحَذَّرَ أُمتهُ مِنْ سُلوْكِ مَسَالِكِهمُ المرْدِية ِفقالَ صلى الله عليه وسلم:«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَصَالحِيْهمْ» .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َفي «رَدِّهِ عَلى البكرِيِّ» (2/ 567 - 568): (فبيوْتُ الأَوْثان ِ، وَبيوْتُ النيرَان ِ، وَبيوْتُ الكوَاكِبِ، وَبيوْتُ المقابرِ: لمْ يَمْدَحِ الله ُ شيْئًا مِنْهَا، وَلمْ يَذْكرْ ذلِك َ إلا َّ في قِصَّةِ مَنْ لعنهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، قالَ تَعَالىَ:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} .
فهَؤُلاءِ الذِيْنَ اتخذُوْا عَلى أَهْل ِ الكهْفِ مَسْجِدًا: كانوْا مِنَ النَّصَارَى الذِينَ لعنهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ قالَ:«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَالصّالحِين» ).
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذلِك َ: مُخالفتهُ لِمَا توَاترَ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ لعْنِهِ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد.
وَقدْ حَكى ابْنُ جَرِيْرٍ في «تَفسِيْرِهِ» عَن ِ المفسِّرِيْنَ في أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ قوْليْن ِ: أَحَدَهُمَا: أَنهُمْ مُسْلِمُوْنَ. وَالثانِي: أَنهُمْ مُشْرِكوْن.
وَبمَا تقدَّمَ مِنْ بيان ِ لعْن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِفاعِلِي ذلِك َ، وَتوَاترِ تَحْذِيْرِهِ، وَعَظِيْمِ وَعِيْدِهِ: لا يَصِحُّ حَمْلهُمْ إلا َّ عَلى أَنهُمْ كانوْا مُشْرِكِيْن.
الوَجْهُ الثانِي: إنْ سَلمْنَا أَنهُمْ كانوْا مُسْلِمِيْنَ: فكانوْا ضَاليْنَ مُنْحَرِفِيْنَ بفِعْلِهمْ ذلِك َ، قدِ اسْتَحَقوْا لعْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بسَببهِ، وَهُمْ مِنْ جُمْلةِ الجهّال ِ وَالعَامَّة.
الوَجْهُ الثالِثُ: أَنَّ الله َ عز وجل لمْ يَصِفْ أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ، بوَصْفٍ يُمْدَحُوْنَ لأَجْلِهِ، وَإنمَا وَصَفهُمْ باِلغلبةِ! وَإطلاقهَا دُوْنَ قرْنِهَا بعَدْل ٍ أَوْ حَقّ: يدُلُّ عَلى التَّسَلطِ وَالهوَى وَالظلمِ، وَلا يدُلُّ عَلى عِلمٍ وَلا هُدَى، وَلا صَلاحٍ وَلا فلاح.
قالَ الحافِظ ُ ابْنُ رَجَبٍ (795هـ) في شَرْحِهِ عَلى صَحِيْحِ البُخارِي (2/ 397) عَلى حَدِيْثِ «لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ، اتخذُوْا قبوْرَ
أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد»: (وَقدْ دَلَّ القرْآنُ عَلى مِثْل ِ مَا دَلَّ عَليْهِ هَذَا الحدِيْثُ، وَهُوَ قوْلُ اللهِ عز وجل في قِصَّةِ أَصْحَابِ الكهْفِ:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} .
فجَعَلَ اتخاذَ القبوْرِ عَلى المسَاجِدِ، مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ الغلبةِ عَلى الأُمُوْرِ، وَذلِك َ يشْعِرُ بأَنَّ مُسْتندَهُ: القهْرُ وَالغلبة ُ وَاتباعُ الهوَى، وَأَنهُ ليْسَ مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ العِلمِ وَالفضْل ِ، المتبعِينَ لِمَا أَنزَلَ الله ُ عَلى رُسُلِهِ مِنَ الهدَى) اه.
الوَجْهُ الرّابعُ: أَنَّ اسْتِدْلالَ هَؤُلاءِ القبوْرِيِّيْنَ بهَذِهِ الآيةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ - مَعَ مُخالفتِهِ لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ الناهِيَةِ عَنْ ذلِك َ- مُخالِفٌ لإجْمَاعِ عُلمَاءِ المسْلِمِيْنَ، عَلى تَحْرِيْمِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ (27/ 488): (فإنَّ بناءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، ليْسَ مِنْ دِيْن ِ المسْلِمِيْن.
بَلْ هُوَ مَنْهيٌّ عَنْهُ باِلنُّصُوْص ِالثابتَةِ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاتفاق ِ أَئِمَّةِ الدِّين.
بَلْ لا يَجُوْزُ اتِّخاذ ُ القبوْرِ مَسَاجِدَ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ ببناءِ المسْجدِ عَليْهَا، أَوْ بقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا. بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفِقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلك)، وَقدْ قدَّمْنَا الكلامَ عَنْ هَذَا مُفصَّلا ً.
الوَجْهُ الخامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الآية َ ليْسَتْ مُخالفة ً- وَلا تَصْلحْ أَنْ تَكوْنَ مُخالِفة ً- لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ النّاهِيَةِ عَنْ ذلِك َ، وَإنمَا هِيَ مُوَافِقة ٌ لهَا، مُصَدِّقة ٌ بهَا. فقدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم باِتخاذِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ، وَقالَ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أُوْلئِكَِ إذا مَاتَ فِيْهمُ الرَّجُلُ الصّالِحُ، بنوْا عَلى قبْرِهِ مَسْجدًا، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلك َ التَّصَاوِيْر» رَوَاهُ البخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (427)، (1341)، (3873) وَمُسْلِم (528).
وَالله ُ أَخْبَرَ كذَلِك َ في كِتَابهِ بذَلِك َ، فقالَ سُبْحَانهُ:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} . فالآية ُ مُصَدِّقة ٌ لِلأَحَادِيْثِ لا مُخالِفة.
تنبيه
قدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ رحمه الله ُ، وَغفرَ لهُ - هَذِهِ الشُّبْهَة َ في كِتَابهِ القيِّمِ «تَحْذِيْرِ السّاجِدِ، مِنَ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد» (ص65 - 78) وَرَدَّهَا مِنْ وُجُوْهٍ عِدَّةٍ فأَحْسَنَ، عَدَا أَنَّ وَجْهَيْهِ الأَوَّليْن ِ في رَدِّهَا لا يسَلمَان ِ لهُ، بَلْ هُمَا مَرْدُوْدَان.
* فإنهُ ذكرَ الوَجْهَ الأَوَّلَ فقالَ: (إنَّ الصَّحِيْحَ المتقرِّرَ في عِلمِ الأُصُوْل ِ: أَنَّ شَرِيْعَة َ مَنْ قبْلنا ليْسَتْ شَرِيْعَة ً لنا، لأَدِلةٍ كثِيْرَة).
* ثمَّ ذكرَ الوَجْهَ الثّانِي فقالَ: (هَبْ أَنَّ الصَّوَابَ قوْلُ مَنْ قالَ: «شَرِيْعَة ُ مَنْ قبْلنا شَرِيْعَة ٌ لنا»: فذَلِك َ مَشْرُوْط ٌ عِنْدَهُمْ، بمَا إذا لمْ يرِدْ في شَرْعِنَا مَا يُخالِفه).
وَهَذَان ِ وَجْهَان ِ باطِلان ِ، فإنَّ اتخاذَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ مَسَاجِدَ، ليْسَ مِنْ شَرْعِ اللهِ قط، لا في أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلا في الأُمَمِ قبْلهَا.
وَلوْ كانَ ذلِك َ شَرْعًا مِنْ شَرْعِ اللهِ لِمَنْ كانَ قبْلنا: لمْ يسْتَحِقوْا لعْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشَيْءٍ فعَلوْهُ قدْ أَتى بهِ شَرْعُهُمُ الذِي بُعِثَتْ بهِ أَنبيَاؤُهُمْ.
لكِنَّ لعْنَهُ صلى الله عليه وسلم لهمْ، وَتغْلِيْظهُ عَليْهمْ: دَلِيْلٌ عَلى كبيْرِ ظلمِهمْ، وَعَظِيْمِ إثمِهمْ، وَمُخالفتهمْ لأَنبيَائِهمْ، وَعَدَمِ مَجْيْئِهمْ به، صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ.
فصل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ القبوْرِيِّيْنَ عَلى صِحَّةِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ، بحدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مَرْفوْعًا «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نَبيًّا» ، وَقدْ صَلى فِيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام! وَبيَان ِ بُطلانِهِ وَأَنهُ مُنْكرٌ، وَرَدِّهِ عَليْهمْ
قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ القبوْرِيِّيْنَ عَلى جَوَازِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ، بَلْ وَجَوَازِ اتخاذِهَا مَسَاجِدَ، وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذلِك َ مُسْتَحَبًّا: بمَا رَوَاهُ أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ عَنْ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ طهْمَانَ عَنْ مَنْصُوْرِ بْن ِ المعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا» .
قالوْا: (وَمَسْجِدُ الخيْفِ، هُوَ مَسْجِدُ مِنَى، وَصَلاة ُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيْهِ، وَصَلاة ُ أَصْحَابهِ: ثابتة ٌ مَعْرُوْفة ٌ صَحِيْحَة ٌ لا رَيْبَ فِيْهَا وَلا مِرْية ٌ: فدَلتْ صَلاة ُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلِك َ المسْجِدِ مَعَ مَا فِيْهِ مِنْ قبوْرِ أَنبيَاءٍ، عَلى جَوَازِ الصَّلاةِ في المسَاجِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْرِ، وَفي المقابرِ مِنْ بَابِ أَوْلىَ! وَقدْ تتابعَ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ مِنْ صَدْرِ الإسْلامِ حَتَّى اليوْم، عَلى الصَّلاةِ فِيْهِ دُوْنَ إنكار)!
وَقدْ رَوَى هَذَا الحدِيْثَ:
- أَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ (1) قالَ: أَخْبَرَنا الرَّمَادِيُّ أَبوْ بَكرٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به.
- وَالفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 266)(2594) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به.
- وَالطبَرَانِيُّ في «مُعْجَمِهِ الكبيْرِ» (12/ 414)(13525) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثنَا عِيْسَى بْنُ شاذانَ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به.
وَالجوَابُ:
أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ الذِي اسْتَدَلوْا بهِ، عَلى وُجُوْدِ سَبْعِيْنَ قبْرِ نبيٍّ في مَسْجِدِ الخيْفِ: حَدِيْثٌ باطِلٌ مُنْكرٌ، وَإنْ كانَ ظاهِرُ إسْنَادِهِ الصِّحَّة!
وَهُوَ حَدِيْثٌ لمْ يُصَحِّحْهُ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، بَلْ وَلمْ يَسْتَدِلَّ بهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ المعْتبرِيْنَ المتقدِّمِيْنَ عَلى شَيْءٍ مِنْ مَسَائِل ِ الصَّلاةِ في المقابرِ، لاطرَاحِهِ وَظهُوْرِ نكارَتِهِ. وَبيانُ ذلِك َ مِنْ وُجُوْهٍ:
أَحَدُهَا: أَنهُ مُخالِفٌ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ بَلْ وَالمتوَاتِرَةِ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ لعْنِهِ لِليهُوْدِ وَالنَّصَارَى، المتخِذِيْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ، بَلْ لعْنهُ المتخِذِيْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ مُطلقا.
بَلْ مُخالِفٌ لأَحَادِيْثَ صَحِيْحَةٍ كثِيْرَةٍ أُخْرَى، فِيْهَا تَحْرِيْمُ الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ، وَتَحْرِيْمُ وَطئِهَا وَالمشْيُ عَليْهَا، وَإيْقادُ السُّرُجِ فِيْهَا.
(1) - كمَا في «المطالِبِ العَالِيَةِ» لِلحَافِظِ ابْن ِ حَجَرٍ (3/ 370)(1425)«كِتَابُ الحجّ» ، «بَابُ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْف» .
فكيْفَ يتخِذُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَ الخيْفِ مَسْجِدًا؟! وَيُصَلي فِيْهِ؟! وَيَدَعُ المسْلِمِيْنَ يُصَلوْنَ فِيْهِ؟! ثمَّ يحْذَرُ عَليْهمْ مِنَ اتخاذِ قبْرِهِ مَسْجِدًا وَعِيْدًا، وَلا يَحْذَرُ عَليْهمُ اتخاذَ قبْرِ سَبْعِيْنَ نبيًّا مَسْجِدًا وَعِيْدًا؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .
فلا شَك َّ أَنَّ حَدِيْثَ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا هَذَا: حَدِيْثٌ بَاطِلٌ مُنْكر.
الثانِي: أَنهُ مُخالِفٌ لِلإجْمَاعِ، وَقدْ قدَّمْنَاهُ في «فصْل ِ تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النزَاعِ» أَوَّلَ الكِتَابِ (ص13 - 19)، وَذكرْنا هُنَاك َ إجْمَاعَ أَهْل ِ العِلمِ كافة ً، عَلى حُرْمَةِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ، وَالمسَاجِدِ عَلى القبوْر.
الثالِثُ: أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعٍ آخَرَ أَيضا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ إجْمَاعُ العُلمَاءِ عَلى جَهَالةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ، وَعَدَمِ قطعِهمْ بقبْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، سِوَى قبْرِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم دُوْنَ غيْرِه.
أَمّا بَقِيَّة ُ قبوْرِهِمْ ففِيْهَا خِلافٌ كبيْرٌ، وَالرّاجِحُ المقطوْعُ بهِ: بُطلانُ نِسْبتِهَا إليْهمْ، سِوَى قبْرِ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام، ففِي قبْرِهِ نِزَاعٌ، وَالجمْهُوْرُ عَلى ثبوْته.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ- كمَا في «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/ 141) -: (وَلِهَذَا كانَ العُلمَاءُ الصّالِحُوْنَ مِنَ المسْلِمِيْنَ لا يُصَلوْنَ في ذلِك َ المكان. هَذَا إذا كانَ القبْرُ صَحِيْحًا فكيْفَ وَعَامَّة ُ القبوْرِ المنْسُوْبةِ إلىَ الأَنبيَاءِ كذِبٌ، مِثْلُ القبْرِ
الذِي يُقالُ: إنهُ «قبْرُ نوْحٍ» فإنهُ كذِبٌ لا رَيْبَ فِيْهِ، وَإنمَا أَظهَرَهُ الجهّالُ مِنْ مُدَّةٍ قرِيْبَةٍ وَكذَلِك َ قبْرُ غيْرِه).
الرّابعُ: أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ لوْ كانَ صَحِيْحًا: لحَرُمَ وَطئُ قبوْرِهِمْ، وَالجلوْسُ عَليْهَا، وَالصَّلاة ُ فِيْهَا وَإليْهَا، وَلوَجَبَ عَلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بيَانُ ذلِك َ لأُمَّتِهِ، فلمَّا لمْ يَكنْ ذلِك َ: ظهَرَ بُطلانهُ، وَخُلوُّ المسْجِدِ مِنَ القبوْر.
الخامِسُ: أَنهُ مُخالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيْحَةِ في بابهِ، التي فِيْهَا: أَنَّ مَسْجِدَ الخيْفِ صَلى فِيْهِ سَبْعُوْنَ نبيًّا، وَقدْ رَوَاهُ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ مَوْقوْفا وَمَرْفوْعًا، لا قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا! فصَوَابهُ «صَلى» لا «قبْر» .
فالرِّوَاية ُ المرْفوْعَة ُ: رَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ جُبيْرٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا، مِنْهُمْ مُوْسَى صلى الله عليه وسلم، كأَني أَنظرُ إليْهِ وَعَليْهِ عَبَاءَتان ِ قِطرَانِيَّتَان ِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلى بَعِيْرٍ مِنْ إبْل ِ شَنُوْءَةٍ، مَخْطوْمٍ بخِطامٍ مِنْ لِيْفٍ لهُ ضَفِيْرَتان» .
أَخْرَجَهُ:
- الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 266)(2593) قالَ: حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ الكوْفيُّ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ قالا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به.
- وَالطبَرَانِيُّ في مُعْجَمَيْهِ: «الكبيْرِ» (11/ 452 - 453)(12283) وَ «الأَوْسَطِ» (6/ 193 - 194)(5403) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِ أَبي خَيْثمَة َ
حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيُّ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به.
ثمَّ قالَ الطبَرَانِيُّ بَعْدَهُ في «الأَوْسَطِ» (6/ 194):
(لمْ يَرْوِ هَذَا الحدِيْثَ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ إلا َّ مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل. تفرَّدَ بهِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيّ).
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ حُفاظ ٌ ثِقاتٌ، احْتَجَّ بهمْ أَصْحَابُ الصَّحِيْح.
وَتفرُّدُ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ بهِ عَنْ عَطاءٍ - الذِي ذكرَهُ الطبَرَانِيُّ - لا يَضُرُّهُ، فإنَّ مُحَمَّدًا ثِقة ٌ حُجَّة ٌ، احْتَجَّ بهِ الشَّيْخان.
أَمّا زَعْمُ الطبَرَانِيِّ رحمه الله ُ: تفرُّدَ عَبْدِ اللهِ بْن ِ هَاشِمٍ الطوْسِيِّ بهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ: فغيْرُ مُسَلمٍ وَلا صَحِيْحٍ، بَلْ قدْ شَارَكهُ في رِوَايتِهِ لهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِفضَيْل ٍ: رَاوِيان ِ ثِقتان ِ، هُمَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ، كمَا تقدَّم.
أَمّا الرِّوَاية ُ الموْقوْفة ُ: فجَاءَتْ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ أَيْضًا مِنْ طرِيْقيْن ِ، وَعَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.
فإحْدَى طرِيقيْ ابْن ِ عَبّاس ٍ: رَوَاهَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَة َ عَنْ أَشْعَثِ بْن ِ سَوّارٍ عَنْ عِكرِمَة َ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: «صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا، كلهُمْ مُخَطمِيْنَ باِلليْف» قالَ مَرْوَانُ: (يَعْنِي رَوَاحِلهُمْ).
أَخْرَجَهُ مِنْ هَذِهِ الطرِيْق ِ:
- الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة َ» (4/ 269)(2603) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي عُمَرَ حَدَّثنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِية َ به.
- وَالأَزْرَقِيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (2/ 174) أَيْضًا قالَ: حَدَّثنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبي عُمَرَ العَدَنِيُّ قالا: حَدَّثنَا مَرْوَانُ به.
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ رِجَالُ الصَّحِيْح.
وَأَشْعَثُ بْنُ سَوّارٍ: رَوَى لهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» في المتابعَاتِ، وَتكلمَ فِيْهِ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ وَضَعَّفوْهُ، وَلعَلَّ الطرِيْقَ الأُخْرَى عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ تَعْضُدُهُ، وَقدْ:
رَوَاهَا الحاكِمُ في «مُسْتَدْرَكِهِ» (2/ 598): عَنْ أَبي العَبّاس ِ مُحَمَّدِ بْن ِ يَعْقوْبَ عَنْ أَحْمَدِ بْن ِ عَبْدِ الجبّارِ عَنْ يُوْنس ِ بْن ِ بُكيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ إسْحَاقَ عَن ِ الحسَن ِ بْن ِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقسَمٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: «لقدْ سَلك َ فجَّ الرَّوْحَاءِ سَبْعُوْنَ نبيًّا حُجّاجًا، عَليْهمْ ثِيَابُ الصُّوْفِ، وَلقدْ صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا» .
وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في «سُنَنِهِ الكبْرَى» (5/ 177) مِنْ طرِيْق ِ أَبي عَبْدِ اللهِ الحاكِمِ عَنْه.
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ مُحْتَجٌّ بهمْ في الصَّحِيْحِ، غيْرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ: مُدَلسٌ وَقدْ عَنْعَن.
أَمّا حَدِيْثُ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:
فرَوَاهُ مُسَدَّدٌ (1) عَنْ يَحْيَى بْن ِ سَعِيْدٍ القطان ِ عَنْ عَبْدِ الملِكِ بْن ِ أَبي سُليْمَانَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: «صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا، وَبَيْنَ حِرَاءَ وَثبيْرٍ سَبْعُوْنَ نبيًّا» .
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِم.
وَرِوَايتا ابْن ِ عَبّاس ٍ وَأَبي هُرَيْرَة َ الموْقوْفتان ِ عَليْهمَا: لهمَا حُكمُ الرَّفعِ، لأَنَّ مِثلهُمَا لا يُقالُ باِلرَّأْيِّ، وَيَشْهَدُ لِرَفعِهَا - ضِمْنًا - حَدِيْثُ ابْن ِ عَبّاس ٍ المرْفوْعُ وَقدْ تقدَّم.
وَفي هَذَا البابِ أَيْضًا: مُرْسَلٌ لِسَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ قالَ: (مَرَّ مُوْسَى عليه السلام بفجِّ الرَّوْحَاءِ، وَعَليْهِ عَبَاءََتان ِ قطوَانِيَّتَان ِ، تجَاوِبهُ صِفاحُ الرَّوْحَاءِ، وَهُوَ يقوْلُ:«لبَّيْك َ عَبْدُك َ، وَابْنُ عَبْدَيْك» .
وَمَرَّ عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ عليهما السلام يلبِّي، وَهُوَ يقوْلُ:«لبَّيْك َ عَبْدُك َ، وَابْنُ أَمَتِك َ بنْتِ عَبْدَيْك» .
وَمِنْ قبْلُ أَوْ مِنْ بَعْدُ سَبْعُوْنَ نبيًّا، خَاطِمِي رَوَاحِلهُمْ بحِبَال ِ الليْفِ، حَتَّى صَلوْا في مَسْجِدِ الخيْف).
(1) - كمَا في «المطالِبِ العَالِيَةِ» لِلحَافِظِ ابْن ِ حَجَرٍ (3/ 370)(1425)«كِتَابُ الحجّ» ، «بَابُ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْف» .
رَوَاهُ:
- الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 268 - 269)(2601) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي عُمَرَ حَدَّثنَا سُفيَانُ - هُوَ ابنُ عُيَيْنَة َ- عَن ِ ابْن ِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ به.
وَرَوَاهُ:
- الإمَامُ أَحْمَدُ في «الزُّهْدِ» قالَ: حَدَّثنَا سُفيَانُ عَن ِ ابن ِ جُدْعَانَ وَأَسْنَدَهُ، فذَكرَهُ دُوْنَ أَوَّلهِ الذِي فِيْهِ ذِكرُ مُوْسَى عليه السلام.
الوَجْهُ السّادِسُ: أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ - أَعْني حَدِيْثَ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا المنتقدَ -: قدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ التّابعِيُّ الثقة ُ رحمه الله.
وَقدْ ثبتَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا يخالِفهُ، وَيوَافِقُ الرِّوَاياتِ الصَّحِيْحَة َ المتقدِّمة َ فِيْه.
فرَوَى البَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبْرَى» (2/ 420): عَنْ أَبي عَبْدِ اللهِ الحاكِمِ وَأَبي سَعِيْدٍ مُحَمَّدِ بن ِ مُوْسَى ابن ِ أَبي عَمْرٍو الصَّيرَفيِّ كِلاهُمَا عَنْ أَبي العَبّاس ِ الأَصَمِّ عَنْ يَحْيَى بْن ِ أَبي طالِبٍ عَنْ عَبْدِ الوَهّابِ بن ِ عَطاءٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ أَبي عَرُوْبة َ: أَنهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقوْلُ: «صَلى في هَذَا المسْجِدِ - مَسْجِدِ الخيْفِ، يَعْني مَسْجِدَ مِنَى- سَبْعوْنَ نبيًّا، لِبَاسُهُمُ الصُّوْفُ، وَنعَالهمُ الخوْص» .
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْح.
وَرَوَى الفاكِهيُّ أَيْضًا في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 18)(2313):
عَنْ عَلِيِّ بْن ِ المنذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ أَبي زِيادٍ قالَ: (خَرَجْنَا مَعَ مُجَاهِدٍ نسِيْرُ حَتَّى خَرَجْنَا مِنَ الحرَمِ نَحْوَ عَرَفاتٍ، فقالَ مُجَاهِدٌ:«هَلْ لكمْ في مَسْجِدٍ كانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يُصَليَ فِيْه» .
قالَ: قلنا: نعَم، فصَليْنَا فِيْه.
ثمَّ قالَ: «لقدْ صَلى فِيْهِ سَبْعُوْنَ نبيًّا، كلهُمْ يَؤُمُّ الخيْف» .
وَرَوَى الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» أَيْضًا (4/ 268)(2599) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عِمْرَانَ المخْزُوْمِيُّ حَدَّثنَا سَعِيْدُ بْنُ سَالِمٍ حَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ سَاجٍ أَخْبَرَنِي خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن ِعَنْ مُجَاهِدٍ قالَ: (حَجَّ خَمْسَة ٌوَسَبْعُوْنَ نَبيًّا، كلهُمْ قدْ طافَ بهذَا البيْتِ، وَصَلى في مَسْجِدِ مِنَى، فإن ِ اسْتَطعْتَ لا تَفوْتك َ صَلاة ٌ في مَسْجِدِ مِنَى فافعَلْ).
وَرَوَاهُ الأَزْرَقِيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (2/ 174): حَدَّثنِي جَدِّي عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ سَالِمٍ به.
الوَجْهُ السّابعُ: أَنَّ في إسْنَادِهِ إبْرَاهِيْمَ بْنَ طهْمَانَ، وَهُوَ مَرَدُّ وَسَبَبُ مُخالفةِ هَذَا الحدِيْثِ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ وَنكارَتِهِ، كمَا تقدَّم.
وَهُوَ وَإنْ كانَ ثِقة ً احْتَجَّ بهِ أَصْحَابُ الصَّحِيْحِ، إلا َّ أَنهُ قدْ تفرَّدَ بأَشْيَاءَ خَالفَ فِيْهَا، فلمْ يُوَافقْ عَليْهَا وَلمْ يُتَابعْ، حَتَّى قالَ فِيْهِ - لأَجْلِهَا - الحافِظ ُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابْنُ عَمّارٍ:(إبْرَاهِيْمُ بْنُ طهْمَانَ: ضَعِيْفٌ مُضْطرِبُ الحدِيْث).
وَقالَ ابْنُ حِبّانَ فِيْهِ في «الثقاتِ» (6/ 27): (أَمْرُهُ مُشْتَبهٌ، لهُ مَدْخَلٌ في الثقاتِ، وَمَدْخَلٌ في الضُّعَفاءِ، قدْ رَوَى أَحَادِيْثَ مُسْتَقِيْمَة ً تُشْبهُ أَحَادِيْثَ الأَثباتِ. وَقدْ تفرَّدَ عَن ِ الثقاتِ بأَشْيَاءَ مُعْضِلات) اه.
قلتُ: إنْ لمْ يَكنْ هَذَا الحدِيْثُ مِنْ مُعْضِلاتِهِ: فليْسَ لهُ مُعْضِلاتٌ، وَإنْ لمْ يَكنْ هَذَا مِنْ غرَائِبهِ، فمَا غرَائبُه؟!
وَلا رَيْبَ أَنَّ مُخالفتهُ وتفرُّدَهُ بتِلك َ اللفظةِ المنكرَةِ «قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا» مَكانَ «صَلى سَبْعُوْنَ نبيًّا» : رَأْسُ مُعْضِلاته.
قالَ الذَّهَبيُّ في تَرْجَمَتِهِ في «سِيَرِ أَعْلامِ النُّبَلاءِ» (7/ 383): (لهُ مَا يَنْفرِدُ بهِ، وَلا يَنْحَط ُّ حَدِيثهُ عَنْ دَرَجَةِ الحسَن).
وَقالَ الحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ فِيْهِ في «تقرِيْبِ التَّهْذِيْبِ» (1/ 36): (ثِقة ٌ يُغرِب).
الوَجْهُ الثامِنُ: أَنَّ سِيَاقَ هَذَا الحدِيْثِ - حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا» : سِيَاقُ مَدْحٍ وَتفضِيْل.
وَهَذَا لا يَسْتقِيْمُ وَلا يَصِحُّ، أَنْ يَكوْنَ مَرَدُّ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْفِ: وُجُوْدَ تِلك َ القبوْرِ السَّبْعِيْن!
بَلْ إنَّ وُجُوْدَهَا فِيْهِ، تَجْعَلُ الصَّلاة َ فِيْهِ مُحَرَّمَة ً مُنْكرَة ً لا تَصِحُّ - لوْ قِيْلَ بصِحَّةِ حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ، وَلا يَصِحُّ - لِمَا قدَّمْنَا، وَمُخالفتِهِ الأَحَادِيْثَ الصَّحِيْحَة.
وَإنمَا مَرَدُّ الفضْل ِ في ذلِك َ وَسَبَبُهُ: مَا جَاءَ في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى الصَّحِيْحَةِ، وَهُوَ: صَلاة ُ الأَنبيَاءِ فِيْهِ، حَتَّى كانتِ الصَّلاة ُ فِيْهِ سُنَّة َ أَنبيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهمْ وَسَلامُهُ، وَسَنَّة َ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَقدْ دَلتْ عَلى هَذَا: الأَحَادِيْثُ وَالآثارُ الأُخْرَى التي قدَّمْنَاهَا في الوَجْهَيْن ِ الخامِس ِ وَالسّادِس.
الوَجْهُ التّاسِعُ: أَنهُ لا يَسْتقِيْمُ تتابعُ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِيْنَ - مَعَ كثرَتِهمْ - وَاتفاقهُ في مَسْجِدِ الخيْفِ، إلا َّ أَنْ يَكوْنَ أَصْلُ أَرْضِهِ مَقبَرَة ً، يُقبرُ فِيْهَا الصّالحوْنَ وَالمشْرِكوْن.
فإنْ كانَ هَذَا: فلا مَزِية َ لها، فكمَا أَنَّ فِيْهَا قبوْرَ أَنبيَاءٍ، ففِيْهَا قبوْرُ مُشْرِكِيْنَ وَكفار!
وَهَذَا مُخَالِفٌ أَيْضًا، لِمَا صَحَّ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نبشِهِ قبوْرَ المشْرِكِيْنَ في مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ في المدِيْنةِ، وَنقل ِ رُفاتِهمْ: فلوْ كانَ ذلِك َ صَحِيْحًا: لوَجَبَ نبْشُ قبوْرِ المشْرِكِيْنَ، وَنقلُ رُفاتِهمْ كمَا فعَلهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وََأَمَرَ بهِ في مَسْجِدِه.
الوَجْهُ العَاشِرُ: أَنهُ يَلزَمُ مِنْ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِيْنَ في مَسْجِدِ الخيْفِ: أَنهُمْ بقوْا في مَكة َ بَعْدَ حَجهمْ مُدَّة ً، حَتَّى وَافتْهُمْ مَنَاياهُمْ!
وَالعَادَة ُ تُحِيْلُ ذلِك َ، وَأَنْ تكوْنَ مَنَايَاهُمْ وَافتْهُمْ جَمِيْعًا بمَكة َ قبْلَ إمْكانِهمْ مِنَ القفوْل ِ إلىَ أَهْلِهمْ.
وَيَلزَمُ مِنْ هَذَا أَمْرَان ِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكوْنَ بَقِيَ في مَكة َ أَنبيَاءٌ قبْلَ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم غيْرَ إبْرَاهِيْمَ وَابنِهِ عليهما السلام.
وَهَذَا أَمْرٌ غيْرُ صَحِيْحٍ وَلا مَعْرُوْفٍ، وَقدْ رَوَى البخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (7) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا في قِصَّةِ سُؤَال ِ هِرَقلَ لِرَهْطِ قرَيْش ٍ، وَفِيْهمْ أَبوْ سُفيَانَ، وَهُوَ حَدِيْثٌ طوِيْلٌ كانَ فِيْهِ قوْلُ هِرَقلَ لأَبي سُفيَانَ:«وَسَأَلتُك َ: هَلْ قالَ هَذَا القوْلَ - أَي النُّبُوَّة َ- أَحَدٌ قط قبْله؟ فأَجَبْتَ أَنْ لا، فقلتُ: لوْ كانَ أَحَدٌ مِنْكمْ قالَ هَذَا القوْلَ قبْلهُ، قلتُ: رَجُلٌ يأْتمُّ بقوْل ٍ قِيْلَ قبْله» .
الأَمْرُ الثانِي: أَنهُمْ - صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ- بقوْا في مَكة َ عِنْدَ قوْمٍ لمْ يُؤْمَرُوْا بإبلاغِهمْ شَيْئًا! وَترَكوْا أَقوَامَهُمْ وَقدْ كلفوْا بإبْلاغِهمْ رِسَالاتِ رَبِّهمْ!
وَقدْ كانتِ الأَنبيَاءُ تبْعَثُ في أَقوَامِهَا خَاصَّة ً دُوْنَ غيْرِهِمْ، عَدَا نبيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فبعِثَ لِلنّاس ِ عَامَّة ً، كمَا عِنْدَ أَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (3/ 304) وَالبخارِيِّ في «صَحِيْحِهِ» (335)، وَمُسْلِمٍ (521) كلهُمْ مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أُعْطِيْتُ خَمْسًا لمْ يُعْطهُنَّ أَحَدٌ قبْلِي: نصِرْتُ باِلرُّعْبِ مَسِيْرَة َ شَهْرٍ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا، فأَيمَا رَجُل ٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكتْهُ الصَّلاة ُ فليصَلِّ، وَأُحِلتْ لِيَ الغنائِمُ، وَلمْ تحِلَّ لأَحَدٍ قبْلِي، وَأُعْطِيْتُ الشَّفاعَة َ، وَكانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلىَ قوْمِهِ خَاصَّة ً، وَبُعِثْتُ إلىَ النّاس ِ عَامَّة» .
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ: أَنَّ صُوَرَ هَذِهِ القبوْرِ- لوْ سَلمْنَا بوُجُوْدِهَا وَلا نسَلمُ - غيرُ ظاهِرَةٍ وَلا بَارِزَةٍ، وَالشِّرْك ُ إنما يَحْصُلُ إذا ظهَرَتْ صُوَرُهَا.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تيْميَّة َرَحِمَه ُ الله ُ- كمَا في «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (17/ 463) -: (كذَلِك َ قالَ العُلمَاءُ: «يَحْرُمُ بناءُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، وَيَجِبُ هَدْمُ كلِّ مَسْجِدٍ بُنيَ عَلى قبْر» .
وَإنْ كانَ الميِّتُ قدْ قبرَ في مَسْجِدٍ وَقدْ طالَ مُكثهُ: سُوِّيَ القبْرُ حَتَّى لا تَظهَرَ صُوْرَتهُ، فإنَّ الشِّرْك َ إنما يَحْصُلُ إذا ظهَرَتْ صُوْرَته) اه.
هَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا، كلُّ وَجْهٍ مِنْهَا حُجَّة ٌ يُبْطِلُ ذلِك َ الحدِيْثَ وَيسْقِطهُ، فكيْفَ بهَا مُجْتَمِعَة؟!
وَلمْ أَسُقهَا كلهَا لأَجْل ِ قوَّةِ ذلِك َ الحدِيْثِ، أَوْ ظهُوْرِ صِحَّتِهِ! وَقدْ عَلِمْتَ إعْرَاضَ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ عَنْهُ، وَعَدَمَ تَصْحِيْحِهمْ لهُ، مَعَ تَسَاهُل ِ بَعْضِهمْ.
وَإنمَا سُقتهَا مُتتابعَة ً، زِيَادَة ً في إرْغامِ المعارِض ِ، وَإظهَارًا لِضَعْفِ حُجتِهِ، وَسُقوْطِ أَدِلتِهِ، وَبُعْدِ مَنَالهِ عَنْ يَدَيه.
فصل في بيان ِحَال ِ مَا جَاءَ في دَفن ِ آدَمَ عليه السلام في مَسْجِدِ الخيْفِ وَبُطلانِه
قدْ وَجَدْتُ لأُوْلئِك َ المبْطِلِيْنَ أَثرًا آخَرَ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا، رُبَّمَا اسْتَدَلوْا بهِ: أَنَّ قبْرَ آدَمَ عليه السلام في مَسْجِدِ الخيْف.
وَهَذَا قدْ رَوَاهُ الدّارَقطنيُّ رحمه الله ُ في «سُننِهِ» (2/ 70 - 71) - مَجْمَعِ الغرَائِبِ، كمَا أَرَادَهُ - فقالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلدٍ حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ سُليْمَانَ العَلافُ حَدَّثنَا صَبَاحُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ مَالِكِ بْن ِ مِغْوَل ٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ مُسْلِمِ بْن ِ هُرْمُزَ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ جُبَيْرٍ وَعُرْوَة َ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: «صَلى جِبْرِيْلُ عليه السلام عَلى آدَمَ عليه السلام: كبَّرَ عَليْهِ أَرْبعًا، وَصَلى جِبْرِيْلُ باِلملائِكةِ يَوْمَئِذٍ، وَدُفِنَ في مَسْجِدِ الخيْفِ، وَأُخِذَ مِنْ قِبَل ِ القِبْلةِ، وَلحِدَ لهُ، وَسُنِّمَ قبْرُه» .
وَهَذَا الحدِيْثُ بَاطِلٌ، وَمِمَّنْ أَعَلهُ: رَاوِيْهِ الدّارَقطنيُّ، فإنهُ قالَ رحمه الله ُ بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ:(عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ مَالِكِ بْن ِ مِغْوَل ٍ: مَتْرُوْك ٌ، وَرَوَاهُ أَبوْ إسْمَاعِيْلَ المؤَدِّبُ عَن ِ ابْن ِ هُرْمُزَ عَنْ أَبي حَزْرَة َ عَنْ عُرْوَة َ، قوْلهُ بَعْضَ هَذَا الكلام).
وَلهُ عِلة ٌ أُخْرَى غيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ هَذَا: وَهِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْن ِ هُرْمُزَ، ضَعِيْفٌ، ضَعَّفهُ أَئِمَّة ُ الحدِيْثِ، كالإمَامِ أَحْمَدَ وَيَحْيَى بْن ِ مَعِيْن ٍ، وَأَبي دَاوُوْدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبي عَمْرٍو الفلاس ِ، وَأَبي حَاتِمٍ الرّازِيِّ وَغيْرِهِمْ.
وَقدْ جَاءَ حَدِيْثُ ابْن ِ عَبّاس ٍ هَذَا مِنْ طرِيْق ِ أُخْرَى: فرَوَاهُ الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 268)(2600) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَنْصُوْرٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ سَالِمٍ عَن ِ ابْن ِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: (قبْرُ آدَمَ عليه السلام بمَكة َ، أَوْ في مَسْجِدِ الخيْفِ، وَقبْرُ حَوّاءَ بجُدَّة).
وَهَذَا وَإنْ لمْ يَكنْ حُجَّة ً وَلوْ صَحَّ، لالترَدُّدِ وَالشَّك ِّ في مَوْضِعِ القبْرِ بَيْنَ مَسْجِدِ الخيْفِ وَبَيْنَ مَكة َ: إلا َّ أَنهُ كذَلِك َ ضَعِيْفٌ، وَفي سَنَدِهِ عِلتان ِ:
إحْدَاهُمَا: عَنْعَنَة ُ ابْن ِجُرَيْجٍ، وَهُوَ ثِقة ٌ غيْرَ أَنهُ مُدَلسٌ مُكثِرٌ مِنْهُ، وَقدْ عَنْعَن.
وَالثّانِيَة ُ: سَعِيْدُ بْنُ سَالِمٍ، لهُ أَوْهَام.
وَهَذِهِ العِللُ مِنْ حَيْثُ الإسْنَادُ، وَإلا َّ فإنَّ مَتْنَهُ مُنْكرٌ، يُظهرُ نكارَتهُ الوَجْهُ الأَوَّلُ، وَالثّانِي، وَالثالِثُ، وَالرّابعُ المتقدِّمة ُ في الفصْل ِ السّابق (ص134 - 136).
يُضَافُ لها وَجْهَان ِ آخَرَان ِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ في لفظِهِ في مَتنِهِ الثّانِي ترَدُّدًا وَعَدَمَ جَزْمٍ بَيْنَ مَكة َ وَمَسْجِدِ الخيْفِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلى اضْطِرَابٍ وَعَدَمِ ضَبْطٍ، فيسْقط ُ الاحْتِجَاجُ به.
الثانِي: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غيْرُ مَشْهُوْرٍ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ، فإنهُمْ- مَعَ تَسَاهُل ِ بَعْضِهمْ - لمْ يَذْكرُوْا أَنَّ آدَمَ عليه السلام دُفِنَ في مَسْجِدِ
الخيْفِ، وَإنْ لمْ يَشْتَرِطوْا الصِّحَة َ فِيْمَا يَرْوُوْنهُ وَيُوْرِدُوْنهُ، فقدْ ذكرَ ابْنُ جَرِيْرٍ في «تارِيْخِهِ» (1/ 161) وَتبعَهُ ابْنُ كثِيْرٍ في «البدَايةِ وَالنِّهَايةِ» (1/ 108) أَقوَالا ً عِدَّة ً في مَوْضِعِ دَفن ِ آدَمَ، لمْ يَكنْ هَذَا مِنْهَا.
قالَ الحافِظ ُ ابْنُ كثِيْرٍ في «البدَايةِ وَالنِّهَايَةِ» (1/ 108): (وَاخْتَلفوْا في مَوْضِعِ دَفنِهِ: فالمشْهُوْرُ: أَنهُ دُفِنَ عِنْدَ الجبَل ِالذِي أُهبط َ مِنْهُ في الهِنْد.
وَقِيْلَ: بجبَل ِأبي قبَيْس ٍ بمَكة.
وَيُقالُ: إنَّ نُوْحًا عليه السلام لمّا كانَ زَمَنُ الطوْفان ِ، حَمَلهُ هُوَ وَحَوَّاءَ في تَابوْتٍ، فدَفنَهُمَا ببَيْتِ المقدِس. حَكى ذلِك َ ابْنُ جَرِيْر.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهمْ أَنهُ قالَ: «رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إبْرَاهِيْمَ، وَرِجْلاهُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ المقدِس» ) اه.
قلتُ:
رِوَاية ُ ابْن ِعَسَاكِرَ هَذِهِ عَنْ بَعْضِهمْ: مُخَالِفة ٌ لِمَا ثبَتَ في «الصَّحِيْحَيْن» مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «خَلقَ الله ُ آدَمَ وَطوْلهُ سِتُّوْنَ ذِرَاعًا» [خ (3326)، (6227) م (2841)].
وَمَعَ اطرَاحِهَا: حَكاهَا ابْنُ كثِيْرٍ، وَلمْ يَذْكرْ هُوَ، وَلا ابْنُ جَرِيْرٍ: أَنَّ آدَمَ عليه السلام مَدْفوْنٌ بمَسْجِدِ الخيْف.
وَفي البابِ ثلاثة ُ مَرَاسِيْلَ أُخْرَى سَاقِطة ٌ:
أَحَدُهَا: رَوَاهُ أَبوْ الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ في «العَظمَةِ» (5/ 1592)(1056) قالَ: حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن ِ سَابوْرٍ الدَّقاقُ حَدَّثنَا أَبوْ نعَيْمٍ الحلبيُّ
حَدَّثنَا سُليْمٌ الخشّابُ المكيُّ عَنْ رَجَاءِ بْن ِ أَبي عَطاءٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قالَ: (قبْرُ آدَمَ عليه السلام بمِنَى في مَسْجِدِ الخيْفِ، وَقبْرُ حَوّاءَ بجُدَّة).
وَهَذَا مَعَ إرْسَالِهِ، ضَعِيْفٌ فإنَّ فِيْهِ ثلاثَ عِلل ٍ غيْرَ إرْسَالِهِ:
سُليْمُ بْنُ مُسْلِمٍ الخشّابُ: قالَ فِيْهِ الإمَامُ أَحْمَدُ: «لا يُسَاوِي حَدِيْثهُ شَيْئًا» وَقالَ ابْنُ مَعِيْن ٍ: «جَهْمِيٌّ خَبيْثٌ» وَقالَ النَّسَائِيُّ: «مَتْرُوْك ُ الحدِيْث» كمَا في «مِيْزَان ِالاعْتِدَال» لِلذَّهَبيّ (2/ 232).
وَرَجَاءُ بْنُ أَبي عَطاءٍ المِصْرِيُّ: قالَ فِيْهِ الحاكِمُ: «مِصْرِيٌّ صَاحِبُ مَوْضُوْعَات» وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ: «يَرْوِي الموْضُوْعَات» ، نَقلهَا عَنْهُمُ الذَّهَبيُّ في «مِيْزَان ِالاعْتِدَال» (2/ 46).
وَأَبوْ نعَيْمٍ عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ الحلبيُّ: ثِقة ٌ، رَوَى لهُ أَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» إلا َّ أَنهُ تغيَّرَ آخِرَ أَمْرِهِ، قالَ أَبوْ دَاوُوْدَ فِيْهِ:(ثِقة ٌ، إلا َّ أَنهُ تغيَّرَ في آخِرِ أَمْرِهِ، لقنَ أَحَادِيْثَ ليْسَ لها أَصْل).
وَالمرْسَلان ِ الثانِي وَالثالِثُ كحَال ِ سَابقتِهَا: رَوَاهُمَا الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/ 271)(2608) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي مَسَرَّة َ وَابْنُ أَبي سَلمَة َ- يَزِيْدُ أَحَدُهُمَا عَلى صَاحِبهِ- قالا: حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللهِ بن أبي قزعة قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوْسَى قالَ: حَدَّثني زَيدُ بْنُ أَسْلم.
قالَ ابْنُ أَبي سَلمَة َ في حَدِيْثِهِ: عَنْ أَبي: (إنَّ آدَمَ عليه السلام لحِدَ لهُ في مَسْجِدِ الخيْفِ، ودُفِنَ في وِترٍ مِنَ الثيَاب).
فصل فِي رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى بَعْض ِ أَدِلةِ المحَرِّمِين
وَقدْ رَدَّ هَذَا المعْتَرِضُ بَعْضَ أَدِلةِ مُحَرِّمِي الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ، وَعِنْدَ القبوْرِ السّابقةِ، دُوْنَ بَيِّنةٍ وَلا بُرْهَان.
وَقيدَ عُمُوْمَهَا بغيْرِ قيْدٍ، وَخَصَّصَ إطلاقهَا بغيْرِ مُخصِّص ٍ، فجَعَلَ تِلك الأَحَادِيْثَ كلهَا، في تَحْرِيْمِ اتخاذِ قبورِ الأَنبيَاءِ مَسَاجدَ، وَقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَ أَصْحَابِ القبوْرِ المعَظمَةِ فقالَ: (وَنحْنُ نقوْلُ بهَذَا، يَحْرُمُ قصْدُ قبرٍ مُعَظمٍ بصَلاةٍ، وَلكِنْ هَذِهِ ليْسَتْ كتِلك َالتِي نحْنُ بصَدَدِ مُنَاقشَتِهَا!
أَيْنَ تَجِدُ تَحْرِيْمَ الصَّلاةِ فِي المقبرَةِ مُطلقا، ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ وَجْهَ النَّهْيِّ بأَمْرَين ِ:
(1)
أَنْ يَكوْنَ القبْرُ مُعَظمًا، (2) وَأَنْ يَبْنِيَ عَليْهِ مَسْجدًا) انتهَى كلامُه.
وَكلامُهُ هَذَا مَرْدُوْدٌ، فإنَّ نهْيَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ: نهْيٌ عَامٌّ مُطلقٌ، لمْ يُقيِّدْهُ قيْدٌ، أَوْ يُخصَّ بمُخصِّص ٍ، وَمِنْ ذلِك َ:
* قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تصَلوْا إلىَ القبوْرِ، وَلَا تجْلِسُوْا عَليْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيْحِهِ» (972) مِنْ حَدِيْثِ أَبي مَرْثدٍ الغنوِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
* وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «اِجْعَلوْا مِنْ صَلاتِكمْ فِي بُيوْتِكمْ، وَلا تتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» رَوَاهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (432)، (1187) ومُسْلِمٌ (777)، مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.
* وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنْ شِرَارِ الناس ِ، مَنْ تدْرِكهُمُ السّاعَة ُ وَهُمْ أَحْياءٌ، وَمَنْ يتخِذُ القبوْرَ مَسَاجِدَ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «المسْنَدِ» (1/ 405، 435، 454)، وَأَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي «صَحِيْحِهِ» (2325) مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بن ِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
* وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ (3/ 83، 96) وَأَبوْ دَاوُوْدَ (492) وَالتِّرْمِذِيُّ (317) وَابْنُ مَاجَهْ (745) وَابنُ حِبّانَ فِي «صَحِيْحِهِ» (1699)، (2316)، (2321) مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْه.
* وَقوْلُ ابْن ِعَباس ٍقالَ: «لعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زُوّارَاتِ القبوْرِ، وَالمتَّخِذِينَ عَليْهَا المسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «المسْندِ» (1/ 229، 287، 324) وَأَبوْ دَاوُوْدَ (3236) وَالتِّرْمِذِيُّ (320) وَالنَّسَائِيُّ (2043) وَابْنُ مَاجَهْ (1575) وَابْنُ حِبّانَ فِي «صَحِيْحِه» (3179)، (3180).
* وَقوْلُ عَبْدِ اللهِ بْن ِعَمْرٍو رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: «نهَى رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبرَة» رَوَاهُ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي «صَحِيْحِه» (2319).
* وَقوْلُ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: «إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهَى أَنْ يُصَلى بَيْنَ القبوْر» رَوَاهُ ابنُ حِبّانَ في «صَحِيْحِه» (1698)، (2315)،
(2318)
، (2322)، (2323).
* وَأَمْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بنبْش ِ مَقبَرَةِ المشْرِكِيْنَ، وَإخْرَاجِ رُفاتِهمْ، لما أَرَادَ اتخاذهَا مَسْجِدًا، وَلمْ يُصَلِّ فِيْهَا إلا َّ بَعْدَ ذلِك َ، رَوَاهُ الشَّيْخَان ِ مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِك رَضِيَ الله ُ عَنْه.
وَهَذَا مَا فهمَهُ الصَّحَابة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ، فإنَّ نهْيَهُمْ وَتَحْرِيْمَهُمْ لِلصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ عَامٌّ غيْرُ مُخَصَّص ٍ وَلا مُقيَّد. وَعُمَرُ لما رَأَى أَنسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلي عِنْدَ قبْرٍ لمْ يَشْعُرْ بهِ: نبَّهَهُ وَنهَاهُ، وَليْسَ ذاك القبْرُ بقبْرِ نبيٍّ، وَقدْ تقدَّمَ ذِكرُ هَذَا الأَثرِ وَمَنْ رَوَاه (121 - 122).
وَإنْ كانَ لعْنُهُ صلى الله عليه وسلم لِليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ في جُمْلةٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ: إلا َّ أَنَّ ذلِك َ لا يَصِحُّ وَلا يَصْلحُ أَنْ يَكوْنَ مُخَصِّصًا لِلقبوْرِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا، فلا يَصِحُّ أَنْ نقوْلَ: تَحْرُمُ الصَّلاة ُ عِنْدَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ وَقبوْرِ المعظمِيْنَ دُوْنَ غيْرِهِمْ. لِعُمُوْمِ الأَدِلةِ السّابقةِ، وَلِتَحقق ِ عِلةِ النَّهْيِّ في الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْرِ أَيا كانَ ذلِك َ المقبوْر.
وَقدْ قدَّمْنَا عِلة َ نهْيِّ الشّارِعِ وَحَققناهَا في فصْل ٍ تقدَّمَ (ص27 - 43)، وَأَنَّ العِلة َ في ذلِك َ رَاجِعَة ٌ إلىَ أَمْرَيْن ِ، هُمَا:
* مَخافة ُ أَنْ يَكوْنَ ذلِك َ ذرِيْعَة ً لِلشِّرْكِ باِللهِ بعِبَادَةِ صَاحِبِ القبْرِ، أَوْ صَرْفِ شَيْءٍ مِنْ خَصَائِص ِ اللهِ جَلَّ وَعَلا لهُ، كمَا حَدَثَ فيْمَنْ سَبقنا مِنَ الأُمَمِ، كقوْمِ نوْحٍ وَغيْرِهِمْ.
* وَلِمَا في ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ باِليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى، وَقدْ نهيْنَا عَنْ مُشَابَهَتِهمْ في دَقِيْق ِ الأُمُوْرِ فكيْفَ بعَظِيْمِهَا؟!
وَمِنْ أَهْل ِ العِلمِ: مَنْ أَضَافَ عِلة ً ثالِثة ً، وَهِيَ: نجاسَة ُ القبوْرِ أَوْ مَظِنَّة ُ ذلك.
وَهَذِهِ العِلة ُ وَإنْ كانتْ تُضَمُّ لِمَا سَبَقَ مِنَ العِلل ِ، إلا َّ أَنهَا ليْسَتْ العِلة َ الكبْرَى في الحكمِ كمَا قدْ بينا ذلك في فصْل ٍ تقدَّمَ (ص27 - 43)، وَأَنهَا رُبَّمَا جَامَعَتِ العِللَ الكبْرَى وَرُبَّمَا تخلفتْ عَنْهَا.
إلا َّ أَنهُ عَلى قوْل ِ هَؤُلاءِ: تكوْنُ حُرْمَة ُ الصَّلاةِ في عَامَّةِ القبوْرِ أَشَدَّ وَأَكبَرَ مِنْ حُرْمَتِهَا عِنْدَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ، لِمَظِنَّةِ نجَاسَةِ ترْبةِ عَامَّةِ المقابرِ، وَطهَارَةِ ترْبةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ قطعًا.
ثمَّ إنَّ الضّابط َ الذِي وَضَعَهُ - مَعَ بُطلانِهِ - غيْرُ مُنْضَبطٍ: فمَالضّابط ُ في القبوْرِ المعَظمَةِ؟
فكمْ مِنْ قبْرٍ مُعَظمٍ عِنْدَ قوْمٍ، مُهَان ٍ مَلعُوْن ٍ عِنْدَ غيْرِهِمْ، وَهَذَا قبْرُ ابْن ِ عَرَبيٍّ الصُّوْفيِّ بدِمَشْقَ، كانَ مَزْبَلة ً يُلقى فِيْهَا النتَنُ، بَلْ ذكرَ الشَّعْرَانِيُّ في «طبَقاتِهِ» (1/ 163): أَنهُ كانَ يبالُ عَلى قبرِه!
وَبَقِيَ عَلى ذلِك َ حَتَّى دَخَلَ السُّلطانُ العُثْمَانِيُّ سَلِيْمُ الأَوَّلُ (ت926هـ) دِمَشْقَ في القرْن ِ العَاشِرِ، فبنى عَليْهِ مَشْهَدًا! وَعَمَرَ قبتهُ! وَعَظمَهُ! وَعَمِلَ عَليْهِ أَوْقافا! وَجَعَلَ لِلفقرَاءِ المتعَلقِينَ
باِبْن ِ عَرَبيٍّ مَطبَخًا! وَجَعَلَ لِلأَوْقافِ ناظِرًا يَجْمَعُ غلتهَا! وَهَذَا لمْ يُعْهَدْ لِغيرِهِ مِنْ مُلوْكِ الجرَاكِسَةِ، وَلا مِمَّنْ كانَ قبْلهُمْ، كمَا ذكرَ هذَا كلهُ: مُؤَرِّخُ العُثْمَانِيِّينَ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبي السُّرُوْرِ البكرِيُّ في كِتَابهِ «المِنَحِ الرَّحْمَانِيَّةِ، في الدَّوْلةِ العُثْمَانِيَّة» (ص83 - 84) وَغيرُه.
وَإنْ كانَ الضّابط ُ أَنْ يَكوْنَ قبْرَ نبيٍّ: فلمْ يثبُتْ قبْرُ نبيٍّ عَلى وَجْهِ القطعِ، إلا َّ قبْرُ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَمّا غيْرُهُ مِنَ الأَنبيَاءِ: فلا، وَإنمَا النّاسُ يُصَلوْنَ عِنْدَ قبوْرٍ يَزْعُمُوْنَ كذِبًا أَنهَا لأَنبيَاءٍ وَليْسَتْ كذَلِك. فهَلْ يُنْهَوْنَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا، أَوْ لا؟
فإنْ نهُوْا: نهوْا عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ ليْسَ بقبْرِ نبيٍّ في الحقِيْقة.
وَإنْ ترِكوْا: ترِكوْا يُصَلوْنَ عِنْدَ قبْرٍ يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِ ذلك.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ- كمَا في «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/ 141) -: (وَلِهَذَا كانَ العُلمَاءُ الصّالِحُوْنَ مِنَ المسْلِمِيْنَ لا يُصَلوْنَ في ذلِك َ المكان. هَذَا إذا كانَ القبْرُ صَحِيْحًا، فكيْفَ وَعَامَّة ُ القبوْرِ المنْسُوْبَةِ إلىَ الأَنبيَاءِ كذِبٌ، مِثْلُ القبْرِ الذِي يُقالُ: «إنهُ قبْرُ نوْحٍ» فإنهُ كذِبٌ لا رَيْبَ فِيْهِ، وَإنمَا أَظهَرَهُ الجهّالُ مِنْ مُدَّةٍ قرِيْبَةٍ وَكذَلِك َ قبْرُ غيْرِه).
وَقالَ رحمه الله ُ (27/ 444): (وَأَمّا قبوْرُ الأَنبيَاءِ: فالذِي اتفقَ عَليْهِ العُلمَاءُ هُوَ «قبْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم» فإنَّ قبْرَهُ مَنْقوْلٌ باِلتوَاترِ، وَكذَلِك َ في صَاحِبَيْهِ.
وَأَمّا «قبْرُ الخلِيْل ِ» : فأَكثرُ النّاس ِ عَلى أَنَّ هَذَا المكانَ المعْرُوْفَ، هُوَ قبْرُهُ. وَأَنكرَ ذلِك َ طائِفة ٌ، وَحُكِيَ الإنكارُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَنهُ قالَ:«ليْسَ في الدُّنيا قبْرُ نبيٍّ يُعْرَفُ إلا َّ قبْرُ نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم» .
لكِنْ جُمْهُوْرُ النّاس ِ عَلى أَنَّ هَذَا قبْرُهُ، وَدَلائِلُ ذلِك َ كثِيْرَة ٌ، وَكذَلِك َ هُوَ عِنْدَ أَهْل ِ الكِتَاب) اه كلامُه.
وَالمعْتَرِضُ ليْسَ لهُ سَلفٌ في تَخْصِيْصِهِ وَتقييْدِهِ، وَإنمَا مُرَادُهُ: إبْطالُ الآثارِ، وَرَدُّ الأَدِلةِ في تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَهَا، دُوْنَ مُرَاعَاةٍ لِصَوَابِ اعْتِرَاضِهِ، لِهَوَىً في نفسِهِ وَمَرَض.
أَمّا شَرْطاهُ اللذَان ِ شَرَطهُمَا: فمَرْدُوْدَان ِ، وَقدْ تقدَّمَ الجوَابُ عَن ِالأَوَّل ِ، وَهُوَ كوْنُ القبْرِ مُعَظمًا.
وَأَمّا الشَّرْط ُالثانِي: وَهُوَ (أَنْ يُبْنى عَليهِ مَسْجِدٌ): فجَوَابهُ: أَنَّ هَذَا شَرْط ٌفاسِدٌ، وَمَنْ قصَدَ الصَّلاة َ عِنْدَ قبرِ نبيٍّ أَوْ صَالِحٍ، وَلوْ لمْ يبن ِ بناءًا عَليْهِ: دَخَلَ بلا شَك ّ فِي حَدِيْثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكانَ ذلِك َ المصَلي مُتَّخِذًا ذلِك َ القبْرَ مَسْجِدًا، فإنَّ لفظ َ «المسَاجِدِ» يَدْخُلُ فِيْهِ أَمْرَان ِ:
دُوْرُ العِبَادَةِ المقامَةِ،
وَالأَرْضُ التِي يُصَلى عَليْهَا، أَوْ كانتْ صَالِحَة ً لِلصَّلاة.
أَمّا الأَوَّلُ: فمَعْرُوْفٌ مَشْهُوْر.
وَأَمّا الثّانِي: فمِنْهُ: قوْلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا) وَهُوَ فِي «الصَّحِيْحَيْن ِ» [خ (335)، (438) م (521)].
وَالمقصُوْدُ أَنهَا كلهَا صَالِحَة ٌ للعِبَادَةِ، وَليْسَتْ كلهَا قدْ أَصْبَحَتْ دَارًا مَبْنِيَّة ً للعِبَادَة!
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ (27/ 160): (وَاتخاذهَا مَسَاجِدَ يتناوَلُ شَيْئَيْن ِ:
أَنْ يَبْنِيَ عَليْهَا مَسْجدًا،
أَوْ يُصَليَ عِنْدَهَا مِنْ غيْرِ بناءٍ، وَهُوَ الذِي خافهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم، وَخَافتهُ الصَّحَابة ُإذا دَفنُوْهُ بارِزًا، خَافوْا أَنْ يُصَلى عِنْدَهُ فيتخذَ قبْرُهُ مَسْجِدًا) انتهَى.
قالَ الإمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهّابِ رحمه الله ُ فِي «كِتَابِ التَّوْحِيْد» : (وَالصَّلاة ُعِنْدَهَا أَي عِنْدَ القبوْرِ مِنْ ذلِك َ، وَإنْ لمْ يبْنَ مَسْجِدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قوْلهِا أَي عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا «خَشِيَ أَنْ يتخذَ مَسْجِدًا» . فإنَّ الصَّحَابة َلمْ يَكوْنوْا لِيبنوْا حَوْلَ قبرِهِ مَسْجِدًا.
وَكلُّ مَوْضِعٍ قصِدَ الصَّلاة ُفِيْهِ: فقدِ اتخِذَ مَسْجِدًا، بلْ كلُّ مَوْضِعٍ يصَلى فِيْهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كمَا قالَ صلى الله عليه وسلم:«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» [خ (335)، (438) م (521)]) انتهَى.
فصل في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ، إلا ّ المقبَرَة َ وَالحمّام»
وَلمّا اسْتُدِلَّ عَلى هَذا المعْتَرِض ِ، بقوْل ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ» ، وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي «مُسْنَدِهِ» (3/ 83، 96) وَالتِّرْمِذِيِّ فِي «جَامِعِهِ» (317) وَغيْرِهِمَا مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبّانَ وَالحاكِمُ وَابْنُ حَزْمٍ وَغيْرُهُمْ، وَجَوَّدَ إسْنَادَهُ شَيْخنا ابنُ بازٍ رحمهم الله ُجَمِيْعًا.
قالَ المعْترِضُ رَادًّا لهُ: (إنَّ حَدِيْثَ الاسْتِثْنَاءِ «إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ» لا يَكفِي لِتحْرِيْمِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ، وَذلِك َ لِلأَسْبَابِ التّالِيةِ:
أَوّلا ً: تنَازُعُ العُلمَاءِ فِي ثبوْته.
ثانيًا: الخلافُ فِي مَعْنى «المقبَرَةِ» ، هَلْ يَعْنِي المكانَ الذِي يُدْفنُ فِيْهِ الميِّتُ، أَوِ المكانَ المعَدَّ لِذَلِك؟ الرّاجِحُ الثّانِي، وَلِبيان ِذلِك َ يحْتاجُ إلىَ كلامٍ طوِيْل ٍ، رَاجِعْ رِسَالة َ «الجوْهَرَة» .
ثالِثا: وَهَذَا هُوَ الذِي يُعَوَّلُ عَليْهِ: أَنَّ الحدِيْثَ مَنْسُوْخٌ بحدِيثِ: «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ كلها مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» ،
وَهذَا مَذْهَبُ أَكثرِ الفقهَاءِ، وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ كالبخارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغيْرِهِمَا.
وَيرَجِّحُ هَذَا المذْهبَ: صَلاة ُ الصَّحَابةِ فِي المقابرِ بَعْدَ رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غيْرِ اسْتنْكارٍ، مَا خلا اسْتِقبَالَ القبْرِ باِلصَّلاة.
وَمِمّا هُوَ مَعْلوْمٌ لدَى طلبةِ العِلمِ: أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ: بَطلَ بهِ الاسْتِدلال) انتهَى كلامُ المعْترِض.
وَكلامُهُ هَذَا لا قِيْمَة َ لهُ، فإنَّ تنازُعَ العُلمَاءِ فِي ثبوْتِ حََدِيْثٍ، لا يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ به. بَلْ هُوَ حُجَّة ٌ عِنْدَ مَنْ قبلهُ وَصَحَّ عِنْدَهُ، يَلزَمُهُ المصِيْرُ إليْهِ، وَالاعْتِمَادُ عَليْهِ، وَإنْ لمْ يفعَلْ كانَ آثِمًا عَاصِيًا.
وَهَذَا مَحَلُّ اتفاق ٍ وَإجْمَاعٍ، فإنهُمْ لمْ يَلتزِمُوْا، أَوْ يَشْتَرِطوْا خلوَّ أَدِلتِهمْ وَحُجَجِهمْ مِنَ التنَازُعِ، سَوَاءٌ في الصِّحَّةِ أَوِ الدَّلالةِ، لِذَا ترَاهُمْ يسْتدِلوْنَ بأَدِلةٍ كثِيْرَةٍ، قدْ تنوْزِعَ فِيْهَا: إمّا فِي صِحَّتِهَا، أَوْ فِي دَلالتِهَا.
أَمّا مَنْ رَدَّ حَدِيْثَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
* فإنْ رَدَّهُ بسَبَبٍ يُقبَلُ مِثْلهُ فِي رَدِّ الأَحَادِيْثِ، وَلهُ فِيْهِ سَلفٌ: كانَ بَيْنَ الأَجْرِ وَالأَجْرَيْن ِ، كوُجُوْدِ ناسِخٍ، أَوْ مُخَصِّص ٍ، أَوْ مُقيِّدٍ، أَوْ ضَعْفٍ لا يَصْلحُ مَعَهُ احْتِجَاجٌ باِلحدِيْثِ، وَنحْوِ ذلك.
* وَإنْ رَدَّهُ بسَبَبٍ لا يُقبلُ مِثْلهُ، أَوْ ليْسَ لهُ فِيْهِ سَلفٌ وَلا حُجة ٌ، أَوْ بحجَّةٍ وَسَبَبٍ رُدَّتْ عَليْهِ، وَبينَ لهُ ضَعْفهَا: فهُوَ آثِمٌ عَاص ٍ، كمَنْ رَدَّ شيْئًا مِنْ أَحَادِيْثِ
«الصَّحِيْحَيْن ِ» - أَوْ مَا صَحَّ في غيْرِهِمَا - فِي الاعْتِقادِ، لأَجْل ِ كوْنِهَا آحَادًا، ونحْوِ ذلك.
فصل في بيان ِصِحَّةِ حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ، وَذِكرِ طرُقهِ، وَالكلامِ عَليْه
أَمّا حَدِيْثُ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ» :
فرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عُمَارةِ بْن ِأَبي حَسَن ٍ الأَنصَارِيُّ المازِنيُّ المدَنِيُّ (ع)، وَهُوَ إمَامٌ تابعِيٌّ ثقة ٌ، احْتَجَّ بهِ الشَّيْخان ِ في «صَحِيْحَيْهمَا» ، غيرَ أَنهُ اخْتُلِفَ عَليْهِ فِيْهِ، فرُوِيَ عَنْهُ مَوْصُوْلا ً وَمُرْسَلا ً.
أَمّا الرِّوَاية ُ الموْصُوْلة ُ: فرَوَاها عَنْهُ:
ابنهُ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى (ع)، وَسَمِعَهَا مِنْ عَمْرٍو جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ:
1 عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ محمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ (ع)، أَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الدّارِمِيُّ في «سُننِهِ» (1390): أَخْبرَنا سَعِيْدُ بْنُ مَنْصُوْرٍ حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَالتِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ» (317): حَدَّثنا ابْنُ أَبي عُمَرَ، وَأَبوْ عَمّارٍ الحسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ المرْوَزِيُّ قالا: حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَابنُ خُزَيْمَة َ في «صَحِيْحِهِ» (791): أَخْبَرَنا الحسَيْنُ بْنُ حُرَيثٍ حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَالحاكِمُ في «مُسْتَدْرَكِهِ» (1/ 251)،
* وَالبَيْهَقِيُّ في «سُنَنِهِ الكبْرَى» (2/ 435) مِنْ طرِيْق ِالحاكِمِ عَنْه.
2 وَسُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الشّافِعِيُّ في «السُّنن ِ المأْثوْرَةِ» (186) عَنْه.
3 وَسُفيَانُ الثوْرِيُّ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيقِهِ:
* أَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 503)(1350): حَدَّثنا أَبوْ خَيْثَمَة َ حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبرَنا سُفيَانُ الثوْرِيُّ عَنْ عَمْرٍو به.
4 وَعَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيقِهِ:
* الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (3/ 96): حَدَّثنَا أَبوْ مُعَاوِيَة َ الغِلابيُّ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد.
* وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُنَنِهِ» (492): حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد.
* وَابْنُ خُزَيْمَة َفي «صَحِيْحِهِ» (792): حَدَّثنَا بشرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد.
* وَابْنُ المنْذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 182)، (5/ 417).
* وَابْنُ حِبّانَ في «صَحِيْحِهِ» (1699)، (2316)، (2321):
- أَخْبَرَنا محمَّدُ بنُ إسْحَاق ِ بن ِخُزَيْمَةَ حَدَّثنَا بشْرُ بْنُ مُعَاذٍ العقدِيُّ حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِد (ح).
- وَأَخْبرَنا عِمْرَانُ بْنُ مُوْسَى السِّخْتِيَانِيُّ حَدَّثنَا أَبوْ كامِل ٍ الجحْدَرِيُّ حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ به.
5 وَحَمّادُ بْنُ سَلمَة َ (خت م4)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (3/ 83): حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا حَمّاد.
* وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» (492): حَدَّثنَا مُوْسَى بْنُ إسْمَاعِيْلَ حَدَّثنَا حَمّاد.
* وَابْنُ مَاجَهْ في «سُنَنِهِ» (745): حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ يَحْيى، هُوَ الذُّهْلِيُّ حَدَّثنا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ حَدَّثنا حَمّاد.
* وَالبَيْهَقِيُّ في «سُنَنِهِ الكبْرَى» (2/ 434).
6 وَمحمَّدُ بْنُ إسْحَاق ِ بْن ِ يَسَارٍ (خت م4)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (3/ 83): حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الملِكِ حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ سَلمَة َ عَنْ محمَّدِ بْن ِ إسْحَاقَ، بلفظِ «كلُّ الأَرْض» الحدِيْث.
وَرَوَاهَا أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْن ِ عُمَارَة َ (ع):
عُمَارَة ُ بْنُ غزِيةِ بْن ِ الحارِثِ الأَنصَارِيُّ المازِنِيُّ المدَنِيُّ (خت م4)، وَسَمِعَهَا مِنْهُ جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ:
بشرُ بْنُ المفضَّل ِ بْن ِلاحِق ٍ الرَّقاشِيُّ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* ابْنُ خُزَيْمَة َفي «صَحِيْحِهِ» (792): حَدَّثنا بشْرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثنا بشْرُ بْنُ المفضَّل.
* وَالحاكِمُ في «مُسْتَدْرَكِهِ» (1/ 251): حَدَّثنَا أَبوْ بكرٍ بنُ إسْحَاقَ أَخْبَرَنا أَبو المثنَّى حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثنَا بشْرُ بْنُ المفضَّل.
* وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبرَى» (2/ 435) مِنْ طرِيْق ِالحاكِمِ عَنْه.
أَمّا الرِّوَايَة ُ المرْسَلة ُ: فرَوَاهَا عَنْ يَحْيَى بْن ِعُمَارَة َ مُرْسَلة ً:
ابْنُهُ عَمْرٌو (ع) أَيْضًا، وَسَمِعَهَا مِنْ عَمْرٍو جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ رَاوِيَان ِ ثِقتان ِ، هُمَا:
1 سُفيَانُ الثوْرِيُّ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* عَبْدُ الرَّزّاق ِ في «مُصَنَّفِهِ» (1582)(2/ 405): عَنْهُ بهَا.
* وَالإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (3/ 83): حَدَّثنَا يَزِيْدُ هُوَ ابْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا سُفيَانُ الثوْرِيّ.
* وَابْنُ أَبي شَيْبَة َفي «مُصَنَّفِهِ» (2/ 379): حَدَّثنَا وَكِيْعٌ حَدَّثنَا سُفيَان.
* وَابْنُ مَاجَهْ في «سُنَنِهِ» (745): حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ حَدَّثنَا سُفيَان.
* وَأَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 503)(1350): حَدَّثنا أَبوْ خَيْثَمَة َ حَدَّثنا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا سُفيَانُ الثوْرِيّ.
* وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبْرَى» (2/ 434 - 435).
2 وَسُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ (ع)، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الشّافِعِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (ص20): أَخْبَرَنا سُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيى به.
* وَالبَيْهَقِيُّ في «مَعْرِفةِ السُّنن ِ وَالآثارِ» (2/ 255)(1285) مِنْ طرِيْق ِ الشّافِعِيِّ بهَا.
قالَ الشّافِعِيُّ بَعْدَهُ في «مُسْنَدِهِ» (ص20): (وَجَدْتُ هَذَا الحدِيْثَ في كِتَابي، فِي مَوْضِعَيْن ِ:
أَحَدُهُمَا: مُنْقطِعٌ. وَالآخَرُ: عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اه.
وَنقلَ البَيْهَقِيُّ هَذَا في «مَعْرِفةِ السُّنن ِ وَالآثارِ» عَن ِ الشّافِعِيِّ، ثمَّ نقلَ عَنْهُ تَصْحِيْحَهُ لِمَعْنى الحدِيْثِ، وَمَا تضَمَّنهُ مِنْ أَحْكام.
فصل في اخْتِلافِ أَقوَال ِ الأَئِمَّةِ في هَذَا الحدِيْث
قدِ اخْتَلفَ الحفاظ ُ في هَذَا الحدِيْثِ، أَيكوْنُ مُضْطرِبا لِرِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ مُرْسَلا ً، وَرِوَايةِ غيْرِهِ لهُ مَوْصُوْلا ً أَمْ لا؟ وَهَل ِ المحْفوْظ ُ مِنْ رِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ: الرِّوَاية ُ الموْصُوْلة ُ أَوِ المرْسَلة؟
فقالَ الدّارِمِيُّ بَعْدَهُ في «سُننِهِ» (1390): (الحدِيْثُ أَكثرُهُمْ أَرْسَلوْه) اه.
وَسُئِلَ الحافِظ ُ أَبو الحسَن ِ الدّارَقطنيُّ عَنْهُ فقالَ:
(يَرْوِيْهِ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْن ِ عُمَارَة َ، وَاخْتُلفَ عَنْهُ:
فرَوَاهُ عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَمحمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي سَعِيْدٍ مُتصِلا ً.
وَكذَا رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ: عَن ِ الثوْرِيِّ عَنْ عَمْرٍو.
وَتابعَهُ: سَعِيْدُ بْنُ سَالمٍ القدّاحُ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ عَن ِ الثوْرِيِّ، فوَصَلوْه!
وَرَوَاهُ جَمَاعَة ٌ (1): عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ مُرْسَلا ً، وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ.
(1) - أَي رَوَاهُ جَمَاعَة ٌ عَنْ سُفيَانَ الثوْرِيِّ عَنْ عَمْرٍو مُرْسَلا ً، فخَالفوْا مَنْ قبْلهُمْ مِمَّنْ رَوَوْهُ عَنْ سُفيَانَ مَوْصُوْلا ً، وَالمرْسَلُ مِنْ حَدِيْثِ الثوْرِيِّ، هُوَ المحْفوْظ.
حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ العَبّاس ِ البَغوِيُّ، وَإسْمَاعِيْلُ الصَّفارُ قالا: حَدَّثنا أَبوْ قلابة َ حَدَّثنَا أَبوْ نعَيْمٍ حَدَّثنَا سُفيَانُ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي سَعِيْدٍ قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبرَة» .
حَدَّثنا جَعْفرُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِمحمَّدٍ المؤَذِّنُ ثِقة ٌ قالَ: حَدَّثنا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى حَدَّثنا أَبوْ نعَيْمٍ وَقبيْصة ُ قالا: حَدَّثنَا سُفيَانُ عَنْ عَمْرِو بْن ِيَحْيَى عَنْ أَبيْهِ قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة) اه مِنَ «العِلل» لهُ رحمه الله (11/ 319 - 321).
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَهُ في «سُننِهِ الكبْرَى» (2/ 435):
(حَدِيْثُ الثوْرِيِّ مُرْسَلٌ، وَقدْ رُوِيَ مَوْصُوْلا ً وَليْسَ بشَيْءٍ.
وَحَدِيْثُ حَمّادِ بْن ِسَلمَة َ مَوْصُوْلٌ، وَقدْ تابعَهُ عَلى وَصْلِهِ: عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيّ) اه.
وَقوْلُ الدّارَقطنِيِّ (وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ ُ): يُرِيْدُ بهِ المرْسَلَ مِنْ حَدِيْثِ سُفيَانَ الثوْرِيِّ، هُوَ المحْفوْظ ُ عَنْهُ، بخلافِ الموْصُوْل ِ مِنْ طرِيْقِهِ فلمْ يُحْفظ ْ عَنْه.
وَلا يُرِيْدُ الدّارَقطنيُّ أَصْلَ الحدِيْثِ، أَنَّ المحْفوْظ َ مِنْهُ المرْسَلُ دُوْنَ الموْصُوْل ِ، لِهَذَا لمّا قالَ الدّارَقطنيُّ (وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ) سَاقَ بسَنَدِهِ حَدِيْثَ سُفيَانَ الثوْريِّ مِنْ طرِيْقيْهِ المرْسَل ِ المحْفوْظ ِ، وَالموْصُوْل ِ غيْرِ المحْفوْظ.
وَكذَلِك َ مُرَادُ البَيْهَقِيِّ مِنْ قوْلِهِ: (وَقدْ رُوِيَ مَوْصُوْلا ً، وَليْسَ بشَيْءٍ): أَي قدْ رُوِيَ حَدِيْثُ الثوْرِيِّ مَوْصُوْلا ً وَليْسَ بشَيْءٍ، لأَنَّ الرّاجِحَ عِنْدَهُ: أَنَّ حَدِيْثَ الثوْرِيِّ مُرْسَل.
أَمّا التِّرْمِذِيُّ فقالَ بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ مِنْ طرِيْق ِ الدَّرَاوَرْدِيِّ مَوْصُوْلا ً في «عِللِهِ الكبيرِ» (113): (تابعَهُ حَمّادُ بْنُ سَلمَة َ. ثمَّ قالَ التِّرْمِذِيُّ: كانَ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَحْيَانا يَذْكرُ فِيْهِ «عَنْ أَبي سَعِيْدٍ»، وَرُبمَا لمْ يَذْكرْ فِيْهِ. وَالصَّحِيْحُ: رِوَاية ُ الثوْرِيِّ وَغيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ مُرْسَل) اه.
وَقالَ ابْنُ المنذِرِ في «الأَوْسَطِ» (2/ 182):
(رَوَى هذَا الحدِيْثَ حَمّادُ بْنُ سَلمَة َ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبّادُ بْنُ كثِيْرٍ، كرِوَايةِ عَبْدِ الوَاحِدِ مُتصِلا ً عَنْ أَبي سَعِيْدٍ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. إذا رَوَى الحدِيْثَ ثقة ٌ، أَوْ ثِقاتٌ مَرْفوْعًا مُتَّصِلا ً، وَأَرْسَلهُ بَعْضُهُمْ، يثْبُتُ الحدِيْثُ برِوَايةِ مَنْ رَوَى مَوْصُوْلا ً عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلمْ يُوَهِّن ِالحدِيْثَ تخلفُ مَنْ تخلفَ عَنْ إيْصَالِه.
وَهَذَا السَّبيْلُ في الزِّيادَاتِ في الأَسَانِيْدِ، وَالزِّيادَاتِ في الأَخْبَارِ، وَكثِيرٍ مِنَ الشّهَادَاتِ، وَمِمّا يَزِيْدُ ذلِك َ تأْكيْدًا وَوُضُوْحا: الثابتُ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ عَن ِالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنهُ قالَ: «اِجْعَلوْا فِي بيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ» ) اه.
وَقالَ الحاكِمُ في «مُسْتَدْرَكِهِ» بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ مِنْ طرِيْق ِعَبْدِ الوَاحِدِ بن ِ زِيادٍ مَوْصُوْلا ً (1/ 251): (تابعهُ عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ محمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى).
ثمَّ سَاقَ هَذِهِ المتابعة َ بسَنَدِهِ (1/ 251)، وَمَعَهَا مُتَابعة ُ عُمَارَةِ بْن ِ غزِية َ كذَلِك َ، وَكلاهُمَا مُتَّصِلة.
ثمَّ قالَ الحاكِمُ: (هَذِهِ الأَسَانِيْدُ كلهَا صَحِيْحَة ٌ، عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلمْ يخرِّجَاه) اه.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ، بَعْدَهُ كمَا في «مَجْمُوْعِ الفتاوَى» (27/ 159): (رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ الكتبِ الأَرْبعَةِ، وَابْنُ حِبّانَ في «صَحِيْحِهِ». وَقالَ الترْمِذِيُّ:«فِيْهِ اضْطِرَابٌ» ، لأَنَّ سُفيَانَ الثوْرِيَّ أَرْسَله.
لكِنَّ غيْرَ الترْمِذِيِّ جَزَمَ بصِحَّتِهِ، لأَنَّ غيْرَهُ مِنَ الثقاتِ أَسْنَدُوْهُ، وَقدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا).
وَقالَ رحمه الله ُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (21/ 320) عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبرَة َ وَالحمّام» : (كمَا فِي حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الذِي فِي «سُنَن ِأَبي دَاوُوْدَ» (492) وَغيْرِه، وَقدْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنَ الحفاظِِ، وبَينُوْا أَنَّ رِوَاية َ مَنْ أَرْسَلهُ، لا تنَافِي الرِّوَاية َ المسْندَة َ الثّابتة َ، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ) انتهَى كلامُهُ رحمه الله.
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ أَيْضًا في «اقتِضَاءِ الصِّرَاطِ المسْتقِيْم» (2/ 677) بَعْدَهُ: (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبوْ دَاوُوْدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبزّارُ وَغيْرُهُمْ، بأَسانِيْدَ جَيِّدَةٍ، وَمَنْ تكلمَ فِيْهِ فمَا اسْتوْفى طرُقه) اه.
وَقالَ الحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ في «التَّلْخِيْص ِ الحبيْرِ» (1/ 277) بَعْدَهُ: (قالَ النَّوَوِيُّ في «الخلاصَةِ» : «هُوَ ضَعِيْفٌ» ، وَقالَ صَاحِبُ «الإمَامِ»:«حَاصِلُ مَا عللَ بهِ الإرْسَالُ، وَإذا كانَ الوَاصِلُ لهُ ثِقة ً: فهوَ مَقبوْل» .
وَأَفحَشَ ابْنُ دِحْيَة َ الكلبيُّ فقالَ في «كِتَابِ التنْوِيْرِ» لهُ: «هَذَا لا يَصِحُّ مِنْ طرِيْق ٍ مِنَ الطرُق ِ» ! كذَا قالَ، فلمْ يُصِبْ.
قلتُ: وَلهُ شَوَاهِدُ، مِنْهَا:
* حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بْن ِعَمْرٍو مَرْفوْعًا: «نهَى عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَة» أَخْرَجَهُ ابنُ حِبّان (2319).
* وَمِنْهَا حَدِيْثُ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: «إنَّ حِبِّي نهَانِي أَنْ أُصَليَ في المقبَرَةِ» أَخْرَجَهُ أَبو دَاوُوْدَ (490)) اه.
وَقالَ الحافِظ ُ أَيْضًا في «الفتْحِ» (1/ 696) بَعْدَهُ: (رِجَالهُ ثِقاتٌ، لكِن ِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإرْسَالِهِ، وَحَكمَ مَعَ ذلِك َ بصِحَّتِهِ: الحاكِمُ وَابْنُ حِبان) اه.
وَقدْ سَمِعْتُ شَيْخنا العَلاّمَة َ عَبْدَ العَزِيْزِ بْنَ عَبْدِ اللهِ ابْنَ بازٍ رحمه الله ُ يَقوْلُ فِي حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ السّابق ِ: (إسْنَادُهُ جَيِّد).
وَالخلاصَة ُ: أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ هَذَا، حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ بلا شَك ّ، وَقدْ قدَّمْتُ طرُقهُ وَرِوَاياتِهِ، وَكانَ مِنْهَا أَسَانِيْدُ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْن ِ، لِذَا صَحَّحَهُ الحاكِمُ عَلى شَرْطِهمَا،