المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في اغترار الأتباع بما زينه لهم الشيطان في متبوعيهم من مخاريق شيطانية - مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد وعند القبور

[عبد العزيز بن فيصل الراجحي]

فهرس الكتاب

- ‌تقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ العَلامَةِ الدّكتورِ صَالِحِ بن ِفوْزَان بن ِعَبْدِ اللهِ الفوْزَان

- ‌فصل فِي الأَحَادِيْثِ النبَوِيَّةِ الناهِيَةِ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقابرِ، وَعِنْدَ القبور

- ‌فصل في اخْتِلافِ الأَئِمَّةِ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ، مَعْ قوْلِهمْ بتَحْرِيْمِهَا

- ‌فصل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ باِلنَّهْيّ

- ‌فصل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ، غيْرَ عَالِمٍ به

- ‌فصل في بُطلان ِصَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا مِنْ غيْرِ قصْدٍ له

- ‌فصل في حُكمِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْر

- ‌فصل وَكانتْ فتْوَاهُ هَذِهِ نَحْوَ سَنَةِ (709هـ) وَبَعْدَ سِنِينَ:

- ‌فصل وَقدِ انْتَصَرَ لِشَيْخِ الإسْلامِ رحمه الله ُ

- ‌فصل فِي نقض ِشُبُهَاتِ المعْتَرِض ِعَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ وَعِنْدَ القبور

- ‌فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثانِي، وَهُوَ بنَاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ للمُشْرِكِيْن

- ‌فصل أَمّا مَعْنَى «المقبَرَةِ»: فهيَ أَرْضٌ فِيْهَا قبوْرٌ

- ‌فصل في رَدِّ زَعْمِهِ أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ

- ‌فصل أَمّا اسْتِدْلالُ هَؤُلاءِ المبْطِلِيْنَ، عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ

- ‌فصل ثمَّ إنَّ هَؤُلاءِ مَعَ فسَادِ دِينِهمْ وَعقوْلهِمْ: مُتنَاقِضُوْنَ كثِيْرًا

- ‌فصل في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ

- ‌فصل

- ‌فصل وَمَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغاثة َوَالذَّبحَ لِلأَمْوَاتِ أَنبيَاءً وَصَالحِينَ وَغيْرِهِمْ:

- ‌خاتمة

- ‌الفهرس

- ‌فهرس الموضوعات التّفصيلي والفوائد

- ‌فهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ الإجْمَالِيّ

الفصل: ‌فصل في اغترار الأتباع بما زينه لهم الشيطان في متبوعيهم من مخاريق شيطانية

‌فصل في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ

، وَمَكائِدَ إبْلِيْسِيَّةٍ، لِيَظنَّ الأَغمَارُ أَنَّ أُوْلئِك َ المعْبُوْدِيْنَ أَوْلِيَاءُ صَالحِوْنَ، وَأَنهُمْ لِدَعَوَاتِهمُ الشِّرْكِيَّةِ يُجِيْبُوْنَ وَيَنْفعُوْنَ

وَكانَ مِمّا أَضَلَّ كثِيرًا مِنَ النّاس ِ، مِمَّنْ لا تَحْقِيْقَ عِنْدَهُمْ وَلا بَصِيرَة َ، حَتَّى ظنُّوْا أُوْلئِك َ المبْطِلِينَ أَوْلِيَاءَ للهِ صَالحِينَ: مَا أَظهَرَتهُ الشَّيَاطِينُ لهمْ مِنْ خَوَارِقَ شَيْطانِيَّةٍ، وَأَحْوَال ٍ إبْلِيْسِيَّةٍ، فطارَتْ بهمْ فِي الهوَاءِ، وَحَمَلتْ أَرْجُلهُمْ حَتَّى مَشَوْا عَلى الماءِ، وَأَوْحَتْ إليْهمْ بشَيْءٍ مِمّا اسْتَرَقتْهُ مِنَ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ، فضَلَّ بذَلِك َ كثِيرٌ مِنَ الدَّهْمَاءِ وَالغوْغاء.

وَلمْ يَكنْ عِنْدَ هَؤُلاءِ مِنَ البَصِيرَةِ وَالعِلمِ وَالمعْرِفةِ، مَا يُمَيِّزُوْنَ بهِ بَينَ أَوْلِياءِ الشَّيْطان ِ وَأَوْلِياءِ الرَّحْمَن ِ، وَلكِنْ سَمِعُوْا أَنَّ لأَوْلِياءِ اللهِ كرَامَاتٍ، وَخَوَارِقَ لِلعَادَاتِ، فلمّا رَأَوْا أَحْوَالَ أُوْلئِك َ الشَّيْطانِيَّةِ، ظنُّوْا هَذَا كهَذَا! فاسْتَحْوَذتْ عَليْهمُ اسْتِحْوَاذا.

وَقدِ اتفقَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَن ِ عَلى: أَنَّ الرَّجُلَ لوْ طارَ فِي الهوَاءِ، وَمََشَى عَلى الماءِ: لمْ يُعْتَبَرْ بذَلِك َ حَتَّى يُرَى صَلاحُهُ وَاسْتِقامَتُهُ، وَوُقوْفهُ عِنْدَ حُدُوْدِ اللهِ، وَاجْتِنَابهُ مَنَاهِيْهِ، وَإتيَانهُ مَرَاضِيْه.

ص: 259

قالَ يُوْنسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلى الصَّدَفِيُّ: (قلتُ لِلشّافِعِيِّ، كانَ الليْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقوْلُ:«إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ: فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة» .

فقالَ الشّافِعِيُّ: «قصَّرَ الليْثُ رحمه الله ُ! بَلْ إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ، وَيَطِيرُ فِي الهوَاءِ: فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة» ).

وَقالَ أَبوْ يَزِيْدَ البسْطامِيُّ: (لوْ نظرْتُمْ إلىَ رَجُل ٍ أُعْطِيَ مِنَ الكرَامَاتِ، حَتَّى يرْفعَ فِي الهوَاءِ: فلا تَغْتَرُّوْا بهِ، حَتَّى تَنْظرُوْا كيْفَ تجدُوْنهُ عِنْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ، وَحِفظِ الحدُوْدِ وَآدَابِ الشَّرِيْعَة) رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ في «الحِليَةِ» (10/ 40).

وَقالَ أَبوْ يَزِيْدَ أَيضًا: «الذِي يَمْشِي عَلى الماءِ ليْسَ بعَجَبٍ! للهِ خَلقٌ كثِيرٌ يَمْشُوْنَ عَلى الماءِ ليْسَ لهمْ عِنْدَ اللهِ قِيْمَة» رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ فِي «الحِليَة» (10/ 39).

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ فِي «الفرْقان ِ، بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان» (ص168 - 169): (وَتَجِدُ كثِيرًا مِنْ هَؤُلاءِ، عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقادِ كوْنِهِ وَلِيًّا للهِ: أَنهُ قدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكاشَفة ٌ فِي بَعْض ِ الأُمُوْرِ أَوْ بَعْض ِ التصَرُّفاتِ الخارِقةِ لِلعَادَةِ، مِثْلَ أَنْ يُشِيْرَ إلىَ شَخْص ٍ فيَمُوْتُ، أَوْ يَطِيْرَ في الهوَاءِ إلىَ مَكة َأَوْ غيرِهَا، أَوْ يَمْشِيَ عَلى الماءِ أَحْيَانا، أَوْ يَمْلأَ إبرِيقا مِنَ الهوَاءِ، أَوْ يُنْفِقَ

ص: 260

بَعْضَ الأَوْقاتِ مِنَ الغيْبِ، أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانا عَنْ أَعْيُن ِ النّاس ِ، أَوْ أَنْ بَعْضَ النّاس ِ اسْتَغاثَ بهِ وَهُوَ غائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فرَآهُ قدْ جَاءَهُ فقضَى حَاجَتَهُ، أَوْ يُخْبرَ النّاسَ بمَا سُرِقَ لهمْ، أَوْ بحَال ِ غائِبٍ لهمْ أَوْ مَرِيْض ٍ أَوْ نَحْوِ ذلِك َ مِنَ الأُمُوْر.

وَليْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ مَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ للهِ، بَلْ قدِ اتفقَ أَوْلِيَاءُ اللهِ عَلى: أَنَّ الرَّجُلَ لوْ طارَ فِي الهوَاءِ، أَوْ مَشَى عَلى الماءِ، لمْ يُغترَّ بهِ حَتَّى يُنْظرَ مُتَابعَتهُ لِرَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمُوَافقتهُ لأَمْرِهِ وَنهْيِّه.

وَكرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالىَ أَعْظمُ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ، وَهَذِهِ الأُمُوْرُ الخارِقة ُ لِلعادَةِ، وَإنْ كانَ قدْ يَكوْنُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا للهِ، فقدْ يَكوْنُ عَدُوًّا لله.

فإنَّ هَذِهِ الخوَارِقَ تَكوْنُ لِكثِيرٍ مِنَ الكفارِ وَالمشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ وَالمنافِقِينَ، وَتَكوْنُ لأَهْل ِ البدَعِ، وَتَكوْنُ مِنَ الشَّيَاطِين.

فلا يَجُوْزُ أَنَّ يُظنَّ أَنَّ كلَّ مَنْ كانَ لهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ: أَنهُ وَلِيٌّ للهِ، بَلْ يُعْتَبرُ أَوْلِيَاءُ اللهِ بصِفاتِهمْ وَأَفعَالهِمْ وَأَحْوَالهِمْ التي دَلَّ عَليْهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّة ُ، وَيُعْرَفوْنَ بنوْرِ الإيْمَان ِ وَالقرْآن ِ، وَبحقائِق ِ الإيْمَان ِ البَاطِنَةِ، وَشَرَائِعِ الإسْلامِ الظاهِرَة).

ثمَّ قالَ (ص224 - 226): (وَمِنْ هَذِهِ الأَرْوَاحِ الشَّيْطانِيَّةِ: الرُّوْحُ الذِي يزْعُمُ صَاحِبُ «الفتوْحَاتِ» أَنهُ أَلقى إليْهِ ذلِك َ

ص: 261

الكِتَابَ! وَلهِذَا يَذْكرُ أَنوَاعًا مِنَ الخلوَاتِ بطعَامٍ مُعَيَّن ٍ، وَحَال ٍ مُعَيَّن.

وَهَذِهِ مِمّا تَفتَحُ لأَصْحَابهَا الاتِّصَالَ باِلجِنِّ وَالشَّيَاطِين ِ، فيَظنُّوْنَ ذلِك َ مِنْ كرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ، وَإنمَا هُوَ مِنَ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّة).

وَقالَ أَيْضًا فِي «الفرْقان» ِ (ص365 - 367): (وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ قدْ لا يَعْرِفُ أَنَّ ذلِك َمِنَ الجِنِّ، بَلْ قدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لهمْ كرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلعَادَاتِ، وَليْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقائِق ِ الإيْمَان ِ، وَمَعْرِفةِ القرْآن ِ مَا يُفرِّقُ بهِ بَينَ الكرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَبَينَ التَّلبيْسَاتِ الشَّيْطانِيةِ، فيَمْكرُوْنَ بهِ بحسَبِ اعْتِقادِه.

فإنْ كانَ مُشْرِكا يَعْبُدُ الكوَاكِبَ وَالأَوْثانَ: أَوْهَمُوْهُ أَنهُ يَنْتَفِعُ بتِلك َ العِبَادَةِ، وَيَكوْنُ قصْدُهُ الاسْتِشْفاعَ وَالتَّوَسُّلَ مِمَّنْ صَوَّرَ ذلِك َ الصَّنَمَ عَلى صُوْرَتِهِ مِنْ مَلكٍ، أَوْ نبيٍّ، أَوْ شَيْخٍ صَالِح.

فيَظنُّ أَنهُ صَالِحٌ! وَتَكوْنُ عِبَادَتهُ فِي الحقِيْقةِ لِلشَّيْطان ِ، قالَ الله ُ تَعَالىَ:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .

وَلهِذَا كانَ الذِيْنَ يَسْجِدُوْنَ لِلشَّمْس ِ وَالقمْرِ وَالكوَاكِبِ: يَقصِدُوْنَ السُّجُوْدَ لها، فيُقارِنهَا الشَّيْطانُ عِنْدَ سُجُوْدِهِمْ لِيَكوْنَ سُجُوْدُهُمْ له.

وَلهِذَا يتمَثلُ الشَّيْطانُ بصُوْرَةِ مَنْ يَسْتَغِيْثُ بهِ المشْرِكوْنَ:

ص: 262

* فإنْ كانَ نصْرَانِيًّا، وَاسْتَغَاثَ بجِرْجِسَ أَوْ غيرِهِ: جَاءَ الشَّيْطانُ فِي صُوْرَةِ جِرْجِسَ، أَوْ مَنْ يَسْتَغِيْثُ به.

* وَإنْ كانَ مُنْتَسِبًا إلىَ الإسْلامِ، وَاسْتَغَاثَ بشَيْخٍ يُحْسِنُ الظنَّ بهِ مِنْ شُيُوْخِ المسْلِمِينَ: جَاءَ فِي صُوْرَةِ ذلِك َ الشَّيْخ.

* وَإنْ كانَ مِنْ مُشْرِكِي الهِنْدِ: جَاءَ فِي صُوْرَةِ مَنْ يُعَظمُهُ ذلِك َ المشْرِك).

وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ فِي «رَدِّهِ عَلى البَكرِيِّ» (2/ 480) -: (وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ طائِفة ً مِنَ النّاس ِ اسْتَغَاثوْا بحيٍّ أَوْ مَيِّتٍ: فرَأَوْهُ قدْ أَتى فِي الهوَاءِ، وَقضَى بَعْضَ تِلك َ الحوَائِجِ، وَأَخبرَ ببَعْض ِ مَا سُئِلَ عَنْه!

وَهَذَا كثِيرٌ وَاقِعٌ فِي المشْرِكِينَ الذِيْنَ يَدْعُوْنَ الملائِكة َ وَالأَنبيَاءَ وَالصّالحِينَ وَالكوَاكِبَ وَالأَوْثانَ، فإنَّ الشَّيَاطِينَ كثِيرًا مَا تَتَمَثلُ لهمْ فيَرَوْنهَا قدْ تُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ وَلا يرَاهَا.

وَلوْ ذكرْتُ مَا أَعْلمُ مِنَ الوَقائِعِ الموْجُوْدَةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ هَذَا: لطالَ هَذَا المقام.

وَكلمَا كانَ القوْمُ أَعْظمَ جَهْلا ً وَضَلالا ً: كانتْ هَذِهِ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ عِنْدَهُمْ أَكثر.

وَقدْ يَأْتِي الشَّيْطانُ أَحَدَهُمْ بمَال ٍ، أَوْ طعَامٍ، أَوْ لِبَاس ٍ، أَوْ غيرِ ذلِك َ، وَهُوَ لا يَرَى أَحَدًا أَتاهُ بهِ، فيَحْسَبُ ذلِك َ كرَامَة ً، وَإنمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطان.

ص: 263

وَسَببُهُ: شِرْكهُ باِللهِ تَعَالىَ، وَخُرُوْجُهُ عَنْ طاعَةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، إلىَ طاعَةِ الشَّيَاطِين ِ فأَضَلتْهُمُ الشَّيَاطِينُ بذَلِك َ، كمَا كانتْ تُضِلُّ عُبّادَ الأَصْنَام.

وَمِثْلُ هَذِهِ الأَحْوَال ِ، لا تَكوْنُ مِنْ كرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالىَ المتقِين).

وَقالَ رحمه الله ُفِي مَوْضِعٍ آخَرَ (13/ 91): (فصَارَ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ لا يَعْلمُوْنَ مَا لِلسَّحَرَةِ وَالكهّان ِ، وَمَا يَفعَلهُ الشَّيَاطِينُ مِنَ العَجَائِبِ، وَظنوْا أَنهَا لا تَكوْنُ إلا َّ لِرَجُل ٍ صَالِحٍ، فصَارَ مَنْ ظهَرَتْ هَذِهِ لهُ، يَظنُّ أَنها كرَامَة ٌ، فيَقوَى قلبهُ بأَنَّ طرِيقتهُ هِيَ طرِيقة ُ الأَوْلِيَاء.

وَكذَلِك َ غيْرُهُمْ: يَظنُّ فِيْهِ ذلِك َ ثمَّ يَقوْلوْنَ: «الوَلِيُّ إذا تَوَلىَّ لا يُعْتَرَضُ عَليْه» !

فمِنْهُمْ: مَنْ يَرَاهُ مُخالِفا لِمَا عُلِمَ باِلاضْطِرَارِ مِنْ دِيْنِ الرَّسُوْل ِ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَ تَرْكِ الصَّلاةِ المفرُوْضَةِ، وَأَكل ِ الخبَائِثِ كالخمْرِ وَالحشِيْشَةِ وَالميْتةِ وَغيرِ ذلِك َ، وَفِعْل ِ الفوَاحِش ِ، وَالفحْش ِ، وَالتَّفحُّش ِ فِي المنْطِق ِ، وَظلمِ النّاس ِ، وَقتْل ِ النَّفس ِ بغيْرِ حَقٍّ، وَالشِّرْكِ باِلله.

وَهُوَ مَعَ ذلِك َ: يُظنُّ فِيْهِ أَنهُ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ! قدْ وَهَبَهُ هَذِهِ الكرَامَاتِ بلا عَمَل ٍ! فضْلا ً مِنَ اللهِ تَعَالىَ!

ص: 264

وَلا يَعْلمُوْنَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْمَال ِ الشَّيَاطِين ِ، وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِين ِ، تُضِلُّ بهَا النّاسَ وَتُغْوِيْهمْ.

وَدَخَلتِ الشَّيَاطِينُ فِي أَنوَاعٍ مِنْ ذلِك َ، فتارَة ً يَأْتوْنَ الشَّخْصَ فِي النَّوْمِ يَقوْلُ أَحَدُهُمْ:«أَنا أَبوْ بَكرٍ الصِّدِّيقُ! وَأَنا أُتوِّبك َ لِي وَأَصِيرُ شَيْخَك َ! وَأَنتَ تتوِّبُ النّاسَ لِي!» وَيُلبسُه.

فيُصْبحُ وَعَلى رَأْسِهِ مَا أَلبَسَهُ! فلا يَشُك ُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الذِي جَاءَهُ، وَلا يَعْلمُ أَنهُ الشَّيْطان.

وَقدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِعِدَّةٍ مِنَ المشَايخِ باِلعِرَاق ِ وَالجزِيرَةِ وَالشّام.

وَتَارَة ً يَقصُّ شَعْرَهُ فِي النَّوْمِ، فيُصْبحُ فيَجِدُ شَعْرَهُ مَقصُوْصًا! وَتَارَة ً يَقوْلُ:«أَنا الشَّيْخُ فلانٌ» ، فلا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيْخَ نفسَهُ جَاءَهُ وَقصَّ شَعْرَه.

وَكثِيرًا مَا يَسْتَغِيْثُ الرَّجُلُ بشَيْخِهِ الحيِّ أَوِ الميِّتِ: فيَأْتوْنهُ فِي صُوْرَةِ ذلِك َ الشَّيْخِ، وَقدْ يُخَلصُوْنهُ مِمّا يَكرَهُ، فلا يَشُك ُّ أَنَّ الشَّيْخَ نفسَهُ جَاءَهُ، أَوْ أَنَّ مَلكا تَصَوَّرَ بصُوْرَتِهِ وَجَاءَه.

وَلا يَعْلمُ أَنَّ ذلِك َ الذِي تَمَثلَ إنمَا هُوَ الشَّيْطانُ لمّا أَشْرَك َ باِللهِ: أَضَلتهُ الشَّيَاطِينُ. وَالملائِكة ُ لا تُجِيْبُ مُشْرِكا) اه كلامُهُ رحمه الله.

وَقالَ القرْطبيُّ رحمه الله ُ فِي «تفسِيرِهِ» عِنْدَ قوْل ِ اللهِ تَعَالىَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} :

(قالَ عُلمَاؤُنا رَحْمَة ُ اللهِ عَليْهمْ: «وَمَنْ أَظهَرَ الله ُ تَعَالىَ عَلى يَدَيْهِ مِمَّنْ ليْسَ بنَبيٍّ كرَامَاتٍ، وَخَوَارِقَ لِلعَادَاتِ: فليْسَ ذلِك َ دَالا ًّ عَلى وَلايتِه» .

ص: 265

خِلافا لِبَعْض ِ الصُّوْفِيَّةِ وَالرّافِضَةِ، حَيْثُ قالوْا:«إنَّ ذلِك َ يَدُلُّ عَلى أَنهُ وَلِيٌّ ، إذْ لوْ لمْ يَكنْ وَلِيًّا مَا أَظهَرَ الله ُ عَلى يَدَيْهِ مَا أَظهَر!» .

وَدَلِيْلنا: أَنَّ العِلمَ بأَنَّ الوَاحِدَ مِنّا وَلِيٌّ للهِ تَعَالىَ، لا يَصِحُّ إلا َّ بَعْدَ العِلمِ بأَنهُ يَمُوْتُ مُؤْمِنًا. وَإذا لمْ يُعْلمْ أَنهُ يَمُوْتُ مُؤْمِنًا: لمْ يُمْكِنّا أَنَّ نقطعْ عَلى أَنهُ وَلِيٌّ للهِ تَعَالىَ ، لأَنَّ الوَلِيَّ للهِ تَعَالىَ مِنْ عِلمِ اللهِ تَعَالىَ أَنهُ لا يُوَافِي إلا َّ باِلإيْمَان.

وَلمّا اتفقنا عَلى أَننا لا يُمْكِننا أَنْ نقطعَ عَلى أَنَّ ذلِك َ الرَّجُلَ يوَافِي باِلإيْمَان ِ، وَلا الرَّجُلُ نفسُهُ يَقطعُ عَلى أَنهُ يُوَافِي باِلإيْمَان ِ: عُلِمَ أَنَّ ذلِك َ ليْسَ يدُلُّ عَلى وَلايتِهِ لله.

قالوْا: «وَلا نمْنَعُ أَنْ يُطلِعَ الله ُ بَعْضَ أَوْلِيَائِهِ عَلى حُسْن ِ عَاقِبتِهِ، وَخاتِمَةِ عَمَلِهِ، وَغيرَهُ مَعَهُ» قالهُ الشَّيْخُ أَبوْ الحسَن ِ الأَشْعَرِيُّ وَغيرُه) اه.

وَنقلَ الحافِظ ُ ابْنُ كثِيرٍ كلامَ القرْطبيِّ السّابق ِ فِي «تفسِيرِهِ» عِنْدَ الآيةِ نفسِهَا، ثمَّ قالَ عَقِبَهُ:(وَقدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلى أَنَّ الخارِقَ قدْ يَكوْنُ عَلى يدِ غيرِ الوَلِيِّ، بَلْ قدْ يَكوْنُ عَلى يدِ الفاجِرِ وَالكافِرِ أَيضًا، بمَا ثبَتَ عَن ِ ابن ِ صَيّادٍ أَنهُ قالَ: «هُوَ الدُّخُّ» حِينَ خَبَّأَ لهُ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (1).

(1) - رَوَاهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1355)، (3055)، (6173)، (6618) وَمُسْلِمٌ (2931) مِنْ حَدِيْثِ ابن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.

ص: 266

وَبمَا كانَ يَصْدُرُ عَنْهُ: أَنهُ كانَ يَمْلأُ الطرِيقَ إذا غضِبَ حَتَّى ضَرَبهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا (1)!

وَبمَا ثبتَتْ بهِ الأَحَادِيْثُ عَن ِ الدَّجّال ِ، بمَا يَكوْنُ عَلى يدَيهِ مِنَ الخوَارِق ِ الكثِيرَةِ، مِنْ أَنهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فتُمْطِرُ! وَالأَرْضَ أَنْ تُنْبتَ فتُنْبتُ! وَتتْبَعُهُ كنوْزُ الأَرْض ِ مِثلَ اليعَاسِيْب (2)! وَأَنْ يَقتُلَ ذلِك َ الشّابَّ ثمَّ يُحْييْه (3)! إلىَ غيرِ ذلِك َ مِنَ الأُمُوْرِ المهُوْلة.

وَقدْ قالَ يُوْنسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلى الصَّدَفِيُّ: (قلتُ لِلشّافِعِيِّ، كانَ الليْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقوْلُ:«إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ، فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة» .

فقالَ الشّافِعِيُّ: «قصَّرَ الليْثُ رحمه الله ُ! بَلْ إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ، وَيَطِيرُ فِي الهوَاءِ، فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة» ) اه كلامُ ابنُ كثِيرٍ رحمه الله.

وَقالَ أَبوْ عَبْدِ اللهِ الذَّهَبيُّ في «سِيَرِ أَعْلامِ النُّبَلاءِ» (22/ 179): (فلا يغترُّ المسْلِمُ بكشْفٍ وَلا بحَال ٍ، وَلا بإخْبَارٍ عَنْ مُغيبٍ، فابنُ صَائِدٍ وَإخْوَانهُ مِنَ الكهَنَةِ، لهمْ خَوَارِق!

(1) - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (6/ 283) وَمُسْلِم (2932).

(2)

- رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (2937) مِنْ حَدِيْثِ النوّاس ِ بْن ِ سَمْعَانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

(3)

- رَوَاهُ البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1882) وَمُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (2938) مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ.

ص: 267

وَالرُّهْبَانُ فِيْهمْ مَنْ قدْ تمَزَّقَ جُوْعًا وَخَلوَة ً وَمُرَاقبة ً عَلى غيرِ أَسَاس ٍ وَلا تَوْحِيْدٍ: فصَفتْ كدُوْرَاتُ أَنفسِهمْ، وَكاشَفوْا وَفشرُوْا، وَلا قدْوَة َ إلا َّ في أَهْل ِ الصَّفوَةِ، وَأَرْبابِ الوَلايةِ المنوْطةِ باِلعِلمِ وَالسُّنن ِ، فنسْأَلُ الله َ إيْمَانَ المتقِينَ، وَتأَلهَ المخْلِصِين) اه.

قلتُ: قدْ صَدَقَ رحمه الله ُ، فلا يُغْتَرُّ بعَمَل ِ عَامِل ٍ، وَلا اجْتِهَادِ مُجْتَهدٍ، وَلا تنسُّكِ مُتنسِّكٍ زَاهِدٍ، حَتَّى يَكوْنَ عَمَلهُ خالِصًا للهِ عز وجل، مُوَافِقا لِشَرْعِهِ، غيرَ مُخالِفٍ له.

لهِذَا كانتِ الأَعْمَالُ مُعَلقة ً في قبُوْل ِ اللهِ تَعَالىَ لها بشَرْطين ِ:

أَحَدِهِمَا: أَنْ تَكوْنَ خَالِصَة ً للهِ عز وجل، مُبْتَغًى بهَا وَجْهُهُ سُبْحَانه.

وَالآخَرِ: أَنْ تَكوْنَ مُوَافِقة ً لِسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

فدَلِيْلُ الأَوَّل ِ: قوْلهُ تَعَالىَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .

وَقوْلهُ سُبْحَانهُ في الحدِيْثِ القدْسِيِّ: «أَنا أَغنى الشُّرَكاءِ عَن ِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا ً أَشْرَك َ فِيْهِ مَعِيَ غيْرِي: ترَكتهُ وَشِرْكه» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (2985) مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

وَدَلِيْلُ الثانِي: قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذَا مَا ليْسَ مِنْهُ: فهُوَ رَدّ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (6/ 240و270) وَالبُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (2697) وَمُسْلِمٌ (1718) مِنْ حَدِيْثِ أُمِّ المؤْمِنِينَ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا.

ص: 268

وَفي رِوَايةٍ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (6/ 146و180و256) وَمُسْلِمٍ (1718): (مَنْ عَمِلَ عَمَلا ً ليْسَ عَليْهِ أَمْرُنا: فهُوَ رَدّ)، وَقدْ عَلقهَا البُخارِيُّ أَيضًا في «صَحِيْحِهِ» مَجْزُوْمًا بهَا.

وَالأَدِلة ُ عَلى هَذَين ِ الشَّرْطين ِ كثِيرَة.

وَمَتَى تخلفَ هَذَان ِ الأَمْرَان ِأَوْ أَحَدُهُمَا: كانَ ذلِك َ العَمَلُ بَاطِلا ً فاسِدًا، ليْسَ لِصَاحِبهِ مِنْهُ إلا َّ المشقة ُ في الدُّنيا، وَالعَذَابُ في الآخِرَة.

لهِذَا لمْ تنفعِ الرُّهْبَانَ - المتنسِّكِينَ المتعَبِّدِينَ، الخالِينَ في الفلوَاتِ لِلعِبَادَةِ وَالصَّلوَاتِ- أَعْمَالهمْ، وَهُمْ لمْ يُؤْمِنُوْا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيتابعُوْهُ في شَرْعِهِ، وَإنْ كانتْ أَعْمَالهمْ خَالِصَة ً للهِ عز وجل، لا يُرِيْدُوْنَ بهَا جَاهًا عِنْدَ أَحَدٍ وَلا رِياءًا. بَلْ أَصْبَحَتْ أَعْمَالهمْ عَليْهمْ حَسْرَة ً وَمَشَقة ً، قالَ سُبْحَانهُ:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} .

وَأَخْرَجَ الحافِظ ُ أَبوْ بَكرٍ البَرْقانِيُّ في «صَحِيْحِهِ» مِنْ طرِيق ِ أَبي عِمْرَانَ الجوْنِيِّ قالَ: (مَرَّ عُمَرُ بْنُ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ بدِيرِ رَاهِبٍ فنادَاهُ: «يا رَاهِب» !

فأَشْرَفَ، فجَعَلَ عُمَرُ ينْظرُ إليْهِ وَيبْكِي!

ص: 269

فقِيْلَ لهُ: يا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ مَا يبْكِيْك َ مِنْ هَذَا؟!

قالَ: «ذكرْتُ قوْلَ اللهِ عز وجل في كِتَابهِ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} فذَاك َ الذِي أَبكانِي» ).

وَحُجَّة ُ هَؤُلاءِ الجاهِلِينَ الضّالينَ فِي كوْن ِ أَئِمَّةِ مُشْرِكِيْهمْ أَوْلِيَاءَ صَالحِينَ، هُوَ تِلك َ المخارِيقُ الشَّيْطانِيَّة!

فليْتَ شِعْرِي أَيُّ دَرَجَاتِ الوَلايةِ بَلغَ عِنْدَهُمُ ابْنُ صَيّادٍ؟! وَأَيُّ الرُّتبِ سَيَحُلهَا عِنْدَهُمُ المسِيْحُ الدَّجّال؟! فمَا سَيَأْتي بهِ لا يَسْتَطِيْعُهُ رُؤُوْسُهُمْ وَلوِ اجْتَمَعَتْ لهُ، وَليْسَ مِنْ فِتنَةٍ أَعْظمُ وَأَخْوَفُ عَلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، فإنهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ لِلمُؤْمِنِينَ بهِ فتُمْطِرُ! وَالأَرْضَ فتنْبتُ! فتَرُوْحُ عَليْهمْ سَارِحَتُهُمْ أَطوَلَ مَا كانتْ ذرًّا، وَأَسْبَغهُ ضُرُوْعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِر.

وَيَأْمُرُهُمَا لِلكافِرِينَ بهِ أَنْ يُمْسِكا: فيُصْبحُوْنَ مُمْحِلِينَ مُجْدِبينَ، ليْسَ بأَيدِيْهمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالهِمْ! وَيَمُرُّ باِلخرِبةِ فيقوْلُ لها:«أَخْرِجِي كنُوْزَكِ» فتتْبعُهُ كنُوْزُهَا كيَعَاسِبِ النَّحْل! ثمَّ يَدْعُوْ رَجُلا ً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فيَضْرِبهُ باِلسَّيْفِ فيَقطعُهُ جِزْلتين ِ، رَمْيَة َ الغَرَض ِ، ثمَّ يَدْعُوْهُ فيُقبلُ وَيَتَهَللُ وَجْهُهُ يَضْحَك!

وَهَذِهِ المخارِيْقُ الشَّيْطانِية ُ ثابتَة ٌ لإمَامِ الدَّجَاجِلةِ، كمَا فِي «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» (2937) وَغيرِهِ، وَأَخبَارُهُ كثِيرَة ٌ، وَحَسْبُك َ مِنْهَا مَا تقدَّم.

ص: 270

وَمَنْ كانَ ضَابط ُ الوَلايةِ عِنْدَهُ تِلك َ المخارِيْقَ الشَّيْطانِيَّة َ: فإمَامُ أَوْلِيَائِهِ، وَشَيْخُ مَشَايخِهِ: هَذَا الدَّجّال.

وَمَا عَظمَتْ فِتْنَتهُ، وَعَمَّتْ بَليَّتُهُ إلا َّ لِعُقوْل ٍ تَرُوْجُ عَليْهَا هَذِهِ التَّلبيْسَاتُ، وَمِنْ ضَعْفِ الإيْمَان ِ وَالعِلمِ وَاليَقِين.

وَإلا َّ فالمبْصِرُ: حَالهُ كحَال ِ ذلِك َ المؤْمِن ِ الذِي خَرَجَ لِلدَّجَال ِ، مُبْصِرًا سِرَّ خَوَارِقِهِ، عارِفا حَقِيْقة َ أَمْرِهِ، مُوْقِنًا بوَعْدِ رَبهِ وَخبَرِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، ليْسَ فِي رِيْبَةٍ مِنْ شَيْءٍ قدْ أَتتْ بهِ رُسُلهُ، فيَخْرُجُ لِلدَّجّال ِ حَتَّى إذا بَدَا لهُ الدَّجّالُ قالَ لِلنّاس ِ:«يَا أَيهَا النّاسُ هَذَا الدَّجّالُ الذِي ذكرَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .

فيَأْمُرُ الدَّجّالُ بهِ عِنْدَ ذلِك َ فيُشَبَّحُ، فيقوْلُ:«خُذُوْهُ وَشُجُّوْهُ» ، فيُوْسَعُ ظهْرُهُ وَبَطنهُ ضَرْبًا، فيَقوْلُ لهُ الدَّجّالُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بي؟

فيَقوْلُ: «أَنتَ المسِيْحُ الكذّاب» .

فيَأْمُرُ بهِ فيُؤْشَرُ بالمِئْشَارِ مِنْ مَفرِقِهِ حَتَّى يفرُقَ بينَ رِجْليْهِ، ثمَّ يَمْشِي الدَّجّالُ بَينَ القِطعَتَين ِ، ثمَّ يَقوْلُ لهُ:«قمْ» فيَسْتوِي قائِمًا، ثمَّ يَقوْلُ لهُ:«أَتُؤْمِنُ بي؟!»

فيَقوْلُ: «مَا ازْدَدْتُ فِيْك َ إلا َّ بَصِيرَة ً» .

ثمَّ يَقوْلُ: «يَا أَيهَا النّاسُ، إنهُ لا يَفعَلُ بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النّاس» .

فيَأْخُذُهُ الدَّجّالُ لِيَذْبحَهُ، فيُجْعَلُ مَا بَينَ رَقبتِهِ إلىَ تِرْقوَتِهِ نحَاسًا فلا يَسْتَطِيْعُ إليْهِ سَبيْلا ً. فيَأْخُذُ بيَدَيهِ وَرِجْليْهِ فيَقذِفُ بهِ،

ص: 271

فيَحْسَبُ النّاسُ أَنمَا قذَفهُ إلىَ النارِ، وَإنمَا أُلقِيَ فِي الجنة.

فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا أَعْظمُ النّاس ِ شَهَادَة ً عِنْدَ رَبِّ العَالمِينَ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي «صَحِيْحِهِ» (1882) وَمُسْلِمٌ (2938) وَاللفظ ُ له.

ص: 272

فصل في تَمَثل ِ الشَّيَاطِين ِ باِلمقبُوْرِينَ المسْتَغَاثِ بهمْ وَالمعْبُوْدِينَ، تَغْرِيرًا بعُبّادِهِمْ وَإضْلالا ً لهمْ! كمَا كانتْ تصْنَعُ بأَسْلافِهمْ مِنَ عُبّادِ الأَصْنَام

ثمَّ غرَّرَتْ بهمُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى عَبَدُوْا أُوْلئِك َ المنْسُوْبينَ زُوْرًا إلىَ الصَّلاحِ وَالاسْتِقامَةِ، أَحْيَاءً وَمَيِّتِينَ، فتَمَثلتْ لهمْ بصُوَرِ رِجَال ٍ صَالحِينَ قدْ مَاتوْا أَوْ مَا زَالوْا حَيِّينَ، يُخاطِبُوْنهُمْ فيُكلمُوْهُمْ، وَيَدْعُوْنَهُمْ فيُجِيْبُوْا دَعَوَاتِهمْ وَيُغِيْثُوْا لهفاتِهمْ، وَيُنَجُّوْا هَلكاهُمْ، وَيُخْرِجُوْا غرْقاهُمْ.

حَتَّى عَلقتْهُمْ وَزَادَتْ تَعَلقهُمْ فِيْهمْ، فأَصْبَحُوْا يَدْعُوْنَهَا فِي كلِّ كبيرٍ وَصَغِيرٍ، وَكلِّ عَظِيْمٍ وَحَقِير.

كمَا كانَتْ تَفعَلُ الشَّيَاطِينُ مَعَ عُبّادِ الأَصْنَامِ، وَالملائِكةِ وَغيرِهِمْ مِنَ المشْرِكِينَ قبْلهُمْ.

فكانَتْ تَدْخُلُ فِي الأَصْنَامِ وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَقضِي لهمْ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِهمْ، حَتَّى أَضَلتْهُمْ، وَزَيَّنَتْ لهمْ شِرْكهُمْ.

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ- كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (1/ 360) -: (وَمِنْ هَؤُلاءِ: مَنْ يَأْتِي إلىَ قبْرِ الشَّيْخِ الذِي يُشْرِك ُ بهِ وَيَسْتَغِيْثُ بهِ، فينزِلُ عَليْهِ مِنَ الهوَاءِ طعامٌ، أَوْ نفقة ٌ، أَوْ سِلاحٌ، أَوْ غيرُ ذلِك َ،

ص: 273

مِمّا يَطلبُهُ، فيَظنُّ ذلِك َ كرَامَة ً لِشَيْخِهِ، وَإنمَا ذلِك َ كلهُ مِنَ الشَّيَاطِين.

وَهَذَا مِنْ أَعْظمِ الأَسْبَابِ التي عُبدَتْ بهَا الأَوْثانُ، وَقدْ قالَ الخلِيْلُ عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ} كمَا قالَ نوْحٌ عليه السلام.

وَمَعْلوْمٌ: أَنَّ الحجَرَ لا يُضِلُّ كثِيرًا مِنَ النّاس ِ إلا َّ بسَبَبٍ اقتَضَى ضَلالهمْ، وَلمْ يَكنْ أَحَدٌ مِنْ عُبّادِ الأَصْنَامِ يَعْتَقِدُ أَنهَا خَلقتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، بَلْ إنمَا كانوْا يَتَّخِذُوْنَهَا شُفعَاءَ وَوَسَائِط َ لأَسْبَاب:

مِنْهُمْ: مَنْ صَوَّرَهَا عَلى صُوَرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِين.

وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلهَا تَمَاثِيْلَ وَطلاسِمَ لِلكوَاكِبِ وَالشَّمْس ِ وَالقمَر.

وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلهَا لأَجْل ِ الجنّ.

وَمِنْهُمْ: مَنْ جَعَلهَا لأَجْل ِ الملائِكة.

فالمعْبُوْدُ لهمْ فِي قصْدِهِمْ: إنمَا هُوَ الملائِكة ُ وَالأَنبيَاءُ وَالصّالحِوْنَ أَوِ الشَّمْسُ أَوِ القمَر.

وَهُمْ فِي نفس ِ الأَمْرِ يَعْبُدُوْنَ الشَّيَاطِينَ: فهيَ التي تَقصِدُ مِنَ الإنس ِ أَنْ يَعْبُدُوْهَا، وَتُظهرُ لهمْ مَا يَدْعُوْهُمْ إلىَ ذلِك َ كمَا قالَ تَعَالىَ:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .

وَإذا كانَ العابدُ مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ عِبَادَة َ الشَّيَاطِين ِ: أَوْهَمُوْهُ أَنهُ إنمَا يَدْعُوْ الأَنْبيَاءَ وَالصّالحِينَ وَالملائِكة َ وَغيرَهُمْ مِمَّنْ يُحْسِنُ العَابدُ ظنَّهُ به.

ص: 274

وَأَمّا إنْ كانَ مِمَّنْ لا يُحَرِّمُ عِبَادَة َ الجِنِّ: عَرَّفوْهُ أَنهُمُ الجِنّ) اه كلامُ شَيْخِ الإسْلام.

وَهَذَا حَقٌّ لا رَيْبَ فِيْهِ وَلا مِرْية َ، لهِذَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي «زَوَائِدِهِ عَلى مُسْنَدِ أَبيْهِ» (5/ 135) قالَ:(حَدَّثنَا هُدْبة ُ بنُ عَبْدِ الوَهّابِ وَمَحْمُوْدُ بْنُ غيْلانَ قالا: حَدَّثنَا الفضْلُ بْنُ مُوْسَى أَخْبرَنا حُسَينُ بْنُ وَاقِدٍ عَن ِ الرَّبيْعِ بْن ِ أَنس ٍ عَنْ أَبي العَالِيَة َ عَنْ أُبيّ بْن ِ كعْبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً} قالَ أُبيٌّ: «مَعَ كلِّ صَنَمٍ جِنيَة») اه.

وَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمّا فتحَ مَكة َ- خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ إلىَ العُزَّى، فهَدَمَهَا، وَوَجَدَ عِنْدَهَا شَيْطانة ً كانتْ تُضِلُّ النّاسَ لِيَعْبُدُوْا العُزَّى: فقتلها. وَكانَ ذلِك َ لِخَمْس ِ ليال ٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَة َ ثمَان.

فرَوَى النَّسَائِيُّ في «سُننِهِ الكبرَى» (11547)(6/ 474): عَنْ عَلِيِّ بن ِ المنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بن ِ فضيْل ٍ عَن ِ الوَلِيْدِ بن ِجُمَيْعٍ عَنْ أَبي الطفيْل ِ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمّا فتحَ مَكة َ: بعَثَ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ نخلة َ، وَكانتْ بهَا العُزَّى لِيهْدِمَهَا.

فأَتاهَا خَالِدٌ - وَكانتِ العُزَّى عَلى ثلاثِ سَمُرَاتٍ - فقطعَ السَّمُرَاتِ، وَهَدَمَ البيْتَ الذِي كانَ عَليْهَا.

ص: 275

ثمَّ أَتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبرَه.

فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ! فإنك َ لمْ تصْنَعْ شَيْئًا» .

فرَجَعَ خَالِدٌ، فلمّا أَبصَرَتْ بهِ السَّدَنة ُ- وَهُمْ حَجَبَتهَا- أَمْعَنُوْا في الجبل ِ وَهُمْ يقوْلوْنَ: يا عُزَّى خَبِّلِيْهِ! يَا عُزَّى عَوِّرِيهِ!

فأَتاهَا خَالِدٌ، فإذا هِيَ امْرَأَة ٌ عُرْيانة ٌ! ناشِرَة ٌ شَعْرَهَا، تحْتفِنُ التُّرَابَ عَلى رَأْسِهَا!

فعَمَّمَهَا خَالِدٌ باِلسَّيْفِ فقتلهَا، ثمَّ رَجَعَ إلىَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبرَهُ الخبرَ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«تِلك َ العُزَّى» .

وَرَوَاهُ:

- أَبوْ نعَيْمٌ الأَصْبَهَانِيُّ في «دَلائِل ِالنُّبُوَّةِ» (ص469) مِنْ طرِيق ِ عَلِيِّ بن ِ المنْذِرِ به.

- وَأَبوْ يعْلى الموْصِلِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 196 - 197)(902): حَدَّثنَا أَبوْ كرَيْبٍ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ فضيْل ٍ به.

- وَالبَيْهَقِيُّ في «دَلائِل ِ النُّبُوَّةِ» (5/ 77) مِنْ طرِيق ِ أَبي يعْلى الموْصِلِيُّ به.

وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (1/ 126): عَن ِ ابن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا -وَذكرَ اللاتَ وَالعُزَّى- فقالَ: (كانَ العُزَّى ثلاثُ شَجَرَاتٍ سَمُرَاتٍ بنخلة.

وَكانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَا إلىَ عِبَادَتِهَا: عَمْرُو بنُ رَبيْعَة َ، وَالحارِثُ بنُ كعْب.

ص: 276

وَكانَ في كلِّ وَاحِدَةٍ شَيْطانا يعْبَد.

فلمّا بعَثَ الله ُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بعثَ بَعْدَ الفتْحِ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ العُزَّى لِيَقطعَهَا فقطعَهَا، ثمَّ جَاءَ خَالِدٌ إلىَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَيتَ فِيْهنّ؟»

قالَ: لا شَيْء.

فقالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا قطعْتهُنَّ! فارْجِعْ فاقطعْ» .

فرَجَعَ فقطعَ، فوَجَدَ تَحْتَ أَصْلِهَا امْرَأَة ً! ناشِرَة ً شَعْرَهَا! قائِمَة ً عَليْهنَّ، كأَنهَا تنُوْحُ عَليْهنّ!

فرَجَعَ فقالَ: إني رَأَيتُ كذَا وَكذَا!

فقالَ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقتَ» .

وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ أَيضًا في «أَخْبَارِ مَكة» (1/ 127): عَنْ مُحَمَّدِ بن ِ السّائِبِ الكلبيُّ قالَ: (كانتْ بنوْ نصْرٍ وَجُشَمُ وَسَعْدُ بنُ بَكرٍ، وَهُمْ عَجُزُ هَوَازِنَ يعْبُدُوْنَ العُزَّى.

وَكانتِ اللاتُ وَالعُزَّى وَمَنَاة ُ في كلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَيْطانة ٌ تُكلمُهُمْ وَترَاءَا لِلسَّدَنةِ - وَهُمُ الحجَبَة ُ- وَذلِك َ مِنْ صَنِيْعِ إبلِيْسَ وَأَمْرِه).

وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ كذَلِك َفي «أَخْبَارِ مَكة» (1/ 127 - 129): عَنْ سَعِيْدِ بن ِ عَمْرٍو الهذَلِيِّ قالَ: (قدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكة َيوْمَ الجمُعَةِ لِعَشْرٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان).

ص: 277

ثمَّ ذكرَ سَعِيْدٌ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ العُزَّى لِيَهْدِمَهَا، فخَرَجَ خَالِدٌ في ثلاثِينَ فارِسا مِنْ أَصْحَابهِ إلىَ العُزَّى، حَتَّى انتهَى إليْهَا فهَدَمَهَا.

ثمَّ رَجَعَ إلىَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ لهُ: «أَهَدَمْتَ؟» .

قالَ: نعَم، يا رَسُوْلَ الله.

قالَ: «هَلْ رَأَيتَ شَيْئًا؟» .

قالَ: لا.

قالَ: «فإنك َ لمْ تهْدِمْهَا! فارْجِعْ إليْهَا فاهْدِمْهَا» .

فخَرَجَ خَالِدُ بنُ الوَلِيْدِ - وَهُوَ مُتَغَيِّظ ٌ- فلمّا انتهَى إليْهَا جَرَّدَ سَيْفهُ، فخَرَجَتِ امْرَأَة ٌ سَوْدَاءُ عُرْيانة ٌ! ناشِرَة ٌ شَعْرَهَا!

فجَعَلَ السّادِنُ يَصِيْحُ بهَا - قالَ خَالِدٌ: وَأَخَذَنِي اقشِعْرَارٌ في ظهْرِي- وَيقوْلُ:

أَعُزَّى! شُدِّي شَدَّة ً لا تُكذِّبي

أَعُزَّى! أَلق ِ القِنَاعَ وَشَمِّرِي

أَعُزَّى! إنْ لمْ تقتلِي المرْءَ خَالِدًا

فبوْئِي بإثمٍ عَاجِل ٍ أَوْ تنصَّرِي

فأَقبلَ خَالِدٌ باِلسَّيْفِ إليْهَا وَهُوَ يَقوْلُ:

يَا عُزَّى! كفرَانكِ لا سُبْحَانكِ

إني رَأَيتُ الله َ قدْ أَهَانكِ

قالَ: فضَرَبهَا باِلسَّيْفِ، فجَزَلها باِثنتين ِ، ثمَّ رَجَعَ إلىَ رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَخْبرَهُ.

فقالَ صلى الله عليه وسلم: «نعم، تِلك َ العُزَّى قدْ أَيسَتْ أَنْ تعْبَدَ ببلادِكمْ أَبدًا.

ص: 278

وَكانَ هَدْمُهَا لِخَمْس ِ ليال ٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَة َ ثمَان.

وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ كذَلِك َفي «أَخْبَارِ مَكة» (1/ 122): مِنْ طرِيق ِ الوَاقِدِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّ الأَصْنَامَ لمّا كسِرَتْ، وَمِنْهَا إسَافٌ وَنائِلة ُ-: خَرَجَتْ مِنْ إحْدَاهُمَا امْرَأَة ٌ سَوْدَاءُ شَمْطاءُ! تَخْمِشُ وَجْهَهَا! عُرْيانة ٌ! ناشِرَة ُ الشَّعْرِ، تدْعُوْ باِلوَيل!

فقِيْلَ لِرَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذلِك َ فقالَ: «تِلك َ نائِلة ُ، قدْ أَيسَتْ أَنْ تعبدَ ببلادِكمْ أَبدًا» .

وَمَا يَرَاهُ هَؤُلاءِ المشْرِكوْنَ فِي كلِّ عَصْرٍ مِنْ خَوَارِقَ شَيْطانِيَّةٍ، هِيَ مِنْ أَسْبَابِ شِرْكِهمْ وَضَلالهِمْ قدِيْمًا وَحَدِيْثًا.

وَمَا رَأَوْهُ مِمّا سَبَقَ، أَوْ سَمِعُوْهُ مِمّا تقدَّمَ: هِيَ مَخَارِيْقُ شَيْطانِيَّة ٌ، مِنْ جِنْس ِ مَخَارِيْق ِ السَّحَرَةِ وَالكهّان ِ، أَرَادَتِ الشَّيَاطِينُ إغوَاءَهُمْ بهَا عَنْ دِيْن ِ اللهِ وَتَوْحِيْدِهِ، كمَا كانتْ تُغْوِي قبْلهُمْ عُبّادَ الأَصْنَامِ وَسَائِرَ المشْرِكِينَ، تَتَمَثَّلُ فِي الأَصْنَامِ وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَقضِي حَاجَاتِهمْ، وَتُغِيْثُ بَعْضَ لهفاتِهمْ.

وَلوْلا تِلك َ الأُمُوْرُ لمَا ضَلوْا باِلأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ، وَلمَا خَشِيَ نبيُّ اللهِ وَخَلِيْلهُ إمَامُ الحنفاءِ، وَأَبوْ الأَنبيَاءِ الأَصْفِيَاءِ مِنْهُ فقالَ:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ} .

فهَلْ كانَ إضْلالهنَّ لِكثِيرٍ مِنَ النّاس ِ إلا َّ لِمُوْجِبٍ لِلإضْلال ِ، مُخِيْفٍ لإمَامِ الحنفاءِ مِنَ الوُقوْعِ فِيْهِ وَالضَّلال؟!

ص: 279

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ-كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (17/ 460 - 461) -: (وَإنمَا المقصُوْدُ: أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي العَالمِ كانَ مِنْ عِبَادَةِ البَشَرِ الصّالحِينَ، وَعِبَادَةِ تَمَاثِيْلِهمْ وَهُمُ المقصوْدُوْنَ.

وَمِنَ الشِّرْكِ: مَا كانَ أَصْلهُ عِبَادَة َ الكوَاكِبِ، إمّا الشَّمْسُ، وَإمّا القمَرُ، وَإمّا غيرُهُمَا، وَصُوِّرَتِ الأَصْنَامُ طلاسِمَ لِتِلك َ الكوَاكِب.

وَشِرْك ُ قوْمِ إبْرَاهِيْمَ - وَالله ُ أَعْلمُ - كانَ مِنْ هَذَا، أَوْ كانَ بَعْضُهُ مِنْ هَذَا.

وَمِنَ الشِّرْكِ: مَا كانَ أَصْلهُ عِبَادَة َ الملائِكةِ أَوِ الجِنِّ، وَوُضِعَتِ الأَصْنَامُ لأَجْلِهمْ، وَإلا َّ فنفسُ الأَصْنَامِ الجمَادِيةِ لمْ تُعْبَدْ لِذَاتِهَا، بَلْ لأَسْبَابٍ اقتضَتْ ذلِك َ، وَشِرْك ُ العَرَبِ كانَ أَعْظمُهُ الأَوَّلَ، وَكانَ فِيْهِ مِنَ الجمِيْع) اه.

ص: 280

فصل وَلِتمَامِ عِلمِ الصَّحَابةِ - رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا - وَتمامِ إيْمَانِهمْ وَمَعْرِفتِهمْ، وَتَمَامِ عِلمِ أَتْبَاعِهمْ عَلى الإيْمَان ِ وَالإسْلامِ وَالإحْسَان ِ وَتابعِيْهمْ: لمْ يَطمَعْ فِيْهمُ الشَّيْطانُ أَنْ يَقوْلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لأَصْحَابهِ: «إذا كانتْ لكمْ حَاجَة ٌ فتَعَالوْا إلىَ قبْرِي، وَاسْتَغِيْثوْا بي، لا فِي مَحْيَاهُ وَلا فِي مَمَاتِهِ، كمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكثِيرٍ مِنَ المتأَخِّرِينَ مِمَّنْ ضَعُفَ عِلمُهُمْ وَإيمَانهُمْ، وَضَعُفتْ بَصِيرَتُهُمْ، وَجَهلوْا حَقِيْقة َ مَا بعِثتْ بهِ الرُّسُلُ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ، مِنْ إفرَادِ اللهِ باِلتَّوْحِيْدِ، وَمُوَالاةِ أَهْلِهِ، وَعَدَاءِ مُخَالِفِيْهِ، وَأَنَّ مَجَامِعَ الكرَامَةِ فِي تَمَامِ الاسْتِقامَة.

وَلا طمِعَ الشَّيْطانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ وَيَقوْلَ: «أَنا مِنْ رِجَال ِ الغيْبِ، أَوْ مِنَ الأَوْتادِ الأَرْبعةِ، أَوِ السَّبْعَةِ، أَوِ الأَرْبعِينَ» ، أَوْ يَقوْلَ لهُ:«أَنتَ مِنْهُمْ» ، إذْ كانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الباطِل ِ الذِي لا حَقِيْقة َ له.

وَلا طمِعَ الشَّيْطانُ أَنْ يَأْتِي أَحَدَهُمْ فيَقوْلُ: «أَنا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» ، أَوْ يُخَاطِبُهُ عِنْدَ القبرِ، كمَا وَقعَ لِكثِيرٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ عِنْدَ قبرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقبرِ غيْرِهِ، وَعِنْدَ غيرِ القبوْر.

وَكمَا يَقعُ كثِيرٌ مِنْ ذلِك َ لِلمُشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ، يَرَوْنَ بَعْدَ الموْتِ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِِنْ شُيُوْخِهمْ.

ص: 281

فأَهْلُ الهِنْدِ: يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِنْ شُيُوْخِهمُ الكفارِ وَغيْرِهِمْ.

وَالنَّصَارَى: يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِنَ الأَنْبيَاءِ وَالحوَارِيِّينَ وَغيرِهِمْ.

وَالضُّلاّلُ مِنْ أَهْل ِ القِبْلةِ: يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ: إمّا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإمّا غيرَهُ مِنَ الأَنْبيَاءِ يَقظة ً! وَيُخاطِبُهُمْ وَيُخاطِبُوْنهُ! وَقدْ يَسْتَفتُوْنهُ! وَيَسْأَلوْنهُ عَنْ أَحَادِيْثَ فيُجِيْبُهُمْ!

وَمِنْهُمْ: مَنْ يُخَيَّلُ إليْهِ أَنَّ الحجْرَة َ قدِ انشقتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَعَانقهُ - هُوَ- وَصَاحِبَاه.

وَمِنْهُمْ: مَنْ يُخَيَّلُ إليْهِ أَنهُ رَفعَ صَوْتهُ باِلسَّلامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَة َ أَيامٍ، وَإلىَ مَكان ٍ بَعِيْد.

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ بَعْدَ ذلِك َ- كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/ 392 - 393) -: (وَهَذَا وَأَمْثالهُ أَعْرِفُ مِمَّنْ وَقعَ لهُ هَذَا وَأَشبَاهُهُ عَدَدًا كثِيرًا.

وَقدْ حَدَّثنِي بمَا وَقعَ لهُ فِي ذلِك َ وَبمَا أَخْبرَ بهِ غيرُهُ مِنَ الصّادِقِينَ مَنْ يَطوْلُ هَذَا الموْضِعُ بذِكرِهِمْ.

وَهَذَا مَوْجُوْدٌ عِنْدَ خَلق ٍ كثِيرٍ، كمَا هُوَ مَوْجُوْدٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالمشْرِكِينَ، لكِنْ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ يُكذِّبُ بهَذَا، وَكثِيرٌ مِنْهُمْ إذا صَدَّقَ بهِ يَظنُّ أَنهُ مِنَ الآياتِ الإلهِيَّةِ، وَأَنَّ الذِي رَأَى ذلِك َ رَآه ُ لِصَلاحِهِ وَدِينِه!

ص: 282

وَلمْ يَعْلمْ أَنهُ مِنَ الشَّيْطان ِ، وَأَنهُ بحسَبِ قِلةِ عِلمِ الرَّجُل ِ يُضِلهُ الشَّيْطان.

وَمَنْ كانَ أَقلَّ عِلمًا: قالَ لهُ مَا يَعْلمُ أَنهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيْعَةِ خِلافا ظاهِرًا.

ومَنْ عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْهَا: لا يَقوْلُ لهُ مَا يَعْلمُ أَنهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيْعَةِ، وَلا مُفِيْدًا فائِدَة ً فِي دِينِهِ، بَلْ يضِلهُ عَنْ بَعْض ِ مَا كانَ يَعْرِفه.

فإنَّ هَذَا فِعْلُ الشَّيَاطِين ِ، وَهُوَ وَإنْ ظنَّ أَنهُ قدِ اسْتَفادَ شَيْئًا، فالذِي خَسِرَهُ مِنْ دِينِهِ أَكثر.

وَلهِذَا لمْ يَقلْ قط ّ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابةِ: إنَّ الخضِرَ أَتاهُ، وَلا مُوْسَى، وَلا عِيْسَى، وَلا أَنهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَليْه.

وَابْنُ عُمَرَ كانَ يُسَلمُ إذا قدِمَ مِنْ سَفرٍ، وَلمْ يَقلْ قط ّ: إنهُ يَسْمَعُ الرَّدّ.

وَكذَلِك َ التّابعُوْنَ وَتابعُوْهُمْ، وَإنمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْض ِ المتَأَخِّرِيْنَ).

ثمَّ قالَ رحمه الله ُ بَعْدَ ذلِك َ: (فمَا ظهَرَ فِيْمَنْ بَعْدَهُمْ مِمّا يُظنُّ أَنهَا فضِيْلةٌ لِلمُتَأَخِّرِيْنَ، وَلمْ تَكنْ فِيْهمْ: فإنهَا مِنَ الشَّيْطان ِ، وَهِيَ نَقِيْصَة ٌ لا فضِيْلة ٌ، سَوَاءٌ كانَتْ مِنْ جِنْس ِ العُلوْمِ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ العِبَادَاتِ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ الخوَارِق ِ وَالآياتِ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ السِّيَاسَةِ وَالملك.

ص: 283

بَلْ خيرُ النّاس ِ بَعْدَهُمْ أَتبعُهُمْ لهمْ، قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: «مَنْ كانَ مِنْكمْ مُسْتنًّا: فليَسْتَنَّ بمَنْ قدْ مَاتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤْمَنُ عَليْهِ الفِتْنَة.

أُوْلئِك َ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَبرُّ هَذِهِ الأُمَّةِ قلوْبًا، وَأَعْمَقهَا عِلمًا، وَأَقلهَا تَكلفا.

قوْمٌ اخْتَارَهُمُ الله ُ لِصُحْبَةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإقامَةِ دِينِهِ، فاعْرِفوْا لهمْ حَقهُمْ، وَتَمَسَّكوْا بهَدْيهمْ، فإنهُمْ كانوْا عَلى الهدْي المسْتقِيْم». وَبَسْط ُ هَذَا لهُ مَوْضِعٌ آخَر) اه.

ص: 284

فصل في ذِكرِ طرَفٍ مِنَ المخارِيق ِ الشَّيْطانِيَّة

وَهَذِهِ المخارِيقُ الشَّيْطانِيَّة ُ لِلمُشْرِكِينَ وَالضّالينَ الجاهِلِينَ: يَعْرِفُ حَقِيْقتَهَا الموَحِّدُوْنَ فِي كلِّ عَصْرٍ وَكلِّ مِصْرٍ، فلا تُغْوِيْهمُ الشَّيَاطِينُ عَمّا هُمْ عَليْهِ مِنَ الهدَى وَالحقِّ المبين ِ، وَلا تَزِيدُهُمْ هَذِهِ الخزَعْبلاتُ إلا َّ بَصِيرَة ً وَإيْمَانا، وَتَصْدِيْقا بإخْبَارِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَإيقانا، وَقِيَامًا بمَا أَمَرَ الله ُ وَرَسُوْلهُ صلى الله عليه وسلم تِجَاهَهَا، فقلوْبهُمْ مَعَ هَذِهِ الفِتن ِ سَالِمَة ٌ خَالِيَة ٌ، كمَا أَخْبرَ بذَلك َ نبيُّهُمْ صلى الله عليه وسلم فقالَ:«تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلى القلوْبِ كالحصِيرِ عُوْدًا عُوْدًا، فأَيُّ قلبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيْهِ نُكتَة ٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَة ٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلى قلبَيْن ِ عَلى أَبْيَضَ مِثْل ِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَة ٌمَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كالكوْزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوْفا وَلا يُنْكِرُ مُنْكرًا، إلا َّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (5/ 405، 386) وَمُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (144) مِنْ حَدِيْثِ حُذَيْفةِ بْن ِ اليمَان ِ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ فِي جُمْلةٍ مِنْ كتبهِ طرَفا كبيرًا مِنْ تِلك َ المخارِيْق ِ الشَّيْطانِيَّةِ، وَذكرَ أَنهُ لوْ ذكرَ كلَّ مَا يَعْرِفهُ مِنْ ذلِك َ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبيرٍ فِي ذلِك َ!

ص: 285

وَأَكتفِي بذِكرِ شَيْءٍ مِمّا ذكرَهُ رحمه الله ُ:

* مِنْ ذلِك َ: قوْلهُ رحمه الله ُ: (وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ عَدَدًا، وَمِنْهُمْ: مَنْ كانَ يُحْمَلُ فِي الهوَاءِ إلىَ مَكان ٍ بَعِيْدٍ وَيَعُوْد!

* وَمِنْهُمْ: مَنْ كانَ يُؤْتى بمَال ٍ مَسْرُوْق ٍ، تَسْرُقهُ الشَّيَاطِينُ، وَتَأْتِيْهِ به!

* وَمِنْهُمْ: مَنْ كانَتْ تدُلهُ عَلى السَّرِقاتِ بجُعْل ٍ يَحْصُلُ لهُ مِنَ النّاس ِ، أَوْ بعَطاءٍ يُعْطوْنهُ إذا دَلهمْ عَلى سَرِقاتِهمْ، وَنَحْو ذلك) (1).

* وَقالَ: (وَمِنْ هَؤُلاءِ: مَنْ يَسْتَغِيْثُ بمَخلوْق ٍ، إمّا حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ المخلوْقُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُشْرِكا: فيَتَصَوَّرُ الشَّيْطانُ بصُوْرَةِ ذلِك َ المسْتَغاثِ بهِ، وَيَقضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذلِك َ المسْتَغِيْثِ، فيَظنُّ أَنهُ ذلِك َ الشَّخْصُ، أَوْ هُوَ مَلك ٌ عَلى صُوْرَتِه.

وَإنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَضَلهُ لمّا أَشْرَك َ باِللهِ، كمَا كانَتِ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ في الأَصْنَامِ، وَتُكلمُ المشْرِكِين.

* وَمِنْ هَؤُلاءِ: مَنْ يَتَصَوَّرُ لهُ الشَّيْطانُ وَيَقوْلُ لهُ: «أَنا الخضِرُ» ! وَرُبَّمَا أَخْبرَهُ ببَعْض ِ الأُمُوْرِ! وَأَعَانهُ عَلى بَعْض ِ مَطالِبهِ! كمَا جَرَى ذلِك َ لِغَيرِ وَاحِدٍ مِنَ المسْلِمِينَ وَاليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى.

ص: 286

* وَكثِيرٌ مِنَ الكفارِ بأَرْض ِ المشْرِق ِ وَالمغْرِبِ، يَمُوْتُ لهمُ الميِّتُ، فيَأْتِي الشَّيْطانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلى صُوْرَتِهِ - وَهُمْ يَعْتَقِدُوْنَ أَنهُ ذلِك َ الميِّتُ - وَيَقضِي الدُّيوْنَ، وَيَرُدُّ الوَدَائِعَ، وَيَفعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلقُ باِلميِّتِ، وَيَدْخُلُ إلىَ زَوْجَتِهِ، وَيَذْهَب. وَرُبمَا يَكوْنوْنَ قدْ أَحْرَقوْا مَيَّتَهُمْ باِلنّارِ! كمَا يَصْنَعُ كفارُ الهِنْدِ، فيَظنُّوْنَ أَنهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِه!

* وَمِنْ هَؤُلاءِ: شَيْخٌ كانَ بمصْرَ أَوْصَى خَادِمَهُ فقالَ: «إذا أَنا مِتُّ فلا تَدَعْ أَحَدًا يُغَسِّلني، فأَنا أَجِيءُ وَأُغسِّلُ نَفسِي!» .

فلمّا مَاتَ: رَأَى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُوْرَتِهِ! فاعْتَقدَ أَنهُ هُوَ دَخَلَ وَغسَّلَ نَفسَهُ! فلمّا قضَى ذلِك َ الدّاخِلُ غسْلهُ - أَيْ غسْلَ الميِّتِ - غاب!

وَكانَ ذلِك َ شَيْطانا، وَكانَ قدْ أَضَلَّ الميِّتَ، وَقالَ:«إنك َ بَعْدَ الموْتِ تَجِيءُ فتَغْسِلُ نفسَك َ!» ، فلمّا مَاتَ جَاءَ أَيْضًا فِي صُوْرَتِهِ لِيُغوِيَ الأَحْيَاءَ، كمَا أَغوَى الميِّتَ قبْلَ ذلك.

* وَمِنْهُمْ: مَنْ يرَى عَرْشا فِي الهوَاءِ وَفوْقهُ نوْرٌ، وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقوْلُ:«أَنا رَبك َ!» ، فإنْ كانَ مِنْ أَهْل ِ المعْرِفةِ: عَلِمَ أَنهُ شَيْطانٌ فزَجَرَهُ، وَاسْتَعَاذَ باِللهِ مِنْهُ فيَزُوْلُ ذلك) (1).

ص: 287

* قالَ: (وَقدْ جَرَتْ هَذِهِ القِصَّة ُ لِغيرِ وَاحِدٍ مِنَ النّاس ِ، فمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ الله ُ، وَعَرَفَ أَنهُ الشَّيْطانُ، كالشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ فِي حِكايتِهِ المشْهُوْرَةِ حَيْثُ قالَ: «كنْتُ مَرَّة ً فِي العِبَادَةِ، فرَأَيتُ عَرْشا عَظِيْمًا، وَعَليْهِ نوْرٌ، فقالَ لِي: يَا عَبْدَ القادِرِ! أَنا رَبك َ! وَقدْ حَللتُ لك َ مَا حَرَّمْتُ عَلى غيرِك!

قالَ: فقلتُ لهُ: أَنتَ الله ُ الذِي لا إلهَ إلا َّ هُوَ؟! اِخْسَأْ يا عَدُوَّ الله.

قالَ: فتَمَزَّقَ ذلِك َ النوْرُ، وَصَارَ ظلمَة.

وَقالَ: يَا عَبْدَ القادِرِ نجَوْتَ مِنِّي بفِقهك َ فِي دِينِك َ، وَعِلمِك َ وَبمُنازَلاتِك َ فِي أَحْوَالِك َ، لقدْ فتنْتُ بهَذِهِ القِصَّةِ سَبْعِينَ رَجُلا ً».

فقِيْلَ لهُ: كيْفَ عَلِمْتَ أَنهُ الشَّيْطان؟

قالَ: «بقوْلِهِ لِي: حَللتُ لك َ مَا حَرَّمْتُ عَلى غيرِك َ! وَقدْ عَلِمْتُ أَنَّ شَرِيْعَة َ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا تُنْسَخُ، وَلا تبدَّل. وَلأَنهُ قالَ: أَنا رَبُّك َ، وَلمْ يَقدِرْ أَنْ يَقوْلَ: أَنا الله ُ الذِي لا إلهَ إلا َّ أَنا» .

* وَمِنْ هَؤُلاءِ: مَن ِ اعْتَقدَ أَنَّ المرْئِيَّ هُوَ الله ُ! وَصَارَ هُوَ وَأَصْحَابهُ يَعْتَقِدُوْنَ أَنهُمْ يَرَوْنَ الله َ تَعَالىَ فِي اليَقظةِ! وَمُسْتَنَدُهُمْ مَا شَاهَدُوْه!

وَهُمْ صَادِقوْنَ فِيْمَا يُخْبرُوْنَ بهِ، وَلكِنْ لمْ يَعْلمُوْا أَنَّ ذلِك َ هُوَ الشَّيْطان.

ص: 288

* وَهَذَا قدْ وَقعَ كثِيرًا لِطوَائِفَ مِنْ جُهّال ِ العُبّادِ، يَظنُّ أَحَدُهُمْ أَنهُ يَرَى الله َ تَعَالىَ بعَيْنِهِ فِي الدُّنيا! لأَنَّ كثِيرًا مِنْهُمْ رَأَى مَا ظنَّ أَنهُ الله ُ، وَإنمَا هُوَ شَيْطان) (1).

* قالَ: (وَمِنْهُمْ: مَنْ يَرَى أَشْخاصًا فِي اليَقظةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنهُ نبيٌّ! أَوْ صِدِّيقٌ! أَوْ شَيْخٌ مِنَ الصّالحِينَ! وَقدْ جَرَى هَذَا لِغيرِ وَاحِد.

* وَمِنْهُمْ: مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الأَكابرِ: إمّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، أَوْ غيرُهُ، قدْ قصَّ شَعْرَهُ، أَوْ حَلقهُ، أَوْ أَلبسَهُ طاقِيَّتَهُ، أَوْ ثوْبهُ: فيُصْبحُ وَعَلى رَأْسِهِ طاقِيَّة ٌ، وَشَعْرُهُ مَحْلوْقٌ أَوْ مُقصَّرٌ! وَإنمَا الجِنُّ قدْ حَلقوْا شعْرَهُ أَوْ قصَّرُوْه) (2).

* ثمَّ قالَ: (فإني أَعْرِفُ مَنْ تُخَاطِبُهُ النَّبَاتاتُ بمَا فِيْهَا مِنَ المنَافِعِ! وَإنمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطانُ الذِي دَخَلَ فِيْهَا.

* وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُمُ الحجَرُ وَالشَّجَرُ! وَتَقوْلُ: «هَنِيْئًا لك َ يَا وَلِيَّ اللهِ» فيَقرَأُ آية َ الكرْسِيِّ فيَذْهَبُ ذلك.

* وَأَعْرَفُ مَنْ يَقصِدُ صَيْدَ الطيرِ، فتُخاطِبُهُ العَصَافِيرُ وَغيْرُهَا وَتَقوْلُ:«خُذْنِي حَتَّى يَأْكلنِي الفقرَاء» ! وَيَكوْنُ الشَّيْطانُ قدْ دَخَلَ فِيْهَا، كمَا يَدْخُلُ فِي الإنس ِ وَيُخاطِبُهُ بذَلك.

ص: 289

* وَمِنْهُمْ: مَنْ يَكوْنُ فِي البَيْتِ وَهُوَ مُغلقٌ، فيَرَى نفسَهُ خَارِجَهُ وَهُوَ لمْ يُفتَحْ! وَباِلعَكس! وَكذَلِك َ فِي أَبوَابِ المدِينةِ! وَتَكوْنُ الجِنُّ قدْ أَدْخلتهُ وَأَخْرَجَتْهُ بسُرْعة.

* أَوْ تَمُرُّ بهِ أَنوَارٌ! أَوْ تُحْضِرُ عِنْدَهُ مَنْ يَطلبُهُ! وَيَكوْنُ ذلِك َ مِنَ الشَّيَاطِين ِ، يَتَصَوَّرُوْنَ بصُوْرَةِ صَاحِبه. فإذا قرَأَ آية َ الكرْسِيِّ مَرَّة ً بَعْدَ مَرَّةٍ: ذهَبَ ذلِك َ كله.

* وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقوْلُ لهُ: «أَنا مِنْ أَمْرِ اللهِ» ، وَيَعِدُهُ بأَنهُ المهْدِيُّ الذِي بشرَ بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيُظهرُ لهُ الخوَارِق!

مِثْلَ أَنْ يَخْطرَ بقلبهِ تَصَرُّفٌ فِي الطيْرِ وَالجرَادِ فِي الهوَاءِ، فإذا خَطرَ بقلبهِ ذهَابُ الطيرِ أَوِ الجرَادِ يَمِيْنًا أَوْ شَمَالا ً: ذهَبَ حَيْثُ أَرَادَ! وَإذا خَطرَ بقلبهِ قِيَامُ بَعْض ِ الموَاشِي أَوْ نوْمُهُ أَوْ ذهَابهُ: حَصَلَ لهُ مَا أَرَادَ مِنْ غيرِ حَرَكةٍ مِنْهُ فِي الظاهِر!

وَتَحْمِلهُ إلىَ مَكة َ وَتأْتِي بهِ، وَتأْتيْهِ بأَشْخَاص ٍ فِي صُوْرَةٍ جَمِيْلةٍ، وَتَقوْلُ لهُ:«هَذِهِ الملائِكة ُ الكرُوْبيُّوْنَ، أَرَادُوْا زِيارَتك َ» ! فيَقوْلُ فِي نفسِهِ: «كيْفَ تَصَوَّرُوْا بصُوْرَةِ المرْدَان؟!» فيَرْفعُ رَأْسَهُ فيَجِدُهُمْ بلِحَى!

وَيَقوْلُ لهُ: «عَلامَة ُ أَنك َ أَنتَ المهْدِيُّ: أَنك َ تنبتُ فِي جَسَدِك َ شَامَة ٌ» فتنبتُ وَيرَاهَا! وَغيرُ ذلك. وَكلهُ مِنْ مَكرِ الشَّيْطان.

ص: 290

وَهَذَا بابٌ وَاسِعٌ، لوْ ذكرْتُ مَا أَعْرِفهُ مِنْهُ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبير) (1).

* قالَ: (وَلقدْ أَخبرَ بَعْضُ الشُّيُوْخِ الذِينَ كانَ قدْ جَرَى لهمْ مِثْلُ هَذَا بصُوْرَةِ مُكاشَفةٍ وَمُخَاطبَةٍ فقالَ: «يُرُوْنني الجِنُّ شَيْئًا برّاقا مِثْلَ الماءِ وَالزُّجَاج» ، وَيُمَثلوْنَ لهُ فِيْهِ مَا يطلبُ مِنْهُ الإخْبَارُ به!

قالَ: «فأُخبرُ النّاسَ بهِ! وَيُوْصِلوْنَ إليَّ كلامَ مَن ِ اسْتَغَاثَ بي مِنْ أَصْحَابي، فأُجيْبُهُ، فيُوْصِلوْنَ جَوَابي إليْه!

وَكانَ كثِيرٌ مِنَ الشُّيُوْخِ الذِيْنَ حَصَلَ لهمْ كثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الخوَارِق ِ: إذا كذَّبَ بهَا مَنْ لمْ يَعْرِفهَا، وَقالَ:«إنكمْ تَفعَلوْنَ هَذَا بطرِيق ِ الحِيْلةِ، كمَا يُدْخَلُ النّارُ بحجَرِ الطلق ِ، وَقشُوْرِ النّارَنجِ، وَدِهْن ِ الضَّفادِعِ وَغيرِ ذلِك َ مِنَ الحِيَل ِ الطبيْعِيَّة» . فيَعْجَبُ هَؤُلاءِ المشَايخُ، وَيَقوْلوْنَ:«نَحْنُ وَاللهِ لا نعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الحِيَل» .

فلمّا ذكرَ لهمُ الخبيرُ: «إنكمْ لصَادِقوْنَ في ذلِك َ، وَلكِنْ هَذِهِ الأَحْوَالُ شَيْطانِيَّة» : أَقرُّوْا بذَلِك َ، وَتابَ مِنْهُمْ مَنْ تابَ الله ُ عَليْهِ، لمّا تبَيَّنَ لهمُ الحقُّ، وَتبَيَّنَ لهمْ مِنْ وُجُوْهٍ أَنهَا مِنَ الشيْطان.

وَرَأَوْا أَنهَا مِنَ الشَّيَاطِين ِ: لمّا رَأَوْا أَنها تَحْصُلُ بمِثْل ِالبدَعِ المذْمُوْمَةِ فِي الشَّرْعِ، وَعِنْدَ المعَاصِي لله. فلا تَحْصُلُ عِنْدَ مَا يُحِبُّهُ الله ُ

ص: 291

وَرَسُوْلهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ العِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فعَلِمُوْا أَنهَا حِيْنَئِذٍ مِنْ مَخَارِق ِ الشَّيْطان ِ لأَوْلِيَائِهِ، لا مِنْ كرَامَاتِ الرَّحْمَن ِ لأَوْلِيَائِه) (1).

* وَقالَ: (وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغيرِه.

* وَأَعْرِفُ مِنْ ذلِك َ مَا يَطوْلُ وَصْفهُ، فِي قوْمٍ اسْتَغَاثوْا بي أَوْ بغيرِي، وَذكرُوْا أَنهُ أَتى شَخْصٌ عَلى صُوْرَتِي أَوْ صُوْرَةِ غيرِي! وَقضَى حَوَائِجَهُمْ! فظنُّوْا أَنَّ ذلِك َ مِنْ برَكةِ الاسْتِغَاثةِ بي أَوْ بغيرِي! وَإنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَضَلهُمْ وَأَغوَاهُمْ.

وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَاتخاذِ الشُّرَكاءِ مَعَ اللهِ تَعَالىَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّل ِ مِنَ القرُوْن ِ الماضِيَةِ، كمَا ثبَتَ ذلِك َ، فهَذَا أَشْرَك َ باِللهِ نعُوْذُ باِللهِ مِنْ ذلك) (2).

* وَقالَ: (وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يَطِيرُ فِي الهوَاءِ، وَتَكوْنُ الشَّيَاطِينُ قدْ حَمَلتْهُ، وَتَذْهَبُ بهِ إلىَ مَكة َ وَغيرِهَا. وَيَكوْنُ مَعَ ذلِك َ زِندِيقا يَجْحَدُ الصَّلاة َ وَغيرَهَا مِمّا فرَضَ الله ُ وَرَسُوْلهُ صلى الله عليه وسلم، وَيَسْتَحِلُّ المحَارِمَ التي حَرَّمَهَا الله ُ وَرَسُوْلهُ صلى الله عليه وسلم.

وَإنمَا يَقتَرِنُ بهِ أُوْلئِك َ الشَّيَاطِينُ لِمَا فِيْهِ مِنَ الكفرِ وَالفسُوْق ِ وَالعِصْيَان ِ، حَتَّى إذا آمَنَ باِللهِ وَرَسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتابَ وَالتزَمَ

ص: 292

طاعَة َ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فارَقتْهُ تِلك َ الشَّيَاطِينُ، وَذهَبَتْ تِلك َ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ مِنَ الإخْبَارَاتِ وَالتّأْثِيرَات.

وَأَنا أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ عَدَدًا كثِيرًا، باِلشّامِ وَمِصْرَ وَالحِجَازِ وَاليَمَن.

وَأَمّا الجزِيرَة ُ (1)

وَالعِرَاقُ وَخُرَاسَانُ وَالرُّوْمُ: ففِيْهَا مِنْ هَذَا الجِنْس ِ أَكثرُ مِمّا باِلشّامِ وَغيرِهَا. وَبلادُ الكفارِ مِنَ المشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ أَعْظم) (2).

(1) - صَدَقَ رحمه الله ُ، فقدْ كانتِ الجزِيْرَة ُ - إنْ كانَ يَعْني جَزِيرَة َ العَرَبِ - عَامِرَة ً بتِلك َ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ، خَالِيَة ً مِنَ الكرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، تَعُجُّ بهَا البدَعُ وَالضَّلالاتُ وَالشِّرْكِيّاتُ، حَتَّى بَلغَ مِنْ سَفههمْ، وَضَيَاعِ دِينِهمْ، وَضَعْفِ حُلوْمِهمْ وَفسَادِ عُلوْمِهمْ: أَنْ كانوْا يَطلبُوْنَ قضَاءَ كثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِهمْ مِنَ النَّخِيْل ِ وَالأَشْجَارِ وَالأَحْجَار!

فلمّا أَرَادَ الله ُ بأَهْلِهَا خَيرًا - وَهِيَ مَعْقِلُ الإسْلامِ، وَمَأْرِزُ الإيْمَان ِ- أَخْرَجَ لها مِنْ أَبنائِهَا وَعُلمَائِهَا: الشَّيْخَ الإمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الوَهّابِ رحمه الله ُ، فدَعَى النّاسَ إلىَ مَا دَعَتْ إليْهِ رُسُلُ اللهِ عَليْهمْ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ:{أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَقالَ لِقوْمِهِ مَا قالتْهُ الأَنبيَاءُ لأَقوَامِهَا مِنْ قبْلِهِ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .

وَبَقِيَ عَلى ذلِك َ سِنِينَ عَدَدًا، يَلقى فِي سَبيْلِهِ مَا لقِيَهُ أَسْلافهُ أَئِمَّة ُ الهدَى، حِينَ دَعَوْا إلىَ تَوْحِيْدِ اللهِ أَهْلَ الضَّلال ِ وَالرَّدَى. حَتَّى آزَرَهُ الله ُ وَأَيدَهُ باِلإمَامِ مُحَمَّدِ بْن ِ سُعُوْدٍ رَحِمَهُمَا الله ُ فرَفعَ سَيْفهُ عَلى مَنْ تَطاوَلَ حَيْفه. حَتَّى عَمَّ الإيْمَانُ أَرْكانَ البلادِ، وَقمِعَ بهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالزَّيْغِ وَالفسَادِ وَالإفسَادِ، وَعَادَتْ لِلإسْلامِ جِدَّتهُ، وَعَادَ لِحِمَاهُ حُمَاتهُ وَمَنْعَتُه. فخلتِ الجزِيْرَة ُ مِمّا كانَ فِيْهَا مِنْ مَعَالِمِ الإشْرَاك، وَتَعَطلتِ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ مِمّا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ هنا وَهُنَاك، فقرَّتْ بهِ أَعْينُ الموَحِّدِيْنَ، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .

(2)

- «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (1/ 363).

ص: 293

* وَقالَ رحمه الله ُ أَيْضًا: (وَأَصْحَابُ الحلاّجِ لمّا قتِلَ كانَ يَأْتِيْهمْ مَنْ يَقوْلُ: «أَنا الحلاّجُ» ! فيَرَوْنهُ فِي صُوْرَتِهِ عِيَانا!

* وَكذَلِك َ شَيْخٌ بمصْرَ يُقالُ لهُ: «الدُّسُوْقِيُّ» (1) بَعْدَ أَنْ مَاتَ: كانَ يَأْتِي أَصْحَابهُ مِنْ جهَتِهِ رَسَائِلُ وَكتبٌ مَكتُوْبة ٌ! وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابهِ الكِتَابَ الذِي أَرْسَلهُ، فرَأَيتهُ بخط ِّ الجِنِّ! وَقدْ رَأَيتُ خَط َّ الجِنِّ غيرَ مَرَّةٍ، وَفِيْهِ كلامٌ مِنْ كلامِ الجِنّ (2).

وَذاك َ المعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ! وَكانَ يَقوْلُ: «انتقلَ ثمَّ مَات» !

* وَكذَلِك َ شَيْخٌ آخَرُ كانَ باِلمشْرِق ِ، وَكانَ لهُ خَوَارِقُ مِنَ الجِنِّ، وَقِيْلَ: كانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ أَصْحَابهِ فِي صُوْرَتِهِ، فيَعْتَقِدُوْنَ أَنهُ هُو!

* وَهَكذَا الذِيْنَ كانوْا يَعْتَقِدُوْنَ بَقاءَ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، أَوْ بَقاءَ مُحَمَّدِ بْن ِ الحنفِيَّةِ: قدْ كانَ يَأْتِي إلىَ بَعْض ِ أَصْحَابهمْ جِنِّيٌّ فِي صُوْرَتِه!

* وَكذَا مُنْتَظرُ الرّافِضَةِ: قدْ يرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانا، وَيَكوْنُ المرْئِيُّ جِنِّيًّا.

(1) - إبْرَاهِيْمُ بْنُ أَبي المجْدِ بْن ِ قرَيْش ٍ الدُّسُوْقِيّ المِصْرِيّ (633هـ-676هـ)، سَيَأْتِي بيانُ حَالِهِ بمشِيْئَةِ اللهِ فِي فصْل ٍ قادِم (ص323 - 326).

(2)

- ذكرَ جُمْلة ً مِنْ هَذِهِ الرَّسَائِل ِ الشَّيْطانِيَّةِ: الشَّعْرَانِيُّ فِي «طبقاتِهِ» فِي تَرْجَمَةِ الدُّسُوْقِيِّ (1/ 143 - 158)، غيْرَ أَنهُ زَعَمَ أَنهَا رَسَائِلُ كتبَهَا الدُّسُوْقِيُّ إلىَ أَصْحَابهِ بلغاتٍ مُخْتَلِفةٍ! وَزَعَمَ أَنَّ الدُّسُوْقِيَّ يَتَكلمُ باِلسِّرْيَانِيِّ! وَالعَجَمِيِّ! وَالعِبرَانِيِّ! وَالزِّنجِيِّ! وَسَائِرِ لغاتِ الطيرِ وَالوُحُوْش!

ص: 294

فهَذَا بابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كثِيرًا، وَكلمَا كانَ القوْمُ أَجْهَلَ: كانَ عِنْدَهُمْ أَكثرَ، ففِي المشْرِكِينَ أَكثرُ مِمّا فِي النَّصَارَى، وَهُوَ فِي النَّصَارَى، كمَا هُوَ فِي الدّاخِلِينَ فِي الإسْلام) (1).

* وَقالَ رحمه الله ُ: (حَتَّى أَني أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتوْنَ إلىَ الشَّيْخِ نفسِهِ الذِي اسْتَغاثوْا بهِ، وَقدْ رَأَوْهُ أَتاهُمْ فِي الهوَاءِ، فيَذْكرُوْنَ ذلِك َ لهُ، هَؤُلاءِ يَأْتوْنَ إلىَ هَذَا الشَّيْخِ، وَهَؤُلاءِ يَأْتوْنَ إلىَ هَذَا الشَّيْخِ، فتَارَة ً يَكوْنُ الشَّيْخُ نفسُهُ لمْ يَكنْ يَعْلمُ بتِلك َ القضِيَّة!

فإنْ كانَ يُحِبُّ الرّئاسَة َ: سَكتَ! وَأَوْهَمَ أَنهُ نفسَهُ أَتاهُمْ وَأَغاثهُمْ!

وَإنْ كانَ فيْهِ صِدْقٌ مَعَ جَهْل ٍ وَضَلال ٍ: قالَ: هَذَا مَلك ٌ صَوَّرَهُ الله ُ عَلى صُوْرَتِي!

وَجَعَلَ هَذَا مِنْ كرَامَاتِ الصّالحِينَ، وَجَعَلهُ عُمْدَة ً لِمَنْ يَسْتَغِيْثُ باِلصّالحِينَ وَيَتَّخِذُهُمْ أَرْبابا، وَأَنهُمْ إذا اسْتَغاثوْا بهمْ بَعَثَ الله ُ مَلائِكة ً عَلى صُوَرِهِمْ تُغِيْثُ المسْتغِيْثَ بهمْ.

* وَلهِذَا أَعْرِفُ غيرَ وَاحِدٍ مِنَ الشُّيُوْخِ الأَكابرِ، الذِيْنَ فِيْهمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَة ٌ، لمَّا ظنوْا هَذَا مِنْ كرَامَاتِ الصّالحِينَ: صَارَ أَحَدُهُمْ يُوْصِي مُرِيْدِيْهِ يَقوْلُ: «إذا كانتْ لأَحَدِكمْ حَاجَة ٌ: فليسْتَغِثْ

(1) - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (13/ 94 - 95).

ص: 295

بي، وَليَسْتَنْجِدْنِي، وَليَسْتَوْصِني»! وَيَقوْلُ:«أَنا أَفعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كنْتُ أَفعَلُ فِي حَيَاتِي» !

وَهُوَ لا يَعْرِفُ أَنَّ تِلك َ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلى صُوْرَتِهِ لِتضِلهُ، وَتُضِلَّ أَتباعَهُ، فتُحَسِّنُ لهمُ الإشْرَاك َ باِللهِ، وَدُعَاءَ غيرِ اللهِ، وَالاسْتِغاثة َ بغيرِ اللهِ، وَأَنهَا قدْ تُلقِي فِي قلبهِ: أَنا نفعَلُ بَعْدَ مَوْتِك َ بأَصْحَابك َ، مَا كنا نفعَلُ بهمْ فِي حَيَاتِك!

فيَظنُّ هَذَا مِنْ خِطابٍ إلهِيٍّ أُلقِيَ فِي قلبهِ: فيأْمُرُ أَصْحَابهُ بذَلِك.

* وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ: مَنْ كانَ لهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بأَنوَاعِ الخدَمِ، مِثْلُ خِطابِ أَصْحَابهِ المسْتغِيْثِينَ بهِ، وَإعانتِهمْ وَغيرِ ذلك.

فلمّا مَاتَ: صَارُوْا يَأْتوْنَ أَحَدَهُمْ فِي صُوْرَةِ الشَّيْخِ! وَيُشْعِرُوْنهُ أَنهُ لمْ يَمُتْ! وَيُرْسِلوْنَ إلىَ أَصْحَابهِ رَسَائِلَ بخِطاب!

* وَقدْ كانَ يَجْتَمِعُ بي بَعْضُ أَتبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ، وَكانَ فِيْهِ زُهْدٌ وَعِبَادَة ٌ، وَكانَ يُحِبُّني وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ، وَيَظنُّ أَنَّ هَذَا مِنَ الكرَامَاتِ! وَأَنَّ الشَّيْخَ لمْ يَمُتْ! وَذكرَ لِي الكلامَ الذِي أَرْسَلهُ إليْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ! فقرَأَهُ فإذا هُوَ كلامُ الشَّيَاطِينِ بعَيْنِه!

* وَقدْ ذكرَ لِي غيرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفهُمْ: أَنهُمُ اسْتَغاثوْا بي: فرَأَوْنِي فِي الهوَاءِ! وَقدْ أَتَيْتُهُمْ وَخَلصْتُهُمْ مِنْ تِلك َ الشَّدَائِدِ!

ص: 296

مِثْلَ مَنْ أَحَاط َ بهِ النَّصَارَى الأَرْمَنُ لِيَأْخُذُوْه. وَآخَرُ قدْ أَحَاط َ بهِ العَدُوُّ وَمَعَهُ كتبٌ مُلطفاتٌ مِنْ مُنَاصِحِينَ، لوِ اطلعوْا عَلى مَا مَعَهُ لقتلوْهُ، وَنَحْو ذلك!

فذَكرْتُ لهمْ: أَني مَا دَرَيْتُ بمَا جَرَى أَصْلا ً! وَحَلفتُ لهمْ عَلى ذلِك َ حَتَّى لا يَظنُّوْا أَني كتَمْتُ ذلِك َ كمَا تُكتَمُ الكرَامَات.

وَأَنا قدْ عَلِمْتُ أَنَّ الذِي فعَلوْهُ ليْسَ بمَشْرُوْعٍ، بَلْ هُوَ شِرْك ٌ وَبدْعة.

ثمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيْمَا بَعْدُ، وَبَيَّنْتُ لهمْ: أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَتَصَوَّرُ عَلى صُوْرَةِ المسْتَغاثِ به) (1).

* وَقالَ: (وَأَعْرِفُ عَدَدًا كثِيرًا وَقعَ لهمْ فِي عِدَّةِ أَشْخاص ٍ، يَقوْلُ لِي كلٌّ مِنَ الأَشْخاص ِ:«إني لمْ أَعْرِفْ أَنَّ هَذَا اسْتَغاثَ بي!» وَالمسْتغِيْثُ قدْ رَأَى ذلِك َ الذِي هُوَ عَلى صُوْرَةِ هَذَا! وَمَا اعْتقدَ أَنهُ إلا َّ هَذَا!

* وَذكرَ لِي غيرُ وَاحِدٍ: أَنهُمُ اسْتَغاثوْا بي - كلٌّ يَذْكرُ قِصَّة ً غيرَ قِصَّةِ صَاحِبهِ - فأَخْبَرْتُ كلا ًّ مِنْهُمْ: أَني لمْ أُجِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلا عَلِمْتُ باِسْتِغاثتِه!

فقِيْلَ: هَذَا يَكوْنُ مَلكا؟

(1) - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (17/ 458).

ص: 297

فقلتُ: الملك ُ لا يُغِيْثُ المشْرِك َ، إنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِله) (1).

* وَقالَ: (وَنَحْنُ نَعْرِفُ كثِيرًا مِنْ هَؤُلاءِ، فِي زَمَانِنَا وَغيرِ زَمَانِنَا: مِثْلَ شَخْص ٍ هُوَ الآنَ بدِمْشَقَ، كانَ الشَّيْطانُ يَحْمِلهُ مِنْ جَبَل ِ الصّالحِيَّةِ إلىَ قرْيةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ! فيَجِيءُ مِنَ الهوَاءِ إلىَ طاقةِ البَيْتِ الذِي فِيْهِ النّاسُ! فيَدْخُلُ وَهُمْ يرَوْنه!

* وَيَجِيءُ باِلليْل ِ إلىَ بَابِ الصَّغِيرِ، فيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرِفقتُهُ وَهُوَ مِنْ أَفجَرِ النّاس.

* وَآخَرُ كانَ ب «الشُّوَيْكِ» فِي قرْيةٍ يُقالُ لها «الشّاهِدَة» ، يَطِيرُ فِي الهوَاءِ إلىَ رَأْس ِ الجبل ِ! وَالنّاسُ يرَوْنهُ، وَكانَ شَيْطانٌ يَحْمِلهُ، وَكانَ يَقطعُ الطرِيْق) (2).

* قالَ: (وَشَيْخٌ آخَرُ أَخبرَ عَنْ نفسِهِ: أَنهُ كانَ يَزْنِي باِلنِّسَاءِ، وَيَتَلوَّط ُ باِلصِّبيَان ِ الذِيْنَ يُقالُ لهمْ «الحوّارَات». وَكانَ يَقوْلُ:«يَأْتِيْني كلبٌ أَسْوَدُ، بَينَ عَيْنَيْهِ نُكتتَان ِ بَيْضَاوَان ِ، فيَقوْلُ لِي: فلانٌ! إنَّ فلانا نذَرَ لك َ نذْرًا، وَغدًا يَأْتِيْك َ بهِ، وَأَنا قضَيْتُ حَاجتهُ لأَجْلِك» .

فيُصْبحُ ذلِك َ الشَّخْصُ يَأْتِيْهِ بذَلِك َ النذْرِ! وَيُكاشِفهُ هَذَا الشَّيْخُ الكافِر.

(1) - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (19/ 47 - 48).

(2)

- «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (35/ 112).

ص: 298

قالَ: «وَكنْتُ إذا طلِبَ مِنِّي تَغْييرُ مِثْل ِ اللاذَن ِ أَقوْلُ حَتَّى أَغيْبَ عَنْ عَقلِي، وَإذْ باِللاذَن ِ فِي يَدِي، أَوْ فِي فمِي، وَأَنا لا أَدْرِي مَنْ وَضَعَه» !

قالَ: «وَكنْتُ أَمْشِي وَبَينَ يدَيَّ عَمُوْدٌ أَسْوَدُ عَليْهِ نوْر» !

فلمّا تابَ هَذَا الشَّيْخُ، وَصَارَ يُصَلي، وَيَصُوْمُ، وَيَجْتنِبُ المحارِمَ: ذهَبَ الكلبُ الأَسْوَدُ! وَذهَبَ التَّغْييرُ! فلا يُؤْتى بلاذَن ٍ، وَلا غيرِه.

* وَشَيْخٌ آخَرُ كانَ لهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلهُمْ يَصْرَعُوْنَ بَعْضَ النّاس ِ، فيَأْتِي أَهْلُ ذلِك َ المصْرُوْعِ إلىَ الشَّيْخِ يَطلبوْنَ مِنْهُ إبرَاءَهُ، فيُرْسِلُ إلىَ أَتباعِهِ: فيفارِقوْنَ ذلِك َ المصْرُوْعَ، وَيُعْطوْنَ ذلِك َ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كثِيرَة!

وَكانَ أَحْيَانا تأْتيْهِ الجِنُّ بدَرَاهِمَ وَطعَامٍ تَسْرِقهُ مِنَ النّاس.

حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النّاس ِ كانَ لهُ تينٌ فِي كوّارَةٍ، فيَطلبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِيْنِهِ تِيْنًا، فيُحْضِرُوْنهُ لهُ، فيَطلبُ أَصْحَابُ الكوّارَةِ التِّينَ، فوَجَدُوْهُ قدْ ذهَبَ!

* وَآخَرُ كانَ مُشْتَغِلا ً باِلعِلمِ وَالقِرَاءَةِ: فجَاءَتهُ الشَّيَاطِينُ أَغرَتهُ وَقالوْا لهُ: «نَحْنُ نُسْقِط ُ عَنْك َ الصَّلاة َ، وَنُحْضِرُ لك َ مَا ترِيد» !

فكانوْا يَأْتوْنهُ باِلحلوَى وَالفاكِهَةِ، حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْض ِ الشُّيُوْخِ العَارِفِينَ باِلسُّنَّةِ: فاسْتتَابَهُ، وَأَعْطى أَهْلَ الحلاوَةِ ثمَنَ حَلاوَتِهمُ التي أَكلهَا ذلِك َ المفتوْنُ باِلشَّيْطان.

ص: 299

فكلُّ مَنْ خَرَجَ عَن ِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكانَ لهُ حَالٌ: مِنْ مُكاشَفةٍ، أَوْ تَأْثِيرٍ، فإنهُ صَاحِبُ حَال ٍ نفسَانِيٍّ، أَوْ شَيْطانِيّ.

وَإنْ لمْ يَكنْ لهُ حَالٌ، بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بأَصْحَابِ الأَحْوَال ِ: فهُوَ صَاحِبُ حَال ٍ بُهْتَانِيّ.

وَعَامَّة ُ أَصْحَابِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ: يَجْمَعُوْنَ بَينَ الحال ِ الشَّيْطانِيِّ، وَالحال ِ البُهْتَانِيِّ، كمَا قالَ تَعَالىَ:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ) (1).

* وَقالَ: (وَلهِذَا مَن ِ اعْتَمَدَ عَلى مُكاشَفتِهِ التي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الجِنِّ: كانَ كذِبهُ أَكثرَ مِنْ صِدْقِه.

* كشَيْخٍ كانَ يُقالُ لهُ: «الشيّاحُ» - توَّبْنَاهُ وَجَدَّدْنا إسْلامَهُ - كانَ لهُ قرِيْنٌ مِنَ الجِنِّ يُقالُ لهُ: «عَنْتَرُ» ، يُخْبرُه ُبأَشْيَاءَ، فيَصْدُقُ تارَة ً، وَيَكذِبُ تارَة.

فلمّا ذكرْتُ لهُ: أَنك َ تَعْبُدُ شَيْطانا مِنْ دُوْن ِ اللهِ: اعْتَرَفَ بأَنهُ يَقوْلُ لهُ: «يَا عَنْتَرُ لا سُبْحَانك َ! إنك َ إلهٌ قذِر» وَتابَ مِنْ ذلِك َ فِي قِصَّةٍ مَشْهُوْرَة.

* وَقدْ قتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قتَلَ مِنْ هَؤُلاءِ: مِثْلَ الشَّخْص ِ الذِي قتلناهُ سَنَة َ خَمْسَ عَشْرَة َ (715هـ)، وَكانَ لهُ قرِينٌ يأْتِيْهِ

(1) - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (35/ 113 - 114).

ص: 300

وَيُكاشِفهُ، فيَصْدُقُ تارَة ً، وَيَكذِبُ تارَة.

وَقدِ انقادَ لهُ طائِفة ٌ مِنَ المنْسُوْبينَ إلىَ أَهْل ِ العِلمِ وَالرّئاسَةِ: فيُكاشِفهُمْ حَتَّى كشفهُ الله ُ لهمْ.

وَذلِك َ أَنَّ القرِيْنَ كانَ تارَة ً يَقوْلُ لهُ: «أَنا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَيَذْكرُ أَشْيَاءَ تنَافِي حَالَ الرَّسُوْل ِ صلى الله عليه وسلم، فشُهدَ عَليْهِ أَنهُ قالَ:«إنَّ الرَّسُوْلَ صلى الله عليه وسلم يَأْتِيْني، وَيَقوْلُ لِي: كذَا وَكذَا» ! مِنَ الأُمُوْرِ التي يَكفرُ مَنْ أَضَافهَا إلىَ الرَّسُوْل ِ صلى الله عليه وسلم.

فذَكرْتُ لِوُلاةِ الأُمُوْرِ: أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْس ِ الكهّان ِ، وَأَنَّ الذِي يرَاهُ شَيْطانا، وَلهِذَا لا يَأْتِيْهِ فِي الصُّوْرَةِ المعْرُوْفةِ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم! بَلْ يَأْتِيْهِ فِي صُوْرَةٍ مُنْكرَةٍ! وَيَذْكرُ عَنْهُ أَنهُ يَخْضَعُ لهُ! وَيُبيْحُ لهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ المسْكِرَ! وَأُمُوْرًا أُخْرَى.

وَكانَ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ يَظنُّوْنَ أَنهُ كاذِبٌ فِيْمَا يخْبرُ بهِ مِنَ الرُّؤْيةِ، وَلمْ يَكنْ كاذِبًا فِي أَنهُ رَأَى تِلك َ الصُّوْرَة َ، لكِنْ كانَ كافِرًا فِي اعْتِقادِهِ أَنَّ ذلِك َ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِثْلُ هَذَا كثِير.

وَلهِذَا يَحْصُلُ لهمْ تَنَزُّلاتٌ شَيْطانِيَّة ٌ، بحسَبِ مَا فعَلوْهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطان. فكلمَا بَعُدُوْا عَن ِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَطرِيْق ِ المؤْمِنِينَ: قرُبوْا مِنَ الشَّيْطان ِ، فيَطِيرُوْنَ فِي الهوَاءِ! وَالشَّيْطانُ طارَ بهمْ.

* وَمِنْهُمْ: مَنْ يَصْرَعُ الحاضِرِيْنَ، وَشَيَاطِيْنُهُ صَرَعَتْهُمْ.

ص: 301

* وَمِنْهُمْ: مَنْ يُحْضِرُ طعَامًا وَإدَامًا، وَمَلأَ الإبْرِيْقَ مَاءً مِنَ الهوَاءِ! وَالشَّيَاطِينُ فعَلتْ ذلك.

فيَحْسَبُ الجاهِلوْنَ أَنَّ هَذِهِ كرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ المتقِينَ! وَإنمَا هِيَ مِنْ جِنْس ِ أَحْوَال ِ السَّحَرَةِ وَالكهَنةِ وَأَمْثالهِمْ.

وَمَنْ لمْ يُمَيِّزْ بَينَ الأَحْوَال ِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالنَّفسَانِيَّةِ: اشْتبَهَ عَليْهِ الحقُّ باِلباطِل.

وَمَنْ لمْ يُنَوِّرِ الله ُ قلبهُ بحقائِق ِ الإيْمَان ِ، وَاتباعِ القرْآن ِ: لمْ يَعْرِفْ طرِيْقَ المحِقِّ مِنَ المبْطِل ِ، وَالتبَسَ عَليْهِ الأَمْرُ وَالحالُ، كمَا التبَسَ عَلى النّاس ِ حَالُ مُسَيْلِمَة َ صَاحِبِ اليَمَامَةِ، وَغيرِهِ مِنَ الكذّابينَ فِي زَعْمِهمْ أَنهُمْ أَنبيَاء! وَإنمَا هُمْ كذّابوْنَ، وَقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم:«لا تَقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى يَكوْنَ فِيْكمْ ثلاثوْنَ دَجّالوْنَ كذّابوْنَ، كلهُمْ يَزْعُمُ أَنهُ رَسُوْلُ الله» (1)) (2) اه.

(1) - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 457) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» (4333) مِنْ حَدِيْثِ العَلاءِ بن ِ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِم.

(2)

- «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى» (35/ 116 - 118).

ص: 302

فصل وَذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ-كمَا فِي «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (1/ 168 - 171) - أُمُوْرًا عِدَّة ً مِمّا تُزِيْلُ تِلك َ الأَحْوَالَ وَتَكشِفُ حَقِيْقتَهَا، وَتظهرُ زَيفهَا:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقرَأَ آية َ الكرْسِيِّ بصِدْق ٍ، فإذا قرَأَهَا تَغيَّبَ ذلِك َ الشَّخْصُ، أَوْ سَاخَ فِي الأَرْض ِ، أَوِ احْتَجَب.

وَلوْ كانَ رَجُلا ً صَالِحًا أَوْ ملكا أَوْ جِنيا مُؤْمِنًا: لمْ تَضُرَّهُ آية ُ الكرْسِيِّ، وَإنمَا تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ، كمَا ثبَتَ فِي «الصَّحِيْحِ» [خ (3275)، (5010)] مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ لمّا قالَ لهُ الجِنِّيُّ: «اقرَأْ آية َ الكرْسِيِّ إذا أَوَيتَ إلىَ فِرَاشِك َ، فإنهُ لا يزَالُ عَليْك َ مِنَ اللهِ حَافِظ ٌ، وَلا يَقرَبك َ شَيْطانٌ حَتَّى تُصْبحَ» .

فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقك َ وَهُوَ كذُوْب» .

وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَعِيْذَ باِللهِ مِنَ الشَّيَاطِين.

وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَعِيْذَ باِلعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ، فإنَّ الشَّيَاطِينَ كانتْ تَعْرِضُ لِلأَنبيَاءِ فِي حَيَاتِهمْ، وَترِيدُ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ، وَتفسِدُ عِبَادَتهُمْ، كمَا جَاءَتِ الجِنُّ إلىَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشُعْلةٍ مِنَ النّارِ ترِيدُ أَنْ تُحْرِقهُ، فأَتاهُ جِبرِيْلُ باِلعَوْذةِ المعْرُوْفةِ التي تَضَمَّنَهَا الحدِيْثُ المرْوِيُّ عَنْ أَبي التَّيّاحِ أَنهُ قالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَن ِ بْنَ خنْبَش ٍ- وَكانَ شَيْخا كبيرًا قدْ أَدْرَك َ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: كيْفَ صَنَعَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كادَتهُ الشَّيَاطِين؟

ص: 303

قالَ: تَحَدَّرَتْ عَليْهِ مِنَ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيةِ، وَفِيْهمْ شَيْطانٌ مَعَهُ شُعْلة ٌ مِنْ نارٍ يُرِيْدُ أَنْ يُحْرِقَ بهَا رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

قالَ: فرُعِبَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَتاهُ جِبرِيْلُ عليه السلام فقالَ:«يَا مُحَمَّدُ قلْ!»

قالَ: «مَا أَقوْلُ؟»

قالَ: «قلْ أَعُوْذُ بكلِمَاتِ اللهِ التّامّاتِ، التي لا يجَاوِزُهُنَّ برٌّ وَلا فاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلقَ وَذرَأَ وَبرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيْهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَرْض ِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ فِيْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَن ِ الليْل ِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كلِّ طارِق ٍ يَطرُقُ إلا َّ طارِقا يَطرُقُ بخيْرٍ يَا رَحْمَن» .

قالَ: «فطفِئَتْ نارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ الله ُ عز وجل» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِه» (3/ 419).

وَفِي «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» (542): عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنهُ قالَ: قامَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلي، فسَمِعْنَاهُ يَقوْلُ:«أَعُوْذُ باِللهِ مِنْك» .

ثمَّ قالَ: «أَلعَنك َ بلعْنَةِ اللهِ» ثلاثا، وَبسَط َ يدَهُ كأَنهُ يتنَاوَلُ شَيْئًا.

فلمّا فرَغَ مِنْ صَلاتِهِ قلنا: يَا رَسُوْلَ اللهِ! سَمِعْنَاك َ تَقوْلُ شَيْئًا فِي الصَّلاةِ، لمْ نسْمعْك َ تقوْلهُ قبْلَ ذلِك َ، وَرَأَيناك َ بسَطتَ يدَك؟

ص: 304

قالَ: «إنَّ عَدُوَّ اللهِ إبْلِيْسَ، جَاءَ بشِهَابٍ مِنْ نارٍ لِيجْعَلهُ فِي وَجْهي، فقلتُ: أَعُوْذُ باِللهِ مِنْك َ ثلاثَ مَرّاتٍ، ثمَّ قلتُ: أَلعنك َ بلعْنَةِ اللهِ التّامَّةِ، فاسْتَأْخَر.

ثمَّ أَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ، وَلوْلا دَعْوَة ُ أَخِيْنَا سُليْمَانَ، لأَصْبَحَ مُوْثقا يَلعَبُ بهِ وُلدَانُ المدِيْنَة».

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ (1/ 171) بَعْدَهُ: (فإذا كانتِ الشَّيَاطِينُ تَأْتِي الأَنبيَاءَ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ لِتُؤْذِيهُمْ، وَتفسِدَ عِبَادَتهُمْ، فيَدْفعُهُمُ الله ُ تَعَالىَ بمَا يُؤَيدُ بهِ الأَنبيَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكرِ وَالعِبَادَةِ وَمِنَ الجِهَادِ باِليدِ، فكيْفَ مَنْ هُوَ دُوْنَ الأَنبيَاء؟!

فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قمَعَ شَيَاطِينَ الإنس ِ وَالجِنِّ، بمَا أَيدَهُ الله ُ تَعَالىَ مِنْ أَنوَاعِ العُلوْمِ وَالأَعْمَال ِ، وَمِنْ أَعْظمِهَا الصَّلاة ُ وَالجِهَاد.

وَأَكثرُ أَحَادِيْثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاةِ وَالجِهَادِ، فمَنْ كانَ مُتبعًا لِلأَنبيَاءِ: نصَرَهُ الله ُ سُبْحَانهُ بمَا نصَرَ بهِ الأَنبيَاء.

وَأَمّا مَن ِ ابتدَعَ دِينا لمْ يَشْرَعُوْهُ: فتَرَك َ مَا أَمَرُوْا بهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْك َ لهُ، وَاتباعِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِيْمَا شَرَعَهُ لأُمَّتِهِ، وَابتَدَعَ الغلوَّ فِي الأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ وَالشِّرْك َ بهمْ: فإنَّ هَذَا تتلعَّبُ بهِ الشَّيَاطِينُ، قالَ تَعَالىَ:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} .

ص: 305

وَقالَ تَعَالىَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ} ) اه كلامُهُ رحمه الله.

وَمِنْهَا: أَنْ يَدْعُوَ الرّائِي بذَلِك َ رَبهُ تبَارَك َ وَتَعَالىَ لِيبيِّنَ لهُ الحال.

وَمِنْهَا: أَنْ يَقوْلَ لِذَلِك َ الشَّخْص ِ: «أَأَنتَ فلانٌ؟» وَيُقسِمَ عَليْهِ باِلأَقسَامِ المعظمَةِ، وَيَقرَأَ عَليْهِ قوَارِعَ القرْآن ِ، إلىَ غيرِ ذلِك َ مِنَ الأَسْبَابِ التي تَضُرُّ الشَّيَاطِين.

وَسَبَبُ حُدُوْثِ هَذِهِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ فِي كلِّ بلدٍ: انتِشَارُ الكفرِ وَالجهْل ِ وَالمعَاصِي وَالبدَع.

وَسببُ اندِثارِهَا وَزَوَالهِا: ظهُوْرُ الإسْلامِ وَالإيمَان، وَانتِشَارُ السُّنَّة.

ص: 306

فصل في بيان ِأَنَّ كثِيْرًا مِنْ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ المسْتغاثِ بهمْ

زَنادِقة ٌ أَوْ ضُلالٌ مُبْتَدِعَة ٌ! بَلْ مِنْهُمْ يَهُوْدُ وَنَصَارَى وَبَاطِنِيَّة ٌ وَرَوَافِضُ، وَأَنَّ كثِيْرًا مِنْ قبوْرِهِمْ مُخْتَلقٌ لا صِحَّة َ له!

قدِ اسْتَغلَّ كثِيْرٌ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنيا، ضَلالَ كثِيْرٍ مِنَ النّاس ِ، وَلجوْءَهمْ إلىَ القبوْرِ اسْتِغاثة ً، وَدُعَاءًا وَذبْحًا: فأَقامُوْا مَشَاهِدَ، وَبنوْا قببًا لِصَالحِينَ مَزْعُوْمِينَ مُخْتَلقِينَ، لِيأْكلوْا أَمْوَالَ النّاس ِ باِلباطِل.

قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رحمه الله ُ في «رَدِّه عَلى البَكرِيّ» (2/ 586): (فالسَّدَنة ُ الذِيْنَ عِنْدَ القبوْرِ وَنَحْوِهِمْ: غرَضُهُمْ يَأْكلوْنَ أَمْوَالَ النّاس ِ بهمْ. وَأَتبَاعُهُمْ غرَضُهُمْ: تَعْظِيْمُ أَنفسِهمْ عِنْدَ النّاس ِ، وَأَخْذُ أَمْوَالهِمْ لهمْ).

ثمَّ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ: أَنَّ كثِيْرًا مِنَ النّاس ِ، كانوا يَذْهَبُوْنَ يَدْعُوْنَ عِنْدَ قبوْرِ العُبيْدِيِّينَ، يَظنُّوْنَ أَنهُمْ أَوْلِيَاءُ صَالحوْنَ، مَعَ أَنهُمْ مُنَافِقوْنَ زَنادِقة ٌ ظاهِرُوْ الكفرِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كثِيْر.

ثمَّ قالَ رحمه الله ُ (2/ 590 - 591): (وَالمقصُوْدُ: أَنَّ كثِيْرًا مِنَ النّاس ِ، يُعَظمُ قبْرَ مَنْ يَكوْنُ في البَاطِن ِ كافِرًا أَوْ مُنَافِقا! وَيَكوْنُ هَذَا عِنْدَهُ وَالرَّسُوْلُ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنْس ٍ وَاحِد.

ص: 307

لاعْتِقادِهِ: أَنَّ الميِّتَ يَقضِي حَاجتهُ إذا كانَ رَجُلا ً صَالحا! وَكِلا هَذَيْن ِ عِنْدَهُ مِنْ جِنْس ِ مَنْ يَسْتَغِيْثُ به.

وَكمْ مِنْ مَشْهَدٍ يُعَظمُهُ النّاسُ، وَهُوَ كذِب.

بَلْ يُقالُ: «إنهُ قبْرُ كافِرٍ» ! كالمشْهَدِ الذِي بسَفحِ جَبَل ِ لبنَانَ، الذِي يُقالُ:«إنهُ قبْرُ نوْحٍ» ! فإنَّ أَهْلَ المعْرِفةِ يَقوْلوْنَ: «إنهُ قبْرُ بَعْض ِ العَمَالِقة» .

وَكذَلِك َ مَشْهَدُ الحسَيْن ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، الذِي باِلقاهِرَةِ، وَقبْرُ أُبيٍّ الذِي في دِمَشْقَ: اتفقَ العُلمَاءُ عَلى أَنهُ كذِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: «هُمَا قبْرَان ِ لِنَصْرَانِيَّين.

وَكثِيْرٌ مِنَ المشَاهِدِ مُتنَازَعٌ فِيْهَا، وَعِنْدَهَا شَيَاطِينُ تُضِلُّ بسَببهَا مَنْ تُضِلّ).

ثمَّ قالَ (2/ 593): (فالذِي يَجْرِي عِنْدَ المشَاهِدِ مِنْ جِنْس ِ مَا يَجْرِي عِنْدَ الأَصْنَامِ. وَكثيْرٌ مِنَ المشاهِدِ كذِبٌ، وَكثِيْرٌ مِنْهَا مَشْكوْك ٌ فِيْه.

وَسَببُ ذلِك َ: أَنَّ مَعْرِفة َ المشَاهِدِ ليْسَتْ مِنَ الدِّيْن ِ الذِي تَكفلَ الله ُ بحِفظِهِ لِلأُمَّةِ، لِعَدَمِ حَاجَتِهمْ إلىَ مَعْرِفةِ ذلك) اه كلامُه.

وَمَا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ حَقٌّ، وَالقبوْرُ المختلقة ُ كثِيْرَة ٌ جِدًّا.

وَدَوَافِعُ أَصْحَابهَا وَمُنْشِئِيْهَا مُتبَاينة ٌ، بَينَ إرَادَةِ إضْلال ِ النّاس ِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ المسْتقِيْمِ، وَبَينَ حُبٍّ وَطمَعٍ في الدُّنيَا، وَنهْبٍ لِمَا في أَيدِي النّاس.

ص: 308

وَقدْ ذكرَ ابْنُ الجوْزِيِّ في تَارِيْخِهِ «المنتظم» (18/ 8 - 9) في حَوَادِثِ سَنةِ (535هـ): أَنَّ رَجُلا ً دَخَلَ بَغْدَادَ، وَأَظهَرَ الزُّهْدَ وَالتَّنَسُّك َ، فقصَدَهُ النّاسُ مِنْ كلِّ جَانِب.

ثمَّ إنَّ رَجُلا ً- مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ - مَاتَ لهُ صَبيٌّ فدَفنهُ، فعلِمَ بهِ هَذَا المتزَهِّدُ: فمَضَى إلىَ قبْرِ ذلِك َ الصَّبيِّ، فنبشَهُ، وَأَخْرَجَ الصَّبيَّ، ثمَّ دَفنهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ لحاجَةٍ في نفسِه!

ثمَّ قالَ لِلنَّاس ِ في بَعْض ِ الأَيامِ: «اعْلمُوْا أَني قدْ رَأَيتُ عُمَرَ بْنَ الخطابِ في المنامِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ، فسَلمْتُ عَليْهمَا وَسَلمُوْا عَليَّ، وَقالا لِيَ: إنَّ في هَذَا الموْضِعِ صَبيًّا مِنْ أَوْلادِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ عَلِيّ بن ِ أَبي طالِبٍ، وَخطا لِيَ المكان)، ثمَّ أَشَارَ المتزَهِّدُ إلىَ ذلِك َ الموْضِع.

فحَفرُوْا في ذلِك َ المكان ِ، فرَأَوْا الصَّبيَّ - وَهُوَ أَمْرَدُ - فازْدَحَمُوْا عَليْهِ، وَانْصَرَفوْا إليْهِ، فمَنْ وَصَلَ إلىَ قِطعَةٍ مِنْ أَكفانِهِ فكأَنهُ حَازَ الدُّنيَا!

حَتَّى خَرَجَ أَرْبابُ الدَّوْلةِ وَأَهْلُ بَغْدَادَ! وَانقلبَتِ البلدُ! وَوَضَعُوْا عِنْدَ قبْرِهِ دَسَاتِيْجَ مَاءِ الوَرْدِ وَالبخوْر!

وَأَخَذَ جُهّالُ النّاس ِ التُّرَابَ لِلتَّبَرُّكِ! وَازْدَحَمَ النّاسُ عَلى القبْرِ، حَتَّى لمْ يَصِلَ إليْهِ أَحَدٌ مِنْ كثْرَةِ الزِّحَام!

وَجَعَلَ النّاسُ يُقبِّلوْنَ يَدَ ذلِك َ المتزَهِّدِ - وَهُوَ يُظهرُ التَّمنعَ وَالبُكاءَ وَالخشُوْع! - وَالنّاسُ تَارَة ً يَزْدَحِمُوْنَ عَليْهِ، وَتَارَة ً يَزْدَحِمُوْنَ عَلى الميِّت!

ص: 309

وَبَقِيَ النّاسُ عَلى هَذَا أَياما، وَالميِّتُ مَكشُوْفٌ يُبْصِرُهُ النّاسُ، حَتَّى ظهَرَ نتنُ رَائِحَتِه.

وَجَاءَ جَمَاعَة ٌ مِنْ أَذكِيَاءِ بَغْدَادَ، فتفقدُوْا كفنهُ فوَجَدُوْهُ خَامًا! وَوَجَدُوْا تَحْتَهُ حَصِيرًا جَدِيْدًا! فقالوْا: «هَذَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَكوْنَ عَلى هَذِهِ الصِّفةِ، مُنْذُ أَرْبَعِ مِئَةِ سَنة!

فمَا زَالوْا يُنقبوْنَ عَنْ ذلِك َ حَتَّى جَاءَ وَالِدُ الصَّبيِّ فأَبصَرَ ابنهُ، فقالَ لِلنّاس ِ:«هَذَا وَاللهِ وَلدِي، وَكنْتُ دَفنْتُهُ عِنْدَ السّبْتيّ» .

فمَضَى مَعَهُ قوْمٌ إلىَ المكان ِ، فرَأَوْا القبْرَ قدْ نبشَ، وَليْسَ فِيْهِ مَيِّت!

فلمّا سَمِعَ المتزَهِّدُ ذلِك َ: هَرَبَ، فطلبُوْهُ وَظفِرُوْا بهِ، فقرَّرُوْهُ فأَقرَّ أَنهُ فعَلَ ذلِك َ حِيْلة! فأُخِذَ وَأُرْكِبَ حِمَارًا، وَشُهِّرَ به.

وَهَذَا حَالُ قبوْرٍ كثيْرَةٍ، ليْسَ فِيْهَا أَحَدٌ، أَوْ فِيْهَا ضَالٌّ، أَوْ كافِرٌ، أَوْ غيْرُ ذلِك َ، فإنْ كشِفَ حَالُ قبْرٍ مِنْهَا: فقدْ بَقِيَتِ الأُخْرَى.

وَهَذَا حَالُ كثِيْرٍ مِنْ قبوْرِ الأَوْلِيَاءِ المزْعُوْمِينَ في مِصْرَ وَغيْرِهَا، أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكرِ حَال ِ كثِيرٍ مِنْهَا، لِعَدَمِ تَعَلق ِ حُكمٍ بهَا أَصْلا ً، سَوَاءٌ ثبتَ أَنَّ مَنْ فِيْهَا وَلِيٌّ صَالِحٌ، أَوْ فاسِقٌ طالِح.

وَمَنْ صَرَفَ لِمَيِّتٍ شَيْئًا مِنَ العِبَادَةِ، سَوَاءٌ كانَ الميِّتُ نبيًّا، أَوْ وَلِيًّا أَوْ دُوْنَ ذلِك َ: كانَ مُشْرِكا كافِرًا، كمَا تقدَّمَ تقرِيرُهُ، فكيْفَ إذا كانَ القبرُ قبْرَ يهُوْدِيٍّ أَوْ نصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوْسِيّ؟!

ص: 310

فصل في بيان ِ حَال ِ أَحْمَدَ البدَوِيِّ صَاحِبِ القبرِ المشْهُوْرِ ب «طنْطا»

(596هـ-675هـ)

وَمِنْ قبوْرِ المبْطِلِينَ، التي شُغِفَ بهَا الضّالوْنَ المنْحَرِفوْنَ: قبْرُ أَحْمَدِ بْن ِ عَلِيّ بْن ِ إبْرَاهِيْمَ البدَوِيّ.

فإنهُ نشأَ فاسِدًا ذا أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ، وَمَخارِيْقَ إبْلِيْسِيَّة.

وَكانَ قبْلَ ذلِك َ قدْ حَفِظ َ القرْآنَ، وَاشْتَغلَ باِلعِلمِ مُدَّة ً عَلى مَذْهَبِ الإمَامِ الشّافِعِيّ. فلمّا اجْتَالتْهُ الشَّيَاطِينُ وَمَسَّتْهُ - في حَال ٍ يُسَمِّيْهَا المتصَوِّفة ُ «حَادِثَ الوَلهِ» -: ترَك َ ذلِك َ كلهُ! وَانسَلخَ مِنْه.

وَكانَ لا يُصَلي! وَإذا لبسَ ثوْبًا أَوْ عِمَامَة ً لمْ يَخْلعْهَا لِغُسْل ٍ وَلا لِغيْرِهِ حَتَّى تَذُوْبَ قذَرًا! فيُبْدِلوْنهَا لهُ بغيرِهَا، فلا صَلاة َ تَحْمِلهُ عَلى غسْل ٍ، وَلا وُضُوْءٍ، وَلا مُرُوْءَة َ نفس. وَقدْ ناصَحَهُ بَعْضُ أَهْل ِ العِلمِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ في تَرْكِهِ لِلصَّلاةِ: فلمْ يَسْتَجِبْ وَلمْ يُصَلِّ! أَبعَدَهُ الله.

وَكانَ فاسِيَّ الأَصْل ِ، رَحَلَ بهِ أَبوْهُ إلىَ مَكة َ، ثمَّ سَافرَ هُوَ إلىَ العِرَاق ِ، وَزَارَ بهَا قبْرَ عَدِيِّ بْن ِ مُسَافِرٍ، وَقبْرَ الزِّندِيق ِ المقتوْل ِ عَليْهَا الحلاجِ، ثمَّ زَارَ مِصْرَ، وَدَخَلَ «طنْطا» ، وَبَقِيَ فِيْهَا حَتَّى هَلك.

ص: 311

وَلقِيَ في سَفرِهِ إلىَ مِصْرَ سَاحِرَة ً كبيرَة ً، قدْ أَعْجَزَتْ غيرَهَا مِنَ السَّحَرَةِ، فغلبَهَا البدَوِيُّ بشَيَاطِيْنِهِ وَأَحْوَالِه!

فزَعَمَ المتصَوِّفة ُ-لمّا رَأَوْا ذلِك َ-: أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا أَحْوَالٌ وَكرَامَاتٌ، وَمَا هِيَ إلا َّ مَا عَرَفتَ.

فلمّا بَلغَ «طنْطا» : دَخَلَ مُسْرِعًا دَارَ رَجُل ٍ مِنْ مَشَايخِ المتصَوِّفةِ، يُسَمَّى «ابْنَ شُحَيْطٍ» ، فصَعدَ البدَوِيُّ إلىَ سَطحِ غرْفتِهِ، وَبقِيَ فِيْهِ طوْلَ نهَارِهِ وَليْلِهِ، قائِمًا شَاخِصًا ببَصَرِهِ إلىَ السَّمَاءِ! وَقدِ انقلبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بحمْرَةٍ تتوَقدُ كالجمْر!

وَكانَ يَمْكثُ الأَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَكثرَ لا يَأْكلُ! وَلا يَشْرَبُ! وَلا ينامُ! ثمَّ ينزِلُ لحِاجَةٍ ثمَّ يعوْدُ إلىَ مَكانِهِ عَلى حَالِهِ السّابق ِ، وَبقِيَ عَلى ذلِك َ اثنتيْ عَشْرَة َ سَنة!

وَكانَ يَزْعُمُ البدَوِيُّ: أَنَّ مِنْ كرَامَاتِهِ: أَنَّ ثوْرًا كادَ يَقتلُ رَضِيْعًا بمصْرَ، فمَدَّ البدَوِيُّ يدَهُ إليْهِ - وَكانَ حِيْنَذَاك َ باِلعِرَاق ِ- إلىَ مِصْرَ، فنجَّاهُ وَأَبْعَدَ الثوْرَ عَنْه!

وَكانَ البدَوِيُّ يتلثمُ بلِثامَين ِ، لا يُرَى مِنْ وَجْههِ شَيْءٌ سِوَى عَيْنيْهِ! فطلبَ مِنْهُ أَحَدُ مُرِيدِيهِ أَنْ يَنْظرَ إلىَ وَجْههِ دُوْنَ لِثامٍ، لِيَرَى وَجْهَه.

فقالَ لهُ البدَوِيُّ: «كلُّ نظرَةٍ برَجُل» ٍ!

فقالَ المرِيدُ المرِيدُ: «يَا سَيِّدِي أَرِنِي وَجْهَك َ وَلوْ مِتّ» .

ص: 312

فكشَفَ البدَوِيُّ لهُ اللثامَ العُلوِيَّ، فبدَا لهُ بَعْضُ وَجْههِ، فصَعِقَ مُرِيدُهُ وَمَاتَ مِنْ فوْرِه! كذَا زَعَمَ الشَّعْرَانِيُّ في «طبقاتِهِ الكبْرَى» (1/ 160).

وَمَا ذاك َ إلا َّ لِقبْحِ وَجْههِ، وَتمَثل ِ الشياطِين ِ بهِ، وَإلا َّ فليْسَ في ذلِك َ مَفخَرَة ٌ وَلا مَنْقبَة ٌ، وَليْسَ أَحَدٌ أَكرَمَ عَلى اللهِ وَلا أَحَبَّ إليْهِ مِنْ نبيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، خلِيْلِهِ وَصَفيِّهِ،

وَخِيْرَتِهِ مِنْ خلقِهِ، وَكانَ وَجْهُهُ صلى الله عليه وسلم صَبيْحًا جَمِيْلا ً، لا تَمَلُّ عَينُ النّاظِرِ إليْهِ مِنْهُ، يَمْلأُ القلوْبَ بَهْجَة ً وَسُرُوْرًا، وَالنفسَ رِضا وَحُبُوْرًا. كمَا في «صَحِيْحِ البُخارِيِّ» (1009) وَغيرِهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا، كانَ رُبَّمَا تمَثلَ بشِعْرِ أَبي طالِبٍ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا نظرَ إليْهِ يَقوْلُ:

وَأَبيضَ يسْتسْقى الغمَامُ بوَجْههِ

ثِمَالُ اليتامى عِصْمَة ٌ لِلأَرَامِل ِ

وَقدْ تَمَثلَ بهِ غيرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَرَوَى البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (3549) وَمُسْلِمٌ (2337) عَن ِ البرَاءِ بْن ِعَازِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: «كانَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاس ِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُ خَلقا، ليْسَ باِلطوِيْل ِ البائِن ِ، وَلا باِلقصِير» .

وَفي «صَحِيْحِ البُخارِيِّ» (3552): أَنَّ البرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ سُئِلَ أَكانَ وَجْهُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ؟

ص: 313

فقالَ: «لا! بَلْ مِثْلَ القمَر» .

وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (5/ 454): عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ هَارُوْنَ عَن ِ الجرَيرِيِّ قالَ: كنتُ أَطوْفُ مَعَ أَبي الطفيْل ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ فقالَ: «مَا بَقِيَ أَحَدٌ رَأَى رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غيرِي» .

قالَ: قلتُ: وَرَأَيته؟ قالَ: «نعَمْ» .

قالَ: قلتُ: كيْفَ كانَ صِفتهُ؟ قالَ: «كانَ أَبيَضَ مَلِيْحًا مُقصَّدًا» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِه» (2340).

وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (5/ 451) بإسْنَادٍ صَحِيْحٍ رِجَالهُ رِجَالُ الشَّيْخَين ِ: عَنْ يَحْيَى بْن ِسَعِيْدٍ وَمحمَّدِ بْن ِ جَعْفرٍ عَنْ عَوْفِ بْن ِ أَبي جَمِيْلة َ عَنْ زُرَارَة َعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ سَلامٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: (لمّا قدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدِينة َ، انْجَفلَ النّاسُ عَليْهِ، فكنْتُ فِيْمَن ِ انْجَفلَ. فلمّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفتُ أَنَّ وَجْهَهُ ليْسَ بوَجْهِ كذّابٍ. فكانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقوْلُ: «أَفشوْا السَّلامَ، وَأَطعِمُوْا الطعَامَ، وَصِلوْا الأَرْحَامَ، وَصَلوْا وَالنّاسُ نِيَامٌ، تدْخُلوْا الجنة َ بسَلام» وَرَوَاهُ الدّارِمِيُّ (1460)، (2632) عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ عَامِرٍ عَنْ عَوْفٍ به. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ» (2485) وَابْنُ مَاجَهْ في «سُننِهِ» (1334) كِلاهُمَا عَنْ محمَّدِ بْن ِ بَشّارٍ عَنْ يَحْيَى بْن ِ سَعِيْدٍ، وَمحمَّدِ بْن ِ جَعْفرٍ، وَعَبْدِ الوَهّابِ الثقفِيِّ، وَابْن ِ أَبي عَدِيٍّ كلهُمْ عَنْ عَوْفٍ به.

ص: 314

وَقالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ: (هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْح).

أَمّا هَؤُلاءِ المتصَوِّفة ُ: فوُجُوْهُهُمْ وَرُؤُوْسُهُمْ قبيْحَة ٌ، تشْمَئِزُ مِنْهَا النُّفوْسُ، لِفسَادِهِمْ وَتلبُّس ِ الشَّيَاطِين ِ بهمْ.

لهِذَا لمّا وَصَفَ الله ُ عز وجل النارَ، وَمَا فِيْهَا، وَوَصَفَ شَجَرَة َ الزَّقوْمِ، قالَ:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} .

ص: 315

فصل

وَقدْ سَاقَ الشَّعْرَانِيُّ في تَرْجَمَةِ البدَوِيِّ في «طبَقاتِهِ الكبرَى» (1/ 158 - 163)، وَفي سَائِرِ ترَاجِمِهِ أَخْبَارًا مَمْجُوْجَة ً، لِكثِيرٍ مِنْ هَؤُلاءِ المفسِدِيْن.

وَمِنْ ذلك:

مَا ذكرَهُ الشَّعْرَانِيُّ - مَنْقبَة ً- في «طبَقاتِهِ» (1/ 160) لإسْمَاعِيْل ِ بْن ِ يُوْسُفَ الأَنبابيِّ، أَحَدِ المتصَوِّفةِ القائِمِينَ بَعْدَ البدَوِيِّ: أَنَّ إسْمَاعِيْلَ هَذَا، كانَ يَزْعُمُ أَنهُ يرَى اللوْحَ المحْفوْظ! وَيَقوْلُ لِلنَّاس ِ:«يَقعُ كذَا وَكذَا» فيَجِيءُ الأَمْرُ كمَا قالَ!

حَتَّى أَنهُ لمّا بَلغَ أَمْرُ هَذَا الضّال ِ أَحَدَ عُلمَاءِ المالِكِيَّةِ بمصْرَ: أَفتى بتعْزِيرِهِ، فبلغهُ الخبَرُ، فزَعَمَ: أَنَّ مِمّا رَآهُ في اللوْحِ المحْفوْظِ أَنَّ هَذَا القاضِي يَغْرَقُ في بَحْرِ الفرَاتِ، فغرِقَ فِيْه!

وَلا شَك َّ أَنَّ هَذَا - إنْ صَحَّ - فهُوَ مِمّا تُوْحِيْهِ الشَّيَاطِينُ إلىَ أَوْلِيَائِهمْ مِنَ الكهنةِ مِنْ أُمُوْرِ الغيْبِ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ عَن ِ الجِنِّ:{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} .

وَقالَ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} .

ص: 317

وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (6/ 87) وَالبخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (5762)، (6213)، (7561) وَمُسْلِمٌ (2228) عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالتْ: (سَأَلَ أُناسٌ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن ِالكهّان ِ، فقالَ لهمْ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم:«ليْسُوْا بشَيْءٍ» .

فقالوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إنهُمْ يحَدِّثوْنَ أَحْيَانا باِلشَّيْءِ يَكوْنُ حَقا؟!

فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تِلك َ الكلِمة ُ مِنَ الحقِّ يَخْطفهَا الجنيُّ، فيقرُّهَا في أُذن ِ وَليِّهِ قرَّ الدَّجَاجَةِ، فيَخلِطوْنَ فِيْهَا أَكثرَ مِنْ مِئَةِ كذِبة» ).

وَأَمّا مَن ِادَّعَى عِلمَ الغيْبِ: فهُوَ كافِرٌ مُرْتدٌّ، وَلا يَعْلمُ الغيْبَ إلا َّ الله ُ سبحانه وتعالى، كمَا قالَ عز وجل:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

وَقالَ: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

وَقالَ: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ} .

وَقالَ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وَسَيَأْتِي بمَشِيْئَةِ اللهِ مَزِيدُ تفصِيْل ٍ (ص327 - 336) لهِذَا وَبيان.

ص: 318

فصل

ثمَّ ذكرَ الشَّعْرَانِيُّ أَيضًا (1/ 161): أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ البدَوِيِّ (مُحَمَّدًا قمرَ الدَّوْلة).

وَلمْ تَكنْ صُحْبتهُ لهُ عَنْ مُلازَمَةٍ، وَإنمَا أَتتهُ هَذِهِ الصُّحْبَة ُ وَهَذَا الفضْلُ مِنْ شُرْبهِ لِمَاءِ بطيْخةٍ كانَ قدْ شَرِبهُ البدَوِيُّ ثمَّ تقيَّأَهُ! في حِين ِ غيْبَةٍ مِنْ أَصْحَابه.

فكانَ بهَذَا مِنْ خَاصَّةِ البدَوِيِّ! حَتَّى قالَ فِيْهِ بَعْدَ شُرْبهِ قيْئَهُ: (أَنتَ قمرُ دَوْلةِ أَصْحَابي)!

فلمّا عَادَ أَصْحَابُ البدَوِيِّ، وَعَلِمُوْا بخبرِ قمَرِ الدَّوْلةِ مَعَ البدَوِيِّ حَسَدُوْهُ! حَتَّى أَنَّ عَبْدَ العَال ِ- أَحْدَ كِبَارِ مُرِيْدِي البدَوِيِّ، وَالقائِمَ بَعْدَهُ مَكانهُ - طلبَ قمَرَ الدَّوْلةِ لِيقتلهُ! حَسَدًا لهُ عَلى مَكانتِهِ هَذِهِ مِنَ البدَوِيِّ! لكِنَّهُ لمْ يَظفرْ بهِ، فعثرَتْ فرَسُ قمَرِ الدَّوْلةِ بهِ - وَهُمْ في طلبهِ - فسَقط َ في بئْرٍ، فوَقفَ عَبْدُ العَال ِ وَمَنْ مَعَهُ عَلى البئْرِ يَنْتَظِرُوْنَ قمَرَ الدَّوْلةِ لِيَخْرُجَ لِيَقتلوْهُ، فلمْ يَخْرُجْ! ثمَّ عَلِمُوْا بخرُوْجِهِ مِنْ بئْرٍ أُخْرَى في قرْيةٍ بَعِيْدَة! فلمْ يَطلبوْهُ بَعْدَهَا.

وَذكرَ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ نفسِهِ -هُوَ- في «طبقاتِهِ» في تَرْجَمَةِ البَدَوِيِّ (1/ 161): أَنَّ شَيْخَهُ محمَّدًا الشِّنّاوِيَّ، قدْ أَخَذَ عَليْهِ العَهْدَ

ص: 319

عِنْدَ ضَرِيْحِ البَدَوِيِّ تَحْتَ قبتِهِ، وَطلبَ الشِّنّاوِيُّ مِنَ البَدَوِيِّ: أَنْ يَكوْنَ الشَّعْرَانِيُّ تَحْتَ نظرِ البَدَوِيِّ وَرِعَايتِه!

فسَمِعُوْا عِنْدَهَا صَوْتَ البَدَوِيِّ مِنْ ضَرِيْحِهِ يُجِيْبُهُمْ أَنْ نَعَمْ! ثمَّ أَخْرَجَ إليْهمْ يَدَهُ فصَافحَ الشَّعْرَانِيَّ وَقبَضَ عَلى يَدِه!

لِذَا كانَ الشَّعْرَانِيُّ مُلازِمًا حُضُوْرَ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ كلَّ سَنةٍ لا يَغِيْبُ عَنْه.

وَزَعَمَ عَبْدُ الوَهّابِ الشَّعْرَانِيُّ في تَرْجَمَةِ البَدَوِيِّ مَزَاعِمَ خُرَافِيَّة ً كثِيرَة ً (1/ 161):

مِنْهَا: أَنَّ أَحَدَ المتصَوِّفةِ أَضَافهُ وَدَعَى في ضِيَافتِهِ الأَوْلِيَاءَ الأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالأَمْوَات!

وَمِنْهَا: أَنهُ تخلفَ سنة َ (948هـ) عَنْ مِيْعَادِ حُضُوْرِ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ، فأَخْبرَهُ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ - بزَعْمِهِ - مِمَّنْ حَضَرَ مَوْلِدَ البَدَوِيِّ: أَنَّ البَدَوِيَّ ذلِك َ اليوْمَ كانَ يَكشِفُ السِّتْرَ عَنْ ضَرِيْحِهِ وَيَقوْلُ: (أَبْطأَ عَبْدُ الوَهّابِ مَا جَاءَ)!

وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ أَرَادَ في سَنةٍ مِنَ السِّنِين ِ التخلفَ عَنْ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ، فرَأَى البَدَوِيَّ وَمَعَهُ جَرِيْدَة ٌ خَضْرَاءُ! وَهُوَ يَدْعُو النّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَقطارِ إلىَ مَوْلِدِهِ، وَالنّاسُ خَلفهُ وَيَمِيْنَهُ وَشِمَالهُ أُمَمٌ لا يُحْصَوْن.

ثمَّ إنَّ البدَوِيَّ أَرَى الشَّعْرَانِيَّ خَلقا كثِيرًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَغيرِهِمْ مِنَ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ مِنَ الشُّيُوْخِ وَالزَّمْنَى بأَكفانِهمْ يَمْشُوْنَ

ص: 320

وَيَزْحَفوْنَ، وَآخَرِيْنَ مِنَ الأَسْرَى جَاءُوْا مَعَهُ مِنْ بلادِ الإفرَنجِ مُقيَّدِيْنَ مَغْلوْلِينَ يَزْحَفوْنَ عَلى مَقاعِدِهِمْ!

فقوِيَ عَزْمُ الشَّعْرَانِيِّ بَعْدَهَا عَلى الحضُوْرِ، وَوَعَدَ البَدَوِيَّ بذلك، إلا َّ أَنَّ البَدَوِيَّ أَبى! وَلمْ تَطِبْ نفسُهُ حَتَّى أَقامَ عَلى الشَّعْرَانِيِّ سَبْعَيْن ِ عَظِيْمَيْن ِ أَسْوَدَيْن ِ كالأَفيال ِ! وَقالَ البدَوِيُّ لهذَيْن ِ السَّبْعَيْن ِ:(لا تفارِقاهُ حَتَّى تَحْضُرَا به)! كذَا زَعَمَ الشَّعْرَانِيُّ في «طبقاتِه» .

وَلا شَك َّ أَنَّ هَذَا الشَّيْطانَ أَقامَ عَليْهِ شَيْطانين ِ خَشْيَة ً مِنْ تخلفِهِ عَنْ مَسَالِكِ الحثالةِ، وَمَهَاوِي الرَّدَى وَالضَّلالة.

وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ زَعَمَ أَنَّ البَدَوِيَّ بَعْدَ مَوْتِهِ عَاتبَ محمَّدًا السَّرَوِيَّ - أَحَدَ المتصَوِّفةِ - لمّا غابَ عَنْ مَوْلِدِهِ وَقالَ لهُ: (مَوْضِعٌ يَحْضُرُ فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالأَنبيَاءُ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ مَعَهُ، وَأَصْحَابُهُمْ وَالأَوْلِيَاءُ: مَا تَحْضُرُه؟!).

وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ زَعَمَ أَنهُ وَصَاحِبٌ لهُ لقِيَا في يَوْمِ سَبْتٍ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الهِنْدِ بزَعْمِهمْ بمصْرَ، فأَضَافاهُ وَمَنْ مَعَهُ - وَكانوْا عَشرَة ً - وَسَأَلاهُ عَنْ أَمْرِهِ: فأَخْبرَهُمْ أَنهُ كانَ ليْلة َالأَرْبعَاءِ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدِينةِ! وَليْلة َ الخمِيْس ِ عِنْدَ قبْرِ الشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ في العِرَاق ِ! وَليْلة َ الجمُعةِ عِنْدَ البَدَوِيّ!

ص: 321

فتعَجَّبَا مِنْ ذلِك َ فقالَ لهمُ الهِنْدِيُّ: (الدُّنيا كلهَا خُطوَة ٌ عِنْدَ أَوْلِيَاءِ اللهِ عز وجل.

وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّعْرَانِيُّ في «طبَقاتِهِ» (1/ 162) عَنْ شَيْخِهِ مُحََمَّدٍ الشِّنّاوِيِّ أَنهُ قالَ: (إنَّ شَخْصًا أَنكرَ حُضُوْرَ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ فسُلِبَ الإيْمَانَ! فلمْ يَكنْ فِيْهِ شَعْرَة ٌ تحِنُّ إلىَ دِيْن ِ الإسْلام!

فاسْتَغاثَ بسَيِّدِي أَحْمَدَ فقالَ لهُ: «بشَرْطِ أَنْ لا تَعُوْدَ» .

فقالَ: نعَم. فرَدَّ عَليْهِ ثوْبَ إيمَانِه) اه.

وَهَذِهِ الخرَافاتُ لا ترُوْجُ إلا َّ عَلى فاسِدِ عَقل ٍ، مُضَيَّعِ الدِّين ِ، وَمَا زَالَ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ يُنْكِرُوْنَ عَلى المتصَوِّفةِ وَالجهّال ِ إقامَة َ الموَالِدِ البدْعِيَّةِ، وَمِنْهَا: مَا يسَمُّوْنهُ الموْلدَ النبوِيَّ! وَلمْ ينْزِلْ بهمْ مَا زَعَمَ أَنهُ نزَلَ بمُنْكِرِ مَوْلِدِ البدَوِيّ!

وَقدْ كانَ الصَّحَابة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا أَشَدَّ النّاس ِ حُبًّا لِرَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَكثرَهُمْ فِدَاءًا لهُ وَقِتَالا ً مَعَهُ، قدِ اخْتَارَهُمُ الله ُ لِنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاصْطفاهُمْ لِصَفِيِّهِ، وَلمْ يقِيْمُوْا مَوْلِدًا لهُ صلى الله عليه وسلم.

لِتمامِ عِلمِهمْ، وَسَلامَةِ اعْتِقادِهِمْ، وَمَضَى عَلى ذلِك َ التّابعُوْنَ وَتابعُوْهُمْ، وَعَليْهِ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ المهْتَدُوْنَ بَعْدَ ذلك.

وَمَا حَدَثتْ هَذِهِ البدْعَة ُ المسَمّاة ُ باِلموْلِدِ النَّبَوِيِّ، إلا َّ بَعْدَ تَصَرُّمِ القرُوْن ِ المفضلةِ، عَلى يدِ أَحَدِ حُكامِ الفاطِمِيِّينَ الزَّنادِقة.

ص: 322

فصل في بيان ِ حَال ِ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيّ

(633هـ-676هـ)

وَمِنْ قبُوْرِ المبْطِلِينَ كذَلِك َ، الذِيْنَ شُغِفَ بهَا الضّالوْنَ المنْحَرِفوْنَ: قبرُ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيِّ المِصْرِيّ.

وَهَذَا الرَّجُلُ كسَابقِهِ، قدْ نشأَ ضَالا ًّ مُنْحَرِفا، يَزْعُمُ الاطلاعَ عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ! وَيَدَّعِي عِلمَ الغيْبِ! وَلهُ أَحْوَالٌ شَيْطانِيَّة ٌ، كحَال ِ كثِيرٍ مِنْ أَشْبَاهِه.

وَكانَ يَقوْلُ: (مَنْ غابَ بقلبهِ بحضْرَةِ رَبهِ: لا يُكلفُ فِي غيْبتِهِ، فإذا خَرَجَ إلىَ عَالمِ الشَّهَادَةِ، قضَى مَا فاتهُ، وَهَذَا حَالُ المبْتَدِئِينَ. أَمّا حَالُ الكمَّل ِ: فلا يَجْرِي عَليْهمْ هَذَا الحكمُ، بَلْ يُرَدُّوْنَ لأَدَاءِ فرْضِهمْ وَسُنَنِهمْ) اه نقلهُ عَنْهُ الشَّعْرَانِيُّ فِي «طبقاتِه» (1/ 143).

وَقالَ (1/ 147): (إذا كمُلَ العَارِفُ فِي مَقامِ العِرْفان ِ: أَوْرَثهُ الله ُ عِلمًا بلا وَاسِطةٍ، وَأَخَذَ العُلوْمَ المكتوْبة َ فِي أَلوَاحِ المعَانِي، ففهمَ رُمُوْزَهَا، وَعَرَفَ كنوْزَهَا، وَفك َّ طلسَمَاتِهَا، وَعَلِمَ اسْمَهَا وَرَسْمَهَا، وَأَطلعَهُ الله ُ تَعَالىَ عَلى العُلوْمِ الموْدَعةِ فِي النَّقطِ، وَلوْلا خوْفُ الإنكارِ لنطقوْا بمَا يَبْهَرُ العُقوْل.

وَكذَلِك َ لهمْ مِنْ إشَارَاتِ العِبَارَاتِ عِبَارَاتٌ مُعْجَمَة ٌ، وَأَلسُنٌ مُخْتَلِفة.

ص: 323

وَكذَلِك َ لهمْ فِي مَعَانِي الحرُوْفِ، وَالقطعِ، وَالوَصْل ِ، وَالهمِّ، وَالشَّكل ِ، وَالنَّصْبِ، وَالرَّفعِ، مَا لا يُحْصَرُ، وَلا يَطلِعُ عَليْهِ إلا َّ هُمْ.

وَكذَلِك َ لهمُ الاطلاعُ عَلى مَا هُوَ مَكتُوْبٌ عَلى أَوْرَاق ِ الشَّجَرِ وَالماءِ وَالهوَاءِ، وَمَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ، وََمَا هُوَ مَكتُوْبٌ عَلى صَفحَةِ قبَّةِ خَيْمَةِ السَّمَاءِ، وَمَا فِي جِبَاهِ الإنس ِ وَالجِنِّ، مِمّا يَقعُ لهمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرَة.

وَكذَلِك َ لهمُ الاطلاعُ عَلى مَا هُوَ مَكتُوْبٌ بلا كِتَابةٍ مِنْ جَمِيْعِ مَا فوْقَ الفوْقِيِّ، وَمَا تَحْتَ التَّحْتيِّ، وَلا عَجَبَ مِنْ حَكِيْمٍ يتلقى عِلمًا مِنْ حَكِيْمٍ عَلِيْم. فإنَّ مَوَاهِبَ السِّرِّ اللدُنِيِّ، قدْ ظهَرَ بَعْضُهَا فِي قِصَّةِ مُوْسَى وَالخضِرِ عليهما السلام.

وَكانَ يَقوْلُ (1/ 157): (أَنا مُوْسَى عليه السلام فِي مُنَاجَاتِهِ، وَأَنا عَلِيٌّ فِي حَمْلاتِهِ. أَنا كلُّ وَلِيٍّ فِي الأَرْض ِ، خَلعْتُهُ بيَدَيَّ، أَلبَسُ مِنْهُمْ مَنْ شِئْتُ. أَنا فِي السَّمَاءِ شَاهَدْتُ رَبِّي، وَعَلى الكرْسِيِّ خَاطبْتهُ، أَنا بيَدَيَّ أَبوَابُ النّارِ غلقتهَا، وَبيَدَيَّ جَنَّة ُ الفِرْدَوْس ِ فتَحْتُهَا. مَنْ زَارَنِي أَسْكنْتُهُ جَنَّة َ الفِرْدَوْس).

ثمَّ قالَ: (وَقدْ كنْتُ أَنا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ تَعَالىَ أَشْيَاخًا فِي الأَزَل ِ، بَينَ يَدَي قدِيْمِ الأَزَل ِ، وَبَينَ يَدَي رَسُوْل ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَنِي أَنْ أَخْلعَ عَلى جَمِيْعِ الأَوْلِيَاءِ بيَدَيَّ، فخلعْتُ عَليْهمْ بيَدَيَّ، وَقالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا إبْرَاهِيْمُ أَنتَ نقِيْبٌ عَليْهمْ») إلىَ آخِرِ خُرَافاتِه.

ص: 324

وَقالَ أَيضًا (1/ 158): (أَشْهَدَنِي الله ُ تَعَالىَ مَا فِي العُلا وَأَنا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَنظرْتُ فِي اللوْحِ المحْفوْظِ وَأَنا ابْنُ ثمَان ِ سِنِينَ، وَفككتُ طلسَمَ السَّمَاءِ وَأَنا ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِي السَّبْعِ المثانِي حَرْفا مُعْجَمًا حَارَ فِيْهِ الجِنُّ وَالإنسُ، ففهمْتُهُ وَحَمِدْتُ الله َ تَعَالىَ عَلى مَعْرِفتِهِ، وَحَرَّكتُ مَا سَكنَ، وَسَكنْتُ مَا تَحَرَّك َ بإذن ِ اللهِ تَعَالىَ، وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَة َ سَنة).

وَلهُ نظمٌ خَبيْثٌ كنثْرِهِ، مِنْهُ قوْلهُ (1/ 158):

أَنا الحرْفُ لا أُقرَا لِكلِّ مُنَاظِرٍ

وَكلُّ الوَرَى مِنْ أَمْرِ رَبِّي رَعِيَّتي

وَمَا قلتُ هَذَا القوْلُ فخْرًا وَإنّمَا

أَتَى الإذنُ كيْ لا يَجْهَلوْنَ طرِيْقتي

فأَوْصَلتُ ذاتِي باِتِّحَادِي بذَاتِهِ

بغيرِ حُلوْل ٍ بَلْ بتَحْقِيْق ِ نِسْبَتي

أَنا ذلِك َ القطبُ المبَارَك ُ أَمْرُهُ

فكلُّ مَدَارِ الكلِّ مِنْ حَوْل ِ ذرْوَتِي

وَبي قامَتِ الأَشْيَاءُ فِي كلِّ أُمَّةٍ

بمخْتَلفِ الآرَاءِ وَالكلُّ أُمَّتي

وَلا جَامِعٌ إلا َّ وَلِي فِيْهِ مِنْبَرٌ

وَفِي حَضْرَةِ المخْتَارِ فزْتُ ببُغْيَتي

نعَمْ نشْأَتِي فِي الحبِّ مِنْ قبْل ِ آدَمٍ

وَسِرِّيَ فِي الأَكوَان ِ مِنْ قبْل ِ نشْأَتِي

أَنا كنْتُ فِي العَليَاءِ مَعْ نوْرِ أَحْمَدٍ

عَلى الدُّرَّةِ البَيْضَاءِ فِي خَلوِيَّتي

أَنا كنْتُ فِي رُؤْيا الذَّبيْحِ فِدَاؤُهُ

بلطفِ عِنَايَاتٍ وَعَين ِ حَقِيْقةِ

أَنا كنْتُ مَعْ إدْرِيْسَ لمّا أَتَى العُلا وَأُسْكِنَ فِي الفِرْدَوْس ِ أَنعَمِ بُقعَةِ

أَنا كنْتُ مَعْ عِيْسَى عَلى المهْدِ ناطِقا وَأَعْطيْتُ دَاوُوْدًا حَلاوَة َ نغْمَةِ

ص: 325

أَنا كنْتُ مَعْ نوْحٍ بمَا شَهدَ الوَرَى

بحَارًا وَطوْفانا عَلى كفِّ قدْرَةِ

أَنا القطبُ شَيْخُ الوَقتِ فِي كلِّ حَالةٍ

أَنا العَبْدُ إبْرَاهِيْمُ شَيْخُ الطرِيقةِ

وَفي كلامِهِ السّابق ِ نظمًا وَنثرًا مِنَ الضّلالاتِ المكفرَاتِ: مَا لوْ قسِّمَ عَلى أُمَّةٍ لأَوْبقهَا، عِيَاذا باِللهِ مِنْ ضَلالِهِ وَضَلال ِ أَتباعِهِ وَأَصْحَابه.

ص: 326