المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في رد زعمه أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، بطل به الاستدلال - مجانبة أهل الثبور المصلين في المشاهد وعند القبور

[عبد العزيز بن فيصل الراجحي]

فهرس الكتاب

- ‌تقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ العَلامَةِ الدّكتورِ صَالِحِ بن ِفوْزَان بن ِعَبْدِ اللهِ الفوْزَان

- ‌فصل فِي الأَحَادِيْثِ النبَوِيَّةِ الناهِيَةِ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقابرِ، وَعِنْدَ القبور

- ‌فصل في اخْتِلافِ الأَئِمَّةِ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ، مَعْ قوْلِهمْ بتَحْرِيْمِهَا

- ‌فصل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ باِلنَّهْيّ

- ‌فصل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ، غيْرَ عَالِمٍ به

- ‌فصل في بُطلان ِصَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا مِنْ غيْرِ قصْدٍ له

- ‌فصل في حُكمِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْر

- ‌فصل وَكانتْ فتْوَاهُ هَذِهِ نَحْوَ سَنَةِ (709هـ) وَبَعْدَ سِنِينَ:

- ‌فصل وَقدِ انْتَصَرَ لِشَيْخِ الإسْلامِ رحمه الله ُ

- ‌فصل فِي نقض ِشُبُهَاتِ المعْتَرِض ِعَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ وَعِنْدَ القبور

- ‌فصل فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثانِي، وَهُوَ بنَاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ للمُشْرِكِيْن

- ‌فصل أَمّا مَعْنَى «المقبَرَةِ»: فهيَ أَرْضٌ فِيْهَا قبوْرٌ

- ‌فصل في رَدِّ زَعْمِهِ أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ

- ‌فصل أَمّا اسْتِدْلالُ هَؤُلاءِ المبْطِلِيْنَ، عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ

- ‌فصل ثمَّ إنَّ هَؤُلاءِ مَعَ فسَادِ دِينِهمْ وَعقوْلهِمْ: مُتنَاقِضُوْنَ كثِيْرًا

- ‌فصل في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ

- ‌فصل

- ‌فصل وَمَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغاثة َوَالذَّبحَ لِلأَمْوَاتِ أَنبيَاءً وَصَالحِينَ وَغيْرِهِمْ:

- ‌خاتمة

- ‌الفهرس

- ‌فهرس الموضوعات التّفصيلي والفوائد

- ‌فهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ الإجْمَالِيّ

الفصل: ‌فصل في رد زعمه أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، بطل به الاستدلال

‌فصل في رَدِّ زَعْمِهِ أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ

، وَبيانُ أَنَّ هَذِهِ قاعِدَة ٌ، إطلاقهَا يؤُوْلُ بصَاحِبهَا إلىَ زَندَقةٍ، وَبيان ِ مَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْل ِالعِلم

وَأَمّا قوْلُ المعْتَرِض ِ: (وَمِمّا هُوَ مَعْلوْمٌ لدَى طلبةِ العِلمِ: أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ، بطلَ الاسْتِدْلالُ به) اه.

فإطلاقهُ بَاطِلٌ، وَإطلاقهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُوْل ِأَهْل ِ البدَعِ وَالضَّلال ِ، مِمَّنْ أَرَادُوْا إهْجَانَ السُّنَّةِ، وَإبْطالَ الأَدِلةِ، وَإفسَادَ الدِّين ِ، وَإغوَاءَ المهْتَدِيْن.

فإنهُ لا يَخْلوْ دَلِيْلٌ لا فِي الكِتابِ وَلا فِي السُّنَّةِ، إلا َّ وقدْ أُوْرِدَ عَليْهِ احْتِمَالٌ، إمّا مِنْ مُهْتَدٍ أَوْ مِنْ مُبْطِل ٍ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ الاحْتِمَالُ صَحِيْحًا أَمْ فاسِدًا.

وَلوْ سُلمَ إطلاقُ هَذِهِ القاعِدَةِ: لمَا صَحَّ لنا وَلا لِغيْرِنا أَنْ يَسْتَدِلَّ بأَيِّ دَلِيْل ٍ، أَوْ يَحْتَجَّ بأَيِّ حُجَّةٍ، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ٍ مِنَ الاحْتِمَالاتِ عَليْهَا! إمّا فِي أَصْلِهَا، أَوْ فِي تأْوِيْلِهَا وَمَعْنَاهَا، وَحِيْنَذَاك َ يَبْطلُ الدِّينُ، وَتسْقط ُ الشعَائِرُ، وَيحْصُلُ لِلزَّنادِقةِ مَا أَملوْهُ وَرَجَوْه.

وَمُرَادُ مَنْ ذكرَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ العُلمَاءِ، وَمَعْنَاهَا الصَّحِيْحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الاحْتِمَالاتِ الوَارِدَة َ عَلى الأَدِلةِ ثلاثة ُ أَنوَاعٍ:

ص: 193

اِحْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ،

وَاحْتِمَالٌ رَاجِحٌ،

وَاحْتِمَالٌ مُسَاوٍ.

فالاحْتِمَالُ الأَوَّلُ: لا اعْتِبَارَ بهِ، وَلا تأْثِيْرَ له.

وَالاحْتِمَالُ الثانِي: يَجِبُ المصِيْرُ إليْهِ، وَالتَّعْوِيْلُ عَليْه.

وَأَمّا الاحْتِمَالُ الثالِثُ: فهُوَ الذِي يُسْقِط ُ الاسْتِدْلالَ بذَلِك َ الدَّلِيْل ِ عَلى ذلِك َ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي لا غيرِهِ، لاسْتِوَاءِ طرَفيْهِ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ أَطلقَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ الأَئِمَّةِ لا سِوَاه.

وَقدْ بيَّنَ أَبوْ العَبّاس ِ القرَافيُّ (ت684هـ) في «الفرُوْق» (2/ 87): الفرْقَ بَيْنَ هَذِهِ القاعِدَةِ السّابقةِ «حِكاية ُ الحال ِ إذا تطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال» ، وَبيْنَ قاعِدَةِ «حِكاية ُ الحال ِ، إذا ترِك َ فِيْهَا الاسْتِفصَالُ، تقوْمُ مَقامَ العُمُوْمِ في المقال ِ، وَيَحْسُنُ بهَا الاسْتِدْلال» ، بقوْلِهِ: (وَتَحْرِيْرُ الفرْق ِ بَيْنَهُمَا، ينبنِي عَلى قوَاعِدَ:

القاعِدَة ُ الأُوْلىَ: أَنَّ الاحْتِمَالَ المرْجُوْحَ، لا يَقدَحُ في دَلالةِ اللفظِ، وَإلا َّ لسَقطتْ دَلالة ُ العُمُوْمَاتِ كلهَا، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ِ التَّخْصِيْص ِ إليْهَا.

بَلْ تَسْقط ُ دَلالة ُ جَمِيْعِ الأَدِلةِ السَّمْعِيَّةِ، لِتَطرُّق ِ المجَازِ وَالاشْتِرَاكِ إلىَ جَمِيْعِ الأَلفاظ.

ص: 194

لكِنَّ ذلِك َ باطِلٌ، فتعَينَ حِيْنَئِذٍ: أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي، أَوِ المقارِبُ، أَمّا المرْجُوْحُ: فلا.

القاعِدَة ُ الثانِيَة ُ: أَنَّ كلامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ، إذا كانَ مُحْتَمِلا ً احْتِمَاليْن ِ عَلى السَّوَاءِ: صَارَ مُجْمَلا ً، وَليْسَ حَمْلهُ عَلى أَحَدِهِمَا أَوْلىَ مِنَ الآخَر).

ثمَّ قالَ القرَافِيُّ (2/ 88): (فحَيْثُ قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ الله ُعَنْهُ: «إنَّ حِكاية َ الحال ِ، إذا تَطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال»: مُرَادُهُ إذا اسْتَوَتِ الاحْتِمَالاتُ في كلامِ صَاحِبِ الشَّرْع) اه.

وَقدْ تَعَقبَ أَبو القاسِمِ ابْنُ الشّاطِ (ت723هـ) أَبا العَبّاس ِ القرَافِيَّ في قوْلِهِ السّابق ِ «فتعيَّنَ حِيْنَئِذٍ أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي، أَوِ المقارِبُ، أَمّا المرْجُوْحُ: فلا» فقال: (إيْجَابُ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي الإجْمَالَ: مُسَلم.

وَأَمّا إيْجَابُ المقارِبِ: فلا، فإنهُ:

إنْ كانَ مُتَحَققَ المقارَبةِ: فهوَ مُتَحَققُ عَدَمِ المسَاوَاة.

وَإنْ كانَ مُتَحَققَ عَدَمِ المسَاوَاةِ: فهُوَ مُتَحَققُ المرْجُوْحِيَّةِ: فلا إجْمَال) اه.

قلتُ: الذِي يَظهَرُ لِي: أَنَّ مُرَادَ القرَافِيِّ مِنْ قوْلِهِ «الاحْتِمَالُ المقارِبُ» : مَا كانَ مُقارِبا لِلمُسَاوِي مُقارَبة ً شدِيدَة ً، بحيْثُ يَكوْنُ رُجْحَانهُ عَلى غيْرِهِ دَقِيْقا خفِيْفا، لا يُصَارُ إليْهِ، وَلا يُرَجَّحُ بهِ عَليْهِ، لِخِفةِ مُرَجِّحِهِ عَلى غيْرِهِ، فيبْقى مُقارِبا

ص: 195

شبيْهًا باِلمسَاوِي، وَالله ُ أَعْلم.

وَقدْ سَأَلتُ شَيْخَنَا العَلامَة َ، عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ ابنَ غدَيان حَفِظهُ الله ُ، وَبارَك َ فِيْهِ وَفي عِلمِهِ: عَنْ صِحَّةِ إطلاق ِ تِلك َ القاعِدَةِ السّابقةِ فقالَ: (لا يَصِحُّ إطلاقهَا، وَإنّمَا هِيَ صَحِيْحَة ٌ في صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ: إذا كانَ الاحْتِمَالُ مُسَاوِيا.

أَمّا إذا لمْ يَكنْ مُسَاوِيا: فكانَ رَاجِحًا: وَجَبَ المصِيْرُ إليْهِ. أَوْ مَرْجُوْحًا وَهْمِيا: وَجَبَ اطرَاحُهُ وَترْكهُ، وَلا تأْثِيْرَ له.

وَإطلاقهَا كإطلاق ِ النّاس ِ لِقاعِدَةِ «دَرْءُ المفاسِدِ، مُقدَّمٌ عَلى جَلبِ المصَالِحِ» ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ القاعِدَة َ، لا تصِحُّ إلا َّ فِي صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ فقط، وَهِيَ إذا تسَاوَتِ المفسَدَة ُ وَالمصْلحَة.

ثمَّ ذكرَ الشَّيْخُ حَفِظهُ الله ُ: أَنَّ أَحْسَنَ مَنْ رَآهُ تَكلمَ عَلى تِلك َ القاعِدَةِ الأُوْلىَ السّابقةِ: القرَافِيُّ في «الفرُوْق» وَأَوْفاهَا شَرْحًا، وَقدْ قدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ كلامِهِ فِيْهَا رحمه الله.

إذا تقرَّرَ هَذَا، فاعْلمْ أَنَّ هَذَا المعْتَرِضَ المبطِلَ، لا تعلقَ لهُ صَحِيْحٌ بهذِهِ القاعِدَة.

وَأَنَّ إطلاقهُ البَاطِلَ لها - كمَا أَنهُ يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ ببَعْض ِ أَدِلتِنَا، كمَا يُرِيْدُ وَيزْعُمُ - يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ بأَدِلتِهِ كافة ً، لِتطرُّق ِ الاحْتِمَال ِ عَليْهَا أَيْضًا!

ص: 196

وَالاحْتِمَالُ الوَارِدُ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» -إنْ قِيْلَ بوُجُوْدِهِ أَصْلا ً-: هُوَ احْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ لا عِبْرَة َ بهِ، وَقدْ تكاثرَتِ الأَدِلة ُ المخْتَلفة ُ عَلى بيان ِ صِحَّةِ ذلِك َ الحدِيْثِ كمَا تقدَّم.

ص: 197

فصل في زَعْمِ جَمَاعَةٍ مِنَ القبوْرِيِّينَ: أَنْ لا عَوْدَة َ لِلشِّرْكِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَلا حَاجَة َ لِسَدِّ ذرَائِعِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَأَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «لا يَجْتَمِعُ دِيْنان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ» ، وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ»: دَلِيْلان ِ عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ المنافِيَةِ لِلإيْمَان ِ، وَبيان ِ فسَادِ اسْتِدْلالهِمْ وَنقضِهِ، وإخْبَارِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ بَعْدَ انتِشَارِ الإسْلامِ، وَإكمَال ِ الرِّسَالةِ، لِتَفرِيْطِ النّاس ِ في سَدِّ ذرَائِعِ الشِّرْكِ، وَمَنْعِ أَسْبَابه

قدْ زَعَمَ جَمَاعَة ٌمِنْ سَدَنةِ القبوْرِ، وَدُعَاةِ الضَّلالةِ إلىَ دَارِ الثبوْرِ: أَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَلكِنْ في التَّحْرِيْش ِ بَيْنَهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (2812) مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

وَزَعَمُوْا كذَلِك َ: أَنَّ قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان ِ» رَوَاهُ الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة َ» (3/ 44)(1762) وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبْرَى» (6/ 115) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه (1).

(1) - وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزّاق ِ في «مُصَنَّفِهِ» (6/ 53)(9984) مُرْسَلا ً، مِنْ حَدِيْثِ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّب.

وَرَوَاهُ مَالِك ٌ في «الموَطإ» (1651) عَن ِ ابْن ِ شِهَابٍ مُرْسَلا ً. وَهَذَان ِ المرْسَلان ِ مَوْصُوْلان ِ حَقِيْقة ً، مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، وَقدْ تقدَّم.

ص: 199

فزَعَمُوْا أَنهُمَا: إخْبَارَان ِ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَبشارَاتان ِ عَلى خُلوِّ جَزِيْرَةِ العَرَبِ مِنْ دِيْن ٍ ثان ٍ يَكوْنُ فِيْهَا! وَإخْبَارَان ِ كذَلِك َ بسَلامَتِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالكفر!

قالوْا: فدَلَّ ذلِك َ عَلى أَنَّ مَا يَفعَلوْنهُ عِنْدَ القبوْرِ وَالأَضْرِحَةِ وَالمشَاهِدِ، مِنْ دُعَاءٍ وَاسْتِغاثةٍ وَذبْحٍ وَغيْرِهِ: ليْسَ بشِرْكٍ وَلا كفرٍ، وَإلا َّ لكانتْ تِلك َ الأَفعَالُ مُخالِفة ً لخبرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَبشارَتِه!

وَجَوَابُ هَذِهِ الإيْرَادَاتِ البَارِدَاتِ السّاقِطاتِ، مِنْ وُجُوْهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا تَحْرِيْفٌ لِلكلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَصَرْفٌ لهُ عَنْ حَقيْقتِه.

وَمُرَادُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قوْلِهِ «لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان» - كمَا هُوَ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ الرَّبانِييْنَ، لا عُبّادِ القبوْرِ مِنَ المشْرِكِيْنَ -: أَمْرٌ بوُجُوْبِ خُلوِّ الجزِيْرَةِ مِنْ دِيْن ٍ ثان ٍ غيْرَ الإسْلامِ، لا خبرٌ وَبشارَة ٌ بخلوِّهَا!

وَقدْ دَلَّ عَلى هَذَا المعْنَى أَحَادِيْثُ كثِيْرَة ٌ، مِنْهَا:

* حَدِيْثُ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا قالتْ: (كانَ آخِرُ مَا عَهدَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قالَ: «لا يُتْرَك ُ بجَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِه» (6/ 275).

وَهَذَا مَا فهمَهُ الصَّحَابة ُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلامِ: فرَوَى ابْنُ زَنْجُوْيه في «الأَمْوَال ِ» (1/ 276)(417) قالَ: (أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبيْدٍ حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ

ص: 200

بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا: أَنَّ عُمَرَ أَخْرَجَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى وَالمجُوْسَ مِنَ المدِيْنةِ، وَضَرَبَ لِمَنْ قدِمَهَا مِنْهُمْ أَجَلا ً، إقامَة َ ثلاثِ ليَال ٍ، قدْرَ مَا يَبيْعُوْنَ سِلعَهُمْ، وَلمْ يَكنْ يَدَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُقِيْمُ بَعْدَ ثلاثِ ليَال ٍ، وَكانَ يَقوْلُ:«لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب» ).

وَرَوَاهُ:

- القاسِمُ بْنُ سَلامٍ في «الأَمْوَال» (1/ 180)(272) أَيْضًا: أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبيْدٍ بهِ،

- وَابْنُ أبي شَيْبَة َ في «مُصَنَّفِهِ» (12/ 345) في «كِتَابِ الجهَادِ» ، «مَنْ قالَ لا يَجْتَمِعُ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى مَعَ المسْلِمِيْنَ في مِصْرٍ»: حَدَّثنَا عَبْدَة ُ بنُ سُليْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنَحْوِه.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزّاق ِ في «مُصَنَّفِهِ» (4/ 125 - 126)(7208)(6/ 56)(9990) في «كِتَابِ أَهْل ِ الكِتَابِ» ، «إجْلاءُ اليَهُوْدِ مِنَ المدِيْنَةِ» قالَ: (أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَن ِ الزُّهْرِيِّ عَن ِ ابْن ِ المسَيِّبِ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَفعَ خَيْبَرَ إلىَ اليَهُوْدِ عَلى أَنْ يَعْمَلوْا فِيْهَا، وَلهمْ شَطرُ ثمَرِهَا.

فمَضَى عَلى ذلِك َ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبوْ بَكرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلافةِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.

ثمَّ أُخْبرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ- في وَجَعِهِ الذِي مَاتَ مِنْهُ -: «لا يَجْتَمِعُ بأَرْض ِ العَرَبِ دِيْنَان ِ» أَوْ قالَ «بأَرْض ِ الحِجَازِ دِيْنَان ِ» :

ص: 201

ففحَّصَ عَنْ ذلِك َ حَتَّى وَجَدَ عَليْهِ الثبْت. ثمَّ دَعَاهُمْ فقالَ: «مَنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُوْل ِاللهِ صلى الله عليه وسلم فليأْتِ بهِ، وَإلا َّ فإني مُجْلِيْكمْ» . قالَ ابْنُ المسَيِّبِ: فأجْلاهُمْ عُمَر).

وَرَوَى مَالِك ٌ في «الموَطإ» (1651): عَن ِ ابْن ِ شِهَابٍ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب» .

قالَ ابْنُ شِهَابٍ: ففحَّصَ عَنْ ذلِك َ عُمَرُ بْنُ الخطابِ حَتَّى أَتاهُ الثلجُ وَاليقِيْنُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ» ، فأَجْلى يَهُوْدَ خيْبَر.

قالَ أَبو الوَلِيْدِ الباجِيُّ (ت494هـ) في «المنْتَقى في شَرْحِ الموَطإ» بَعْدَهُ (7/ 195): (وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم «لا يبْقينَّ دِيْنَان ِ بأَرْض ِ العَرَبِ» : يُرِيْدُ - وَالله ُ أَعْلمُ - لا يبْقى فِيْهَا غيْرُ دِيْن ِ الإسْلامِ، وَأَنْ يُخْرَجَ مِنْهَا كلُّ مَنْ يتدَينُ بغيْرِ دِيْن ِ الإسْلام.

قالَ مَالِك ٌ: «يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ البلدَان ِ كلُّ يَهُوْدِيٍّ أَوْ نصْرَانِيٍّ أَوْ ذِمِّيٍّ كانَ عَلى غيْرِ مِلةِ الإسْلام» ).

ثمَّ قالَ الباجِيُّ (7/ 196): (وَقوْلُ ابْن ِ شِهَابٍ «ففحَّصَ عُمَرُ بنُ الخطابِ عَنْ ذلِك» : قالَ مَالِك ٌ: «مَعْنَاهُ: كشَفَ عَنْ هَذَا القوْل ِ، هَلْ يَصِحُّ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم» .

قالَ: «حِيْنَ جَاءَهُ الثلجُ» قالَ: «مَعْنَاهُ اليَقِيْنُ الذِي لا شَك َّ فِيْهِ، يُرِيْدُ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ ذلِك» فأَجْلى عُمَرُ بْنُ الخطابِ يهُوْدَ خَيْبَر) اه.

ص: 202

وَهَذَا المعْنَى - أَي وُجُوْبَ إخْرَاجِ المشْرِكِيْنَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَعَدَمَ إبقاءِ دِيْن ٍ في الجزِيْرَةِ يُتَعبَّدُ بهِ غيْرَ الإسْلامِ - قدْ جَاءَ في غيْرِ حَدِيْثٍ، مِنْ ذلِك َ:

* قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجُوْا المشْرِكِيْنَ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (1/ 222) وَالبُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (3053)، (3168)، (4431) وَمُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (1637) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» (3029) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا في حَدِيْثٍ فِيْهِ طوْل.

* وَقوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ، حَتَّى لا أَدَعَ إلاّ مُسْلِمًا» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (1/ 29)(3/ 345) وَمُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ» (1767) وَالتِّرْمِذِيُّ (1607) وَأَبوْ دَاوُوْدَ (3030) مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ عَنْ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.

وَفي رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في «مُسْنَدِهِ» (1/ 32) وَالتِّرْمِذِيِّ (1606): «لئِنْ عِشْتُ لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى

» الحدِيْث.

الوَجْهُ الثانِي: أَنَّ تأْوِيْلَ القبوْرِيِّيْنَ ذلِك َ، مُخالِفٌ لِمَا ثبتَ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ في أَمَاكِنَ مِنْهَا، وَحُدُوْثِهِ في أَحْيَاءٍ مِنْهُمْ، وَمِنْ ذلِك َ:

* قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى تلحَقَ قبائِلُ مِنْ أُمَّتِي باِلمشْرِكِيْنَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوْا الأَوْثانَ، وَإنهُ سَيَكوْنُ في أُمَّتِي ثلاثوْنَ كذّابوْنَ، كلهُمْ يَزْعُمُ أَنهُ نبيٌّ، وَأَنا خَاتمُ النَّبيِّيْنَ لا نبيَّ بَعْدِي» .

ص: 203

وَهُوَ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، رَوَاهُ:

- أَبوْ دَاوُوْدَ الطيالِسِيُّ في «مُسْنَدِهِ» (ص133)(991): حَدَّثنَا حَمّادُ بْنُ زَيدٍ عَنْ أَيوْبَ عَنْ أَبي قلابة َ عَنْ أَبي أَسْمَاءٍ الرَّحَبيِّ عَنْ ثوْبانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

- وَالتِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ» (2219): حَدَّثنا قتيْبَة ُحَدَّثنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ بهِ، وَقالَ:(هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْح).

- وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِه» (4252)،

- وَابْنُ أَبي عَاصِمٍ في «الآحَادِ وَالمثانِي» (1/ 332)(456) وَ «الدِّياتِ» (ص48)،

- وَأَبوْ بَكرٍ البَرْقانِيُّ في «صَحِيْحِهِ» ،

- وَالحاكِمُ في «مُسْتَدْرَكِه» (4/ 448 - 449).

وَهَذَا كمَا تقدَّمَ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، بَلْ قدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَصْلهُ في «صَحِيْحِهِ» (2889): حدَّثنا قتيْبَة ُ بْنُ سَعِيْدٍ عَنْ حَمّادِ بْن ِ زَيْدٍ بهِ، دُوْنَ مَوْضِعِ الشّاهِدِ مِنْهُ، وَهُوَ حَدِيْثٌ طوِيْلٌ، قطعَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ وَرَوَوْهُ في الأَبْوَاب.

* وَمِنْ ذلِك َ أَيْضًا: قوْلهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى تضْطرِبَ أَلياتُ نِسَاءِ دَوْس ٍ عَلى ذِي الخلصَة» .

وَذو الخلصَةِ: طاغِيَة ُ دَوْس ٍ التِي كانوْا يَعْبُدُوْنَ في الجاهِليَّة. رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ» (2/ 271) وَالبُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (7116) وَمُسْلِمٌ (2906) مِنْ حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه.

ص: 204

الوَجْهُ الثالِثُ: ارْتِدَادُ كثِيْرٍ مِنْ قبائِل ِ الجزِيْرَةِ بَعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِتَالُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ مَعَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا لهمْ: دَلِيْلٌ عَلى بُطلان ِ تَأْوِيْل ِ القبوْرِيِّيْنَ وَفسَادِه.

الوَجْهُ الرّابعُ: ادَّعَاءُ مُسَيْلِمَة َ الكذّابِ النُّبوَّة َ، وَإيْمَانُ أَهْل ِ اليَمَامَةِ بهِ، حَتَّى قاتلهُمُ الصَّحَابة ُ عَلى ذلِك َ زَمَنَ أبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ: دَلِيْلٌ آخَرُ عَلى بُطلان ِ قوْل ِ القبوْرِيِّين.

الوَجْهُ الخامِسُ: خُرُوْجُ الزَّنادِقةِ في خِلافةِ الخلِيْفةِ الرّاشِدِ عَلِيِّ بْن ِ أبي طالِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ، المدَّعِيْنَ أُلوْهِيَّتَهُ، وَقتْلهُ لهمْ بحَرْقِهمْ باِلنّارِ، حَتَّى اتصَلَ عَذَابُهُمْ مِنْ نارِ الدُّنيا إلىَ نارِ الآخِرَةِ: دَلِيْلٌ آخَرُ عَلى بُطلان ِ قوْل ِ القبوْرِيين.

الوَجْهُ السّادِسُ: وُجُوْدُ اليَهُوْدِ في بَعْض ِ جَزِيْرَةِ العَرَبِ مِنْ زَمَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اليَوْم في اليَمَن ِ وَغيْرِهَا، وَوُجُوْدُ النَّصَارَى وَالمجُوْس ِ وَالقرَامِطةِ وَالبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِض ِ وَغيْرِهِمْ مِنَ الزَّنادِقةِ وَالكافِرِيْنَ في الجزِيْرَةِ قدِيْمًا وَحَدِيْثًا: دَلِيْلٌ عَلى بُطلان ِ تَأْوِيْلِهمْ.

بَلْ يَلزَمُ أُوْلئِك َ القبوْرِيينَ، المحْتَجِّيْنَ بتلك َ الأَحَادِيْثِ عَلى ذلِك َ الوَجْهِ الفاسِدِ: أَنْ يُصَحِّحُوْا دِيْنَ أُوْلئِك َ الكفارِ، مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَغيْرِهِمْ! وَهَذا أَمْرٌ لا يَقوْلوْنَ بهِ، وَلا يَسْتَطِيْعُوْنَ قوْلهُ، وَمَنْ قالهُ: كفرَ إجْمَاعًا.

فلا سَبيْلَ لهمْ إلا َّ إبْطالُ تأْوِيْلِهمْ، وَترْك ُ تَحْرِيْفِهمْ.

ص: 205

الوَجْهُ السّابعُ: إخْبَارُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بخرُوْجِ الدَّجّال ِ، وَأَنهُ يَدَّعِي الإلهِيَّة َ، وَأَنهُ يَطأُ الأَرْضَ كلهَا، حَتَّى لا يَسْلمَ مِنْ فِتنتِهِ أَحَدٌ إلا َّ مَا شاءَ الله ُ، إلا َّ أَهْلُ المدِينتيْن ِ المقدَّسَتيْن ِ مَكة َ وَالمدِيْنَةِ، فإنهُ يُمْنَعُ مِنْ دُخُوْلهِمَا، وَتَحُوْلُ الملائِكة ُ دُوْنهُ، فيقِفُ عَلى مَشَارِفِهمَا، فتَرْجُفُ المدِينة ُ بأَهْلِهَا، فيخْرُجُ خَبَثهَا إليْهِ، فيؤْمِنُوْنَ بهِ رَبا، وَيَكفرُوْنَ باِللهِ، عِيَاذاً باِلله. وَهَذَا يُخالِفُ تَأْوِيْلَ القبوْرِيينَ، وَيُظهرُ فسَادَ قوْلهِم.

وَقدْ جَاءَتْ بذَلِك َ الأَحَادِيْثُ المتوَاتِرَة ُ في شَأْنِهِ، وَمِنْ ذلِك َ: مَا رَوَاهُ البخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1881) وَمُسْلِمٌ (2943) مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «ليْسَ مِنْ بلدٍ إلا َّ سَيطؤُهُ الدَّجّالُ، إلا َّ مَكة َ وَالمدِينة َ ليْسَ لهُ مِنْ نِقابهَا نقبٌ إلا َّ عَليْهِ الملائِكة ُ صَافينَ يَحْرُسُوْنهَا ثمَّ ترْجُفُ المدِيْنَة ُ بأَهْلِهَا ثلاثَ رَجْفاتٍ، فيُخْرِجُ الله ُ كلَّ كافِرٍ وَمُنَافِق» .

الوَجْهُ الثامِنُ: أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعِ أَهْل ِ العِلمِ مِنَ الصَّحَابةِ وَالتابعِيْنَ فمَنْ بَعْدَهُمْ، مِمَّنْ كفرُوْا مَن ِ ارْتكبَ ناقِضًا مِنْ نوَاقِض ِ الإسْلامِ، أَوِ ارْتدَّ عَنْهُ، مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ كانَ، أَمْ مِنْ غيْرِهَا، دُوْنَ مُرَاعَاةِ ضَابطِ القبوْرِيِّيْنَ الفاسِد.

الوَجْهُ التّاسِعُ: مُخالفتهُ أَيْضًا وَمُنَاقضَتهُ، لِفِعْل ِ كثِيْرٍ مِنْ هَؤُلاءِ القبوْرِيِّيْنَ، في تَكفِيْرِهِمْ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ، وَقِتَالهِمْ

ص: 206

لهمْ، مَعَ كوْنِهمْ دَاخِلِيْنَ في بشَارَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي زَعَمُوْهَا بخلوِّ الجزِيْرَةِ مِنَ المشْرِكِين.

وَمِنْ ذلِك َ: تَكفِيْرُهُمْ لِلشَّيْخِ الإمَامِ مُحَمَّدِ بْن ِ عَبْدِ الوَهّابِ وَمَنْ ناصَرَهُ وَآزَرَهُ رحمهم الله ُ، مُحْتَجِّيْنَ بأَنهُمْ خَوَارِجُ! أَوْ نوَاصِبُ! أَوْ مُبْغِضِيْنَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم! أَوْ مُنْتَقِصِيْنَ لهُ، وَهَلمَّ جَرًّا لأَكاذِيْبهْم.

وَمِنَ المعْلوْمِ: أَنَّ الشَّيْخَ مُحَمَّدًا رحمه الله ُ وَمَنْ كانَ مَعَهُ، كانوْا في قلبِ الجزِيْرَةِ، وَلم يَكنْ نصِيْبُهُمْ مِنْ تِلك َ البشَارَةِ المزْعُوْمَةِ، كنَصِيْبِ أُوْلئِك َ! فمَا بَالُ البشارَةِ تَجَنبتهُمْ، وَلمْ يَنَالوْا مِنْهَا شَيْئًا غيْرَ التَّكفِيْرِ وَالتَّضْلِيْل ِ، وَخَالفتْهُمْ لِيَدْخُلَ فِيْهَا أَرْبابُ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيْل؟!

وَمَا كانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ ضَالا ًّ أَوْ دَاعِيَة ً إلىَ ضَلال ٍ، وَلمْ يَدْعُ النّاسَ لِشَيْءٍ قط، لمْ يَدْعُهُمْ إليْهِ أَنبيَاءُ اللهِ وَرُسُلهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام.

وَإنمَا دَعَاهُمْ بمَا عَرَفتْهُ الأُمَّة ُ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجْمَعَ عَليْهِ الصَّحَابة ُ وَالتّابعُوْنَ بَعْدَهُمْ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام.

وَخُلاصَة ُ دَعْوَتِهِ: أَنَّ العِبَادَة َ للهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ لا يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ اللهِ لِغيْرِ اللهِ، وَلا يُتَعَبَّدَ الله ُ بشَيْءٍ إلا َّ بمَا شَرَع.

وَمَدَارُ دَعْوَتِهِ رحمه الله ُ، وَدَعْوَةِ مُنَاصِرِيْهِ: عَلى ذلِك َ، حَتَّى ظهَرَ لِلنّاس ِ صَفاؤُهَا، وَصَلاحُهَا، وَظهَرَ لهمْ عَوَارُ وَكذِبُ أَعْدَائِهَا وَزُوْرُهُمْ وُبهْتَانهُمْ {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *

ص: 207

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.

الوَجْهُ العَاشِرُ: إخْبَارُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بضَعْفِ الإسْلامِ آخِرَ الزَّمَان ِ، وَقِلتِهِ وَانْحِسَارِهِ، حَتَّى لا يُقالَ في الأَرْض ِ «الله َ الله َ» ، وَأَنَّ الإيْمَانَ يَأْرِزُ إلىَ المدِيْنَةِ كمَا تأْرِزُ الحية ُ إلىَ جُحْرِهَا.

حَتَّى يَبْلغَ الحالُ باِلمسْلِمِيْنَ لِضَعْفِهمْ: أَنْ ينقضَ الأَسْوَدُ ذو السُّوَيْقتيْن ِ الكعْبَة َ حَجَرًا حَجَرًا، لا يَجِدُ مَنْ يَمْنعُهُ وَلا مَنْ يَدْفعُه.

وَفي هَذَا أَحَادِيْثُ في الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ، مِنْهَا:

* مَا رَوَاهُ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى لا يُقالَ في الأَرْض ِ: الله َ الله» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِه» (148).

* وَرَوَى البُخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1876) وَمُسْلِمٌ (147) عَنْ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إنَّ الإيْمَانَ ليَأْرِزُ إلىَ المدِيْنَةِ، كمَا تأْرِزُ الحية ُ إلىَ جُحْرِهَا» .

* وَعَنْ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يُخْرِبُ الكعْبَة

ص: 208